أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتبة: أمية الجاسم العبيد

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

سوريا ـ دير الزور

قاصة سورية من مواليد مدينة دير الزور .

لها نشاطات أدبية كثيرة وفاعلة على

الساحة الثقافية السورية .

 

صدر لها

عسلها مر  – مجموعة قصصية – دمشق 1999

حديث الذاكرة – مجموعة قصصية – دمشق 2002 .

 

تحت الطبع

خذ قلبي مرَّة أخرى - رواية .

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

هنا استقر الفرح

تذكرته

حديث الذاكرة

أنا وهو والكلب 

تين الصبار

عناكب

شيخوخة حالمة

مصير

  

 أنا وهو ... والكلب

  

 

مئات من السنين وهي تنتظر مجيء هذا اليوم ، ودخول أبواب هذه اللحظات التي احتضنت حلمها بين جدران زنزانتها …

(( آه كم سمعت منها تلك اللفظات …حرية المرأة … إرادتها .. استقلاليتها.. ))

ألقت النظرة الأخيرة على المرآة. تسمرت ، حلقت نظراتها قليلاً في سماء الذاكرة ، ثم عادت تحمل معها إشراقة الفرح الذي أمضت عمرها في انتظاره .. خاطبت مرآتها :

- نعم . هو قديم جداً ، ولكنه ثوب ابنة السلطان ، وحين أهدتني إياه كانت تعرف بأنني سأصبح يوماً ابنة السلطان ، وسأجلس يوماً على كرسيها

فردت ظفائرها الذهبية المتدلية بمشطها العاجي الذي سرقته يوماً من القصر ، ثم طوقت جيدها الشامخ بعقد من الياسمين ، وحملت بين يديها طبق الرز المغطى بقطع اللحم المقلية بالسمن البلدي ، ورائحة الفلفل والمسك والزنجبيل جعلت عملية الشهيق لديها ضعف عملية الزفير . .

تعثرت بكتاب قد ارتمى على الأرض من مكتبة ابنة السلطان التي كانت تعتز بها وبما تحتويه من كتب متنوعة ، والتي كانت خير جليس لها .

ركلته بقدمها متأففة ، ثم تابعت طريقها وهي تتابع حديثها في داخلها :

- سنين طويلة وأنا أكدح ، وأشقى ، وأطرق الأبواب باحثة عن عمل ، وأجمع أجر تعبي مليماً فوق الآخر .. عملت جهدي ، وبإرادتي القوية نلت حريتي و استقلاليتي من كل ذكور العائلة ، و لماذا يحكمونني و جيوبي بالمال عامرة ؟ !

و اليوم لأول مرة أتذوق ما كانت تتذوقه ابنة السلطان ، ولأول مرة أتذوق ما أشتهي ، و أجلس أينما أريد دون أي قيد من أحد طالما أمتلك الكثير من المال .

تسلقت جبالاً ، وانحدرت إلى هضاب ، وعبرت ودياناً كثيرة ، وقفزت من فوق سواقي لا تعد .. بلدان كثيرة مرت بها ولم تأبه لها .. كانت تحمل طبق الرز واللحم ، وعملية الشهيق ضعف عملية الزفير ، وتضاعفت أكثر حين تراءى لها من بعيد أطلال القصر ، لم يعد قصراً بل ذكرى قصر ، ولكنها رأته قصراً .. فهي اليوم ابنة السلطان ، ويجب أن يكون لها قصر.

هاهي الأشجار ذاتها . بظلالها وأوراقها الخضر المغسولة ، والأعمدة الرخامية مازالت منتصبة ، وجانب كل منها حارس يتكئ على سيفه المجهز . يحرس الأميرة وجواريها ، وهذا هو المسبح الملون بلون السماء الحنون ، وذاك حوض السمك ، وهذه العصافير مازالت تشدو وتغرد ، والشمس هي الشمس . مازالت تشرق عندهم دائماً ، وتغرب عند الآخرين .. .

وهذا كرسي ابنة السلطان ، وكلب ابنة السلطان ، وأنا وحدي بينهما .

وضعت الطبق فوق المنضدة أمام كرسي ابنة السلطان ، وبدأت تفتل حول نفسها فاتحة ذراعيها للشمس والهواء النقي مغمضة عينيها لتعيش في حلمها الذي أصبح واقعاً في خيالها ، وبدأت تصرخ بأعلى صوتها :

- يا سلطان .. يا سلطان أين أنت الآن ؟

يا ابنة السلطان قد دارت الأزمان ..

اليوم أنا ابنة السلطان .. بل أنا السلطان.

وانكبت على الأرض بعد أن أعياها الفتل حول نفسها .

تحسست بيديها جفاف حلقها من كثرة صراخها .. ندهت بصوت حنون على الحراس تطلب قطرة ماء ، وحين أحست بأنه لا أحد يسمعها شربت من ماء عينيها ، ثم مسحتهما بكفيها ، واتجهت بخطوات ثقيلة نحو طبق الرز واللحم ورائحة التوابل التي باتت دون طعم ، ودون رائحة . تنهدت وقالت :

- فعلاً طعام ابنة السلطان لا يتذوقه سواها ، ولكنني سأتذوقه .

مدت يدها إلى وجبة أنفقت سنيناً من عمرها وهي تجمع ثمنها ، ولكن يد الكلب امتدت قبل يدها ، والتقطت أكبر قطعة لحم في الطبق .. استدارت نحو الحركة المفاجئة من خلفها .

لا تعرفه . لم تصادف هذا الوجه من قبل امتدت يده ومسحت على منكبيها ، وأنفاسه تعلو على أنفاس الكلب الذي انشغل بوجبته ..

ضربته بقوة على يده ، فابتعد عنها قليلاً .. مدت يدها ، والتقطت قطعة لحم و ألقتها في فمها قبل أن يلتقطها الكلب ، ولكن يد الغريب عادت تتحسس منكبيها .. ضربته من جديد ، وبقوة أشد قاصدة إيلامه ، ثم ألقت في فمها لقمة رز متبل .

مد يده الكلب .. ضربته ، فامتدت يد الآخر تتحسس عنقها ، وأنفاسه تشرب من عطر الياسمين .. شدت بعصبية طوق الياسمين ، وألقته في وجهه ، ثم صرخت :

- يا الهي .. من أين جاء هذا الرجل في مثل هذا الزمان ، وفي هذا المكان .. ؟ !

كل ما أعلمه أنه لا يوجد هنا سواي ، وحلمي .. والكلب .

استدارت نحوه . ألقت إليه نظرات مليئة بالقرف ، ثم خاطبته :

- ليتك من رجال زمن سيدتي . تلقي علي التحية ، وتنتظر أن آذن لك بالجلوس قبالتي .. أبادلك احترامي ، وربما أقاسمك طعامي .. و .. وفراشي

خمنت أنه خجل من كلامها ، ولكنه العكس . هجم عليها ليحتضنها . محاولاً امتلاك جسدها .. دخل معها معركة سلاحها فيها يداها وصوتها .. ألقت به بعيداً متدحرجاً على العشب . نظرت ، فانفجرت ضاحكة من لمعان وجهه وشاربيه اللذين دلكتهما بسمن يديها ، وحبات الرز المفلفل ..

مدت يدها بسرعة ، فامتدت يد الكلب بسرعة أكبر . تذكرت تعامل ابنة السلطان مع كلابها ، فألقت له بعيداً عنها عظمة . ركض باتجاهها لاهثاً ، ثم انشغل بها .. تحرك الغريب من جديد قبل أن تحرك يدها نحو الطبق ..

بحثت عن شيء تلقي به له . لم تجد سوى فردة حذائها المتعب المركون بجوارها ليرتاح قليلاً من كثرة التصاقه بقدميها .

ألقته عليه . احتضنه ، وبدأ يصبّ أنفاسه الملتهبة فوقه ، ويقبل به رائحة قدمها ، وشارباه تكنسان آثار الغبار ، وآثار خجلها عليه .

ارتاحت من الاثنين معا .. عادت إلى طعامها ، فعاد إليها الاثنان . بصقت في وجهيهما .. تألمت على منظر الكلب لأنه لا يعرف كيف يتخلص من آثار فعلتها على وجهه ، بينما هو مسحها بيده ، وبدأ يلحسها متلذذاً .

فجأة أحست بموت شهيتها للطعام ، وامتلكتها رغبة التقيؤ ، وقد بدأت أمعاؤها تطحن بعضها البعض . نسي الكلب ما حدث له قبل قليل ، والرجل قد أنهى لذته من لعابها الملتصق على وجهه ، فأحس أنه محتاج إلى المزيد منه ، وإن كان ممزوجاً بطعم اللحم الممضوغ ، والرز المفلفل ، وقرفها منه ..

هجم على جسدها من جديد محاولاً إطباق شفتيه على شفتيها ، ويد الكلب بدأت تقلّب الرز واللحم في الطبق ، وبدلاً من أن تدافع عن جسدها حين لاح لناظريها من بعيد خيال رجل آخر غريب ..

حملت بيديها الطبق ، وقلبته بمحتواه فوقهما ، وهبت تدور حول نفسها مرعوبة ، وهي تصيح بأعلى صوتها .

- يا سلطان .. يا سلطان . أين أنت الآن ؟

يا ابنة السلطان . ليتها تتوقف دورة الأزمان .. لا أريد الحرية ، ولا الاستقلالية ، لا أريد ألفاظا حفظتها عنك .

في السابق ، وفي اللاحق أنا خادمة السلطان ..

ليته يعود زمن الحريم ، والجسد المصان .

وانكبت على وجهها بعد أن أعياها التعب والقرف ، و فجأة أحست بلمسات ناعمة و حنونة على منكبيها .. استحضرت بصرها الذي كان مسافراً مع خيالها .

ركزت نظراتها فهبت واقفة بابتسامتها الصادقة . إنها في حضرة ولي نعمتها .. انه السلطان .

 

 

 

حديث الذاكرة

 

 

عاريةٌ أنا .. ولأول مرة يخجلني العريّ ..

وقفت روحي مذعورة .. نظرتْ في مرآتها .. أذهلها عرييّ الذي له رائحة كطعم العلقم .

امتدت يداي ، وتحسست الجسد .. إنه في كامل كسوته الصوفية ، والجوارب جديدة يعجز الهواء عن اختراقها إلى القدمين اللتين تختلجان كأوراق الخريف ، وقد طفح الاصفرار على سطح تلك الجوارب ، فحوّل لونها إلى شحوب بغيض .. .

جالت عيناي في أرجاء الغرفة .. مسحت بنظراتها الأثاث المزدان المريح ، ثم توقفت عند أقدام المدفأة الملتهبة ، تحوّل اللهب المتراقص في أحشائها إلى دفء يتوزع في أنحاء الغرفة كلها ، ولكنه يلقى صدوداً من روحي الموصدة ضد كل دفءٍ يأتيها من الخارج .

هناك جبال من الصقيع تراكمت داخلها . أوصدت الدفء فيها ، وأطفأت الأنوار كلها .

وقفتُ ..

مددتُ يديّ في الهواء مشدودة ، وحركتهما إلى الأمام وإلى الخلف ، ثم ثبتُّ الجذع إلى الأسفل وأعدته واقفاً عدة مرات ..

حاولت بتلك الحركات الرياضية أن أملأ رئتي من الهواء المعتق الخثر الذي يملأ فراغ الغرفة علّه يبث الدفء في جسدي الذي تعاضد مع صقيع روحي ، ولكن دون جدوى .. .

اقتربتُ من المرآة الكبيرة . تأملت الجسد الممشوق ، والوجه الجميل الذي طرد النظارة من دنياه منذ أزمان ، فدبت فيه برودة الخريف ، واصفراره .. .

ترى ما السبب ؟!

ما هي الخطيئة التي ارتكبها ذلك الجسد فجفلت منه الروح ؟!

تحسستُ خلايا جسدي . بحثت عن أثرٍ يدل على فعلته .. .

ذُهلت !

توقفت يداي . لم أجد لذلك الجسد جذوراً ممتدة في تربته . قطعتها سكاكين حادة بأسباب مفتعلة لا وجود لها . أغمضتُ عينيّ . فركتهما حتى خيّمت عليهما صور كثيرة من الماضي .. ابتسمتْ تقاطيع الوجه حين توقفت عيناي عند تلك الصورة البديعة ..

دار الأهل عامرة بأثاثها ومآكلها ، وأيادٍ كثيرة ممدودة متآلفة ، وورود ملونة يفوح منها عطر الطفولة اللذيذة . اتحدت أصواتها غير المسموعة مع أصوات العصافير الساكنة بين الأشجار المعمِّرة .

الضحكات متناثرة هنا وهناك في أرجاء الدار الواسعة ، ومآسٍ معروضة تذوب وتتلاشى أمام الضحكات ، والسنديانة القوية تتصدر المجلس محتضنة الجميع بظلها الدافئ الحنون ، وخضرتها الدائمة ، وأنا كالوردة الندية اخترتُ في حضنها المكان الدائم لي .

ولكن يد القدر بجبروتها لم تخجل من جمال تلك اللوحة البديعة . انهالت في غفلة من الجميع واغتالت السنديانة .. فتساقطت أوراقها سوداً فوق الرؤوس ، وأمام الأعين الواجمة من الصدمة ..

لحظات وتقاطيع وجهي واجمة ، ولكن سيلان الدمع على الخدين أدار دولاب الذاكرة إلى جهة أخرى بعد أن أسدل الستارة السوداء على المسرح الذي تفكك أفراده ومشى كل منهم في طريق معاكسة للآخر . تربط تلك الطرق نقاط التقاء معدودة ، ولكن مسافاتها بعيدة وكلما تقدم الزمن ابتعدت تلك المسافات وقل عدد الملتقيات ، حتى جاء اليوم الذي اضمحلت فيه وتلاشت .

وما زلت أرتجف برداً . تناولت شالاً صوفياً وأفردته فوق كتفيّ . شالٌ هو كل ما ورثته عن تلك السنديانة الغالية . تمسكت به يومها وبقوة حين امتدت الأيادي متشابكة .. متضاربة .. كان سباقاً فظيعاً .. كل منها يريد أخذ كل شيء ، وكلها بعد أن استحوذت على كل شيء امتدت إلى الشال الصوفي الذي كنتُ به مشغولة .. ومهمومة .

بحثتُ عن مكان له ، كي أحصنه من الأيدي الممدودة إليه ، فرمى بنفسه في أقرب مكان إليه .. قلبي .

تأمله القلب الكسير ، ومدّ أصابعه يتحسس كل خيط فيه ، وكل قطبة مشغولة ، فتذكر الكفين المعروقتين اللتين حاكتاه .

في هذه البقعة ابتسامة .. وفي هذه فرحة .. وفي تلك دمعة .. وفي أخرى حسرة ..

جلستُ القرفصاء على الأريكة محاولة تغطية كامل جسدي بأطراف الشال ، فتلاحقت الصور من جديد أمامي ..

رشفتُ من فنجان قهوتي حين امتدت يدها وتناولت فنجانها .

هامت ابتسامة في أرجاء الغرفة ثم استقرت على وجهي بعد أن مسحتْ عنه برودة الخريف واصفراره ، وأسكنتْ الربيع الوردي في مكانه ، وصوتها الرخيم يعلو .. ويعلو ، وأنا أهزُّ رأسي مقتنعة بكل نصيحة ، وحكاية روتها لي .

وكلما قلبت يداها الشال وهي تتعجل إنجازه تبتسم وتقول لي :

- سيكون واقياً لكِ من برد الزمان .. ستجدين نفسك يوماً عارية من الجميع .

تحسستُ كتفي .. لملمت أذيال الشال تحت قدميّ ، وما زالت الصور تتلاحق ، وابتسامتي تكبر .. حتى شعرت بالحر يخنقني ، والعرق يتصبب سيولاً من أنحاء جسدي .

نهضت لكي أخفف من قوة احتراق الوقود في المدفأة ، فوجدتها باردة ، والوقود قد لفظ أنفاسه ..

خففت من ملابسي الصوفية مرة بعد مرة ، وظللتُ ملتفة بالشال الصوفي .. نظرت إلى المرآة .. ذهلتُ هذه المرة أكثر ..

إني عارية حقيقة ، وظل الشال الصوفي يلفني ..

فيه رائحة أهلي ، وفيه كل الذكريات الحبيبة التي تبعث الدفء في الروح ، والقوة في الجسد .

 

 

 

تذكرته

  

صغيري الذي بقي مسبوتاً في ملاعب الطفولة . هدهدته ، وحملته بين جنبيّ علني أجد له بقعة خضراء يكللها الأزرق الصافي ، فأتركه يحبو عليها ، ويترعرع ، ثم يتحول إلى شجرة تزهر وتثمر ، يأكل من رطبها المتعبون ، فتمسح عن وجوههم الهموم ، وترسم تلك الثمرات الابتسام على القلوب المتعبة بريشتها المسحورة ، فتنضح هذه القلوب ما هو مخزون ومسبوت من حب ومحبة ..

تنقلت كثيراً بين البلدان ، واختلطت أكثر مع الشعوب المتنوعة الألوان .

(( يا إلهي ! .. هل أصبحت الهموم بَرَداً يتساقط من السماء على كل أنحاء العالم ، وفي كل الفصول ، دون موعد ، وقبل أن تحتاط منه المخلوقات .. ! )) .

واليوم حطت مراكبي هنا .. في أحد موانئ أثينا .. الجو ربيعي رائع . استطاع أن يغريني ، ويأخذ بيدي للانشراح والتجوال .. الشعب مختلف الألوان والأجناس . منهم أهل المدينة الأصل ، وأكثر منهم السوّاح .. هنا أيضاً هموم متباينة كتباين طبقات الشعب الموجود ، بين فقير وغني ، وجاهل ومتعلم ، وصحيح البنية وسقيم . ولكنني ذهلت حين رأيت الابتسام مرشوشاً كالعطر على الوجوه ، والنساء دخلن منافسة واضحة في أناقة المظهر والتعامل مع المحيطين ، مما يرغم الرجال على تقليدهن بذلك .

تساءلت:

- ألا يوجد في هذه البقعة هموم تمسح الابتسام عن الوجوه ؟!

هل نسيهم الزمن كلهم وتركهم يمرحون في ملاعب الطفولة .. هل استقر الفرح كله هنا فوق هذه البقعة الخضراء التي يكللها الأزرق ..

هل أحرر صغيري الذي ما زال مسبوتاً ؟!

وإلا فكيف يلتقي الهم والابتسام على وجه واحد ؟!

أجابني نداء خفي :

- هنا كل منهم لديه مخزن لا مرئي . يودعه همومه ، ثم يحمل فوق وجهه الابتسام الذي يحرر الروح من كل القيود ، ويسعى للبحث عن بقاع خضراء يكللها الأزرق النقي .. تلتقي فوقها طفولته مع كل الأطفال الذين ينضحون حباً ومحبة .

أعجبتني اللعبة أحضرت مثلهم مخزناً لا مرئياً . أودعته همومي ، وحملت الابتسام فوق وجهي ، ثم حررت قيود طفولتي التي بدأت تدق الأرض بخطوات تفيض جمالاً وحيوية .

استوقفني الإعلان المكتوب في عدد من اللغات :

(( رحلة بحرية في سفينة مجهزة بكل أسباب الهدوء والسعادة بأسعار متهاودة . تقلع من الميناء صباحاً . تتوقف في عدد من الجزر ، ثم تعود إلى الميناء نفسه مساءً . ))

صعدت إليها مع من صعد ، وأكثرهم مثلي وحيداً ، استوقفنا طاقم القيادة في المدخل بلباسه الفلوكلوري المحلي .. أشاروا لنا بالاستعداد لالتقاط صور تذكارية معهم ، ثم دلفنا بعدها إلى البهو الكبير الذي نقل ذاكرتي إلى صالات القصور الأندلسية في فخامته ، وألوانه الزاهية المنعشة .

تقابلنا في مجالسنا حول الطاولات المصفوفة بهندسية متقنة . حيث الجالس يرى الجميع وهو مرتاح في زاويته ، ويده تداعب الورود الطبيعية المحيطة به . وبينما بدأت الأيادي تمتد لتناول كؤوس العصير.. بدأت الابتسامات تختلط ببعضها البعض على الوجوه المتقابلة ، وكلمات من محاولات التعارف في مختلف اللغات واللهجات .

شعرت أن أصحاب اللغة الواحدة تتحرك بينهم ذبذبات ممغنطة .. اتسعت ابتسامتي أكثر حين أحسست بأنه ستخلق قوميات آنية بين أمواج البحر . لا يربط أصحابها سوى الالتقاء في معرفة لغة واحدة تخدمهم في تبادل أطراف الحديث ، ومن ثم تبادل الحب والمحبة .

وتحددت معالم قوميتي معها .. تلك السوداء الجميلة بثوبها الوردي الزاهي ، ونظراتها الرزينة العميقة . قالت لي :

- إنها شمت رائحة البارود مع سحبة الهواء الأولى ، وتذوقت الجوع والحرمان قبل حليب أمها ، والذل والإهانة تربَّت عليهما .

احتضنت كل هموم أفريقيا في أحاسيسها ، ونمت بين أضلعها ، حتى أصبحت قضيتها التي تعيش وتناضل في كل المجالات من أجلها ، ولكنها أعطت لروحها عطلة آنية مثلي . تريد استعادة البعض من ملامحها الإنسانية التي كادت أن تذوب وتتلاشى تحت وطأة ضغوطات الواقع المرير المغطى بالأبيض .

أسعدتني كثيراً صحبتها ، مثلما أُسعد كل سائح وحيد التقى صحبه على متن هذه السفينة .

أكلت معها ، وشربنا ، ورقصنا ، وتبادلنا نخب أملنا الواحد : أن يسود الحب العالم كله .

انفردنا بعضاً من الوقت ، والآخر قضيناه مع الجميع في البهو . نشارك في الغناء والرقص ، والفوازير ، والمسابقات ، والتفرج على الدبكات الفلكلورية المحلية ، والتجوال السريع في الجزر التي حططنا عليها ، والتعرف على آثار الشعوب الغابرة في تلك الجزر ، والتقاط الصور التذكارية فيها ..

قبل المغيب التففنا جميعاً على سطح المركبة نتأمل جمالية التقاء اللون الأزرق من حولنا ، ومن فوقنا ، واختلاطه مع بعضه البعض ، فأصبح اللون الوحيد في ذلك الفضاء .

والنوارس منتشرة أسراباً أسرابا بأجنحتها التي تبث في نفوسنا الهدوء والطمأنينة ، وتبشرنا بالسلام الذي أصبح حلماً واحداً للجميع ..

يا إلهي !

ما نوع هذه النوارس ، ومن رباها على المحبة والتآلف مع كل أجناس البشر الموجودة على متن السفينة هذه ؟!

لقد حفظت من كثرة ترحالي على متن السفن بأن النوارس ترافقها بعض المسافات ، ثم تودعها وترحل .

لم ألتقِ مثل هذه .. تقترب بهوادة من الأيدي الممدودة لها حاملة في باطن أكفها المفتوحة قطعاً من المكسرات . تلتقطها بمنقارها بكل هدوء ومحبة ، ثم تعود لتنظم إلى سربها من أجل إتمام سمفونية الحب والسلام التي رافقتنا بها طوال الطريق ، تأملت رفيقة رحلتي ، وقبل أن أودع ما تبقى لدي من الابتسام في

قلبها ، والتقاط ما تبقى لديها منه ، كي أسكنه بين ضلوعي ..

تأملت البحر بعمق وسألته :

- هل استطعت أن تصادر منا تلك المخازن اللامرئية التي أودعناها همومنا وتركناها بعيداً عنا حين التحمنا معك ؟

بكى وقال مستودعاً :

- خذوا آثاركم معكم . أخاف أن تثقل ظهري وتغرقني ..

استدرت ناحية الأرض مستعطفاً علها تكون أرحم ، فأجابتني :

- ألا يكفي أنني أحمل البعض منكم فوق ظهري ، والبعض الآخر في جوفي ؟

وقبل أن يخيب أملي في التخلص من حمل ذلك المخزن الذي بات يخنق أنفاسي ، ويحبط روحي . رفعت رأسي أستجدي النوارس علها تجد له مكاناً في الفضاء الرحب .

رمقتني بنظرة حانية ، ثم صفقت بأجنحتها ، وبدأت تهمهم في السماء ، وكأنها تستعد لتبدأ سمفونية حب جديد ترافق بها رحلة قادمة .

سألتني رفيقتي بنظراتها الرزينة العميقة :

هل توجد سفينة تتسع للعالم كله ، وترافق تلك النوارس مدى العمر ؟!

 

 

 

هنا استقر الفرح

 

حين أبصرتُ النور أحببت الحياة ، وحين ارتسم الابتسام على الوجوه ، وانتهت عذابات أمي التي فرحت بقدومي . اقتطفتُ حزمة من ذلك الابتسام ، وأسكنتها في قلبي .

أحببتُ الماء والهواء .. أحببتُ الأزرق والأخضر .. أحببتُ الحب ، وأغدقتُ به على سنوات طفولتي . ويا لوعتي . تمنيت لو أن الزمن نسيني هناك . حين كنت أمرح في ملاعب الطفولة .

بحثت عنه كثيراً بينهم ، وبدا لي أنه أصبح سراب . سألت عنه ، فأتاني الجواب :

- لا وقت لدينا نهبه لمصطلحات فارغة لا تُطعم الخبز .. الحب والمحبة تركناهما لك ولأمثالك الذين ينامون دون هم يؤرقهم .

تهت في الطرقات ، وازداد صخب صمتي .. تحول إلى ضجيج يذكرني كثيراً بأصوات قرع الطبول الجنائزية .. .

أمسح الوجوه بنظراتي ، فأجدها مثقلة بالهموم المتعددة الألوان .. الفقر . المرض . القهر النفسي ، والقهر الجسدي . الاقتتال والدمار ، والمستقبل المتعرج الملامح ، والأحلام المصلوبة على صخرة الواقع العتية ، غير مقتولة ، ولا متحررة ، فتظل هي نافذة النور الوحيدة للأمل .

شعرت أنه لا محال ، ولا مجال للتفرد بأحاسيس ماتت منذ أزمان . استبدلت حزمة الابتسام بحزمة من الهموم المرسومة على كل الوجوه ، وأسكنتها في مكانها ، وأصبح الهواء يخنقني ، والماء لا مذاق له ، وتعلقت بوحدتي التي ألفتها ، وأضحت أنيسي ضمن صخب آهاتي ، وبالرغم من حبي للعتمة والهدوء الخافت الذي يغطي روحي . يتمدد فوقها كما يتمدد لحافي فوق جسدي ، ولكنني ظللت أخاف الليل . أحسه أحياناً كرجل أعمى . يتخفى وراء نظارته السوداء فيسمع همس روحي ، وحفيف أناملي التي تتحسس مواجع ألمي ، وأحياناً أخرى أحسّه كرجل أصم . يرقبني من بعيد ، ويرصد تحركاتي ضمن سجن داخلي ، وقوقعتي ، ودون أن أسمع أي صوت له .

هناك علاقة قديمة بيني وبين سواده .. مُذ كنت مضغة في رحم أمي ، فأضحت كل أحلامي التحرر من قيود ذلك الظلام كي أبصر النور ، ومنذ اختطف من أحببت فأعادهم إلى رحم الأرض ، وأطبق عليهم سواده ..

إني أخافه ، واضطررت حين اكتشفت أنه لا مهرب لي منه أن أقيم معه هدنة .

أصبحنا رفيقين حتى وأنا في حضرة الشمس العمودية . يرافق عيني سواده الذي عشعش في زوايا دماغي ، وتحول إلى حسرة دائمة في نظراتي

وعلى غفلة مني ، ودون أن أدري تحرر أحد أحلامي المصلوبة ، وتسلمت عملاً يقتضي أن أجوب من خلاله أنحاء مختلفة من العالم .

 

 

 

تين الصبّار

 

 

لا أحد منكم يستطيع تكذيبي إذا قلت إنني كنتُ فائقة الجمال في شبابي ، وحجتي أنني مازلت أمتلك الكثير منه .

ولا أحد منكم يستطيع تكذيبي ، ويقول إن حكايتي هذه من نسج خيالي ، ولا تحدث على أرض الواقع .

ولكنكم توافقونني بأن جمالي هذا كان سبباً في توظيفي بموقع أُحسدُ عليه ، بالرغم من تدني شهادتي ، وزواجي من رجل تمنته الكثيرات . .

لقد كنت أتلذذ بهذه النعمة التي تبث أمواجاً من العطر الفواح حولي . تجذب بها القلوب والأبصار ، فأخلع عني ثوب الخوف والتردد حين أعتلي صهوتها وأركب درب الصعاب الذي يتحول إلى سهول خضراء . . .

وفجأة انتابتني أحاسيس متباينة وأنا أمسح قامته بنظراتي ، وابتسامة خبيثة حبستُها خجلاً من تمردها في مثل هذه اللحظة الحرجة .

هل مازال يراني جميلة ، ومغرية ، بالرغم من تقدمي في السن ، ومظهري المتزن ؟!

هل مازال يعتبرني كتين الصبّار فاكهة لذيذة ، ولا بد من تذوقها رغم الأشواك المحيطة بها ؟

ربما نعم ، وربما نسي طعم الفواكه ، ورائحتها ضمن زنزانة همومه الحاضرة ، وربما لديه رغبة جامحة في هرس ، ودعس كل أنواع الفواكه ، واللذة التي قادته إلى ما هو فيه .

لا أعتقد أن هذه القامة النحيلة ، والوجنتين الغائرتين تتمنى أكثر من وجبة دسمة تملأ بها معدة خاوية .

أخبرتكم أنه انتابتني أحاسيس متباينة من الخوف ، والفرح ، والاستهتار ، ولكن إحساسي بهيبته التي كانت عليه في الماضي ، بقي هو الغالب . فوقفت أنتظر منه أن يبادرني التحية . . .

طال صمتنا ، وحكت نظراتنا الكثير من الماضي ، وعن الحاضر .

يا إلهي ! هل المصائب تُذيِّب العظام ، وتُقزِّم القامات .

كان فارع الطول ، عريض المنكبين ، ممتلئ الوجه ، ضخم القامة ، حتى جمجمته بدت أصغر بكثير من حجمها السابق ، وكفه التي لامستُها بتحية انتزعتُها منه انتزاعاً ، بدت لي وكأنها أصغر من كفي .

حين رآني أمامه ، تحولت دهشته إلى تجمد ورجفان في تلك القامة المتقزِّمة ، فخرجت الكلمات بطيئة هادئة :

- هذا أنت ؟!

- أهلاً أستاذ . تفضل . اجلس هنا . .

تجاوزت القوانين وطلبت له فنجان قهوة ، وناولته سيجارة من أحد زملائي .

لم يعترض مدير السجن ، لأنني أفهمته أنه قريبي حين طلبت منه إحضاره ، وهي فرصة أن أراه في هذا المكان .

التفَّ الدارسون حولنا ، وكل واحد منهم يوجه سؤالاً محرجاً أكثر من الآخر :

- هل أنت متهم أم محكوم عيه ؟

- ما نوع تهمتك ، وما هي بالتفصيل ؟

- ما هي عقوبتك ؟

استجْدتني نظراته ، وباعتدادي بمكانتي بين زملائي ، أشرت لهم بالابتعاد ، وتركِنا وحدنا لأنه قريبي .

وعاد صمتنا . .

لا أعرف إلى أين سافر فيه هو ، إلى جمالي وأنوثتي ، أم إلى ضميره ، ومحاسبته بدلاً من القوانين التي لا تحاسب إلا على الأعمال . .

وأخذتني أجنحة الذاكرة إلى لقائنا الأول . . حين باشرتُ في الشركة التي كان مديراً لها ، وقد تم نقل مكان عملي من مدينة أهلي إلى مدينة بيتي الزوجي ..

أذهله شكلي ، وأناقتي ، وبادرني فوراً بكلمات من التشهي والغزل ، ولكنها خالية من الخجل :

- عفواً يا أستاذ ، أنا متزوجة ، وأرفض مثل هذا . .

- كيف يسمح زوجك لهذا الجمال بالعمل ؟! تستحقين أنت أن تكوني أميرة ولها جواري .

- ولكنني أميرة بيتي ، وعند زوجي ، والعمل لم يُدرج في قائمة الإهانات الزوجية .

وبدأت المضايقات منه ، وأنا أتجنبه وأتحاشاه ، ، فاشتدت رغبته المتحدية لكل رفض ، وازدادت محاصرته لي .

وأصدر أول قرار ظالم تحداني فيه ، عمل إضافي مسائي .

لا يتواجد فيه سوانا ، والثالث مدير مكتبه الذي كان يسمع همس الصدور ، ويرى من وراء حيطان الشركة كل ما يدور فيها ، ومع ذلك فهو أعمى وأطرش لما يحدث داخل غرفة سيده ، وولي نعمته الذي لا يبخل عليه من النعم التي تكدّست في

جيوبه ، فحوّلها إلى عقارات ، وأثاث ومصاغ لزوجته ، والكثيرات من أميراته وجواريه .

ثم أصدر قرار العقوبة الأولى لعدم التزامي بما يسنُّ ، والثانية لأنني أهنته حين طلب مني أن أشرب معه القهوة في غرفته وحدنا ، فحوّلتُ كلماته الممجوجة التي حاول أن تكون طعماً في مصيدة ، إلى سمٍّ قاتلٍ لوقاحته . واعتبر ذلك اليوم تغيب دون مبرر ، وحجته أنني تأخرت عن موعد الدوام .

وتلاحقت العقوبات ، وتلاحقت أنفاسي في فراشي ، فأحَسّها زوجي ، وحاول جاهداً تفسير أرقي وقلقي . .

تحولت أيام العسل إلى عرائش من الحنظل في أعماقي .

هجرتُ الزينة والتبرج في مظهري ، ولبستْ نظراتي ثوباً تشاؤمياً يائساً ، وذبولي أصبح واضحاً لكل ناظر ، وأسئلة زوجي المتكررة :

- هل أنت نادمة ؟ . . هل أرغمك أهلك ؟

- هل كنتِ تحبين غيري ؟ . . هل أنا مقصرٌ معك ؟

ثم تلحقها أسئلة أهلي . . ما هو سبب ذبولك وشقائك يا ابنتي ؟. فتسيل دموعي الحارة ، وأنا أقسم بأنني سعيدة مع زوجي . . ونظراتي تحاول تمزيق ذلك الستار القاتم الذي يحول عليّ رؤية السعادة .

أية سعادة أراها ؟! أية مملكة أتمتع بتاجها وأنا ضمن قلعة كبيرة ومخيفة ، ولا أحد سوانا ، أنا والوحش .

عيناه مربعتان ، دائمة البحث عن جديد ، وفمه مستطيل يبتلع كل ما يعترضه ، وأنيابه كالسيوف ، ومخالبه اشتراها بنفوذه من نسرٍ جارحٍ .

وأنا دون سيف ، لقد كسرته غربتي وبعدي عن أهلي ، وأظافري قلَّمها زوجي بغيرته وظنونه ، وأسناني حين بحثتُ عنها ، وجدتها قد تحولت إلى لؤلؤ ومرجان لا تنفعني في المبارزة ، بل هي مطمع لغريمي ، ولِقُطّاع الطرق إن استغثتُ بهم .

فلعنت الجمال حين يتحول من نعمة إلى نقمة .

حاولت مراراً أن أستعرض لزوجي ما أنا فيه ، ولكن كيف أدفع عن نفسي تهمة سوف يتهمني بها ، إنني أغريته ، وغير بريئة .

هل أدفع عريسي إلى الإجرام ؟! أم أرتمي في أحضان الآخر ، أم أترك العمل الذي كنا بأمس الحاجة إلى وارده ونحن في بداية البناء ، وكان هو المتنفس الوحيد لي في غربتي ، وفيه أُثبت تفوقي أمام زوجي الذي ينظر إليّ نظرة دونية لأنني الأنثى وهو

الذكر ، ولا أعرف أيامها إن كان جاداً في نظرته ، أم كان يحاول قمع غروري ، وحمايتي من رياح خارجية شمَّ

رائحتها . .

كثرت العقوبات ، والحسم من راتبي ، وتعددت أيام غيابي دون مبرر بالرغم من وجودي في غرفتي ، وقيامي بأعمالي .

وقد أثبتُّ هذا للتفتيش ، حين وجدوا توقيعي على معاملات كانت في نفس الأيام التي سُجِّلتُ فيها متغيبة .

اضطررت أن ألجأ إلى التفتيش ، لا لأُثبت للمدير جوره عليَّ ، أو لاسترداد أجر تلك الأيام . . بل لأثبت لزوجي بأنني لم أذهب إلى أمكنة أخرى غير الشركة .

فكانت حجة زوجي قوية حين احتجزني في المنزل ، القيود التي قيدني بها كانت أصعب من السجن في تلك الغربة الموحشة . . وازداد كرهي لهما . زوجي الذي تسبب في تغيير محل عملي ، ثم خسارته ، والمدير الذي تسبب في سجني هذا .

فأقسمت أن أنتقم يوماً ، وتعددت أمامي صور الانتقام التي كانت دائماً تصطدم بقيودي وسجني وغربتي فتبوء بالفشل . .

ولكنني بلحظة أثبتُّ تفوقي ، حين انتشلتُ وحدتي من اليأس والاختناق ، وهربت فيها من تعدد صور الانتقام إلى برنامج الثانوية العامة ، وانتسبت في العام نفسه إلى الجامعة .

وفجأة عاد لي الحظ بعد أن يئستُ منه حين جافاني ، وهجرني منذ دخلت بيت الزوجية ، فتلاحقت انكساراتي ، وكان أكبرها أنني لم أنجب .

حصل زوجي على عقد عمل في الخارج ، وحصولي على ثقته بعد سنين المعاشرة ، وازدياد حبه لي دفعه للاعتراف بتفوقي والموافقة على إتمام دراستي أثناء غيابه .

ولكن خوفي من عودة زوجي على غفلة ، أو طلبه أن أرافقه إلى غربة جديدة وبعيدة دفعني إلى الجدية في الدراسة والتفوق أكثر . فوصلت على عتبة التخرج .

وقطع صمتنا مبادرته بسؤالي :

- مَنْ هؤلاء ؟ صحافة ؟

- إنهم طلاب التخرج في كلية الحقوق . يعملون دراسة للسجون والمساجين .

- وما علاقتك بهم ؟ هل حصلت على وظيفة هناك ؟!

- بل أنا مثلهم . على أبواب التخرج .

- جحظت عيناه ، وأمسكتُ بيديّ تمَزُّقه الداخلي ، ولكن ما رآه لم يقمع خبثه وحقده الساكن في أعماقه ، فحاول أن يرد لي إهانة صامتة سببتُها له ، فأردف بابتسامة ماكرة ، وبالرغم من التصاق أبشع تهمة على جبينه :

- وزوجك . هل طلقك ؟ . كان لا يستحقك .

- ها . . ها . . ها .

وعادت نظراتي تمسح قامته التي تقزّمت أكثر ، وتضاءلت .

أحسست أنها بدأت تتلاشى أمامي ، وحتى في ذاكرتي .

تحركت شفتي ، والضحكة مازالت تملأ فمي . سمعت صوتها عالياً وأنا أردد :

أنا وزوجي في نجاحات متلاحقة ، ومازال يحبني ، وأنا مخلصة له . . .

. . . وبعدها احكموا عليَّ بالإعدام

كم أحسد الذين لا يحسون بأحزانهم ، ولا يحملون أثقالها .. ويعتبرونها موجة عابرة على سطح بحرهم لا بد أن تتكسر وتتلاشى على صخور الشطآن ، وشطآنهم قريبة جداً من نقطة انطلاق أمواج الأحزان ..!

وكم أحقد على نفسي حين أحمل في أعماقي أحزان الآخرين ، وحين يتمركز ثقلها في داخلي ثم تتحول إلى عاصفة جامحة تجتاح كل جوانب حياتي ، فينتابني شعور بالفرح والارتياح ، لأنني استطعت أن أقاسم الآخرين بعضاً من همومهم علها تخفُّ يوماً وتتلاشى عنهم ..!

تضايقني كثيراً تلك السادية التي أمارسها على روحي ، وحاولت كثيراً التخلص منها ، ولكن مشاعري دائمة التمرد على محاولاتي ، واكتشفت بأنها ممغنطة بتلك الصفة ، فهي تجتذب وبقوة آلام الآخرين ، فتلتصق بها ، وتصبح مركزاً لتلك الأثقال .

سنون عديدة مرت ، ورغم محاولاتي في إخلاء مسكنها الذي احتلته في بقعة استيراتيجية من ذاكرتي ، فإن وجهها بملامحه التي لم تضمحل يوماً أو تبهت يعود ويقابلني . .

فأسألـه : أين أنت الآن ؟!

.. وهل بقي لك ملامح في الوجود ؟

كان يوماً قائظاً ، وخانقاً بشمسه العمودية ، ومن لا عمل له استطاع أن يحصن نفسه بنسمات منعشة داخل منزله أو في أي مكان منعش آخر .

أما أنا وزملائي فحرمنا تلك النعمة رغم انتهائنا من الامتحانات وانتهاء الدوام الجامعي ، فإن المعسكرات الجامعية الصيفية لا بد منها ، وكانت المحاضرات فيها مكثفة ، والزيارات الميدانية المبرمجة لا تأبه لكل حالات الطقس .

وحين وصلنا إلى ذلك البناء الضخم الذي نال الكثير من تعليقاتنا أثناء مسافة الطريق ، وكثيراً من التصورات عما يدور داخله ..!

مما خفف عنا ما نحن فيه من ضيق الأنفاس ، واختناق الأرواح ..

هرول الطلبة وبلهفة إلى الداخل . متأملين نسمة باردة لاستعادة هدوء الأرواح ، ومن ثم البدء في المهمة التي جئنا من أجلها .

(( سجن النساء ))

كلمة لها وقع كبير في النفوس ، ونطقها يجب أن يكون بتحفظ شديد ، وبالأخص إذا خرج من بين شفتي امرأة ، وكأنها بنطقها تكشف عن عورة خاصة بالنساء ، وربما تثير الرعب في متلقيها ، فكيف إذا كانت المتلقية امرأة ، فالنساء لم تخلق للسجون ، وإنما خلقت محصنة ، وسجنها الوحيد هو البيت ، والمجتمع ، والعادات ، والتقاليد ، ومن حق الرجل أن يسجن أحاسيسها ومشاعرها ، ويقتل تطلعاتها وأحلامها ، وينفذ حكم الإعدام في إنسانيتها دون أن تطأ قدماها ذلك المكان الذي يثير الرعب والخوف في النفوس ..

كيف تصل المرأة إلى ذلك المكان ؟!

ما الدافع الذي يجعلها ترتكب حماقات تعاقب عليها من غير رجال بيتها وهي لا تمتلك حقاً تطالب به ، ولا مشاعر تتحرك في الانتقام المادي المحسوس وأخذ الثأر ، وقد استأصلت أعصابها منذ كانت مضغة في رحم أمها ؟!

هذا ما انتابني وأنا أضع قدمي على عتبة الصالة الكبيرة التي ازدحمت بالسجينات اللاتي أحضرهن مدير السجن كعينات تخدم حالاتهن هدف زيارتنا ، وهذا ما سمعته منها حرفياً ، وكأنها قرأت ما دار في داخلي ، أو توحد داخلينا فقرأت الاثنين معاً !

توزع الطلبة في الصالة الكبيرة إلى فئات ، ومع كل فئة عيّنة من السجينات ، وبدأت الاستجوابات ، والأقلام تركض على الورق تريد الاحتفاظ بكل حرف تنطقه تلك النسوة غريبات الأطوار .. لم أستطع المكوث مع مجموعة واحدة ، والاستماع إلى حيثيات جريمة السجينة التي أدت إلى عقابها .

كلما انتقلت من مجموعة إلى غيرها كنت أشعر بأن الحديث يثير عندي الاشمئزاز والرغبة في التقيؤ .. والعناوين متشابهة : دعارة ، مخدرات ، مشاجرة أثارت أعصابها فركضت إلى سكينة المطبخ ، ضربت بها وهي ترتجف ، وكانت نتائج الضربة الموت أوعاهة دائمة ، والأخرى حكم محكمة اقتصادية ، وتدافع عن نفسها بالأيْمان أنها لم تختلس ، ولكن المدير استغل كونها امرأة فضرب ضربته ، وحمّلها النتائج .. وهكذا .

بعضهن حاولن الدفاع عن أنفسهن بالكلام والأيمان ، والأمل يمطر في عيونهن بأننا سنساعدهن في تخفيف الحكم عليهن ، والأخريات يتكلمن والقهقهات ترافق كل كلمة في حديثهن ، وقد سألت إحداهن :

- ها . لمن فائدة الحديث معنا . لنا أم لكم ؟

هل ستخرجونني من هنا ؟ ها . ها . ها .

ثم أكملت :

- أنا سعيدة لأنني أودعته باطن الأرض ، وغسلت يدي بدمه .

ثم امتعض وجهها قليلاً ، وشردت نظراتها ، وكأنها انتقلت بروحها من مكانها إلى مكان آخر يثير فيها الرعب تنهدت وأكملت :

- العيشة هنا مريحة جداً ، وتبدو لي جنة حين أتذكر أيام جهنم التي قضيتها في بيته .

تركتها تكمل حديثها الذي سأقرأه من دفاتر زملائي ، واتجهت إلى تلك الزاوية التي اختارتها ركناً قصياً واستقرت بها ، فهي لا تستطيع رفض أوامر مدير السجن في إحضارها مع زميلاتها لمقابلتنا ، ولا رغبة لديها في التحدث مع أي منا أو غيرنا ممن يحضرن بمهمات دراسية تشابه مهمتنا .

تأملت خلفيتها طويلاً قبل أن أنبهها بأنه جاء دورها للتحدث ، ولا مجال لها للتهرب من ذلك لأنها أثارت فضولي بلباسها الأسود من غطاء رأسها حتى قدمها .

استدارت بوجهها الممتلئ الشاحب بسمرته .. شعرت بأن ظلال شالها الأسود مع الأيام سكن في خلايا بشرتها ، ولكنه سحب الدماء من شفتيها ، فحولهما إلى كتلتين شاحبتي البياض وجافتين ..

لم أقرأ بنظراتها الرجاء والتوسل في تحريرها من قيد السجن الذي قرأته في كل العيون ، وبعد جهد مني وأنا أطلب الرد على أسئلتي ، وهي تهز رأسها معلنة الرفض . فاجأتني بما تفوهت به :

- تعدينني بأن تساعديني في الهرب من هنا ولو ليوم واحد ؟

وأنا أعدك بدوري أنني سأعود بنفسي ، ومستعدة أن أقضي عمري كله هنا بعد أن أقتله ، أو ألفُّ بيديَّ هاتين حبل المشنقة حول عنقي . أو . . .

وبهدوء أجبتها . محاولة إعطاءها الأمان الذي أحسّته من نظراتي ، وكلماتي المهذبة والمتعاطفة معها :

- من هو

- المجرم الحقيقي .. هو الذي قتلها ..

- لماذا لم تخبريهم عنه أثناء المحاكمة ؟

- عرفوا كل شيء ، ومع ذلك اعتبروني أنا المجرمة ، وتركوه حراً طليقاً .. يمارس كل ما تسوّل له شهواته الوسخة .

- ماذا فعل بك ؟

شعرت للوهلة الأولى برغبتي في تركها تكمل حديثها وحدها تهذي به مع نفسها حين تخيلت أنها ستجيبني :

اغتصبني .. أغراني بالحب ووعدني بالزواج ثم تملَّص .. ولكن وقع كلماتها التي سمعتها شدني من أكتافي وبقوة ، وأجلسني على الأرض قبالتها . شعرت بأنني سألتصق بها ، ونظراتي تشد الأحرف من بين شفتيها التي بدأت تقطر مَراراً :

- أحرق أبي ، ومثّل بشباب أختي ، وأودعني هنا ، وإذا بقي حراً وينعم بالحياة ، سيلحقني أخي الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره لأنه أقسم أن يثأر لأهله .

وأطبقت ما تبقى من أهداب حول عينيها .. لحظات وتحررت دموع هادئة .. مسحتها براحة يدها .

تنهدت ثم فاجأتني بسؤالها البعيد عمّا كنا نتكلم به :

- أي فرع في الجامعة أنتم تدرسون ؟

- حقوق

تنهدت ثم ابتسمت بمرارة :

- كان ذلك حلمي .

- وهل كنت تدرسين ؟!

- حين بدأت الأحداث ، ودخلت أختي هذا السجن ، ولحق بنا العار . اضطررت أن ألازم البيت ، وأسجن نفسي بين حيطانه التي أحرقتني بنظراتها ، وأفرغتُ من دماغي كل ما خزنته من تعب أيام طويلة في دراسة منهاج الثانوية ، فلم أتقدم للامتحان .

فتحتُ حقيبة يدي ، وأودعتها الدفتر والقلم ، ثم سحبتُ يدها بين يدي بحنان بعد أن نظرتُ إلى الساعة وعرفتُ أن الوقت يمضي مسرعاً ، وقلت :

- اعتبريني أختاً لك ، أو صديقة وبوحي لي الحقيقة . لا تتركيني أتوه في الآلام . ربما أستطيع مساعدتك .

ابتسمت وهي تتحدث :

- غريبة الأطوار أنت .. لم ألتقِ فتاة تصادق أو تطلب مؤاخاة مجرمة .. أَخلص صديقاتي تنكَّرْن لي ، لو أن واحدة منهن سمعتني ، وصدّقتني ، وشاركتني التفكير ، ربما كانت النتائج غير هذه .. يا صديقتي العزيزة التي لن أراها مرة أخرى . سأبوح لك بما تريدين . علكِ تعذرينني إن هربت من هنا واستطعت قتله . . .

قدري وأخوتي أن نكون أبناء امرأة فتحت عينيها على الفقر في بيت والديها ، وقدرنا أن يزوجوها من رجل امتلك قوة البصيرة بعد أن فقد بصره منذ طفولته .. الكل يشهد بأخلاقه وعصاميته ، لأنه يُحَصّل لقمته من عرق جبينه ، فهو يعيد أرضية كراسي الخيزران إلى الحياة بعد أن ينسجها بخيوط جديدة ، ولكن هذا العمل موسمي ، وبدأ بالانقراض مع الزمن ، ولم تجد أمي عيباً في خدمة البيوت .

إنها مهنة تمارسها الكثيرات من قريباتها ، ويبدو أن هذه المهنة تعود بالثقافة والمعرفة على من تمارسها ، فهي من خلال عملها تعاشر النسوة المثقفات ، والثريات ، وتتعلم منهن الإيتيكيت ، وبعضاً من الأخلاق وعزة النفس ، فيصبح لها طموح باستعادة إنسانيتها كاملة من خلال تربية أولادها ، وانتظارها مستقبلهم المضيء .

هكذا كانت المسكينة أمي . تقتبس من البيوت التي تدخلها كل ما تراه حسناً من العلاقات الإنسانية .

كانت أم لطيفة ، وواعية ، وتعمل جهدها لسد أي ثغرة طبقية بيننا وبين صديقاتنا الثريات .

وأبي ..

أرفقت تنهيدتها بآه طويلة ، وهزة رأس مليئة بالأسرار والألم :

- آه .. كان حنوناً جداً ، ومحباً لنا ولأمي .

ثم انتفضت وهي تقول جملتها :

- ما أكثر ما كان يقول لنا من الحكم والأمثال !..

دائماً يتلو علينا بيت الشعر الذي لا ينساه :

العلم يبني بيوتاً لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العز والكرم .

وحين نقرأ على مسامعه الدرس في أول العام الدراسي . يسألنا منه أيام الامتحانات الأخيرة .

لا أعرف كيف غير رأيه ، وحرم أختي من إتمام تعليمها .

مصمصت شفتيها الشاحبتين ، ثم بلعت ريقها . شعرت بأنها تمسح كل ما جال بداخلي بنظراتها العميقة وهي تردف :

- كنت وأخواتي مهذبات ، ومجتهدات ، ولنا حضور في المدرسة ، وفي المجالس .. أنا سمراء منذ طفولتي ، ولكن أخواتي اللاتي يصغرنني كن شقراوات وجميلات مثل أبي .. خديجة .. خديجة كانت .. ..

وتوقفت الكلمات في حلقها . التصقت الأحرف على حيطانه التي تقرحت من كثرة البكاء .

ناولتها منديلاً ورقياً . مسحت دموعها وهي تستجيب لتوسلاتي وأنا أطلب منها رواية قصتها قبل انتهاء الوقت الذي بدأ يركض.

- خديجة كانت آية في الجمال ، والأخلاق ، والذكاء التقطها ابن الكلب من بين كل الصبايا حتى يستبيح جسدها الممشوق لإشباع شهواته الحيوانية ، وأخذ من فقرنا ذريعة في ممارسة ساديته ، ولؤمه ، وخبثه عليها .

أغرانا بما قدمه لها من مهر ، ووعود في تدليلها ، وإسعادها ، وغنى أهله ، واسم عائلته دفع أبي وأمي إلى الضغط عليها وانتزاع موافقتها .. سحبوا كتب الصف الثامن من فوق صدرها التي احتضنتها بين ذراعيها كوليدها ، وألبسوها ثوب الزفاف الثمين ، وزيّن عنقها الشامخ ويديها البضتين بالذهب واللؤلؤ الذي تحلم به بنات الأثرياء .

كان فخراً لعائلتي ذلك العرس ، وذلك النسب .. قال لنا أبي يومها : الله يسعدكم يا بناتي مثلها . إنشاء الله تودعون الفقر وتنسونه .

ولكنني نسيتها هي في تلك الفترة ، وانشغلت عنها في امتحان الكفاءة الذي نجحت فيه بتفوق ..

وكذلك أختاي اللتان تصغرانها تفوقتا في الامتحان ، أما أخي الوحيد خالد ، فكان صغيراً ، ومنعشاً بتحركاته لروح أبي التي ترافقه أينما تنقل .

تفرغت لها في عطلة الصيف ، وبدأت تبوح لي عن عذاباتها معه ، والمرّ الذي يمزجه لها مع الجوع وتتجرعه يومياً . كان بخيلاً عليها فقط ، وكريماً مع الأخريات . قاسياً عليها ، ولطيفاً مع الغانيات اللاتي ينفق عليهن الأموال .

حين تطالبه بحق من حقوقها يذكّرها ويداه تنهالان ضرباً مبرحاً على جسدها بفقر أهلها ، وجوّها القديم ، فيقول لها :

الخدم لا يأمرون الأسياد ، وتذكري بأنك جائعة منذ طفولتك ، ولن تشبعي أبداً .

وحين تشكوه لأهله يجيبونها :

النعم لا تليق بك . ربما أنت مشتاقة لكوخ أهلك . كانت أمه تقول لها وهي تتبجح بنعم الله عليها :

إن كان لا يعجبك ما نقدمه لك . اشتغلي مثل أمك .

أنجبت ابنها الأول وأنا وأهلي نحاول تهدئة أعصابها ، وتطييب خاطرها ، وعلى الحول أنجبت الآخر .

بدأ عودها ينحل من سوء التغذية ، والضرب والإهانات يأكلان من لحمها ، حتى تحولت إلى شبح من جلد وعظم ..

انشغلت عنه بأمومتها التي ابتلعت عنها كل المَرار ، وقد ورثتْ هذه الأمومة المتدفقة عن أمي ، وبدأت الأفواه الصغيرة تطلب المزيد من الطعام المفقود في غرفتها ، وحين تتسلل متلصصة إلى المطبخ كي تسرق القليل منه تضبطها أمه التي تراقب تحركاتها .. تولول ، وتلعنها لأنها امرأة جائعة لا تشبع أبداً إلا بالسرقة .

مرض مرة الصغير ورفض والده أخذه إلى الطبيب . توسلت إلى أمه التي كانت مشغولة بالاستعداد لحضور سهرة مخملية بين ذويها ، فأجابتها :

أنا لا تهمني حياة أولادك الذين سيجلبون لي العار ، يؤسفني أنهم أولاد خادمة . ليتهم يموتون . أثارت لديها هذه الكلمات التحدي ، وقررت أن تمدهم بالحياة مهما كان الثمن . فغافلت زوجها ، وأخذت من جيبه ثمن المعاينة والدواء .

قاطعتها أنا باستغراب .

- طالما أنهم يعرفون أصلها وفصلها ، ويعرفون أن مصاهرتكم ستجلب لهم العار . لماذا أقدموا على ذلك ؟!

هزت رأسها صديقتي ، وابتسمت باستخفاف ثم أجابتني :

- هذا الصنف المدلل من الرجال لا تعرفينه يا صديقتي ، حين رفضت أختي الجميلة محاولاته معها ، وفشل في الوصول إليها عن طريق السهل . رفض أن يظل مرفوضاً .

وممن ؟! منها هي ؟! وهو المرغوب من الأخريات اللاتي يفوقنها في كل شيء .. لم يتعود من قبلها على الرفض

أبداً ، لذلك كان مستعداً أن يُقدِم على المستحيل حتى يمحو لفظة ( لا ) ، ويحل محلها الـ ( نعم ) .

كانت موافقة أهلها ، وفرحتهم به أول صفعة قدمها لها ..

وفجأة ارتفع صوتها ، وبحدة ألقت عليّ استنتاجها :

- هذا حال الأسياد معنا يا سيدتي .. إن رفضنا ، وإن وافقنا ، في كلا الحالتين نحن فقط المطالبين بدفع الثمن .. .

ربتُّ بحنان على منكبيها ، وبعد أن مسحت دموعها .. عادت إلى تخفيف حملها الثقيل ، وإلقائه في البحر :

- توسلت إلى أبي كثيراً كي يطلقها منه ، ولكن أبي المحاصر بالعادات والتقاليد ، والقيود الاجتماعية رفض ذلك ، وشرح لها ما معنى مطلقة .. يعني الموت البطيء لكل العائلة .

- ولكنه يا أبي ينفذ عليّ الإعدام السريع .

- الحياة معه يا ابنتي أهون كثيراً من الطلاق . سيكون ذلك موتاً لك ولأخواتك المسكينات .

عادت إلى بيته مذلولة باللقب الذي ألصقه بها ( لصة )

وهكذا .. كلما افتقد أهله شيئاً في البيت تكون هي المتهمة ، بل المجرمة ، وأصبح افتعال السبب سهلاً عليهم كي تنال العقاب الفوري من المحكمة العرفية الموجودة في بيتهم بشكل دائم ، ولها فقط .. دون زوجات أخوته المقيمات في الدار نفسها والمرفهات تماماً لأنهن ينحدرن من سلالات عريقة تضاهيهم نسباً .

أحاط بها وبزوجها الغرق . هو في ممارساته الحيوانية مع المشروبات الروحية والنساء . وهي في آلامها وجوع أولادها .

وحضرت القشة التي قصمت ظهر البعير .

هذه المرة لم تسكت ، ولم تخف منه .. ضبطته بالجرم المشهود مع إحداهن في غرفتها ، وعلى سريرها بعد أن عادت من زيارة بيت أهلها ، وكان المنزل خالياً من سكانه .

صوتت ، وولولت ، ويداه تزداد تبريحاً وهي تنهال على جسدها . يحاول إقفال فمها وإسكاتها إلى الأبد ، وهي تزداد قوة ، وتريد أن تفضح ممارساته ، وتكشف حقيقته التي حاول إخفاءها بعار ألصقه بها بكلمة ( لصة ) ، وحملته على جبينها أينما تحركت بين الناس .

كسر الجيران الباب تلبية لاستغاثاتها .. وجد نفسه محاصراً بنظرات التساؤل .. فرحت خديجة وركضت إلى غرفتها وهي تصرخ تعالوا شوفوا بأعينكم قذاراته .

ولكنها تسمرت ثم أغمي عليها . عرفت أنها خسرت جولتها معه ، وسيكون عقابها مريراً ، ولا يوجد بين يديها أي دليل تدينه به بعد أن استطاعت غريمتها أن تهرب من المكان مستغلة انشغالهما ببعضهما البعض ، ونسيانها .. انتفض لحظتها مزهواً ليقدم للشهود دفاعه عن نفسه :

أستحلفكم بالله .. أحرام على الزوج تأديب زوجته التي طفح كيلها ؟!

لقد سرقت اليوم سلسلة ذهبية ثمينة من غرفة أمي ، ونكرتها بعد أن أودعتها في بيت أهلها .. سامحتها أنا كرامة أولادي ، ولكن أمي ونسوة أخوتي احتججن ، وتركن لها الدار كما ترون ، وهن غير مستعدات لتركها تسرح وتمرح بينهن والذعر تملكهن على أموالهن .. هيا أخرجوها من هنا .. يكفي وهي تسرق من أهلي كي يعيش به الجائعون أهلها .. كرامتي أهم منها ومن أهلها ..

وليته تركها بوصمتها تعيش مع أهلها بجوعهم الذي يصبح جنة حين يقاس بمعاناتها معه .

- إذن ماذا فعل ؟! وهل صدقتموه ؟!

هزت رأسها وهي تبلع مرارها ، وأكملت :

- كيف نصدقه ونحن نعرف كل الحقائق ، ولكن أناس قريتنا تعودوا أن يصدقوا الأغنياء في كل أكاذيبهم ، فهم يقبضون الرضا عنهم ثمناً لهذا التصديق .

وكذلك المحاكم تصدق كل من يوكل عنه محامياً شاطراً يعرف خفايا القانون ومنافذ الدفاع والخلاص ، ولا تصدق من يدافع عن نفسه بنفسه وهو يحلف الأيمان الصادقة ، ويقدم لها بكل براءة وسذاجة دفاعه الصادق عن نفسه ، ولهذا صدقت المحكمة كل ما قاله المحامي الذي وكلته أمه التي طالبت في حقها بإعادة المسروق ، ومعاقبة المجرمة ، وشهودها كانوا كُثر ، والتسمية التي أُلصقت بالمتهمة ( لصة ) والتي شهد عليها أهالي القرية كانت قرينة قوية على تأكيد جريمتها .

- وأختك . ماذا فعلت ؟!

- هه .. هه .. أختي ! .. لا محامي يدافع عنها ، ولا أدلة تبرئها ، ولا شهود تخاف أهلها ، أو تخاف الله كي تأخذ بيدها .

- والنتيجة

- النتيجة .. أقامت هنا .. في هذا المكان الذي أصبح بديلاً لي ولها عن بيت أهلنا المليء بالحب والحنان . آه .. لقد أصبح حلماً .

وبدأت تمسح بنظراتها حيطان المكان المعتم رغم الإنارة فيه ، وأرضه الإسمنتية المشققة والمكسرة لقدمها ، والوجوه المحيطة بها من السجينات اللاتي لم تختلط بهن ولم تألفهن بالرغم من محاصرتهن اليومية لها ، وكأنه قد حكم عليها أن تستبدل عائلتها الصغيرة المتآلفة بهذه العائلة الكبيرة المختلفة الطباع والأجناس . إنها تشعر بنفور في أعماقها لكل من حولها ، وتكره النظرات التي تلامسها ، وكأن كل واحدة منهن تشير عليها بأنها مجرمة ، ولا تحس بغيرها مجرماً في هذا المكان ، لأن كل واحدة منهن استطاعت أن تصيب الهدف ، وتحقق غايتها .. إلا هي فجريمتها أنها أخطأت الهدف .

ولن تقر لها عين قبل أن تصحح خطأها الذي يخنقها في اليوم الواحد آلاف المرات .

- وبعدين !

- وبعدين حكمت عليها المحكمة بالسجن ثلاثة أشهر ، واقتادتها الشرطة إلى السيارة التي نقلتها إلى هذا السجن ، والحديد يقيد يديها..

عدنا ووالديّ إلى دارنا نحمل على وجوهنا وصمة العار التي لحقت بنا إلى الأبد ، والمرارة تقطر في قلوبنا دماً نازفاً بدلاً عن الدموع التي تحجرت في المآقي .

في اليوم التالي أحضر الكلب أولاده قائلاً :

خذوهم . ربوهم بطريقتكم .. علَّهم يكونون مورد رزق لكم في التسول والنشل ، فأنا لا أعترف بهم أولاداً لي .

أطفأنا الأنوار ، وأغلقنا الأبواب ، وتقابلنا ننهل من وجبات الآلام عليها ، والمرار الذي سكن في أعماقنا .. ووالدي يلوم نفسه ، ويكرر جملته التي علقت بين شفتيه :

ليتني أنقذتها .. ليتني طلقتها .. لقد قتلتها .

وانتفضت صديقتي ، ويداها تختلجان ، وهي تدق مرة على وجهها ، وأخرى على صدرها وفخذيها ، وعلا صوتها :

- كيف تتصورين حالنا ؟! .. لباسي هذا الأسود ارتديته منذ اليوم الأول لسجنها ، وكذلك أمي وأخواتي الصغار ، وتركنا مدارسنا ، وحرمنا أعيننا من رؤية الشارع بعد أن لفظتنا القرية وأهلها .. أصبحنا وباءً ، والفتيات يتجنبن النظر باتجاه بيتنا .

( ابنتهم مسجونة ) ..

هذه تهمتنا ، وبها أحرقونا ! أضحت أمي تفرح حين تحتاجها إحدى النسوة في تنظيف بيتها ، وتبتلع آلامها وهي تخضع للتفتيش قبل مغادرة ذلك البيت ، لقد أصبحت موضع شك في أمانتها التي اشتهرت بها من قبل ، ورغم عزة نفسها التي فارقتها بعد أن كثرت في بيتنا البطون الجائعة ، والأجساد العارية .

أقاربنا تنكروا لنا خوفاً من عار يلحق بهم ، وهم يعرفون تماماً الحقيقة ، ولكن هكذا الناس عندنا . تهمُّهم مصالحهم .

حين قاربت الثلاثة أشهر على الانتهاء أصبحنا نعوم في بحر هائج . ترفعنا الأمواج إلى الأعلى ، ثم تلقي بنا لنصدم بأحجار الواقع القادم .

مرة نقول نستقبلها ، ونحتضنها ، ونعوضها عن عذاباتها ، ومرة نتناقش ، ونستعرض حالنا بعد حضورها ، وظهورها الذي سيثير رياح حكايتها التي هدأت قليلاً .

ولكن الثلاثة أشهر امتدت ، وطال غيابها سنة ، وأخرى ، والتساؤلات تقتلنا في اليوم ألف مرة :

أين هي .. ترى هل انتحرت ؟!

هل تشردت . تسولت . نشلت حقيقة هذه المرة ؟! هل .. هل ..

حاول أبي مرة أن يسافر إلى دمشق ، ويسأل عنها في سجن النساء . طلب من أمي مرافقته ، فكانت حجتها مقنعة .

- من أين لنا المال ؟.. وأين نتسكع في شوارع مدينة كبيرة لا نعرفها وأنت ضرير ، وأنا امرأة أُمِّيّة !

طلب أن أرافقه ، فاعترضت أمي قائلة :

- تريد أن يلحق بنا عار آخر ؟ يقولون أخذ ابنته إلى دمشق لغايات غير شريفة ، أم تريد أن تُعرّض الأخرى لمخاطر أهل العاصمة وأنت عاجز عن حمايتها ! ألا يكفينا ضياع واحدة فقط ؟!

بعد سنتين .. في يوم قائظ مثل هذا اليوم ، والحرارة من حولنا تزيد من تأججها حرارة مندلعة نيراناً من داخلنا ، والجوع يطحن بطوننا ، فيجتمع ذلك ليؤرق قيلولتنا ، ويحرمنا نعمة إراحة الأجساد المتعبة من قلة الحركة . إلا في تلك الدار الصغيرة التي بدأنا نخاف عليها من الانهيار فوق رؤوسنا بعد أن أصبح كل فرد فيها مضغوط ، وقابلاً للانفجار بأي لمسة محرّضة ، وبعد أن لازم والدي فراشه بسبب الشلل النصفي الذي أصابه ، فتوقفت جملته التي حفظناها ( ليتني طلقتها ) ، وتحولت إلى همهمات تُدخلنا في دائرة مليئة بالأسئلة التي نطرحها عليه حتى نعرف ما يريد .

عجزه هذا حوَّله إلى إنسان عصبي . متطلب ، وملحاح ، وأنا قنبلة موقوتة . أتحرك بين الجميع ملبية طلباتهم ، ومهدأة لأعصابهم ، ومنتظرة لحظة الانفجار لديّ .

أما أخي الوحيد ، الذي حلمنا كثيراً بوجوده بيننا ، وكم نصَّبناه في أحلامنا الحاكم المتفهم ، والحامي لنا .. حين تفتحت مداركه أصبحنا نقول : ليته لم يزر الدنيا ، لماذا زارها وأخذ مكاناً فيها ، والعذابات تنتظره ، وانكسارات أهله مترصدة لخطواته المستقبلية . بأي وجه سيواجه العالم الخارجي حين يكبر ؟!

وولداها ، بل ولدا الكلب . ماذا سيقدمان لنا حين يكبران ! هل سيدافعان عن أمهما التي اختفت ، أم سيرجماننا بأحجار الكلب والدهم ؟ وماذا سينوب تلك المسكينة من دفاعهما بعد أن ذابت وتلاشت حتى في الذاكرة . هل سيعيدان لها الحياة التي حرّمها عليها الكلب أبوهم ! هل سيعيدان لأسرتنا الحياة والحيوية بعد أن حوَّلنا الكلب ذاته إلى أنقاض .

وسمعت طرقاً على الباب .. ذهلت ! حاولت كثيراً أن أفسِّر الذهول الذي انتابني حين رأيتها تترجل من سيارة عسكرية وبرفقتها شرطيين . بيد أحدهما أوراق . طلب مني حضور ولي أمرها حتى يوقع على استلامها .

أفهمته أن والدها عاجز ، وأخوها صغير ، ويمكنني أن أتولى ذلك .

ناولني إحدى الأوراق التي وقعتُ عليها ، ثم عادا إلى السيارة ، واختفيا عن الأنظار ، وهي واقفة أمامي كورقة خريف ترتجف بثوبها السماوي الفاضح كما نعتبره في تقليدنا ، فهو يكشف عن ساقيها المسمرتين بشحوبهما ، وكمَّيه القصيرتين تكشفان عن ماضٍ تساءلنا عنه كثيراً ، فتؤكد ذلك الخصل الذهبية المفردة والذوائب المتطايرة حول وجهها الواجم .

لم أعرف ساعتها تفسير أحاسيسي .. هل فرحت بظهورها ورؤيتها ، وأردت أن أضمها إلى صدري ، وأمسح بيدي عن جبينها كل آلامها ؟!

أم أنني انقبضت من منظرها ، وتواجدها بيننا الذي سيثير رياحاً هدأت بعد مضي زمن غير قصير عليها ؟!

كل ما أعرفه أنني مسحت وجهها وقامتها الشبه عارية بنظراتي المليئة بالمعاني الغامضة .. ودخلت بعد أن أشرت لها أن تلحقني .

احتضنتها أمي وعلا نحيبهما ، ثم انكبت على فراش أبي الذي ارتفع صوت همهماته ، وتحول إلى جعير .. ركض إليها البقية ، وأمي تصرخ بأطفالها : تعالوا .. لقد جاءت أمكم ..

وقبل أن تفرح برؤية أولادها ، وقبل أن يروا صورة وجهها التي بهتت وتلاشت في مداركهم قبل أن يعوها . كنت قد انتهيت من قراءة الورقة التي أسلمني إياها الشرطي .. وفهمت محتواها :

(( الإفراج عنها بعد أن نفذت عقوبة الحبس بجريمة دعارة ))

طار عقلي .. إنها كلمة لا تحتمل ، وقبل أن أفكر أو أسألها : لماذا خافت من العودة إلى بيت أهلها بعد ثلاثة أشهر من السجن ، ولماذا تسكعت في شوارع العاصمة الكبيرة وهي لا حول ولا قوة .. ولا ذنب لها بكل ما حدث .

تسللت إلى الزاوية المركون عليها الفراش ، أدخلت يدي إلى الأعماق ، وأخرجت مسدساً كان قد اشتراه والدي منذ أيام شبابه متذرعاً بأنه يحمي به بيته بالرغم من تأكده أنه لن يستعمله يوماً وهو لا يبصر اتجاه غريمه .

أفرغت كل محتواه من الطلقات بضربات خائفة عشوائية في أنحاء جسدها الذي أصبح جثة هامدة منذ الطلقة الأولى .

صفقت صديقتي بيديها على وجهها ، ثم قلَّبت كفيها المرتجفتين وهي تكمل حديثها :

بيديَّ هاتين قتلتها ، وبهما احتضنت جثتها المسجاة وأنا أصيح :

خديجة .. خديجة ..

رغم كل شيء عودي لنا .. عودي لأولادك .. لشبابك .. للحياة عودي واقتلينا كلنا .

ثم ألقت برأسها بين ركبتيها ، وقبل أن ترفع رأسها كان مدير المعسكر ينادي علينا بالتوجه فوراً إلى الباص .

لقد انتهى وقت الزيارة ، وبدأ زملائي ينسحبون من المكان ، ودفاترهم بين أيديهم مسجلاً عليها كل المعلومات التي يبتغونها .

أما أنا .. لقد سجلت صوتها في ذاكرتي وهي تتوسل إليَّ قبل مغادرتي :

- أرجوك . أريد يوماً واحداً فقط . أقتله وأعود . اسجنوني بعدها . اقتلوني . احكموا علي بالإعدام .

 

 

 

عناكب

 

نظرتْ إلى المرآة بذهول واع . ركزت النظر أكثر .. اقتربت .. ثم اقتربت ، وحين اصطدم جسدها بالمرآة ابتسمت .

لقد تأكدت أنها هي ، وليست فتاة أخرى غيرها . مررت يديها على تضاريس جسدها . تحسست المطاوي والنوافر .. توقفت في المنتصف .. فتحت السبّابتين والإبهامين . أرادت أن تقيس الخصر ، وكادت الأربعة أن يلتقين لولا نقص قليل في المسافة .

ولأول مرة ترى لجسدها تقاطيع حين يكون مغطى بالقماش ، وحين لا يكون مغطى تخجل من ذلك ، وأيُّ قماش ، وأيُّ

لباس : (( كم تخيلتُ نفسي يا سهى أرتدي مثل ثوبك هذا ، وجاء يوم خطبتك ، وتحقق حلمي حين أرتديه )) .

تأملتْ بوز الحذاء الرفيع ، وكعبه العالي المزين في أسفله بقطعة برونز دلالة على جودته .. ثم ركزت على الساقين الملفوفتين الشامختين وكأنهما تعودتا على العز والدلال .. .

استدارت إلى الوراء ورأسها موجه إلى المرآة تتأمل خلفيتها :

(( يا إلهي .. والله تليق بي الشياكة والأناقة ، وليست كثيرة عليَّ سكنى القصور .. لماذا كتبت عليَّ أن أرتدي دائماً ملابس الآخرين ، وبعد أن تفقد ثلاثة أرباع عمرها ..؟! )) .

هزت كتفيها بلا مبالاة ، وكأنها تطرد الحسرة بأمل مرسوم في داخلها منذ صغرها ، وتابعت مع نفسها :

(( الحمد لله على كل حال .. دائماً تقول لي أمي : مشّي حالك بهذه الثياب ، وغداً تتخرجين وتصبحين معلمة ، وتشترين ما يحلو لك من راتبك .. تعبت المسكينة من الشغل والكدح في البيوت من أجل أن تؤمن معيشتي مع أخوتي الصغار ، ووالدي غارق في كأسه وانكساراته ..

ما أشد فرح المسكينة حين يقدمون لها ملابس لعيالها .. وربما تتضرع إليهم أحياناً . )) .

شردت قليلاً مع بارق الأمل الذي تلألأ أمامها ، ثم أرفقت حديثها بابتسامة : (( إنشاء الله أعوضك يا حبيبة قلبي .. وأنت من ستلبس ما يحلو لها ، وتأكل ما تشتهي . )) .

وفجأة ..

ارتطمت في تلافيف دماغها فكرة طالما راودتها .. اقتربت من صديقتها التي أسلمت خصل شعرها لأنامل المزين كي يعمل منها أجمل تسريحة لأجمل عروس ، وقد تفرغ لها بعد أن انتهى من تسريح كل اللائي حضرن معها من صديقات ، وقريبات ..

- عزيزتي سهى بقي ثلاث ساعات على ميعاد الحفل . سأتغيب ساعة . هل تسمحين للسائق أن يوصلني إلى مشوار ضروري ؟.

أومأت لها سهى بالموافقة ، ثم استدركت بالكلام :

- فستانك خفيف على الجسد ، والجو بارد .. ارتدي معطفي .

خرجت كوثر تختال بالفراء الطبيعي الملقى على كتفيها ، وتركت للحضور إكمال الحديث :

- يا إلهي ما أجملها اليوم ! بدت وكأنها ابنة أحد الأثرياء .

- ربما لو رأتها أمها لما تعرفت عليها بشكلها هذا ..

عقبت سهى :

- اسمعن يا صبايا . والله أحبها كثيراً ، وأتمنى لها كل الخير ، فأنا لا أستغني عن صداقتها لأنها طيبة القلب فعلاً .

ضحكت الفتيات ، وعقبت إحداهن وهي تكمل مكياجها بعد أن تزينت بالذهب والماس :

- ربما تلتقط اليوم في الحفل أجمل الشبان وأغناهم عريساً لها .

أخذت كوثر مكانها في المقعد الخلفي من السيارة ، وأشارت للسائق بالذهاب إلى فندق الشام .

تأملت نفسها في مرآة السيارة . كل ما عليها ينطق بأنها سهى :

(( إنني أجمل من سهى ، ولكن حظي أقل من حظها ، ولا أعرف ما يخبئه لي الغيب . )) .

تأملت من خلال زجاج السيارة الحشود المصطفة على الجانبين في شارع الحمراء . منهم من ينتظر الأتوبيس ، ومنهم من يحاول إيقاف تكسي .. فتذكرت من جديد الفارق بينها وبينهن :

(( إنهن لم يعرفن الشحططة في انتظار الأتوبيس ، ولا تعرف بشرتهن طعم البرد في الشتاء ، ولا لسع الشمس في الصيف ، ولم تتعطر ثيابهن بالعرق المالح المتصبب من الجسد مثلي وأنا أركض كي ألحق موعد الدوام ، ولا يعرفن طعم التضحية في اللقمة حين أشبع قبل الجميع وأترك لغيري من أخوتي الشبع الحقيقي .. )) .

ولكن حلمها القديم دغدغ تقاطيع وجهها حين شعرت بأنه آن له أن يتحقق الآن ، فرسمت على وجهها ابتسامة هادئة وهمَّت بالنزول ، ثم تراجعت: (( لا سأفعل كما تفعل هي )) .

أسرع السائق وفتح لها باب السيارة . نزلت وهي تتقمص شخصية سهى ، وبنات مجتمع سهى .. وأشارت للسائق بأن يذهب ويعود بعد ساعة .

تقدمت من الباب الدوار .. تلكأت قليلاً ..

(( يا إلهي !! لماذا وضعت نفسي في هذا الموقف ؟! )) .

استدارت حتى تعود من حيث أتت ، ولكن السيارة اختفت عن نظرها .

اقترب منها عامل الفندق ببدلته المزركشة بالأوسمة الورقية .. قدم لها انحناءة تقدير ، ثم أدار لها بيده الباب .. رمت بجثتها في المثلث البلوري ودفعت به . وجدت نفسها في الصالة .

مشت وهي تتأمل نفسها في كل بلور يصادفها . توقفت قليلاً . تأملت المكان جيداً والابتسامة تعلو وجهها وكأنها تحاول بها الضغط على دقات قلبها التي أوشكت أن تكون مسموعة للجميع .

(( هناك .. هناك جلست مع سهى وخطيبها .. سأجلس في المكان نفسه ))

سحبت أنفاساً عميقة عدة مرات علَّها تتغلب على دقات قلبها الماكر .. الذي يتنكر لها دائماً في لحظات السعادة .. .

وضعت المعطف جانباً على الكرسي .. وقبل أن تطلب شيئاً أرادت أن تتأكد من رصيدها .

أمسكت حقيبتها بيديها ، وهي الشيء الوحيد الذي يذكرها بأنها كوثر .. فتحتها (( سامحني يا إلهي .. منذ زمن وأنا أدخر من مصروفي حتى جمعت ما يكفي لهذه اللحظة .. سأضحي بنصفه .. سامحيني يا أمي إن حققت حلماً يراودني من زمان ..

كم من مرة دارت أحاديثكن أمامي يا سهى بأنكن تذهبن إلى الأمكنة الراقية ، وتقتنصن الشبان الأثرياء ، وأبناء الذوات . ألم تتعرف ابنة خالك على عريسها في فندق الشيراتون ، وأنت ألم تلتقي بعريسك هنا في فندق الشام ؟ وفلانة .. وفلانة )) .

تنبهت من شرودها على انحناءة النادل بقبعته البيضاء المشاة والمزينة بعقدة حمراء ، فأشارت له بصوت منخفض :

- عصير برتقال .

التقت من جديد عيناها بعينيه . إنه الوحيد الذي يجلس مثلها وحده ، وشكله الوسيم وهندامه يدلان على النعيم .

نظرت إلى ساعة يدها .. تأففت .. لقد مضى نصف الوقت ولم يحضر هذا المجهول ، وقبل أن تدير رأسها جاءها صوته الرخيم هامساً لها :

- تسمحين يا آنستي ..

- ولكن .

قاطعها وهو يأخذ مكانه قبالتها :

- ولكن لن تأتي صديقتك التي تنتظرينها ، لقد مضى نصف ساعة على انتظارك لها ..

همت بالإجابة ، وقبل أن تختار الكلمات أكمل حديثه :

- المهندس فؤاد .. لديَّ شركة خاصة .. أسكن في المالكي .. و.. و

شعرت بالكلمات والأحرف تهرب من بين شفتيها كلما حاولت جمعها . وطيور سود اللون حطَّت على رأسها وكتفيها ، فأثقلت اللسان واليدين :

(( يا إلهي .. ماذا أقول له ؟! .. هل أكذب عليه وأختار اسماً وهمياً ، ثم أختفي بعدها من حياته ؟..

ولكن ماذا سينوبني من لعبتي هذه ؟.. لا .. لا سأقول له الحقيقة , كم فقيرة اختارها ثري ؟.. ربما أكون أنا واحدة منهن .. وما هي ميزة الثرية عني ؟.. إنني جميلة ، ومتعلمة ، ويليق بي مظهر الثراء .. وربما يحقق السعادة التي يرنو إليها معي .. )) .

وضع أمامها النادل كأس العصير ، فأشارت له بأن يحضر كأساً آخر لضيفها ..

انسحب النادل متأففاً بعصبية لم تفهمها ، ولن تلحظ الطلقات التي صوبها جليسها له من عينيه .. إنها مشغولة بالحديث مع

داخلها .. إنها تبشره قائلة :

(( إنه شاب لطيف ومهذب ، وأكيد أنه يعرف الاتيكيت .. حتماً سيدفع الحساب كله راضياً . )) .

حاولتْ اشغال نفسها بحركة قبل التحدث إليه .. تناولت حقيبتها ووضعتها في حضنها . فتحتها ، وبشكل خفي اطمأنت من جديد على رصيدها الذي يذكرها بأنها كوثر وليست سهى أو قريباتها .. فرحت بداخلها لأنه لن ينقص شيئاً .

تنبهت على وصول السائق إليها . همس لها بأن الوقت انتهى .. فأشارت له أن ينتظرها في السيارة قليلاً . وبدأت حديثها :

- اسمي كوثر .. وأنا من عائلة فقيرة .. و .. و .. وأدرس .. وقبل أن تنهي حديثها نظر إلى ساعة يده ثم ضرب بالأخرى على جبينه وقال :

- آنستي . عفوك .. انتظريني دقائق . سأجري اتصالاً هاتفياً ضرورياً وأعود ..

(( ترى هل أعجبه شكلي وسيقبل بي ؟.. أم أن حديثي الواعي وصراحتي هي التي أعجبته ؟! لقد بدا راضياً بكل ظروفي .. يا إلهي .. معقول تحقق حلمي ؟!.. سأعرض عليه أن يرافقني الليلة إلى الحفل .. سأتحداهن به .. و .. و .. )) .

وغرقت في قصورها .. والسيارة آخر موديل .. ويده تلفُّ ظهرها .. وبالأخرى يقدمها للآخرين زوجتي .. و .. و .. وتنبهت على صوت السائق يذكرها بأنه مضى من الوقت ساعتان ، وهو مضطر للعودة إلى سيدته .

جالت بعينيها مذهولة في المكان كله .. فهم عليها النادل .. تقدم منها حاملاً الفاتورة قائلاً :

- سيدتي .. الأستاذ غادر المكان منذ ترك الطاولة ..

هز النادل رأسه بأسف وقال بداخله :

- لن تكوني الأخيرة .. كل يوم له فريسة ساذجة .. هذه عادته .

تأملت رصيدها بحسرة ، ووضعته كله فوق الفاتورة ، خرجت تحمل بيدها معطف الفرو ، وهي تردد بداخلها :

- هذه الأكتاف لم تخلق للنعم .. خلقت لبرد الشتاء .. وحرارة الصيف .

 

 

 

شيخوخة حالمة

 

 

وتحقق الحلم ، وأصبح أولادي الأربعة في بيوتهم مع أزواجهم ، وعدنا وزوجي كعروسين وحدهما في عش الأحلام الوردية ..

ولكن وحدتنا هذه أصبحت خانقة وثقيلة ، كمن وصل هدفه الوحيد ثم ضاع في فراغه اللامحدود .. بهتت الألوان .. وتغيرت أحجام الأشياء .. وباتت الأطعمة لا مذاق لها .. وعاتبتني كثيراً المرايا المزدانة في بيتي بعد أن أهملتُ منادمتها .. .

تعبت عيناي من مراقبة تلك الأمواج الهائجة في معركتها مع بعضها تارة ، وأخرى تتحول برمتها للهجوم على الشاطئ الذي يقيدها ..

فهي منذ الأزل تحاول فكَّ تلك القيود .. فترعد ، وتزمجر، ولكنها بكل حنان تحتضن الأجساد المتعبة التي تلقي بثقلها في أحضانها ، فتغسل عنها همومها ، ومتاعبها ..

همس سواد الليل لتلك الأمواج حين لامسها ، ومسح بيده على جبينها مهدئاً من روعها .

فهِمت عليه واستكانت حين وعدها بعودة الشمس إليها من جديد بعد ساعات ، وعودة الأجساد المتلهفة ..

عدتُ بنظراتي أرقب النادل وهو يرتب المآكل على المنضدة التي تفصل بيني وبين زوجي الذي آثر قضاء العطلة بين خيوط أشعة الشمس ، وأمواج البحر لعلَّ ذلك الجو المريح يتغلغل في نفسينا المتعبتين من فراغ الوحدة ..

ولا أعرف لماذا رافقتهما نظراتي منذ إطلالتهما من باب النادي ، فكان كل واحد منهما يحاول مساعدة الآخر في نزول الدرجات وقد استعان كلٌّ منهما بعكاز في يده ، فسمعتُ أنين العكازين ، وأحسستُ بوجعهما ، حيث كان كل عكاز يصرخ فيزداد تمرده بانتصابه واستقامته كلما نزل عليه حمل السنين التي أحنت القامتين اللتين تشيران للآخرين :

- انظروا .. هكذا كنا . مثل استقامة هذين العكازين ، ولكن توالي الأعوام التي ستختم القرن في تعدادها لا ترحم

الأجساد ، ولا تتركها شامخة ..

(( آه .. ليت الجماد يتكلم . لو تكلم هذان العكازان عن همومهما لنسينا همومنا .. )) .

لم أميز اللغة التي تحادثا بها . كوني لا أجيد سوى عربيتي والإنكليزية ، وبعض التركية ، ولكنني ميزت عطرهما ، والفرح والسعادة في حديثهما من ضحكهما الهادئ المترافق برجفات الشيخوخة .. والوردة الحمراء التي بحثت عن مستقر لها على

ما تبقى من خصل الشعر الأبيض فوق رأس المرأة المسنة فخاب أملها .. انزلقت واستقرت على ياقة الفستان الأبيض الهفهاف . حاول أن يشابهها رفيقها في مظهره ، فثبت منديلاً أحمر في جيب سترته البيضاء .

جهز لهما النادل طاولة في مكان قصي منعزل تلبية لرغبتهما . أحسستُ بأن لديهما الكثير من البوح ، ولا يريدان الانشغال إلا ببعضهما البعض .

حولتُ النظر عنهما ، ورحتُ أستمتع برؤية الأجساد التي بدأت تصرخ فوق حلبة الرقص متناغمة مع موسيقى الروك الصاخبة .. .

أردافٌ ترتج ، وشعور تتطاير في الهواء ، وأيادي متشابكة مرة .. وأخرى تُقبِّل الأرض ثم السماء ، وسيقان تتلوى في اتجاهات مختلفة ، حتى صعب عليَّ التمييز بين السيقان وأصحابها ، فأتيه بينها وبين الأضواء المختلفة الألوان التي تومض فوق الأجساد الهائجة بدلاً من أمواج البحر التي هدأت واستكانت ..وساد الصمت ..

لحظات واستبدلتْ حلبة الرقص الأجساد والوجوه الهائجة بأجساد ووجوه هادئة ، وأياد متشابكة متناغمة مع أنغام الموسيقى الهادئة .

نظر إلي زوجي مبتسماً . محاولاً ملء جوانب نفسي التي ضاقت مساحاتها بعد وحدتنا . أمسك بيدي بين يديه . قبَّلها وحاول سحبي منها قائلاً :

- هيا .. تعالي نسترجع شبابنا .

- عيب يا رجل .. لقد كبرنا على ذلك ..

- حبيبتي .. صحيح أننا تجاوزنا الخمسين .. ولكننا مازلنا في عمر الشباب والحب .. .

- ربما .. ولكن هذا العمر لا يصلح للرقص .. لنتركه للأجساد الغضة .. .

وقبل أن أكمل محاورتي مع زوجي . تنبهت على نظراتي التي صُعقت ، وشهقتي التي تناثرت في فضاء صدري المخنوق من إحساسه بتقدم العمر به ..

لقد تشابكت يداهما في مكانهما القصي المنعزل .. وبالأخرتين اعتمدا على عكازيهما اللذين ازداد أنينهما واستقامتهما ..ألقت برأسها المتعب على كتفه الهزيل وهي تتناغم بحركات جسدها مع أنغام الموسيقى الهادئة .. فالتقطت أذناي همس روحها وهي تقول له :

- سأعمل جاهدة لإسعادك يا حبيبي .. سألون حياتنا باللون الوردي .. .

فيجيبها فحيح أنفاسه الملتهبة وهي تعطر تجاعيد عنقها :

- لن أدع غيري يخطفك مني بعد هذه اللحظة .

 

 

 

مصير

  

بصارة . براجة . فتح فنجان . قراءة كف وهبَّت أمي لتناديها مستبشرة برؤياها ..

فكانت هبَّتي أقوى . أمسكتُ بقبضتيّ الحديديتين على جذعها ، ولا أدري من أين صدرت صرختي بوجهها ناسية وجود

زوجي ، وسبابتي تشير إلى التلفاز ودموعي بدأت تكنس النعم التي غرقت بها كثيراً ..

- ألا يكفي يا أمي ؟!

هاهما المجد والمال رابضان تحت قدميّ ..

بكيتُ بحرقة وانسحبتُ ملتاعة حين امتثلتْ أمامي ذكرى ذلك اليوم الذي صدح فيه صوت ذات البصارة في الحيِّ كله ..

وسرعان ما خرجتْ والدتي يومها إلى الشرفة .. تلفتت يمنة ويسرة ، وعندما لم تر أحداً من الجيران ، نادتها بالهمس والإيماء ، ثم انزوت خلف الباب الذي فتحته موارباً .

- أريد أن تقرئي حظ بناتي ، وبالأحرى هذه .. إنها الكبرى ، واسمها رهام .

ووجهت أمي سبابتها الممدودة باتجاهي ، ونظراتها الطافحة بالقلق . إذ لم أتزوج إلى الآن . رغم تخرجي من المعهد منذ ثلاث سنوات ، وأختي فادية تخرجت بعدي بسنة واحدة ، والصغرى فايزة في طريقها إلى التخرج .

لم يشغل بال أمي المسكينة التقنية التي دخلت بيتنا ، ولا الترف الحديث الذي طرأ على معيشتنا إذا ما قورنت بما كانت عليه أيام كان مرتب والدي هو مورد الرزق الوحيد لنا ..

جلست البصارة وجلستُ قبالتها على الأرض ، وتناثرت بيني وبينها حبات الودع ، وبعد تفكير وتمحيص ، وإغماضات مبرمجة ومحفوظة منها قالت :

- فالها مفلول ، وطريقها مفتوح ، ولكنه طويل طويل

والطائرة تنتظرها ، المجد والمال الكثير رابضان تحت قدميها .. و .. و ..

ثم ختمت حديثها بجملتها المقتضبة والمبهمة :

- بختها جاي إنشاء الله عن قريب ، ولي البشارة ..

- الله كريم ..

أجابتها أمي بصوت يتهلل فرحاً وغبطة . مما زاد من ثقة البصارة التي عقبت :

- أفوت عليك بعد أسبوعين ..

وخرجت محملة بما طلبت ، وزادتها والدتي مستبشرة بما

سمعته .

لم يطل الانتظار ، ودق الحظ باب بيتنا . دخلت قريبتي المغتربة في الخليج ، طلبت يدي لابنها الثري ، وهاج بيتنا وماج من الفرح ، واستبشر الجميع ببريق الذهب ولمع الألماس الذي أخذ عقلي ، وأزاغ بصري . حدثني الخطيب عن رحلاته في أوربا وأمريكا ، وتدفقت الهدايا ، والسيارات التي بدأت تنقل ما خف حمله وغلا ثمنه .

كل هذا جعل المستقبل الذي أحلم به دائماً يمتثل بصوره أمام نظري .. أحضرت ملابسي الرسمية من أفخم دور الأزياء في فرنسا ، وعقص الحلاق ضفيرتي الذهبية خلف رأسي بطريقة تزيدني وقاراً . فتح لي السائق باب السيارة ، ودخلت الدار الخيرية التي أنشأتها في مدينتي من مالي الخاص ، وبدأت أتفقد فيها المسنين والمسنات وهم يستقبلونني بوجوههم الطافحة سعادة لرؤيتي ..

ثم شيدت بجانبها دار حضانة استقبلت بها حصراً أطفال العاملات المحتاجات ، حيث جعلتُ الأسعار رمزية ومقبولة . ولماذا أرفع الأسعار والمال طافح لدي ؟!..

ثم شيدتُ ، ورفعتُ ، ووسعتُ . . . . و . . . . وفجأة ..

قابلتني الصورة الأخيرة . إنه حلم بعيد وقديم ، ولماذا

لا أرشح ؟!

حتماً سيتهافت الناس على اختياري بعد أن امتلكت كل فقراء ومساكين مدينتي ، ماذا أريد أنا غير تمثيلهم في المجلس

النيابي ، وتأمين طلباتهم ، وتحقيق حقوقهم .

ولكن طموحاتي تجاوزت أحلامي القديمة ، وتربع أمامي حلم جديد ، في المستقبل القريب أنتسب إلى إحدى الجامعات

الخاصة ، وأحصل على أعلى الشهادات التي تحقق لي المجد الذي رأته البصارة منحنياً أمامي ..

لم يهتز لي رمش وأنا أوقع على طلب استقالتي من التعليم الذي أصبح لا يحقق ما أصبح واقعاً في أحلامي .

ولكن ياويلتي محمود الذي أحبني وأحببته . كيف اختفى وتلاشى من صوري المستقبلية ؟ وأنا المنتظرة الوحيدة على أحر من الجمر تخرجه بعد أيام معدودة ، وقد بشره أساتذة الجامعة بأن بعثة هذا العام ستكون من نصيبه إنشاء الله ، ووعدني بمرافقته حين بشرني بحصوله على موافقة أهله ولكن شتان ما بينهما ، طريقه سيكون طويلاً وشاقاً ، هذا مارَسا عليه مزاد تفكيري ..

وبعد محاولات ملحاحة من زميلاتي ، وكي أخرس صوت رنين الهاتف الذي أصبح متواصلاً لا يهدأ .. رضيتُ أن أراه لوقت قصير ، فأنا فتاة مهذبة ، ولا أعمل إلا ما يرضي والديّ . استقبلنا بعض بعيون باكية ، وقلوب تتفطر ألماً . رفع رأسه المثقل بهموم لم يحسب لها حساب من قبل . جاهد كي يمنع تلك الهموم من التساقط أمامي ، فهو لا يريد غسلها بهذه السرعة ، وبصوت مرتجف توسل إليّ :

- ماذا عملت ؟! أين وعودنا ، أين ما بنيناه . ثوري ..

تحدي .. إن حبنا أقوى من ..

وكل ما استطعت فعله أنني غسلتُ جُبني بدمعات ، وكلمات واسيتُ بها نفسي قبل أن أواسيه ..

صعدت إلى سلم الطائرة المنتظرة مع عريسي وأهله ، وحط بنا المطاف في جدة ..

رأيتها مدينة غاية في الجمال والحضارة . بهرتني بأنوارها ، وشوارعها العريضة ، والعمارات ، والسيارات . البحر . (( الكورنيش )) ، والمجسمات عليه وكل شيء متوفر ومريح ، وخادمتي الفلبينية ، ولا يمر أسبوع دون أن تزيد علبة مصاغي قطعة ذهب أو الماس .

ارتديت أجمل الملابس ، وتعطرت بأفخر العطور الفرنسية ، وتنقلت كثيراً في أرجاء المملكة في رحلات ترفيهية ..

وفي كل مرة أخابر أهلي أروي لأمي عما أنا فيه من خيرات وسعادة ، وخوفي على سعادتي دفعني نحو الاحتفاظ بها ، فزينتها بابنتي التي أصبحت شغلي الشاغل ، ومصدر ضحك لي ولأبيها ، ثم أخيها الذي منحني الجنسية ، وأرجأت موضوع عملي على الأقل في الوقت الحاضر .. حيث لا وقت لدي .. ولم تخطر ببالي مدينتي ، ولم يشغلني التفكير في السفر إليها ، كنت أنتظر مجيء ولدي الثالث ..

في غمرة سعادتي هذه جافاني الحنين إلى أهلي ، وبهتت في ذاكرتي صور الماضي بتفاصيله ، حتى مطالعة الصحف والمجلات لم تعد تأخذ من اهتمامي شيئاً ، وما علاقتي بأخبار العالم وعالمي موجود ضمن جدران بيتي ..وعلى غفلة مني خُدشت سعادتي . تصدعت . دخل إليها الملل ، واختلطت عليّ الأمور . أصبح ما لذّ وطاب لا طعم له ولا رائحة ، وعافت نفسي المناظر ، واللباس والذهب .. كرهت ركودي ، وتودد زوجي إليّ نبهني إلى ضجة أولادي الأربعة التي بدأت تخنقني ، والروتين اليومي يميتني ألف موتة .. فوجد زوجي الحل مستبشراً .

بدأتُ أهيّئ نفسي للسفر إلى مدينتي ، ولأول مرة أتذكر نفسي الماضية .

صرخت المرآة مرعوبة حين شاهدت كتل الشحم المتراكمة في صدري ، وبطني ، وأردافي ، ووجهي .. حاسبتني على طول غيابي عنها ، ورفضتْ كل محاولاتي معها . غيرتُ كثيراً في ملابسي ، وتسريحتي ، والمساحيق وغيرها ، ولم أفلح في كسب رضاها .

اضطررت أخيراً أن أخفي جسمي بعباءة عريضة ذات أكمام فضفاضة ، ووضعت الشال الأسود المُبرَّق على رأسي ، وقدت أولادي ، وكان الرحيل ، ولقاء الأحبة ..

فرحة أهلي بلقائي كانت كبيرة ، ودهشتهم بما آل عليَّ من تغيير كانت أكبر .

- ألا ترين نفسك ؟!

- ألا يوجد مرآة في بيتكم ؟!

ويضحك زوجي معتزاً بآثار النعمة والترف الواضحة على مظهري .

وفي غمرة أحاديثنا المتنوعة ، قطعت عليَّ المذيعة بصوتها المنبعث من التلفاز .

كيف أخطئ اسمه وصوته ، وقد أضحت معرفة أخباره هي هاجسي الوحيد .

قدمته المذيعة : الدكتور محمود والدكتورة حرمه . إنهما يتحدثان عن مراحل الحياة في الطفولة والشباب ، ودعوة الأهل إلى التربية الصحيحة .

كانت كل كلمة يتفوه بها تطربني ، وتدخل إلى قلبي كنسمة باردة في قيلولة صحراوية .. بادلته الابتسام وأنا شاردة ، ولم أخجل حين تركتُ مجلسي وتصدَّرتُ مكانها إلى جانبه ، وبدأتُ أجيب المذيعة بدلاُ عنها .

ولكن الصوت الشيطاني الذي انبعث من تحت الشرفة قطع عليّ آخر أحلامي .. بصارة . براجة . فتح فنجان . قراءة كف .

 

أضيفت في 20/12/2004/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية