أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: عادل نايف البعيني

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

عادل نايف البعيني

-إجازة في الأدب العربي  1977

-دبلوم تأهيل تربوي 1988

-مدرّس للأدب العربي منذ عام 1968

-شاعر وكاتب لغوي وصحفي/ لبناني – سوري

 

صدر للشاعر:

-ديوان بعنوان "همسٌ فوقَ ضفاف النور" مطابع اتحاد الكتاب العرب

-ديوان بعنوان "أحلام وأشوااك" صدر عن دار الجبل.

-كتاب لغوي "المعين في إعراب الأدوات" إصدار دار المناهل بيروت.

-كتاب لغوي "المعين في الإنشاء والتعبير" إصدار دار المناهل بيروت.

-ديوان بعنوان "أوعية الذاكرة" .

 

-العديد من المنشورات الصحفية في مجالات عدة: سياسية، اجتماعية، نقدية، شعر.

-في صحف ومجلاّت لبنانية وخليجية وسورية.

-ومجلات عديدة في الإنترنت

 

تحت الطبع:

-مجموعة قصصية (دلاليب).

-رواية بعنوان (الجراح اليابسة).

-كتاب شامل في قواعد اللغة العربية

-دراسة وبحث عن توظيف الليل عند أبي العلاء المعري

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الريح

القرنفلة البيضاء

 طقس دم

 

طقس دم

 

 

مسح مديته بثوبها دون أن يرتعش له جفن، لم يأبه لتلك الهمهمات التي راحت تنهش قلبه، سار بهدوء سلحفاة حيث المصطبة التي طالما جلسا عليها، راح يلف سيجارة من التبغ البلدي الثقيل من زرعه، أولعها على عجل، وأخذ ينفث دخانها بأناة، وسلمى مكوّمة في حوش الدار،بينما عشرات العيون تبحلق به دون أن يلتفت لأيٍّ منها.

 

كانت الدماء لا تزال تثغب ببطء من عشرات الطعنات التي تلقتها سلمى منه، أحدٌ ممن رآه يكيل لها الطعنات لم يحاول التدخّل لإنقاذها، ومن يجرؤ؟ فهذا "متعب الورّاق" الرجل الجلف والقاسي، فجميع أهل الضيعة يخافونه، ولا يجرؤون على مواجهته، حتى باتوا مسلّمين بأنّه دائما على حقّ، ولا بدّ بأنّ سلمى تستحق ما فعله بها، وهم في الوقت ذاته موقنون بأن سلمى طاهرة لا يمكن أن تخون "متعب"، ولكن لماذا قتلها، فلا شك بأن ذنبها كبير، أحرق سيجارته العاشرة وهو في حالة انتظار، لم يحاول الهرب من وجه العدالة، بل وضع المدية أمامه، حيث لا يزال عالقا عليها شيء من آثار دماء سلمى، جلس يترقّب وصول الشرطة، ..... وعلى الرغم من جبروته ورباطة جأشه، لم يستطع أن يمنع دمعة، راحت تلح عليه حتى طفرت مدغدغة مشاعره، راجعة به إلى ليالي أنسه، ونعيمه، مع سلمى، تلمّس بظاهر كفه الجيب الوحيد على قميصه، ضغط على ما فيه بغيظ، وغاب في مغارة تفكيره، محاولا إقناع نفسه بما فعل.

 

بعد طول انتظار زحف نمل القلق إليه، وشعر بالزمن سلحفاة، تسلل خدر إلى مفاصله، راحت تخزه من كل جانب العيونُ المتغيرة دائما التي لا تزال تنظر للجثة الثاغبة دماؤها، ثم تبحلق به وتمضي بأصحابها، وهو ساكن سكون رقاص ساعة خمد منذ زمن. بعد ساعات من الانتظار وصل دركيّان واقتاداه إلى مخفر المدينة.

 

انسلّ الخبر، ومضى متلصّصًا من أسطح القرية، وعلى شرفاتها، وفي منعطفاتها: "سلمى حيّةُ من تحت تبن" "سلمى مخبّاية بثيابها" "سلمى صاحبة كار وما حدا عارف" قالت إحداهن:"مين كان يصدق إنو سلمى تعمل هيك" ترد أخرى:"يا ما ورا السواهي دواهي". بينما الصمت يأكلُ أمَّ سلمى، وهي تندب ابنتها بشعر منفوش، وصوت يكاد لا يسمع متسائلة:"شو عْمِلْتِ يا سلمى؟".

 

باتت سلمى حديث الناس وتساؤلاتهم. ماذا فعلت سلمى، ولماذا درزتها مدية "متعب"؟ لا أحد يعرف! التوقّعات كثيرة.

... قال القاضي مخاطبا متعب:"إذن قتلتها بداعي غسل الشرف؟"

يجيب متعب:"نعم يا سيدي غسلت شرفي بدمها.

= وهل لديك دليل ملموس على ما فعلت، أقبضت عليها بالجرم المشهود.

_ نعم يا سيدي . بالجرم المشهود.

= وما هو دليلك هاته لنر".

مدّ "متعب" يده إلى جيب قميصه، وأخرج صورة، قدّمها للقاضي، قائلا:" تفضل يا سيدي، هذه صورتُه، ضبطتُها، وهي تدسّها في صدرها، على عجل."

جحظت عينا القاضي، وانهار على المقعد، وهو ينظر إلى صورة شابٍّ وسيمٍ، رقيق الملامح، يمسك ميكروفونا يغني من خلاله، كانت الصورة صورة المطرب فريد الأطرش؟

 

 

 

القرنفلة البيضاء

 

- أنا هي-

اليومَ عندما ألتقي سامي على الماسينجر، سأخبِرُه عن جارِنا الذي لا يحترمُ راحةَ جيرانِهِ، والذي يتفنّنُ في اكتشافِ ما يثيرُ إزعاجَنا، وكيفَ أنّ مضايقتَهُ تزدادُ عندما يلمحُ تذمّرا يرتسمُ على وجهِي أو وجه أبي، وسأقول لسامي: إنّ المذياعَ الذي يطلقُهُ هذا الشاب أشبهُ بقطيعِ جواميسَ برّيةٍ على مشربِ ماء، وسأكتبُ له كم نغّص عليّ أحلامي التي كنتُ أغزلها معك، وهو  يفتح تلك المكبّرات الصوتية المزعجة. واليومَ سأكونُ صريحةً معكَ يا سامي، وسأفصحُ لكَ عن مكنوناتِ صدري.

 

نهضْتُ هذهِ الليلةَ وقلبي ينبضُ بعنفٍ، رُحْتُ أستعيدُ ذلك الحلمَ اللذيذَ، إذ لقيْتُه دونَ سابقِ موعدٍ في زقاقٍ ضيّق، حُشرْتُ فيه، كما لو أنني في حافلةِ ركابٍ، انتفضَ عصفورُ قلبي طارقا صدري، فنهضتُ مذعورةً، حاولْتُ العودةَ للحلمِ فلم أفلحْ. أتراني فعلا بدأتُ أحبُّهُ أم تلك تهيؤاتُ مراهقين، منذُ يومين عندما طلبَ صورتي على المسينجر، ارتجفْتُ وشعرْتُ بإحساسٍ غريبٍ؛ كما لو أنّه سيأخذُها ليساومَنِي عليها فرفضْتُ بشدّةٍ.

 

ورفضت أن أقدِّمَ له أيًّا من التسهيلاتِ عن حقيقتي. أَمَا عليّ أن أتأكّد أولا بأنّه لا يتلاعبُ بعواطفي، رغمَ اعتقادي بأنّ مثلَ هذا الحبِّ – إذا كان موجودا واستمرّ- قد يصبحُ كأسطورةِ أدونيسَ يوما، وقد يموتُ عندَ أوّلِ لقاء، لكنْ أيُّ حبٍّ هذا الذي يأتي من خلال كلماتٍ يبثُّها واحدُنا للآخر عبْرَ أزرارٍ جامدةٍ كتمثالٍ صنميٍّ، لا مشاعرَ لا عواطفَ أو حياة . ما زلْتُ غيرَ مقتنعةٍ من ولادةِ حبٍّ عبر النت، ولعلَّ ما يحدُثُ ردةُ فعلٍ لحالةٍ نفسيَّةٍ أعيشُها كغيري من الفتيات، حالةٍ من قبيلِ كبتٍ وحرمانٍ ومراقبةٍ وخوفٍ قهر و..و..

مع كل ذلك بتُّ أتحرَّقُ شوقًا للقائِهِ، سيُطلُّ عبر المسينجر بعدَ ساعةٍ من الآن، وسيتراقَصُ الشوقُ في عينيّ كالعادةِ حينما تطالعُ عينايَ حروفَهُ المزينةَ بالزهور والقبلات، وتقرأُ غزلَهُ الذي يقطُرُ حنانا، كنْتُ عندما يقفزُ اسْمُه منبّها على دخوله المسينجر، أشعُرُ بارتعاشٍ لذيذٍ، أكادُ ألْمَس بروحي الكلماتِ الرقيقةَ التي بدأَ يتجرّأُ على بثّها عبر الكيبورد. البارحةَ فقط كتبْتُ له عبارةَ "حبيبي" دونَ أن أُضيفَ شيئًا. انتظرْتُ ردةَ فعلِهِ، خُيّلَ لي أنَّنِي أرى الدماءَ تتسابقُ على مضمارِ شرايينِ خدّيْهِ، فتصبِغُهما بالاحمرار. تساءَلْتُ للحظةٍ: "أهو أسمرُ البَشَرَةِ؟ وما لونُ عينيهِ؟ هل يَضَعُ مثلي عدساتٍ لاصقةً؟ وهلْ هو صادقٌ

فيما يبثُّنِي إياه؟ وهل حقّا كما قال بأنه سيتخرَجُ بعد سنةٍ من كلّيَّةِ الحقوقِ؟.

 

***

 

-أنا هو-

لقد أصبحَتْ تلك الفتاةُ الغامضةُ شغليَ الشاغلِ، لم يعدْ يغادرُنِي خيالُها، صارَتْ كظلّي، ترتسمُ على صفحةِ عينيَّ طيفًا ضبابيًّا لا أتبيَّنُ منه سوى قلقِ الهوى، تتلوَّنُ في كل مرّة أتخيَّلها فيه بلونٍ جديدٍ، تارةً أراها سمراءَ ذاتَ عينين سوداوين وشعرٍ فاحمٍ، وتارة شقراءَ لا يضاهيها القمرُ جمالا، أتساءَل كثيْرًا لماذا لا أستطيعُ أن أتخيّلها إلا بارعةَ الجمالِ؟ أتراني أخشى أن أراها على غيْرِ ذلك؟ أيُمكن أن يخيبَ ظنِّي إذا التقينا، أظنّني أحبّها وأشتاق لأن أضمَّها إلى صدري ، وأشبِعَها قبلاتٍ، ولكن؟ ماذا لو لم تكن كما أتخيّلُها، ماذا لو كانت مجدورةَ الوجهِ، سوداءَ قميئةَ المنظرِ، أاستمرّ في حبِّها؟؟ كلُّ محاولاتي لترسلَ لي صورتَها لم تنجحْ، حتى ولو أرسلَتْ لي صورتَها، فما الذي يؤكّد لي أنّها لها حقّا، كلانا يعاني أزمةَ  ثقةٍ، مع ذلك خيالها لا يفارقني، أراها كلَّ لحظةٍ تحادثُنِي، تجلسُ معي على طاولةِ النادي، وكثيرا ما كانَتْ تحرِجُنِي مع أصدقائي الذين أتبادل نخبَ الفتياتِ الجميلاتِ معهم، فيسمعونَنِي أحادِثُها، وهي مستلقيةٌ كحوريةِ البحرِ على حافةِ كأسي التي أعبّ منها نشوتِي. فيصرخُ أحدُهم:

=عاد سامي يكلّم نفسَهُ، يغازلُ الكأسَ أمامَهُ، ويرسل رسائل غرامه الوهميّ. هل حقا غرامي بـ"ماري" وهميٌّ؟

في غرفةٍ من غرفِ المحادثة الإليكترونيةِ الكثيرةِ عرفْتُها، تحادثْنا لشهورٍ عديدةٍ، فكنت خلالها بارعًا في تصويرِ أحلامي، استعملْتُ ما في جعبَتِي من لباقَةٍ لأجعلَها تحبُّنِي، حاولت أن أصوّرَ نفسي شيئا خارقًا، جعلت من ذاتي سوبّرمان عصره، ربّما فكرْتُ لمرّة أو اثنتين بخداعِها وتزييفِ مشاعري نحوَها، لكنني لم أستطع أن أكملَ، فقد كانت تزداد ولوجا في أعماقي. حتى الآنَ لا أعرفُ من أي بلدٍ هي، بادلتْنِي ما أبديت لها من محبّةٍ وصداقةٍ، شعرْتُ بِها، وأحسسْتُ برقتِها ونعومتِها منذُ البداية، كانَتْ كلماتُها تشي بِها، وتوحي لي بأنّها ملاكٌ أُرسلَ إليّ عبر أزرار الكيبورد، ومع أنني لم أرَ لها صورةً، ولم أعرفْ لها اسْمًا بعد، انشددت نحوها، كما ينشدّ عصفورٌ إلى حبّةِ قمحٍ على صدر فخٍّ. أعتقدُ أنّ اسمها مستعارٌ، وليس  حقيقيا، وأعلم بأنّها هي تعتقد ذلك أيضا. ولكن إذا حدثَ والتقيْتُها، سأكون صريْحًا جدا معها، وسأُعِدُّ نفسي للقائها يوما ما، عندئذ، سأضمِّخُ جسدي بذلك العطر الفاخر الذي جاءني من أبي في عيد ميلادي، ألم تقلْ لي يوما بأنّ العطرَ الفاخرَ يأسُرُها، اليومَ ولأول مرة كتبتْ لي"حبيبي" هل أنا حقّا حبيبها، وهل هي حبيبتي، لقد وصفَتْ لي نفسَها فَبَدَتْ لي أجملَ مما تخيّلت، أخذت أعيشُها كما لو كانت أمامي، البارحةَ عندما رَمَتْ لي وردة وشفتين حمراوين عبر المسينجر، وصلتاني شفتاها مشحونتين بالدماءِ، أحسسْتُ بنداوتهما، وكدت أسحب اللسان المعسول خلفهما.

 

***

 

"هو وهي"

على لوحة المسينجرِ أطلَّ اسمُ سامي مضيئا أخضرَ اللونِ، بادرْتُه كاتبةً:

-لماذا تأخّرت في الدخول يا سامي، منذ نصفِ ساعةٍ وأنا أنتظرُ.

= أعتذر حبيبتي، لم يسعفْنِي الإنترنت، منذ ساعةٍ وأنا أحاولُ الدخول.

-ما أخبارُ الجامعةِ، ومتى تظهرُ النتائجُ؟.

= قريبا وأنا مطمئِنٌّ لها، حبيبتي أما آن الأوانُ لنتعرّفَ على بعضنا أكثر؟.

-ماذا تريدُ أن تعرفَ؟ ولماذا؟

= لماذا؟ لأنّي أحبُّك وأريدُ أن أراك، سأطير إليك حيثما تكونينَ؟ قولي لي فقط من أيِّ بلدٍ عربِيٍّ أنت؟.

-من سوريةَ أيريْحُك هذا؟.

= رحمتك ياربّ، بدأنا نقتربُ أكثر. أنا من سوريةَ أيضا، ومن مدينة "حلبَ".

-"حلب" ؟؟ أ أنْتَ من "حلبَ". يا للمصادفة الغريبةِ والجميلة.

= لا تقولي لي أنْتِ أيضا من "حلب". عندها سأُجَنُّ بك أكثر.

-جُنَّ إذن.

= وأين تسكنين؟

-في حيِّ السليمانية، لن أخبِرَك أكثر من ذلك.

= اقتربنا كثيْرًا يا حبيبتي أنا أيضا أسكن في ذات الحي. ماري لم يعد لدي صبرٌ، إذا كنْتِ تقولين الصدقَ، فأنا أدعوكِ إلى الغداءِ غدًا في مطعمِ (السبيل) تعرفينه حتما؟

-كلّ المعرفة يا سامي، وأنا قَبِلْتُ دعوتَك، ولكن كيف سنعرفُ بعضَنا هناك.

= لا بأْس سأرتدِي قميصًا أحمرَ وأضعُ عليه وردةً صفراء؟

لمعت برأس ماري فكرة فبادرته قائلة:

- بل يحملُ كلٌّ منّا قرنفلةً بيضاءَ بيسراه.

= حسنٌ موافِقٌ يا حبيبتِي إلى اللقاء غدًا في حديقةِ المطعمِ الساعةَ الواحدةَ ظهرًا.

 

تقصّد سامي أن يصلَ متأخّرًا، كي يتسنّى له رؤيَةُ ماري من بعيدٍ، تسلّلَ إلى الحديقةِ من الباب الخلفي، وما هي إلا لحظاتٌ حتى وجدَ نفسه في حديقةِ المطعمِ وقد اكتظَّتْ بالصبايا والشباب، فجأَةً رآها من بعيدٍ ها هي تتقدَّمُ حاملةً بيسراها قرنفلةً بيضاءَ، لهفَ قلبُهُ، واهتز كيانُه كوترِ عودٍ، كانت كما تخيّلَها تماما تحاكي البدرَ جمالا، أيقن أن حديث النت حقيقةً، فاتّجهَ نحوَها، ويسراه تلوّحُ بقرنفلتِهِ البيضاء، وقبل أن يخطوَ خطوتَهُ التاليةَ، برزَتْ أمامَهُ فتاةٌ أخرى تحمل أيضًا قرنفلةً بيضاءَ!، ثم ثالثة و رابعة.. وقفَ ذاهلا وهو يُحصي الفتياتِ اللواتي يحملْنَ قرنفلاتٍ بيضًا، نظر حوله بدهشةٍ، حارَ في أمرِه، فكّر أن ينادي ماري، لعلّها تنتبهَ له وتجيبَ، عاد عن فكرته وهو يقول في نفسه:

"إذا كانت ماري هنا سترى القرنفلةَ بيدي وتعرفُني"، راح يتخطَّرُ ملوّحًا بِها، لكنّ واحدةً من الصبايا لَمْ تكترثْ له. راحَتِ الصبايا تغادرْن الحديقة الواحدة تلوَ الأخرى، بعد أن رأينَ ماري تتركُ المكانَ تاركةً ابنَ جارِهِم المدلَّلَ الذي تركَ الدراسةَ منذ سنتين، يعتصر بعصبية حادّة القرنفلةَ البيضاءَ بين أصابعِهِ.

 

 

 

الريــح

  

جاءني صوت زياد منهمرا كالمطر:"مازن...يا مازن ..هيّا.. هيّا بنا ننزل إلى السّوقْ"

قلت متردّدا:"خير لماذا الآن بالذات، هل طارت الدنيا، ننزل غدا؟"

أجابني مقهقها: " لا.. ألا ترى الريح شديدة اليوم!"

آ آ آ.. الريح.. الريح  دقائق وأكون بين يديك!!

رحت أرتدي ملابسي على عجل، وفي ذهني صور شتى لما سأرى، فيوم الريح فرصتنا التي لا نضيّع ساعة منها، فها هي بدأت تثور غاضبة تلفّ المكان بعويلها، وتنفخ في الشبابيك فتئنّ صافرةً، بعد غدٍ ستفتح المدارس أبوابها، فالسوق اليوم مكتظّةً بالفتيات الجميلات، بفساتينهن القصيرة الهفهافة، والتنانير المنبسطة كمظلّة صيف، أردية  متنوّعة هي ملعب للريح، عادة درجنا عليها وصديقي زيادًا، ننزل السوق كلّما هبّت الريح، للتفرّج على ما تخبئه الفساتين من عاج و كستناء، وما تخفيه من حمرة وصفرة تحتها.

 

بعد أقل من نصف ساعة كنّا في السوق نسير متمهّلَيْنِ، كسلاحف بحرية وضعت بيوضها للتو، نحثّ الريح أن تشتدّ قليلا، وتلفّ كثيرا، وكأنّي بها استجابت لدعوانا، فراحت تأتي الصبايا من حيث لا يتوقّعون وتراوغهن كثعلب بين دجاجات، تهبّ هنا، فيطيرُ فستانٌ كعصفور دوري، تتلقاه يدا الفتاة برشاقة راقصة باليه، تقرفص أحيانا لاجمة فكي الريح إن أعياها ردّه، فتلملم ثوبها ثم تقف مع هدأتها. حتى إذا اشتد العصف ودارت الريح دورتها تطاير الثوب كمظلة مقلوبة، ليطير قلبانا معه، إذ يظهر المخبوء، ويلمعُ بياضٌ متيّم تحت عتمة القماش.

 

وفيما نحن سائران وقع نظري على فتاة لا أجمل ولا أبهى، تسير مثل ريمٍ بين كوكبة ظباء، واثقة من نفسها، لا تأبه للريح التي راحت تحاول عبثا زعزعة ثوبها الذي ضاق عند الركبتين، والتصق بمؤخّرتها، متشبثًا بها خوف الانفلات من عقاله.

هتفت بصديقي أن قفْ وانظرْ، وقلت على مسمع من الفتاة:"انظر إلى عشتارَ تمشي على الأرض، هيا بنا نتابعها يا أدونيس"

مدّ زياد بصره حيث أشرْتُ، تمهّل برهة، فكان بين المندهش والقابض على الجمر، لكنّه أطلق صفْرة الإعجاب التي أتقنها واشتُهر بها، ثمّ قال: "صدقت يا مازن إنّها جميلة فعلاً"

أخذني جمالها، وراحَ يطوّح بي ككرة في ملعب العاصفة قلت:"زياد إنّها تمضي خارج السوق، تعال نلحق بها، لعلّنا نعرف أين تسكن، فنبني صداقة معها"

أحسّت الفتاة بوجودنا، بل تعمّدنا أن تصافح كلمات الغزل التي رشقناها بها أذنيها، فمدّت إلينا بصرَها من خلال لوزتين خضراوين و خيمةٍ من أهداب نيسان، خيّل إليّ بأنّها ترسل لي غمزة أرفَقَتْها بابتسامةٍ، والحق أقول إنّها لم تكن تخصّني بهما، بل كانتا لصديقي زياد الأكثر وسامة، والأمشق طولا.

 

تلكّأ زياد قليلا وأبدى عدم الرغبة في متابعة السير، ولكن مع بعض الرجاء، وقليل من ضراعة وتوسّل اعتدت إتقانها، رضي ومشى صامتا، ولَمّا لم يعد يشاركني كلام الغزل، جاريته وسرنا صامتيْنِ، كراهبين يتقدمان قدّاسًا، لقد اعتدت على تصرّفات زياد ، وتقلباته المفاجئة، رغم أن معرفتي له لم تتجاوز عدة أشهر، حيث كنّا نلتقي بين الحين والآخر في المقهى القريب من حارتنا التي سكن أهله فيها منذ سنة، وفي المقهى جاءتنا فكرة الريح فقد هبت فجأة، وقلبت فستان إحدى الصبايا رأسا على عقب، فصرنا كلّما أقبلتِ الريحُ بصخبها ومجونها، نغتنمها فسحة للبصر، أمّا اليوم فعلى غير عادته أبدى امتعاضا من فسحتنا، فلم أشأ أن أسأله ما الذي غيّره. لكنّنا تابعنا سيرنا خلف الفتاة، أو هكذا خيّل إلي،  وكنّا إذا غذّتِ السيرَ غذذْنا، وإن ما أبطأت تماهلنا، أو تشاغلنا بالنظر هنا وهناك، كيما نبعد الشك عنّا.

 

و لشدّ ما كانت دهشتي كبيرة، عندما رأيتها تلتف حول  السوق

الشمالية، وتتجه صوب حارتنا، نظرت نحو زياد، فرأيت وجهه مربدّا

كوجه بوم غاضب، يزفر زفيرا خافتا، أشبه بنقنقة ضفدع عطشان، تارة يبلع بريقه فيغص به لجفافه، وتارة يحاول أن يخفي امتعاضه بابتسامة بلهاء فأرى وجهه كوجه منغولي أبرص، قلت محرّكا غيرته علّه ينتفض من شروده،:

"أيكون هذا الغزال من حارتنا ولا ندري، لا ..لا..أصدّق عينيّ؟"

فيردّ زياد منفعلاً:"ولتكن يا أخي ما همّك في ذلك؟"

تركته لغضبه، ورحت أراقب وجهة الفتاة، فإذا بها تدخل الطريق الفرعي الموصل إلى بيت زياد، وتقف أمام باب منزله الخارجي، تأخذ مفتاحا من جيبها، تفتحه وتدخل بكلّ بساطةٍ.

 

تقوّس حاجباي عجبا حتى صارا كقوس نصر بلا نصر، فغرت فمي دهشة وهلعا كما لو هرّ فوجئ بسلوقيّ جائع، أحسست بنفسي أتضاءل وأصغر، حتى لم أعد أرى نفسي. طأطأت رأسي وتابعت سيري  نحو بيتي دون أن ألتفت لنداءات صديقي التي راحت تصفع قفاي...

 

أضيفت في 17/10/2010/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية