أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

مجموعات قصصية / الكاتب: وهيب سراي الدين

طيوف

إلى صفحة الكاتب

لقراءة المجموعة القصصية

 

 

المجموعة القصصية

 تشكيل

 وعد

 طيوف

 البذلة

  رجل في غرفة

 سيرة حب   المقابلة  الحارس  دعوة  هذيان
      تلك النافذة  أذنان وقرنان  الرجل والليل

 

لا يبقى سوى الطيف

 

رجل في غرفة

 

 

الرجل لم يكن وحده، في غرفته. هو متأكّد، بكل حواسه وجوارحه. على العكس مما زعمه الجيران. كان فيها مشبعاً بالروح، والأنس، والحركة. وتتقافز عصافير البهجة، من بين شفتيه، وهو يتكلّم ويحدث هسيَس رشفِ قهوة. وطقطة أوانٍ: إبريق، ملاعق، فناجين،

(بابور غاز)...

لذا هو، متأكّد، مرة ثانية، أنه لم يكن وحده. ومستعد ليقارع كل من يتّهمُه، بأنه يهذي. أبداً. أبداً. لم تكن هذه الحال هلوسةٌ أصابته، في منتصف الليل، تحت ضغط شعور، شُحِنَ به، حتى درجةٍ عاليةٍ ، من التوتّر. أجّجت لديه الأخيلةَ والانفعالاتِ...

منذ أربع سنوات، وغرفته هذه –التي هي الآن موضعُ حركته، ومقرُ وحدته، وبيت ذكرياته –كانت صامتة. لاحركة فيها، ولا نأمة. أمّا في هذه الليلة، ماحدث فيها، كان مخالفاً لماضيها. الرجل واثق، أن ما يجري، كان واقعاً ملموساً.

وهكذا جزم بوجود امرأة فيها، مئةً بالمئة. كيف يصدّق غيره، ويكذب نفسه؟ وهي تجالسه في غرفته، وجهاً لوجهٍ. وتناجيه همساً. وتكلّمه مشافهةً: "مروان، لم أصدّق نفسي أنني، في هذه الغرفة. السعادة تغمرني وأنا أرى نفسي فيها".

وعَبَرت المرأة الزائرة، في سماء عينيه شفيفة كالغيم. تشرح له سعادتها، وفرحها، في لقياه هذه الليلة. وتسأله عن أحواله الخاصّة والعامّة. وكيف يعيش؟ "أيامي، بعدك، كئيبةٌ، ياسلمى.. أهكذا تتركينني وحيداً، في غرفتي؟ لقد أطلتِ غيبتَك، ياحبيتي"..

أجاب مروان المرأة، ومدّ يده ليصافحها. بل مدّ يديه الاثنتين ليضمّها إلى صدره العطشان. كما كانت عادته معها، منذ عدة سنوات. ولكن زائرته لاذت عنه، هذه المرة. كلّمها بصوت مسموع: "أنتِ، مازلتِ تحبيّن الغنجَ. أين اختفيت؟ اخرجي، من خلف السرير. أو من وراء الطاولة. هيّا.."‍!

ثم أحدث ضجة، وهو يدور، في أرجاء الغرفة، ويقلب الأرائك، والطاولة بحثاً عنها. أخيراً أراد أن يُشعل الضوء. سمع صوتها ثانية. بل أقبلت عليه بهيّةً باهرةً. كأنها مسروقةٌ، توّاً، من عالم الحوريّات. ونطقت: "لا. لاتشعل المصباح، يامروان. أنا عدت إليك. إن أشعلته أغادر الغرفة".

نظر إليها مروان، من خلال غبشة عينيه، كالمشدوه. تقدّم منها. تقدّمت منه. قال لها: "هل يزعجك الضوء، ياسلمى؟ أو أن ضوءاً على ضوءٍ، لايلتقيان؟".

نغمتْ له: "ولكن للعتمة طعماً آخر. سحراً لايجارى في متعة اللقاء"!

ابتسم لها. وقال: "ألهذا، أحببتِ الظلام، وزرتني فيه"؟؟

ودنا منها. علّه يقطف قمراً من أعلى خدها. ابتعدت عنه، وقالت: "أجل، بساط الظلام خيرٌ لمناجاة الروح والنفس، من بساط النور. ففيه تتأجّج العواطف. ويصل الحبُ إلى أسمى درجاته".

-"تفضّلي. اجلسي هنا، بجانب الطاولة، أيتها الرومانسية الجديدة. وتمتّعي برموز الليل، وأشيائه الخفيّة.. أ، على فطنة. ماذا تريدين أن تشربي: قهوةً، أم شاياً؟….

آه! كم رشفتُ من يديك القهوة، ياسلمى"؟

وراح يحدث حركة في (بابور الغاز)، الذي تُركَ مهملاً، في ركن الغرفة، منذ زمنٍ. وجاء بفنجانين مملوءين قهوة. ووضعهما على الطاولة. ولكنه لم يجدها. ناداها: "لاتمزحي، ياسلمى اخرجي من خلف الأريكة".

وتقدّم نحو الأريكة. لم يجدها. "متى كنتِ تحبّين لعبة الاستغماية هذه، التي تقومين بها، الآن، معي؟ أنا بشوق لأحادثك. هلمي إلى قهوتك. وسأشرع بتسوية السرير".

سمع صوتها بأذنيه: "أنا هنا عند الطاولة".

وشاهدها، بعينيه، تنتصب بقامتها، في الغرفة، وهي تميس مختالة، كصفصافة، تهب عليها ريح. ثم أخذت ترشف القهوة. انبسطت أساريره. عاد وجلس، معها، بجانب الطاولة. بعد أن انتهى من رشف فنجانه، قال لها: "سأسوّي السرير بنفسي".

أومأت، له، برأسها، بالإيجاب. ومنحت جوَّ الغرفة هفيفاً منعشاً، من زفّات شعرها المندّى بالطيوب. فنهض، من توّه. بل قفز كالمجنون. يسوّي السرير المزدوج، الذي كان قد ارتمى عليه، منذ أول الليل مغموماً، مهموماً، من زحمة ماشاهده، وماعاناه في نهاره.

مَدَّ الفراش الكبير على حصيرة السرير. ووضع وسادتين، في نهايته، ممايلي جدارَ الغرفة. وطرح فوقه شرشفاً ناعماً، من حرير (الساتان). كان مطويّاً، منذ بضع سنوات.

ثم هيّأ لحافاً عريضاً. تذكّر كيف كانت، هي، تسوّي هذا السرير. وتغمر جسمه بنعومتها المتناهية كالقطن. ودعاها: "هيا، ياسلمى".

لم تنبس بأية كلمة.

كرّر: "لقد جهزت السرير، كما كنتِ تجهـ..".

قاطعته: "كان عليك ألاّ تتعب نفسك، يامروان. قصدتُ، الليلة، زيارتك، فحسب".

سمع مروان سلمى تتكلم، من خلفه. التفت ناحيتها. دارت وراءه، حتى لايراها.

وظل هكذا، يدور حول نفسه، كحجر الرحى. إلى أن تعب وكلَّ. جلس على حافة السرير. وجدها بجانبه. صاح: "أتيتِ؟؟ … هيا لننام".

أجابته: "أريد أن أسهر. فالليل مغرٍ، ونديٌ"!

سارع، بحيوية فائقة، وأحضر لها كرسياً، بحذاء الطاولة. وسألها: "أتحتسين القهوة، مرة ثانية"؟

طامنتْ برأسها له: أن نعم.

فهمَّ إلى أدواته الأولى، يلملمها: (بابور الغاز) الركوة. السكر. الملعقة. الفناجين...

ولا يدري، كيف أتى بالقهوة سريعاً. ولكنه، كالعادة. لم يجدها جالسة، على الكرسي، حول الطاولة. ناداها: "سلمى، كفى مُزاحاً معي".

أطلت عليه، برأسها الوديع، من جانب خزانة الثياب. فطن. قال لها: "هلمّي نرتد ثيابنا".

وفتح أبواب الخزانة الملأى بالألبسة. أخذ ينزع الفساتين النسائية المعلّقة، داخل الدروج. ثم ارتدى، هو، بذلة جديدة. سوداء اللون. ذات قَرَنْفُلَةٍ حمراءَ اصطناعيةٍ، في زاوية ياقتها اليسرى. قال لها: "انظري، سلمى، إليَّ. هذه بذلتي، التي اشتريتها لي".

ردَّتْ عليه: "أعرف، يامروان. وأنا التي اخترتها لك.. أواه! كم هي أنيقة وجميلة على جسمك"!

لشدّ مافرح مروان، من كلام سلمى. وراح يمشي، ويتبختر ببذلته الـ "الرائعة"، في أرض الغرفة، أمامها. مثل ديك حبش.

ثم جهم وجهه، فجأة، كأنه صُدِمَ. وصاح: "أف.ف..! سلمى. لم أتمكّن، من إعادة سوارِك الذهبي، الذي دفعته ثمناً لها".

وأخذ يبكي، ويعول، كطفل. أمامها. كفكفت، هي، دموعه. وقالت له: "أنا سامحتك، يامروان، لأنك رجل وفيّ. لذا كفّ عن البكاء. ودعنا نجلسْ حول الطاولة..".

عاد وانشرح صدره. وجرجر كرسيّه إلى الطاولة.

ما أن جلس، معها. حتّى سمع طرقاً متواصلاً، على باب الغرفة. انتفضت المرأة، قبالته، واقفة، مذعورة: "هاهم قد جاؤوا يفسدون، علينا، اجتماعنا هذا، يامروان".

ورأى دمعتين تتلألآن، على تلتي وجنتيها.

ماذا حدث؟ لِمَ جاؤوا؟ قبل قليل كان هذا الـ "مروان" مسافراً في جوّ من عبير!

وحين استفاق، من ذهوله. كانت المرأة، قد غابت من أمام عينيه. كأنها تبخّرت في الحال.

وفيما هو يناديها: "ابقي، معي، ياسلمى، لا تتركيني وحدي. لا تغادري الغرفة".

كانت الطرقات تتوالى، على الباب. والصياح يملأ الفضاء: "افتح، يامروان. افتح يارجل. مابالك، هذه الليلة؟ لقد أقلقت راحتنا، وطيّرت النوم من عيوننا.."!

ظل هو واقفاً، خلف النافذة المقابلة. يصيح: "سلمى، ارجعي. سلمى ارجعي..".

كان صوته شجياً مريراً. يسقط النجوم، من عليائها، من فرط حزنه.

ثم فتحوا الباب. وأشعلوا الضوء. وجدوا الغرفة مملوءة بالأثاث المبعثر: أواني القهوة. والألبسة الملقاة هنا وهناك. والأرائك المقلوبة..

سلّطوا عليه عيونهم كسيوف قاطعة: "هل جننت، يا مروان، في منتصف هذا الليل"؟

التفت، ناحيتهم، مروان. رأى حوله وجوهاً مشمّعة كالجلاتين. وأجساماً جامدة كالمومياء. نهرهم، بصوته القوي: "لقد أفسدتم، علي، سهرتي، معها، كانت، هي، هنا، وهربت بسببكم".

-"أنت تهذي. زوجتك ماتت منذ عدة سنو..".

-"لا، بل كانت، هي، هنا".

 

البذلة

 

 

عشت معه، كرفيقٍ دائم له، منذ أكثر من دهر. كنت أنمّي في عقله النصائح. ولكنه عصاني، واسترسل في تنمية جسمه. لم أتمكّن من إحداث التوازن لديه. فما أن أحصل على بطاقة هدوءٍ منه، حتى يثور من جديد. كان يعنف، ويبطش بزملائه الطلاب. وصارت علته الرئيسة تكمن في هذا الجسم المتنامي بكيانه. كأنه شبَّ فيه بسرعة، مثل جب يقطين! أوصيته كثيراً، فيما بعد:

-إياك ياسالم. أخفُّ صفعة كفٍّ تضع صاحبها في السجن شهراً. السجن هذا ابن حرام ياولد. لا يعرف كبيراً ولا صغيراً. فاقلع عن عادة الضرب هذه. ثم لاتجعلْ يدك طويلة. اليد الطويلة تقود صاحبها إلى السجن أيضاً.

وقف وحملق فيّ، بعينين محمّرتين. أخافني جداً. همز:

-الجسم (فبركة)، ماكينة. تأخذ وتُعطي. تُدخل وتُفرز...

ثم صمت، وانتصب بقامته العارمة مفتكراً. يريد أن يعمل المسكين ليأكل.

-طيب، هيا إلى المدينة. دعوته وقدته طائعاً، كالذي يقود وراءه جملاً أو فيلاً. وأخذت أذرع معه الشوارع. ذهل! راح يلتفت زائغ العينين. وينفخ أمامه أنفاساً حارّةً، في كل الاتجاهات. ماباله؟ فكرت فيه لِمَ اضطرب هكذا؟ ولكن يحق له.

الصراخ يصمّ الأذان: "هذه الجوارب، لا تعادلها جوارب في العالم".

-"تعال أشتر هذا الحذاء. إنه حذاء العمر".

ثم صوت غليظ هدر. جعله يجفل ويقفز كحصان شبّت فيه نار: "قمصان النجمة. ياقمصان"!

قال لي، وقنابل موقوتةٌ تترامى في دمه! هذه المدينة طبعها حوشي. الكل فيها يفتح فاه ليبتلع، كسمكة قرش هائلة.

حذّرته: يا أنتذا، ياسالم، إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب.

ردّ: قل سمكة قرش فحسب. ثم مسح ندى أنفه وابتسم.

-المهم أن تنتبه لنفسك في المدينة.

شرع يديه في الهواء، وانقبض وجهه: ماذا تريد أن أعمل في هذه السوق؟

قلت له، والصياح يتناوشنا من كل الجهات: اعمل دلاّلاً مثلهم. ولك صوت جهير كبوق. وقامة مديدة كبرج.

طامن رأسه بقبول خجل. وأخذ يلتفت ذات اليمين. وذات الشمال. وأنا أخترق معه زحامات الناس من الباعة والمشترين. لم يشعر بفضاضة، بسبب لباسه غير المقنع: بنطال مرقوع، وبزة قديمة باهتة، وحذاء صيفي مؤلف من نعل وربطة إبهام. داريته. وأوصيته ليصب ناظريه على المخازن. بل خالفني، وأخذ يستثمر جثته بمشية شمّاء شبه عسكرية. كأنه يريد أن يعرض هذا الجسم الجبّار، الذي جاءت به عماليق آخر زمان. غير أن هذا الاستعراض العامّ الذي قام به أمام المارة وواجهات المحالّ، ذهب سدىً. لم يستوقفه أحد. كأنه يرتدي "القبع الأخفى". أجل. كانت ثيابه الخلقة القبع الأخفى له. جسمه العبل اختفى فيها تماماً. ولم يشاهده أحد. كاد يفارقني بوداعٍ عنيف. ولكن استرضيته، ونصحته: ياسالم عليك ببذلة لائقة. اللباس هنا كل شيء! ردّ باغتصاب: ومن أين لي بالبذلة؟

-طيب. دعنا من هذه السوق، ولندخل سوقاً أخرى.

قبل المسكين مني، وعاج بقامته نحو سوق الألبسة المستعملة. وهنا اشتد زحام الأرجل.وعلا صراخ الباعة والدلاّلين. لقد أخطأت. يجب أن آتي به أولاً، إلى هذه السوق. لا عليه. المهم أن صاحب (بالة)، ناداه، وصار يساومه، عندما شاهد جسمه المهول. واتفق معه على بيع بذلات مستعملة، بنسبة ربحٍ معينة. أومأت إليه: أن اقبل.

وأمضى بضعة أيام. فرح. أصبحت الدراهم تخشخش في جيب بنطاله. رغب في عمله أكثر. وراق له مناظر البذلات التي كان يعرضها. ومهنته "الدلالة"، وهو يصيح الصوت تلو الصوت، كأنه يطلق موالاً من العتابا في برية خالية. كنت حين أسمع شظايا فمه، وهي تفرقع من بين شفتيه. أختبئ تحت إبطه. أو أتلبّس أحد جنوبه: على مهلك ياسالم. صرعت الدنيا.

دوماً أكرز له بالوصايا. حقيقةً. هذا الـ (سالم). وإن كان ينخلع فؤادي له إشفاقاً. فهو شخص صعب المراس، كالفرس الشموس. ماهذه الرفقة، التي ابتليت بها. ولكن أراني لا فكاك لي، إذا ما تخليت عنه يضيع. حرام! هذه مدينة! هذه حياة! الغيلان شخصوا من حكاياتهم وهُرعوا إليها. ولنحمد الله، الذي أسبغ عليه هذا الجسم العظيم. وإلا أكل فيها دون ملح.

ذات يوم قدّم له صاحب (البالة) بذلة كاملة بـ "طقمها، وحذائها، وقميصها، وربطة عنقها. منديلها ذو اللون الكرزي، مازال موجوداً في جيبها الأعلى. يجوز صاحبها مات قبل أيام. تعلّق بها سالم. وكاد يأكلها بعينيه. ثم شاورني. وافقت. قلت في نفسي: حرام دعه يقم بدعاباته، مع أهل هذه المدينة. وليذهب القهر مرةً واحدة من قلبه.

حين أخذ مني الضوء الأخضر غاب قليلاً يجوز وقف قبالة المرآة ورجّل شعره ونظر إلى قامته. ثم عاد بعد أن دسّ جسمه داخل تلك البذلة. ظهر لي رجلاً أنيقاً كامل التقاطيع والتفاصيل، بأربعةٍ وعشرين قيراطاً.

يا للأبهة!

ماهذه الشخصية ياسالم، ياملعون؟ كأن هذه البذلة مفصلةٌ لك عند الخيّاط. أفرج مابين شفتيه. وأشار إلي أن أتبعه. سرت معه جنباً إلى جنب، كتفاً إلى كتف. في شوارع المدينة. كانت مشيته الخيلاء. كأنه أحد أباطرة الرومان. ولا (جوستانيان) بوقاره وهيبته. مشينا. شاقت له مناظر البنايات الشاهقة. والفيلات الفارهة. أخذ يغازلها بنظرات حالمة. ثم وقف فجأة أمام مبنىً دون تعيين. كان للمصادفة مقرّاً لإحدى الوزارات. في الباب نهض حاجب، وحياه: أهلاً، راتب أفندي.

كاد يبتسم. غمزته: أن اسكت، لا تفضحنا، وارض باسمك المؤقت، (راتب أفندي).

اصطنع عبسةً تليق بهذا الاسم. وصعد الدرج. ثم نزل. سمع: ألم يمتْ راتب الجرجوري. ياترى؟

حاجب آخر: عجيباً! أذكر أنني قرأت نعيته.

أجابه زميله: راجع ذاكرتك، ياأبله. تقرأ نعيته وهو حي يرزق أمامك.

ضحك الحاجب الأول: صحيح. ومازال الشباب يلهو به. ويصبغ شعره الأشيب بالأسود، ليعود كابن ثلاثين.

كذلك أومأت له: أن هسْ.

وخرجنا. وعبرنا بناء آخر. كان محشوّاً بالطاولات والموظفات وأمامهن شاشاتٌ صغيرة. وآلاتٌ حاسبة. بشّت به موظفة كهلة ذات تجاعيد عميقةٍ في سحنتها ووجنتيها. وذات خيوطٍ بيضاء عالقةٍ في مفارق شعرها: أهلاً راتب بك. الرصيد مازال موقوفاً منذ الإشعار الأول..

ثم أعفته من الارتباك، وهي تتابع: راتب بك، ماهو نوع صباغ شعرك؟ صبغتك هذه المرة جيدة جداً. انظر شعري المخلوط بالأبيض.

ابتسم. فرحت منه لأنه ابتسم فقط. وأبقى الأمر كالسرّ. هذه المرة نال إعجابي بفطانته وحسن تصرّفه. لم يشأ أن يحرّك الرصيد. لا أدري لماذا؟ –وهذه فرصة- ثم تركنا، في الحال، مبنى المصرف خشية إرباكات أخرى. وولجنا مطعماً فاخراً في الجهة المقابلة. حقيقةً. شعرت بلذة الأكل، ونكهته الشهية. هذا مطعم من الدرجة الممتازة وله نجوم. شاورني أن أجلس على طاولة منفردة. و(أعملها) في العمر مرة واحدة.

قلت: لايوجد شيء في جيوب بذلة راتب بك.

واكتفينا، بعدئذٍ، بأن طعمنا بالأنف، لا بالمعدة، روائح المشاوي. والشاورما، والفراريج، و.. ثم خرجنا والنادل يقول: تفضل راتب بك.

 

 

 

طيوف

 

 

عندما وقف أمام المرآة، لينظر إلى (طقم) أسنانه الجديد، في فمه. سمع زوجته تمازحه: "يجب أن نسلق لأسنانك هذه (جونة)، من الحنطة، ونوزّعها على الجيران، يا أبا زيدان. كما سلقنا لزيدان، حين ظهرت أسنانه اللبنية، قبل ثلاثين عاماً.. هيء". وضحكت.

لم يشارك أبو زيدان زوجته، في ضحكها. ظل صامتاً وحزيناً، وهو يحملق في أسنانه الاصطناعية، في المرآة. ثم لايدري، كيف دار رأسه؟ أو دارت به الأرض؟ صار ينظر دون رؤية. غام في مخيّلته، التي طفقت تزخّ عليه أطيافاً من شخوص غابرة. أقبل عليه أحدهم. كان ضخم الجثّة كالعتريس. يفتح شدقه، ليقرط مسامير حديدية، بأسنانه. لينال الرهان، أمام جمع من رجال القرية ونسائها.

وما إن رفع أبو زيدان يده إلى فمه، حتى ظهر له الطيف ممتطياً جواداً أشهب. وأخذ يصول ويجول، به في ميدان القرية، كأبي زيد الهلالي. وحين ترجّل عنه وسار. كان الحصى يفرقع تحت حذائه. ويتطاير منه الشرر، من شدّة مشيته القويّة الشمّاء. ثم يدّوي له تصفيق حاد. لفوزه، في حلبة السباق.

أراد أبو زيدان أن يفتح فاه. وينطق، ويكلّمه. ولكن ذاك الطيف، لم يمهله. إذ واصل تلك المشية، إلى الساحة العامّة. حيث كانت (العمدة) –العضادة- مرماة. تتحدّى من يرفعها بيد واحدة، إلى مافوق رأسه.

ويترجّع في أذني أبي زيدان صوت صاعق: "ارفعها ياجدعان".

ولكن جدعان هذا –وهو النديد الثاني في القرية- لم يستطع أن يرفعها إلا إلى موازاة كتفه. فانبرى لها صاحب الصوت. غَفَّ عليها كالباشق، الذي يغفّ على فريسته. ورفعها بنترة واحدة، إلى مافوق رأسه. وجال بها، دورة كاملة، أمام المتحلّقين. ثم رماها بعيداً. وتنفجر زغرودة مجلجلة من فم امرأة: "لو.. لو.. يش، لأبي زيدان"!

-"عشتِ، يا أم زيدان". حيا أبو زيدان زوجته.

تململت جثة أبي زيدان الماثلة، أمام المرآة، كالمومياء. يريد أن يرى على صفحة الزجاج الصامت شيئاً ما، بعينيه الكليلتين- أو بالأحرى- طقم أسنانه الجديد. ولكن تبقى المرآة عاتمة، ليفرّ له، من إحدى الزوايا طيف آخر. كسر طوق حلقة قائمة. وأتى يرفل، بقبائه الأبيض، المقلّم بالأخضر. وقد أمال عقال كوفيته زهواً. شقَّ الصفوف. ودخل مباراة لعبة شعبية تدعى (الحورا).

حرّك يده اليمنى، وهي ترفع عصا (الحورا)، إلى الأعلى؛ كأنه يقول: هل من مبارز "يا رجّالة"؟

ويشهق أبو زيدان، بلهفة، للطيف الذي مار، في خياله، يريد أن يراه، بعيني وجهه. بيد أنه حاول ذلك دون فائدة.

ظل غائراً، في غياهبه. ليلمح، في فيافيها السحيقة، ذاك الطيف، وهو يتوسّط حلقة أخرى، من حلقات أهل القرية. وقد كشف عن رأسه، هذه المرة، وَبَانَ شعره أسود، كالليل. مسترسلاً حتى الكتفين –هكذا كانت شعور الرجال، في قرية أبي زيدان، في ذياك الزمان- ربط به جاروشاً حجرياً. وجرّه، في الساحة. لتنهمر عليه، فيما بعد، عبارات التشجيع والإعجاب:

-"ماهذه الفرادة، يا أبا زيدان"؟!

-"عاش أبو زيدان، شيخ الشبان"!!

حقيقة. كان مذهلاً ذاك الجسم العظيم، مما جعل صاحبه، الذي مازال مسمّراً الآن، أمام المرآة، في مكانه. يزحر كثور تحت نير. وينفخ نفساً لاعجاً كاللهب. ثم يرفع يده إلى رأسه، ويتلمّس، بأنامله التي رقَّتْ، ونحلت، بقايا حاكورة الشعر الأشيب، وهو يطلق صراخه على زوجته: "يا أم زيدان، ناوليني عينيّ، لأمشي -/وكان يسمّي نظارته الطبية السميكة، مثل كعب كوب زجاجي. يسمّيها بعينيه/- بعد أن أسرجها على مارن أنفه. تأمّل (يقطينة) رأسه. ألاح طويلاً بها أمام المرآة. ثم همَّ، بأن يمشي. ولكنه فطن بوضعه:

-"ناوليني العصا، يا أم زيدان".

ثم تحرّك يدبّ على أرجله الثلاث!!

 

 

وعد

 

 

حين نزع الليل قشرته، كان صوتك نفسه، يتعالى في أذني، نهضتُ. وكدت أصرخ من شدة الشوق: ها أنت ذي قفي.

فركت عيني. وميض داكن، بلون الرماد، مازال يغشاهما. لم أعبأ. أخذت أركض. وبدأت حرائقك تترقرق أمامي، صوب القمم والهضاب. حثثتُ خطاي. أريد أن ألثم ملمساً، من مقام التكوين الناري، وراحت موجات، من الدفء تشيع في أرجائي.

وقفت لأترع فيض حبوري، والتفت أمدّ يدي. بلى، رأيتك، ببريق دمي. حولي. ثم ارتفعت. وانهال طيفك ينداح بين قزع الغيوم. وطفق يزخّني بدفقات حميمة، من الشعاع. يا للفرح!!

... تردّد صوتك ثانية: "تقدّم".

نظرت، بعيني المغبشتين. أشرق وجهك كوكباً. وأنار كياني. ورحت أجري بخطواتٍ مخملية. وسعادتي تكركر، في شراييني. ولكن أُراني قد تعبت، يا غاليتي. إذن، قفي هنا، كما وعدتني. أنتِ قلتِ لي: أنا ألقاك، بين هذه السفوح والهضاب، لننده معاً، على العصافير، والهواء، ونستمع إلى جوقات البلابل، وهي تعزف نشيد الجبال...

ماذا قلت؟ أراكِ تبتسمين. وثغرك يضيء كنجم. هل قبلتِ؟ هيا انزلي، من عليائك. الأرض هنا، كساها الربيع بساطاً أخضر مزركشاً، بالفلّ، والياسمين، والأقحوان…. طبعاً. سيكبر فرحها بكِ، أتريدين أكثر، من ذلك، ألقاً وجمالاً؟

.. .. .. .. ../ .

تصمتين..؟ أ…؟ إذن. أنتِ تريدين عذابي، لأظلّ أركض. وأتحمّل مشاقّ السفوح. وصعود القمم.. هذا حرام. قفي. لا تعودي تحوّمين أمامي، يا فراشتي العزيزة. أنا لم أعد أستطيع.....

هَهْ..!!. أجدني أسمع صوتاً.

ويرنّ لحن عذب، في أذني:

- "تقدّم".

أف! أأبقى متقدماً، لأكتفي، منك بالنظر، في الهواء، وقبض الريح؟ نعم. كأنني عدت لا أبصر صورتك البهيّة، إلا داخل عيني، إذن، دعيني أظل هائماً، على وجهي. حيث البهرة تدعوني. وهالات البنفسج واللاذورد. تتسارع قبالتي. ولكن أراني لم أصل إليك بعد....

- "تقدّم"!

وحفيف مثير، لشعر فوضوي، يرفّ حولي، من جديد. وهذه صرخة أخرى. تخرج من فمي: يا ذات الجلال والجمال. كفاني ركضاً. بل شحبتُ وكبرتُ عمري، بمرتين. وتجاوزتُ ذاتي بهمّين اثنين. انظري من سدرتك، كيف تعمقّتْ أثلام وجهي. وازدادت كهولة شعري. الزمن هنا ممتلئ. اللحظة ألف عام. أجل. أجل. لقد هرمت الخلايا، في جسمي. لا أستطيع مجاراتك في الركض. فقفي حتى أستريح قليلاً. أنتِ صرتِ كالظالمة، يا ذات الجلال والجمال… أ.

…أ … هل أغضبك كلامي هذا؟ أرى أن السماء فوقي، قد ادلهمّت. وها هو ذا سحابها سيغمرني. لذا يجب أن أسرع نحو قممك العالية. حتى لا يبتلعني الماء المجنون، في شقوق الأرض. ولكن، يا دليلتي الطيّبة، عيناي الكليلتان غبشتا. لم أعد أرى بهما. ما هذا الهلام؟؟

أ.. دعيني أترك ما أعانيه. أنتِ وعدتني: هنا سيكون اللقاء. حيث سيفيض الربيع. ويزدهر. وسيرش  أقماره، في الفضاء حقول برتقال. ترقص على أفنانها السنونو، مع الشمس. والغيم الأبيض…

تُراني أبتلع لهاثي، يا رقيقتي. سأتوقف عن الركض. وسيتوقّف معي هذا الليل، الذي بدا يشيخ مثلي. لقد اصطبغ فوداه، بالبياض. النهار القادم، سيغسل كل الأرجاء. ماذا سأفعل بطائر خيالك بعد ذلك؟؟

قولي، لي، برفةٍ من ثغرك الوضّاء. ولكن، كأنك لا تسمعين. أو بالأحرى، أنت لا تحبين أن يهدأ لي قرار. تحبين أن أظلَّ أخوض، بين هذه الذرا. باحثاً عن "الحلم الغجري". الذي زرعته، في ثنايا جروفها. أعدكِ أنني سأبقى كذلك. ما دمت شعاعاً يتخاطفني، على جبين هذا الشرق المضرج بدم الشفق!

 

 

تشكيل

(أربع قصص قصيرة قصيرة)

 

 

أولاً: الأم

هبّت نسمة صَبا، عندما استضحى النهار. فتمايلت خمائل السفح، وتهامست، مع الأفواه اللدنة، التي كانت تداعبها برقّةٍ وعذوبة.

ظبية وخشوفها الأربعة، استطابت الإقامة، في هذا السفح: مرعى، عين ماء. ظلال، هواء… خيرات الله…

ثم هبّت، بالمقابل، عواءات أخرى!

رفعت الظبية وصغارها الرؤوس، عن العشب النديّ. وانصبّت العيون العشر، دفعةً واحدة، نحو الشمال. آه...! أقبلت ترزم. يا للهول إنها هي. ذئبة تحوّم حول طريدة.

فاضطرب السفح، بأرجائه كلها. وأخذت الأظلاف تنغرز، في سندسه، مشدودَ العراقيب: هيّا، يا أولادي، جاءتكم الذئبة.

الذئاب أعداء الظباء، مذ خلقها الله. ومنحت أنياباً ضاربة. وأضراساً طاحنة، تفري، بها، العظم قبل اللحم.

وعطف السفح أكثر، بانحناءاتِ تضاريسية. علّه يخفي ظباءه المذعورة. ولكن الخشف الرضيع. الذي رأى السفح، قبل سويعات، لم يستطعِ اللحاق بأمه وإخوته. الركض ميزة الظباء! أنت سريع كظبي، ما شاء الله!

أقبلت الذئبة تُرغي وتزبد. وقد هيّجها الجوع. جراؤها دون طعام، في مغارتها. وحملقت عيناها المحمرّتان، في الخشف الطفل، الذي مازال يضلع في مكانه، وقد أُغلقت عليه الجهات. لم يبصر أي أثر، لأمه وإخوته. هذا حادث يصادفه أول مرة، وللوهلة البكر، في حياته، التي بدأها ببضع ساعات!

الذئبة تهرول نحوه بهُدوء. ثم تواقفه. وتتأمله: أين ستغرز أنيابها؟ وهل يكفي وجبة لأولادها، ولها؟

أحسّ الخشفُ بلمسة مشعّرة.

الشعر بطبيعته ناعم الملمس. جُذِبَ الخشف إليه. تذكّره جيّداً؛ قبل قليل كان يحضنُه. وأخذ يتحسّس الغرو الناعم، في جسم الذئبة المقعية أمامه.

- هل هذه أمه؟

إنه لم ينظر إلى وجه أمه، التي أسقطته، من بطنها، قبل ساعات. بل أُسعف، غريزةً، إلى ضرعها المغمور، بالشعر الرخف، وجرع منه الحليب، كان لحظتئذٍ، جَدَّ جائعٍ.

الذئبة الرابضة، تنظر إلى الأمام، منشغلةً، بالظباء البعيدة الهاربة. عيناها المشقوقتان، في وجهها المخروطي، يتطاير منهما شرر الخسارة والغضب. الخشف –الطفل- الأسير. لم يبالِ بها. إنما انجرف بالشعر الحريري، ذي التيلة الطويلة، في جسمها. ولا يدري كيف دسّ رأسه الصغير، تحتّ بطنها. وبفمه الدقيق. التقط حبّة الثدي.

كان هذا الثدي، كالثدي الذي التقطه سابقاً.

الثداء واحدة في العالم!

وحدة الثداء لا تتجزّأ,

لذاه درّ الثدي في فم الخشف. وأصبح ضرعاً ممتلئاً.

يا للجود! يا للكرم!

الحليب طفح. الحليب شخب….

واسترضى جسم الذئبة، بعد أن خدر، بسيلان الحليب الفائض. ودون علم منها، أحنت رأسها المثلّث العظيم. وفغرت شدق فمها الهائل. وأخرجت قطعة طويلة، من اللحم الأحمر المبلّل، باللعاب. وطفقت تلحس، الخشف كجروٍ لها!

ثانياً: حكاية وردة

عندما ارتوى التراب، بالسائل القاني قال: "هذا لوني". بل استدرك: "لا، بل هذا طيني".

ثم ترنّح الجسم النازف. وخَرَّ عليه جثة هامدة. واندغم في ذراته، وحين نبتت وردة الشقائق، على الضريح. أجابت الريحَ والعصافير والشمس، والفراشات، عن لونها الأحمر: "إنه من دمه".

***

(شهاب غزالة): وافق على كلام وردة الشقائق هذه. وأكد "الحكاية"، في لونها، التي تناقلتها الشفاه، ثم صادقت عليها (الكيمياء). ومهرتها بطغرى خاتمها.

قال (شهاب غزالة)، نفسه، للناس المحتشدين حوله. لتطهير السفح، من دوس الأحذية الغريبة:

-"استوقفكم، يا قوم، ساعة من الزمن، فقط، لا أكثر. أريد أن أزرع نفسي. ثم أعود إليكم…".

***

وفيما بعد، تحدّث الناس، في قرية (ملح)، بغبطة، وحبور عن المرأة، التي انتبر بطنها، بطفلها (نعمان).

كما تحدّثوا، باللهجة ذاتها، عن أصل وردة الشقائق وسمّوها "وردة شقائق النعمان".

ثالثاً: الاحتجاج

عندما استيقظ، من تحت الصخرة الكبيرة، في لحف السفح. وجد الصبح مفعماً بالنسيم والشمس والندى…

خرج، من قوقعته، ومد جسمه الطري اللزج. ونصب شاربيه الطويلين أمامه. وصمّم على مغادرة المكان.

أخذ يزحف فوق العشب البليل، بحيوية ونشاط، بعد ليل كسول. أمضاه، في وكره العاتم. كانت وريقات الأعشاب القصيرة المتوّجة بحبيبات الطلّ، تحفّ به وتتمايل حوله لتفقأ له بلوراتها اللؤلؤية، كما يحدث، عادة، في مناسبات الاحتفاء المهمة. طبعاً، على شكل مصغر.

هو، من جهته، كان يصدمها، خلال مسيره، بدرعه الصلب. حركة جسمه هذه. كانت شبه انسيابية. ينفّذها بتناوب إيقاعي منتظم. كأنه يقوم بعملية استعراض بهلوانية، في مشهد عام. يثبت مؤخرته على الأرض، ويقذف بمقدمته إلى الأمام. وهكذا دواليك…

وكم ازدهى، متباهياً بنفسه، في أثناء "بخترته" الرائعة هذه! هنا ملك السفح. هنا أمير العشب. هنا حامل الدرع.

ثم توقف عن سحب جسمه الرخو، الليان، إذ عقف شاربيه إلى الأعلى، ثم إلى الخلف. وتحسّس بهما قوقعته الحصينة. من يحمل فوق ظهره قلعته، التي تحميه، أينما حلّ. وأينما رحل، غيرى؟؟ نفخ، وتابع "مشيته" الشمّاء. وعيون الأعشاب الخضراء تحدق به، من كل جانب، كعيون الضفادع.

أما تويجات الأزهار المطرزّة، بأجمل الألوان. فكانت لا تبخل عليه. فتغمره بشتى الطيوب والأعباق.

إذن، فلتطب له الحركة، وليسرع إلى أكمته الجميلة. هناك، عن ذروتها الصغيرة. سيرى الدنيا. ويشاهد الكون. ويعانق الشعاع و.. انداح يدّب بجسمه مدّاً وجزراً. وهو يمور توهّجاً وحرارة. وشارباه يتمايلان فوق رأسه. يتلّمس بهما أنامل السفح الناعمة. ويسترشد بهما، أيضاً، طريقه، "كرادار" عسكري.

كان، حقيقةً، في الغابة من الحبور. كأنه لم يشاهد، في حياته، صباحاً مثل هذا الصباح الربيّعي. كما أنه لم يدر، في باله، خلال موكبه الاحتفالي هذا. أن يحسب أي حساب، لمخلوقٍ غيره. في هذا السفح البديع. ولِمَ لا؟ وحصنه معه. و(راداره) يحرسه. غير أنه لم تمضِ بضع ثوانٍ، إلا وينذره هذا الأخير: أن قف. وخذ حذرك.

وبالفعل. توقف الحلزون. ولشدّ ما اعتكر مزاجه. شاهد، بثقبي عينيه الدقيقتين، قدمين. تنتصب عليهما قامة طويلة مؤلفة، من جذع، ورأس ذي قبعة، ويدين تحملان بندقية.

- من يكون هذا المخلوق العجيب، الذي يعترض طريقي؟؟

تساءل الحلزون، في نفسه، محتجّاً. ولم يسعه، إلا أن عاد، ولفّ جسمه، في داخل قوقعته. وترك على فوّهتها بصقة كبيرة.

رابعاً: التحدي

كانت شجرة فينانة وارفة الظلال. مزهوّة بخضرتها. أوراقها الملساء تتلامع، تحت صفحة الشمس. وتشكّل خيمة كبيرة عالية من اللآلئ!

المكان امتلأ بالعبق والأريج. الأغصان المثقلة تدلّت نحو الأرض. كأنها تنحني شكراً لها؛ على عطائها. وما زوّدتها به، من نسغ وعناصر نماء.

ولا تدري، كيف خالط، فجأة، ظلّه الواسع أفياءها الفيحاء. وفاحت رائحته النكراء. فاعتكر مزاج شجرة الإجاص هذه. التي تحدّت جفاف الطبيعة، في برّيتها القاسية. من أين أتتها هذه التلّة اللحمية المتنقّلة، وأفسدت عليها خلوتها البهيّة؟

دار الفيل بكتلته العظيمة، حول شجرة الإجاص. وهو يشهر، عليها، من فكّه الأسفل، نابين بارزين يلمعان أبيضين، كسيفين قديمين، بل رفع فوق رأسه خرطومه الطويل. وصار يلوّح به على قبّتها العسجدية. حتى أصبح مثل أفعوان، يلتقط عصفوراً، في الفضاء..

حتماً، يقوم هذا الفيل الضخم، بعملية تخمين.

- هل تكفي هذه الشجرة الوحيدة وجبة له؟

ذعرت شجرة الإجاص. واهتزت، بكل أغصانها. يا للمصيبة!

أدركت الخطر، الذي يحدق بها.

ظل الفيل يدوس الأرض، بأخفافه العريضة، وهو يدور حول الشجرة. كأنه لم ينته، بعد، من عمليته الحسابية. ثم عاد وفرح. كالذي يفعل عندما يعثر، فجأة، على ضالته المنشودة:

- هذه الشجرة العنيدة، تكفي كرشي… الآن.

وفي الحال. أخذت الأماليد، والأوراق، تضطرب، وهي تحزم. وتلفّ بذلك الخرطوم الآفة. ثم تحشى، به،في فوّهة مغفورة، تحت الرأس.تدعى فماً، حيث تهرس فيها. وتسحق بأضراس طاحنة.

ولكن، على الرغم من كل ذلك، لم تستسلم شجرة الإجاص. إذ ظلت تهتزّ، وتقاوم فناءها "الفيلي" هذا.

ولكن، حين وجدت أخيراً أن ليس من الأمر بدّ: أخذت تضغط نفسها. وتجمع أجزاءها، إلى أن تحوّلت إلى كتلة صغيرة مكثفة جداً جداً، بحجم قبضة اليد. وأرادت أن تتحدّى الفيل الغاشم بها. غير أن هذا الآكل العاتي. هرس حبة الكمثرى، بين شدقي فمه الهائل. وراح يلوك ويتلذّذ بطعم عصيرها الشهدي.

وعلى الرغم، من كل هذا، لم ترضخ الشجرة. بقيت مصرّة على ألاّ تخسر كيانها، فوق سطح هذه الأرض. فانقلبت، بل تكثّفت أكثر، من حبة كمثرى، إلى بذرة صغيرة، صغيرة. بحجم حبّة القمح. وهكذا تمكنت من أن تنفذ، من بين مسننات أضراس الفيل. وتسقط إلى جوف بطنه الواسع. هناك، طبعاً خضعت لعمليات صعبة التعقيد، في أثناء استراحة الفيل، وهو يستردّ أنفاسه اللاهثة، عقب عملية هرش شاقّة.

كان، هو، ينظر إلى بقايا العيدان، في الجذع المحطّم. وكانت البذرة الصلبة، تغوص، من جهتها، في سراديب مظلمة مملوءة بمواد عفنة. وتتلقى شتّى أنواع المفرزات والعصارات. ومع هذا ظلت صامدة. لم تنفلق أو تلين. ثم اجتازت هذا البحر اللزج، من الأخلاط والملاط. إلى دهاليز طويلة، طويلة. من الأنابيب المحلزنة. كما خضعت، أيضاً، لفعل حركات هذا الحبل المديد، من الأمعاء المتعرّجة. وكذلك بقيت متماسكة. ومحافظة، على وجودها، في مسارها المظلم. وأخيراً، أطلقها الفيل إلى الخارج. بعد جهد جهيد، من الآلام، والمغص الحادّ، فالتقطتها الأرض. بعد انفلاتها واحتضنتها، في ثنايا ترابها الخصب الحنون.

وبعد عدة شهور. ولدت هذه الحبة برعماً. شَقَّ ذرات التراب بورقته الرخيصة الطرية. وصار، فيما بعد، شجرة ثانية.

 

 

سيرة حب

 

 

العالم كرة مطلقة بيضاء، يلفّها غمام رمادي، ينداح كالغبش، وتنساب عليها رؤية لزجة، كالهلام.

ويسحق جفونه، في الإغماض. ليغور في أعماق عينيه. لشدّ ما آلمته وحدته، في هذا الفراغ الواسع! كأنه استوحش فيه، أو خاف. يريد عالماً مسكوناً، متحركاً، لا عالماً ساكناً مقفراً…

وبعد طول انتظار. بل، بعد طول إغماض، جاد عليه، عالمه الخالي هذا، ولمح نقطة صغيرة، على حافة اللانهاية. أخذت، عن بعد، تنمو وتتجسّم، لتصبح بحجم رأس الدبوس. إنها تقترب منه. وها هي ذي مازالت، معلقةً، بين سماوات عينيه المغلقتين، تشبّث بها، بكل ما لديه، من الحواس والإحساس. إنها هي، هي نفسها، قفي. لا تهربي. رأيتك في صورتك المرسومة أمامي.

حنّت عليه النقطة. وصارت تكبر وتكبر، داخل عينيه، حتى سدّت عالمه الفضائي بالكامل. بل أشرقت عليه صورة بديعة جميلة؛ بل كياناً مشخّصاً عذباً. لم يخطئه يقينه. إنها هي… وليورق الهذيان. ولتزهر الأساطير!

ثم يجفل الجسم المسّجى، على السرير، وتنشقّ في الوجه المصفرّ العينان الغائرتان. ويمور البؤبؤان الصافيان، تحت الجفون، علهّما يمسكان بالرؤية الحالمة، وإلى الأبد. ولكن هيهات! إذ اخترقت الأذنين المتصلّبتين، على جانبي الرأس الموسّد بالمخادّ، ضجة عظيمة: نشيج… نحيب…  شتى تشكيلات البكاء والعويل تندغم، في مشهد فجائعي مريع!

الخيبة،

لم تظهر على شاشتي العينين تلك الصورة البهية. أين اختفت، في هذا السواد المطبق؟ وكيف؟ لا يدري.

غير أن الشفتين اليابستين ارتعشتا قليلاً: "يا .. هيـ.. فا.. ء".

وعلى الرغم، من كل ذلك، ظلت نجمة ابتهالاته هذه، لا تجيب، بل تتالت دفعة ثانية، وثالثة، من ضجة جديدة، فانطلقت أبواب الوجه الشَّمعي. وغامت العينان، في سباتهما الأول. لتعودا إلى مدَّخرات عالمهما الداخلي النقي. بدلاً من صراخ العالم الخارجي. الذي يجب أن يصفع على ذاكرته الكئيبة.

***

كان اثنان، من بني آدم وحواء يتقابلان كل يوم. ويتعانقان حتى يشفّا، ويتحولا إلى كيان واحد خالص، من الوجد، والروح، والعذوبة! صبيّة تمحو العالم ببسمة.

وشاب مفتول العضلات يدفق حيوية.

ويحلو الهمس –على السرير- في عالم الجمجمة المسحور. داخل الرأس الصامت. ويعبق بشذا الأنفاس والهمهمات، التي تصدح فيه، كطيور الأصباح، حين تخضل ريشها قطرات الندى:

- "آه…!، يا هيفاء، الحب فيض كالبحر، لا ينضب".

- "بل الحب، يا أكرم، فضاء شاسع لا حدود له".

-....

-....

يتناغم الحبيبان في أبدية اللقيا. ويظلّ الحب ينبع، ويفيض في محرابه. ليزخّ بوابل نيرانه ذينك العابدين المتيمين.

ويندلع نفس لاهب بفرح بدائي: "أكرم، متى نتزوّ.."؟

- "ولكن، هذه الدورة التدريبية، في كليّتي العسكرية. لا أستطيع تأجيلها، على كل. لابدّ من أن تنتهي ونتزوّج يا هيفاء".

ثم ينغمسان في شعور ماتع بهيج. يطفوان فوق زوارق المخايل والأحلام.

***

يلفّ الزمن بكرة أخرى من شريطه الأملس، على بكرته.

وها هما ذان –مروان وهيفاء- يندمجان أو يلتحمان بعرس زواجهما. وتضجّ في الرأس المسحور أصوات المزاهر والدفوف. وتتعالى أصوات الشبّان والشابات، بالزغاريد والأهازيج المضمّخة بعذرية الريف. وإيقاع دبكات القرية، المعبرة عن عفوية أهلها، وحيويتهم.

هيفاء ملاّك نازل من ذلك الفضاء، تحيط بها هالات من نور! وأكرم، بجانبها، يشعّ بهاءً وسعادةً…

لقد انتهت الدورة التدريبية، في الكلية العسكرية، وتخرّج ضابطاً برتبة ملازم. وبيده تسلّم قرار السماح له بالزواج…

… وتتقلقل الجثة في سريرها، من جديد، وتثور ضوضاء حولها. غير أنها لا تخترق هذه المرة الأذنين، في ذلك الرأس. ليبقى، هو، مشحوناً بعالمه الخاص. ولتظلّ العينان، فيه مغمضتين. كأنهما تطبقان، بكلاّبات على موجوداتهما، حتى لا تهرب، من بين الرموش والأهداب.

وكانت حياة زوجية هانئة. يلفّهما كيان روحي واحد. وبيت واحد، في بلدة جولانية صغيرة، على الجبهة الجنوبية. البيت عشّ لعصفورين كبيرين يزقّان فيه القبل. ويرشفان رضاب الشفاه شهداً ورحيقاً. ويتملّى أكرم رقائق الوجه الذائب، بين جمر يديه، كالجبن. في كل صباح:

"أنا عائد إليك مع المبيت المسائي، هيفاء".

وتنظر هيفاء، في العينين السماويتين، وأطفال الفرح تزغلل على ثغرها: "عد بالسلامة، لي، أكرم".

ويوغل الرأس الصامت، في التحديق: "هيفاء".

ويتلألأ كوكب، وينفرج برعم أقحوان، عن رفيف موجات، أثيرية:

- "نعم، يا أكرم، يا عيني هيفاء…".

وتلمع هيفاء، في ذلك الرأس، ببهرتها، كقالب سكب فضة، ثم تغيم فيه غنجاً ودلالاً. جميل جداً أن تغنج المرأة وتدلل، أمام زوجها… ويذوب أكرم، على ناره المحرقة!!

وفي أعلى درجات الحرارة، في الطبيعة، يتمّ اتحاد العناصر، والتحام الذرات.

***

ها هي ذي هيفاء تطوّق عنق أكرم، بيديها الساطعتين. ترمش له. وتبتسم. ثم تنغم في أذنيه لحناً عذباً: "فراغات أحشائي امتلأت، أكرم".

وأكرم يكاد يطير، من الابتهاج. في بطن زوجته جنين معجون من طين جسديهما، يا للحب! يا للحياة! حقاً السعادة، في الامتداد. أكرم هيفاء، سيمتدان.

وتهمز الشفتان في الوجه الجامد. تريدان أن ترفعا صوتهما، بالكلام. لعلّ هذا العالم الخارجي يسمع الحديث القدسي لمناجاة داخل الجفون. غير أن تقطيبة أطبقت، فجأة، بقبضات فولاذية، بين العينين المغمضتين، وارتسمت كعقدة صعبة الحلّ: "هيفاء. تبلغت مهمتي العسكرية، القتالية سميها ماشئتِ. وسأنقذها في موقع، على الجبهة، حافظي على وديعتي في بطنك…".

ويهبط على الأرض الشبح المضيء، الذي زاره، كنجم قادم، من أعالي السماء. وتهدر على سفوح (تل العزيزيات) قرب بحيرة الحولة، دبابة، وينفجر من حجرتها العليا زغرودة ريفية عتيدة:

- "يا أم الوحيد وأبكي عليه…

الموت لا يرحم حدا…".

"لابدّ ما تنعي عليه…

إن كان اليوم. أو غداً…".

كما تنفجر من فم المدفع الأمامي القذائف والأهوال.

الأغنية ترعد.

والقذائف تحصد.

ولكن رصاصة خبيثة سامّة، من الجهة المضادة. تخترق ذلك الصدر المطهم بأشعّة النصر والحماسة. وتثقب فيه الرئة اليسرى. فيتهاوى الجسد المارج، كجسر ينهار على قواعده.

***

لم يعِ أكرم صليل المقصّات والمواسي، في غرفة العمليات الجراحية، في مشفى (المزة) العسكري. بل ظلّ، في غيبوبة، لعدة أيام.

وهيفاء في عشها الجولاني الحميم، تحلم، تمور في داخلها صورة طفل مشرق. يحبو على الأرض قربها. وينغم لها بصوت عذب رخيم أولى كلمات أبجدية العالم: "ما.. ما.. با.. با". وتمدّ يديها له، كأرجوحتين، من عاج. ثم يضجّ الصدر، بكأسين مترعين بالحليب. والحضن الدافئ يغمر كومة صغيرة من جسد البشرية، ثمينة، ثمينة. لا تعادلها الدنيا بأسرها. انتزعتها من جوفها، لتمنحها حنان الأمومة، بأقصى ما تملكه من طاقة وقدسية.

إنه مروان!

بلى، أكرم –والده- كان يكنى بأبي مروان قبل الزواج. وها هوذا أكرم مصغر بين يديها. العينان، الشعر. الرأس. لون البشرة الحنطية، كل شيء، في مروان هو أكرم. وتحسّ بارتكاض سريع مفاجئ في تجاويف بطنها، وتستفيق، من خدر بهيج، وتبدأ روحها بالخفقان، في عالم يقظتها هذا، عالم الوحدة. والفرقة، والحسرات، والبعيد والآهات….

الحقّ على جنينها. لماذا أفقدها هذه اللحظات السحرية الماتعة؟ ثم جلست في سريرها. وراحت تماشي أكرم "هناك"، وهو يصول ويجول بدبابته. حيث خطوط النار الأولى. ولكن بعد قليل. أخذت أذناها تسترقان صوت حركة، في الخارج، ثم سمعتا هدير محرّك سيارة، بلى هذا الباب يقرع و "من الطارق"؟

يرد عليها صوت غبي: "أنا أم أكرم، حماتك، يا هيفاء. افتحي، لي…".

وتقاطعها هيفاء صارخة: "لا، لا . أبداً أكرم في خطر.. أكرم ما…".

- "يابنيتي. أبو مروان، في البيت، ينتظرك، يا أم مروان. جرحه بسيط وسيمضي إجازة نقاهة صحية، لمدة شهرين. لا تخافي. وقد طلبك.. هلمي معي".

ويتبخّر، في الحال، كالسراب، ذلك الفرح السامي، من هول الصدمة!

***

يغضب مروان لأبيه. ويريد أن ينتقم من عدوه. ولو خرج مبكّراً، في غير أوان خروجه. فيزداد به مخاض الرحم. ويسقط، في الأخير، جثّة صغيرة جداً، هذه المرة عكس ما رأته أمه، في داخل نفسها. طبعاً، تتضاعف مصيبة هيفاء فلشدّ ما عزّ عليها أن تسقط من امتلأت به تلك الأماكن الخاوية، من بطنها طرحاً ميتاً. كانت تتمسك به أربطتها الوعائية. كأنه جنين كل هذا الكون!

ولشدّما فجعت بالنبأ الشؤم. حتماً، أكرم ميت. أو بحكم الميت. طيّب لماذا أسرعت، يا مروان، وقفزت هذه القفزة، من قفص حياتك، فخسرتها؟ والدك أكرم أحب حياته، فحرص على إنجابك، ليحيا بك…

إيْيْيْه.. ..! أيتها الحياة، لكم أنتِ قاسية، وعنيدة! لماذا لا تحبّين الاكتمالُ؟ يعني كأنك، لا تستمرين إلا في النقصان. كيف سأتحمّل نقصانك الأهوج هذا؟ أكرم ذاتي الثانية. فلقة حبّتي. ومروان حشاشة روحي. فلذة كبدي. صدري مازال يندفع له بكأسيه الممتلئين. ودمي يغلي له بالحليب الحار. كان ضيفاً رفيقاً لطيفاً قادماً، من قلب هذا الوجود. من أعماق كياني، ولكن راح يضرب في أحشائي كمطرقة. ليخرج. ويرمي فتاتاً. وأحرم بالتالي منه، ومن رهيف أنفاسه. ومن موسيقى بكائه وصراخه. ومنن رائحة قماطه: وحتّى من رائحة بوله. ماذا سأفعل بترنيماتي التي صغتها من نبض قلبي، لأهدهده بها؟ وتهطل لآلئ لا تحصى، من محارتي العينين الذابلتين.

***

تتحرّك الجثة على السرير، فيزداد، معها، العويل من الأفواه الجافّة: "عادت الروح إلى أكرم. دبّت الحياة في جسمه المسبل…".

يقولون في الريف: ثمة تفتيحة ما، قبل الموت".

ويقول علماء التشريح: ثمة دماغ صغير، في رأس الإنسان. يدعى بالدماغ الصنوبري، يقع تحت دماغ الجمجمة الكبير، وظيفته استلام قيادة الإنسان، لبضع ساعات، قبل الموت. بعد أن تحلّ عطالة الفناء، في دماغ الجمجمة.

وهكذا، دفق لون وردي، في الوجه الجيليني الأصفر. والعينان فيه انفتحتا على وسعهما. وراحتا تجولان، في الوجوه المتحلّقة حول السرير، والتي بدت تشرق بلون الأمل، من جديد، بعودة الحياة هذه. واضطربت الشفتان اليابستان بصعوبة في فم هيفاء: سلامتك أكرم. بطني عاد فارغاً. سقط منه مروان.

أكرم في كامل وعيه يجيب زوجته: "الله على المسبّب اللئيم، يا هيفاء. وجنينك مروان بمرتبة الشهيد".

وابتسم لها.

يا للعجب! الذي مات، عاد يبتسم ويتكلم: "هيفاء، انتبهي جيداً لما سأوصيك به. اعلمي أن الرصاصة، التي اخترمت رئتي، من جنود العدو. هي رصاصة سامة، من النوع المحرّم، في الحروب. لذا لا يمكن أن أعيش أطول من المدة التي حددّها الطبيب. وأنت، يا هيفاء، مازلتِ فتاةً، في ريعان شبابك، فأنصحك أن تكوني وفية لحبي لك. حبي هذا الذي لا يسعه كون. ولكن أراه يصرخ في أعماقي. اسمعي ما يقول لي: هيفاء في ميعة صباها لا يجوز أن تحرم منه. ولتتعامل، بإذن طرشاء مع كل ما سيقال لها: زوجة ضابط. أرملة شهيد، بطل معركة تل العزيزيات. كيف تنساه وتتزوّج؟ لا، يا هيفاء لا تسمعي كل هذه الأقوال. وتخلّي عن ذاك الصيت. وتزوجي. حبي الصادق لك. يدفعني. ويلحّ عليّ بهذه الوصية. إياك هيفاء، احرصي على تنفيذها…".

واندغمت بقية الكلمات، في صرخة بكماء: "يا أكر…".

ولكن أكرم الذي لم يكتمل اسمه في فم هيفاء. .؟.؟. غرّب عينيه. وأطبق شفتيه على: "وداعاً، هيفاء. تزوّجي، وأنجبي مروان آخر…".

 

 

المقابلة

 

 

"الجلاء". فندق عريق، من فنادق المدينة.. بني قديماً في حيّ سكني. يحمل الاسم نفسه، ثم غمرته –فيما بعد- العمارات ذات الطوابق المتسامقة. وغاص بينها. حتى كادت معالمه تضيع؛ لولا (يافطة) عريضة. رفعت فوق بابه الأرضي.

قدم إليه مروان ماهر، من بلدته النائية. وحلّ فيه نزيلاً ليلياً. وبعد قضاء يوم مرير، في التجوال، بين الدوائر الرسمية، كشاب ينجز معاملة تخرّجه الجامعي.

حين استيقظ، في الصباح، لا يدري، كيف شعر أن خياشمه تفعم برائحة عطر كثيف، نصب جذعه في السرير. وتأكّد.

ما سرّ هذه الرائحة الفاغمة؟

وما مصدرها؟

اهتدى بعد قليل، إلى حلّ السؤال الثاني:

المصدر هو تلك النافذة.

- "ولكنها موصدة". /تمتم في داخله.

ثم ضجّت روحه بنشوة عارمة أكثر. صار كأنه يجلس في حديقة ريحان. ابتسم لنفسه. وحدّق إلى النافذة، ذات الطاقة العالية، انتصب بقامته الفارعة. وسار قليلاً.

أمازال خدر النوم يطغى عليه؟

أم هي الحقيقة؟

حين شَعّ عليه، ما يشبه البهرة، من النافذة التي أشرع بابها!

لقد غشيت عينيه طلعة بهيّة!

وتملّكه شعور عظيم من الانبهار والجلال!!

***

كانت في الطبقة، من العمارة المقابلة، نافذة مملوءة ضياء. انعم النظر: الشعر فحمي مسدول، كشلال من الليل. والعينان فنجانان واسعان ساحران. والأنف دقيق جميل لطيف. والثغر حبّة ناضجة من الكرز!

"يا للكيان العذب..!"/ لهَبَ في ضميره.

***

اعتادت هيفاء أن تفتح نافذة غرفتها كلّ صباح لتستقبل سربها، من عصافير الدوري، كانت شغوفاً، بمداعبتها، والنظر إليها، وهي تتقافز بنزقها المألوف. لتلتقط الحب الذي تنثره لها.

شاهد مروان، قبالته، هذا (السيرك) للعصافير. تطير، تحطّ، تزقزق، وتتعانق.. مأخوذة بفعل حيويتها.

دهش، ولكن ظل قلبه مخطوفاً للأكثر إدهاشاً!

***

الشعاع ما زال يتمارق، بسهامه المتلامعة، أمام عينيه. من خلال حركة العصافير، في فضاء النافذة. رُهَز جسمه. حدّق. حسب أن حرائق شبّت.. فأنشد أكثر فأكثر نحو البؤرة المتألّقة.

غامَتْ عيناه. طاش رأسه!

فرَكَ جفونه، ولكن فعل سيّالات أخرى ما برح مسيطراً عليه، فترك نفسه منداحاً، تحت نوع فائق، من السحر والبهجة. لم يشعر بمثل سعادتهما من قبل.

***

لم يستطع مروان، إلا أن يرفع يده. فاخترقته حزمة ضوء ساطعة، من تينك العينين المتّقدتين، ثم شاهد يداً ناصعة ارتفعتْ..

وهكذا.. حدثت، في الحال، تلويحتان رائعتان. بَانَتْ، خلالهما الأصابع ظاهرة عارية.

انصبّت العيون، على الأصابع، وراحت تغزل رحيقاً من شعاعها الحالم..

 

 

الحارس

 

 

كان من عادته، أن يبقى ساهراً ليله، في الكوخ المخصّص له. المهم أن تظلّ عيناه، في وجهه، مفتوحتين. لا تعرفان الإغماض، وليؤكّد سهره هذا، كان يدور، بين الفينة والفينة، حول سور القصر، ثم يؤوب إلى كوخه، مطمئناً راضياً.

كان صاحب القصر يوصيه، أحياناً: "إياك، أبا محمود.. كنْ يقظاً طوال ليلك، القصر بحراسة..".

فيقاطعه أبو محمود، قبل أن يكمل: "قصرك، بكل ما يحتويه، أمانة، في عنقي، برهان بك".

ولكن برهان بك، يعود يذكّره، ويشدّد عليه: "تعلم كثيراً عن حوادث السطو والسرقة، في هذه الأيام، أبا محمود. فليكن ليلك نهاراً. ونهارك ليلاً".

***

ودرج أبو محمود، الحارس، على هذا المنوال، الذي رسمه له "معلمه" خلافاً لما تعارف عليه الناس في حيواتهم المعتادة: الليل للراحة والنوم. والنهار للشغل والتعب. فالعالم عنده "مقلوب". ولكنه كان يقنع نفسه: "هذه هي طبيعة عملي، كحارس ليلي".

***

في هذه الليلة، بالذات، خالف طبيعة عمله، وضغط عليه جسمه لينام، ولتكن له ليلة واحدة، مثل ليالي الناس، أخذ النعاس يراود عينيه بقوّة، قاومه، بيد أن عينيه عادتا ترنّقان، وهو قابع في كوخه، قرب بوابة القصر، وانعقدت رموشهما، وأطبقت جفونهما عدة مرات. وكان عندما يصطدم رأسه، بجدار الكوخ يفطن بمهمته، فينهض مذعوراً، يفجر عينيه، ويحملق بهما، في الظلام وفي مصابيح القصر. ثم يدور حول السور.

-"أنا في هذه الليلة، غير أنا"! قال في نفسه

***

حقيقة، في الليالي التي أمضاها سابقاً- وهي لا تعدّ- كان يتسلّى بالنجوم المتلألئة فوق رأسه. يحاول، وهو سهران، أن يبحث عن نجمته، بينها، ونجمة زوجته، ونجوم بناته الثلاث، أليس لكل نفس بشرية، تعيش على سطح هذه الأرض نجمة في السماء؟ هكذا قالت له جدته، مذ كان طفلاً، في السادسة من عمره، جدته "صالحة" لا تكذب، وأوصته ألاّ يشير إليها بأصابعه.

ولكن أنّى له أن يتعرف إلى هذه النجوم الخمس، من نجوم هذا البيدر العالي، الذي لا يحصى. إذن لتظل تساليه، بها، في سهره المتواصل، وليدقق نظره، في عناقيدها. وكيف تكون أشكالها، ومتى يظهر بعضها؟ ومتى يغيب؟ كأن قُدّ من شخصه عالم فلكي يعتصم في مرصده:

-هذه نجمة "الصبح" وتلك نجمة "الزهرة" . وذاك " الميزان" … وأولئك " بنات تعش" من نجوم الدب الأكبر… أ.. ؟ ما زلن يحملن نعش أبيهن، ليثأرن له، من قاتله النجم "سهيل"..

وكان يقطع بهجته، ببهاء عالم الليل الرائع هذا، وبحكايات نجومه العذبة. دخول سيارة من بوابة القصر، أو خروج سيارة أخرى. فيجفل، على حين غرة، كمن يعود من رحلة ماتعة.

يتقدّم نحو البوّابة.

سيارات فارهة عديدة، التي كانت تدخل القصر وتخرج منه كل ليلة، وفيها كثير من ذوي "الذوات"، من كلا الجنسين، برهان بك شخصية مرموقة. وتزوره شخصيات مهمة.

***

عجيب! لِمَ هذه الليلة مع أبي محمود ليلة شاذّة؟ مزاجه فيها جد معتكر ومضطرب. جسمه يطلب الراحة بإلحاح. عيناه تطبقان جفونهما بشدّة. عرف في قرارته السبب وعزاه "إليها".

فكّر في أن يدور دورةً كاملة حول السور، حتى لا تأخذه سنة النوم المتحكّمة.

بعد أن رجع. وقف في باب الكوخ. سمع خشخشة. فحلّت فيه اليقظة فجأة. واستنفرت أعصابه: "هذا لص، يريد أن يسطو على القصر. الحق مع برهان بك يجب أن أبقى يقظاً حذراً".

تحدّث مع ذاته. واتجه نحو الخشخشة. لم يتعرّف إلى مكانها. أطلق سهام نور مصباحه اليدوي، ليخدّد بها جسد الليل البهيم. حتماً، كل اللصوص ضد النور، مثل كل الضباع. فاللص سيهرب الآن.

ولكن الخشخشة عادت إلى أذنيه، بعد أن رجع: "يا للّص اللعين! هذه حركته. ما زال متلبّساً، هنا".

اعتباطه بالأمر، أغلق عليه تفكيره السليم، فراح يرسم داخل نسيج العتمة الكثيف صوراً عديدة، لهذا "الحرامي" الطامع بأموال سيده. أو بأثاث قصره، أو بإحدى سياراته الفخمة، وكيف سيلقي القبض عليه، ويقيّد يديه المجرمتين، بجنزير حديدي، كأنه "شرطي". وليهمّ يفتّش، وهو يُصيخ سمعه، ويشحذ عينيه المكدودتين. غير أن كل محاولاته باءت بالفشل، لم يجد أحداً. فجلس منهكاً محطماً، في باب الكوخ، كأنّه صخرة ملقاة في قاع وادٍ. لا محالة، لا فكاك له من ترك عالم اليقظة، والخضوع لسطان النوم، سلطان النوم أقوى سلطان، في العالم!.

***

وها هو ذا ينود برأسه. ولكن الخشخشة تعود إليه من جديد، فينقذ، هو، من جديد.

"أف! كم هذه الليلة سيئة معي"؟/ تساءل مع نفسه، وخطا نحو مصدر تلك الخشخشة. فكّر بروية، وهو يمشي: لو يوجد لص لما بقي في جهة معيّنة ثابتة. إذن، ثمة شخص آخر يلاعبه، في الظلام، من يكون هذا الشخص، من بين أصدقائه القلائل، يا ترى؟ أهذا وقت للممازحة أيها العابثون؟

وأخيراً تمكّن من أن يحدّد المكان، أو النقطة التي ينبعث منها الصوت. وبوساطة مصباحه اليدوي شاهد ذلك الضفدع الغارق، في حفرته، بين الحشائش، وأوراق الشجر المتساقطة. رفع قدمه ليدوسه، بل ليسحقه، ويشفي غليله، ولكن رحمة مفاجئة دبّت في قلبه، فعاد إلى طبعه، وعفى عنه: هذا مخلوق بريء، يسعى لينقذ نفسه، ثم قدّم لي خدمة جلّى، فلولاه لكنت، الآن، في عداد النائمين، أو قل في عداد الميتّين، لما أنا فيه من همود.

***

أجل، كان لذاك الضفدع فضل على أبي محمود، بعد أن رجع إلى كوخه، هجم عليه النوم، هذه المرة، بقوّة. طبعاً ليس الحكم كله لإرادة الوعي والعقل لدى أبي محمود. بل ثمة إرادة أخرى، معاكسة، وهي إرادة حازمة صارمة، إرادة العضلات والخلايا، فالجسم البشري، حين يصل الإجهاد به إلى درجة السقف، يعلن عصيانه وتمرّده، على صاحبه، وأين أنت، الآن، يا أبا محمود، من هذا الصراع العنيف، بين هاتين القوتين المتصادمتين، في كيانك؟

وانبرى لسانه، في لحظات وعيه القليلة، يقذف ثرثرة، بحقّ تلك "المخلوقة"، التي سبّبت له المتاعب، في ليلته هذه!

***

بلى، تحرّشت به أم محمود في النهار، وهو يغطّ بنومه العميق، عقب سهره طوال ليلة أمس، اندست بجانبه، في الفراش، وقالت له، وهي تهزّه، بكل قوّتها:

-"أبو محمود، لا يوجد، في البيت أحد، الأولاد في بيت جدهم.."

-"أبو محمود منذ كم شهر، لم.."

-"أبو محمود..".

بعد هذا الإلحاح استفاق أبو محمود. وأخزى، في نفسه، ألف شيطان. بل عاد، وفكّر بصفته رجلاً أو زوجاً، لهذه المرأة، أن لها عليه حقاً.

-"مسكينة! لقد مضى وقت طويل، لم يسنح لها مثل هذه الخلوة".

شدّ حيله، ساعتئذٍ، ولبى طلبها، ثم بقي يقظاً طوال نهاره. أبت أعصابه التي ابتهجت، لذاك الالتحام المخملي العذب، أن تنسى فرحها الجميل، وتخمد في نوم سمج ثقيل. وهكذا واصل يقظته، إلى أن حان موعد حراسته، ولكن، في الليل، دفع باهظاً ثمن فرحه ذاك.

***

إلى متى يستطيع أن يقاوم هذا الـ "أبو محمود" ضغط النوم عليه، في محرسه، بل إلى متى تستطيع طاقة الوعي لديه أن تصدّ أوامر الجسد المحتشد عليه، بكل خلاياه وأليافه؟ فإذا ما جدّ الجدّ، بينهما، فلكلّ منهما عالمه، ولكلّ منهما، وسائله الخاصة، لتأمين راحته وديمومته.

لا. لا. في النهاية، وفي الهزيع الأخير تحديداً. استسلم الوعي عند أبي محمود، وغاب، هو في غياهب سمادير، لاقرار لها. لم تعد السيارات التي تدخل، أو تخرج، من بوابة القصر، تُسْتَوْقَفُ. كما نجت "الفاتنات"، في داخلها، من لصلصة العيون. ونظراتها المريبة. ولتترك المفاتيح في أقفالها، بالبوابة. ولتترك، بالتالي، هذه الدنيا بأسرها..

***

لم توقظه زمامير السيّارات. ولا الأصوات المتعالية، من حوله. حتى صباح اليوم التالي. وحين سألته زوجته، لينام في النهار، كعادته، من أجل السهر في الليلة القادمة، صرخ بوجهها: لقد سُرّحتُ، من عملي، وكنت، أنتِ، السبب..

 

 

دعوة

 

 

لم يكد يصدّق نفسه، أنه هو نفسه، هو عينه! هو بمجموع قامته، ذات المئة والسبعين سانتيمتراً. والمؤلفة أجزاؤها، من جذع، ورأس، وأطراف علوية وسفلية.

بل كرّر سؤاله، على ذاته: "هل أنا قاسم بوزنقة حقاً، أنا هو ذا العامل الفنّي، في مديرية الأرصاد الجوية"؟

أنا موظف عادي- يا ناس- مرتبتي التاسعة. أشتغل خلف الآلات، وأتلّقى رسائل التسجيلات، لأنقلها إلى مذيعي شاشة التلفاز، الذين يصيغون منها، هم بدورهم، نشرة جوّية، تبث بعد نشرة الأخبار، كلّ صباح وكلّ مساء.

أجل، أنا هوذا الشخص البسيط، الذي لا تتعدّى معارفه الاجتماعية، أبعد من أقرباء الجد الثالث، أمّا الأصدقاء، فمن أين آتي بهم، وأنا أمضي معظم وقتي، خلف بكرات التسجيل، وآلات الاستقبال والإرسال؟؟

-"أحقاً، أنا قاسم بوزنقة بشحمه ولحمه. و…"؟

وكاد ينطق، وهو يعيد السؤال، عن نفسه. بل نطق هذه العبارة الأخيرة، أمام الرجل السامق، قبالته، ذي البذلة السابغة، طبعاً، بعد أن أبرز له هذا بطاقة شخصية، من نوع خاص.

ومع كل هذا، لم يصدّق قاسم بوزنقة: "أنت، تدعوني خطأ، أيها الأخ"!

جهَمَ وجه الرجل السامق، ونَبَر: "أنت مدعو.. أبلّغك هيّا".

-"يا أخي.. أنا اسمي قاسم بوزنقة. وعملي، كفنّي، في مديرية الأرصاد الجوّية، فلا مقام لي، حيث تد…".

أسكته: "أنا مكلّف بدعوتك وكفى"

بيد أن قاسم بوزنقة، على الرغم من كل ذلك. ظلّ يفكّر، في جوهر هذه "الدعوة". وهو موقن كل اليقين أن اسمه وارد خطأ فيها، ولكن تساءل في ذاته: ما الأمر الذي حدث "هناك"، حتى سبّب، لي، هذه الدعوة المستعجلة؟

في طبيعة الحال، هو، كرجل محدود يعرف حدوده، لم يكن يأمل، في الحلم، أن يدعى، إلى ذاك المكان، بله الواقع! لذا بقي يؤكد، على نفسه، أن اسمه ليس من الأسماء البارزة في "البلد"، التي تدعى أصحابها، عادة لاستلام مهمات كبيرة، أو لتنخرط في عداد قائمة موظفين، من مستوى عال. هو موظف صغير، يعيش على البركة وإن كان ماهراً، في عمله الذي اختصّ به.

-"لِمَ تفكّر، يا قاسم؟.. أسرع".

نتره الرجل الذي ينتظره صوتاً قاسياً.

-"نعم.. نعم"

أجابه قاسم بوزنقة، وراح يكيل الشكر، في الوقت ذاته، لزوجته (هدوبة) التي ادخرت له بذلة مكويّة، في الخزانة، منذ أيام عيد الفطر السعيد.

***

جلس وحده، على كرسي وثير، في بهو فسيح، أخذ ينظر في رسوم جدرانه العجيبة، ولم يفطن بنفسه، إلا حينما دخل عليه رجل، يرتدي، هذه المرة، زيّاً عسكرياً مزوّقاً كأنه من الحراس "الخاصّين". قدّم له كأس شراب فاخر، وجالسه على كرسي آخر. دون أن ينبس، معه، بكلمة.

ما زال قاسم بوزنقة، يراوده الشك، في أنه استدعي خطأ، لاستلام منصب مهم.

شرب الكأس باحتشام، ثم دخل عليه شخص آخر، بزي مدني حاسر الرأس. يجوز أنه يشغل –هنا- منصباً خطيراً. إذن، الآن، يقابل قاسم بوزنقة وزيراً، أو يقابل زميلاً له، في وضعه الجديد!

انفرد به هذا الرجل المدني، بعد أن خرج الرجل العسكري، بالكاس الفارغة:

-"أنت قاسم بوزنقة، الخبير، في دائرة الأرصاد الجوية"؟

أومأ قاسم بوزنقة له، باحترام ولباقة: أن نعم.

أجل. اكتفى بهذا الجواب الإيمائي من رأسه كرجل سياسة. يتدرّب على الاقتصاد، في الكلام- السياسة ابنة حرام. تفرض طبيعتها –فوراً- على معتنقيها-

"يا سيد قاسم/ قال الرجل المدني/ مطلوب منك تقديم تقرير مفصّل عن حالة الأنواء. وأحوال الظواهر المناخية، واتجاهات التيارات البحرية. وبخاصّة تيار (آزور) الذي يهبّ من المحيط الأطلسي نحو الشرق، في أوائل فصل الشتاء، لِمَ تأخّر هذا العام، عن موعده"؟

-(إذن، هذه هي "قصّة، الدعوة)-

هَمَدَ قاسم بوزنقة، في مكانه، حين سمع كلام جليسه. ثم نطق بصعوبة: "متى سأقدّم هذا التقرير (سيدي)…؟

-"يوم غد" /أجابه (سيده) ثم أردف:

"تأخر تيار (آزور) الأطلسي، سبّب انحباس المطر، وهذا الجفاف القاتل".

بَشّ وجه قاسم بوزنقة قليلاً، وأراد أن يدخل الفرح في نفس جليسه المتشائم:

"تقول رسائل الاستقبال، التي نتلقّاها، من الأقمار الصناعية، إن عودة هذا التيار، إلى اتجاهه الأصلي، أصبحت قريبة".

هزّ جليسه رأسه: بل ابتسم: "إذن، مصادفة طيبّة اجتماعي بك، أيمكن تحديد وقت وصوله إلينا"؟

بلع قاسم بوزنقة ريقه، وقال: "لا أدري ما سجلته الآلات في غيابي، سأعلمك هاتفياً".

بَرَم الرجل شفتيه، وعبس بوجهه، كأنه أصبح، فجأة، عنترة العبسي: "إياك أن تفشو بالمعلومات إلى أحد. إياك أن تنقل نبأ (التيار)، إلى مذيعي النشرة الجوية، حتى إشعار آخر، أحذّرك، تحت طائلة المسؤولية..".

ثم قطع الجلسة: ".. انتظر هاتفك. السيارة جاهزة".

وهكذا، عاد قاسم بوزنقة إلى دائرته، وهو يتلمّس أعضاء جسمه، فيما إذا كان قد ترك منها شيئاً، في مكانه!

***

ظل قاسم بوزنقة يتحرق، لينزف بشارة سارة، إلى فلاحي بلاده الذين نشفت دماؤهم من أجل نقطة ماء تسقطها عليهم السماء

يتحلّقون كل مساء، حول التلفاز. وقد سئموا أقوال المذيع المكرورة وحركات عصاه المارشالية، على الشاشة. دون فائدة.

وتتعاظم رغبته، الآن في معرفة سرّ ذلك الحرص على الكتمان، من قبل جليس الأمس، ماذا يختبئ وراء الأكمة، يا ترى؟

آ.. آ..؟؟ فطن: "يجب أن أهتف.."

-"هالو.."

-"نعم".

-" أنا قاسم بوز.."

-"معروف"

-سيدي ستصل خيرات تيار (آزور) يوم الجمعة القادم.

-"شكراً يا قاسم بوزنقة. عليك بالكتمان، كما أوصيتك"

أرخى قاسم بوزنقة سمّاعة الهاتف، وكاد ينفلق نصفين.

***

في يوم الخميس، استمع قاسم بوزنقة، إلى دعوة عامة، في الإذاعة والتلفزيون معاً، تطلب من سائر فئات الشعب الانضمام في مسيرة "دعاء". ترجو الغيث من السماء.

 

 

هذيان

في حضرة عنترة العبسي

 

 

-"اغرب عن وجهي". صاح بي بصوت عالٍ سمعته بأم أذني. كاد يمزّقني.

اقتربت منه. ابتعد عني. وكرّر بصوت أشدّ: "فعلتها يا منظوم"!

ثم توارى.

تقلقلت في مكاني. وحثثتُ دماغي .لاسترعي ما الخبر؟ أقبل ثانية، من مزقة تفتّقت، في أغوار دماغي نفسه: "أهكذا تفعل"؟

-"أف..! ما زال كالجمل الهائج"/ نبست شفتاي عبارة الاستغراب هذه، ولذت –كلّية- بالفرار، من هيبة حضرته!

***

ثم وجدتني ثانيةً، أغوص، في غياهب سديم لزج رخو.

عال! لأطفو، فوق هذا الهلام..

وسدّ الغبش كل أقطار الفضاء، من حولي، غير أنني لم أبالِ. فالخوف أوشك أن يسحقني.

-"أسرع، يا منظوم"/ ناديت نفسي ورحت أحوّم، وأصعد تائهاً في الفضاء. وجدته أمامي، بهيئته المهيبة نفسها. وشدهتني منه صرخة حادّة، كالطعنة المسنّنة: "أين هربت، يا جبان"؟ ارتعدت مفاصلي. وهبطت فوراً، على سطح الأرض. رأيتني جثّة صغيرة بل جثّة متقزّمة، تقارب حجم طفل. لا بأس بالطفولة. بل أهلاً بها ومئة (مرحباً). وأخذت، في الحال، أدرج في معالم "عالمي" الجديد هذا –عالم طفولتي-

ولكن بعد قليل وجدته قبالتي، وراح يرعبني أكثر. نطقتُ بعفويتي الطفلية: "صاحب صندوق الدنيا، كان يغريني، بصوته الأخاذ، يا سيدي: هيّا يا أولاد، شاهدوا أبا الفوارس عنترة العبسي، شاهدوه، على حصانه الأبجر.. شاهراً سيفه.. حاملاً رمحه. هلمّوا. هلمّوا، يا أولاد.."!

وصرت أبكي..

***

بكاء!

نعم، ولي عشرة قديمة مع البكاء.

كنت أبكي حفنة من دموع، عند قدمي أمي، من أجل الحصول على بيضة واحدة، من بيضات دجاجتنا الصفراء، لأهرع، بعد ذلك إلى حيث الصوت يعزف ألحانه الساحرة: "هيّا، يا أولاد، شاهدوا أبا الفوارس عنترة..".

كان يبهرني الوجه الأسود، داخل الصندوق، بل يخيفني بعبسته، وعينيه البيضاوين، اللتين يتطاير الشرر منهما، وشاربه الطويل الغليظ، مثل نصل سكين، وهو يجول ويصول، بحصانه، وقد تسربل بعدّة قتاله. ليذود عن عروسه (عبلة).

وكنت أتساءل دوماً في نفسي، لماذا أنشدُّ إلى رهبة هذا الرجل الفارس؟ ما السبب في ذلك؟ ولِمَ كلّ هذا الخوف من الهيبة الرهيبة؟ هل للخوف متعة يا ترى؟ أو بالأصح هو متعة بحدّ ذاته.

بلى. بلى. كان يغريني لأصبح من زئابن صندوق الدنيا الدائمين، وأتملّى من خلال صوره الرهيبة، رغبتي الجارفة في الخوف، أنا يا ناس صرت أحب أن أخاف، وأحب أن أخاف من صورة هذا الرجل بالذات، وأهيم في مشاهدة صورته المرعبة، في ذاك الصندوق.

***

أ..  ها هو ذا نفسه يستوقفني مرة أخرى، على ظهر حصانه الأبجر. نهرني: "حماقتك، لا تغتفر، يا منظوم".

تلجلجت شفتاي بخجل: "صاحب القصر، أبو شحّوذ، هو الذي دفعني، يا سيدي".

هَمَزَ، وصوّب رصاصتين، من عينيه، ثم تركني وغامَ عالياً في الفضاء. انتبهت، بل فطنت، بأنني قلت: "صاحب القصر". لا "صاحب الصندوق". هذه المرة. ثم رأيتني، قد نبتت قدماي وبقل شعر وجهي. وانتصبتُ واقفاً قبالة صاحب القصر، أبي شحوّذ، نفسه. سَمِعَتْه أذناي، يساومني: "هذا قصر (بهرجة)، يا منظوم يؤمه الفضوليون، فيه تحف، وحيوانات نادرة الوجود، أقبل نصيحتي، وانضم إلى فريق عملي، مهمتك أن تركب حماراً مزركشاً. شكلك المسطّح مناسب جداً، لتكون "مهرجاً" على ظهره.. و.."

***

وأقبل الناس المهووسون بحبّ (التفرّج) والتسكّع. وأطللتُ عليهم أتبختر على صهوة حماري (غبيران)، المطرّز بالأحزمة المخطّطة، تغرّد بروعته المشنشلة بالأجراس والخشاخش. وصرت أرقصه على إيقاع الطبلة، كأنني في مضمار، لأحد أهرامات مصر.

فرحت بعملي هذا، واحتضنتْ جيوب سترتي المبرقشة النقود التي لم أكن أحلم بها، في يوم من الأيام، وأبو شحوذ من جانبه، كان يصرخ بأعلى صوته: "الذي يريد مشاهدة عنترة العبسي، فليدخل القصر من بابه الأول، الذي يريد..".

ويتأجّج حب الفضول، في نفوس المحتشدين، حول الحمار المطهّم وفارسه الغضنفر، ويهرعون، ليدخلوا قصر أبي شحوذ، ولكن كانوا حين يخرجون، من الباب الثاني، يتساءلون في قرارة نفوسهم عن هذا الـ "عنترة" غير أنهم، على الرغم من كل ذلك، ظلّوا يرنون إلى حماري المطرّز، الذي زاد له، أبو شحّوذ العلف، حتى سمن كثيراً وأصبح كله نشاطاً وحركة. يطير من (وزيز) ذبابة، عند أذنيه وقل:ْ! من سيصمد ويثبت، فوق ظهره؟

عفواً، سيدي أُراني أسمع أبا شحوّذ بعينه، وهو يطلب مني المزيد، من الحركات البهلوانية: ".. هيّا، يا منظوم أرني مهارتك فوق صهوة حمارك..".

عذراً، يا صاحبي، عنترة، أبو شحوّذ، هو الذي كان يطلب مني ذلك- أعتقد هكذا قلت-ُ يطلب مني أن أقلّدك، بحركاتك، على ظهر حصانك الأبجر، الذي ذاع صيتك بها، هذا الرجل، يا سيدي، اسمه أبو شحوذ، وهو اسم مشتقّ من (الشحاذة) لا يكتفي بالقليل، فعلمّني أن أقوم بتلك الحركات، وعلّمني، أيضاً أن أردّد نخوتك: "أنا عنترة العبسي، أنا أبو الفوارس..".

-"أنا حبيب (عبلة) زينة صبايا العربان..".

وأخذت أقلدّك، يا سيدي، بصوته، وحركاته المنقولة عنك. وتذكرتك، يا أبا الفوارس، في صندوق الدنيا، وازددتُ حماسة، ألعب بالرمح، والسيف والترس، كما كنت تفعل، أنت. ولكن حماري غبيران الملعون، جفل بي، اليوم، على حين غرّة، ورماني أرضاً، أووه ه..! فطنتُ أنا في يقظة، الآن، أم في..؟

أف! ما هذه العصابة الثخينة التي تلفّ رأسي؟؟

 

 

الرجل والليل

 

 

تنفّست الطبيعة رياحاً باردة، فوق السفوح، والجبال، وأطبق الليل فجأة.

لم يَرَ الرجل كيف انطمرت الشمس، بالغيوم الغربية، ولا، كيف تكدّست كتل الظلام، وملأت كرة الكون المطلقة، ابتسم لهذا الليل، الذي أقبل، في هذا المساء، يقطر عتمة ونداوة. عَبّ أنفاساً رهيفة، وترك وجهه لدغدغة أنامل الهواء الناعمة. تذكّر حين كانت رطوبة الليل هذه، تجعله يغطّ بنوم عميق هنيء. أمّا الآن، فالأمر مختلف لديه.

نهض، تثاءب، حرّك يديه ورجليه، بتمارين شبه رياضية، ليجري الدم في عروق جسمه، الذي ظلّ جامداً طوال النهار.

-"أيّها الليل الحميم، أنت ضيائي، وأنت قرّة عيني، في وحشتي، ووحدتي".

كلّم الرجل الليل، في سرّه بعد أن اطمأنّ إلى جسمه. أ.. أجسمه!!

فطن الرجل بجسمه هذا، الذي أيقظه، قبل قليل، لقد أرهقه كثيراً في هذه الأيام، وإن كان مطواعاً له، ومصداقاً، كصاحبه الليل نفسه.

مشى قليلاً شعر كأن أصواتاً خفيّة تتفرقع، من بين الأعصاب وألياف العضلات: "ما شاء الله! عادت الحياة تنبض فيه- في جسمه.. بقوة"!

تكلّم الرجل عن جسمه، والتفت حوله، نظر في الاتجاهات كلها، الظلام جدّ كثيف، أحسّ كأنه موجود في بوتقة مسدودة، ومعزولة عن العالم، خطا، وتلمّس ما كان قد أودعه، من أشياء في مكمنه، وحشا به جيوبه وأعبابه ويديه، ثم امتشق قامةً مديدة، في الهواء، ومشى بخيلاء، في وسط الحلكة.

"أنا، جاهز الآن، أيها الليل"..

حنى الليل جبهته العظيمة، على الرجل وغمره بنسيجه الرخف الرهف. وأفسح له، من بين تجاويف صدره، مساحات عميقة.

حملق الرجل في تعاريج الأودية، ومنحنيات الهضاب والتلاع، التي كانت كلها سواداً بسواد. اغتبط. إنه صار، حقيقة، من هواة الظلام. ويحب أن يعيش، في سراديب الأرض المملوءة بالعتمة. " شكراً، أيتها البطاح الملفّعة بالسواد"..

عاد، وشكر الأماكن، التي أسدل الليل "ستره" عليها. والتي سيدوسها. بل هَمَّ ليغذ السير..

الليل، من جهته، همهم له، من خلال تجاويف الأخاديد والوهاد: أن لا تخف، أيها الرجل، سأغمرك برهو غبارى، أينما تذهب…..

وأخذ الليل يتململ، بجسده الهائل، فوق الرجل، ويلفّه بنسيج سديمه الكثيف الكتيم. فرح الرجل بأن حالة ما، من الحنوّ والعطف. انهالت تدبّ، في أوصاله، وتغرقه. إذن، فليتأكد، ثانية، مما يحمله. الكل لديه تمام.

لذا. لم يبق إلا أن يثقب، بعينيه، حجب صديقه، ويتابع.

راح يحملق في المكان، والأشجار، وسائر الأشياء، وهو يمشي.

ـ "عال! عال!… خيمة دامسة مطروحة، على سطح الأرض، لا ينفذ منها بريق النجوم المتعالي، إلا بصعوبة"!..

فكر الرجل. وبَشَّ وجهه، لهذا الظلام الذي يحيط به، بل تابع. كأنه فطن: "وأنت، أيها القمر، يا سراج الأرض. اقلع عن الظهور. أو ارجئ طلوعك حتى الفجر وكنْ رفيقاً في نورك. اجعله ضئيلاً، كنور "نواصة"…..".

ثم هدج…

طفق يدرج فوق تضاريس ملتوية. غار  في أعماق أودية عديدة، تلبّس جذوع أشجار كثيرة، وأخيراً، وقف بجانب سنديانة كبيرة، معرّشة، ومعمّرة.

ـ "هذه، هي، نقطة علامك"./الليل أشار إليه بشجرة السنديان. فصعد الرجل جذع السنديانة، والتصق بأغصانها، لبعض الوقت..

الليل فهيم، شفّاف، ووفيّ، يوحي لأصدقائه. ويرى لهم أصغر الأشياء، ويلتقط لهم أدقّ الأصوات، فوق هذه الأرض.

ثمة حرتقة آليات…؟..

وإن هي إلا ثوانٍ، حتى تلامعت سيوف الأنوار الكاشفة، من (البرجكتورات)، وراحت تحزّ كرات الليل. وتبدّد حلكته.

حزن الليل والرجل معاً.. بل كاد الرجل تنزف روحه من جسده… "بضّعوك، أيها الليل، بشفرات أنوارهم الجارحة"… /بصعوبة بالغة نطق، ليعبّر عن هذا الحدث، الذي دهم المكان.

ولكن عاد الليل، وشجَّع: "لن أبرح، بظلامي، هذا المكان، مهما احتشدت أنوارهم. سأبقى هنا معك، فالتحم بشجرتك،  كغصنٍ منها، أيها الرجل..".

ثم تلا ذلك حفيف هامس. دخل في أذني الرجل: "لا تخشَ عليه أيها الليل. سيبقى، كوديعة عندي. أحضنه في عبّي".

وهكذا عاد الرجل، واختفى، في وكره العالي، ظلّ يتأرجح مع أغصان شجرة السنديان. وأوشك أن ينخلع قلبه، من مكانه، مع كل هبّة ريح. من له قلب آدمي، ويتحمّل ذلك الهدير، وسطوع تلك الأنوار الجهنمية؟؟

ـ "متى ستخمد أضواؤهم وحركاتهم، ياليل"؟.. /صاح في داخله، يكلّم صديقه. كأنه مَلَّ خوفاً وانتظاراً.

تنهّد الليل بحرقة. وبكى بدموع غزيرة. فاضت على الجبال، والسفوح، والأودية، لقد عاد يستذكر: "أخفيت الأطفال في مخبأ أمين، تحت الأرض. وغطيته، بساتر ظلامي، حضنتهم به، مثل الدجاجة التي تحضن بجناحيها صيصانها. ولكن انفجارهم الفظيع اللعين، دمرهم جميعاً".

شارك الرجل الليل في البكاء، وقال: "أطفال  (قانا) أطفالي، يا ليل. لي بهم خمسة. سكبوا من دمي. ثم طارت أشلاؤهم رذاذاً، في الفضاء"..

هَزَّ الليل، للرجل، جسده العظيم، من خلال أغصان السنديانة. ولكن الرجل تابع: "ومنذ ذاك الوقت، صممت على أن أنتقم، تحت جنح حندسك البهيم. أيها الليل. وهأنذا، قد هجرت ضوء النهار. وأطلتُ شعور لحيتي، ورأسي. وصرتُ كأحد وحوشك".

دَفَّ الليل، بأطراف عباءته الظليلة، فوق الرجل، كأن يطلق له حرية الحركة.

وفي هذه الأثناء، كانت الأنوار قد تلاشت. والأصوات قد خمدت. فهبط الرجل عن شجرة السنديان. واندسّ بين دهاليز الليل. أخذ يدوس، بحذائه المطاطي، العشب، والحصى، والطين، وكأنه لا يمشي.

أين سيطمر "عبوته"، يا ترى، وينتقم؟!..

همهم له الليل، وهو يعبر أخدود وادٍ: "لا تنسَ نفسك أنك أحد الذئاب، في أحراجي، وسفوح هضابي، أيها الرجل".

قبل الرجل نصيحة الليل، وطامن قامته، وراح يدبّ على يديه ورجليه، كذئب.

في وسط طريق معبدة، تصل مابين (القاسمية) والـ(كريات شمونة). طَمَرَ الرجل "عبوته". ورجع إلى التعاريج المملوءة بالسواد.

 

 

أذنان وقرنان

قصة ساخرة:

 

لم يدر، في بالِ (بردوع)، أن يفكّر، في حياته، التي عاشها، عند صاحبه (سرحان الساري)، أوفي هذا المصير الذي آل إليه، أو، حتى، في وضعه الاجتماعي ـ الحيواني ـ إذا جاز هذا التعبير ـ الذي يعامل به.

لم يخطر في باله أن يفكر في كل هذه الأمور، لولا تلك "الغرزة"، في (رمانة) كتفه، واخترقت العظيم، عندما استلّ صاحبه، سرحان، مخرزه من بردعته.

ـ "أف…..!"، /نفخ بردوع متأففاً. لشدّ ما تألّم! ماذا يريد منه سرحان الساري هذا؟.. أكثر من السير خلف رفيق عمله (قميران). وتتبّع خطواته، خطوة خطوة.

وَهَمَّ بأن يستحثّ قوائمه الأربع، دفعة واحدة، طبعاً، على مضضٍ، ليسبق قميران نفسه، غير أن سرحان المعتلي صهوته، عاد وكبحه برسنه. لا يجوز للحمار أن يتقدّم على الثور. بل عليه أن يمشي وراء مؤخرته، ويستظلّ بفيئها.

ـ "إذن، لِمَ تلك الغرزة اللعينة، التي غرزتها في رقبتي، يا سرحان……."؟/فكّر بردوع في نفسه، ثم تابع:

ـ "هل هي للعبث واللهو؟ أم تزجية للوقت، في هذه الطريق الطويلة؟ ولكن أراك قد آلمتني هذه المرة. لقد وصلت نخستك إلى قنا عظمي… وِيْيْه……! ماهذا السائل الأحمر، الذي بدأ يتدفق، من رقبتي، وينساب إلى صدري، ومابين يدي! لقد بقرت جلدي، يا سرحان….".

وكان بردوع قد حرّك أذنيه، ورقبته، وشاهد بأمّ عينيه المثبتّتين، على وجنتي رأسه الكبير، الدم وهو يسيل، ويتساقط قطرات متلاحقة..

حملق. هو، يملك عينين واسعتين، ولكنْ، هما عنده، واسعتان للحزن والهم، فليحملق بهما، ماشاء….. غير أن غرزة أخرى صكت في (رمانة) كتفه، لا تقلّ ألماً عن الطعنة الأولى، مع صرخة غاشمة: "حا….خائر……".

ـ (أي خبيث هذا الحمار؟ لا يجوز أن يلتفت إلى جسمه، وينظر ما أصابه. هذا يعني اعتراضاً منه. ولا اعتراض للحمير) ـ / تكلّم سرحان الساري، في هذه الأثناء، وهو يستحثه.

 بيد أن (بردوع) تابع، تحته، يدبّ بدعساته المتحاملة، خلف قميران. وليسفح الدم من رقبته، ماطاب له! وليعوِ الألم، في أعصابه. مايحلو له!…

كظم نفسه، بكل مايستطيعه من صبر الحمير المعروف، وغَضَّ عينيه،  عن ذلك المنظر الأحمر، ليستقر في أعماق نفسه.

ـ "أ…"؟ جفل. وكأنه فطن: لماذا، يا ترى. يعتصر قلبه. بهذا الشكل؟ ألهذه الدرجة الدم غالٍ وثمين؟

واقشعرّ في سريرته. وهو يستعيد رؤية قطرات الدم القانية. كأنه يريد أن يسترجعها إليه مرة ثانية. ولا يدري كيف عاد، وفكّر في حياته الشاقّة، التي يحياها، عند صاحبه سرحان، هذا الذي يحمله فوق ظهره، الآن. ألا يكفي هذا الرجل الطمّاع ما بذله، اليوم بالذات مع قرين نيره قميران، من جهدٍ وتعبٍ، في فلاحة كرم (الشعاف)؟ لقد عملا طوال سبع ساعات، دون انقطاع، مثل جرّار (ديزل)! حتى أكملا فلاحة الكرم.

وفي هذه اللحظات، أحسّ بردوع أن جرحه قد أخذ ينعره. فقلص (جلدة)، رقبته، وتابع يتساءل في نفسه: ألا يكفيك هذا العمل، يا سرحان. المحترم، حتى تستلّ مخرزك، وتزرعه في رقبتي مرتين؟

وهأنتذا، مازلت شاهره بيمناك، كأنك عنترة العبسي. ياصاحبي، أنا لستُ (الأبجر)، حصان عنترة، ومع هذا أراني ألحق بقميران، دون تباطؤ. ألا تفقه هذا يا بن آدم؟

وهنا، شعر بردوع أن أطبقت على خاصرتيه لكزة حادة، من قدمي سرحان، مع زعقة عظيمة: "حا……سايب……".

عجيب! كم تحب العجلة ياصاحبي؟ لا تخف، ستصل دارك، بعد قليل، وستجدها قائمة كبرج قديم. فلا تكن عجولاً، حتى لاتصاب بالندم. نعم إذا ما نفقتُ. فستندم. طبعاً، ليس حزناً علي. بل على خسارتك إياي. حرام! أنا جدّ منهك……..آه!………ياسرحان الساري. كم أنت قاسي القلب؟ كنت في (كرمك) مثل دولاب. لا يهدأ. ناهيك بأنني أصبحتُ عجوزاً، ورميتُ أسناني، بل أسناني التي كنت تعرف بوساطتها عمري وتقول أصبح بردوع ثنيّاً. أو رباعيّاً. لقد رميتها، وصرتُ أدرد. وعمري صار دون قياس، أي تجاوزت سنّ العمل. وهأنتذا ما زلت تسومني سوء العذاب وإذا ما فطستُ، فستجرّني إلى المزبلة للكلاب. أهذا عدل منك ياصاحبي….؟.

ـ هِشْ…… حا……. يا حمار المداس"./وبضع لكزات مؤلمة تنهال على خاصرتي بردوع.

فكفّ هذا عن أسئلته المتلاحقة، وازدرد، بخياشيمه، كميةً لا بأس بها، من الهواء، وَصَرَّ جسمه، تحت صاحبه، ليسرع به أكثر. غير أنه وجد جسمه يترنح، ويكاد يسقط أرضاً، حقيقةً. أصبح هذا الحمار عجوزاً، أين هو من قميران. هذا الثور الذي، مازال يمشي، أمامه بقوة وكأنه في استعراض عام، يلوح بذيله الطويل، كمذبّة. لينشَّ عن جسمه الذباب. لا شك أن هذا الثور، في ريعان عمره. إيْيْْهُ….! كم أيام الشباب عذبة وجميلة؟ وكل كائنٍ حيٍّ يريد أن يبقى شاباً!

وتداعت لبردوع أيام شبابه تلك:

ـ أي جحشٍ رشيق خفيف الحركة، كنته، يا بردوع تنطّ مثل كنغر. بل، كنت لا تقلّ فتوة وحيويةً، عن قميران. هذا الثور الذي يتبختر، الآن، أمامك….

ثم لا يدري. كيف راحت الدموع تزخّ، من عينيه، وتطسّ وجنتيه طسّاً. لاشك أن (مراجعته) تلك. قد فتّقت له جراحه. لقد كان معفىً منها، لولا هذه النخسة الدامية. تابع يمشي، ولكن، من خلال دموعه، غبش أمامه قميران يحرّك فكّيه. ويجترّ.

ـ "أ…..."؟  إنه غي مبالٍ بي هذا الثور. بل مرتاح البال ومسرور.

ولِمَ لا؟ وهو الحيوان المدلّل ، والمعفى من الركوب والتحميل والنخس و … ،.

وهنا، عاد بردوع ولمح اللون الأحمر ، في جسمه. فحرَّكته رؤيته وهبّت ، في نفسه زوابع الألم ، من جديد.

ـ "آه…. ياسرحان! لماذا لا تعاملني، مثل قرين نيري قميران؟ لماذا لاتركب على ظهره مثلي؟ علماً أن أن ظهره عريض، وواسع، لا كظهري الحاد كالسكين، من شدّة هزالي. آ….؟ أنت تضع تلك البردعة الرثة حتى لا تورث الدبر لأليتيك… طيّب. إذا أنت لا تستطيع اعتلاء صهوة قميران. حمّله عدة فلاحتك: العود: السكة، النير….. تُراني أحملها وحدي. إضافة إلى حضرتك. أهكذا تتركه يسرح ويمرح. بعد أن فككتَ رقبتينا، من النير؟ يمشي الخيلاء أمامي. كأنه منحدر من سلالة عريقة. وأنا أنود وراءه، بحملي المهبط، تتلّني برسني. وتستل مخرزك الخاص بي وتصيح: حا…. يا حمار الكلب….! أتعس بقوائمي ذليلاً. وأتابع صبري.. عذاب.. عذاب.. إلى ما لا نهاية، يا سرحان، ياصاحبي، أنا لا أطالب بالمساواة مع بني البشر. بل أطلبها مع بني

البقر…".

وقطعت تفكير بردوع عدةُ لكزات عنيفة من رجلي سرحان. فأسرع ليلحق بالثور.فسُرَّ سرحان هذا. واسترخى بأطرافه وجذعه ورأسه وأصبح شكله علىظهر حماره،كفزّاعة أسطورية. أحسّ بردوع أن رجلي صاحبه تمتدان على معرفته هذه المرة: أفّ….! إلى هذه الدرجة الامتهان، يا سرحان؟ تضع قدميك على رقبتي، فوق رأسي….. تفوو…..على حياتي عندك…

ثم شخر، حتى وصل هواء زفيره الساخن إلى قميران، أمامه، وفطن:

ـ "وأنت، يا قميران، قل لي: كيف حصلت على حقوقك وامتيازاتك هذه. يارفيقي، أنا كحمار، لا حقوق لي. أرجوك أن تدلني على الوسيلة التي نلت بها ذلك… أ….. ه؟ أو أنك لا تريد نصحي. إذ مصلحتك تقتضي أن أبقى بجانبك هضيم الحقوق….".

وبينما كان بردوع يتمتم عتابه في نفسه.كانت الشمس قد أطالت من ظله، أمامه، فرأى رأسه الكبير. وكيف تحيط به أذنان طويلتان.

ـ "أجل… هاتان الأذنان هما المصيبة"!..

ثم انداح يفكر فيهما. وقدّم له ذهنه المتفتّح في هذه الساعة الفائقة (استمارة)، كاملة عنهما. فكم كان يُعيَّر بهما؟ وبطولهما؟ حتى أصبحت علامة ثابتة من علامات الغباء و(الحمرنة)!…

وظل هذا الحمار مشحوناً بأفكاره الساخنة هذه، إلى أن خطا قميران نحو منعطف الطريق المؤدية إلى القرية. فظهر له رأس هذا الثور كاملاً. أثبت بردوع عينيه، وكأنه يرى رأس قرينه أول مرة في حياته. رأى في هذا الرأس العظيم قرنين بارزين.

ـ "ياللهول! ماهذان القرنان، يارفيقي قميران؟ من أين أتيت بهما؟ إنهما قويّان حادّان كخنجرين. يا حسرتي. ليت أذني الطويلتين مثل قرنيك……….

 

 

تلك النافذة.

 

 

(1)

في الساعة الواحدة، بعد الظهر، فرغت من عملي، في عيادتي السنّية. جلست على كرسيي الخاص. لا كرسي المرضى ـ طبعاً، استرخيت، بكامل ألياف جسدي عليه.ومددت ذراعي اليمنى، بخاصّة المتعبة من قلع ضرس رجل، من الريف. كانت هذه الضرس طاحنة يسرى، في الفك الأسفل. زهاء الساعتين استغرقت، وأنا أُقاوب، وأحفر، وأمسك تاجها بالكلاّبة، ويفلت. ثم أكرّر، وأشدّ، بكل قوتي.

وكم مرة، هويت بقامتي، نحو الأرض ـ ياللخجل!، ـ عملية نادرة تحدث في عيادتي اليوم. ضرس تريد أن تتمسّك بصاحبها، حتى نهاية العمر. ولكن صاحبها هذا، لم يحافظ على صحتها، في فمه، حتماً، طوال حياته، لم يستعمل معجوناً، أو فرشاة، فنخرها السوس، وأخذت أعصابها تصيح ولا تستريح.

بعد أن تمكنّت من انتزاعها. حشوت حفرتها اللثوية بالقطن. وارتميتُ على ذلك الكرسي، كالقتيل.

وانصرف الرجل، واضعاً يده على خدّه الأيسر، المسكين ابتلى بضرس ضخمة، كضرس الجمل! لها أربعة جذور بارزة نافرة. كأنها أنياب أفعوان سامّة. ولكن ما إن تمالكت نفسي، حتى دخلت عليّ (أمينة) ـ كاتبة العيادة ـ وقدّمت لي ورقة مكتوباً عليها اسم.

قفزت عن الكرسي كالنابض. ذهلت أمينة مني. هذه هي المرة الأولى، التي تراني، بها، في مثل هذه الحال، "هل أصاب الدكتور مسٌّ؟ أم قدّمت له ورقةً مسحورةً"؟.. /حتماً فكّرت أمينة في نفسها. 

دارت شعوري. وأغلقت الباب. ناديتها في داخلي: "بل قدِّمتِ، لي، ورقةً ساحرةً، يا أمينة. تأكدّي أنها ساحرة…".

لم أتمكّن التخلّص، من آثار جفلتي. شقّت أمينة الباب ثانية:

ـ أنت مرهق، يادكتور، سأدعها تنصرف".

ـ لا، لا، أمينة. إياكِ. دعيها تدخل، بعد خمس دقائق، على الأقل، اغلقي الباب. وابقي بجانبها، من فضلك".

وأخذتُ استقرئ المرآة، أمامي، عن لون وجهي، وماحلّ بي. أفّ! ألهذه الدرجة ترتقص فرائصي؟ ثم عدت إلى الورقة الباهرة.

تحملق عيناي فيها. إنه اسمها! إنها هي قادمة إلى عيادتي بكل جلالها وجمالها. ياه….! ـ اسم "درّة السليم"، اسم جميل. لوحة تشكيلية خالصة. وأمينة ـ البزيقة ـ التي خطّت حروفه. هي أبدع فنانة أعرفها، في حياتي، يالكِ من إنسانة مبدعة، يا أمينة! كيف صغت الألوان؟ وصوّرت الحروف؟ الـ(د). والـ(ر) والـ…. وكيف رسمتْ ريشة قلمك الثنايا والحنايا والنقاط…..؟

شقّت أمينة الباب ثالثة: "أتدخل يادكتو….."؟

ـ "أرجوكِ. خمس دقائق آخر. يا أمينة".

(2)

ورحت أذرع الغرفة جيئة وذهاباً. استعداداً للمقابلة العجيبة. وظلّ، أكثر من لحظة، شهب أبيض يغشى عيني. الغرفة كانت فضاء، من أثير، لا حدود له. وقفتُ حائراً. أريد أن أرى الأشياء حولي….

ثم لحسن حظي، تكثّفت هالات النور. فتماسكتُ أكثر، متحاملاً على نفسي. وأعتقد أنني سمعتُ صوتاً. بل سمعت نغماً، لحناً….:"ضرسي تؤلمني، يا دكتور….".

الحمد لله. يجوز آلام ضرسها شغلتها عن آثار ارتباكي. عال! لم تلحظ شيئاً مما حلّ بي. وإلا، لما كرّرت: "أراك واقفاً، ضرسي. ضرسي. تقدّم، يادكتور. في غرفة الانتظار حجزتني عشر دقائق وهنا…."!..

تمكنّت من أن أفكّ عقال لساني المتيبّس، في حلقي، وأردّ عليها:

ـ سيزول عنك كل ألم، بعد قليل".

 زرعت بي عينين واسعتين ولطيفتين. ولم تطرف بأهدابهما الطويلة لبرهة. كأنها تتساءل في نفسها: صوت من هذا الذي أسمع؟ لم يكن غريباً عن ذاكرتي. متى كنت أسمعه؟ والملامح…. ياترى؟

وأنا، في أثناء ذلك، تمتمت في ذاتي أيضاً: درّة السليم، بعينها، بين يديك الآن، يا منصور الشاهين، فاهنأ برؤيتها. ويالسعادتك! هي نفسها تجلس على كرسي عيادتك. بقامتها الوضّاءة، وهيئتها البهيّة، و……..

وهممتُ بأن أجرّب صوتي المخشوش ثانية:

ـ "أهلاً بك، يادرّ….".

لم أكمل. سكتُّ. رأيت ابتسامة برّاقة تشعّ على الثغر المجمّر كزهرة جلنار. وإخاله، قد عاد، ورنّ في أذني النغم نفسه:

ـ "أهلاً، بك يادكتور منصور".

بلى، كظمت آلامها، ونطقت إنابةً عني.

وساد بيننا صمت.

يا إلهي! كرسي العيادة، صار يمور، بنور يخطف العينين. لا، يامنصور الشاهين. اصمد وتماسك. حتى لا تخسر جولتك. هذه فرصة قدّمتها لك السماء. فلا تفوّتها.

ولكن. عجيب! ماهذا الاهتزاز، الذي مازال يعتريني؟ حتى أسناني تصطكّ في فكي. لذتُ بوجهي عنها. وتناولتُ إبرة (البنج)، لأعود طبيب أسنان، مئة بالمئة، وأتخلصّ من ماكينة جسمي. ماهذه الليونة؟ بل ماهذه الميعةُ؟ أوقل الرخاوة؟ منصور، كن رجلاً. كن طبيباً صلباً قاسياً أمامها./ شجعت نفسي، وكرّبت عضلاتي، ولاسيما عضلات أطرافي العلوية.

ـ "افتحي فاك، يا آنسة درة".

وتناهى إلي شميم عطر فمها الفاغم. يارب. استر موقفي، هذا اليوم. أف! ما أصعب المرأة! وما أقوى

تأثير سحرها! أهكذا تفعل بي "درّة السليم". وأنا

في عزّ شبابي؟..

تكلّمت في داخلي…

 وكان قد انشطر، أمامي، جمام ورد، وبانت لآلئ الأسنان الناصعة. حرام! حرام!.. عليك أيها "السوس" المجرم أن تعيث نخراً في قطع مسكوبة مرجاناً. وياقوتاً. وزمرّداً. و….

ولم أصدق نفسي.كيف راحت أصابعي تفتّش عن الضرس المصابة، بين الثنايا والضواحك. حبست أنفاسي. يالابتهاجي! حقّاً إن درّة السليم تجلس بين يدي مستسلمة مطواعة. أمسك أسنانها، ورقائق وجهها… ولكن فكّرت، كيف سأغرز هذه الإبرة الظالمة، في تلك اللثة العاجية؟ وتردّدت غير أنني فطنت بوضعي. أنا صمّمت على أن أعود طبيب أسنان. ودرّة السليم زائرة في عيادتي. إذن هيّا باشر، يامنصور.

ولشدّ ما تألّمت! وكادت تصرخ من (السيرنك). لابأس. تصرخ. اصرخي، يادرّة السليم. صراخك موسيقى عذبة، تأتي من صوب الملائكة.

وبعد التخدير. رحت أداعب ضرسها. جسستها بالمقوب. وأمسكتها بالكلاّبة. صاحت: آخْ، آخْ، خْ… دكتور منصور…

يالسعادتك، يامنصور! ماذا تسمع؟

ثم علمت بنفسي أنني عجّلت، المخدّر لم يصل بعد، إلى مركز الألم.

جلستُ على كرسي الخاص، أنتظر وأنظر.ولا أدري لِمَ تولدّت لدي أفكار غريبة؟ بل شيطانية. هل أنتقم؟ آه… ! منك يادرّة السليم.كم عذبتني في حياتك؟ وكم تعلقت عيناي، وجوارحي بك، وأنت في نافذتك؟ ييْيهْ…….! يازمن! حقاً إنك لعادل. أعدت إلي من كنت، قد حرمت منها، حتى انعدمت، البتة، من وجودي.

(3)

كانت الحياة نقيّة صافية، كماء السلسبيل. تفيض رقراقة، من نافذة واحدة فقط.تفتح في قصر منيف. يشرف على ساحة قرية (كوم الحصى) الصاخبة، بضجيج أولادها. وكان الحسن والجمال، آنذاك، مجسّدين في كائن آدمي. لا، بل ـ على الأخص ـ في كائنة حوائية..

كانت هذه الفتاة، لا تتجاوز العاشرة، على ما أظنّ، يطلّ وجهها، من تلك النافذة، كبدر نيسان، في يومه الرابع عشر. أو قلْ، كان يشعّ علينا، كقرص الشمس، وأمّا اليدان، فبياض الثلج!، ماهذه المخلوقة، التي زادت في نعومتها، وسطوع بشرتها، طراوة الفيء، ورغادة العيش، كابنة وحيدة لسيد قرية (كوم الحصى)!.

كنت لا أتجاوز الثانية عشرة. وأنا أخوض غمار مسابقات الألعاب الريفية، مع أترابي، حينما تسنح لنا عطل المدرسة، وكنت، في الوقت نفسه، أشعر أنني أُحَرَّضُ، من عينين برّاقتين ترقبانني، بحماسة. وتحيطانني بهالة من شعاعهما الحميم. وهكذا أخذتْ تجنّ الخلايا، والعضلات، في جسدي، وصرت أحصل على القدح المعلّى، في المباريات. دوماً منصور الشاهين الأول في لعبة (الحاجوج). وفي لعبة (السبركة)، وفي سباق الركض، من مختلف المسافات. فتربح صاحبة النافذة رهانها مع نفسها.

لم أكن، قد بلغت سنّ النضج بعد. فلماذا هذا الميل الجارف تجاه النافذة المشرعة. والمتلألئة بالسحر والجمال؟ ولماذا تجاهد قدماي، لأسبق أقراني، وأنال نظرة الإعجاب. أو طرفة الهدب؟

كان حين يهتف، باسمي: فاز منصور الشاهين… أشعر أنني ، حقيقةً، أصبحت في ذروة المجد!.

ولكن، ماذا يقبع وراء المجد نفسه؟

ياناس، ياعالم. أنا نلتُ من النافذة تلويحة يد، اليوم.

إنها، هي، تحييني، على فوزي.

بل في يوم أغرٍّ آخر. أسقطت، عليّ قطعة من (شوكولا). واه….! ماهذه الـ(شوكولا)، وما أطيبها! أنا طوال عمري، لم أذق طعم (الشوكولا). والدي ((المرابع))، عند ((أبي درّة)). لم يشتر لي. في حياتي حبّة "ملبّس".

كنت ابكي حفنة من الدموع، حتى أحصل على بيضة. من بيضات دجاجاتنا. التي تصادرها أمي، دائماً لابتياع الصابون، وملتزمات أخرى. واليوم أمضغ، بلعابي أحلى طعم. هو طعم (الشوكولا)!

غير أنني، في اليوم الثالث ـ إضافة إلى غبطتي، التي لا تُحدّ. ـ زدتُ حيرة. فعندما كنتُ مشرئباً بقامتي، نحو العلاء، لألتقط قطعة(الشوكولا) الثانية، من النافذة، على إثر فوزي بسباق (الحاجوج). لم أجد في يدي سوى نصف قطعة. رأيت (درة) ذاتها. تلوّح لي بالنصف الآخر، من علِّ، ثم تأكله.

من المؤكد، أن هذا الأمر، لم تقم به اعتباطاً. بل له في نفسها أكثر من معنىً.

ياترى؟ هل أصبحت تعرف الـ….؟

(4).

وصرت أمكث تحت النافذة، في الصباح والمساء والظهر. كدت انقطع عن الذهاب إلى البيت. لولا الجوع، وتناول الطعام. بل سجلت أيام غياب عدة، في المدرسة. قلبي تعلّق بالنافذة. نعم، لم أستطع التخلّص منها، ومن هذه الحالة، التي تلبّستني، في سن مبكِّرة.

ثم انطلقت ـ كالعادة ـ الإشاعات والاتهامات. فهدد والدي بالطرد من عمله. وحلت على رجلي سياط الجلد، من هذا الوالد البطّاش، الذي كانت ذراعه، مثل ذراع الجمل. يهوي عليَّ بخيزرانة ليّانة، ويصرخ بي:"إياك تفعلها ثانية. إياك تقف تحت النافذة. أو تلعب في الساحة. ستدمر حياتي يالعين. من أين سنعيش؟ ومن أين سنأكل؟".

والخلاّصة، أنَّ ماحلّ بي، من عذاب، أعادتي إلى رشدي، بل إلى مدرستي. فانصرفت إليها كليةً. بعد أن حرمت من النافذة والساحة معاً. لا أدري. هل كنتُ أدرك، باللاشعور، أن طريق الاجتهاد، سوف تصلني، في يوم من الأيام، بدرّة السليم؟

فانغمست بين كتبي، وعزفت  عن العالم.وصرت، وكأنني عابد، في صومعة، فنلت شهادتي الابتدائية، بدرجة ممتازة. وقدمت لي، على أثرها، مساعدة لأتابع دراستي، في كلية طب الأسنان. بعد تفوّقي في شهادة الدراسة الثانوية، فنسيت حياتي في القرية، وغاب عن نفسي كل ذلك الماضي الأول.

(5)

ـ "أعتقد أنني لم أعد أشعر، بألم، يادكتور منصور".

نغم صوتها العذب الرهيم رنَّ في أذني. التفت إلى الكرسي المتوهّج.

ابتسمت: "لقد أخذ المخدّر مفعوله، الآن".

بادلتني نظرة مشرقة، من عينيها الوطفاوين، ورمشت بأهدابها، فأقبلت عليها، ولكن الذي شغل فكري أكثر مشكلة أصابع يديها. ليس بماسها الكهربائي، وما يولّده من ارتعاشات. و….. بل، هل طرأت على هذه الأصابع إضافات أخرى؟..

الحمد لله، بانت لي أصابعها عارية. حين دقّقت النظر، فأَلحْت أمامها، بأصابعي، التي ما زالت عارية أيضاً. ونطقت، هذه المرة دون كلفة: "درّة… سأزور بيتكم مع والدتي".

بادرتني بابتسامة، وأطرقت نحو الأرض…

 

 

 

هذا الكتاب

مجموعة قصصية تتناول هموم الإنسان ومشاكله في عالم تضيق بالإنسان شواغل الحياة وتصعب موارد الرزق.

إضافة إلى المعاناة والفقر والحرمان والتجني، بأسلوب رشيق يعنى بالفكرة ويوصلها بشكل غير مباشر.

كل هذا في أدب راق وأفكار ناصعة خيرة واضحة في مؤازرتها الحق والإنسان والوطن، ذات أهداف نبيلة، ووعي واضح بمهام الأدب البناءة بما فيها من تأكيد على القيم والأخلاق الفاضلة.

 

أضيفت في 25/01/2009/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية