أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى

التعديل الأخير: 04/09/2022

دراسات ومقالات اجتماعية للكاتب: محمود خالد الحسامي

حلية التاريخ

سيرة الكاتب

لقراءة المقالات

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

ولد الكاتب والمفكر محمود خالد الحسامي في مدينة حمص بسورية عام 1920 من عائلة ميسورة الحال وتلقى تعليمه الابتدائي في كتاتيب المدينة وتابع دراسته في التجهيز الأولي إبان عهد الانتداب الفرنسي.

 

أتقن اللغة الفرنسية وأحبها, أغنت ثقافته دراسات لأدباء وكتاب ومفكرين وفلاسفة عرب وفرنسيين فقرأ لابن خلدون والجاحظ وحافظ إبراهيم والمنفلوطي وأحمد شوقي وقرأ لفلاسفة فرنسيين من أمثال فولتير وجان جاك روسو وأحب اللغات الأجنبية فاتبع دورات لتعلم الألمانية.

 

انطبعت حياته قبل زواجه عام 1949 بالفردية إذ كان يتوسط إخوته، شقيقه الأكبر نذير الحسامي الذي نال حظه من التعليم العالي وتخرج من كلية الحقوق بدمشق وتبوأ مناصب حكومية وكان مستشارا في وزارة المالية وكان أديبا وشاعرا مميزا ونشر العديد من الدواوين وشقيقيه الأصغرين عبد الواحد ومصون،  كثيرا ما كان يحمل كتابه لينفرد بذاته في مقاهي المدينة لينهل ويقرأ وهو يتأمل الناس لذلك أحب المجتمع مراقبا و فاحصا ومحللا.

 

عرف محمود الحسامي بين أوساط الثقافة في مدينة حمص ونشر العديد من المقالات ذات الطابع التربوي النقدي والتعليمي فكانت نفسه الثائرة على بعض تقاليد المجتمع وحرمانه من فرص التعليم العالي قد تركت بصماتها في كتاباته.

 

نشا محمود الحسامي في أسرة تحب الأدب وعاش بين أخوته متميزاً بعمق فكره وانفراده. ويمكننا تمييز ثلاث مراحل في حياة الكاتب:

- طفولة خاصة و حياة فردية نتيجة حساسية مفرطة.

- حياة مهنية طبعها وظيفة المربي و المعلم.

- مرحلة التقاعد و التأمل والمراجعة.

ولعل القارئ يكتشف المزيد عن حياة الكاتب من خلال الصور الاجتماعية التي رسمتها ريشته ورصد فيها طبائع البشر من منظور نقدي و أسلوب أدبي مميز.

 

صدر للكاتب مؤخرا سلسلة مقالات في ثلاثة كتب تحت عنوان -حلية التاريخ- اعتمدتها وزارة الثقافة السورية واستهل فيها الكاتب مقدمة تلقي الأضواء على حياته.

 

من حلية التاريخ اخترنا لكم هذه الصفحات التي ترصد طبائع المجتمع السوري عبر فترة تاريخية امتدت منذ عام 1965 وإلى الآن.

 

اقرأ المزيد عن إنتاج الكاتب إليكم عينات من مقالاته الفكرية والتربوية التي نشرها في كتابه حلية التاريخ وهو باكورة أعمال المؤلف خلال  حياته كمربي وكمفكر وأديب.

pdf - لقراءة الكتاب كاملاً بشكل

 

حلية التاريخ1 -2 -3

               لقراءة الكتاب تحتاج لبرنامج  Adobe Reader  اضغط على العنوان لشحن البرنامج مجانا

            (تستطيع اختيار اللغة والبرنامج الذي يتناسب مع جهازك في الموقع)

المقالات

يقين لا يقطعه الشك    أم الشهيد

لماذا أكتب وكيف    أغضبك مني 

 المتقاعدون    الأطفال رجال المستقبل

 حلية التاريخ1

لقاءان    عبء الكلمة اللغة العربية  جعلك محبوبا لا ترقى الإبتسامة    طفولة وشباب تطوير التعليم   ما الفائدة   مبروك
أبسط أمر وأعظمه  رجعت إلى السنين حيلة ولكنها دعابة القدرة على التمثيل
الذكريات والشباب    العام الجديد صحة في الشباب   لكل موضوع رأي الكبرى لليد العملة   لنكن أكثر لطفا حلية التاريخ2
أمسكت بالقلم    أسألك لماذا اسأل نفسك   أنا وصديق مجهول الطالب المتفوق   للإيمان في القلب الكنز المتواجد    يستقبح الناس
اعطاء أصحاب الاستحقاق دعك تذكر   بين يوم وآخر أم ونساء    يوم وليل معرفتي بالناس   حقك في الانزعاج
كتابات عديدة   الثورة جاحد الجميل  الوطن يكبر بأبناءه   اقرأ التاريخ   لقاء بين شخصيتن حلية التاريخ3
من مجتمع العمال  ضاق صدري أحببت تشرين  فليعش  تحية عربية ما كن أشك يوما  لا تغضب أخي العامل ورغبت في اللقاء  دعوة لأحياء الفن
اعتذاري لصديقي  موضوع إلى السيدة  العزاء  أردت لنفسي تحية   محبة الشعب  عيد الشبيبة العمل   اهتدوا بهديه  ساعة صفاء
رجل المستقبل  ايها القارئ عظام الرجال   الرمز والايحاء يكفيها همومها   أعطيك ضميرا حيا قال الأب  رجل أخرى  قدرات
مهران يوسف   حياة المذيعين توفيق حلاق  مروان صواف كيف يريدونني   وليد سرميني ليست مشكلة  ستديو26

الياس حبيب  إبراهيم القاسم

مع المذيعين   مروان زرزر

جوزيف عطية  عبد القادر اليوسفي

سياسة الغناء   عادل يازجي

مقالات مختارة من حلية التاريخ

المتقاعدون

 

المتقاعدون أعطوا في حياتهم وبإمكانهم الاستمرار في العطاء فماذا يعني ذلك؟ من المتقاعدين أفراد لهم أحفاد وقد يكون لهم أحفاد الأحفاد. فهؤلاء توزعوا لهذه المجموعة الكبيرة من أبناء زوجاتهم وأولاد وبنات أبنائهم وبناتهم. فإذا كانوا من الموسرين فقد تعيش العائلة الكبيرة من الثروة التي يملكها المتقاعد وليس هناك مشكلة في الأمر أما إذا لم يكن الأمر كذلك فإن انصراف المتقاعد من بيته أمراً محتماً عليه حيث لم يعتد على القبول به بهذا الشكل وهو يرى ويسمع ولا حيلة له فيما أرضاه أو لم يرضه ولا مناص له من أن يسمع ويرى طالما أن العين التي تعفى الضوء للرؤية هي في استمرار تتلقى المشاهدات التي كثيراً مالا تروقه لأنه في مثل سنه يخلد حتماً إلى الهدوء والسكينة ولا وجود لذلك في البيت الذي يضم المجموعة الكبيرة من السكان.

 

ذكرنا المتقاعدين الذين ليس في عملهم تجديد و إبداع، وليس في عملهم خبرات تعتمد على ذاكرتهم ومهارات تحتاج إلى الخلق والابتكار. إذن هم دائماً متعلقون بالمراجعين لتلبية طلبهم وليس تعلقهم إلا بوجود هؤلاء الناس ليسمعوا منهم ما يحتاجون ويروا فيهم ما يحرك نشاطهم لينسوا أعباء القلق الذي أحدثه انقطاع العمل وعقبات المصادر التي تساعد على العطاء.

فقسم من المتقاعدين يكون لهم مصدر انفراج آخر بعد التقاعد كالزراعة أو التجارة بحيث يشتغلون في زراعتهم وتجارتهم لاكتساب مردود جديد آخر غير تقاعدهم، ثم اكتساب فرجة لأنفسهم عما يحدث لهم في إقامتهم مجمدين عن العمل ويضطرهم الفراغ إلى الاستقرار في المنزل على طلبات زوجاتهم وأولادهم. وقد يستريحون من المطالب إلا أن البيت يضيق بهم فلا يرضى عنهم الزوج أو الولد وقد لا يرضى هو عن نفسه لأن يكون أداة مشاركة لهذه البلبلة من الضجيج والإزعاج فإذا كانت من الأطفال أو الزوجات فهذا طبيعي لأن حب الحركة للطفل وحب الهدوء

للكبير المسن.

كانت الوظيفة بالنسبة لهم عطاءً وأخذاً فمن تعلم على العطاء يصعب عليه الامتناع عن عطائه ومن تعلم على الأخذ فليس بإمكانه العطاء إذا كانت القدرات قد جمدت وإذا كانت الفرص قد انقطعت. فإذا كانوا ممن يعطون ولا ينقطعون عن العطاء فإن عليهم إن يروا الآخرين ليعطوهم ويسمعوا الآخرين لتحرك في نفسهم مادة العطاء من جديد إذا ما تعبت النفس في العطاء وأصبحت بحاجة إلى جدتها لتمد في العطاء. وإذا كانوا ممن لا تظهر في نفوسهم مادة الأخذ تعطيها مظاهر العطاء المزيف فإن أمرهم ينكشف بعد تقاعدهم فيصبحون ليس بإمكانهم الأخذ للإعطاء وليس بإمكانهم الإعطاء للاستمرار في الإعطاء.

إن مشاهدة دقيقة لهؤلاء المتقاعدين، نجد أن المرض الذي كان يعطي عجزهم قد توضح وأصبحوا بتتابع للأمراض وما هي إلا أيام معدودة حتى يغيبوا عن عائلتهم وأولادهم ووطنهم وهذا الحرمان يزيد بالعدد إلى أن نسمي تقاعدهم هو الفناء لهم وتقاعدهم هو الشلل الذي أصابهم بعد تسيير أمورهم وأمور عائلاتهم. إن مشاهدة أعمق لهؤلاء المتقاعدين نجد أن القدرات الموجودة لديهم هي في حبس عن الاستفادة للذين كانوا يتلقونها فإذا ما كان العدد كبيراً لهؤلاء فإن الخسارة تزيد والمفتقر لهذه المعلومات ينبغي له أن يقضي زمناً طويلاً ليستعيض عن فقد وعدم وجود ذلك المتقاعد الذي أصبح بعيداً عن مسرح المساعدة. إن مشاهدة أعمق وتطلعات أبعد لهؤلاء المتقاعدين الذين منحت لهم إمكانيات واسعة نجد أن العقوبة الكبيرة التي جاءتهم في جمودهم هي في تقدمهم بالسن وليس الدليل على هرمهم وعجزهم عن متابعة العمل والعطاء.

وأخيراً بقي علينا أن نتحدث عن المتقاعدين الذين أعطيت لهم هذه التسمية وهم لم يتقاعدوا في جدهم ونشاطهم وهؤلاء قلة قليلة إلا أننا ماذا نقول إذا كانت التغذية التي كانت تمد عقولهم قد تضاءلت والجهد العضلي الذي كان يمد نشاطهم بسبب الحركة قد أصبح في غنى عنه ولا داع إليه: فهل هؤلاء إلا خسارة للعطاءات التي لم تنقص إلا بسبب ما قصرنا عنهم من تغذية لعقولهم المبدعة ولإرادتهم الفاعلة ولإحساسهم النبيل؟!

 

 

الأطفال رجال المستقبل

 

الأطفال الذين سيكونون رجال المستقبل علينا أن نوليهم مثل هذه الرعاية والعناية التي بدأنا نلمس نتائجها في فرحتنا بهم يتمتعون بالذكاء الذي لم يكن من قبل؟ فالكبار الذين كانوا يشعرون بوجوب مثل هذه الرعاية التي فقدوها يوم أن كانوا صغاراً هم لا شك رجال ليتذكرون بالماضي القريب أو البعيد ويتمنون لو أعيدوا أطفالاً ليبنوا حياتهم من جديد على ضوء الرعاية المحببة التي إن جعلت منهم أبطالاً لو قيسوا بأبطال اليوم فلعلهم يقصرون بمقدرتهم على التضحية وعلى الإخلاص لحب

الوطن وبنائه.

وليس هذا يعني أن أبطال اليوم كانوا قد حرموا جميعاً في الماضي الرعاية التامة (التي حلت محل رعاية الدولة الجديدة) في تطلعاتها للأبناء والمستقبل فساعدت أولياءهم على النهوض بهم كما لو كانوا آباء آخرين لا يهمهم أن يقيموا الدليل على الفضل وإنما يهمهم إنقاذ العدد الكبير منهم في رفع شأن سويتهم من الصحة وسلامة الذوق والفكر والإرادة الحرة في تصرفاتهم. وما هؤلاء المشرفون على التوجيه إلا رجال آمنوا بفضل التربية والعناية بالطفل وكان منهم من ازداد تفوقه على غيره حتى أصبح قدوة لبني وطنه.

الأطفال يعيشون اليوم تحت ظل أهلهم فما يرون إلا الانتكاسة للرجوع إلى الماضي الذي يظلل أهلهم وقد كان القديم من ذكرياتهم في هوة عميقة للقيود التي كانوا يرزحون فيها، فمنهم من نجا منها بعض الشيء ومنهم لا يزال يعاني من هذا التاريخ الطويل وآخرون يرون البهجة الكبيرة التي ملأت نفوسهم تخلصاً مما لم يستطيعوا أن يحققوه لأن الزمن كان في غلبتهم ولأن الكثرة الكثيرة كانت ضدهم.

الأطفال اليوم إذا ضاقوا بفسحة البيت للعب والترويح فقد وجدوا في الحدائق الكثيرة مفرجاً لضيقتهم ويستمتعون بمشاهدة زملائهم ولعل واحداً منهم كان يوحي منظره وحديثه بمعاني الجد والاهتمام فينصرف بعدها إلى البيت ليأخذ دوره في التقليد وأهم ما يستطيع فعله القراءة في وقت الدرس والرياضة في وقت اللهو والإحساس الجميل بنمو الفكر وعضلات القلب والجسم.

الأطفال اليوم لا يسمحون لأنفسهم أن يضيقوا ذرعاً بالحديث الطويل الممل وإنما ينتقلون إلى مشاهدة الفرج التي أتاحت لهم الندوات التدريبية بمختلفها على صعيد الطلائع أو الشبيبة أو المسابقات فيلمع ذكاؤهم ويعفون عن الشره بالأكل والإكثار في النوم والإقلال من الاعتماد على النفس.

الأطفال اليوم يشعرون بعزة النفس عند أهلهم وفي مدارسهم وفي رياضاتهم المتنوعة فيقبلون على تناول الطعام بشهية وعلى الدرس بجدية وعلى النضال في سبيل الواجب بكل جرأة وشجاعة ولعل الزمن يسبقهم فلا بد لهم من إيجاد الحيلة للتخلص من الفقر إذا لزم بهم ومن الذل إذا أحاط أسرتهم ومن المرض قبل أن يفتك بهم.

 

 

لماذا أكتب وكيف !!

 

يسأل بعض الناس ما فائدة هذه الكتابة ولماذا تكتب ولمن وفي أي الأوقات !! والجواب على هذا السؤال يختلف من شخص لآخر بحسب مفهومه للكتابة وقيمتها المعنوية والجميع متفقون على شيء واحد هو وجود الفراغ وصرفه في الكتابة فأنا أقول إني أكتب أولاً لأحقق ميلاً كبيرا ًفي نفسي لم أستطع أن أحققه إلا في الكتابة وهذا الميل يعود في أصله إلى مسامعي التي تلتقط ما يمكن ادخاره في ذاكرتي لأنه يعمل شيئاً فهو ألمي وألمك وحاجتي وحاجتك وصوتي وصوتك لذلك أميل إلى الاكتفاء بما عندي من مدخرات لأفرغها في الكتابة حتى إذا ما جئت إلى نهايتها كانت مسامعي قد التقطت من جديد بعض ما يجب على حفظه لأعطيه طابع الأهمية بعد أن يكون صوتاً في الهواء ليس له صدى.

والشيء الثاني يعود إلى التقاط نظراتي لبعض الصور المستحسنة حيناً والمستهجنة حيناً آخر فأحدق بكلتيهما على أني مصور لها فتنطبع بذاكرتي هذه الصور التي يمحى أكثرها لعدم أهميته ومألوفه ويبقى الجديد المستجد الذي يكرر في كل مره بنفس الشكل واللون مع أكثر الناس ولذا فهو قديم جديد، وجديد مستجد ومع ذلك فليس القديم الجديد على أشكاله المختلفة ليأخذ في نفسي تلك الأهمية التي أخذها لولا انه متناقض بسيط الاختلاف ولكنه عظيم الشأن في ذلك الفارق البسيط.

والشيء الثالث يعود إلى نفسي وتأثيراتي حسب المناسبة التي جاءت بها الكتابة فمثلاً لا تمر مناسبة في ذكرى عيد من الأعياد ومناسبة في ذكرى حياة إنسان التقيت معه وكان بيني وبينه حديث ودي ثم ودعته إلى مقره الأخير إلى لقاء ربه ومناسبة أخرى عارضة تستوجب الأهمية والاعتبار، فإني لأشعر بعد هذه المناسبات وفي أوقاتها بدافع قوي يدفعني إلى الانطلاق من نفسي إلى الحديث فلا أجد أمامه إلا ملقى القلم والورق لأسطر الكلمات التي تجيش في نفسي أحس بعدها بكل الارتياح والاطمئنان وليس علي بعد ذلك أن تنشر هذه الكتابة أو لا تنشر لأني لم أؤلفها خصيصاً للنشر وإنما هي فيض من قلب احتبس صوته طويلاً وليس له إلا أن يكتب أو يتفجر.

الكتابة بحاجة إلى فراغ يستطيع الكاتب به أن يصفو لكتابته والفراغ موجود والحمد لله رغم أهمية الوقت عندي الذي أمليه بتمامه وبتمام الواجبات. بقي علي أن تتحرك في نفسي المشاعر المدفونة لتفيض على الورق بالأسطر المعروفة التي لا تتجاوز الصفحتين وقد أعرضها لأول قارئ ألقاه حتى إذا ما فرغ من قراءتها تمتم أو هز رأسه أو طال النظر بي أو سألني بعد ذلك ما هو الأجر الذي تحصل عليه لقاء انشغالك بهموم الناس وأحزانهم وأنت في شغل شاغل عن هذا الهم لما يحيط بك من هموم ومتاعب تكفيك وتذهب بكامل وقتك. أحب أن أسمع صوت الناس فيما يرونه كما أحب أن اسمع صوتي فيما أراه ولذا كان القارئ الأول هو القارئ الأخير لما أكتب وكان القارئ الأخير هو القارئ الأول لما أسمع وأصغي.

بقي علي أن أجيب على سؤال أخير لمن تكتب والجواب على هذا السؤال هو أني بتعبيري أورد الألفاظ التي يفهمها كل المثقفين ولكن معانيها وهي في الجملة وهي ضمن النص حتماً تعطي معاني أخرى كل من هؤلاء المثقفين يفهمها ويفسرها على حسب إحساسه وحاجته للموضوع والجميع متفقون أنها تكد الذهن وتتعب القارئ للتوصل إلى بعض حلولها ولكن واحداً منهم لم يتأكد من المناسبة التي كتبت من اجلها إلا إذا كانت صريحة واضحة.

وأخيراً فلأكتب ما أشاء فليس لي من ذلك قصد التسفيه وإنما لي قصد الهمة وليس لي قصد التهديم وإنما لي قصد الإصلاح الذي يوجب أحياناً معالجة الوضع الحاضر الأليم وليس لي قصد التشفي والانتقام وإنما لأصافح خصمي لأني لم أسيء إليه وإنما هي حركات واهتزازات من طابع عيني وطابع سمعي وسمعه لم يتآلفا وإنما افترقا.

 

 

أغضبك مني ترددي

 

أغضبك مني ترددي إليك في كل أسبوع مرة في زيارة قصيرة تأتي بعد مناسبة جميلة لأحمل إليك ما ينبغي علي حمله وأنت صحفي ولك جريدة وأنا مشاهد ومتطلع ولي قلم. أغضبك مني إحجامي عن التعاون معك في مهمتك التي خلقت من أجلها وهي الكتابة والإفصاح والتعبير عما يخالجك ويخالج بني وطنك من مشاعر وأحاسيس فننشر في جريدتك ما كانت تطويه القلوب من آلام وآمال.

أغضبك مني ثورتي على الباطل فتبدو هذه الثورة من خلال الأسطر التي يخطها القلم وفي هذه السطور ترتيل حزين لمشكلتك ومشكلتي ومشكلة الناس جميعاً على السواء فيفرح لها ويهتز طرباً من به حزن دفين لتكون أنت المحرك وليكون الناس هم أصحاب الأنين ولأكون الوسيط بينك وبينهم.

أغضبك مني اتساع مواضيعي وضيق صحيفتك في الوقت الذي ينبغي فيه أن تضيق هذه المواضيع لتتسع للأخرى. فأنت في حيرة من أمرك وتدبير مهمتك فتريد التوفيق بينها ولا يمكنك إلا أن ترضي أو تغضب فآثرت إغضاب إلهامك ووحيك لإرضاء وحي جيبك الذي يريد الامتلاء بعد التفريغ ليقوم بحاجات بيتك وأسرتك مما يتطلب من نفقات ومصروف.

أغضبك مني كل هذا أم بعضه أم شيء آخر لا أدريه وبإمكاني أن أستدل على الغامض من المعرفة بالمعلوم منها لأقوم بالتفسير بدلاً منك ولأرد عن الجواب بعد السؤال. أما ما يتعلق باتساع مواضيعي وضيق صحيفتك فهذا حق مصدق فقد ضيقت هذه المواضيع بحيث لا تتعدى عاموداً واحداً، وأما ما يتعلق بالكتابة في مواضيع عامة فقد جعلت كتاباتي تبتعد عن خصوصياتك بحيث يمكن للقارىء أن يستبعد أن تكون الكتابة لصاحبها ويكون صاحبها واضعاً لها.

وأما ما يتعلق بهيجان كلماتها فهذا شيء نحن بحاجة إليه إذا كان هذا الهيجان دافعاً إلى الأمام لا إلى الوراء وإلى التقدم لا إلى التأخر وإلى النشاط والحركة لا إلى الجمود والفتور. هذا هو ما أريد قوله بعد غضبك الشديد الذي بدا لي في كل شيء عند زيارتي القصيرة لمكتبكم. حتى إني رغبت في أن لا أعرف الطريق إليكم حتى لا يدلني على الاتجاه في هذا المنحى ورغبت أيضاً أن يوجد حاجز كبير يفصلني عن الوصول إليكم لا هو اصطناعي كما أقمتموه بل هو طبيعي حيث أنكم تقيمون مكتبكم على قمة جبل شاهق يطير الإنسان للوصول إليه لا بمركبة فضائية بل بمركبة سحرية ترى الناس ولا يرونها.

وعلى الرغم من غضبك وإغضابك فإنني قريب منك بعيد لأنني عارف سرهما الحقيقي وهو استعارتك للقلم الذي به تكتب بعد أن تعطل قلمك عنها وتخشى أن تصبح اليد التي تمسك بها القلم معطلة أيضاً فلا يمكنك بعدها أن تستعير قلم ويد.

 

 

يقين لا يقطعه الشك

 

عرفته صغيراً حتى كبر، وما أن شب وتعلم وأصبح ذا مسؤولية حتى استدعاه الموت ليكون شهيداً عزيزاً على أهله حبيباً إلى رفاقه، ترك فراغاً كبيراً لم يملؤه إلا حب الوطن له لأنه كان يعمل بصمت ويدعو إلى العمل بكل قوة لأخيه الذي لم يكن على نحوه من الجدية والالتزام فكان مثالاً للوفاء لأبيه الذي رحل من قبل أن ينهي دراسته ويستلم عمله.

كان مثالاً للرضا والطاعة لوالدته التي ما إن صدقت أنه صار طبيباً بفضل سهرها الدائم وجهدها المتواصل والمتواضع حتى كذبت نفسها أنها أم لكائن حي تعيش بفرحها وزهوها،وما التصديق بهذا الأمر الذي دام بضعة شهور إلا حلماً كذبه اليقين فيما بعد ليعلن عن موته وإذاعة النبأ بين أقرانه وزملائه وليفقد كرسيه في العمل ويبقى مستشفى المواساة بانتظار من يحل محله بعد أن خلا على غير رضا من

رؤسائه وأهله.

ذكرياتي معه كثيرة قليلة، حزينة مسرة، فمن هذه الذكريات الحزينة أن وقته لا يتسع إلا للعمل فإذا فرغ منه فإن الدراسة تلح عليه أن يكون مشغولاً وإذا ما انتهت الدراسة فإن الواجب الوطني يدعوه للانضمام إلى الدورات المتتابعة التي تقام خلال العطلة الصيفية وهكذا ينتهي العام ويبدأ عام آخر لا يتسنى لأبنائه أن يروا النور إلا بعد الدأب والكفاح.

إن هذه الذكريات الحزينة ليست لصاحبها إلا دفعاً للتقدم إلى الأمام والنجاح في العمل أما بالنسبة لي فهي تعني شيئاً آخر، إني لم أستطع أن أقدم له العون كما يجب وإن معرفته بالحياة والعمل كانت تدعو لأن يكون ممتناً مشكوراً وهو في كل ذلك يبتسم ولا يجد للصعوبة مكاناً.

كانت كلماته قليلة وهو يعرف جيداً قيمة المال في تيسير أموره عندما كان طالباً وفي العيد الذي كان يعقبه الامتحان الآخير للتخرج أحببت أن يكون التشجيع له ليس بالحث والقول وإنما بما تتطلبه فترة الامتحان من تعويض من بذل الجهود وذلك بمضاعفة المبلغ الذي كان يخصص له في كل عيد.

كنت قريباً له ومع ذلك كان يجد أن الشكر عاجزاً عن الوفاء بالتقدير في مثل ظرف يحتاج به إلى مثل هذه المعونة المتواضعة فكان شكره قبلة يطبعها على الخد ثم يودعني ليلبي حاجة رفاقه من المشاهدة والمقابلة والاصطحاب، وفي كتابه المقدم لنيل شهادة التخرج كانت من الكلمات المهداة كلمة صغيرة لخاله الذي خصه بها وسماها وترك التعميم لباقي أقربائه، وإني إذ أكتب هذه الكلمة بمناسبة ذكرى الأربعين لوفاته التي لم يبق لمرورها إلا بضعة أيام فإنني أدعي لوالدته بمزيد من الصبر

والمواساة والله الموفق.

لقد تخرج منذ سنتين بدرجة جيدة وتابع دراسته العليا في مستشفى المواساة ولقد استعد للامتحان في نهاية السنة الثانية لينتقل إلى السنة الأخيرة من دراسته غير أن المنية وافته قبل أن يدخل الامتحان بيومين وكانت وفاته غرقاً في البحر الهائج ولم أصدق الخبر إلا عندما قرأت ورقة النعي للانتقال به إلى مثواه الأخير. لقد كان منتسباً إلى صندوق النقابة ولا أدري ما ذا يترتب عليه من الحقوق لوالدته التي لا تملك شيئاً وتعوزها الحاجة.            

كتبت هذه الخاطرة في حينها يوم أن تجلى بافتخار هذا الحدث العلمي الهائل، إلا أني قد توقفت عن تصديرها للقراءة أو النشر لسبب لا أعلمه حتى أنا بنفسي، غير أنني أحببت في هذه الذكرى السابعة عشر للتصحيح أن تكون دليلاً على الأذن الصاغية في كل أمر حتى ولو كان الكلام من الجو إلى الأرض وبالعكس، فكما الأذن كما القلب والعين في حرص تام ولهفة لا توصف لمعرفة مدى التقدم الذي طرأ، ومدى القدرة على الوصول بهذا التقدم إلى وطننا الحبيب.

 

 

أم الشهيد

 

من الملاحظ أن اللقاءات التي يجريها " حماة الديار " مع أمهات وزوجات وأبناء وبنات الشهيد للاستطلاع والتعرف على معنوياتهم من خلال الحديث الذي يدور ضمن السؤال والجواب أنهم جميعاً متأهبين ليحتذوا حذو والدهم أو والدتهم أو إخوتهم الذين ذهبوا بأكملهم نتيجة البطولة والاستبسال في الدفاع عن الوطن الغالي، ولهذا ينشئون وهم على استعداد تام في القدرة التي تأتي من الصمود والمثابرة والجد والثقة بالنفس والتضحية، ولهذا فإن الصغير ينتظر ليكبر ويشتد ساعده ليصبح قادراً على القتال وفي الطريقة التي تؤهله ليكون منتصراً على عدوه، فما من طفل تسأله حماة الديار إلا ويجيب أنه في شوق ليصبح طياراً وجندياً مقاتلاً في المستقبل يحمل السلاح بيد والمعرفة والعلم باليد الأخرى.

فقد نما الطفل وهو يشب على حب التحليق في الجو كالنسر لينقض على اليد التي امتدت على أرضه وأهله من العدو، فالمبدأ ألا يخاف من الطائرة لأنه بالإمكان التحليق بها في أعالي الجو، والمبدأ أن يهبط منها بسلام إذا أراد أن يقف على الأرض، والمبدأ أن يعلو ويرى من الأعلى المسافات التي تقربه من المعتدي إذا حاول أن يقلل من شأن حقه ويستهين بكرامة صاحبه، فإذا قلنا أن الطفل في العاشرة من عمره يتسلى بصنع طائرة من الورق المقوى ثم بالانتقال منها إلى الدراسة التي أهلته ليقود الطائرة الحقيقية والارتفاع بها إلى للأعلى.

 فعلى الجيل الجديد يعتمد مستقبل الأمة وبهذا المقدار من التطلع إلى المستقبل البعيد منذ الطفولة تكون الأمة في حصن حصين من الاعتداءات التي تنتاب الوطن من غزو واحتلال نتيجة للطمع الذي يحصل من جراء الضعف، ولقد يذهب الموت بأحد الشباب وهو يستعد لمعركة الحياة فتبقى الأسرة متكاتفة أو يزداد تعاضدها لأن الشاب مات شهيداً وأسرته ملأ قلبها الاطمئنان، إن فقدانه كان كرامة وحباً من الكريم الذي وهب ليستبدل بعطاءات أخرى حتى لا يترك الراحل صدعاً يفوق الالتئام والأسى. وبهذا الاطمئنان أن الشهيد كان مفخرة لوطنه بعد مفخرة الأهل به تسكن النفس من القلق الذي أصابها و هي بعدها في بداية الطريق للمستقبل المزهر. فكما المقاتل مات شهيداً و هو يدافع عن وطنه كذلك المجاهد في سبيل حياة أسرته مات شهيداً و هو يصارع الموج الذي ذهب به إلى بعيد عن الشاطئ و لم يرجعه إلا بعد أن أغرقه و فاضت روحه. فإلى جميع الشهداء،شهداء الوطن إن كان في القتال أو في الغرق لهم أجمل تحية.

 

 

تطوير التعليم التفاتة كريمة

 

لا أقول شيئاً جديداً و السير إلى تطوير التعليم بجميع مراحله آخذ في الدراسة الشاملة ليتناسب مع التنمية، لا أقول شيئاً جديداً إلا أنني وجدت أن التقدم و التطور التقني والواقع الاجتماعي للقطر حث إلى الالتفات بجدية واستكمال الدراسات لتعديل المناهج وفق تطور سوريا الحديثة.

وأعتقد أنني كنت إحدى ضحايا هذه البرامج السابقة التي عنت بالقراءات النظرية وجعلت للذاكرة المدار الأول للنجاح بغض النظر عما تسببه ضعفها أو انشغالها بالتدقيق والتمحيص لما لم يكن واقعياً في حياة بعض الطلاب و يراد تلقينهم عن ظهر القلب دون الأخذ برسوخ الحفظ عن طريق المناقشة أو المحاكمة أو التعليل ولأضرب مثلاً على ذلك فأقول:

كنت وأنا صغير أقرأ التاريخ كمادة درسية للنجاح فأقول أولاً كنت لا أحتمل متابعة القراءة مما يدور في المعركة من قتال مات فيها العشرات و المئات و جرح مثل هذا العدد أو أكثر أو أقل، و هذا يعني أن للأحداث التاريخية وما تسببه من مشاعر الانتصار أو الفشل للقارئ لا يحتمل متابعتها مع هذا التأثير في نفسه إلا إذا كان الأمر يقتصر فقط على الذاكرة دون ازدياد العامل للشعور.

فإذا أخذنا على القارئ عدم متابعته و فهمه للنتائج بدليل المقدمات ليمحو من مشاعره هذا الانقباض الذي يحول بينه و بين القراءة فهذا لا يعني عدم حبه للتاريخ و إنما الإنسان الذي يريد أن يتمكن من التاريخ بمتابعته للقراءة يجب أن يستلهم معاني الخلاف والشقاق بين الأفراد و الدول وما يؤدي هذا التنابذ و تضارب المصالح من هجوم في القتال يعلنها القوي حرباً على الضعيف. كما يجب على القارئ ألا يشغل بحاضره في الحاجات الضرورية لتوزع انتباهه و فهمه و ذاكرته عما يحيط بالموضوع من ضرورات للتثبت والتمكن من حساب القياسات للأبعاد التي تدور عليها الأبحاث و المفاوضات بين المتجاورين من الأمم و المتضاربة مصالحهم.

إذن فلنعد هذا الإنسان أولاً لإعطائه القدرة على احتمال مثل هذه الصدمات كما نعد المادة التي يتطلبها الحفظ أن تكون أكثر جدوى و قرباً إلى واقعه الذي يعيش فيه فلا الحاضر القاسي في حياته ليقربه من الماضي الذي يعده للمستقبل الجيد. فإذا أخذنا مثلاً عن التاريخ فإننا نعني بذلك أسلوب التعايش مع الآخرين لجعل طريق التفاهم و السياسة أكثر سهولة و يسراً وذلك لتحقيق التعاون بالنسبة للفرد مع أسرته أولاً و مع أساتذته ثانياً ثم مع المحيط الذي يعيش فيه.

فإذا كان الأمر من الصعوبة بمكان بحيث لا نراعي إلا ترقيق الجانب العاطفي في الطفل خوفاً عليه من قسوة الطبيعة و من مجابهة ظلم الإنسان للإنسان فإن واقع الحياة ستربكه فيما بعد فلا الطبيعة لتعرف اللين ولا الإنسان ليعرف الإنصاف والرحمة، فالذاكرة مع الإحساس هما يصنعان الإدراك الذي هو كفيل أن لا يقوم بينه وبين المادة التي يقرؤها في التاريخ أية صعوبة فما بالك إذا كانت الكتابة فيه لا تستند إلى منطق صحيح وأسلوب سليم واختصار في طريقة العرض.

إذن إذا تعددت قرّاء التاريخ وحفظتها ولم نجد منهم من يستطيع أخذ العبر واستطلاع النتائج من المقدمة فهذا يعني عدم اهتمامنا بالقارئ الذي هو الإنسان فلنجعله أقوى فهماً وحساً ومحاكمة ولنجعل التطور التقني والواقع الاجتماعي للقطر حث إلى الالتفات بجدية واستكمال الدراسات لتعديل المناهج وفق تطور سوريا الحديثة. مادته أكثر تسخيراً للفهم بما يتطلب منه واقعه وحياة أمته ونهضة بلاده، ومن قراءة التاريخ ننطلق إلى الشخصية القوية التي يتطلبها الوطن فلا تنسى ما للحياة من قيمة إذا لم يتوفر فيهما التضحية والشجاعة وحب الوطن واحترام الإنسان لحقوق أخيه.

 

 

ما الفائدة

 

وأي فائدة تعني! لي أو لك أو للآخرين أم لنا جميعاً! فهل أنت مريض وداؤك عضال مستعص علاجه فإني أخشى أن يكون مرضك في الحماقة وداؤك في الجدال وعقمك البطالة؟ لقد ابتلي بهذه العلل كثيرون وسيبتلي به من بعدك أكثر فهل وجدت لهم فائدة من المداواة والتطبيب.

فهل أنت حزين وحزنك على فقدك أهلك وإخوانك وابتعادك عن أصدقائك وزملائك فإني أخشى أن يكون حزنك من مطمعك في الوصول إلى الجاه العريض والثراء المستفيض والأحلام الواهية، لقد ابتلي بهذه المطامع من كان عيشهم هنيئاً فعاد منغصاً فابتلوا بالإضافة إلى وساوسهم بمرض الخوف والقلق والحيرة والتردد فهل وجدت لهم فائدة وستوجد من المعالجة والتطبيب.

فما فائدة صحتك إذا لم تحافظ عليها في نظام أكلك ونومك فلا تتغذى ما يقوي جسمك ليفسد ضميرك فيكون غذاؤك امتلأ لمعدتك بالمشتهيات المتنوعة فلا تتورع عن الزيغان بالحق والتنحي منحى الباطل لسد واحدة من هذه المشتهيات تأتيك عن طريق ملتو ولا تتوصل بها عن طريق مستقيم فيكون بعدها نومك غير هادي فتنام بعدها

نوماً مضطرباً.

فما فائدة مرحك وسرورك بلقاء أهلك وأحبابك إذا لم تحافظ على المودة والوفاء فتستأثر بهذه المسرات دون أن تشاركهم حتى إذا عرضت لك حمل واحدة من الأمانات والمسؤوليات تنحيت جانباً بعيداً لتبقى أبداً في عزلة عن مساعدتهم وخدمتهم تنظر إليهم بعينك دون أن تبذل شيئاً من يدك وقلبك وعقلك في سبيل التعاون معهم.

إذا كنت تبغي الفائدة من المال فإنك تجده في ميدان العمل وإذا كنت تبغي الفائدة من المساعدة في حل مشاكلك وأحزانك فإنك تجدها في نفسك من الصبر والقناعة والإيمان والرضا بالمقسوم والتلذذ بالتضحية.

أما إذا كنت تبغي الفائدة لجسمك وصحتك فأرح قلبك بما يشغله مما ليس هو تحت طائل فلا تنظر بأكثر مما ترى فعينك ترى جميع الجوانب لكنها لا ترى جانب نفسك، وأخيراً إذا كنت تبغي الفائدة من أي شيء فأنت بعيد عنه كل البعد ما دامت الحماقة والجدل متلازمين معك بالإضافة إلى حبك للبطالة وكرهك للعمل.

 

 

مبروك وألف مبروك

 

مبروك وألف مبروك بعد أن حضر زوجك من غياب دام شهراً كاملاً، ومبروك وألف مبروك بعد أن عاد من غياب ثان في القرية ليصفي حساباته في المكان الذي انقطع عن حضوره ولم يعد له حاجة في البقاء فيه، ومبروك وألف مبروك عودتك إلى العمل بعد أن استكملت كافة البيانات المطلوبة والتي أخذت وقتاً ليس بالقصير. الحضور موجود فهل يكفي ذلك دون تأمين البيت للسكن وتجهيزه بالأساس الضروري لفرشه، إن ذلك تم على مراحل لو أنه بقيت حاجات لم تستكمل بعد وهي في طريقها إلى التجهيز.

مبروك وألف مبروك حيث أنت في دمشق تقيمين موظفة مع زوجك وأولادك الذين اختارهم الله لك على غاية من الجمال والذكاء والصحة تتمتعين برؤيتهم صباح مساء ولا يخفى ما لغياب أحدهما عنك من القلق والحزن العميق ما أثار الدهشة والاستغراب من الجميع، فالحق كل الحق أن يتغيب الطفل الرضيع عن أمه شهوراً بين أحضان عشاقه من الأهل ثم تستنكرين رعايته واغترابه ولا تعود إليك الهمة من بعيد أو قريب إلا بعد أن رأيته رؤية العين المجردة وقد كنت أنكرت كل قول خالطك الشك في صحته ولا استجبت لنداء أحد مما أكد لك أن الولد بخير ولا يبقى إلا أن تكونين أنت بخير أيضاً.

مبروك وألف مبروك إن جهودك في الاغتراب والصبر على البعاد جاء مثمراً وقد تحققه هذه الأماني فقد تعين لك حقاً من الحقوق التي كان الشك يساورك به وانضمت أسهم لك مع أسهم لزوجك في الملكية التي آلت إليكما بعدما ذرفتما الدموع والآلام صبراً على المشقات والكد الطويل.

مبروك وألف مبروك إني أهنئك بما آل إليه الحال من التفاهم وحسن الطوية بينكما، صحيح أن الخطوة الأولى هي صعبة غير أنها إذا ما تقدم الإنسان وخطاها فإن الخطوات اللاحقة تصبح سهلة يسيرة، وإذا بدت فيها الصعوبات فهذا يعني أن الخطوة الأولى لم تستكمل بعد.

إن حقك في الشكوى واضح أما الغموض الذي يكتنف عملك في الشكوى فهو واضح أيضاً ووضوحه لا يجيء من مطلب يريده لنفسه وإنما يجيء من مطلب يريد لك لتستكملي قوة الإرادة التي فقدتها يوم غاب طفلك عنك لوقت محدد ولم يعد لوجود أحد في البيت معنى غير معنى البكاء والألم على الراحل العائد، والعائد الذي تتجدد رحلته مع تقدم الأيام والسنين حسبما تقتضي الظروف. والشكوى الحقيقية التي أكتبها هو أن الحاضر الجميل يجب أن تتمتعي به بعيداً عن غياب أي حضور وهذا يتطلب مرونة وقدرة على انصهار النفس مع الواقع.

أضع هذه الشكوى مستقلة بك ولا يشترك بها زوجك، لقد بدا لي أنه يجب أن أصنع ما صنعه زوجك يوم وجد أن الكلام يجب توقفه وأن الحديث إدراكه سواء في ذلك ما خرج من نفسك أو من نفسه. مبروك وألف مبروك من إتمام كل ذلك بصورة تدريجية إلى أن يعود للكلام حسن نواياه وحسن استماعه فيما ينظر بعده.

 

 

لا ترقى الابتسامة إلى الضحكة

 

لا ترقى الابتسامة إلى الضحكة إلا إذا كان في الأمر العجب العجاب، ففي ابتسامات متكررة متبادلة بين الأصدقاء تتكون العظة في الصداقة التي فيها معنى التفاهم والتعاون والتعاطف. ففي الرؤساء العظام للدول تعني الابتسامة المطبوعة على الشفاه قبل اللقاء وفي الاستعداد له وحين المواجهة، أنها على أتم الاستعداد للترحيب بالزائر والمستقبل، فبينما الابتسامة الأولى في صدد اللقاء إذا بالابتسامة الثانية والثالثة والرابعة بعد كل اجتماع وفي أثنائه ثابتة لا تتغير بتغير الموقف والمقابلة مؤداة بكل

الاحترام والتقدير.

أما بصدد الضحكة فهي تعني أمراً آخر في موقف آخر ومقابلة واحدة لا تتعدى الحديث دون المرافقة والتجول، أما التفسير لهذه الضحكة التي تتبعها ضحكات وفي جانب واحد دون التبادل من الجانب الآخر بنفس الصدى والبشاشة التي تنطبع في الوجهين المتقابلين، هو أنها لقاء يتطلبه أصول المقابلة وفي الذكريات أو في المباحثات التي تدور حول قناعة واحدة لا ترقى إلى قناعة الجانب الثاني.

إن الابتسامة التي ترقى إلى الضحكة ليست هي الضحكات التي تهدأ لتهبط إلى الابتسامة ففي الأولى المتكررة التي يعقبها التأمل والإمعان والانتقال إلى النظر المحدق من الجانب الأقوى والاقتصار في كل موقف على الرضا والابتسامة اختلاف كبير في دلائلها عن الثانية التي نزلت لتصبح بشكلها الظاهر بعد أن ارتفعت لتكون ضحكة مدوية لا يرقى إليها اليقين إلا بعد أن تتعرف على صاحبها الذي غلبت عليه فكرة الضحك قبل الابتسامة ثم عادت إليه بعد أن تموجت لتصبح خافتة.

ولا شك بعد أن علمنا من هو صاحب هذه الابتسامة ومن هو صاحب هذه الضحكة فإننا نجد اختلافاً كبيراً بينهما في مبادئهما ومتطلباتهما فلا عجب أن تمنح الصداقة كل الصداقة لصاحب هذه الابتسامة  ونشيد به وبالتعاون معه في حب السلام وتحرر الشعوب. أما صاحب هذه الضحكات التي ينزع إليها الشك فإننا لا نمنحه الصداقة إلا بحذر وذلك بعد أن يتجرد من التحيز لربيته "إسرائيل" وفي نطاق الاعتراف بعودة الأرض المحتلة إلى أصحابها. كانت هذه الابتسامات في اللقاءات التي أعقبت المقابلة التي انبعثت منها الضحكات وكان الزمن بينهما فصولاً لا تتعدى العام. جرى ذلك عند زيارة الرئيس "السابق كارتر" ثم استقبال غوربا تشوف الرئيس الحالي لرئيسنا المناضل

 

طفولة وشباب

 

كان واحداً من أربعة اخوة في أسرة تضم ستة أفراد، كان يتقلب في نعيم عقله الذي وهبه الله إياه منذ طفولته على حال من الرضا والسرور لا يعاد له ذلك الإنسان الذي تقلب في نعيم الرخاء والرفاه.

لم يكن يرضى بما اعتاد عليه الناس من طراز للحياة والمعيشة لأنهم شوهوا معالمها بحيث جعلوها حلوة بعد مرارة وما كان ينبغي لهم هذا التعقيد وهي في ظاهره ليس من الضروري وضع الحجاب والغطاء ليكشفها من أراد لها الصيغة الحقيقية فيتعرض للبحث والفحص حتى يتوصل إلى مذاقها.

لقد كان يرضى بما قسمه الله له من نعيم كان يتذوقه لوحده فيجده في رؤيته لمسرح الحياة وهو بعيد عن التمثيل، كان يتفرج كأحد من الناس وكأنه يقوم بمشاركة الناس في مسراتهم وعواطفهم حتى إذا ظهر أنه واحد منهم أخفى وجوده وتنحى جانب الصمت ليتطلع إلى نوع جديد من مسارح الحياة يسر به عينه ويرضي سمعه.

كان هذا حاله منذ صغره لا يعرف معنى الأشياء ولكنه يعرف اتجاهاتها بحيث تكون لهواً وميلاً واعتياداً فيها معنى السرور لنتيجة الربح والنصر وفيها معنى المقت لنتيجة الخسارة والفشل فيحدق بعينه ليرى الرابح والمنتصر يزهو ويتبختر والفاشل والخاسر ينكمش على نفسه ليعاود اللعب من جديد والاشتراك في العملية حتى يرتفع اسمه ولقبه.

لم يكن بائساً معذباً في حياته ومعاشه حتى ينقطع إلى التفكير بما يتلهى به رفاقه ولكنه كان يجد أنهم بائسون معذبون بما كانوا يصرفونه من الوقت في الضياع حيث لا فائدة منه لعقولهم وأرواحهم ولو كان فيه بعض الفائدة لأجسامهم بما يقومون به من حركات ورياضة تذهب عنهم السأم والملل.

كان وهو صغير بين أهله يتمرد على نظام معيشتهم لا لأنها مفتقرة إلى نوع جديد من الطعام واللباس والمسكن ولكن لأنها مفتقرة إلى نوع جديد من العاطفة أحس بها دون إخوته جميعاً ورآها في القلة من الناس ولم يجدها صادقة تماماً إلا في النادر منهم. كانت هذه العاطفة هي عاطفة المحبة وترك الأنانية والاستئثار والتوقف بالرضا إلى ما وصلت إليه الأيدي دون التوصل إلى ما عجزت عنه من الوصول.

كان يتمتع بنعيم عقله منذ صغره فيهزأ وكان عليه أن يكون مثل غيره فيبدي إعجاباً ولو كان من خارج عقله ونفسه، كان يرى امتداد الأنانية في نفوس أصحابها طريقاً إلى الغوص عن أسبابها التي دفعتهم إلى الحرص عليها والنجاح في مضمارها فيحزن ثم لا يلبث أن يفرح لأن الله حماه منها وجعله ناظراً لها لا مشتركاً.

شب هذا الطفل وشبت معه الحاجة إلى فقدان هذه العاطفة وقد كانت مكشوفة يغوص عليها ليجدها بين أصحابها غير أنه أصبح يغوص عليها في الأعماق ليجدها في زوايا النفوس التي أرادت الحياة ولكن الموت سبقها فأسرعت تستنجد لتجد من يواسيها على مصابها وفي كل مرة تصطدم وفي كل اصطدام تتكسر صخرة من صخرات هذه الأنانية في هوة الأعماق ليحل محلها أمل مشرق محوط بالأشواك

الدنيا غير الدنيا إذا عاد رجل اليوم وطفل الأمس إلى ابتسامته المألوفة ولكنها في رضا وأخذ دوره في الحياة بعد ان كان متفرجاً وبدأ يشع من وحي قلبه وشعره ما كان قد سمعه وعرفه من قبل بمجرد وعيه ووجد في ذلك متسعاً لأنه كان يتدايق وهو في إنفراج أما اليوم فهو منفرج ولو أنه في تضايق وانفراجه وتضايقه كما كان دائماً في نعيم عقله وتفكيره.

إنه إنسان حقيقي ليس متمثلاً في الأذهان والمفاهيم وإن حياته واقعية كما وصفت ليست تنظيماً وإبداعاً إنه يعيش في ظل المحبة والمشاركة والمساواة على أساس المبادلة بالعاطفة وتكافؤ القوى وتوحيد المشاعر.

 

 

اللغة العربية حاجة ملحة

 

اللغة العربية حاجة ملحة لا يستغني المتكلم بها عن دراسة قواعدها وأساليب بلاغتها وحفظ مفرداتها إرضاء لضرورات الحياة والفهم الصحيح، ولا أدل على ذلك من أن المفهوم الكامل للتعبير عما يتطلبه التعامل مع الأفراد والتعايش مع الآخرين بالإضافة إلى ما تستوعبه الذاكرة من المعلومات التي ينبغي شرحها والتوصل إلى إفهامها لكي يتمكن المستفيد من دراسته إعطاء الصورة السليمة لما ينبغي أن يقوله وما يحس به لكي تكون الكلمة والجملة قد أعطت حقها من إنصاف القارئ

والمتحدث والمستمع.

فهناك تعابير لا يستطيع إيضاحها إلا إذا وضحت في الذهن ولا تتوضح إلا إذا أمكن فهمها ولا يتم ذلك إلا إذا كانت مفرداتها يسهل التمييز فيها بين كل استعمال وآخر فقد تؤدى الجملة بصيغ متنوعة وعليه أن يتفهم ما لهذه الصيغة من معنى لا تتمتع به الصيغة الأخرى فإذا كانت الجملة أداة تعبير عن التركيز الذي أمكن تثبيته في الفهم فإن ذلك لا يتطلب فقط ما كانت عليه مفرداتها من تركيب لغوي وإنما يتطلب ألا تحد هذه المفردات كيلا تكون عائقاً عند الاستعمال، فإذا ما خلا ذهنه من الإتيان بذات الكلمة ليؤدي ذات الغرض فإنه يتوقف عن المتابعة والانطلاق بالحديث ليكمل المراد الذي قصده من ورود تلك المعاني التي يمكن أن يفقدها الافتقار إلى المفردات الدالة عليها.

هل يستطيع الفهم الكامل للقراءة في النص أن يتم بدون الوصول إلى حفظ مجموعة من المفردات تكون ضرورية لاستعمالها في إعادة النص المقروء

والكلام المسموع؟! هل يستطيع السمع أن يكون أداة للفهم إذا لم تكن الكلمات التي تنتقل إلى ذهن السامع وهي معبرة عن المعنى الذي قصد ـ مسجلة في ذاكرته فلا تخضع إلا إلى ربطها لكي تتسلسل عند الإلقاء وتسلسل المفردات أكبر معين إلى عدم فقدان شيء من المعاني الذي قصده المتكلم عند الإلقاء والذي تترجم إلى المنقول له وعنه كي يكف عن طلب التكرار ثانية وثالثة وبذلك فقد يكون حاسماً للموقف ولم يتعرض بالتالي إلى أي إزعاج بسبب سوء الفهم وضعف التعبير.

كيف يمكن أن ترتسم المعاني بأكملها إذا لم يكن لها قالب لفظي؟! وكيف يمكن أن تتابع الألفاظ إذا لم تستعن بالذاكرة التي تجمع هذه المعاني فتتحرك بالكلمة التي تتلوها الأخرى وبهذا الارتسام للمعاني والمفردات نكون قد أوسعنا الفهم لها فتخرج الكلمة بدون عناء ولا ارتباك ولا وقوع.

يفتقر الدارس باللغة الأجنبية إلى القدرة على الشرح بلغته العربية لأن معلوماته جاءت بغير اللغة التي سهل عليه فهمها ومعرفتها فإذا ما انقضت مدة دون أن يجد المقابل لها من لغته ظلت هذه المعلومات حبيسة تعلمه باللغة الأجنبية التي لم يعد قادراً على متابعة القراءة فيها وما يكفي من الاستماع لها لا يكون جديراً باسترجاع ذاكرته ففي ظل المفردات الأجنبية تنحصر معلوماته وهي تضيق يوماً بعد يوم ما لم يتركز فهمها بلغته الأقوى وهي العربية فالفهم لا يكون إلى الكتابة من خلال النظر أبداً إلا باللغة التي تعلمها منذ طفولته وبمقدار قوته بلغته يكون فهمه للغة الأجنبية قوياً وإذا كانت تنقصه قواعدها وبلاغتها فلابد أن يكون النقص ظاهراً فيما تعلمه من اللغة الأجنبية ولا يمكن لعربي أن يفهم باللغة الأجنبية دون أن يكون المفهوم الذي أثبته في ذهنه عربياً ليصار إلى إدراكه باللغة الأجنبية التي تعلمها.

إذن ما كانت اللغة إلا حاجة ماسة للفهم الصحيح وإذا أردنا دراسة مادة علمية فعلينا أن نستعين بقوة لغتنا لتكون المادة سهلة طيعة لفهمنا وحتى يصير التركيز بها سهلاً أيضاً. فاللغة ضرورة ماسة للتعبير عن عواطفنا وشعورنا وللتعبير عن حاجاتنا والمشاركة مع الآخرين في مفاهيمهم فإذا ما أردنا ضبط التعبير بدقة كانت دراسة اللغة سبيلاً للتوصل إلى هذا الانضباط فليست ضبط اللغة مقتصرة على مدرسي مادة اللغة العربية وإنما ينبغي ألا يتخلى دارسو الاختصاصات الأخرى عن مثل هذه العناية والاهتمام لأنها السبيل إلى نقل المعلومات نقلاً صحيحاً دقيقاً.

 

 

إن الذي جعلك محبوباً

 

إن الذي جعلك محبوباً عندي هو الذي جعلني أصفك وجعلك تنقاد حقاً إلى الترجمة السيئة ينقلها الضاحك منك والعابث بأمانة القارئ فكيف يجتمع ما أريده لك من خير وما تسمعه من وصف لا يرضيك وكيف تريدني أن أرى الأشياء والأشخاص وكأنها منفصلة عن صانعها وما هي الطريقة التي تجعلك واعياً للكلام وأنت في

زحمة من هواجسك؟

إن ذكر الشيء ليدل على العين البصيرة التي تراه وأن إمساك اللسان عنه ليدل أيضاً على انشغالها عما تراه ولو مدحتك دائماً لكنت ترى نفسك الإنسان الذي لا يخطئ ولو تعرضت حيناً لبعض المساوئ فإنني ولا شك أضعك في مرتبة الإنسان لتصل إلى سمو الملائكة أقل شيء يوصف به الإنسان ولا يرضى عنه هو الفوضى وأعظم تقدير يمنح له ولا يهتم به هو "التنظيم" فما تذكر الفوضى إلا ليأتي بعدها التنظيم، وليس في التنظيم قولاً إلا إذا كان فيه شيء جديد مبدع يتخطى حدود المعقول، فأنت من أي الناس تريد أن تكون وأنا من أيهم أقف معك؟

إذا كان الوصف جميلاً بحقك فهل يصل علم ذلك إليك وتصدقني وأنت تعرف حقيقة نفسك وإذا كان الوصف سيئاً فكن متأكداً أنه لو أريد به إرادة لذاته لما وصل علمه إليك فهل تريدني أن تكون الكراهية في نفسي لك وإنك لا تفارقني وإني أراك صباح مساء وإننا للكلام ملازمان.

إن الذي أراد لك هذه الترجمة السيئة إنسان كان يعلم أنه صانع خير لك وأنه أراد أن يوحي بمعرفة بباطن الأمور بالدلالة على إعجابه بنفسه ولو أنه صالح لك كل الصلاح لما جعلك تثور في وقت تحتاج فيه إلى الراحة ولكان استمع إلى كاتب هذه الكلمات ليدرك سراً من ورائها قد غاب عنه، فللكاتب الحق بان يجعل كلماته حيناً تدور في دوران الذم وهي بقصد المدح وقرينته من ذلك صدقه للرواية وإنصافه للحق وجعل اللوم عليه داعياً للإشفاق بدلاً من الحساب العسير.

إن الذي أراد لك ذلك كان من حقه أن يكون أميناً على ما أؤتمن له وقد ادعى لنفسه الأمانة لك في حسن التفسير والمغزى أفما كان أولى به حفظه للوصية التي فرط بها ادعاءاً منه وزعماً أن الحق يحق أن يجهر به وأن الباطل من الضروري البوح به.

إنني أردت بكل ذلك تنبهك إلى أشياء تجري تحت سمعك وبصرك ومن هذه الأشياء تحديد الصلاحية وعدم تجاوزها سواء لك أو لغيرك فليست صلاحيتك أن تحمل أعباء ومسؤوليات ما أنت به غير مكفل على قدرة منك باستعدادك لكل هذه الواجبات كما ليس من صلاحيات غيرك أن يكون كل شيء وهو في عمله ومهنته محدود المهمة.

لقد سمعت منك قول الحق فهو يلفظ في باطن نفسك وسمعت منك قول الباطل فهو يلفظ في ظاهرها ولقد يصرخ الحق من باطنك حيناً لتسمعه الآذان أما باطلك فيجري على لسانك وكأنه دعابة لم يرد لذاته وإنما أريد للحق الذي يختنق في أعماق نفسك.

إن الذي جعلك محبوباً عندي هو ارتباكك بحيث يدل على زحمة الأعمال وهل لمرتبك كثرت لديه الأمور إلا أن يحتار فيها فلا يستكمل نقصها إلا بعد فوات وإذا جدت إليه وازدحمت فعليه أن يأخذ بكل منها على طرف ثم ينتقل بعدها إلى الطرف الثاني والثالث لنأتي إلى النهاية.

لك من ترجمانك أذن واعية وليكن من موضوعها أيضاً لسان يقرأ فإذا ما صدقك الترجمان كذبك اللسان وإذا ما كذبك اللسان جعلت ما بينك وبين الترجمان حبلاً طويلاً إذا وصله قطعته وإذا تركه على حاله عدت به إلى وضعه الحقيقي من الطول فلا يستطيع أن يمد به وصله ولا يستطيع أن يقفز عليه ليلعب لعبة الساخر.

 

 

لقاءان

 

كثيرة هي الموضوعات التي تناولتها من المشاهدات المرئية الناطقة والمسموعة، ولقد جنيت منها حساً اجتماعياً وأدبياً وفنياً وقومياً عالي الوصف، غير أن الصحة لا تسمح لهذا لأن كل هذه الأحاسيس تدخل إلى النفس ولا تجد لها مخرجاً إلا البشاشة التي تتلقاها من الذات وعبر الذات، أما التفاعل فلا يزيد عن الاهتزاز الذي يولده حب الحياة وهو يدعو إلى الجهر ولا ينقص عن الألم الذي تبعثه حدة المشاعر الطيبة وهي بحاجة إلى البرهان الذي يدعمه الدليل.

لقد كتبت هذه المواضيع بمناسباتها ويكفي أن تخرج من القلب ليضطلع عليها من بيدهم القلم والورق، ولا أدري الصدى التي تتركه في نفوسهم بعد قراءتها، ولقد أبقيت موضوعاً أخذته من المشاهدة فقط دون الاضطلاع عليه والصورة هي التي تتكلم كما هي العادة، غير أني رأيت مشهداً آخر مناقضاً تماماً للمشهد الذي سبقه وهما يدلان على المواقف التي يتطلب فيها الكلام أو الصمت أو الابتسام المتبادل وفي اللقاء الثاني له من المعاني أكثر ما تدل عليه الكلمات.

فاللقاء الأول أعد له اجتماعاً للتباحث وحل المشكلات، كان الجانب الأول الذي استقبل الجانب الثاني أقوى من الفولاذ في مثل الصلابة للمصلحة التي ألزمته أن يكون على رأسها ممثلاً وقائداً و رئيساً لا يلين جانبه إلا للحق ولا يؤخذ من قناته إلا مصلحة وطنه وبلاده وأمته.

لم أكن لأدري تماماً من صاحب هذه الشخصية غير أني أدركت بالإحساس أنها فرنسية وذلك من خلال ملامحها التي برزت مثل وجوه الفرنسيين، وأما الشخصية الأولى فقد ملأت قلبنا وعقلنا وحسنا إيماناً وروحاً ومحبة فلا مجال للتعريف بها لأنها شغلت العالم كله بثبات إرادتها ومواقفها على ما انطوت من إخلاص وتضحيات وحب وتقدير فارتفع بها الشعب الذي جاء منه وأصبح يعرف باسمه.

ليس هناك مجال لانتزاع القول فلربما هذا القول ما يعاكس الهدف الذي التقيا من أجله، فهل في موضع المواقف الشديدة ما يستجر إلى الكلام بغير طائل وإلى الابتسام بغير دليل التعاون والبهجة، إذن لا بد للوافد أن يرى غير ما يرضيه ولكن عليه قبل أن يفد أن يخرج باقتناعات كاملة أن الثورة ليس لها معنى النجاح إلا إذا كان قائدها أعطى لشعبه مثل هذا الصمود والتفاني بحب بلاده.

المحاولات كثيرة لزعزعة الصمود فهل كان أولها إلا مثل آخرها وهل يفهم ما معنى الصمود، إنها إرادة قوية متجددة تضاء باستمرار وتغذى بالمحبة التي انصرفت إلى الشعور بالوطن والشعب ونسيت ما لاقته وتلاقيه من عناءات لا تنقطع، فثورة آذار كما يدل عليها اسمها هي ربيع للعمر وللأرض وللشباب.

وإذا كان ربيع العمر يولي كما يولي ربيع الشباب فإنها تختلف بأن الربيع يبقى في العين يحفظه شباب الأجيال في كل وقت. واللقاء الثاني يتميز بالكلام والابتسامة المحببة، فإذا ما درسنا طبيعة هذا اللقاء وجدناه بصفة غير رسمية بينما اللقاء الأول يتطلب موقفاً حاسماً وحازماً فهل يدل ذلك على التعرف بدقة لموقف سوريا من اتفاقية كامب ديفد الذي وقعها الرئيس السابق كارتر مع السادات بعد أن مضى عليها ما يقارب السنوات العشر؟!

 

 

ورزحت تحت عبء الكلمة

 

ورزحت تحت عبء الكلمة ومن كل نظرة وفي كل حركة تولد المعاني التي تتسع وتضيق لتجعلها تتطابق مع مدلول الكلمة وتحت تأثير النظرة وفي سلطان الحركة.ولقد اجتهد أن تكون النظرات التي من نوع واحد لمدلول واحد من الرغبات. ولقد أستعين على إدراك هذا الأمر بالتأكيد من ذات الحركات وبنتيجة التطابق لا بد لي من ملاحظة النظرة الثانية ومتابعة الحركة التالية فإذا اجتمعتا لنفس التشابه بين ما أعرفه عنهما وبين ما أدركه من النظر خرجت بنتيجة ابتدائية بسيطة تتعقد شيئاً فشيئاً لأسمع الصوت الذي يحكي والذاكرة التي تحفظ والمنطق الذي يميز والذكاء الذي ينطبع عليه الفرد. وما أن انتهي من هذا كله حتى أربط نفسي بماضي عرفته وحاضر موجود فيه ومستقبل يأتي به الزمن ليحول النظرة إلى انقطاع أو متابعة والحركة إلى اهتمام أو إهمال والصوت إلى انبعاث من الشفة أو القلب أو العقل أو هو منها جميعاً.

ورزحت تحت عبء الكلمة فمنها أريد شيئاً أو أشياء أو لا أريد البتة وليس الشيء الذي أريده لنوع واحد أو لأنواع وكل ما في الأمر أني أريد المطابقة والتحقيق من ذات نفسي ولها ومعرفة ما إذا كان صحيحاً ما توقعته ومضبوطاً ما سميته وشاملاً ما استخرجته وذلك بالدلائل الحسية المجردة. فكأني أريد أن أربط بين الذكاء وما عليه النظرة والحركة وكأني أريد أن أتبين هذا الذكاء لأجعله يتصل بنظرة صاحبه وحركته وكأني لا أدرك ذلك الذكاء وأجعله وقفاً على التشبيه والتقليد إلا بعد أن أسمع ما يقول صوته وتعنيه كلماته وكأني أخيراً أقوم بعملية حذف أو ضم وطرح وتقسيم ليبقى الشيء على ما هو عليه والمعقد على بساطته لأقول لنفسي إنها وقعت ورزحت تحت عبء الكلمة وما هي كل شيء وإنما الشيء الحقيقي هو تأثير نفسي على ما أشاهده وما لم أشاهده وهذا التأثير هو من الأسف على وجود شيء لم يكن ووجد على الرغم منه وكان من قبل أن يكون.

 

 

أبسط أمر وأعظمه

 

أبسط أمر وأعظمه أن تطلب إلى زوجتك الكتابة إلى والدك في الوقت الذي لا يمكنها أن تمسك بالقلم وتخط سطراً واحداً لا لشيء سوى أنها تمتنع عن الموضوع وتعارض ذلك أشد المعارضة، وفي ذلك أكبر دليل على أن الكتابة لا تخرج إلا عن القلب والعقل وفيها امتحان كبير لهذين الأمرين.

إني واثق أن الكتابة من زوجتك لا تعني شيئاً تافهاً فهي تعرف أهمية الكتابة والتعبير عما في النفس في الوقت الذي تشعر فيه كل الانقباض لا من الكتابة تحفظ بل بذكر والدك فتسمع صوتك ولا تغضب أو يبدأ غضبها في الهياج.

إني ألح في هذا الأمر لأني متأكد أنك لا تستطيع البت بموضوع ما دون عرض الموضوع أمام زوجتك فهي توافق أو لا توافق غير أن عدم رضاها يثير مشكلة لك كبيرة. إني أعتبرك نصف إنسان والذي يكملك هو زوجتك ولذلك لا أجد في الرسائل التي تكتبها إلا قلماً يربح وما أكثر الكلمات وأقل الأفعال.

لا تغضب من الحقيقة وقد حرصت كل الحرص ألا نكون مثل هذا الوضع غير أن الذي يرسخه في شخصك هو أن زوجتك على حق ووالدك على باطل ولذلك تجد انصياعاً لقولها ورجوعاً عن قولك.

ماذا صنع لها والدك حتى تتفحص مثل هذه الشخصية في تصرفاتها أحبته وليس والدك إلا جزءاً من هذه المحبة التي تدعي أنها أعطتها لك وفي الحقيقة أنها لم تعطي لك إلا ما يثور غضبك فتهدأ وعندما تهدأ لا تجد شيئاً من عطائها لك سوى أنك زوجها ووالد طفليها وفي ذلك إسكات لك وتدعيم لها.

وما يضرني أن تكتب أو لا تكتب غير أن في كتابتها رجوع عن المفاهيم الخاطئة التي بنتها ومن العسير العدول عنها والرجوع فيوم آمنت بكذا من الفهم عن أبيك دعمت هذه الفكرة كنت على يقين أن هذا الفهم لا يخرج عن فهمك وشتان بين براءتها وبراءتك تجاه والدك الذي لا تعرفه إلا بعد أن تزوجتك فهل كانت معرفتك بأبيك من التاريخ والزمن والأخذ والعطاء.

 

 

رجعت إلى السنين البعيدة

 

رجعت إلى السنين البعيدة يوم كنت طالباً ألمح من بعد ما يروق لي وما لا يروق وليس البعد مسافة في المكان ولا في الزمان فالمكان واحد وهو المدرسة والزمان واحد وهو الجيل الذي نتعايش فيه مع الإخوان والأحباب.

كان ذلك إلى عهد بعيد أحب فيه أن أكون متعلماً لا عالماً أحب المجتهدين وأصغي إلى حديثهم وكلامهم، كان العلم في أثناء ذلك يحظى بالاهتمام الذي يتميز به الفرد عن شبيهه الذي يعجب بالمطالع الذي يستمر في القراءة وينتقل بقراءته من كتاب لآخر ولا سيما إذا كان الكتاب باللغة الأجنبية وقارؤه قد انتهى منه في فترة لا تزيد عن ثلاثة أيام وبكل شوق ولهفة.

كان هذا القارئ الطالب المتفوق منذ طفولته وحتى اليوم وقد شاب وأصبح من الرجال الذين أعدتهم الحياة ليكونوا علماً بارزاً في الرأي والتأليف والترجمة والأخذ بتطلعاتهم إلى المستقبل البعيد في شؤون وطنهم وأمتهم.

إن هذا المخلوق القادر على بذل الكثير من معلوماته في إفادة الجيل الجديد هو اليوم أمامي وعلى شاشة التلفزيون يُسأل ويُجيب وذلك في لمحة موجزة من كتبه ولو أن الوقت قصير والسؤال يتطلب الكثير من دقته إلا أن المؤلف استطاع أن يحتوي المقصود والهدف وإن النتيجة: لماذا تخلف العرب عن الغرب وما هي الأسباب التي حدا بهم إلى ذلك رغم التراث الأصيل لهم في المجد والنصر والسيادة، ما هي العناصر التي كونتهم لو تخلوا عن بعضها لاستطاعوا أن يعودوا بالمجد الذي أفل والنصر الذي سبقهم والسيادة التي لم تعد بحوزتهم.

لقد عوّل المؤلف على الآراء الكثيرة التي قيلت بصدد هذا الموضوع وخاصة في كتب الغرب ومن هذه الآراء الأنانية التي أحكمت أطرافها فقيدت ذكاءهم بما جعلتهم يتأخرون وهم السباقون والمقلدون وهم المبدعون والمفكرون والفلاسفة.

من يكن هذا القارئ والكاتب والمؤلف والمتحدث والصورة التي إن غابت عن عيني زمناً طويلاً فإنها لن تغيب بسبب ما كان لها من هدوء في الشباب وصمت مع الرفاق وابتسامة مع المتكلمين.

إنه الأستاذ عبد الله عبد الدايم الذي أفاد منه المجتمع العربي بما شغل من مناصب وألحق به من مهمات كل ذلك زاده اطلاعاً وقدرة على الحديث والتحدث بما طلب منه الكلام. إن في شبابه لغزاً يجعلني أبحث عنه لأستهدي بمواهبه عن شخصيته.

لقد كانا رفيقين متلازمين فترة وجودهما في التحصيل الثانوي ولقد تفوقا وأبدعا في دراستهما واطلاعهما، فأما الأول فقد فقدناه لأمد بعيد ولكن كتبه ومؤلفاته وآثاره تجعلنا نحيا به من جديد كما أنه لم يمت ولا شك أنهما تقاربا في القراءة والدراسة والتحصيل والشهادة والاختصاص.

والسؤال الذي أطرحه الآن هو أن الأول يقرأ الكتاب المراد مطالعته وتلخيصه ودراسته ليعطيه لرفيقه وصديقه فتكون المبادرة منه والمتقدم أم أن القارئ الحقيقي هو الثاني فيفيده بالمعلومات الواردة من الكتاب فيشجعه على مطالعته فيكون المقتدي ويكون السابق هو الهادي والمهتدي.

إن ذكراه ليحيا عندما تعلم أن المحاضر سيلقى محاضرته في قاعة سامي الدروبي بحمص فتعود صورته أمامك وهي التي كانت إلى جانب رفيقتها "عبد الله عبد الدايم" تلازمه بالمباحثة والتحليل والاصطحاب في الرواح والمجيء.

هما اثنان يحيا في قلبي بمحبتهما الزائدة للعلم والتعليم والبذل والعطاء في مضمارهما فما أخذته من أحدهما من بديع القول وجمال الفكرة كنت أمعن النظر لأراه في الثاني وقد تبينت ذلك لأني رأيت الواحد منهما يتكلم ويصغي الآخر لقوله والبحث وتبادل الرأي كان يجري بكل هدوء ومودة.

 

 

حيلة ولكنها دعابة

 

حيلة ولكنها دعابة وإساءة ولكنها مهارة، أخطاء النظر في قياس الأبعاد وأخطاء الإدراك في قياس الحجوم حقيقة لا يمكن تسميتها بالحيلة وكذلك الحد من رغبة الإنسان فيما يراه بسيطاً وأمراً سهلاً بالنسبة لذاته وبالعكس بالنسبة لغيره حقيقة لا يمكن تسميتها بالإساءة وإنما جئت بهذا كله لأتخلص من أمر كان يبدو صعباً عسيراً علي ولكنه سهل على غيري.

هذا الأمر هو التجزئة والتقسيم لشيء تام بذاته فليجزئ منه غير صاحبه فهذا الكل ليس هو مأكولاً قابلاً للانقسام وليس هو مادي يمسك ويحس بل هو معنوي مُشِعٌ من النفس وإليها. لقد جاء هذا الموضوع كاملاً إلى من أودع أمانته ولقد جاء الموضوع في إحساس عميق يشع من تحرك العاطفة وانبعاث الضمير وهيجان الفؤاد ولقد بعثت به إلى من وَثقتُ به ليضعه في تصرفه، إنه لم يسئ إليّ في احتفاظه وعدم الإفصاح عنه ليقرأ في الجريدة ويعلم به كل مطالع لها.

إن حاجة الورق لأصحاب الجريدة تمنعهم عن الترخص والسهولة بالنشر لكل موضوع ليس لهم منه نفع وكذلك ما يلزمُ إليهم إلزاماً يمنعهم مما يعطى إليهم حشواً ورغبة هذا من جهة ومن جهة أخرى فإني رأيت أمراً آخر غريباً إنني وضعت التصرف لمن يحسن القيام به وقد وضعت أمر هذا التصرف النشر وعدمه والكلية أو التجزئة إلى أخي العزيز رئيس التحرير بكاملها، لذلك أحببت بعدها مداعبته بأخطاء النظر والإدراك لعله عرف المقصد أو لم يعرف غيره.

أنني أبوح له الآن بهذا السر وبسر آخر هو معرفتي بكل ما يحيط به من صعوبات فهو حيناً ناشر وحيناً منقح وحيناً مختصر وحيناً مطنب وأخيراً يجمع بين رغبة القراء في استخراج الموضوع ورغبتهم في الانصراف عنه وبعد هذا كله يجمع بين قبضة الماء وقبضة النار وهما أمران مستحيلان ومران، إنني يا أخي أرسل حكيماً ولا أوصه أسمع بأذني ضربات المطرقة فيهتز لها فؤادي وأحس بنفسي بآلام الصمت فيعود قلمي إلى الكتابة، إني أحببت أصوات المذيعين لأن لها في قلبي إذاعة خاصة وأحببت إذاعة قلبي لأن فيها خطوطاً تسطر وأحرفاً ترسم ونوراً يهدي الحائرين من أبناء أمتي ووطني.

 

 

القدرة على التمثيل

 

إلى متى والقدرة على التمثيل به وليس الأمر سهلاً لمن اعتاد إساءة الفهم والتطبيق فيصف الجمال وهو ليس بأديب ولا شاعر ولم يتذوق الجمال بعينه وحسه وقلبه وذاكرته. وإذا تكلم في وصف الحرب فهل ذاكرته تمده بأبطال الحرب وشعرائهم في التاريخ كعنترة مثلاً فلقد جرب القتال وخاض المعارك وشهد الانتصار وغامر بحبه فلم يصعب عليه المبارزة للنيل من خصمه ثأراً لمحبوبته.

فأبطال القتال قبل أن يأخذوا هذا الألم عليهم أن ينعموا بمعنى المجد والشرف والكرامة ولا بد لهم أن يمارسوا التقشف إذا لزم الأمر ولا بد لهم أن يشتد عودهم وتقوى إرادتهم ولا بد لهم أن يجدوا العزة في أنفسهم وفي ذرهم وأن يرفضوا الامتهان للحقوق التي تسلبهم مبدأ الحرية والنضال في الوصول إلى حقهم.

إذن يجب أن يعتادوا منذ صغرهم وطفولتهم على الحياة التي تؤهلهم لذلك فالطفل الذي يشكو من مرض على أهله أن يعالجوا مداواته لإزالة العلة فيه فقد تكون العلة في جسمه وهذه العلة قد يكون منشأها الحالة النفسية التي عليها فلا بد له من جو للتغيير والجو الذي يعيشه الطفل فقط في أسرته تكون ناقصة غير مدعومة بأسباب الاحتمال للأذى الذي يصيبه من جاره إذا طغا ومن أهوائه إذا اشتطت ومن نزعاته في الأنانية وحب التملك.

إذن يجب أن يخرج إلى المجتمع ليعيش فيه أسبوعاً تحت إشراف منظمة اسمها الطلائع واسمها التدريب واسمها محبة الآخرين، ولو أتيحت له الفرصة على ممارسة جميع أنواع الرياضة لوجد في كل نوع منها مؤهلاتكم على كل صعوبة قد يجدها في المستقبل وهذا التدريب يعود بالنفع لأنه يستطيع أن يحتمل أعباء غيره من حيث النهوض بمسؤولياته تجاههم فإذا ما شب على هذه الأخلاق والطبائع كان الحرب له مبدأ لمقاومة الرذيلة والأخلاق بالفضيلة ومحاربة الجهل.

إذن الشعور بالمحبة يدفعه إلى أن يهتم بمحبة أهله ورفاقه ثم تسمو هذه المحبة للانتقال بها إلى محبة الوطن والبلد الذي ولد فيه وترعرع، ثم تنمو هذه النزعة لتصبح دستوراً له في الدفاع والنضال عن حرية الوطن إذا ظلم وغبن وهو في هذه المفاهيم جميعها يتعلم قيمة الحق والقانون وقيمة النظام وتطبيقه وقيمة الحاجات الأساسية للإنسان في نمو جسمه وعقله وروحه ونفسه.

ليس العذاب في الصبر على المشقات إلا للراحة لإزالة الصعوبات فليست الأمور كما نراها قد جاءت عقيدة بدون نضال ولا تعاون ولتأخذ مثلاً على ذلك فليس العلم إلا ثمرة جهاد وليس توفر الفداء إلا ثمرة من ثمرات النضال، وليست السياسة إلا إحكام هذه المعارف والتجاوب بينها وبين الأشخاص الذين تتعايش معهم ذلك لتكبر الأرض وتتوسع الأسرة وتزدهر الحياة مع تطور الزمن ومتطلبات العصر.

 

 

الجزء الثاني

 

الكبرى لليد العاملة

 

عادت اليد العاملة إلى قيمتها التي أفقدها الزمن مجدها الذي يجب أن تتبوأه وبذلك تغيرت العقول فهلا تغيرت النفوس التي عاشت زمناً طويلاً على حب الراحة فما وجدت في العمل لذةً وسروراً. وإذا كان الزمن قد ضاق بهذه النفوس أن تعمل فهل تدوم الراحة لها بعد أن أصبح الإنتاج والجهد هما المقياس الوحيد لرقي مثل هذه النفوس وتقدمها.

إلا أن المشكلة ليست في العودة لأن تحب العمل بعد أن استغنت عنه وليس في أن تجد بالعطاء بعد أن امتنعت طويلاً ولكن في أنها هرمت وشاخت فما بنيت لتقوى وما قويت لأن تتغذى من قوتها فكان بناء قوتها صورة هيكلية سرعان ما تهدمت وكانت قوتها ليست نابعة من عطاءاتها وإنما مما أخذت واسترخت فلم يكن لها حصناً تحتمي به ولم يكن لها ملجأ يحميها من عصف الزمن وزعزعة الأعاصير.

عادت اليد العاملة لتسيطر على جميع القوى وبذلك تغلبت على العلم الذي يبدو في القول لا في العمل وفي النظر لا في الحركة وفي الإحساس لا في الصمود والمثابرة والإتقان. فإذا كان الإنتاج في توفير الغذاء فقد يتطلب ذلك كد الفلاح في العناية بأرضه يفلحها ويسقيها ويبذرها، وإذا كان الإنتاج في توفير اللباس فقد يتطلب ذلك العودة إلى الصناعة التي مارسها العامل منذ طفولته فقوي جسمه واشتد ساعده وأخذ الصبر منه والجهد أكثر ساعات نهاره وإذا كان الإنتاج في إشادة المسكن فقد يتطلب ذلك قوى لا يقدر عليها إلا من عاناها وأخذت طاقاتها تقوى في جسمه وروحه يوماً بعد يوم.

أما علوم العصر الحديث التي جاءت بها الحضارة لتستغني عن اليد العاملة بالآلة فقد وضعت ليكون التصرف بفضلها في دقة ووعي فإذا استخدم الإنسان الطائرة واسطة للنقل بقصد السرعة فهذا يعني أن عليه معرفة الوقت وقيمته فلا يهدره عبثاً بعد أن وفرت له العقول القوية كسباً لم يعرفه من قبل. فإذا لم يعد بالإمكان للإنسان أن يسير على قدمه إذا أراد السير وهذا يعني أن قوة قدمه قد أصبحت في محرك الطائرة أو السيارة أو الدراجة فكان عليه ألا ينسى إيجاد الجو الحر السليم لطائرته من الاعتداء والطريق الفسيح المعبد لسيارته والسرعة المحددة لدراجته وهذا يتطلب منه حماية الطائرة وصيانتها وإيجاد قطع التبديل لها بل قل إنتاجها بعد الاستغناء عن استيرادها. إذن لقد ارتفعت قيمة العمل والعامل وأصبحت الحاجة ماسة فتصدر المكان الأول ولم يبق لعامل إلا التقدير على الجهد والعطاء لاستمرار الحيوية والنشاط.

عادت اليد العاملة إلى مجدها وبنت العقول الجبارة فهل بالإمكان أن تهمل النفوس التي لم تأل جهداً في الحصول على مثل هذه القوى التي لم يسعفها الزمن أن تحصل فبقيت عاجزة عن استبقاء مثل هذا الجهد فلم تستطع أن تتبدل إلا أنها هرمت وشاخت وليس عليها من لوم إلا أنها لم تحظ بالمعارف التي كان يجب أن تتلقاها وهذه المعارف كانت ومازالت حماية لها من الضياع والنسيان.

 

 

لنكن أكثر لطفاً

 

للمرأة دورها الفعال في حياة الفرد فهي التي تصنع منه بطلاً بحنانها التي تعطيه بمقدار، وبشدتها التي تقسو دون شطط، فللرجولة ضابط من الخلق المتين يسري في لحمه ودمه وخبرة من المعارف تحيط بإدراكه وذاكرته وانطلاق رحب في ميدان العمل والتسابق في فوزه. فالشهامة والمروءة لا ينام عنها من كان في دافع إلى التضحية وبذل الجهد فليس هناك مجال للتردد والتمهل وليس إقدامه وشجاعته بانتظار ما يسمعه من قول وإنما بتدبير ما حققه من عمل.

يولد الطفل البطل ويرى أمام عينيه المخلوق الحنون المحب الذي هو الأم إنه يكبر ويشب على ما تلقاه من رعاية وحنان بحبها وعطفها ولا بد لهذه الرعاية من قدرة على الأخذ بما يجب حتى يبقى الطفل الشاب وقد اقتبس ما سيطر عليه جوه البعيد عن الكسل بعد الاجتهاد وليس اجتهاده عن جهد مضن وليس كسله عن استراحة مملة. أما علاقته بأفراد أسرته فهي مقتصرة على الاهتمام بما له وعليه من الحقوق والواجبات ويردها إلى الاتزان فيما يراه من قدرة الأم على التفهم لمشاكل الطفل ونزعاته فتبعده عن الجو المحموم ليستقر في نظام الطمأنينة والمحبة.

إن المرأة التي أصبحت أماً للبطل الطفل هي أيضاً زوجاً للبطل السابق الذي هو أبوه انتقاها زوجة وأماً بعدما أمل جميع المؤهلات للمحافظة على بطولته ولتكون مصنعاً لأبطال يولدون سوف يقدر أو لا يقدر لهم الزمن تحقيق هذه البطولة.

أما بطولة الزوج فهي أيضاً من صنع المرأة التي هي أمه كفلته أن يكون فخراً واعتزازاً فحافظت على أخلاقه من الوقوع في الانحراف وعدم المقاومة. إن اهتمام الرجل باتخاذ شريكة له يحسن اصطفاءها ولا تكون سبيل عثرة في تقدمه لمن الأمور التي تكلل فوزه ونجاحه في عمله، إن اعتماده على نفسه يحد من انخداعه واغتراره بالمرأة التي اقتصر جمالها على المظهر، إن اعتماده على نفسه لا يدع سحر اللفظ ومفاتن الجسم تهويان به إلى حيث يسقط ٍعن عرش بطولته لينغمس في

اللذائذ والمشتهيات.

إن افتتان الرجل بالمرأة دون النظر إلى ما يترتب عنه من انقياد نظره وسوق فكره لهو الدليل على عدم مقاومته شيطان الهوى في نفسه وقد يكون هذا الافتتان سائقاً إلى تعلق قلبه بهواها فيموت الهوى بعد الزواج ويظل عنصر الخلق واللطافة والوداعة والمحبة هي السائدة.

إن افتتان الرجل بهذا النوع من المخلوق الغادر المخادع لهو نوع من الظمأ الشديد للجمال واللطافة اللذين افتقدهما في حياته وكانا ضروريين للشعور بهما بالراحة والطمأنينة. إن افتتان الرجل بأنواع الجمال كان معناه عدم قدرة هذا الجمال (وجمال الرجل هو الإخلاص والصدق) على الدخول في قلبه ليأنس به ويسعد. إن من دواعي اللطافة هو جعلنا نعتمد على أنفسنا في محبة المرأة فلا سبيل إلى التصرف في المعاملات تصرفاً شاذاً يبعدنا عن جو العدالة واللباقة.

 

 

صحة في الشباب

 

صحة في الشباب لا يضمن لها المرض في الهرم، وكرم في المال لا يحفظ له التقتير في الفقر، وعافية في الدنيا تؤول إلى ذوبان في الآخرة، فمن أين نأتي بالشباب بعد الهرم وبالصحة بعد السقم، وبالمال بعد غيابه!! العلم والتعلم زينة الشباب في حفظ جماله، فهل تكون الصحة في رعاية الشباب إذا لم يزينها هذا الجمال، القوة والمجد تصحب الشباب ما دامت التربية سليمة، فهل يستمر الإدراك إذا لم تزينها تغذية مستمرة للعقول والأجسام والأخلاق والمبادئ.

يكون للشباب غفلته مع عنفوان الإرادة والهمة، فأين تأتي صحوته من هذه الغفلة إذا لم يشعر بأن للقوة زوالان إذا لم يحافظ عليها بالتجديد والثبات، فإذا تجددت هذه القوة فهذا يعني حفظ التوازن بين مقدرات الكسب والخسارة، ففي حب الوطن حب للأهل الذين أنعموا على شبابه بحفظ التراث الضخم من الأرض والعمران، فليست الأرض إلا المجال للسكن وتكاثر النسل، فإذا كانت واسعة فإن خيراتها يعيش عليها أبناؤها ولا بد لهؤلاء الأبناء من تعلم تاريخ أجدادهم ولا ينسون أنهم أبطال حفظوا الأرض من الدمار وحموها من الاعتداء وأقاموا عليها صرح الحضارات.

يكون للشباب علمه وتعلمه، ففي مدارس البطولة أول ما يتعلمون القدرة على الصبر في غير تذمر، والقدرة على الحماية في غير صلف، والقدرة على محاربة الشهوات في سبيل حماية النفس من الخضوع للأهواء.

فإذا ما أصاب البلاد جوراً واعتداءً فإننا ننادي بالأبطال ليتقدموا معلنين الحرب ولا استسلام، وإذا ما أصاب البلاد فقراً فإننا ننادي بأبطال الإنتاج أن يزيدوا في مقدراتهم وعطاءاتهم، وإذا ما أصاب البلاد مرضاً فإننا ننادي بالأطباء على أنواعهم ليداووا العلل، فإذا كانت العلة في الجسم فلا تعدم الأمة مختصون، وإذا كانت العلة في الراحة والكسل فإن طول الإقامة وعدم التدريب والرياضة ليهددان الوباء؛ فليس للشيوخ والكبار إلا نجدة أبطال الصراع، فإن كان من ماضي أذهب بقوة الشباب فإنه من حاضر حفظ للشباب المفقود جماله ومجده، فإذا تعلل الشيوخ بالصحة فإن الصحة لا تعيد لهم دوران الزمن ليعودوا من جديد كما كانوا أول العمر وإنما يجدون الشباب المتجدد فيهم من عزيمة أحفادهم في المحافظة على قيم اللغة والوطن والأصالة والعروبة.

 

 

لكل موضوع رأي

 

جرت العادة أن يكون لكل موضوع رأي عند بعضهم يدعو إلى اليأس والخذلان إن هذه المطالعة الشخصية تعبر تعبيراً أكيداً عن نفوسهم وهويتهم، لقد كان للمعرفة والتجربة أثرها الكبير في مثل ما يبدونه من ملاحظات واجتهادات إلا أن الرغبة الصادقة في تسوية الأمور كما هي تختلف اختلافاً كبيراً من قضية لأخرى لا يصح معها القياس بل لها حكماً جديداً وأسلوباً خاصاً، إن طابع التقليد في إبداء الرأي ليعبر تعبيراً عن عدم التفهم الذي معه ينبغي إجراء منطق قوي ونفوذ عميق إلى الإحساس بالعرض الذي تقدم به الطالب ليكون المعروض أجدى وأحق بالقول أو الصمت والاهتمام أو عدمه.

ما أكثر العلماء في المادة حينما تكون بحاجة فقط إلى وجهات النظر لكنها إذا ما احتاجت إلى عمل وإرادة وخبرة فإن هؤلاء العلماء يقفون جامدين عن نشاطهم لأن حركتهم ناتجة عن استعدادهم لما هم ليسوا فيه. ومن هنا ينتج أن قدرتهم في بذل الطاقات الفعلية محدودة جداً لا تعدو عملهم الرتيب الذي يتحدد في إطار خاص لا يحتاج معه إلى قوة الملاحظة أو الاطمئنان إلى ما يصدرونه من قول.

إن التجارب التي قاموا بها هي من تلقاء أنفسهم قد نقشت في قلوبهم وأدمغتهم وهي تماماً خاصة وفردية، ولذلك تراهم يطلقون الأحكام بالنسبة لما شاهدوه وسمعوه من قبل من وحي معرفتهم، إن معرفتهم لم يدخلها شيء من تحديد الزمن والمكان والأشخاص وإن معرفتهم بالأمور الأخرى لتبدو واحدة في حلها وإن اجتهادهم ليختص بعوامل التمييز بين فئتين من الناس أولى  استطالت ولم يعد لها غالب وثانية ضمرت ولم يعد لها مغلوب  فإذا رجعت بهم إلى أنفسهم رأيت أن تهديمهم للقيم جاءت من فشل الحوادث التي لم يسعفهم الأمل والإشراق في نظرتهم إلى إنجاحها كما أن ضيق أنفسهم لم يتسع إلى الأمل من جديد لتبديل وجهات النظر وصبها في قالب مفرح. لا جديد للناس تحت سمعهم ونظرهم وكلهم يدور في فلك واحد هو أنه قوي غالب أو ضعيف مغلوب.

 

الذكريات والشباب

 

الذكريات متى تتعمق في النفس، ما هو السر في الشباب والكهولة؟.

لا شيء يطبع الذكريات بطابعها القوي إلا إذا جاءت وكانت الأحداث تتوالى بطابعها العادي فبالطفولة لا يكون الألم محزاً في النفس والقلب إلا إذا كان الألم يشغل جميع الحواس وكانت الفترة الزمنية لهذا الألم طويلة بحيث أنه أصاب النظر الذي فقد متعة الرؤية والوضوح كأن يكون الإنسان متلهفاً لمشاهدة ما يسمعه وما يتلمسه ويتحسسه، فالصوت الذي يدوي إلى جانبه لا بد وأن يكون معبراً عن طلب أو حاجة فإذا استمر هذا الصوت يدخل إلى الأعماق فإن العقل بقي مشغولاً لإدراك فحواه فهذا الانشغال الذي يأخذ مداه كلما تجددت الحاجة لمعرفة قائلة وتبيان صاحبه هو الذي يستقطب الاهتمام فيعود إليه في زمنه الذي مضى ولا يزال يتكرر فتتجدد الحاجة إلى المعرفة ويتجدد معها الاهتمام وبين المعرفة والاهتمام والزمن يضيع عمل الذاكرة ولا يضيع عمل النسيان.

إذن للفكر دور كبير في تجديد الأحداث فتنمو معها المسافة إذا نمت الذاكرة التي تقطع ارتباط التذكر بالفراغ الذي عاش مع صاحبه وهو لا يعاني إلا مشكلة الأمر الذي لم يتمكن بالوصول إليه إلا من جراء الشعور الطويل المستلهم باللهفة التي كانت عنده والتي لم تكن لو أن النظر كان طبيعياً وليس بحاجة إلى الاستعانة بالمحسوس الملموس المستمد تعرفه من الصوت الذي كان ينادي دائماً.

السر في هذه الذكريات هو ما يكون للسر في الشباب الذي يُغَيّب فيضيع معه الاستغراق في الحدث وعندها يكمن في التعرف إلى حدث جديد يفيد صاحبه في محو آثار ذكراه القديم، فليس للقديم صفة الجمود الذي يكون للكهل لأن القديم استجد والجديد تطور والزمن بينهما لا يفصله إلا نمو العضلات والجسم ونمو الذاكرة والمعرفة فالحاجات الملحة التي يبقى عندها المرء حتى يحصل عليها هي ليست في الفراغ الذي ينتظرها وإنما هي في تعاقب الزمن وتجدد الحياة وتطور الحركة فالشاب لا يرتأي إلا بعد أن عمل واستدعى العمل حاجة الرأي أما الكهل فإنه يرتأي قبل وبعد العمل فتطول مدة لهفته إلى إتقان العمل وانتظامه حتى بعد أن ينجزه ولو كان بتمام الإتقان والانتظام لأن اللهفة عنده حينئذ هي تقديره للجهد الذي بذله وهو يريد أن يتقنه، وتقديره للنتائج التي حصل عليها ولم تكن في الحسبان.

 

 

العام الجديد

 

تدور الأيام لنودع عاماً ونستقبل عاماً وهناك من يستبق الأحداث فيضيع الحاضر من أجل المستقبل، وهناك من لا ينظر إلى الأحداث أنها حقيقة واقعة فيتفاجأ بها فيجد نفسه في غفلة عنها لم يعد لها شيئاً ولم يتخذ من الحيطة والحذر ما يدفع عنه شرها إذا كانت في دائرة النكبات، وخيرها ليستقبلها  بكل فرح وبهجة بغض النظر عن اللهفة والانبهار.

العام الماضي مرَّ فأغفل بعضنا واجبه نحو الفرح الذي يجب أن يكون ونحو الألم الذي أصابنا شره ولم يتعظ بعضنا الآخر بالألم الأقوى والأشد حيث أن درجته ليست على المقياس الذي يجب ألا نغضب في هبوطه وأن لا نطمئن إلى ارتفاعه لأن الألم لا يقف عند حد وخاصة إذا كانت الأيام قد قدرته في حسابها ولم تعبأ للمخلوق الحي من عجزه عن احتماله.

العام الماضي ليس هو في تحديد أيامه وشهوره عند النفس التي أخذت تحسب الأيام للمستقبل البعيد وخاصة بحساب الأجيال المتلاحقة والتي هي الآن في عمر البراعم المتفتحة، فإذا ما كانت الأيام لتقسو فيه قسوة أزاحت من الطفل أمه ومن الأم ابنها ومن الأسرة عميدها وركنها فالعام الجديد لا يأتي إلا بذكرى لهذا الحنين المتولد مع الأيام فتدمع العين أسى وحزناً والنفس لا تزال تتعلل بالآمال المشرقة للمستقبل فلا تفيض بعد ذلك إلا بالاطمئنان على ما أخذه القدر وما سيرينا منه باستفاضة من الصبر وهدوء النفس.

ليس من مات فاستراح وليس من عاش فاستراح وإنما الميت بين الأحياء حيث لم يفز بمرتبة الشهداء في موته ولا بمرتبة الأمجاد في عيشه، إننا نعد العام في الشهور والأيام وقليل جداً من يعده في الدقائق والثواني فهل نسي أحدنا أن الدقيقة الواحدة يلد فيها ملايين المخلوقات لتتجدد وتنمو وتعيش وأن الدقيقة الواحدة أيضاً يموت فيها الملايين من المخلوقات في غصة من شربة ماء أو وقفة في نبض دقات قلب هذا إذا لم يأت الموت من المخلوق الذي قصد لنا الشر عن سابق تصميم ويقين وقد يأتي شره من الاستعجال الذي أراد له أن يكون خيراً فجاء بشر.

العام الجديد أيقظ كثيراً من الغافلين ليستيقظوا وحث كثيراً من المبطئين ليسرعوا وحدد للمجد النشيط قيمة النشاط والجدية في العمل والأمل على قدرة اليقظة والجد والنشاط.

 

 

الكنز المتواجد

 

وقال الحب كلمته في الشعر والأدب فدوت في القاعة أبيات، واجتمع فن الشعر وروعة الموسيقا وجمال التصوير ممثلة بأشخاصها في جو هادئ صامت يزخر بالهاوين والهاويات ليستمعوا إلى الشاعر الشاب ممدوح عدوان يلقي بعضاً من قصائده وإلى الرسام ممدوح قشلان يعرض جانباً من التربية الفنية ويتكلم عن الموهوبين وحاجتهم إلى التفرغ وإلى الدكتور سمير ضاهر عن الموسيقار (شوبان) في ألحانه ومقطوعاته.

ولا بد لي بعدما قرأت اسم الشاعر ممدوح أكثر من مرة وبرزت صورته في الجرائد والمجلات أن أقف قليلاً عنده بعدما رأيت طلعته وهو ينشد أبياتاً من شعره وشعوره. لقد شعر فغرد فأطرب ولقد آلمه حزن قومه وشعبه وخسارة وطنه وأرضه فراح يبكي بغير دموع ويرعد ويدوي بدون أن يكون له صوت المدفع وإحراق قذائفه، لقد أضاء شمعة في دروب الحق فاحترقت القلوب قبل أن يصل ضياؤها إلى نفوس المعذبين ممن آلمهم أن يجتمع عذاب الحرمان والجوع بعذاب الحنين والشوق فكان الأول يهب بصاحبه ليرى الجنود المدافعين عن الوطن ويسمعهم  صراخه أما الثاني فكان يتصعد الحسرات ليذوب في ظل الابتسامة الوديعة الساحرة التي خلقت منه إنساناً ساهما في خياله.

ولا بد لي كذلك أن أترك الشعر لتعود الموسيقا تصدح في زوايا النفس بالأنغام المطربة الشجية فإذا أصداء الموسيقا تترك للأحزان سبيلها إلى الاسترسال فتستسلم لتمام الهدوء المتبقي في النفوس من إطلاقة وتغريد الشاعر وترقد مع الموسيقار الباكي والمبكي والطروب المطرب. وما أن ينتهي ممدوح الشاعر والممدوح الثاني لنشاطه وجهده المتواصل في تقديم الندوات حتى يبدأ ممدوح الرسام ليترك الصورة الصامتة تترجم عما فيها من تعبير لتدل على وحيها للرسام ما أبدعته يده وصنعته ليجعل من هذه الصورة ذكرى حية لا تفنى وهي أكثر بقاءً وأدل إعجاباً على جمال الصنعة وتقدير المشهد لمبدعه وخلاقه.

إن إتاحة الفرصة للموهوبين في تقديم لوحاتهم الفنية وعرضها لمما يصل بالجمهور إلى اكتشاف بعض الميول عندها فتقلد أو تبتكر ولكنها على كل حال بحاجة إلى بداية صحيحة وليس الحكم ينطلق من هنا بل على الحكم على الواقع الذي يقبله الجمهور فلا يدري لماذا كان عظيم التأثير أو قليله وقاتم الألوان أو ضعيفها وكل ما في الأمر أنها إطار لعمل شعبي قومي يرمز إلى حياة الشعب وواقعه.وما أسعد الممدوحين بلقائهما بالممدوح الثالث (مدير المركز) الذي انتبه سريعاً لهذه المناسبة فقال: نحن الثلاثة نبدأ باسم واحد ولعلنا بلقائنا عثرنا على الكنز الضائع

 

 

يستقبح الناس ما لم يألفوه

 

يستقبح أكثر الناس من الأمور ما لم يألفوه وما لم يدخل إلى عقلهم وقلبهم من الفهم والمسرة فتراهم يعارضون في وجوده كل المعارضة ومرد ذلك بعضه إلى استئثار المريد بهذا الزي الجديد إن كان لباساً أو طعاماً أو نظاماً سائداً في المجتمع.

أما الشيء الأساسي في الموضوع هو فقدان الألفة والمحبة بينها وبين الشخص صاحب هذا الاختراع أو هذه النعمة التي رأوها ولم يلمسوا فائدتها وتعميمها وانتقالها إليهم بل خصت فئة دون أخرى فأرضت هذا القسم وتركت للقسم الآخر النقمة والغضب ومن هنا نتعرف إلى وضع نظام الاشتراكية في الدول التي ساد فيها الظلم والإرهاب مبلغاً كبيراً فثارت عليه ولم تقبل بحكم الفردية بل بحكم الاشتراكية التي يتساوى فيها العدل للجميع دون أن ينازع واحد منهم فكرة الانتزاع والتخلص.

استقبحت كثيراً هذا الدليل الذي يدل به التاجر على جودة بضاعته ليعطيها الجمال المستحق لها أكثر في نظر المستعرض ليشتري فيها وليقدرها بالثمن الذي يطلبه صاحبها وذلك بمجرد انتساب هذه البضاعة إلى المشتري المسمى باسمه إن كان صاحب مال ونفوذ وحب واحترام ليقول للشاري بضاعتي راجت كثيراً وتخصص فاشترى منها من بين المشترين سيادة الأخ ويسمي اسمه كأن جمال القطعة وقفاً على نوع المشتري من العظمة والضخامة لتكون عظيمة وضخمة.

استحسنت عمل هذا التاجر من حيث أنه يعرف كيف يخدم نفسه ومصلحته على حساب المستهلك ولكن الاستحسان يكون أحكم وأمتن لو أنه مدح بضاعته ولم يذم الفقير المعوذ بوضع الخلاف والتفريق  بينه وبين الغني في انتقاء الذوق ليكون دليلاً على جودة الذوق العام.

 

 

 

الطالب المتفوق ينال الاعجاب

 

الطالب الذي يتفوق في جميع مراحل الدراسة ينال الإعجاب والتقدير من جميع معارفه وخاصة من قبل أساتذته ولم تأل الجهات المختصة جهداً في مكافأة أمثال هؤلاء الطلاب يمنحهم المكافآت تقديراً وتشجيعاً ومساعدة لمتابعة هذا النشاط

الجدير بالاهتمام. فأولى هؤلاء الطلاب بالمساعدة من يحتاج إلى العون المادي وهو في ذلك لا يرفع صوته مطالب بحقه في هذا الرديف الذي إن قل أو كثر فإنما يعطي صاحبه راحة نفسية أكثر مما لو لم ينل شيئاً من ذلك.

قلت ذلك في الوقت الذي مضى أكثره وهو ينتظر الجهد الإضافي في المبذول من قبل والده الذي بقي حياً يكافح ويناضل في سبيل إتمام تحصيل ولده الذي قبل في كلية الطب لإحرازه العلامات المطلوبة وكان ذلك من خمس سنوات  لم يكن معها يعيش ويتعلم وينجح إلا ما يسمح به راتب والده المتقاعد الذي لا يتجاوز الثلاثمائة ليرة سورية مضافاً إليها ما يستطيعه من جهد لم يتمكن معها من متابعته فكان يقاوم المرض والإقلال حتى انهدت جميع أركانه ولفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يشاهد إتمام تحصيل ابنه وهو في السنة الخامسة.

والآن بعد أن فقد الطالب والده وهو المسعف الوحيد لمتابعة دراسة ابنه المجد لم يبق أمام الطالب إلا أن يتمم صبره الذي طال وما هو بالقليل حتى تكون له

الفرجة من ضائقته. والآن يحلو لي أن تعيد لجنة المكافآت مراجعتها لإضبارة الطالب لترى أنه لم يرسب خلال جميع مراحل الدراسة بل كان من المتفوقين وبالإضافة إلى ذلك أن والده الذي قد مات منذ يومين فقير لا يملك شيئاً يستفيد منه الطالب المجد في تعويض ما حرم من جهد والده يوم كان حياً يعاني المرض والألم والفقر.

إن الطالب المذكور هو من مدينة حمص ويدعى ناصر بن صلاح الدين الدوخى ومن مواليد /1960/  وهو قد تقدم بفحوصه للسنة الخامسة وينتظر النتيجة، فما عساه أن يعمل ليسد التعويض الذي فاته بفقدان والده. إني آمل أن تفاجأ الرحمة به مفاجأة يشعر بعدها أن والده الذي ذهب عنه بالموت لم يذهب وإن الأمل معقود بأن يكون له نصيب من المساعدة مثلما كان لغيره من الطلاب المتفوقين الفقراء.

 

 

للإيمان في قلب الجندي حرارة

 

للإيمان في قلب الجندي حرارة طبيعية تغني عن الحرارة الاصطناعية إذا اشتد البرد وكانت التدفئة للجسم ضرورية للتخفيف من برودة الطقس والعمل على تنظيم دوران الدم في الأطراف. فلا عجب إذا رأيت المناضل يقاوم البرد فوق مقاومته للعدو، وبالإضافة لحرارة الإيمان فهناك حرارة أخرى تمده بالتدفئة وهي حرارة الشعور بالواجب والاهتمام بالعمل ونسيان الزمن الذي يمر دون حساب له إلا في العمليات الحربية، بقي علينا أن نذكر ما يفقده الجسم من الحرارة للتعويض عنها بالغذاء واللباس.

أذكر يا أخي ذلك الإنسان المناضل وهو في الطبيعة ينتقل في الأجواء ليجد المكان المناسب له في التمركز ينسى نفسه ويقابل عدوه أنه بحاجة إلى بعض ما تملأ به معدتك من شهي الطعام وأغناك عما تسدبه فراغك من المسليات والمريحات فقد كان له من العناية ببندقيته وذخيرته وهو راض مسرور  ما يملأ الفراغ الذي تضيعه بالكلام حيناً والسكينة حيناً آخر وأنت  غير راض ولا مكتمل السرور .

أذكر يا أخي ذلك الإنسان البطل يصعد الأكمات ويهبط الوديان ويخوض الوحول وينسى نفسه ويقابل عدوه أنه بحاجة إلى بعض ما هو عنك فائض ترمي به على الأرض لتمنعها من الرطوبة وأولى بك أن تقدمه لرفيقك، فالكساء الصوفي لا يدفئك إذا لم تتلقى الحرارة من دمك وإيمانك واهتمامك وإذا كنت قد أوقدت الغرفة ولم تترك لها منفذاً من الهواء البارد ليدخل إليها فإن إنسانك هذا قد أوقد قلبه حقد الأعداء فأغناك عن الوقود التي تحرقها ولكن حرصاً على سلامته من

المرض، ارم به ما رميته على الأرض لا ليتدفأ بها فحسب بل ليدفأ جسمك الذي لم تنفعه حرارة الوقود وثقل الملابس وإنما ينفعه الإيمان الذي افتقدته وأنت تضن بما لك من الحركة التي أوقفتها وأنت عاجز عن إعادتها بنفسك، لا تقدر حركة ونشاط المجاهد إلا إذا عريت جسمك قليلاً وعرضته للطبيعة ولم تنل من التدفئات الاصطناعية بعض ما فرطت به ولو اقتصر الأمر على لباس الجسم.

أذكر يا أخي رفيقك وشريكك في حماية الوطن أن يتسلى لا باللعب بالورق حيناً ولا بالجلوس حيناً آخر ومشاهدة الأصناف المختلفة من البشر وإنما يتسلى بما لا تقدر على تسليته ولا تستطيع له صبراً فارحم عجزك بسخائك لبطولته واذكر صبره على ما يحب بعجزك عن الصبر عما تحب وعما تكره.

إذا تجردت من المال الذي تتمسك به كل التمسك وهو أصل عجزك فلم يبقى لك إلا إسعاف البطل المكافح ليحميك من الأعداء ويزود عنك الطوارئ ويعطيك درساً في محاربة الأهواء، إن أخاك الجندي تجرد مما تشتريه بالمال أما هو فلم يتجرد عما عجزت عن شراءه، لقد عجزت عن شرائه الشباب والبطولة والتضحية وتلازم الذات والإيمان بالوطن والمحبة لأن ثمنها ليس بالمال وإنما بالقلب العامر بالمحبة فغذاؤك لم ينفعك إلا بما يرضي جشعك وغذاؤه لم يقم إلا على قتل الجشع بكسب المال من عرق الجبين ليشتري به ذخيرة لا ليقتل نفسه في حرصها وحبها للحياة بل ليقتل أعداء الحياة في امتدادهم لغير حقهم على حساب طمعهم وحبهم للنفوذ.

 

 

اسأل نفسك هل أنت مخلص

 

هل أنت مخلص في عملك إذن سر إلى الأمام واضعاً نصب عينيك تقديرك لهذا الإخلاص يوماً طال عليه الأمد أو قصر، لا تقل شيئاً عن نفسك واترك القول للعمل ليوضح لك ماذا تريد وإذا احتجت إلى الكلام فاجعله تفسيراً عن عملك فيما هو صائر إلى الانتفاع منه لتسديد الحاجة والوفاء بالغرض.

دخلت منزلاً لأحد العمال فوجدته كما ينبغي أن يكون لصاحبه من الاتساع أو الضيق اتسعت غرفته عن محتوياتها من الأثاث لتضيق بسكانها من الأفراد فالدلائل تثبت قدرة رب العمل على الإنتاج حين يتعرى من الأسباب التي يتمتع بها للترفيه ليتحلى من جديد بالمسببات التي تفتح له الطريق بعد إغلاقه.

كان هذا العامل قد أوتي من حظ العلم ما استطاع أن يفيد ويستفيد وقد تمت الفائدة لنفسه وأراد أن يبدأ بها لأطفاله لتكون عن طريق تعليمهم لينتهوا إلى العمل في رسم المخططات الهندسية التي كانت تعوزهم ليكون أكثر راحة وأقل جهداً وأسمى مرتبة. رصد لهم في المؤسسات المصرفية ما يمدهم في التعليم العالي لاستكمال النضج العلمي من بعد النضج العقلي، إن أولاده بعد في المدرسة وهو لا يزال ينتج ويقدم ويأمل الخير كل الخير بأن يحققوا هدفه ليكون مطمئن النفس من بعد قلقه الكبير على توفير جميع الإمكانيات المادية لهم.

إن ما يشكوه هذا العامل هو الغصة الكبرى التي ما برح يعانيها من أسباب استكماله للحياة السعيدة التي إن وجدت أزالت شيئاً كبيراً من متاعبه، هذه الغصة أنا وأنت والكثير من أرباب الأسر هم في ضيق وحرج منها، هذه الغصة هي مشكلة اليوم وهي تعليم المرأة تعليماً تستطيع به أن تتمشى مع نهضة الأب لتساعده على تخفيف عبئه الثقيل في تقديم شباب للمستقبل وأمهات يحملن مشعل الإضاءة لغيرهم ممن

ضلوا الطريق.

شاءت الظروف أن أجلس معه لساعة واحدة أتعرف بها على تقدمه وتطوره كما شاءت أن أكون تحت نظر واحد من أطفاله فماذا رأيت وماذا سمعت. إن المال يساعد على قضاء الحاجات وإنك تشتري بالمال ما يحتاجه الطفل وما تحتاج له في تربيته غير أن المال يقف دائماً جامداً متعثراً أمام رغباته التي تتزايد بإعطائك له كل ما يريد ويرغب دون أن تزجره أو تعارضه إن ماجاء به بهذا النوع من الدلال يحتاج إلى وجود ضابط قوي يضبطه من هذا الدلع والتسامح وهذا الضابط يلازمه ملازمة تامة في تحركاته وتصرفاته إن أهم ضابط له هو البيت والمدرسة.

خرجت من منزله مكبراً همته في العمل والتقدم وتمنيت لو أن الأمهات يسايرن هذا التقدم ليجد الرجل في زوجته ما وجده في نفسه حبه للعمل وتركه للكسل والشعور بالمسؤولية والواجب تجاه نفسه ووطنه وأولاده.

 

 

أنا وصديق مجهول

 

دخلت الغرفة ومعي شخص لا أعرف إلا مهنته وليس لي بد من أن أتعرف إليه جيداً لأرى فيه الإنسان الطيب بعدما عزّ علي لقياه، كنت مستاءً من مظهره الذي لا ينبأ بالمرح والسرور غير أني تركت الأمر طبيعياً فرحبت به وقاومت كل رغبة في نفسي تأتي على انتقائي وقبولي للأشخاص أو رفضي والتبديل بغيرهم لقد بادرته بالحديث قائلاً: إني أنام في ساعة متأخرة من الليل وأستيقظ باكراً وآمل أن يكون ذلك متفقاً مع رغبتك في السهرة والنهوض  من النوم فكأني بذلك أقول رغبتُ في الإقامة مع من كان يرغب في الإقامة معي لولا أني أخاف من إزعاجي له ورغب في الإقامة معي من كان يفكر لولا أنه ترك الأمر لنفسي فأدفعه إلى التنفيذ دفعاً وعندي مخافة القلق من معارضته الشديدة لتصرفاتي دون أن يرى نفسه ما فيه من تصرفات أخرى أشد إزعاجاً وقلقاً على جليسه منها على ذاته.

لم يمض يوم واحد حتى جاءني من كان قد استبد به الخوف ولم يتركه إلا من بعد تركه لزميله الذي كان قد أقام معه ليلة واحدة فقط. لقد وجد ما يخشاه مني أمراً هيناً أما ما كنت أخشاه منه فأمر أشد تعقيداً لأنه يبدأ بالضحك وينتهي لا إلى المسرة بل إلى البلية وشرها التي هي في الضحك أيضاً لا البكاء، كان يرغب من حيث أنه كان يعتقد أن الرغبة عندي أشد وكنت لا أعارض من حيث أنني رأيت الجميع على منواله ولو أنه كان متميزاً عنهم باستمراره للضحك في الحالين الرضا والكره واستمرار الآخرين للضحك في الحال الواحدة وهي المسرة.

استمهلته شهراً واحداً ليتجدد معي ما كان قديماً، خوفي من نفسي لكثرة ما أطيل السهر وأقصر النوم، وخوفي من نفسه لكثرة ما كانت تضج بالحركة ولا تقوم بالعمل الصامت وأخيراً خوفي من رفيقي لعدم تآلفنا ومعارضة الأمزجة لبعضها.

لم يمض إلا بضعة أيام حتى زال هذا الخوف من رفيقي أما الخوف من نفسي ونفسه فقد جاء محققاً لما كان قد اعتاد عليه من قبل ولم يستطع تغييره من بعد ولما كنتُ قد اضطررت إليه من قبل ولا أحب  الآن تغييره.

بقي علي أن أتحدث عن الشخص الذي كنا نرغب معاً في الإقامة دون أن نعرف لذلك سراً وعندي أنني ألقيت نظرة إلى ما حولي فوجدته أفضلهم أما بالنسبة إليه على ما يظهر بعدما اتضحت معالمه أنه يميل إلى الهدوء وكان الهدوء معه طبيعياً، أما هدوئي فليس طبيعياً وإن وراءه السر الدفين وقد اكتشفه فيما بعد رفيقي بقوله: ليس ما أراك إلا متطلعاً صامتاً وليس صمتك نتيجة جمود ولا تطلعك نتيجة  مقابلة بل هما يكشفان عن سبب ما تكتب و سبب ما تصغي.

كان أول موضوع كتبته هو عن وطني الصغير في جو الصحراء فوصفته بالسجن الحبيب الذي لا أرغب في مغادرته ومع أنه يضيق صدري بمتسعه أجد في هذه الضائقة ما يشرح فؤادي ويبهج نفسي أما الموضوع الثاني فهو: فيما سميته باللقاء المتعذر بعد الافتراق الأبدي الذي حكم علينا الموت بالتنحي عن سماع صوتها يرن في أذني ومناداتي لها يضيع في العالم الدنيوي.

وقد بدأت سلسلة من الكتابات في ثلاثين موضوعاً جعلتها عن نفسي وهي صورة عن لثلاثين نوعاً من الأشخاص يمثل كل منهم مجموعة كاملة من المطابقة والاتفاق لهذه الأوصاف.

السر كل السر في أنك ترغب ما لا يتفق مع مصلحتك وتمتنع عن الرغبة فيما لك مصلحة به وليس قولك بمانع من تسيير عملك إلا إذا كان قولك مضاداً لما أنت عليه من قدرة وفهم أما قولك على هذا النوع من العجز عن تطبيقه فليس له إلا معنى واحد هو أنك لا تستطيع إلا أن تطمئن غيرك ويحملك الغير على الاطمئنان وهو من وظيفة غيرك القادر الفاهم.

 

 

أمسكت بالقلم ليكتب شيئاً

 

أمسكت بالقلم ليكتب شيئاً فإذا هو يخط هذه الكلمات: لِمَ لا أستطيع أن أرى الأمور في مشاكلها تبسط وتحل كما يراها الأستاذ هائل اليوسفي حين تعرض عليه للاستفسار وإيجاد الصيغة للحل، لم لا أستطيع الرد عليها بهذه السهولة التي يرد عليها الأستاذ دون توقف عندها أو بطء ولست أعني فقط من الوجهة القانونية وإنما أعني من التجاوب بينه وبين المشكلة فكأنهما في لقاء مستمر وعناق دائم فما إن تظهر بوادر واحدة منها حتى تجدها انصرفت بدون توقف وتكاد لا تريه وجهها إلا إذا أحبت من أحبته فدغدغته وبقي متلوعاً من دغدغتها وعندئذ تمكث لحظة في عين الأستاذ خجلة من نفسها لتقول له: إني في شوق إليك وإن مروري من أمامك سريعاً لا تتيح لي الفرصة لأقول لك وداعاً.

إن برنامجك (حكم العدالة)  جاء محققاً لرغبات الكثير من الناس ليستفيدوا ويعتبروا وقد أعددت برنامجك بشكل موضوعي فهل كان بينك وبين الأستاذة ناديا الغزي لقاء في إعدادها لتمثيلية (وراء كل باب حكاية) التي شوهدت في التلفزيون وأعتقد أن هذا اللقاء لن يكون لأنها لن توافق على عرض موضوعك بهذا الاهتزاز الضخم الذي يصدع سامعه ليكون فيه مثل هذا التأثير بشدة نبرات أصوات ممثليه، كما أنك لا توافق بالذات على أن يكون موضوعها بهذا الهدوء الذي يدعو إلى التأمل العميق دون الدخول في أذن المشاهد المستمع بهذه الجلبة والطنين وكيف لي أن أعرف ذلك ولم أكن شريكاً لها في مفاهيمها وشريكاً لك في إحساسك إلا أن المرة الأولى التي أرى فيها مثل هذه التمثيلية وكذلك المرات الكثيرة التي جعلتني أسمع برنامجك هي التي وضعتني أن أحكم على الغائب وآخذ من الحاضر استشهاداً ودليلاً.

فما أجمل أن تضع يدك في يدها لتعد برنامجاً خاصاً فيه روعة التأمل والهدوء وفيه عنف الاهتزاز الضخم ولا أدري إذا كان الوقت يسمح لكما بمثل هذا البرنامج وأعتقد أن الفائدة المرجوة منه هي التي تذلل بعض العقبات. والسلام.

 

 

أسألك لماذا

 

أسألك لماذا يبقى هكذا مغلقاً دون أن يستجيب لنداء عقلك ألم يكن بينهما ارتباط دائم لما يؤديان من وظيفة في القيام بعملهما، إنك تريد ويظهر عليك الرغبة بمحض إرادتك ومع ذلك تبقى أبداً معطلاً عن العمل، بوسعك أن تتقدم وتخطو إلى الأمام ومع ذلك فإنك تتراجع أو تتجمد في مكانك.

أسألك لماذا تطيل النظر ببعض الأشياء في الوقت الذي ينبغي فيه أن تفحص عينيك كأنك أمام حدث عظيم ثم إنك تقصر النظر أو لا تفتح العين في الوقت الذي ينبغي لك فيه أن تبقى يقظاً ومتابعاً التأمل والإمعان لما تراه وما يدور من حولك كأنك واجم لا يهمك الأمر.

أسألك لماذا لا تحب الحياة وأنت ابن الحياة ألم يكن عملك مريحاً تقضي به ساعات لتستجم من بعدها نشاطك وقوتك، ألم يكن مجتمعك الذي تعيش فيه على وئام وانسجام مع طبيعة نفسك ألم يكن ما تستحقه من تعويض لقاء نشاطك واجتهادك معادلاً لما تقبضه من صرف لهذه التعويضات.

أسألك فلا تجيب! إن لك محض الحرية في القول والتعبير تستطيع أن تنفس بها عما يجلجل في  صدرك من آهات وما يدور بنفسك من خواطر.

أسألك فلا تجيب كأن في الأمر سراً غامضاً وليس يبدو للعين، عيناك تنطقان بما يعجز عنه لسانك، ولسانك ينطبق بما لا تستطيع العين أن تعطي تمام المراد من الشرح والتفسير وبعد ذلك فالحركات هي الأخيرة في إيصال المفهوم لما ينبغي لنا أن نفهم.

أسألك فلا تجيب فهلا سألتني لأجيبك؟ تسألني عن سر صمتي وسكوتي فأجيبك ماذا ينفع الكلام وأنت له أصم وماذا تنفع الحركة وهي لي مميتة.

إني أتكلم لأسمع ولأفهم وأنت تتكلم لأن هواءً محبوسٌ في صدرك لم يخرجه الزفير بتمامه من عملية التنفس فأخرجته من فمك بعملية الكلام، إنني أتكلم لأذهب غيطاً من صدرك وأجلب سروراً إلى نفسك وأرسل كل ما يسعك الابتهاج إلى ما يسعني القدرة على تحقيقه.

 أسألك فلا تجيب فهلا سألتني لأجيبك؟ تسألني عن عملي فأقول لك بصراحة إنه مريح لدرجة أنني لا أستطيع بعده القيام بأي عمل فكري أو جسمي ليست راحته في هدوء النفس وإذكاء الفكر ولكن في جلب الغيظ لمن لا يريده والابتعاد عن الرضا

لمن ينشده. ليست راحته في عدد ساعاته القليلة ولكن في كمية اهتزازاته المثيرة للأعصاب ودوران الدم والقلب.

أراني قد توقفت عن متابعة الإجابة لبعض الأسئلة وعن الوضوح لبعض المقصود فإني أستميحك عذراً لأن قلمي قد جف وعيني قد أطبقت وذاكرتي قد ذهبت بالبعيد البعيد فإلى مناسبة أخرى ألتقي معك والسلام.

 

معرفتي بالناس

 

أتيح لي من حسن الحظ أن أتعرف إلى مجموعة كبيرة من الأشخاص في أزمنة مختلفة وفي أعمار متفاوتة وفي مهن متنوعة بعض هذه المعرفة كان عن قصد وبعضها كان عفوياً والبعض الآخر ليست عن قصد ولا عن عفوية وإنما كنت مجبراً ملزماً لها بحكم مهنتي وبحكم بيئتي وحياتي التي أحياها.

والجميع في معرفتي لهم ينتظرون الزمن للقضاء على الاستفهامات التي كانت تدور بينهم وبين أنفسهم حيناً وبينهم وبين مجلسهم حيناً آخر وهذه الاستفهامات تؤدي في النتيجة إلى شيء واحد لا يختلف فيه اثنان هو تركهم لي عما يريدون التمسك به حتى أعود إلى التمسك بهم من جديد عما يتركون وهكذا هم في دوامة الأخذ والرد ليعود الأخذ عطاء والرد موافقة وبذلك تبدأ مشكلة جديدة وهي ماذا جنيت من وراء هذا كله وماذا جنوا من وراء المشاورة والاستشارة والجواب أني قريب قريب ولكني بوجه بعيد بعيد وهم بعيدون بعيدون على الرغم من قربهم وجوارهم.

تعرفت إلى نوع من الأشخاص لا يجمعها إلا المجلس الموحد على الرغم من تفرق أفرادها واختلافهم في العادات والطبائع والثقافة والمشارب فكنت أطيل النظر إليهم لأرى هذا الجامع الذي يجمعهم من حيث لا أدري فكنت كلما اكتشفت سراً أعود إلى نفسي لأرى حله وإذا هو انضمام إلى حلقة لا يمكن أن يصبح بينها واحداً منهم  رغم التصاقه التصاقاً كلياً بهذه المجموعة ورغم استقبال هذه المجموعة له

بكل ترحيب.

أما مجلس هذه المجموعة فكان يضم أفرادها مثقفون درجوا على حب العلم والمطالعة ففي حديثهم جاذبية الجديد المستجد من المعلومات التي تلقوها في الصباح أو المساء من كتب وأساتذة فكنت أستمع لمناقشاتهم العلمية التي كانت تبدو بصوت عالٍ وكأنهم في خصام ثم لا تلبث هذه المناقشة أن تذوب لتعود في اليوم التالي بموضوع آخر وفي حماس أشد.

بدرت مني مرة التفاتة طويلة إلى مجلسهم أعقبها ضحكة طويلة ثم ما لبثت هذه الضحكة أن تحولت إلى إعراض وابتعاد عن مجلسهم لأخلو بنفسي لحظات أفكر وأفكر في أمرهم لعلي أشاركهم الحديث بعد الاستماع والتحلق بعد التجنب فاهتديت إلى السلام عليهم ليدعوني إلى مجلسهم وفي جلسة واحدة صرت صديقهم غير أني ودعتهم بعد ذلك الوداع الأخير لألقاهم ويدهم تعمل وعقولهم تعلم وبطولتهم تظهر.

قلت في نفسي جميل أن يعرف الإنسان ما عليه من الواجبات وجميل أن يناقش هذه الواجبات على ضوء الواقع وأجمل من هذا كله أن نقوم بها ونطبقها على أنفسنا استعداداً ليوم يظهر فيه قدرتنا على تحمل الواجبات والخوض في معاركها لنحيي أمتنا وشعبنا ليعيش الحياة التي نريدها له.

قلت في نفسي جميل أن يملك الإنسان القدرة على الكلام دفاعاً عن الحق وأجمل منه أن يملك الإنسان الصبر على هذه القدرة ليظهرها في مجلسها وعند قوم تنكروا لمبادئها وأسسها فتكون الكلمات فيها شهادة تثبت قدرتنا على الحياة والصمود أمام أعدائنا أعداء الحياة.

قلت في نفسي إن الكلام في حالة الفراغ بعد الانتهاء من العمل وسيلة للتسلية ولكننا ما أحوجنا إلى تسلية من نوع جديد أن ننقذ بائساً ونعطي محروماً وننصف مظلوماً ونشد ضعيفاً ونشجع عاملاً.

قلت في نفسي إنهم قوم لم يشغلهم إلا نفسهم ومصلحتهم فقرّ لهم قرار فما أحوجنا إلى قوم لا تشغلهم مصلحتهم عن مصالح الآخرين فلا تنام لهم عين ولا يهدأ لهم بال إلا من بعد أن يطمئنوا إلى مصالح الناس أنها تسير سيراً حسناً دون عرقلة.

قلت في نفسي إن الجلوس على مقعد وتير واللباس بأثواب ناعمة الملمس جميل مظهرها ولكن أجمل من هذا كله أن نهيأ هذا المقعد ليبقى تحتنا مطمئناً حتى نرتاح وأن نهيأ هذا اللباس بعد أن تنتهي معركتنا مع من يريد لنا انتزاعه وهو دليل العزة والكرامة لنرتديه وهو دليل المذلة والضيم.

وأخيراً قلت في نفسي ماذا تعمل اليد الواحدة وهي عاجزة حتى عن التصفيق فاجمع يا أخي يدي ويدك لنكون قوة واحدة قادرة على الصمود أمام الخطوب.

 

 

حقك في الإنزعاج يأتي من الاستيلاء على حقك

 

أنت في ثورة دائمة إذاعة وتلفزيون وسينما ومجلات وجرائد مصورة كل جميعها معروضة أمامك لتأخذ منها العبرة والفائدة والتسلية فماذا تصنع بنفسك لتحميها من الوصية وأنت لشدة حرصك تريد الإفلات من اهتمامها بعض الوقت  فلا ترى ولا تسمع إلا ما يذكرك بها وأنت ناس عنها وأعصابك تهتاج وأنت بحاجة إلى الهدوء والطمأنينة، يمكنك أن تكون نوعاً ما بعيداً عن جوها ولكن هل يمكن لأطفالك أن يبتعدوا كما ابتعدت.

إذن عليك أن تقرأ كي تنسى وجودك فتستمتع بالمواضيع التي تطالعها وتدرسها حتى تستعد لمقاومة هذه الإثارات بأنواعها وخاصة التي لها كبير الأثر في نفسك مما يحزنها ويفرحها ويخيفها وتتحمس لحقها وليس عندها الصبر للفوز به.

إذن عليك أن تعتني وتهتم في إحياء وإنعاش مجالك العملي الذي منه تكتسب قدرتك على العيش لتبقى قادراً على أخذ ما يلائم مزاجك العصبي وطرح ما لا يلائمه إن كان بالوصول أو التأخر فلا تبقى هذه الوسائل إلا قوة لك تحميك من الأذى كما تجلب لك المنفعة ولو كانت منفعتك في سبيل حماية أطفالك مما يشاهدون ويسمعون من مناظر وأحاديث قد تشغلهم في دراستهم وتجلب لهم انطباعات لا يستطيعون بعدها من مقاومة أهوائهم فنادراً ما تخلو أي أسرة من جوها ولكل تأثيره الخاص في نفس الطفل وهذا التأثير ينعكس على جو الأسرة فيزيد في مصروفها إذا كان دخلها محدوداً وينقص من الاهتمام في الدرس إذا كان الإقبال عليه قليلاً ومن غير رضا

النفس واندفاعها.

هذا بالإضافة إلى انحراف الأطفال بصحتهم مما يسببه السهر الدائم على الاستزادة من هذه الصور والمناظر والتمثيليات فوق انصراف الطفل عن مراعاته لطعامه وغذائه ولو أخذنا ناحية أخرى وهي الأحاديث التي يتناولها الرفاق لوجدناها كلها فيما يدور بفلكها فما أخلت للطالب من زمام الضبط في البيت يجد صعوبة في الإفلات منه خارجه.

إذن المشكلة موجودة وحلها يتعقد ليتبسط بعدها فإما تأثير خارجي يتغلب عليه التأثير الداخلي وإما التأثير الداخلي الذي يتغلب عليه قوة الصبر والإيمان والانصراف الكلي إلى المصلحة التي تهم الطالب في مستقبله وحياته.

 

 

أم ونساء وأزواج ثم بلدية

 

كانت الأم تمشي تيهاً وفخاراً بأسرتها العريقة من قبل أن تصبح زوجة للأب ومن بعد أن أصبحت حماة لنساء أولادها،  بدأ هذا للإعجاب بنفسها لكثرة ما أشعرها أبوها بالمحبة والعطف فقد كانت لا تعرف من المسؤولية والواجب إلا بمقدار ما كانت تشعر به وهي طفلة مدللة لها من يخدمها من الأتباع الذين جاءوا لخدمتها في مصلحتهم طمعاً بالأجر الذي كانوا يتقاضونه دراهم أو موائد تكفيهم وتكفي أسرهم.

إذن كانت الأم غنية وقد أفقدها الغنى معرفتها بالواجب وشعورها بالمحبة الحقيقية لقد زوجها أبوها لمن كانت لا تحبه ولا يناسبها طمعاً بالمال وقبلت بالحياة معه حفظاً لحياتها من شر أخوتها الذين يجدون في البقاء لوحدها دون زوج أملاً كبيراً في القضاء عليها للفوز بتلك الثروة العظيمة التي خلفها والدها ولم يقتنع أخوتها بما أوتوا من نصيب في هذا الميراث للاعتداء على حقها وحرمانها مما نعمت به من حقوق كان الأمل يتضاءل في هضمها بعد اعتصامها بزوجها وبعد المكوث عنده على حال من التنافر والاختلاف تستطيبه وتصبر عليه بعدما رزقت منه أولاداً وبعدما أيقنت أن إفلاسه لا يضرها بكثير ولا قليل وإنما كان يضرها سوء خلقه الذي سببه له الافتقار بعد الغنى والذل بعد العز.

إذن كان همها الوحيد أن تتسلى بالقراءة طول الليل لتجد بها مفرجاً من وحدتها وكآبتها، كانت تتقن فننون الحديث والقراءة والتغني بمجد أبيها وأهلها فتكمل بقية وقتها بمعشرها لتعزف لهم ما تعلمته من الموسيقا في الألحان والأنغام فيطربون لها، أما هي فكانت لا تطرب أبداً على أنغام حديثهم وإنما كانت تقضي معهم الساعات لتنفس عن مصابها الكبير بفقد أهلها وحرمانها من الزوج الذي كانت ترتضيه لأنه كفؤ لها في معشرها غير أن سوء الطالع جعلها تصبر وتقضي عمرها طائشة بدون روية في الموضوع لقد مات زوجها وهي بعد شابة بعد أن خلفت منه أولاداً ذكوراً وإناثاً، أما الإناث فقد تزوجت واحدة بعد أخرى دون أن يستكملن علمهن في المدرسة ودون أن يصبحوا أهلاً للزواج باستعدادهم الاستعداد التام لتحمل واجبات الزوج وقدرتهن على العيش وإنجاب الأطفال لتربيتهم التربية الصحيحة التي تؤهلهم في المستقبل ليكونوا سعداء حتى يسعدوا أمهاتهم.

إذن كان تفكير الأم بهذا الزواج المبكر لبناتها داعياً لها في التخلص من الشقاء في جو الأسرة على مدى تفكيرها الذي لا يتجاوز رضا الأم من أبيهم لينعم الأولاد وخاصة البنات بالنضج المطلوب والإحسان بالتربية. الأم مظلومة بحظها من زواجها مع من لا تتجانس معه غير أن هذا الظلم انعكس على البنات أولاً لتزويجهن ممن لا يتجانسن معه ليقضوا البقية من شبابهن في نزاع وخلاف مستمر، وقد وقعن بنفس الخطأ الذي وقعت فيه الأم من قبل ولكن على كفاف في العيش وضيق.

أما الذكور فقد أصبحوا رجالاً ولا بد لهم أن يعجلوا في تقرير مصيرهم للخلاص من التفرقة والبغضاء الموجودة بين صفوف الأخوة، عليهم أن يقضوا على بؤسهم ليجدوا في البيت زوجة تحنو عليهم وتقوم مقام الأم التي لا تمكث في دارها أكثر مما تمكث عند أقاربها ليعطوا الدرس فتسمع منهم ولا تنفذ لأنه كان يصارعها الشعور والحنان بواجبها في الوقت الذي لا تستطيع فيه أن تتحمل مسئوليتها في القيام بهذه الواجبات والتوفيق بين طلباتهم وبين عجزها عن تحمل هذه الطلبات لمعرفتها الكاملة بأن الحياة تسير حسب خيالها الذي بثته كثرة قراءات القصص من قصص ألف ليلة وليلة وغيرها فيمكن أن ترى بعينها سهولة الارتقاء والهبوط بمقياس ما تراه في مخيلتها من حياة إنسان ومجده ثم القضاء عليه في جلسة لا تتجاوز السهرة.

كان حظ الذكور من الزوجات لا يقل عن حظ الإناث لأن ما أصيبوا به من الفشل نتيجة الزواج كانت ضربة قاضية على حياة الأسرة وكيانها في المجتمع. كان الاختلاف تاماً وكان الانسجام مفتقـداً ولذلك لا بد أن يضاف إلى تاريخ الأسرة ما كان لم يسنها من قبل فحيكت المؤامرات للاستبداد واستقلال الرأي بحيث أصبحن قوة معاكسة ومناهضة لأزواجهم فليس غريباً أن يتم طلاقهم. من الطبيعي أن تفقد الأسرة ثروتها العظيمة نتيجة الخلافات الفردية والخلافات الزوجية فتبقي على القليل القليل مما يسد الرمق ويساعد على تأمين الحياة.

 

 

يوم وليل

 

دعني أنقطع لعملي تماماً فإنك تقف أمامي عثرة في طريق المتابعة، إنك تقوى على انصرافي عن عملي ولكنك لا تقوى على امتناعي عن الرغبة في المضي قدماً إليه، لست بإنسان يحمل الإمكانية اللازمة على مجابهة هذا الاهتمام بالحئول دون قيامه ولكنك بالمادة التي تغذي الآلة لتقوى على السير في عملها المنتظم فتعطي منها بحساب لتجعل هذا العمل بحساب فما أردت قط لعملي تقييداً كما أردته لي فإنك تريد أن يكون عملي خاضعاً لمشيئة مادتك التي بها تمسك بزمام العمل فتجعله محدود القدرة والإنتاج.

أن مادتك هي  في توقيف الفكر عن التغذية ريثما تأتي التغذية موافقة لمادتك، مادتك هي في تحديد نشاط الجسم ريثما يأتي الجسم مطواعاً لندائك، مادتك في الصعود إلى الأعلى بدون جناح وبالهبوط إلى الأسفل بالامتناع عن الاكتساء بالجناح الوهمي الضعيف المصطنع.

دعني أنقطع إلى عملي لأني أحببته حيث أنه تغذية لي ولك وللآخرين ودعني أنصرف عن عملك لأنه تغذية فقط لك وحدك، حبست المادة عن آلتي في الوقت الذي تريد فيه لهذه الآلة مضاعفة في القدرة والنشاط، آلتي صحة وعيش وشباب وآلتك شفاء وعلاج وتيسير دعني فإني أجد المادة وسيلة للمتابعة في عملي، أما أنت فإنك تجد عملي وحده كافياً ليقوم مقام هذه المادة نجده كافياً في القول لا في العمل، أما أنا فأجده في العمل ليكون القول تعريفاً وتدليلاً وتسمية له.

دعاني إلى هذا الكلام ما عرفته عن إنسان بين يوم وليلة بين عمله في الأمس وعمله في الحاضر، بين حياته في الماضي وحياته التي يحياها الآن في يومه. كان هذا الإنسان قريباً مني على غير علم فأصبح بعيداً عني على علم بقربه كان لا يعرفني ولا أعرفه ومع ذلك ذكرني وتذكرته كان مشغولاً عني بانصرافه إلى مركز عمله في غير مركز عملي وكنت مشغولاً عنه بانصرافي إلى واجبي الذي أوجب عليّ فوق ما أنا فيه من اهتمام وقلق و كان مشغولاً بواجبه الذي أوجب عليه أيضاً أن لا يسمع

بي ولا يراني.

قضى هذا الإنسان حياته في الكفاح والجد والاجتهاد دون أن تنام له عين أو يهدأ له بال، ولما أريد له الهدوء والاستقرار والراحة أحب أن يجعل حمص موطناً له ليستقر ويجعل من بيتي جواراً له. بدأ هذا الإنسان عيشاً جديداً في وطن جديد أما وطنه القديم فهو الارتحال والتنقل إلى حيث ما يفرض عليه العمل والواجب. تعرفت إليه بشكله وبخطواته ونبرات صوته دون أن أعرف عنه شيئاً آخر، أخذ هذا الإنسان بالقيام بمشروع سكني يطمئن به إلى آخر حياته وحياة نجليه من بعده.

ما أشبهه اليوم بالأمس وما أبعد الشبه بينهما يعطي نصائحه التي هي بشكل أوامر على ما اعتاد من قبل أن يعطيها إلى مرءوسيه يأخذ الاستشارات التي هي ليست بشكل أوامر كما كان يتلقى ولكنها بشكل معلومات وخدمات. فهو اليوم قد أكمل مشروعه الذي استغرق سنتين من الزمن من بعدما اهتز له ألف هزة وفي كل هزة نوعان جديدان: هزة له وهزة لغيره كل ذلك ليقيم وطناً بعد هجره وسكناً بعد تشرده. أين منه ومن جاره اليوم، لقد أضاع وطنه من بعد إقامة طويلة لم يضع من أجل المال ولا من أجل الوطن لمصلحة عامة، ولكنه ضاع بسبب التجميل ليرى وجهاً أقبح مما كان عليه حيث أنه صار إلى عراء وقد كان مكتسياً وصار إلى هجره وقد كان مسكوناً وصار إلى قذارته بعدما كان نظيفاً.

جاره اليوم ليس غريباً عن كاتب هذه الأسطر إنه في شكله واسمه ولكنه ليس في قلبه الذي كان يحيا به وفي عينيه التي كان ينظر بها، لقد حمل هذا القلب ما ثقل حمله ليرزح تحته صاحبه، ورأت هذا العين ما قبح منظره لتعمى عن

المشاهدة والتطلع. جاره اليوم يراه كل صباح ويطمئن عن صحته ودوام العافية ليقول في نفسه جاء دورك اليوم وانتهى دوري فلقد أقمت بعد رحيل ورحلت بعد إقامة فلا أدري أتكون إقامتك طويلة بحيث لا يتزعزع من تحتك هذا المسكن بإرادة قاهرة كما كان لي من قبل حيث جاءت قوة داخلية باسم التجميل فسحقته، أم أنها قصيرة بحيث نبني معاً مساكن جديدة من أرض الوطن في الديار المحتلة من فلسطين العربية.

هنيئاً لك يا جار بمسكنك الجديد واطمئن على قدرتك من حمايته من العدو الخارجي ومن اللجنة الداخلية التي تسمي نفسها لجنة التنظيم والتجميل لتكتسحه وتجعله خراباً بعد عمران وحزيناً بعد فرح. هنيئاً لك يا جار وحماك من القوة الغالبة القاهرة التي تفقدك حب الأهل والوطن والإخوان إلى حين.

 

 

دَعْك تذكر ولا تتذكر

 

دَعْك تذكر ولا تتذكر فإنك آت على مستقبل بحاجة فيه إلى النسيان لأنك سترى فيه كل جديد مستجد فاعطه من القوة ما يمكنك أن تتحمله عند الشدائد وأعط نفسك من الاحتمال ما يمكنه أن يتلاشى ويضمحل قبل أن يفت في عزيمتك وقدرتك.

فالعلم ذاكرة وحافظة وتجربة والتوقف عن التعليم رجوع بالذاكرة عن التجدد والنشاط فتعلم لتبقى في تجدد وليبقى الماضي بحوادثه وزمانه في نسيان ولكن في قدرتك على استرجاعه وإسعاف الذاكرة باسترداده عند الحاجة.

فاحسب ألف حساب لزوال نعمة كنت بها متمسكاً قادراً على المحافظة عليها لأنك كنت متمتعاً بها لوحدك دون أن تشارك ويشترك معك بنو وطنك لأنك إذا آمنت بقوتك لنفسك ولم تؤمن بقوة الجماعة والاتحاد بينك وبينهم فقد أعطيت في الحساب خطأ يبدأ من الأساس ليظهر هذا الخطأ فيما بعد بالمفاجآت التي لم تكن في حسابك.

أذكر قوة الإجماع فإنه إذا ضرب ضرب الحق بالباطل والطاعة بالمعصية، فالإجماع الذي عليه تستند في قوتك والمبدأ الذي تسير عليه هذه الجماعة هو في الاعتماد على النفس مع ما تفوز به من معطيات.

فالجماهير التي آمنت بحقك في الحياة وحقك في العزة والكرامة لا تسلبها هذه الحياة وهذه العزة إذا منحتك هذه الثقة التي أنت بها تتزعم بل حافظ على هذه النعمة بمحافظتك على التعاون مع الجماعة ففي ظل الفردية انسى نفسك ولا تتذكر بها واذكر معلوماتك عن تاريخ الأمة ولا تنساها.

لا تقل كنت كذا وكذا وكذا وكان أبي وجدي كذا وكذا وكذا بل قل ملكت من النعيم ما ضيعته وملك أجدادي منه ما لم يضيعوه فتركت العمل واستمريت في التحدث عن ثروة أجدادك ونسيت أنك بهذا ضعفت حتى أصبحت غير قادر على تجديدك للعمل لتجيء قوة الجماعة فتزيلك وتمحيك لأنها تريد دائماً عملاً دائباً وذاكرة متجددة أما أنت ففي ذكرياتك التي لا تنساها وفي ذاكرتك التي ضيعتها والمستقل بأحداثه يهزك هزاً عنيفاً فلا يبقى لحاضرك أثراً من ماضيك ولا لمستقبلك أثراً من

ماضي أجدادك.

فاذكر وجدد الذكر بالعلم والحفظ والملاحظة والنشاط ولا تتذكر فالزمن أسرع مما أنت فيه من الرجوع إلى الوراء وأبطأ مما ستكون عليه من تغيير وتجديد.

 

 

 

الدعوة إلى إعطاء أصحاب الاستحقاق حقهم

 

يدعوك إلى الأجر فتطالبه بالعمل وتدعوه إلى الإخلاص في العمل فيدعوك إلى الإخلاص في الرعاية والعناية فإنه في الكد والاجتهاد وأنت في الملاحظة والتعرف فكلما ازددت في التقدير زاد في الاحتجاج

يدعوك إلى الاعتراف بحقه كما تدعوه إلى الإيمان بعمله فأنت مطالب بالسهر على مصلحته كما أنه مطالب بالإتقان والجد فكلما أعطيته حقاً أداك واجباً ومع ذلك فالمصلحة العامة فوق كل اعتبار ومن المصلحة العامة أن ترفع من شأنه ليبقى عزيزاً موفوراً لكرامته.

نسيت مع ما نسيت حقاً لي قد سلب ولم يسترد وضاع ولم يوجد بعد أن فتشت عنه فقط في قائمة الحقوق وفي دفتر التعليمات وفي سجل الذمم والأمانات، نسيته لألاقي اطمئنان قلبي من القلق وراحة نفسي من الاهتزاز وسكينة أعصابي من الهياج، نسيته لأذكره فقط بيني وبين نفسي، لأذكره كلما هبت أعاصير ضياعه، لأذكره كلما طلع الصباح ولاح لي أفق الاستقرار والقلق والنشاط في الجو اللافح المكفهر.

الحق لك ولا ينازعك به منازع فإذا ما حصلت عليه قضيت حقاً قد وجب وانتهيت من واجب لم يوجد؟

الحمد لله حقي في أن أحصل عليه لا في تذكيري إياه، حقي قد أعطيته للمرضى من الزملاء كي يتداووا بثمنه ما أورثهم عملهم من مرض، حقي قد أعطيته بأدبي أو رغماً عني ولكنه على كل قد ضاع لأجدده محققاً لما اشترط في حصوله. كان لي حق وليس هذا الحق إلا بعد الفوز به كان لي حق وليس هذا الحق إلا بعد الخضوع والتملق. أردت لي الخضوع وأردت لك العزة، أردت لي الاسترضاء لا الرضى وأردت لك الرضا لا الاسترضاء.

كانت محاوره جميلة هبطت بعدها من وحي نفسي إلى وحي الناس، إذا رضيت السلامة والاطمئنان فهي في كف ألسن الإخوان عني وعن حقي ولكن على ما يظهر أن حقي إذا لم أبحث عنه جيداً في كل مكان لأجده فإني لا أستطيع أن أحصل على هذا الشرط الذي هو: دعني وشأني. حقي قد أعطيته للعزاب من الزملاء كي يتزوجوا لأن أو أن زواجهم قد حان ونجمهم لما يأفل بعد،حق قد أعطيته للمنكوبين من زملائي ممن حلت بهم المصائب وهم لا يزالون يرزخون تحت وطأتها.

تاجر ناجح وزبون لا يؤخذ عليه مأخذاً

 

من حداد إلى بائع ألعاب للأطفال التقيت معه في متجره وأحببت أن أجري معه الحوار التالي :

إن الحديد و التعامل معه تختلف كثيراً عن الألعاب للأطفال والمتاجرة بها فكيف وفقتم بين هذين النوعين من العمل.؟ إن الحديد يتطلب من صاحبه قسوة العمل وجهد النفس وإن الألعاب تتطلب من صاحبها أن يتخلى عن هذه القسوة ليلامس الرقة في الصناعة والليونة في الملمس. وبعبارة أخرى إن نظرتكم للحديد ليست كما هي للألعاب فهل استطعتم ان توفقوا بين ما كنتم عليه وما أنتم فيه؟ فأجاب إني تاجر فكما كانت تجارتي في الحديد فهي اليوم في الألعاب والتاجر يبدع في القول وفي المعاملة ويتوجب في ذلك استجلاب الزبائن بما يحسنه من استقبال وتوديع.

قلت إن الزبائن التي كنتم تستقبلونها في عملكم هي من الجنس الخشن أي أن الذي يشتري الحديد ويتعامل معه هم من الرجال غير  أن الذي يتردد على محلكم هم الأطفال والذين يرافقونهم من أقربائهم وأكثر مايكون الأصطحاب هم أمهات وأخوات الأطفال فالفرق واضح بين هؤلاء وأولئك وبعبارة  أخرى يتطلب منكم أكثر تهذيباً في القول واجمل عرضاً تستهويه القلوب كما الأنظار فهل وفقتم بين ماألفتم رؤيته وسماعه وبين مايجب عليكم أن تألفوه ليصير القبول في الاستجابة أسرع واسهل وأوفر حظاً فاجاب إن ذلك اقتضى شهوراً وشهوراً حتى أصبح الأمر يسيراً.

قلت إن مشاهدتكم اقتصرت فقط على هذه المجموعة من المشاهدات وهذه المجموعة من الزبائن، وإن عودتكم من العمل إلى البيت كان في الماضي لايسمح لكم بترداد الألفاظ والكلمات التي ترددونها اليوم فهل تغير حالكم في البيت مع الزوجة والأولاد كما يجب أن تكونوا وأنتم في طلب هذا النوع أو غيره من الأصناف وكلكم رضى لما تعملونه من جهد وبذل طاقة.؟ فأجاب إن التغيير أصبح واضحاً فيما كانت العلاقة بيني وبين زوجتي والأولاد وإن هذا التجديد صار لا شعورياً.

قلت إنكم تشترون هذه الألعاب وينبغي عليكم أن تضعوها في الواجهة والمخزن كما ينبغي لها أن تكون وتصطف فهل قدرتم على التمييز؟ في اختيار المكان لكل صنف من الألعاب وما هو الأفضل.؟ قال إن المكان والشارع يوحيان بعرض البضائع بصورة أجمل غير أن ماأهتم به أن أتواجد في المكان وأن يخلو المكان من الاجتماعات فهي ليست من صالح الشراء والبيع وإن النظرة الواحدة للمشتري تجعله إما أن ينصرف عن الشراء أو يقبل عليه.

قلت وما تقديركم لثمن الموجودات في المكان فيجب ان تضيفوا إلى الثمن الوظيفة التي تقومون بها وهي استخدامكم للتواجد من الصباح حتى ساعة

متأخرة من المساء. وبعبارة أخرى ماهو استثمار رأس المال ليكون التعويض موفياً ومجزياً. قال يمكن تقدير رأس المال بمئتي ألف ومع رهن شخصي لهذا العمل فإن الربح لايتجاوز الخمسين ألف في العام.

قلت إن الزبائن تمتحن التاجر لتعرف مقدار تهاوده في الثمن وكذلك تمتحن لتعرف مقدار صلابة عودة تجاه المغريات فبعضهم لا يحضرون ليشتروا وإنما ليحاولوا التفرج والسؤال. ومن الزبائن من يحضر وليس في جيبيه ثمن اللعبة فكيف تتساهلون في الأمر. قال إن الزبائن على نوعين فهم إما من الرجال والأطفال او من النساء وقد أقع أحياناً في محاولات متنوعة للإغراء غير أني في كل ذلك أبدو رجلاً بائعاً وتاجراً وماهراً.

وأخيراً ألقيت عليه السؤال التالي : ما هي الوضعية التي تجدون انفسكم فيها بين  ماينبغي أن تكونوا من الجد وبين الزبون الذي يرتمي لإحضار اللعبة : إن كان في الدين أو كان في الكلمة الساحرة؟ قال إنني تمتعت بصلابة الحديد يوم كنت بائع حديد واليوم اتمتع بالنزاهة والبراءة لقاء كل المخادعات فقليل من كف البصر وقليل من الكلام يحولان دون ابتغاء النفس ماتهوى إن كان من البائع أو الزبون.

 

 

 

بين يوم وآخر

 

فرق كبير بين أن ترى الشيء رؤية واضحة من جميع المعالم وبين أن تراه في زاوية محدودة ضيقة الجوانب محصورة الاطار. فالمرأ الذي تشغله ناحية معينة من جوانب حياته وهو يدور في دوامتها لا يستطيع أن يتجاوزها وإن هذا الانسان إذا ما أنتقل منها إلى دائرة أخرى ليبقى متصلاً بها في اعماق نفسه وفي ذكرياته فيعود إليها ثانية وثالثة حتى يتم إنجازها فإذا ما أخذت من تفكيره واهتمامه فإنه أبداً لا يرتاح إلا إذا رأى نفسه وقد جال بها وطاف حتى أتى على نهايتها. إن الرؤية الواضحة التي تكون للشيء هي الرؤية المجرده الواسعة الأبعاد التي لايقف عندها حد الأمكانية والأقتدار فتشمل الزمن وتنحصر بالذات وإنما يعمل فيها الفكر والمنطق والقياس والذوق السليم.

فالحياة التي تتعدد بالمطالب يبقى انشغال الكائن بها من مطلبه البدائي ليفوز به حتى مطلبه الحضاري ليرقى إلى المجد والقوة والسعادة، فما تراه بالأمس جميلاً في منتهى الجمال فاذا بك اليوم تراه شيئاً عادياً فإذا ما أهملنا جانب النفس ناحية وتركنا الأمر للرؤية الصحيحة الواضحة فإننا نجد أن الجمال يبقى جميلا وإن الجمال الذي لم يعد يروقنا اليوم هو الجميل الذي فقدناه وليس بالإمكان إعادة امتلاكه وإن الصفة مرتبطة دائماً بالموصوف وأن الموصوف أقوى وأفعل وإن الرؤية الواضحة هي من فعل صاحبها الذي لاتعوزه هذه الصفة أو تلك بل يعوزه ان يكون مبدعاً وذواقاً واسع الاطلاع والمعرفة.

إن ضعيف الأفق في جوانب الحياة لتبقى النظره محصوره في مكانها وإن اتساع الأفق لتجعلها بعيدة غير أن ما أريد قوله إن الضيق هو الذي يصنع التضيق وإن الضائقة هي التي تصنع التضييق على الروح والفكر والجسم

 

الجزء االثالث

 

لقاء بين شخصيتين عظيمتين

 

اللقاء الأول أعد له اجتماع للتباحث وحل المشكلات كان الجانب الأول الذي استقبل الجانب الثاني أقوى من الفولاذ في الصلابة للمصلحة التي ألزمته أن يكون على رأسها ممثلاً وقائداً ورئيساً لايلين جانبه إلا للحق ولايؤ خذ من قناته إلا مصلحة وطنه وبلاده وأمته.

لقد وجدت المقابلة والاجتماع للحديث والكلام ففي كل منهما شأن لايرضيه إلا أن يدور الكلام حوله، وفي كل منهما رغبة أن يخضع الجانب الثاني للأول وأن يجد المجال لتحقيق الرغبة فيهش ويبش وينطلق إلى الالتفات حتى إذا ما بدر من الأول إلى الجانب الثاني أخذت العيون تحدق وترى حولها لتسمع بالأذن التي أصغت لا بالقلب الذي يساوره القلق والصمم.

كانت الكلمات التي تعبر عن الشخصيتين تتجلجل على الشفاه فتتمتم فيما بينها وليس هناك أي إفصاح لها لتكون مسموعة لأنها لم تكن منطوقة وإنما كان التململ هوالذي يدل على أن الكلمة التي ستقال لا تقع في نفس صاحبها إلا سخطاً عليه قبل أن تكون سخطاً على مخاطبها.

لم أكن أدري تماماً من صاحب هذه الشخصية غير أني أدرك بالحس الشخصي أنها افرنسية، وذلك من خلال ملامحها التي برزت في مثل وجوه الفرنسيين. وأما الشخصية الأولى فقد ملأت قلبنا وعقلنا وحسنا إيماناً وروحاً ومحبة فلامجال للتعريف بها لأنها شغلت العالم كله بثبات إرادتها ومواقفها على ما أنطوت من إخلاص وتضحيات وحب وتقدير فأرتفع بها الشعب الذي جاء منه وأصبح يعرف باسمه.

لم تكن النظرة معطاة لبعضها وإنما كان فيها معنى الاستقبال الذي لم يتوضح ومعنى الترحيب الذي لم يكتمل فإذا أعد الاجتماع ليكون توضيحاً وتفسيراً فإن هذا التوضيح قد بدأ بالوجه الذي لم يبش و قد عرف عنه البشاشة الصادقة فهل يكذب القلب ليبش وما يراه ويسمعه ليس خليقاً بالبشاشة والابتهاج.

ليس هناك مجال لانتزاع القول فلربما سبب هذا القول ما يعاكس الهدف الذي التقينا من أجله فهل في موضع المواقف الشديدة ما يستجر إلى الكلام بغير طائل وإلى الابتسام بغير دليل التعا ون والبهجة. إذن لابد للوافد ان يرى غير ما يرضيه ولكن عليه قبل أن يفد أن يخرج باقتناعات كاملة أن الثورة ليس لها معنى النجاح إلا إذا كان قائدها أعطى لشعبه مثل هذا الصمود والتفاني بحب بلاده.

المحاولات كثيرة لزعزعة الصمود فهل كان أولها إلا مثل آخرها وهل يفهم ما معنى الصمود إنها إرادة قوية متجددة تضاء باستمرار وتغذى بالمحبة التي انصرفت إلى الشعور بالوطن والشعب ونسيت مالاقته وتلاقيه من عناءات لا تنقطع.

فثورة آذار كما يدل عليها أسمها هي ربيع للعمر وللأرض وللشباب، وإذا كان ربيع العمر يولي كما يوليه ربيع الشباب فإنها تختلف بأن الربيع يبقى في العين يحفظه شباب الأجيال في كل وقت وحين.

 

 

كنت وأنا صغير أقرأ التاريخ

 

كنت وأنا صغير أقرأ التاريخ فلا يتسع قلبي لأحداثه ولما كبرت وجدتني أقرأ تاريخ الأفراد من خلال حاضرهم فأقتبس نبذاً من حياتهم لأقيس بها الماضي

وأصور بها المستقبل. وجدت نفسي في هذا الاهتمام لما يلوح لي من دافع لمعرفة الأشخاص فاطويهم في ذاكرتي لأبحث عن غيرهم مما أجد فيهم شيئاً جديداً للمعرفة. وهكذا يتسع قلبي للحاضر فأصنف وأجعل المستقبل عنواناً للمعرفة ومن هذا الحاضر فقد أصبح عندي إطلاعاً وميلاً لاكتشاف القديم ماجاءوا به في الماضي وما يمكن أن يقوموا في المستقبل.

وجدتني أهتم بربط الحوادث وأجعل من الذكريات تاريخاً مجمداً في نفسي لأطبق ما حدث لأحدهم هل يحدث للآخر في نفس الظروف وكثيراً ما يأتي الأمر مطابقاً إذا تشابهت القدرات وا لمعرفة وتلاءم الذكاء والملامح. إن ما يتاح لي من الفرص لمعرفة الأشخاص يسنده الاهتمام بأوضاعهم، فأريد أن أتعرف على قدراتهم التي يحصلون عليها من جراء جهدهم وإرادتهم وحسن تصرفهم يدفعني إلى ذلك نمط جديد لا أجده عند غيرهم وأجد في غيرهم نمطاً آخر يدفعهم إلى التصرف على هذا النحو لحل أكبر مشكلة لهم تعترض حياتهم.

إن اهتمامي بالحاضر يجعلني لا أعرف أكثر مما عرفت وإن انشغالي في المستقبل، يجعلني لا أستبق الحوادث فأسمع من يحدثني عنها وهو يصنع ماعجز عنه وفي متناول يده  إلا أنني أترك مزيداً للاهتمام فأجد أن ما يشغله في الحاضر لايدع له مجالاً للتفكير  في المستقبل  فلا يستطيع أن يتكلم إلا على ضوء ما تذكر أما ما سوف يحدث فإن الإفاضة به تعود إلى ما تنثره الذكريات من آلامهم فيتدفق بها على نحو بعيد من المحاكمة والمنطق.

وجدتني أقرا التاريخ لما يرتبط به الحاضر فلا أستطيع أن أسمع قصة أليمة جرت في الماضي وأنا أشاهد في عيني حادثة أليمة تفوقها في العنف والقساوه. لا أريد ان أسمعها لما تتضمنها مزيداً من التميز والتزيد وخاصة عندما تكون قديمة جرى عليها تطور وتحريف بدءاً من القصة وانتهاء إلى الراوي. فمن الضروري العناية بتاريخ الأفراد والشعوب فلهم تأثير كبير على تصنيف الحوادث فإذا ما مالت الأفراد إلى اللهو والعبث فلا يخفى ذلك أن في حياتهم سأماً وضجراً فيلتهون عن مأسيهم بهذا النوع من ضمد الجراح لأن ليس لهم حيلة في ذلك.

 

 

جاحد الجميل

 

أقبح مافي المرء من خصال ان يكون جاحدا غير معترف بالجميل وقد يكون ذلك مبعثه من غرور مستعظم فلا يشعر بالفضل للمحب المحسن العطوف. وقد يكون مبعثه من استخفاف لهذا الحسن فلا يرى الجاهل إلا الصورة المعكوسة لجهله وقلة ادراكه وأخيراً يكون مبعثه للسلطة التي منحها المحب المحسن لمحبوبه والمتسامح معه. فعلى كل حال لكل داء دواء ودواء المغتر الجاحد هو الابتعاد عن مسامعه وعقله لفترة من الزمن عما يصيبه من نعمة المنعم ومن فضل المحسن ومن كرم المحب، حتى إذا ما انتهت المدة التي تصلح له ان يتعلم ويدرك عاد إلى صوابه ورجعت انسانيته لنفسه وبدأ يشكر ثم يشكر حتى ينتهي به المطاف إلى السجود والركوع، غير أن هذا التصرف لم يلق استحساناً من محبه وإنما الذي يريده محبه ان يتفهم جيداً ويقتدي حسب ما يطلب منه إذا كان قادراً أو مقلداً.

يحز بنفسي أننا لانفهم القادة إلا بعد مرور الزمن على قيادتهم وصبرهم ومرارتهم فلا يكون العون لهم إلا بعد ان يكتشفوا ان الجهاد في سبيل مكافحتهم ونضالهم ليس إلا شعوراً عظيماً بالمسئولية وحباً كبيراً لوطنهم وكرامة مواطنيهم. كما يحز بنفسي أيضاً ان تكون الصلة بهؤلاء القادة صلة انتفاع ومكاسب لشخصهم دون النظر إن المصلحة الخاصة تزول وأنه لايبقى إلا المصلحة العامة التي فيها استقرار للجميع.

لقد امتحن الشعب هؤلاء القادة فجرب اكثر من مرة فلم يجد إلا الثبات في المبدأ والحرص على الاخلاص إن كان ذلك في البداية او في النهاية وعلى كل حال لاتثبت محبة الشعب لهذه القادة إلا ان يعي وعياً كاملاً لما أراده هؤلاء القادة من شدة في وقت المحن ومن رخاء في وقت السلام والطمأنينة.

ان العمل على فهم كل ذلك يأتي من المشاهدات والنتائج التي يلمسها الشعب في قائدهم فهو يبذل ويبذل ويقاوم ويقاوم ويطلب ثم يطلب ويدعو ثم يدعو وكل ذلك لاتلين له قناة ولا يغمز له عود، في كل مرة يؤيد القائد دعوته على حب الناس للعمل لزيادة الانتاج لا يكتفي بالانتاج الموجود بل يطلب الاستمرار في النشاط والجهد ليكون العمل في تحسين الانتاج طوعيا يؤتى من حب العمل وحاجته  وفوا ئده.

فاذا ما تحقق هذا الطلب وبدا الشعور بالمسؤولية وزادت القدرة على الانتاج، فان ذلك قوة تدفع للعطاء وعندها تأتي الدبلوماسية في العلاقات الدولية حبا بالوصول بهذه العلاقات الى الحق الامثل والمعاملة بالمثل.

كانت هناك كلمات و كلمات تقال  ويرجى منها الاقناع والقبول بالرضى، غيران هذاه الكلمات ضاقت بها بعض النفوس فكان البعض يعدها قولا مكررا وما ان ثبتت هذه الاقوال بالافعال وامتحن قائلها في قدرته على الشدائد واللين معها حتى تنفرج وحتى تراجع المستنكر عن انكاره. وخضع للحق الذي كان له يكابر ولايسمع به وبذلك أنتقل القادة إلى مر حلة اخرى من جهادهم هو العودة إلى ذاتهم ليقوموا ببعض أو بكل ماوجب عليهم عمله ويبقى القائد للاسترشاد والرجوع إليه في قيادة الأمور.

لم يكن الحرب لهذه القادة هو غايتهم وهدفهم وإنما كان وسيلة للوصول بها إلى المطلب الحق، ولم يكن السلم لهذه القادة إلا عودتهم بعد الحرب، على ان السلم ينفع إذا لم ينفع الحرب وإن الحرب حاجة قاهرة يلجأ إليها حيث لاينفع السلم.

إن للسلم مهمات كبيرة قد تكون أصعب من الحرب فهو مع الدبلوماسية والذكاء والثبات وتقدير الأمور وإخضاع المعتدى عن عدائه حيث لايستطيع بعدها أن يقول شيئاً او ينكر شيئاً، وما انكره كان دافعاً من هيمنته ومايقره لم يكن إلا من تغلب الحق على الباطل والخضوع له مهما جاء من تلفيق أو تدوير.

إن البحث في موضوع السلم يصفق له جميع الناس فهل يستطيع المنكر للحق أن يتمرد على الغلبة الكثيرة المجمعة فلايقدر المعتدي أن يقول الحق في وقت الحرب ولكنه يقوله في وقت السلم بعد ان تسد له جميع الثغرات التي كان يدخل منها

للنفوذ إلى الباطل.

إن حقوق الانسان لايعدم له من مناد وصارخ ولعل اللجان المنبثقة عنه تستزيد من معارفها في الموضوع الذي تبحث عنه، غير أن استمرار هذه اللجان على الدعوة لقول الحق والتعرف به ورفع الصوت له لم يبدأ ولم ينته إلا أن يقف المتنخاصمان وجهاً لوجه يتحاوران وليس للمبطل من حجة، وليس له بعد ذلك إلا الخذلان فيما لايقره ويعمل به ويقوم له بين شعبه ومواطنيه.

 

 

الوطن يكبر بأبنائه

 

كما يكبر المولود يوماً فيوماً كذلك الوطن يكبر يوماً فيوماً والنشوء والارتقاء يكونان بالتغذية الجيدة الصحيحة فعندما نغذي الطفل فإننا نعطيه القدرة على الحركة والنشاط وعندما نغذي الوطن فإننا نعطيه القدرة على النهوض والقوة.

فبالعلم يرتفع الطفل جسماً وعقلاً وإرادة وقوة فبجسمه القوي يصبح رجلاً وبعقله السليم يصبح داعياً لكل نداء وبإرادته يصبح بطلاً تخافه الأعداء وعندما نقول الوطن فإننا عنينا الأرض التي أنبتت طفلنا الحبيب فغذته بثمارها وأرضعته لبناً صافياً ليشتد ساعده ليعيد لأمه الأرض ما تحتاج إليه من غذاء لتقوى من جديد على إعطاء الغذاء للمولود الثاني الذي جاء ليقوى أزر أخيه فالوليد السابق علم الوليد

اللاحق والوليدان كبرا وجددا العزم على حبهما لأمهم الوطن حباً يحيا فيها حياة البطولة والكرامة. إن الوليدين لا يمكن أن يتخاصما لأنهما أم وطفل وحبيبين أجمعا على أن مضرة أحدهما هي مضرة للآخر فإذا ما قسا الطفل على أمه فصدر أمه الرحيب يتسع للتسامح والنسيان وإذا ما أدبت الأم ابنها فإنها أقامت حصناً منيعاً ليحول بين تهوره وإخلاله فهذا الصدر الرحيب يحميه من النكسات وهذا الحصن المنيع أقوى من أن تطاله يدا عدو لتقذف به إلى وراء الألفة والمحبة.

المولود الأول الذي كبر هو المواطن والمولود الثاني الذي اعتز به هو الوطن، والوطن والمواطن هما الحبيبان اللذان لا يفترقان ولا يتخاصمان يجوعان معاً ولن يشبعا محبة واتصالاً ولقد تعززا سوية وبرزا قوة واحدة يسميان باسم واحد ويناديان بصوت واحد وينظران لهدف واحد.

فالمواطن هو المحرك للوطن والوطن هو الملجأ للمواطن فقوتهما تأتي بامتلاك التضحية والدفاع فمن يملك القدرة على الفداء لا تقف بوجهه القدرة على الدفاع فقوة الوطن جماله الذي يعشقه المواطن الذي هو الحبيب.

فما أسعد  الوطن عندما يكون أهله عشاقه وما أسعد المواطن عندما يرى حبيبه في أجمل صورة وأعز مكان. إذن اتحادهما قوة وقوتهما في عطائهما المستمر، وزينة هذه القوة هو الدأب المتواصل للكفاح حتى يبقيا منيعين لا يطالهما الطامع المشتت.

 

 

كتابات عديدة

 

لقد أثنيت على طلائع البعث في نظامها ودوراتها المتتابعة المنوعة سواء في التدريب أو في الحياة الجماعية أو في تعزيزاتها المستقبلية. فلقد صارت هذه الطلائع شبيبة التي هي عدة المستقبل ورجاء الأمة ومن هذه الشبيبة تقع عليها المسؤولية في النهوض بالوطن إذا جرحت أفراده وضاق بهم الأمر.

عرفت مسؤولاً كان بالأمس شبيباً للثورة ولم يعهد في زمانه أن يكون طليعياً ولما احتاج الوطن إليه أن يدير شؤون التربية في بلده واستلم هذه المهام، كان جديراً بهذا المنصب فقد تعلم في طفولته وشبابه أن يحفظ الحقوق لمن يفرط بها وأن يدافع عنها إذا أصابها نكسة ولذلك بدا نجماً لامعاً استوجب أن ينتقل من مدير تربية إلى مدير فرع وحق له ذلك وأخذ بزمام الأمر وجعل الواجب أعم والمسؤولية اكبر.

لقد أثنيت على المسؤولية التي يحملها الإعلام ممثلة بجميع فئاتها فقد أصبحت الكلمة في خدمة الوطن والمواطن فهبت تستوضح العامل في مصنعه عمّ يشكو لامن نفسه بل من انتظام العمل وذلك لتكون الشكوى عامة وفي نطاق المصلحة. ولقد ازدادت قيمة العمل في نفسه فأخذ في الجد حتى يزداد العطاء ومن هنا كانت المصانع تشاد ويرتفع بها الأمل ومن هنا نشأت المشاريع الكبيرة التي ضمت الجهاز الكبير من القدرات الفنية والعلمية في تحسين واقع الحياة والعمل.

من هي اليد الأولى في التقدير والاكبار للفكر المدبر والخطة السلمية في تكوين هذه العناصر من المخلوقات البشرية التي لاتمل في الجد والدأب لرفع شأن الحضارة في الوطن الذي ينتمون إليه حتى يكبر بهم. إن الاحتفال في كل عام بتأسيس الحزب العظيم هو الاعتراف التام بما صنعه من تخريج أبطال عملوا وسيعملون ولن يملوا العمل حتى يروا الوطن في عز والأمة في كرامة والحق في وفاء والأرض في عطاء.

فالحزب العظيم هو الذي أخرج البطل العظيم ولقد عرف الحزب مواضع القدرة والكفاءة والأخلاص في بطله فتمسك به وأعطاه الصلاحية في قيادة البلاد وكلما مرت الذكرى في مولد الحزب فهو ليجدد العطاء لأفراده أن يكونوا في كفاءه عاليه لما يترتب عليهم من أمانات لحق وطنهم وحزبهم.

فبشرى لهذا الحزب العظيم الذي جعل البلاد في قبضة رجل عظيم ماعرف الحزب مثله مناضلاً وشجاعاً وفدائياً وبشرى له وهو يتقبل التهاني في عيده الذي يتجدد في كل عام مستهلاً بعطاءات جديدة وواجبات اكبر ومدى فسيح لاحتياجات اخرى يتطلبه الوطن والمواطن، فأنا بدوري أتقدم بالتهاني لمناسبة ذكرى مولده وشكراً.

 

 

الثورة والنشئ الجديد

 

ماهي الثورة التي قفزت بالنشء الجديد من الحياة المتواكلة إلى الحياة التي تعتمد على النفس والقدرات المكتسبة قد كانت هناك حياة وديعة لاتتطلب القسوة رغم أن الوداعة لا تتم فقط بجوار الحاضر والاعتماد على الكبار لا تدوم الحياة معهم تحت ظلهم ولابد من أن تفنيهم الأيام أو يغدر بهم الزمن فلايعود الصاحب كما كان ولايعود العدو كما هو محتقر بقواه وإذا ماتم ذلك فإن الارتبا ك يجلو واضحاً في أيام الشدائد وخاصة في أيام الحرب والقتال فلا الاعداد له قد تدرب وبالتالي فلم يكن هناك قدرة على مجابهة العدو وخاصة إذا كان شديداً ويريد القضاء على جميع المكتسبات ومنها الحرية في الوطن والحرية في العقائد والحرية في الارادة والاختبار.

إن ثورة النشء الجديد بدت واضحة المعالم فالمتغيرات في كل مكان والانجازات دخلت لكل بيت وشارع. فالطلائع من مكتسبات الاطفال واتحاد الشبيبة وقراراتهم نافذة المفعول واتحاد الفلاحين ونقاباتهم تأخذ حكم القوانين والقرارات، ونقابات العمال لها اليد الطولى في حل مشاكلهم فالجمعيات الاستهلاكية تؤمن القوت والمعيشة للشعب كل الشعب، ولجان الاصلاحات للمدينة والقرية تأخذ دورها في اهتمام مطالب الحي والسكان فلو أن كل شيء كما لم يكن من بعد فإن الأمور لم تنتظم لكافة الشعب واحتياجاته.

إن برامج التعليم تصدرت التعديل طبقاً لما تتطلبه الحياة القوية التي تنظر إلى الحرب نظرتها إلى السلم فهو استعداد لتوازن القوى فإذا الضعف ساد وعليه الاعتداء من القوي فإنه قد مات والقوة بدت واضحة فلا التحديات يمكن احتمالها ولاهضم الحقوق يمكن البقاء عليه ولا القبول بالحياة الخنوعة تقدر عليها النفوس التي عظمت بعظمة قائدها وتمرست القتال بالتدريب المستمر الدائم. إن مظاهر التطبيل والتزمير وإطلاق الرصاص في الأفراح والأعياد ليست مظاهر مدنية وحضارة فإن الإقلاع عن مثل هذه العادات يأتي بالمسرة لشعب متحضر لاتصح معه المفاهيم البالية.

إن مشاركة المرأة بالعمل مع الرجل مظهر من مظاهر الحضارة فلم تعد المرأة قابعة في بيتها كما كانت لاتدخل المدرسة لتتعلم ولاتشارك بالعمل لتكون مع الرجل جنباً إلى جنب في مضمار الحياة. فقد فتح أمامها جميع المتيحات التي للرجل وإذا كان هناك من فرق بينها وبين الرجل فإن ذلك يعود إلى الأمهات ومتى أصبح الجيل الجديد في دور الأمهات وتربية الأبناء فإنها ولاشك تعلم وتربى اولادها كما تعلمت هي ونشأت.

إن انطلاقة الأطفال في مفاهيمهم له كل التأثير على الآباء فلم يعد البيت كما كان من قبل لاتسوده الفعاليات التي لم تأت إلا من الأهل فقط بينما أصبحت فعاليات الأطفال جزءً لايتجزأ من فعالية البيت، وهنا يبدو التغيير في الأسرة وحياتها ومفاهيمها.

إن انطلاقة الكبار لم تعد كما كانت من قبل فقد حُدّت إذا لم تأخذ هذه الانطلاقة بعين الاعتبار مفاهيم الأطفال ورغباتهم فالكل أصبح لايطيق احتمال الكلام الفارغ والكل أصبح في جده وعمله لايتوقف لحظة عن الحركة والعمل والكل أصبح جاهزاً للوقوف أمام معارض رغبات الحد من الحرية والإرادة والشخصية.

إن الاطفال أصبح لهم عالمهم الخاص وهو الشعور بالواجبات في انفسهم مع  وطنهم وإن الكبار أصبح لهم عالمهم الخاص في تكييف أنفسهم مع الحياة الجديدة والجيل الصاعد أما الشباب فقد كبروا على البطولة ونموا على حب العمل ونضجوا ليكون الارتباط على أساس من الصداقة التي تعطي مايحتاجه الانسان من عون وإرشاد وتضحية.

ماهي هذه الثورة وما تاريخيها، لقد بدأت في الثامنة من آذار لعام ست وأربعين وتدرجت لتصبح في مثل قوتها وتنظيمها ولم يبخل عليها التاريخ بإنجاب بطل من الأبطال اعتمدته قائداً وسار بها في دفة الحكم ليعطي من عقله الكبير وإرادته القوية وحبه لوطنه وشعبه حتى جعل البلاد تزخر بهذه السيادة والقوة والمتعة وهو لايزال يكرر ويردد إن الطريق بعده طويل وشاق فليتحمل كل منا مسؤوليته في هذا الوطن، وإن العدو الذي لايزال يطمع بالمزيد من أكتساب الأراضي لهو متربص بنا فما علينا إلا أن نصمد في المجابهة وأن نزيد من قدراتنا وفهمنا لمتطلبات الحياة من نعيم لايأتي إلا بكد الساعد وجهد النفس وإن هذا النعيم هو نتيجة أما المقدمة فهي البطولات والتضحيات والأخلاص في العمل والقيام بالواجب.

قد مات في السلم من لارأي يعصمه           وسوت الحرب بين البُهم والبهمِ

 

 

 

ورغبت في اللقاء

 

ورغبت في اللقاء لأن عهدي بمقابلة المسئولين الكبار وجهاً لوجه صار إلى تحفة نادرة قلماً أحظى بها ولو لفترة قصيرة تكون لي متجدداً وأملاً بعد سكون وهدوء. وكان الهدف من هذا اللقاء هو الانقطاع عما كان يشغل فكري والعوده إلى تفكير جديد في ظل كلام أسمعه ويملأ ذهني وعقلي. وتم اللقاء بين مجموعة من أصحاب الطلب لاادري ماذا يريدون ولكني أعلم أن البعد بينهم وبين رغباتهم مع من يهمهم الأمر هو الذي دفعهم إلى الوقوف على حقيقة الأمر بعد أن استعصى عليهم.

وجاء دوري في الكلام ولم أكن مفيضاً به ولا مستقصياً وكل ماهنالك أن الأذن كانت مصغية وهذا مايهمني في الدرجة الأولى. أما الأمر الثاني فلقد تعثرت به مبدئياً ولم يكن تعثره عن صعوبة الخوض فيه وإنما عن قدرة اختزنتها للعطاء فلما وجدت سلبها من نفسي أيقنت أن الأمر بدأ من نفسي وكيف ينتهي إلى شيء ولم يصل حتى إلى السمع ليؤخذ بعين الاعتبار.

سرحت مع نفسي لأبدل ماكانت تقلق به. علمت بعدها اني انسان غريب يرى البعيد على جماله قريب ويرى القريب على عدم انسجامه بعيد وانه حسب للمرء أن يحقق الهدف الذي لايقدر إنسان ان يرده عن غيره وإذا قدر فهذا يعني إخفاؤه وإختفاء الظاهر يعقبه تجديد وتبديل ليصار إلى تبسط اكثر في اللقاء والإصغاء.

خرجت من جو المكان وليس بيني وبينه معرفة من قبل ودخلته وكلي تأكيد بأني تركت ظلمة نفسي لأسبح في دور جديد يبدد ماكان علق بها ومالم تنسه فقد كان نسيانها بأصعب من حفظها ولقد كان حفظها بأعمل في القلب من سر الزمن وطول الأمد.

قلت لرفيقي بعدئذ لمَ تتركني كما أرغب ولم تترك نفسك كما تحب بل إنك أسرعت فابطأت ولما وجدتك تمشي على قدم واحد خشيت عليك من الزلل فلا تستطيع الوقوف لتسير كذلك حسبي اني فتحت لك طريقاً لتسير إذا أحببت السير ولكن لن اقدر أن أسد عليك طريقاً تعشقته ووجدت الجري فيه سهلاً والوقوف في الطريق

الثانية صعباً.

 

 

دعوة إلى إحياء الفن القديم للخط العربي

 

العناية بالفن أخذ دوره الجديد بتقدم شيئاً فشياً حتى توصل إلى البحث عن الجمال الذي تحدثه الخطوط بأنواعها كما وجدت في المحفوظات والسجلات القديمة المدونة بخط اليد وهنا لابد من الاشارة إلى الاهمال الذي أصاب الخط زمناً طويلاً بحيث كان ينظر إلى مضمون الكلمة والكتابة بمعناها لا بقالبها فإذا مااردنا تعليل ذلك هو أن الجمال والبحث عنه وبفنه وإبداعه تطور حتى أنتقل إلى الكشف عنه من قبل الرسوم التزينية وأثرها في النفس.

ومن أدرى باستدراج الوصول إلى جمال الخط وإبداعه وفنه من أولئك الذين بدأت شهرتهم تتوسع في الأنماط الفنية حتى بدأوا يقتبسون من اللوحات المخطوطة بالأوجه المتعدده لأنواع الخط أن ذلك الابداع لم يأت عن عفو الخاطر وإنما له ضوابط منتظمة لم تكن تقاس أبعادها بالمسطرة وإنما باليد التي درجت على دقة المسافة والابعاد لكل لوحة حتى جاء شكلها بالصورة التي وضعت لكل أطار تحلق الكتابة كما لو كان لها جمال خاص غير الذي في محتواها وإن جمالها لم يأت من المسطرة وحساب الأبعاد وإنما جاء من اليد الماهرة التي أكتسبت حذاقتها من التأمل والأنفراد بالنات ليأتي الشكل طبقاً للمضمون بما يحتويه من معان وضعت الحروف لها وكان الاخصائيون بالخط العربي هم القادرون على فهم المعاني التي وضعت لها رسوم الأحرف.

إن العناية بالآثار القديمة والمحافظة على جوهر التراث العربي الأصيل هو الذي دعا إلى موضوع الخط العربي والوصول بفنه إلى إدراك الجمال والابداع مما يعجز عنه اليوم كبار الفنانين. كان ذلك موضوع الحوار المفتوح في ندوة فنيه خصصت للبحث عن الخط العربي وإدراك القومية العربية من خلال رسومه وجماله بالصيغ المتنوعة التي كثيراً مانجدها في مكتشفاتها من خلال البحث عن الآثار.

فالدروس التي يتلقاها الطالب في مختلف المراحل لاتجعل من الخط درساً مستقلاً لتعويد الطالب على اتقانه بكتابة الحروف والكلمة لذلك لم نر لجماله وجود في كتابتنا إلا ماكان من المهتمين بكتابة اللوح والاستفادة من كتابتها بالوصول إلى مهنتهم ليعشيوا من تكليفهم برسم الاعلانات ليبرزوا منها في مهام أعمالهم وتكون لهم دعاية شهرة فإن كانت تجارية فقد تكتب الاسماء على كل سطح أملس تقع عليه العين وإن كانت للتعريف فلا بد من كتابة اللوحة ليستهدي بها القارئ إلى أسم ومكان الطبيب أو المنهدس أو العامل المهني ودرجة تحصيله شهادة اختصاصه.

إن الحوار المفتوح الذي جرى في الندوة التلفزيونية ليوم الأثنين وكان مؤلفاً من الدكاترة عفيف بهنسي، وعبد الكريم اليافي، إشارة تشجيع وتذكير بالاهتمام لهذا الفن من الخط العربي الذي إن أتقن جماله الفنان الناشئ فإنه لابد أن يتوصل إلى نوع من الإلهام والوحي في الوصول إلى الابداع الفني في عمله، وبالفعل فإني كنت قديماً لا أولي لهذا الفن من الاهتمام الخاص غير أني لا أعرف لماذا كنت أدخل في دوامة السحر والجمال لرؤية اللوحات التركيبية المكتوبة بكلمات مأخذوة ومستدلة من القرآن الكريم كالبسملة وسورة الفاتحة وآيات بنيات مثل : إنا فتحنا …… صدق الله العظيم

الخط يبقى زماناً بعد كاتبه                 وكاتب الخط تحت الأرض مدفونا

ولقد تذكرت الخطاط المرحوم هادي زين العابدين في حمص يوم ان ألتقيت معه وكان في آخر ايام حياته. فقد رسم في عهده أكثر اللوحات. لقد وجدته غريباً في بلده بحركاته ولباسه وإرشاداته ومفاهيمه وعندها لم أستطع إلا أن أكتب كلمة عنه وقد نشرت في الجريدة؛ ولقد كان في الحوار المفتوح الذي انعقد في جلسة الأثنين عن الخط العربي ذكرى للمرحوم حيث أنه كان مهندساً يقيس الابعاد بيده لا بالمسطرة وكان يعتمد على المران والذوق فتأتي لوحاته آية في الأبداع والجمال إلا أن الذي أتذكره جيداً ولا أنساه إنه انتقل بفنه وإبداعه في المرحلة الأخيرة من عمره إلى الاستقرار في مكان آخر من وجوده السابق وقد اهمل نفسه فلم يكن يزين مكتبه اللوحة التي تشير إلى اسمه بعد ان زين جميع الواجهات بخط يده وبراعة فنه. وبإحياء الخط العربي نكون قد حفظنا تراثاً ضخماً من الابداع والجمال والفن.

 

 

ماكنت أشك يوما

 

ما كنت أشك يوماً بقدرة العمال لولا أني لم أر الأخذ بيدهم على الوجه الذي يفهمونه جهاراً من قبل، ولاسأشك  من بعد بقدرتهم على الفاعلية لولا أن المستقبل القوي لايأتي إلا من الحاضر القوي وكما الأمر في العمال فإنه ينطبق على الفلاحين فأيهما استمزجت وجدت الخلل كامناً فيهم قبل ظهور العلم والتعليم بين صفوفهم، فالقوة الكامنة فيهم أنهم أبناء عمل وجد وإخلاص وتضحية ولولا الجهل الذي يسود بين أفراد معظهم لكان عملهم وجدهم وإخلاصهم وتضحيتهم أكثر بروزاً وتحقيقاً وفائدة لأمتهم ووطنهم، وكما لايخفى عليهم هو أن أنتاجهم وجهدهم تستفيد منه الأمة في بنائها وثروتها وحيويتها.

ماكنت أشك أيضاً في قوة الشباب وحملهم لواء المجد لولا أني رأيت من قبل احتياجهم إلى العيون الساهرة والعون العملي لتوجيه قدراتهم وجهه لايشوبها الخوف والقلق، ولاسأشك أيضاً في انتفاضتهم الجديدة لحمل كامل المسؤلية بما يتلاءم مع واجبهم لولا اني رأيت الدعوة إلى معرفة واجبهم من جديد معرفة أعطت لهم العون المادي بعد الاحتياج وأوسعت مجالهم بحيث أنهم ينتظمون في مؤسسات ويشتركون في مهمات يلقى فيها الكلام جدول عمل وبرنامج هدف. لم يكن الاغفال عن الشباب يوماً إلا لاعتقادنا أن الحماس مصدر عملهم وأن التغرير نتاج قدرتهم ولم يكن لنا من قبل ولا من بعد إلا الايمان بأنهم ملء القلب لكل أب وأم وأن الكبار أحياناً مسيرون لهم بعاطفتهم الأبوية وحنوهم المستمر.

ماكنت أعجب يوماً من حملة الأقلام والأدب عجبي لهم من قبل كيف ان قلمهم يكون فيه روح القلب لا دمه ونور العين لانارها ولولا أني رأيت من بعد حاجة الأمه إلى أقلامهم يكتبون بها الأدب بعاطفة الواجب لابعاطفة الألم وبقوة الثورة لابحنين الشوق واللهفة. لما كانت نداءات المسؤلية على عاتقهم في الالتزام بالتوجيه توجيهاً لينتهي القارئ بعدها إلى الحماس والنشاط والقوه فيشتد ساعده ويقوى أمله وتتجدد حياته ولولا ذلك لما استنهضت هممهم للرأفة بالقلوب التي تفطرت حزناً وألما من جراء التهاب العاطفة التي تركت لتستجيب. ولولا أني عرفت قيمتهم في التأثير على الأحساس والعواطف لما قلت من بعد:)   آن لكم أن تختاروا بين أدب ثورة أو أدب متعه)؟!

 

 

لا تغضب يا أخي العامل

 

لا تغضب يا أخي العامل الذي يشتغل في المقهى فما اصابك أصاب الملايين فإن كان لك الحق في قبض الأجور عن الأيام الأربعة التي ارغمت فيها على التعطيل وإن كان لك الحق أيضاً في الامتناع عن الدفع لأنه أيضاً مجبر على ذلك أو كان الارغام مدفوعاً من شعور الحزن الذي اصابك باستشهاد وفقيد بطل عظيم فلن يكون تنازلك عنه إلا دليلاً على الحب العميق للراحل الذي غيبته للأبد وبقيت مبادؤه في صبرك وحلمك. اما الصغار التي لاتعرف في الاقلال والاعسار حيله فإن معاملة باقي أرباب العمل لعمالهم أسوة حسنة لك

كم من العمال قد شاركوك الأسى والحزن فلبوا النداء الواجب وهم بين عامل ورب عمل فإذا اشتكوا تعويضهم فإنما يطلب إلى الملايين أن يحسموا هذه الأيام من بدلات إيجارهم وبذلك فقد توسعت نطاق المشكلة وأصبح هناك طرفان للنزاع وكان الأجدى أن تسوي القضايا بحلم رب العمل فلا يغضب من مساعدة المحتاج من عماله فيتتم الواجب ويحسن الصنيع كما على العامل.

ماذا تريد من رب العمل إذا تعلل مثلك بالعسر والضائقة هل تريد أن تاخذ بخناقة وقد استحال عليه الاستغناء عن مجموع حسابك في الأيام التي انقطع فيها مورد رزقك فطويت نهارك صائماً انت وأسرتك وأطفالك.

أين نقابتك يا أيها العامل لترد لك حقك وحقه ولماذا وضعت النقابات وتشكلت وهي اقدر بتصرفها من الافراد كل لوحده. هل رجعت إليهم في امرك ومظلمتك فإذا كان كذلك فانتظر أن تنصفك  أنت وأمثالك من البائسين الذين إذا توقفوا يوماً عن العمل فإنهم لايقدرون أن يجدوا في هذا اليوم مايأكلون.

صبراً ايها العامل فالعالم كله في حزن عميق وحزنك اليوم في معلمك يجب أن لا ينسيك الحزن الكبير الذي أصابك وأصاب الأمة كلها وذلك بفقد الأب العطوف والأخ الحنون لولده يوم أن رحل عن هذه الدنيا وترك لك خطوطاً ومناهج تسير عليها.

ليتك لم تذكر لي شيئاً يزيدني في الحزن وليتني لم أتعرض في الاطمئنان عن احوالك لكنما هذه مصيبتك لاتستطيع أن تحبس الأنفاس عنها، اما مصيبتي فهي في الرجوع إلى صوت الضمير يؤنبني فيما اخطأت ولايستريح إلا عندما تسعد أنت وزملاؤك.

 

 

أحببت تشرين بعد الثورة

 

أحببت تشرين بعد الثورة، ولو كانت تشرين قبلها فإني سأظل لها المحب الأول والسبب عندي لا أريد الآن إعادة شرحه. ما قرأت لأول مرة العدد الأول من جريدة تشرين إلا وتجاذبت نحوها بشغف واهتمام. إنه ليعجبني الكاتب الذي يكتب ماله وما عليه فيرمز تارة ويشير أخرى. وتكون الكلمة مليئة بما تحتوي من معنى تجمع في استعمالها واقع الحياة وترفع النفس، فإذا انحطت مستوى الحياة كان من ترفع النفس جمالاً للدلالة عليها، وإذا ذلت النفس كان من قوة الكلمة في استخدامها ما يدل على تقلقلها وهي راسخة ومحوها وهي أصيلة.

في زاوية " غين " وزاوية ثانية وثالثة مستمرة موضوع جديد لكاتب معين وفي زاوية " كل شيء " موضوع جديد أيضاً لكاتب يتعين بعد كل مقال، فحسب هذه الزوايا فقط ما يثير القارئ ليدفعه إلى إعادة القراءة في الزوايا الجديدة من العدد الجديد الصادر.

بيني وبين الكاتب الناقد صلة كبرى فإما أن يكون نقده بناءً وبذلك انتهت مهمته وإما أن يكون نقده مستنفذاً صبر الآخرين فيستجاب أو لا يستجاب وكلا الأمرين مدعاة للنفوذ إلى الأعماق، وكلا الأمرين فيهما معنى القول وفائدة القراءة.

جاءني الخطأ من الموظف الذي لم يفتح سمعه للكلام فيسجل الساعة الحادية عشرة قبل الظهر بدلاً من الساعة السابعة مساءً وخطؤه لم يوقعه بلوم صارخ يشعر به ما كانت الكتابة تعني من إبطال تذكرة السفر وإلغاء الحجز للمكان وبالتالي تأجيل السفر. أما خطأي فإني كنت على ثقة به تامة فما قرأت ما كتب ولا أعدت النظر فيما ينبغي أن يكتب.

جاءني الخطأ الثاني من الذاكرة التي حفظت وما نسيت. فقد أعطت مديرية الأوقاف إلى المصلين في شهر رمضان بعد صلاة العصر ترتيلاً للقرآن يتناوبه أربعة قراء فلماذا الآن لم تمنح ما اعتادت عليه من قبل فتجدد الخشوع والعبرة والذكرى للمؤمنين، أما خطأي فأني جهلت أن اليوم غير الأمس وربما يكون غير الغد.

وأخيراً لم يجيء الخطأ فيما أقرأ من أعداد الجريدة فلست أقرأ " الثورة " وهي " تشرين " ولعلها تغني في وفرة موادها عن الأولى، ما أخطأته من قبل لم يتكرر في معرفة الجريدة "تشرين " التي لها صفقت وغنيت وسموت.

 

 

فليعش قائد وثق بشعبه

 

فليعش قائد وثق بشعبه هذه الثقة العظيمة ولتعش أمة رفعت قائدها لتضعه في المكان الأول لم يكن من السهل الافتخار بمثل هذه الثقة وهي التي طوقت العدو وجعلته يحذر كل الحذر من هذا الشعب الذي بلغ عدد سكانه اثنى عشر مليوناً ولم يكن من السهل الاعتزاز بهذه الثقة في القدرة على التغلب والنصر ولو أن أمريكا من ورائه، فإذا ما أحصيت الآلام من جراء وجود العدو فإننا نجد حب الوطن والدفاع عنه أقوى من جراحها؟ فماذا نقول للعدو إذا اعتبر الجولان حدود بيته، فبكل شجاعة وإيمان لا يتخاذلنا اليأس ولا يثبط همتنا القوى التي يتسلح بها العدو لنقول له إن الكارثة لتقع من الجولان وإن المستقبل ليبشر بأنها ستكون في قلب سوريا بدلاً من الحدود!!

ماذا علينا بعد ذلك فليسمع شعب مصر بما نودي به من قبل الرئيس أنتم خمسون مليوناً والوطنية الحقة يشهدها لكم تاريخكم الطويل فماذا نقول عن لبنان وعن صموده ومقاومته للغزو الصهيوني. ولو أن كل واحد من عشرة كتب لهم الحياة بعد الكفاح المستمر فهذا الواحد وهذه العشرة هو يمثل الشعب اللبناني بالنسبة لعدده.فإذا ما استمر النضال فلن تعدم المقاومة اللبنانية مساعدتها الفعلية من شقيقتها سوريا، كما أن سوريا ترى من جميع الدول العربية والشعوب الصديقة الأوربية واتحاد الدول الاشتراكية وخاصة روسيا ما يمكنها من الصمود في وقفتها البطلة لتنال حقها وتسترد أراضيها.

ماذا علينا بعد ذلك؟ علينا أن نعتمد على إنتاجنا والشعور بمسؤولياتنا والقيام بواجب المراقِب والمراقَب أولاً تجاه أنفسنا وثانياً تجاه المقصر بيننا ولا ينبغي أن نحسب لهذا المراقب حسابه لأننا مطمئنون إلى صدق أعمالنا وحسن نيتنا

وانتظام واجبنا. وماذا علينا بعد ذلك؟ لتكن إرادتنا من أنفسنا ومن وحي ضميرنا ومن حبنا لوطننا وإخلاصنا لأمتنا وحبنا للغتنا وقوميتنا.

إن الإرادة هي للشعوب ولتهب ثورتها فإذا ما التهبت فإنها لا تنطفأ حتى تسترجع حقها من الأرض وحقها من طرد المحتلين فإذا ما نامت فإن نومتها لا تطول فتهب كالبركان الثائر. إن النهضة شملت كل نواحي الحياة وشعار هذه النهضة شعب لا يركع لمحتل، سواعد تبني بيد وتقاتل باليد الأخرى، إيمان متجدد بحق الحياة والحرية، فالمتخاذل ليس منا ولا يستطيع أن يؤثر في إرادتنا فييأسها ويثبط عزيمتها.

 

 

تحية عربية

 

كان أول لقاء معك منذ تسع سنوات على حال من الإعجاب والتقدير يوم كنت لا أعرفك ولا أعرف عنك شيئاً إلا أنك استمعت إلى الكلام الذي بدأني به رفيقك المغيب غيبة خالدة. كان الكلام صريحاً واضحاً وكانت الإجابة على الأسئلة واضحة أيضاً، إلا أن الذي سبق من الكلام قوله كان في ذاكرة رفيقك نسياً منسياً ومن هنا جاء دورك الذي أصبح فيما بعد مديراً مختاراً للتربية وذلك لخوض أول تجربة لك في ميدان المسئولية. كان هذا اللقاء الأول هو العودة برفيقك إلى ما كان قد أجاب وكان هذا الاستعراض بادرة قوية إلى التعرف على إمكانية الإنسان المحبوب وخاصة فيما يتعلق بذاكرته القوية.

لقد جمعتني الظروف إلى اللقاء بك بعد ذلك مرات ومرات خلال إطلاعك على أعمال الموظفين، وقد كنت واضحاً أنك مرح من غير إنقاص لجدية العمل والقيام بواجب الإدارة. ومرت الأيام وكأنه الإنسان الذي استطاع بدراسته للتاريخ والمجتمع أن يضع كلاً في مكانه المناسب من العمل. ولم يمض على ذلك أكثر من عامين كنت بها على قرب معك في الاستفادة من ملاحظاتك وحضور شخصيتك. فكما عرفتك في الإدارة فقد عرفتك في الرد على السؤال الذي وجب الإجابة عليه بكل دقة واهتمام وخاصة عندما التبست الأمور في التعريف على الموظفين أمام مسؤول أعلى جاء لزيارة الدائرة حرصاً على المصلحة العامة.

لقد دفعني التقدير يومها لشخصيتك أن أسجل كلمة عنك في جريدة الثورة تحت عنوان من يدري؟ وبتوقيع الحرف الأول من الاسم والكنية الكاملة له وعلى ما يبدو أن الكلمة قد نالت استحسان المحرر فتمنى لو أن الاسم كان واضحاً وأن الكتابة مستمرة فترحب الجريدة بما يجيئها من الكتابات داعية للتوفيق وعدم الانقطاع. وتركت الدائرة وانقطعت المشاهدات وكنت حريصاً كل الحرص أن أعيد الكتابة في الإنسان الذي اختاره الفرع رئيساً ليتولى شؤونه بعد فراغ رآسته ولا عجب فهو في عنفوان شبابه وقوته ولا ينقصه إلا أن يكون مسؤولاً على مستوى أعلى ليقوم بواجب أكثر بروزاً وإعلاناً.

وفي غمرة من الحزن على الأستاذ الراحل مربي الجيل المرحوم رفيقً! شدتني الكتابة من جديد لا عن الرفيق الذي أصبح رئيساً للفرع بل عن الإنسان الذي كان بفقده خسارة كبرى للأدب والتأديب وبدلاً من أن تكون الكلمة مرسلة إلى الجريدة فإنها أرسلت إلى المسؤول الأول الذي بإمكانه أن يفعل شيئاً مما طلبت وكان عطاءً وفياً: هو أن تسمى مدرسة باسمه وقد تم ذلك وأن يسمى شارعاً باسمه أيضاً فكان ما يجب أن يكون فإلى السيد " رئيس الفرع " الشكر بالنيابة عن جميع المقدرين لأدب الراحل وإني إذ اعتذر عن هذه الرسالة التي جاءت متأخرة، إلا أنه يطيب لي أن تقع موقع الرضى. وبهذه المناسبة أتمنى كما تمنيتم من قبل أن لا يقف أمام الفرن إنسان واحد ينتظر ليأخذ دوره في الحصول على خبزه. فليمتعكم الله بالصحة والعافية لاستكمال رسالتكم الخالدة.

 

 

من مجتمع العمال إلى مجتمع المعلمين

ومن النضال في سبيل العمل الفلاحي إلى النضال في سبيل العمل التربوي

 

لم أكن أعرفه وإنما تبينته من خلال حركاته وكلامه. ومن خلال طلعته ومجتمعه كان ذلك منذ أكثر من عشرين عاماً يوم كنت أطالع دروسي في زاوية من المقهى منفرداً. كان ذلك الشاب هو الوحيد بين مجتمعه إذ كانوا يرتدون الكوفية والعقال مع السراويل الطويلة وكان هو صاحب اللباس الرسمي. في تلك الأثناء لم أكن اهتم بأحد وإنما اهتمامي كان في حل مسألة رياضية أو تمرين جبري. عرفت أقرانه معرفة لم تجر إلى معرفته لسببين: السبب الأول هو أنهم كانوا يستمرون في الحضور في الوقت الذي كنت أباشر فيه بالعمل المدرسي. والسبب الثاني هو أني كنت لا أقبل أحداً من حولي يجتمع معي للمحادثة ويضيع الوقت ولذلك كانوا يتركونني لوحدي ويكتفون مني بالسلام.

كان هذا الشاب يتردد إلى هذه المجموعة من العمال الكادحين في العمل الفلاحي وكنت أسمع صوته يرتفع عالياً بين أصواتهم وفي لهجته طبيعة الثورة والتمرد على ما كان يجري في أنظمتهم المتبعة. كان يتكلم بكليته بعقله ولسانه وعينيه ويديه. كل ذلك كان يثير انتباهي ويلفت نظري إلى ما حولي. لأتبين صاحب هذا الصوت وهذه الحنجرة وهذا المظهر الخاص. فبالإضافة إلى لباسه وصوت كان عملاقاً ذا رأس كبير يدير بحديثه دارة المجلس وهم يستمعون إليه بكل إصغاء واحترام.

عرفته بعد ذلك معلماً زميلاً. عرفته من قريب. عرفته بروحه الثورية غير أني كنت نسيت أنه الشخص الذي كان يلفت نظري في ذلك الحين. وقد انطوى العهد السابق في ذاكرتي وأصبحت ملازماً له في مدرسة واحدة أستعذب حديثه لا لشيء إلا لصراحته. فكان يتحسس بالواقع ويجعل من الصعب يسيراً ومن المستحيل ممكناً.

مرت الأعوام وصار عضواً في النقابة. غير أنه لم يخجل أن يعلنها بصراحة وفي مناسبة ملائمة مع مجموعة من الزملاء لأنه أراد الحق وأراد أن يعرف شخصاً آخر جرى الحديث عنه. فقال: " أنا أعرفه جيداً أجيراً عنده " استحسنت منه هذه الصراحة وأعجبت به وزادني إعجاباً وقلت في نفسي: إنه عصامي يفخر بعمله وببناء نفسه ولا يتورع عن ذكر ماضيه وطراز معيشته رجعت إلى نفسي بعدها وإلى ذاكرتي فإذا بها تستعيد صور الماضي.

فأنا على يقين أن ذلك الشخص الآن الذي هو عضو في النقابة يكدح من أجل حقوق المعلمين هو نفسه في السابق يكدح من أجل حقوق الفلاحين ولقد كان بين صف العمال مبرزاً وها هو الآن بين صفوف المعلمين أيضاً مبرزاً لأنه يشعر بشعورهم. ترك العمل في البستان إلى العمل في النقابة. ترك النضال في سبيل زراعة الأرض إلى النضال في سبيل المعلمين. إلى عيش كريم لائق والسلام.

 

 

ضاق صدري مما أجده سهلاً

 

ضاق صدري مما أجده سهلاً ممتنعاً فليس لي من الأمر إلا أن أتوسع مما أضيق به، أو أن أجد الممتنع قابلاً للعطاء وذلك بالجد والاجتهاد والصبر. فهل هذا صحيح أنه سهل ولا يمكن الوصول إليه وهل هذا صحيح أنني بعدما وجدت الشيء سهلاً فإني أتذمر وأضجر؟ إذن لابد من وجود علاقة بين ما أرى وأعمل وبين ما أرتني وأتدبر وأخيراً بين ما صنعته وأصنعه وأقدر على صنعه في المستقبل.

المعطيات الأولى للإنسان هي في قدرته على الأخذ وبمقدار ما يجده من المقاومة في العطاء يكون النظر إلى الشيء بصورة أبعد مدى وأوسع مفهوماً فالحركة التي تبدأ من ذاتك أولى بها أن تسكن أو تتابع نشاطها فمضمارها الدائرة التي تجول فيها.

فإذا كانت واسعة فإنك تضيقها شيئاً فشيئاً بضيق نظرك وضعف خبرتك وإذا كانت ضيقة فهذا لا يكفي أن يكون لك بعد النظر وقوة الخبرة لتوسعها وإنما تحتاج أن تنظمها تنظيماً لا يضيق معها الصدر بالصبر الطويل على تنظيمها غير أن مجال الصبر يعني اتساع الدائرة وليس ضيقها إذن فإن فراغ الصبر يكون بعد إعطاء النفس أقسى قدرتها على الاحتمال وهذا يكون بتفجر الموقف والطاقة النفسية. إن السهل ـ إذا كان الرأي الفردي ـ يقرره سهلاً دون أن تشعر به الجماعة فإنه لا يعطي صفته الحقيقية وما دام أنه سهل بحسب رأي الفرد فلماذا لا يبدأ بحمل الجماعة على الفهم والاقتناع بأنه سهل.

بقي علينا أن نعرف اليد التي تكتب وتعمل والقدم التي تسير وتتوقف والقلب الذي ينبض بالحياة والحركة فإذا كانت جميعها قوة بلا قوي وعطاء بلا أخذ وحياة بلا حي فهذا يعني إسنادها إلى القوة بعد أن أغفلنا وجود العالم، فالعلم قوة كامنة لا تتحرك ما لم يتحرك بها العلماء وليس العلماء هم الذين يدرسون ذلك العلم ويحفظون تلك القوة الكامنة ولكنهم هم الذين يقتطعون قسماً كبيراً من جهودهم في إظهار فائدته برفع العسر عن المتغلب وإيجاد حياة للمعدم.

كتبت هذا بمناسبة الخطوة الكبرى نحو تحقيق فوائد ملموسة في سبيل تفرغ الأساتذة وأصحاب المواهب لإعطاء قدراتهم العقلية والعلمية مجالها التام في الإنتاج والإشعاع، والأمر الضروري المتمم لهذا الانتفاع هو منح خالص محبتهم لوطنهم الذي هو بحاجة إلى مزيد من المحبة الفعلية المتجلية في الاختراع لوسائل الحماية والدفاع.

 

 

العمل هوالدليل على صدق القول

 

إن الدليل على صدق القول هو العمل به فويل للقول إذا عجز صاحبه عن تنفيذه. إن نطاق القول ليتسع فإذا ضاقت دائرة العمل فليس هناك من دليل إلا المشاعر التي تعبر عن الرغبة فيه.  ليس العمل بحاجة إلى دليل على صدقه فتناول الطعام معناه الرغبة في الأكل أما الإمساك عنه فليس من دليل على تصديق عدم الرغبة فيه النظر إليه والحديث عنه والإصغاء لموضوعه فهو أيضاً نوع من الإثبات على الرغبة في الأكل لأنها مشاعر حلت محل العمل الذي هو إدخال الطعام في الفم ومضغ اللقمة وطحنها وابتلاعها. هل تفجر المشاعر نوعاً من العمل يأتي فيما بعد ليدل على صدقها وما هي حدود وطاقات هذه المشاعر.

إن العمل هو معرفة وطاقة وإرادة وقدرة ومهارة وإن المشاعر هي إحساس وتأثير وانفعال تنم عن المعرفة وتمت صلة بالإرادة فإرادة الكلام تتسع وتضيق ولا يضيقها إلا حدود الإمكانية لطاقة العمل فهل يعني إن الدليل على رغبة الكلام هو في فتح الفم ودفع الهواء وتحريك اللسان. ليس الصمت بعمل وإنما هو مشاعر أخذت بقبضة اللسان وجعلته يتحرك أو يقف فيهتز له أعمق أعماق النفس ألا وهو الألم الذي يتحول إلى دموع لدى مشاهدة الأسى الحزين كفقد عزيز ونكبة صديق وامتهان كرامة وتعذيب روح.

إذا انقطعت الرغبة عن الكلام فإن الدليل على صحتها يقوم على الصمت وخير دليل له هو تأففك من الكلام الذي تسمعه والمكوث قليلاً في مجلسه والاستغراق الكامل كأنك لم تسمع وليس لك أذن وليس لك لسان. ما هو القول إذن في مجلس الخطابة والحديث، ومجلس الأدباء وأصحاب الكلام والرأي، فجاء الصمت ليعبر عن مرارة الألم وليس الكلام ليحل محل العمل فما أجدر بالمصيبة إذا وقعت إلا أن يكون الإسعاف المادي دليلاً على الوفاء لأهل الفقيد. وكم من عيون بكت فعزت دموعها وترقرقت في المحاجر. والفقيد في ريعان الشباب ولما يبلغ الأربعين.

عاش يتطلع إلى مستقبل أمته ووطنه ينتظم فيها حب العمل للعمل فتبلغ بالصبر والجد والعلم والإرادة مستوى الترفيه الذي ينتقل في بيت كل أسرة علماً بأن الفقيد قد خلف وراءه عدداً لابأس به من الأولاد أكبرهم في سن العشرين لا يزال في بداية الطريق للانتهاء من دراسته الجامعية. صلتي بالفقيد صلة زمالة وكنت أكبر فيه همته العالية على تحمل صعاب الأسرة والقيام بنفقاتها على الوجه الذي لم يتح لمثله من الإمكانات المادية المحدودة أن ينظمها ويملأ مشاعرها بالمحبة والحنان والعطف.

 

 

اهتدوا بهديه واعطوه القوة

ليظل المصباح المنير المشع

 

إني أؤمن بالشعب بفرحه وغضبه كما أؤمن بالقادة بإخلاصهم وقدراتهم. فليس الشعب وكلمته الإجماعية إلا صوت من الحق لا تستقر إرادته إلا على الخير والمحبة والإيمان والعطاء وليست القادة وكلمتها الحتمية إلا صوت من الحق أيضاً أرسلهم الله لأمتهم ليسيروا بها نحو التقدم والمنعة فأنى لهذه القادة هذه القدرة الموهوبة إذا لم تتجدد بالاعتماد على النهج الذي اتخذوه في حياتهم: الحب للوطن والتضحية من أجل

الرفعة والكرامة.

إن الشعب كل الشعب بحاجة ماسة إلى قائد عظيم يسير به نحو شاطئ الأمان فإذا ما وجدوه فإنه يتمسك به تمسكاً لا يصدق ويحرص على مكافأته وتقديره ويتمنى دائماً بقاءه في جانبهم كي لا تضيع منهم الطمأنينة التي ارتاحوا إليها والطمأنينة التي تفلت من أيديهم إذا هم لم يعرفوا لهذا القائد إخلاصه ومحبته وكفاءته وإذا لم يعرفوا أين يسير بهم وإلى متى تنتهي المسيرة؟!

ما أعطى القائد للشعب هو ما أخذه الشعب منه جملة وتفصيلاً فالعطاء هو لمجموعة الأفراد الذين يتشكل منهم الأمة والوطن وفي الواقع ليس هذا بالأمر السهل. معه تحسس كامل للطبقة والهوية التي ينتمي إليها القائد فهو مرتبط بلغة شعبه والمفاهيم التي عاشت عليها. يصرخ فيهم صراخ الأسد ليهبوا دفعة واحدة ضد المعتدي الآثم ثم بعدها ينام نوماً هادئاً قليلاً ليعد من جديد بصراخ جديد ليقول لم يكن المعتدي بالضعيف الذي يقضى عليه بسهولة ولم يكن المعتدي بالطامع السهل الذي يكتفي بجزء من الوطن بل الطامع هو عدو شرس يطلب الأرض والمال والكرامة والدين والأخلاق ليحتوي الشكل دون المضمون فإذا ما تم له ذلك فهل يستطيع أن يغير قلباً بقلب وعقلاً بعقل وإرادة بإرادة فالقلب الذي أحب الوطن يبقى دائماً هو القلب الذي لا يستسلم لمن أراد له كراهية الوطن والتجرد عن انتمائه ومنبته. والعقل الذي عرف الهدى والنور أنى له أن يقبل إذا ما اهتدى بنور العزة والحق، بقي أن نقول للإرادة هبي دفعة واحدة واجعلي من الشعب معواناً لقائده كي يكون اليد الذي يقوى بنصرتكم له ويكون المرشد لهذه الإرادة إذا ما حاد الخوف والقلق عن الصمود بها لتستمر في الكفاح حتى تتحقق مطالب الأمة الحقة.

تجديد الولاية للقائد هو الإيمان بوفاء الشعب له وتجديد الولاية هو الاستمرار بتقدير الشعب لعطاءات القائد وأخيراً تجديد الولاية هو الرضى التام عن القائد الذي لم يرضى مطلقاً بأنصاف الحلول يظل يصارع الباطل حتى يصرعه.

 

 

من ساعة صفاء

 

من ساعة صفاء تذكرت فيها الكثير الكثير من أيام العمل والمطالعة والمشاهدة والاستماع حتى أن صدري ضاق بما تذكر بعد أن اتسع فكري بما سمعت وشاهدت وما انتهيت من التذكار والاتساع والضيق حتى مرت ساعة صفاء أخرى فإذا بي

أكتب هذه الكلمات.

إني أحب الوطن وفعلت الكثير من أجله كل على حسب طاقته ومؤهلاته كان ذلك في الماضي البعيد البعيد وفي الماضي القريب غير أني أرى اليوم أن الدليل على حب الوطن يكاد يكون معدوماً لا لشيء سوى أن حياتي اقتصرت وطوقت على ممارسته في الماضي لم يكن الآن في الحاضر بعد أن زال عنه جميع الصفات ذلك أني لم أعد أسمع ما كنت أسمعه من قبل وأتكلم ما تكلمت فيه من قبل.

أين أنت يا وزارة التربية ويا وزارة الإعلام لكم جميعاً أكتب ولكم جميعاً أذكركم ولكم جميعاً الاهتمام بمن أحب وطنه فعلم الجيل الصاعد وخط القلم فلم يجف كتب في المحن والرذايا وكتب في السعادة والهناء وكتب في الحق والواجب وكتب في الجمال والمحبة وكتب في الوطن والمواطن، بعضها نشر في الصحف مقطوعة كاملة وبعضها الآخر اقتطف منه بعض الكلمات والبعض لم ينشر وإنما وردت تعليقات فيه وهي على كثرتها ومجموعها لم تنقطع ولم تتوقف حتى الآن.

فإذا قيل لي ماذا تفعل الآن بعد أن تقاعدت وتوقفت عن التعليم وانقطعت عن المكتبة ولم يعد النشاط في القراءة والمطالعة كما كان سابقاً. فإذا بسطت نفسك لميدان التعليم فهناك معلم بدون تلاميذ وإذا أخذ القلم يجري على لسانك فهناك كاتب ولا قارئ وليست الصحف أو المجلات إلا مجال للقراءة أو الكتابة.

من أحب وطنه عليه أن يعمل بما هو قادر على فعله وإذا لم يفعل شيئاً وهو قادر على الفعل فإنه لا يستطيع أن يجهر بهذه المحبة التي تبقى كامنة ما لم تتحرك وما أقساها من محبة لا يؤمن بها الجمهور وتظل عالقة في نفس صاحبها فلا يستطيع أن يكذب ولا يستطيع أن يصدق.

 

 

تحية طيبة لمؤتمر اتحاد الطلاب

 

وبعد: كان بالأمس مؤتمر الشبيبة وبعدها عقد مؤتمر اتحاد الطلاب وكما كتبت كلمة في مؤتمر الشبيبة. يسرني أن أكتب أيضاً كلمة أخرى في مؤتمر اتحاد الطلاب ولعلي أوفق في التعبير عن مشاعري تجاه المؤتمر بعد ما شاهدته في التلفزيون وسمعت خطاب الرئيس فيه.

إنني أشعر دائماً بالحاجة الملحة إلى علم المتعلمين ونبوغ الأذكياء وخاصة من الطلاب الذين هم عماد المستقبل فالعلم والمعرفة ضروريان للتخلص من الفقر والجهل والمرض وهما الإشعاع الواضح لنهضة البلاد وتقدمها. وهذا أمر مفروغ منه وإنما أشرت إليه إشارة لأن الطالب سائر في هذا الطريق يدفعه لذلك تأمين مستقبله

والتقدم بشخصيته.

أحببت أن أشارك الرئيس في مشاعره نحو تقدير قيمة الإيمان في العلم بحب الوفاء والتضحية والغيرية والشجاعة والكرم والوطنية. فالإيمان بها جميعاً ينمو في الإنسان منذ ولادته ويقوي شيئاً فشيئاً حتى يصبح جزءاً من الشخصية وقد يوفق الإنسان إلى وجود هذه الأشياء في مواهبه منذ الصغر فما عليه إلا أن يوضحها ويرسم لها استعدادها الكامل لتصبح أمراً طبيعياً.

فإذا ما ذكر الوفاء فأهله ووطنه يستحقان منه هذا الواجب قبل كل شيء وإذا ما ذكرت التضحية فإن الحب العميق لأهله ووطنه يسمح له أن ينسى نفسه ويغيب في تقديس الواجب لهما. وهناك الشجاعة والكرم ففي قلب كل إنسان خوف من المستقبل والمجهول غير أن الإطلاع والمعرفة اللذين يذيبان هذا الخوف هما الكفيلان بأن يمنحا للإنسان الشجاعة التي ليست عنده هذا ما نسميه بشجاعة العقل الذي ينحدر به

إلى القلب.

إلا أن شجاعة القلب التي تتميز بدرجات فإن ذلك يتطلب الابتعاد عن الملذات الجسدية التي تحيق بالطالب ليتقرب من الملذات الروحية والعقلية في قدرته على العفو عند الاقتدار والصبر على المكاره والأخذ بيد الضعيف وتحمل المسئولية

والشعور بالواجب. إن ذلك كما يتطلب وعياً فإنه يتطلب الاعتناء بالجسم الذي يحمل هذه المبادئ، فمن ذاته إلى أهله إلى منظمته فمن لم يكن في داخله هذه القوى فعليه أن يتعلمها شيئاً فشيئاً وبالذوق السليم يكتسب ما كان قد فقده منذ صغره.

إن مؤتمر اتحاد الطلاب هو ميزة لوجود المتعلم والمحب للعلم فمن نجح في دراساته لا بد له النجاح فيما لم يدرسه في الكتاب ألا وهو تقديس نفسه للإفادة فما درسه نظرياً يجب أن يدخل حيز التنفيذ فإنه يعيش في بلاد تحتاج إلى خبراته ومعلوماته مضافاً إليها إخلاصه في البذل والعطاء وإعطاء كل ما يمكن إعطاؤه فالارتقاء إلى مستوى النضال للمبادئ التي يحملها القادة لا بد للطالب أن يكون له غريزة الإباء والشجاعة والكرم والوفاء إن كان لوطنه أو لأبناء بلدته يدفعه لذلك شعور نبيل بالواجب الملقى على عاتقه وتربية صالحة تهزه في كل موقف يسيء

للصالح العام. فإلى الأمام وكما قال الشاعر أحمد شوقي:

وبالعلم تشتد أركانها

                        ولكن على الجيش تقوى البلاد

 

 

 

ليس للشعب إلا تقديرالأبطال وليس للأبطال إلا محبة الشعب

 

إن أنسى لا أنسى حق التكريم والافتخار بأبطال البلاد وشهدائها، فأذكر ولأعدد مناقبهم ومواقفهم الشجاعة، فهذا ما أتركه للتاريخ ليتكلم ولئن صمت طويلاً عن النطق بهذه الأمجاد فإن محبة الشعب بأكمله تكاد تتفجر علماً واعترافاً لتحي بطلها العظيم الصامد الذي لم يتزعزع في الملمات فخاض الحرب وأقام حركة التصحيح ونادى بالحرية والاستقلال ورفض المشاركة على إذلال كرامة الأمة وأبنائها، فعزز الطفل في مدرسته والشاب في طموحاته، وأقام الحياة لكل فرد له دوره المقدس فلم ينس العالم في قداستة والجندي في معركته، والفن في سموه ليشملهم جميعاً بعطفه فلا عجب أن ينال هذا القائد ما لم ينله من قبل أمثاله الذين تزعموا البلاد وقادوا مسيرتها، فإذا كانت المحبة هي نتاج هذا التقدير فإن الابتكار والإبداع يعملان لجعلها في أجمل صورة وأبهى منظر.

إن المواقف الصعبة هي التي تشهد للزعماء وتدل على بطولاتهم الرائعة فما أجملها من كلمة صريحة صادقة ينطق بها لسان الحق فيتصدى لجميع المناورات والمساومات فالامتحان عند الشدائد وقد ابتليت أمتنا بطمع العدو في أرضنا وبأساليب متنوعة في الحصول على مكاسبها يوماً بعد يوم فكان منه تشتيت الجمع ليتفرق والوحدة لتقسم والصمود ليلين ويفتر والقوة لتضعف وتستسلم والأمل لينهار ويضيع والعزيمة لتتبدل ولا تقاوم.

إن احتفالنا بذكرى التصحيح والإشادة بالمنجزات العظيمة التي تمت خلالها لأكثر مما تحصى فهي في كل قطر وبلد، وهي في كل مدينة وقرية، وهي في كل بيت ومجتمع في طريقها للنمو والاستمرار ولا يمكن إلا الوقوف أمام نهضة البلاد السريعة إجلالاً واحتراماً لهذه النهضة التي شملت كل مرافق الحياة لتقول لكل فرد: خذ دورك في الحياة فليس للكسل بعد اليوم وجود في صفوف الوطن وأهله وليس للتراخي إلا الموت والفناء فإذا تقدمت للقيام بالواجب فهناك من يقول لك لماذا أجلت عمل اليوم إلى الغد، لماذا أخذت جانباً وتركت جانباً آخر مع العلم أن عملك ليس له مسوغ إلا الشكوى والاعتراض فالفرصة متاحة والإمكانية متوفرة والحافز للنشاط والإقدام فسيح ومتسع، فإذا كان الجهل منا فما كنت إلا المرشد ولقد أؤتمنت في مسؤليتك فالرعاية حق وواجب. أما حقنا الاعتراف والتقدير بالفضل والمحبة.

ما أجمل القائد أن يبتسم للنصر فيزهو بمحبة شعبه له؟! وما أجمل القائد أن يرى نتائج انتصاراته فيحتفل بعيده عيد البلاد الصحيح يوم أن كانت أوشكت أن تتمزق،ما أجمل القائد في كل مناسبة بين أفراد الطلائع وفي عيد العمال والشباب يبتسم للأمل ويشد بيد القوة التي تبنى صرح الوطن ومجده، ما أجمل القائد في لقاءاته على أنواعها يسأل فيجيب، ويطلب فيلبي غير أنه دائماً يقول للصحفي المتطلع إلى الاستقصاء والتفسير، نحن لسنا دعاة حرب ولكننا دعاة سلم، غير أن السلم شيء والاستسلام شيء آخر.

ما أجمل القائد أن تكون محبته منقوشة في قلوب جماهيره فيهتف بها الصغير والكبير. نحن نعيش الآن في ذكرانا للتصحيح فلا عجب أن نعطي لقائدنا بعض ما وجب علينا فلقد أعطانا من وقته في النضال فكان أسداً صارخاً للأمبريالية وأعطانا من وقته في المحبة فكانت قراراته بإعطاء الشعب حريته في القول والنقد للعيوب فلا التقصير عن الأخطاء بل يجب التشهير بها.

عاش القائد العظيم وعاشت الأمة بذكرى بطولاته

 

 

عيد الشبيبة

 

على الشبيبة أن يحافظوا على قسمهم ويعرفوا ماذا يعني هذا القسم فإذا ما تمسكوا به بحذافيره فإنه سيفوز بهم إلى أعلى الرتب وما ذلك إلا أن يحلوا في الصدر أو القبر وبتعبير آخر فإنهم يأبون أن يعيشوا غير مغززين ومكرمين وإلا كان الموت والشهادة هي بمثابة الشرف والبطولة.

الدكتور سعيد حمادي كان على رأس المستقبلين للرئيس وقد أراد أن يعرض مجموعة الشبيبة التي مهد لها السبيل لتكون كما أحب لها أن تكون سيادة الرئيس. كان اللقاء وكانت المصافحة بحرارة مع التقبيل إلا أن ما يميز الرئيس بلقائه مع الدكتور هو تلك الابتسامة التي تعني الكثير فيما رأيت فهل أنا على حق وصدق فيما أجتهدت أن أفهمه وأحس به وهل كنت بذلك مشاركاً لجمهور المربين والمرشدين في معرفته والإحساس به أم أن ذلك مقتصراً على إقامة العرض وأداء القسم.

تعلموا منهم وعلموهم؟! ما أجمل راعي الشبيبة أن يرى جهوده محققه بهذا العدد الكبير من الشباب وقد انتظمت لتؤدي القسم بقلوب عامرة بالحب والإيمان؟! بقي عليهم أن يفوا بعهودهم إذا ما دعا الواجب فيتخلون عن راحتهم ليقدموا لأمتهم الحقوق التي أرادوها في أبنائهم شبيبة الثورة بعدما دار بها الزمن ووجدوا في الشباب وإيمانه وقوته وتدريبه وتضحياته الأمل المنشود.

على الشبيبة أن يعلموا أن الرعاية التي كانت لهم ابتداءً من الطلائع لم يحظ بها من قبل آباؤهم وأن الرئيس كان طليعياً وشبيب ثورة دون أن يكون لها اسمها المعلن والمنظم كما هو اليوم ولقد جاءه هذا الاهتمام عندما أدرك أن العقل السليم بالجسم السليم ولقد أدرك فعالية رفقائه الذين زاملوه فاجتمعوا حوله ولبوا دعوته وكان طبيعياً أن يكون السباق لهم لكل عمل فيه خير البلاد ومصلحة الأمة ولما قاربوا قوة إيمانه وتضحيته وسداد رأيه بإيمانهم وجدوا أن المواهب التي منحت للرئيس تفوق مواهبهم بكثير وأن الخير كل الخير أن يستمعوا لرأيه ويعملوا بموجب حكمته ليقودهم إلى شاطئ الأمان بالعز والكرامة.

وكان لهم صدق ما تنبأوا به فلم يعط لنفسه حقها من الراحة لأنه وجد أن هذه الراحة هي في حرية أمته وشعبه. ولقد جهد نفسه فوق طاقتها لذلك وزع العمل على رفاقه ليوفر لنفسه شيئاً من الراحة التي تلزمه. إن النصر عنده لا يكون بالشعارات والأقوال وإنما بالشهادة والقتال وهكذا انتقل من أمته وشعبه من نصر إلى نصر.

والآن يبتسم لهؤلاء الشبيبة فهل كانت ابتسامته إلا هزءاً من الصعوبات التي تواجه الأمة وخاصة الشبيبة في حياتهم. وهل كانت ابتسامته إلا ابتهاجاً بأن جهده لم يضع في إعطاء منظمة الشبيبة حقها من الرعاية والعطاء. وهل كانت ابتسامته إلا دليل عمل على شعوره بأن شباباً في مثل ما دربوا عليه من المبادئ والأفكار التي زرعها في نفوسهم هي كافية لحفظ البلاد من أعدائها. وهل كانت الابتسامة إلا للسواعد العامرة والقلوب المحبة والبطولة الناطقة.

ماذا تريد الشبيبة بعد ذلك: تريد الشبيبة أن يكون قسمها في المحافظة على ما جاء به، على عاتقها مسؤلية الوطن فشباب الأمة هي قلوب أبنائها، إذا ملكت الشباب الشجاع البطل والشباب المتعلم الواعي والشباب المحب للوطن ورئيسه والشباب الذي يجد الموت في سبيل الحياة فعند ذلك ليست هناك إلا بشائر أمل في استرداد الحقوق المسلوبة مع المحافظة على البناء والعمران.

 

 

إلى السيدة عارضة السؤال

 

في تبدل المشاعر من حب أو كره نحو الطرف الآخر عقوبة أخلاقية لا قانونية وتصبح هذه العقوبة قانونية إذا نحى هذا التبدل منحى التجاوز المفرط الذي يسيء لشخصية كل منهما بحيث يصيب مقتلاً  بعد حياة وألماً عنيفاً يضر بصحة المتألم كأن يجمد بعد الحركة ويصمت بعد الكلام أو بالعكس يثور لأدنى مبادرة بعد أن عرف بالهدوء والاطمئنان الكامل.

ماذا يعني تبدل المشاعر والمشاعر لا تبقى على حالها فهي في صعود وهبوط مستمر وفي حرارة أو برودة أو فتور متجدد.أما أن تعني تبدل المشاعر أن يكون الإنسان صادقاً مع محبه بعد أن كان كاذباً أو بالعكس ووفياً مع محبوبه أو خائناً بعد أن كانت نفسه لا تعرف إلا الوفاء أولا تعرف إلا الغدر والخيانة، بمعنى أن الحقائق تجلت بعد أن أخفيت فإذا كانت إلى جيد وحسن فالإخفاء لا يعني إلا الضرورة المحتمة للتكتم، لأن في إظهارها والبوح بها لا يكونان في مصلحة المحبوب، وإذا كانت إلى سيء وضار فالإخفاء من الطبائع التي يتجلى فيها حب المظهر وراء العين وهما مخادعان في أكثر الأحيان.

إذن التبدل بمعنى تقلب الأحوال والظروف هو وارد في أكثر الأحيان ولا يعني إلا التجدد والتطور، أما التبدل بمعنى تحول القلب من حب لآخر فلا قول إلا أنه قلب والقلب يتقلب، أما التبدل بمعنى الكره بعد الحب أو الحب بعد الكره فهذا غير صحيح فالمحب يبقى محباً إلى الأبد ومعنى المحب هو الإنسان الذي يعرف معنى الحب فإذا أحب ولم يعرف معناه فإنه لم يحب وإنما تعاطف وأحسن وشجع وقوى وأخذ بيد الضعيف الجبان المنكود الحظ.

فالحب قوة جذابة وسامية يتمتع بها المحبوب ففيه سحر القول وسمو الأدب وجرأة القول وإخلاص النفس ووفاء الفضيلة وأين لهؤلاء أن تتغير إلا إذا أصابت الأعضاء الباعثة لهذا المنطلق بالعطب فلا بطولة بدون رحمة ولا أدب بدون تعلم ولا فصاحة بدون لسان ولا نفس بدون روح ولا فضيلة بدون علم.

إن العقوبة القانونية في تبدل المشاعر بحيث تضحك في موقف لا يدعو إلى الضحك هو أن ترى الجميع ينظرون إليك بدهشة واستغراب، فإذا كان الضحك في موقف البكاء فالجميع يزدريك وإذا كان السكوت في موقف الكلام فالجميع يأخذ على صمتك وقد يقودك صمتك إلى الحكم بما أنت لست فيه.

أما عقوبة الكذب فقد تلقاها من نفسك فيحمر وجهك وتشعر بالارتباك ولا تستطيع متابعة الكلام ويكفي فقد الثقة بك. أما العقوبة التي تأتي من التدلل والغنج بعد أن تحولا إلى العنف والقسوة، فهي تأتي من الإفراط بالحب إلى الأخذ به بالتسوية الصحيحة فيكفي أن نلقي نظرة غاضبة وقولاً بليغاً أو صمتاً مريعاً.

مع الأسف لسنا على هذا المستوى من العقوبة الأخلاقية فالضاحك يجور في ضحكته والباكي يخدع في بكائه وقليل الكلام خير من كثيره لأن الكلمة المنطوقة تختلف عن الكلمة المسموعة لأن في وقعها صدى غير الذي جاءت من أجله.

 

 

العزاء كل العزاء

 

عرفته وهو في ريعان الشباب يجتمع إلى إخوانه ممن تجاوزوا سن الأربعين. لقد لفت نظري ذلك الشاب الذي كان يتكلم وكان لصوته رنين يدخل إلى أعماق نفوس مستمعيه فكأنه كان يعطيهم درساً في العمل والمعاملة وكأنه كان يجنبهم الوقوع في مأسي المستبدين الذين شاء الله أن يجعله أو يجعل رفاقه تحت وطأة الاستئجار للأراضي أو البساتين ليقوموا بزراعة وإنتاج محاصيلها وكانت هذه الجلسات جلسات عمل ليهتدوا إلى أفضل السبل في حل النزاع للحد من المطامع التي يواجهها المشتغلون في الأرض من قبل ماليكها.

لم يكن بيننا حديث أو سلام غير أني كنت أرمقه بنظري وكأني أقول له ما هي العلاقة بينك وبين رفاقك وأنت تبدو المعلم المتكلم وهم لا يبدون إلا في صورة المتعلم المستفيد وهم في تجاربهم لا يستطيعون أن يكونوا في مثل سنك فمن تكون؟!

ومن أين أتيت؟!

عرفته معلماً زاملته نحو سنتين فكان مثل المعلم الشهم الذي يغار على مصلحة زميله بالإضافة إلى الاهتمام بواجبه. كانت مهاراته تفوق الوصف فكان حقاً معلماً تسعى الزعامة إليه دون أن يشغل باله بها.

عرفته معلماً يقوم بالمطالبة بحق زملائه المعلمين لينصفهم ويردهم إلى حقوقهم وكان ذلك في عام 1963 عليه أن يدعم ترددهم، ويقاوم من يقف في وجه حقوقهم فكان يدأب في السهر على مطالبهم وكان لا يعرف الراحة إلا حين يكون الواجب قد استوفى والنصر قد تحقق.

لقد كافأه زملاؤه فانتخبوه رئيساً لنقابتهم. إنه بحق كان مثال المعلم الذي يتساعد مع المظلوم لينتصر من الظالم في رد حقه. لقد شاهدته مرة في جلسة من جلساته وهو يتكلم ويحاور ويسأل ويؤكد وباختصار كان يرضي الجميع وليس له إلا تأييدهم واكتساب ثقتهم.

تركته وقد استعفى من وظيفته وانصرف إلى أعماله الخاصة ولا بد أن يجعل صلة بينه وبين الماضي وهذه الصلة هي أن يكون مديراً للجمعية السكنية فيكون بذلك قد أدى خدمة من نوع جديد لمعلم احتاج إلى مسكن وكانت الشروط عنده غير متوفرة تماماً للحصول على هذا المسكن؟!

رحماك الله يا أبا الشوق فلقد تركت تلاميذك بدون أستاذهم ومحبيك بدون وجودك فقد أختطفك الموت وهو نهاية كل حي فهل أستأذن لتودع رفاقك ويسمعوا منك آخر كلمة أو موعظة أو حديث ويلقون النظرة الأخيرة لهذا المحيا الذي أثبت الصمود أمام القيام بالواجب.

 

 

أردت لنفسي

 

أردت لنفسي أم أريد بي، أرغمت على الحضور لهذا المجلس لأرغم قدماي على السير في هذا الطريق، أرغمت على الحضور لهذا الاجتماع في مكانٍ ألفته من قبل وتباعدت عنه من بعد وليس بيني وبينه من جفوة ولكن الجفوة كانت بيني وبين نفسي ولدّها حبي لهذا المكان حباً جماً حيث أني أولعت بسكانه ولعاً زائداً من قبل أن يعرفوني ولما تم التعارف بيني وبينهم ودعتهم لألقاهم بمناسبة أخرى في غير

مفهوم أو صيغة.

أرغمت على الحضور لأرغم قدماي على السير في طريقي إلى هذا المكان لأرى رواده وهم مشغولون وليروني وهم لا يقدرون على التكلم معي في قليل ولا كثير. كانت مناسبة جميلة وكان معها لقاء جديد. المجلس في صمت منتظراً بدء الوقت لإعلان الكلمة التي من أجلها دعي لها الحاضرون وهي في قراءة مفرداتها التي كل واحدة منها لها رنة أسف وحزن ولو كانت بقالب وصيغة جميلة جذابة محببة.

فالكلمة ليست أحرفاً تقرأ وتكتب ولكنها دموع العين ودم القلب على ما ذهب منا في الماضي لنسترجع في الحاضر ولنسترده. وإن الحرب لا تعني حماس وغضب وهجوم ولكنها كفاءة وتخطيط ويقين.

حمدت الله كثيراً على نعمة اللقاء مع إخوة لي لم أرهم من قبل ولم أتعرف إليهم إلا من خلال أصوات حناجرهم لتدوي في أعماق القلوب فيهتز لدويها إخوان لنا في الوطن على نفس الهدف والعمل لتجد هذه الكلمات وعياً كبيراً لها. حمدت الله كثيراً لأني واحد من المستمعين ويمكنني أن أفتح أذني وعيني لأسمع وأرى ولكن ماذا سمعت وماذا رأيت؟؟

الشموع المضيئة التي كانت تحترق لتضيء وتنير الطريق أمام جيلنا الصاعد هي اليوم قد تبدلت وتغيرت فليست في احتراقها سريعة كما كانت وليست في إضاءتها بطيئة كما هي في الماضي بل أصبحت اليوم لا تحترق إلا بعد أن تحرق ولا تضيء إلا بعد أن تستضيء، فاحتراقها من بعد إذابتها للقساة المعتدين وإضاءتها من بعد إيجاد منبع ضوئي لها دائم ترفدها بمعين من القوة والإشعاع كلما خبت أنوارها عن الضياء. حمدت الله كثيراً على قدرة القادر في تبديله وتغييره وفي التثبيت والإبقاء إنها شيء ضروري ليتم التعاون بينها غير أن سراً غامضاً عني: هو معرفة هذا التعاون الذي يسمي الناس إلهاماً وأسميه تصميماً وتعادلاً وتوازناً.

رأيت فيما رأيت شمعة ذابت من بعد ضياء وهي اليوم تضيء من بعد أن أعطوها قوة جديدة في الإشعاع فإني أحب الشمعة التي تتغذى لتغذي وتستنير لتنير، لأنها هي الشمعة الحقيقية التي تعطي كل دم قلبها في القيام بالواجب فتبكي من غير دمع وتضحك من غير صوت ولكنها تفجر قنبلة على أعدائها في يوم النزاع قنبلة مصنوعة من الصبر والإيمان والصمود استعداداً للنصر في يوم المعركة.

تمنيت لو طال بي الوقوف أمام الاستماع إلى هذه الكلمة ليتلوها الاستماع إلى الكلمات الأخرى إذن لرأيت فوق ما أرى حتى أهتز لأكثر مما اهتززت له غير أن أعصابي لم تعد تقوى أن لم أعد أقوى وأن واجبي قد انتقل إلى وجهة أخرى ليحرك في نفسي الألم الذي هو بدوره حرك السير بقدمي وذلك لأشبع بطناً صغيراً جائعاً ليس له من يشبعه لا في قليل ولا كثير.

 

 

اعتذاري لصديقي

 

اعتذاري لصديقي لم يكن مجدياً في قليل أو كثير من الكلام فما الذي دعاه إلى اللوم والوقوف عنده وما الذي دعاني إلى قبول لومه دون موافقته على عدم

قبول اعتذاري. إن صديقي من النوع الذي لا يستطيع السكوت على شيء رآه ولم يعرفه، وعرفه ولم يستسغه فالقديم عنده جديد كما لم يتغير، والجديد لديه قديم كما لو أنه لم يلبس ثوب الجده وهذا لا يعني أنه لا يلاحظ ولا ينتبه إلى ما حوله بل يعني أنه لا يقبل عذراً إلا إذا جاء في موضعه وعذراً رآه بعينه وتيقن منه وعذراً استطعت بلباقتك ومهارتك أن تؤديه إليه بصياغة حسنه وفي الوقت الذي قد تجلت عنده ساعة الصفاء فيضحك ضحكة طويلة وتقابله بهذه الضحكة ليمر اعتذارك بين الضحكتين دون أن يدري أنه قبلها وسمعها.

لقد أعجبت به كثيراً لصراحته وقوة دفاعه وإقناعه لغيره من خصومه وأصدقائه إنه قوي الذاكرة لا ينسى ما خططه وهدف إليه، إنه حلو النكتة كثير الدعابة مرح النفس، وبالجملة إنه الانسان الذي دخل إلى قلبي بعد استعصاء غيره الدخول به. لقد اتخذته صديقاً لأنه ألمَّ ببعض جوانب حياتي فكان يدافع ضد أخصامي دفاع الأبطال لعلمه أن شيئاً من خصومتهم لم تكن موجودة وإنما هي إثارة ورغبة في المداولة بالكلام ليتركوني أخرج عن صمتي فأرد على أسئلتهم وإجاباتهم بما يجعلني أمرح ولا يجعلهم ينقطعون عن متابعة المرح.

إنه صديقي فما الذي دعاني إلى الانقطاع عنه لمدة طويلة من الزمن كانت بالنسبة إليه أمراً غريباً وغير عادي. إن توقفي عن لقاءاته طيلة هذه المدة هي عمل عظيم بالنسبة لي لأني كنت أقوم بمدافعات طويلة بيني وبين قلبي، فقلبي يطير إلى ذكره وشوقه وأنا أعيده إلى قفصه في جوانحي فـتـثـقل قدماي إلى السير في طريقه حتى إذا خفتَّ وتركت المجال لقلبي يفعل بي ما يشاء انقطعت هذه المدافعات لتبدأ سلسلة أخرى من عذاب الضمير في العودة إلى الماضي الذي انقطع، والجديد الذي لم تتوطد أركانه بعد ليصبح شيئاً مألوفاً وعادياً.

حق لصديقي أن يعاتبني لأنه محب مخلص وحق لنفسي أن تقف لعتابه موقف الصامت ولكن الحق الذي ليس من ورائه حقيقة هو أني كنت مرغماً على جفوته طيلة هذه المدة ــ إذا كانت المقابلات هي سبب الجفوة وكنت في جفوتي له الصديق الذي لم ينسى صديقه مطلقاً، وإني أثبت صداقته لي كما أثبت صداقتي له بهذه المقاومات بين ترك قلبي يطير ويصفق فرحاً للقائه وبين وقفه وحبسه عن الطيران ليقلق ويحزن.

إن اللوم والعتاب الحقيقي في كل ذلك هو للعين التي ترى الأشياء ولا يمكنها أن تغمض وللقلب، الذي يستشعر المحبة والفرح والحزن ولا يمكنه إلا أن ينبض، وللسان الذي يهدر بالكلام فيقطع جرحاً ومداواة، وأخيراً للعرف المألوف الذي يتخذ الأمور شبه قاعدة عامة فلا يستثني أحداً منها ولو لم يدر في خلده ما اتهم به وما أساء فليس هو إلا الإحسان والخير بعينه.

  

 

بين يدي القراء موضوع

 

بين يدي القراء موضوع لم أقصده لذاته وإنما جاء بعد طول التأثير مما كان ينبغي لي ألا أتأثر وقد تأثرت لأنه من صنع يدي، وفي الحقيقة إن يدي لم تصنع شيئاً ولكن الذي صنع هو عيني التي ترى الأشياء بعد تحملق فيها وكذلك من صنع أذني التي تسمع الأصوات بعد تأمل دويها وصداها، وليس لعيني وأذني أن يلاما لما يقومان به من وظيفة في نقل التأثير على نفسي فيخط قلمي بعض الكلمات إن شئتها كانت في حب الناس قبل كرههم وإن شئتها كانت في منفعتهم قبل أذاهم.

الغاية من الموضوع ليست في الأشخاص أنفسهم بل لما جاء منهم من بوادر الملاحظة التي وقع فيها الخطأ فأحببت تصحيحه. إن الموضوع الذي يهدف إلى التناقض هو موجود طبيعي في الحياة والكون وقد كان من وراء قصدي ألا يمس أشخاصاً معينين ولكني أحببت أن أوعز به إلى شخص معين لأنه أحب ذلك وكان يلح علي بما لا أرغب به فقد كتبته من قبل أن أفكر به وخصصته من بعدما جاء التفكير فليس له أن أسمعه صوتي وليس لي أن أتغنى بمرآه ولكن الذي وقع هو أني أخذت على نفسي عهداً ينبغي أن أوفي به ووعداً لا ينبغي أن أخلفه.

هذا الوعد والعهد هو المحافظة على الرسالة التي من أمورها أن أسجل كلمة لكل شخص عرفته من قبل ودرسته دراسة جيدة من بعد هذا التعارف وقد عز علي الكتابة لكثرة ما رأيت من التشابه والتناقض فكتبت على انفراد لكل منهم وكتبت مجتمعين بالتصريح والتلويح وكتبت بالمقارنة بينهما بالتشابه والاختلاف.

وقد جاء دوره فبعد التدقيق والتمحيص في شخصه وجدتها تنطبق عليه أكثر من غيره ووجدتها في حكمه ألطف منها لو أني كتبت على انفراد لأني لا بد لي أن اقسو عليه وقد أحببت أن أكون منصفاً فلا أخوض في مواضيع كانت لغيره أحوج.

كان من عادة المنصف أن يكون جريئاً في قوله وقد كان يتهمني بالجبن ويتهم نفسه بالنزاهة فأحببت أن أريه أن الجبن في موضعه شجاعة وأن الشجاعة لا تخون الشجاع حينما يطلب منه ذلك. كما أني أحببت أن أريه مرآة نفسي بعدما كان يراها من مرآة نفسه.

 

 

قال الأب الذي يمثل الجيل القديم

 

قال الأب الذي يمثل الجيل القديم إلى الابن الذي تظهر عليه بوادر الجيل الجديد لقد أسأت إلي كثيراً بمقدار ما أحسنت إلى نفسك كان إحسانك إلى نفسك يأتي من الدافع الحقيقي الذي يحفزك إلى الأمام دون أن تعلم أني من وراء الحماسة التي تهزك للاجتهاد والتقدم حتى يصير طبعاً أصيلاً في همتك وقدرتك كل ذلك كان يجعلك قوياً وأنت لا تعلم نفسك وكل ذلك كان يجعلني اقوم بعبء ثقيل ينهكني وأنا أقاوم دون أن أتيقظ إلى ما ستؤدي هذه المقاومة وهذا الانهاك إلى هذه الدرجة من العجز الذي لا أستطيع معه على ضبط أعصابي معك فأثور ثوراناً مدهشاً لدى مبادرتك لي بأي سؤال أو غرض يجيء لصالحك ولا تتبع الأسلوب الصحيح مع صيغة الطلب أو الحاجة. ليس إحساني لك إلا شعوراً مني بحاجتك إلى الدرس والتعلم وليس اجتهادك إلا شعوراً منك بحاجتك إلى الاستغناء والرجولة لتستغني وتسترجل وتظهر بطولتك على من أحبها صامتة في وجه محييها ولو لم يبدو لك إلا أني خصم لك في كل ما تظهر وتتفوق.

تمنيت ألا أرى أمامي إلا ما يبعث فيَّ النشاط والأمل ولم تكن يوماً لتعلم أن مبعث هذا النشاط والأمل يكون في الكلمة الحلوة اللطيفة التي تخرج عن صدق إحساس بالمحبة والعاطفة وكان أبغض شيء إلى نفسي هي الكلمة المترددة التي تروح ذات اليمين وذات الشمال حسبما تتطلبه المصلحة فالصدق والحق واضح ولو جاءا بلهجة الغاضب الحانق أو أخذ شكلاً عنيفاً وحاداً إلا أن الغضب إن جاء من صاحب الحق أو من المبطل فإن له قدرته وإحقاقه إذا كانت المهارة وحدها تدفع بصاحب الحق إلى الفوز بحقه وإلى صاحب الباطل بالرجوع عن بطلانه مادام الصدى الوحيد هو

القول والعمل. إن القول يخضع للرغبات التي تتطلبها الحاجة وإن العمل هو اكتساب مثل هذه الحاجات ليصبح القول بعدها هيناً وجذاباً وناجحاً.

قاومت نفسي في صمودك لأجعلك رجلاً ويغلب علي حيناً الضعف فلا أستطيع المثابرة في تحقيق الرسالة كل ذلك لأن صمودك بوجهي أعنف من مقاومة نفسي للمتطلبات التي يرتضيها الأب لابنه ليكون مهذباً مطيعاً محبوباً. إن وراء بطولاتك غطاءً تعتقد أنك الذي أزحته ورفعت الستار عنه فهب أن ذلك صحيحاً فهل يولد البطل وفي ميدان معركته ذوبان لكل معنى من معاني الحياة والأمل.

كتبت لك هذه الكلمة في وقت أردت فيه نسيانك فما استطعت وكتبت لك هذه الكلمة في وقت أردت فيه نسيانك فما استطعت وكتبت لك هذه الكلمة في الوقت أردت فيه التخلي عنك نهائياً فما تمكنت كل ذلك لأني أراك بطلاً وبطولاتك بحاجة إلى توجيه صحيح وقد بدأت معك بالتوجيه على الرغم من معارضتك له وقد توقفت عن التوجيه بحضورك فإني سأتابعه بغيابك ومن هذا التوجيه ما أراك بحاجة إلى المادة وقد وعدتك ورسمت لك المخطط فإني باق على عهدتي وخطتي لتتعلم المحافظة على الوفاء بالعهد والسير على متابعة الخطة ولو أغضبك أو أغضبني غاضب تجاه إساءتك أو اساءته فإساءة  الأب كما يبدو هي في جعلك مرناً بحيث تقاوم أهواء نفسك فلا تتركها تسيطر على الواجب المحتم وإساءتك كما يتحقق هي في جعلك تفرض هذه الأهواء وتعطيها شكل الشرعية والحق.

لا أريد مشاهدتك ولو كنت أريد الاطمئنان عنك لا أريد ذكرك مع أحد ولو كان ذكرك يجري في مسامعي. أريد نسيانك فلا أستطيع وأعجز. أريد تنكرك ويدي تمتد لتبسط جرائمك. فجريمتك الأولى والأخيرة هي في بسط نفوذك وعلومك وسيطرتك على والدك فيستعصي الأمر حيناً فتلجأ إلى الحيلة والمراوغة فيثور غضب أبيك ولا يفعل شيئاً معك إلا أنك هززت كيانه وعرضت نفسك للحرمان وقتاً يسيراً ثم يعود بعدها إلى التعويض عن حرمانك. أبسط الآن سيطرتك ونفوذك على مقاومة نفسك من التدخين أو من الرهبة والارتعاش تجاه الجنس الناعم أو من الغضب الذي ينتابك ولا داعي له.

 

 

رجل أخرى بدلاً من يد مقطوعة

 

لقد طلب من أحد الموظفين المسؤولين عن الأمانات المالية العائدة لأصحابها كفالة تجارية أو عقارية ضمانة على المبلغ المحدد له بموجب وظيفته. فصعق لهذا النبأ واستغرب كثيراً أن يكون لهذه الكفالة معنى معقول عنده وقد أؤتمن على مخبر كيماوي. وراح يستفسر عن العمل الذي يضمن له تنفيذ الأمر الضروري ليحصل على الكفالة وليستطيع أن يقبض راتبه الشهري المهدد بالتوقف في حال عدم الإيتيان بالكفالة. وقد سأل من هو أعرف من خبرة وأكثر فهماً لنصوص القوانين فأجيب على الأصول المتبع في توفير الكفالة له قال أحدهم: أودع المبلغ المكفول عليه في المصرف واحجزه باسم الكفالة ضماناً وهو لك ولو استمر باستمرارك في العمل الذي تقوم عليه ما دمت حياً.

قال بعضهم إنها سهلة هينة فلعل تاجراً من أقربائك وأصدقائك له اعتماد تجاري فتتمكن من اللجوء إليه ليكفلك على هذا المبلغ  وقال آخر بإمكانك الحصول على هذه الكفالة من موظف في الحلقة الأولى فهي ضمان لك واستغناء عن جميع ما ذكر. أما الموظف المكلف بهذه الكفالة فإنه لم يؤمن في بادئ الأمر بمبدئية الواجب وأنكر على نفسه أن يكون بحاجة إلى كفالة وقد خدم مدة طويلة في الوظيفة ولم يتعثر بمثل هذا الطلب.

لقد استمعت إلى جميع هذه الأقوال كأني المكلف بهذه الكفالة وكأن الناصحين هم بذات الوقت مستشارون يطلب إليهم الدليل والمعونة.أما طلب الكفالة فهذا حق مؤكد لا يقبل بوجه من الوجوه طلب الاعتراض والمراجعة وأما الأقوال التي قيلت في موضوعها فهي أيضاً حق طبيعي للاستفادة من قبض الراتب إذا أراد الحصول عليه وهو على رأس عمله في وظيفته الداعية للكفالة.

و لقد ذكرتني هذه الحادثة بأخرى شبيهة وقعت لصديق وقريب وقد تعثر عليه إيجاد الكفالة فجئ باللحظة الأخيرة وأحرج إما بالانتقال إلى وظيفة أخرى لا تستدعي هذه الكفالة أو بالتوقف عن القبض إلى حين الانتهاء من أمره ولقد يسر الله له من يساعده وينجز الكفالة وتفرج الكربة عنه. إني أعرف سهولة وصعوبة إيجاد هذه الكفالة بنفس الوقت من أكثر الداعين للخدمة في القول الفارع فإذا ما جد الجد فقد اعتذر كل واحد منهم بما يدفع عنه اللوم والعتاب.و لعل الكثيرين يستطيعون تيسير ما يطلب منهم وهناك قلائل وقليلون جداً من يسد بوجههم الباب فلا يفتح إلا لأصحاب الحظوظ والتوفيق ولعل الباب مفتوحاً للجميع وقد يغلقه من أراد ألا يكون موفقاً وإغلاقه من يده ولكن الظاهر هو إغلاقه بيد غيره. لا تستطيع إغلاق الباب وفتحه وأنت في الحقيقة داخل وخارج منه بآن واحد، فالحجاب الذي يمنعك من اقتحامه هو الحجاب الذي يمنع نفسك عن الدخول فيه وأنت مقبل، إن الصعوبة هي في إيجاد من يثق بك وهو بحاجة إلى إثبات ثقتك عنده. إن الصعوبة أيضاً هي في إيجاد الثقة بك إن تبرزها واضحة لا لبس فيها ولا غموض.

إن ثقة الدولة بك موجودة ولولا ثقتها لما تركتك على رأس عملك وفي نطاق صلاحيتك. إن الدولة بحاجة لاتخاذ خطوات لازمة أمينة وصحيحة أما أنت فلست بحاجة إلا إلى إتباع هذه الخطوات. فإذا كانت خطواتك ناتجة عن عجزك في السير فالدولة بحاجة إلى أقدام ثابتة تمشي بخطى ثابتة أيضاً. أما إذا كانت خطواتك ناتجة عن تعرض السير بك لوعورة الطريق فإما أن تتعلم القفز فيستفيد غيرك منه وإما أن تقصر الطريق فلا تحتاج إلا إلى أن ترى وتسمع وتتكلم.يا صديقي إذا كان مناط بك مسؤولية كبرى فعليك أن تضمن جميع الجهات لها من الفشل. هناك عمل ومسؤولية لا تتجاوز مكافأتك أوعقوبتك بالإحسان إليها أو بالاساءة وعقوبتك حدود نفسك وبالمقابل فإن هناك عملاً ومسؤولية إذا أسأت إليها فكأنك تقطع يد غيرك لا لتركبها رجلاً لك تمشي عليها بل لتجعلها رجلاً أخرى تفيدك في الالتزام.

 

 

قدرات مهدورة

 

نحن نستفيد من العامل سواء بقدراته العلمية أو الجسمية أو الفنية في بناء الوطن وازدهار تقدمه ولكل من هؤلاء العمال اختصاصاته في تشييد البناء ونوع الازدهار فهل استفدنا منه حق الفائدة في باقي القدرات التي لم يعمل لها ويبقى متفرجاً حتى يحين له فرصة العطاء بما لم يتح له أن يستكمل عطاءه. ما هي هذه القدرات المهدورة وكيف يمكن الاستفادة منها إذا أوليناها أيضاً أهميتها التي تزيد من عطائه وتبني من شخصيته وحبه للعطاء فوق ما يجب أن يكون.

للشباب عطاءاته المتزايدة يوماً بعد يوم ففي انصرافه إلى التفكير بنفسه سعياً وراء حاجاته الملحة فرصته لأن يتبصر حبه وميله إلى الشيء الذي يكمن في نفسه من خلال إيجاد الحيلة لأن يجدّ ويكدح ويصبر ويتأمل وبعدها نستطيع أن نتعرف إلى ميوله ومواهبه وذكائه في تحقيق ما قدر على تحقيقه وأما ما بقي من عدم التحقيق فهي طاقة مهدورة ويمكن الاستفادة منها بالمراعاة والمساعدة لعل إخفاءها يقصر على تحديد الطاقة وإنتاج المحدد منها. ففي مجال العلم لا بد للذاكرة أن تلعب دوراً في مكتسباته فما يضعف الذاكرة إنما هو إضعاف لتحصيل كمية أعلى مما يحصل عليه فإذا كان هذا الإضعاف يعود للغذاء ونوعه فما عسى أن يكون الإنقاذ لهذه الذاكرة بإعطائها حاجتها من التجديد والنشاط.

وفي مجال العمل لا بد للقدرة الجسمية من احتمال مشاق العمل ويكفي لذلك أن تكون البنية قوية لهذا العامل فلا يتعرض للإهمال بشؤون صحته من كد غير مجد ومن راحة مملة غير مفيدة. وفي مجال الفراغ الذي تتطلبه دروس العلم وتطبيق العمل ينبغي أن يكون لهذا الفراغ إطاره المحدد له فلا يعطى لإضاعة الفرصة عن التعليم ولا يحجم كي تنمو المعلومات في ذهن طالبها والراغب في اكتسابها بل تتطلب الدقة في الموضوع والعناية بالوقت والاجتهاد بالترتيب والتبويب وفي مجال الذكاء فالقدرة على معرفة كيف تقرأ وكيف تختار كتابك المقروء وكيف تربط بين قراءتك والواقع الذي تعيشه وأخيراً كيف تبلور هذه المعلومات إلى ميدان العمل لتستفيد وتفيد الطاقات التي تبقى أبداً مهدورة ما دامت الحركة التي تسمح لها بالتقدم بعيدة عن ساحة الشعور والوعي.

وفي مجال المعتقدات التي شب عليها منذ طفولته فإنها دماء تتحرك في أعضائه وهي لا تلبث أن تظمأ إذا بقيت جامدة في عروقه فإذا ما ارتوت فإنها قوة دافقة لا تقاس قوتها بقوة الرأي الذي فيه الرؤيا وعدمه وفيها الوجهة الصحيحة وعكسها وفيه البعد عن الإتيان بما تتحمله النفس من الصبر إذا كان الوقت لم يحن بعد وبما تضنيه القلب إذا كان العذاب فوق حاجته من القدرة البشرية. وفي مجال التجارب التي أعطيت للتدريب والعمل فإنها كلها مكتسبات قوية تحصن الفكر من الابتعاد عن الشطط وتحصن الجسم من المقاومة وتحصن النفس من الوقوع في الأهواء والنزعات. وفي مجال الذوق السليم والحس السليم فإن النفس التي اعتادت على الإباء فهي ترفض الذل والرأي الأعوج والنشاز في المعاني والصور.

  

 

يكفيها همومها

 

لماذا يقف موقف المتفرج لهذه الهموم بدلاً من العمل على إنقاصها؟!  لماذا تسمى هذه الأزمات هموماً بدلاً من أن تسمى عراقيل لوضع الاستقرار والهدوء؟! لماذا لا تكون الاضطرابات إلا مدعاة لازديادها بدلاً من حلها والتعاون على الخلاص منها!!  لماذا؟ لماذا؟

الانتقال من الفوضى الكلية إلى النظام المستقر الدائم أمر ليس بالسهل فإذا كانت هذه الفوضى مؤيدة من الإمبريالية والعدو الأجنبي فإنه على الاستقرار أن يتلقى مواجهات قاسية وصعبة يجب أن يتحملها الأفراد والشعب بالتعاون والجد وإظهار النيات الحسنة في الدخول في مفاوضات التفاهم للحل الشامل والعودة بالبلاد إلى الحرية والأمن والطمأنينة لماذا؟ لماذا؟!

لماذا لم يكن الفهم الصحيح هو الطريق الأمثل لأسلوب التفاوض والأخذ بأسباب التعاون لماذا لا يكون الاجتهاد في سبيل الوصول إلى الطريق الأمثل هو العنوان الأكيد على حسن النية والمحبة الخالصة. لماذا؟ لماذا؟!

لماذا كل هذه التعددات في الآراء والرأي الصحيح واحد هو إخراج المحتل من البلد المستقل والقضاء على المنازعات والتفرقات الفردية ليصبح الأمر واحداً بالنسبة للحكم والحكومة.

لبنان بلد حبيب وأهله أشقاؤنا فمهما كانت الاختلافات فإنها لا تتعدى أن لبنان تحب أن تعيش بحرية وسلام وأن وجودها بهذه الحرية يزعج العدو الأجنبي دون أن يتدخل بنظامها واستقلالها واقتطاع قسماً من أراضيها بحجة يكون معها الدافع إلى هذا التدخل معللاً باسم الحماية للمنطقة المجاورة والدولة المغتصبة.

 

 

أعطيك ضميراً حياً

 

أعطيك ضميراً حياً ولا أبالي بعدها أكنت على خطأ أم على صواب. ماذا يعني الضمير الحي؛ كان يسير في الطريق إلى عمله الذي أجهد منه أن يكون محبوباً وغير محباً، كان عمله في التنظيم والتنسيق والتبويب الذي سبقه تنظيم الفكر في تحديد الهدف الذي من أجله يعمل وتنسيق النفس في معطياتها عما اكتسبت وما أعدت، وتبويب العمل: أي الطريق سيصل به إلى الغاية المنشودة.

ففي كل مرة كان يصل بها إلى أن يجعل من محبوبه أي العمل محباً فإنه يرى سعادته الكبرى التي بدأت وأمل بأن تستمر ولا تزايله، وفي كل مرة كان يصل بسلوكه إلى التنظيم فإن عقبة الجهد لم يشعر بها وأخيراً في كل مرة كان يحيط بعمله في التضييق على ذاته ليجعلها تنفرج بعد أن يكاد سوء التنظيم يأخذ بخناقه فإن نوعاً آخر من الصعوبات تعترضه ويبدو وكأنه مستعد لينقض عليها من جديد ويطوح بها إلى حيث لا رجعة ولا تكرار.

كان عمله في الظاهر مستقلاً لكن استقلاله في الحقيقة كان من نتيجة تحرير نفسه عما تفرضه من تدقيق في غاية الدقة واهتمام أكثر مما ينبغي له أن يكون. كان يسمح لنفسه أن تستعرض كل الظاهرات ليخرج بنتيجة واحدة: العودة إلى العمل فهو الطريق الذي منه وجوب البدء للوصول إلى الارتياح.

كان عمله متصلاً لكن انقطاعه يأتي على عمله بغير أن يكون فيه غرض وانقطاعه استعداد للسير به من جديد على طريق أفضل ولم تكن الفرصة مواتية لهذا الانقطاع لولا أنها جاءت لتحل محلها فرصة أخرى تشفع بالتوقف لكنها لا تستطيع أن تخفي عما تحت النظر من إشعاع. وبينما هو عائد إلى عمله بعد فترة من الزمن إذ سمع صوتاً من أعلى يؤنبه ليجدد فيه القوة والنضال و الواجب ولم ينته هذا النداء إلا بعد زوال المؤثر أما ما كان من صدى لهذا الإيحاء فهو تمام الارتياح ويكفي بالتنبيه والاستشعار ويكفي أن يكون الصوت حياً ليعود بالضمير إلى اشتعاله.

 

 

عظام الرجال

 

عظام الرجال وقائدوا البلاد  يتبادلون النظرات التي تكشف عن تقدير البطولة والشجاعة مع الاطمئنان للصداقة والتعاون والتفاهم. لقد لفت نظري المقابلة أو الوداع للبطلين اللذين تلاقيا ليفترقا على العمل الموحد والسير في طريق السلام ومحبة الشعوب، إنها نظرات لا تكاد تتابع حتى يتتابع معها نبضات حية من صدق الشجاعة التي في نفسيهما لتعبر عما يجب عمله في المستقبل وما أنجز عمله في الماضي ليدل مكنونات الآتي القريب أو البعيد طبقاً للصمود والحكمة بانتظار صمود آخر تكون معه الحكمة، وحكمة تكون معها الشجاعة.

إني أرى العيون تتكلم لا لتغازل شخصيهما في عواطف بعضهم بل لتثمن عالياً جهود الرجال في إلغاء دور الاحتلال وتوقيف حالة الحرب والاستعداد له حتى تنتهي ثمرة الجهاد في طريق التسوية لسلم عادل شامل. وما المسؤولية التي تناط بهما كرئيسين يقودان البلاد إلى جو الصلح الذي يقضي على الدمار الشامل ويخص الأبرياء الذين لا ذنب لهم إلا أن يكونوا كبش فداء للحرب  الطاحنة التي تقودها الإمبريالية للغزو وجعل الشعوب غير مستقلة في إرادتها واختيارها وحكمها لبلادها.

نظرات اللقاء تعدد حب الحرب لا للقتال بل للدفاع عن الحقوق وحب السلم لا للاستسلام بل رحمة للإنسانية من الويلات والكوارث فحق الشعب في تقرير مصيره واجب الدفاع عنه دون اعتراض والتزام القادة بتحقيق هذا الغرض يفرض عليهم اتباع القوة للدفاع عن حقوق الأبرياء والمطالبة لهم بالعيش بسلام.

نظرات فيها التثمين عالياً للمساعي والجهود المبذولة التي صرفت في المحافظة على الصداقة والتعاون بيننا وبين الاتحاد السوفياتي، ففيها استرشاد عما آل إليه الوضع من قبل وما سيؤول إليه من بعد وإن التأييد الكامل هي في الخطوات الثانية التي تتبعها دائماً لنحصل على الثقة التي أعجب بها الرئيس الروسي (غورباتشوف) مما دفع بالصداقة إلى الحد الذي يثبت عنده التعاون الكامل والتأييد المطلق مع الاحتفاظ بالتوازن والاستراتيجية.

عظمة البطولات والمواقف الثابتة والمبدئية هي التي تتلاقى فيها العيون والقلوب والمصافحة والابتسام والتهاني القلبية باللقاء والوداع. تأملت جيداً في عينيهما فاكتشفت رضاؤهما عما يعملان لبلادهما وما يجب عمله لمتابعة المسيرة.

 

 

الرمز… والإيحاء

 

إن الرمز للطافة والأنس والبشاشة توحي للنفس بما تستريح إليه وتطمئن ففيها معاني الخير والرحمة والمحبة ولو لم يحمل صاحبها بالتأكيد هذه الحقائق بعد التجربة إلا أن أكثرية مرآها يغلب عليه الاهتداء إلى هذه الجوانب لضيق النفس وتبرمها من الوحشية والفظاظة. وقد يخدعك الرمز فتسحر بشكله وقالبه وعندها امتحان لصمودك وقدرتك النفسية والفكرية هل أنت مفرغ للامتلاء بما يسد الفراغ وهل أنت ممتلئ لتعف عن مظاهر الرموز الكاذبة.

إن الانقطاع بعيداً عن مثل هذا الجو الذي يدعو للمحبة والسلام هو يعني انصرافها كلياً عنك واستعدادك لقبولها إذا ما وجدتها حقاً. فإذا تلهفت لسماع الحق من قائله يلاحظ انتباهك الشديد نحو الوجهة التي انبعثت منها هذا الصوت، وإذا أمقتك المنظر القبيح بسماجته وعدم تلاؤمه أدرت وجهك نحو الجهة التي يشع منها وجه ملائكي وابتسامة عذبة، وإذا كان الجو ينفث بالكآبة والحزن تطلعت من قريب أو بعيد إلى الانطلاق الذي يبعث الأمل ويهديك إلى الفرحة.

لي صديق تراه إنساناً مهذباً كاملاً إذا ما وضع في بوتقة الملاحظة والنقد كأن يرى ويسمع عذوبة وجمالاً من وجوه لم يكدرها الغضب لسوء الطالع وثغوره لم تكشف عن داخلها إلا لتشفي آلامك الدفينة بما تتفوه من أدب الكلمة ورقة المعنى. فإذا هو قد انقلب إلى شخص آخر يتكلف الكلمة الجميلة ويتصنع المنطق العذب وأقول إنك إذا أسمعته ما يجرح شعوره فهو ليس بفاهم ما تقول وليس قولك بسامع له. عجبت لأمره كثيراً كيف أنه في الحالات العادية بطل لا يقاومه عنيد وجبار لا تلين قناته ومشاكس لا تستطيع أن تدخل معه في حديث أو تخوض معه في مناقشة لأن النتيجة التي تخرج منها هو صده المر لكل ما يسمعه حتى ولو كان الكلام في مصلحته.

إن الشعور الإنساني ليصاب أحياناً بالألم الذي لم يسكن جراحه إلا ردة ملهوف وإغاثة منكوب وعطاء مستجدي ولعل الأمل في الدعوات للمفقود البعيد المنال هو الذي حز الشعور السليم وبقي فيه الحز يصرخه ويثيره ولكن بدون جدوى فإذا ما جد الجد فهو كالخفاش يخفي رأسه بين رجليه ليطير عله في هذا لا يرى أحداً وخاصة صائده.

فالويل للشعور الإنساني إذا جرح كبرياؤه ولم يتطبب بعد الجراح وحيفاً وخسارة لمن يقدر أن يكون منقذاً لهذه الجراح من دون أن يناله سوء أو امتهان ثم يتوانى عن الضماد والإسعاف. أما أولئك الذين يتسببون لمثل الجرح في الشعور كالتفوه بكلمة نابية وإساءة الأدب لمن لم يصدر منه أي خلل يوجب أن يتلقى صدى ما قال وترجيع ما أسمع، فهم محاربون بدون سلاح وأعداء بدون خصومة.

 

 

رجل المستقبل

 

ما كنت أمتدحه وأشيد به أتى ثماره اليانعة وظهر على الساحة العامة في القلوب بعد أن كان في العقول، وما كنت آمله وأرجوه تحقق بعد حين من الزمن فكانت النفس عطشى إلى رؤية هذا وذاك وما الذي جعلني أن أهتف به إلا ما كان من مرارة الأسى الذي يحز في النفس أن سير الأمور على غير ما يجب أن تكون وأن تبقى الأمور معلقة لا تتزحزح في حين أن شيئاً قليلاً من الانتباه لما كانت الأنفس لتتعقد لإنه لم يحزها المراعاة والعناية والاهتمام.

كانت الأطفال التي شبت اليوم وأصبحت كباراً لم يكن ينقصها الذكاء لتتعلم وإنما كان ينقصها أن تجد وهي في سن الطفولة ما ينبغي لها أن تتعانق مع أمثالها الأطفال لترى الرؤية الأخرى الجديدة في التحابب والتسامح والتعاطف.

كان الإيمان بالطفل الذي هو رجل المستقبل لا يتعدى كونه صغيراً ويكبر إذا أعطي له العمر أما ما يتلقاه وهو صغير من مشاهدات وتجارب وتلقين فهو ينحصر بالأسلوب الضيق الذي ضاق عنه الأهل قبله ويضيق به من بعدهم وكما كانوا يكون وكما انطلقوا ينطلق أما ما يتولاه من سأم وملل وعجز ومرض وفقر وجهل فله الصيغة التي صاغتها لهم المقادير وتقيد به مربوه ومعلموه. لقد انتقل جو الانتباه للطفل من مرحلة الكائن الحي إلى مرحلة أخرى للانتباه إلى الطبيعة التي يتغنى بها الطفل في براءته ليراها حلوة جميلة فمن الحدائق الغناء إلى الجدران التي يصيبها اليوم الزهو يفرح الطفل في عيده بمنظمة تسمى الطلائع تحت رعاية مشرفين قائمين على هذه المنظمة يفرحون إذ يرون ثمرة أتعابهم وقد أينعت ونضجت.

في حمص تقام في هذا العام دورة الطلائع التي تمتد أسبوعاً كاملاً فلماذا لا تتجدد همة المدينة بهذا العيد فتلبس حلة زاهية من الجمال في ألوانها المتناسقة ويتسابق الجميع إلى الاشتراك بهذا الاكساء الجميل من الزينة التي بدت واضحة للرؤية شملت جميع أبناء البلدة. فمن كان يتأخر في إقامة معالم الجمال لمتجره وأبوابه مغلقة فإن جاره ليدعوه من نفسه أن يكون قدوة للآخرين. ما الذي حدث للمدينة بعد نوم عميق عن زينتها وجمالها أن تصحو وتجدد الهمة فلا يكون التقاعس من شأنها أن توصف به، ولا يكون الإدراك للجمال بأقل مما أدركته بقية المدن في الاحتفاء بأسبوع طلائعها. لا بد من دعوة قامت على أساس المحبة والرغبة الصادقة فتفرح بأبنائها تستضيف الطليعي الزائر فتكرمه وتبرهن على الجدة والحداثة.

 

 

أيها القارئ

 

أيها القارئ كنت أتردد كثيراً إلى مكان سوف تتبين اسمه وصفته فيما بعد إنه موضع للاجئ غير أن زواره ليس بلاجئين وهو هدف للاجتماع والتلاقي غير أن المختلفين عليه لم يعرفوا بعضهم بعد أن اجتمعوا ولم يكن لقاؤهم إلا لفراق طويل سوف يعقبه، فيه صفة التماسك والتلاحم ولكن المتأمل فيه والمجرب يرى تماسكه وتلاحمه وهماً لا يلبث أن يتكشف له تصدعه لينهار فوقه ويرضى بعد ذلك أن ينجو بنفسه منه.

مكان جميل منظره لأنه أقيم على اجتذاب القلوب إليه ليكون رمزاً لهيئة تمثل نخبة صالحة من شباب اليوم يؤدون عملاً من أقدس الأعمال فيه خير وثواب وحاجة كبيرة تزين الطفل ليكون قادراً على حمل المسؤولية والأمانة عندما يشب ويكبر، هذا المكان يتجدد لقاؤك به بعد انصرافك عنه لتقضي مهمتك التي خلقت لها وخلقت لك.

فهل أيقنت يا صاحبي أنك سائر إليه للعز والكرامة ولكنك مخزي من حيث تسبق نفسك إلى الإسراع لوصوله وتتمنى لو كنت تمشي مشي  السلحفاة في بطئك وتمهلك حتى لا تفاجأ بما أنت لم تتوقعه ولا تقدر له أن يقع.

هذا المكان هو لقائي ولقاؤك بعد ساعة عملك، وهو أملي وأملك عندما تصعب التوصل إلى تحقيق مطلبك ليكون ترجماناً تهتدي إلى مشكلتك وأنت قريب منه ويساعدك في حلها لتبقى مهمته التي وجد من أجلها مصونة ومحافظ عليها وهي اسم ومعنى لعنوانها التي تجمع جميع الأفراد العاملين في حقلها تحت اسم عرفت بالنقابة أو كما عرفت من قبل باسم (سنديكا).

ترى ما الذي غيرك أيها المكان وأصبحت العين تحب أن تسمع بك عن بعد ولا تراك عن قرب. إني أليف لمكاني الذي بقيت بقربه زمناً لا بأس به لا أفارقه في الصباح أو المساء ومع ألفتي إليه من بعد ترددي الطويل أراني الآن أحمل نفسي حملاً على السير والخطوات حتى إذا ما وصلت إلى بابه تولاني عرقلة كبيرة لا أقدر التخلص منها فإذا بالمكان قد سد بابه ليصبح حائطاً أمام عيني وإذا بالدخول إليه يحتاج إلى هدم الحائط من جديد لتنفذ مرتين مرة للخروج لأنه يسد سداً محكماً وأنت بين جدرانه ومرة بعد أن يضيق صدرك حتى تحسب ثقل المكان كله فوق رأسك.

ترى ما الذي غير بك أيها المكان: فقد يجوز أنه لم يتغير إلا من بعد تغيرك أنت فما الذي غيّرك وغيّرني أيها القارئ .إن أملك المرجو أصبحت تراه يأساً فأغلق من دونه قلبك فكيف أستطيع التوفيق لاسترجاع نبضات قلبك التي كانت تهفو لوجوه أهله عند اللقاء بهم وبين الحقيقة التي لا يكذبها اليقين.

إن الحقيقة التي كشفت من بعد ستر طويل لها هو أنه من السهل أن يتغير مقعدك الذي استندت إليه للاطمئنان والراحة من بعد الجد والعمل وذلك باستبدال اسمك من بين الأسماء ليصبح المقعد لغيرك من قائمة أصحاب الاستحقاق في المقاعد التي أعدت لأصحابها من بعد درس طويل  ليكون المقعد الجديد من جراء رفع اسمك أو إنزاله في فرصة سريعة تضيع عليك أملاً طويلاً خفق له قلبك وهو غير مستعد أن يخفق له مرة ثانية.

المكان جميل بأهله القدامى والجدد فعلى القدامى أن يهمسوا بأذن خلفهم، أن الأفضل في الأعمال هو التأني لا السرعة وأنه يجب الدراسة في الجديد على أضواء الدراسة القديمة من بعد تشذيب وإصلاح وتحقيق لاجتذاب الخطأ والوقوع في النقص والقلوب الحية أبداً خفاقة تسترجع أملها ونشاطها وحياتها ولكن على ضوء الحقيقة والواقع لا الأمل البعيد.

 

 

ليست مشكلة بذاتها

 

ليست مشكلة بذاتها وإنما جاءت المشكلة من فقدان التوازن بين ما هو عليه الأمر وما يجب أن يكون لقد قصدت الموضوع لا لذاته لأن مثل هذا التباين يحدث في كل وقت ومع أكثر الناس.

لقد رأيته لأول مرة يأخذ مكانه في جانب من المقهى ويلاحظ في سيماه الوداعة والأنس، كان استقباله يتناسب مع من عرفه من الذين جاءوا يسلمون عليه ويسألونه ماذا يشرب وإنه إذ ينفرد بنفسه على طاولته كانت الطاولات الأخرى من حوله يشغلها الذين كانوا في لعب الورق يتحركون ذات اليمين وذات اليسار وإلى الأمام أو الوراء دون أن ينتبهوا إلى ما يحدث في رجوعهم وتقدمهم، وليس من العجيب أن تختل النرجيلة لهاويها الذي جعلها أليفاً له في مكانها المعد للصدفة التي قلبتها بسبب التراجع إلى الوراء من قبل لا عب الورق، أما الخوف الذي كان سيحدث أثره العميق لو أن زجاج النرجيلة كان قد انكسر دون أن يبقى التبغ على طاقمها غير أن شيئاً من ذلك لم يقع واقتصر الأمر على حرمان شارب النرجيلة من الاستمتاع بالدخان الصاعد أو الداخل.

كانت لي رغبة تريثت في تحقيقها لأشاهد ما يتم عليه الأمر بعد أن اعتذر المخطئ عن فعلته وهم بإصلاح الموضوع باسترجاع نفس جديد وعل ما يبدو أنه كان في انتظار الصانع ثم نسي الأمر بعد أن تأخر وصوله، ولقد أهملتها لأرى ماذا سيحدث بعد ذلك لقد رفعت النرجيلة من مكانها وأخذت لتعد مرة أخرى إلى شارب آخر

إن صاحبنا أشعل سيجارة وأخذ يدخن ولم يجدد موضوع التبغ الذي يشتعل على نرجيلته ترتكز في بقعة محددة جداً من الأرض يضيق فيها المكان فتخرج من دائرة الارتياح لتنام رامية بما عليه من جمال النكهة والرائحة، وكم يكرر الموضوع ذاته من قبل الأطفال الصغار الذين تعج بهم المقهى ولا عمل لهم إلا عرض أوراق اليانصيب وهم لكثرتهم لا يكادون يفارقون الزبون إذ كلما انتقل واحد منهم من مكانه احتله آخر ليسأل ويحث الناس على الشراء. قلت إن الموضوع الذي أعالجه ليس هو الأمر بذاته وإنما هو الفراغ الذي أخذ من الشباب وقتهم فلجأوا إلى المقهى والعطالة التي استحوذت على البائعين ليمتهنوا التفتيش عن مشتر يجدونه في مكان عام.

ثم إنه يتعلق بموضوع الصغار الذين يجدون العطلة الصيفية عبئاً لهم لتمضية أوقات الفراغ أو فرصة لهم ليردوا لأسرهم ما يكسبونه في بيعهم أو يخففوا عنهم ضائقة المكان فيتجولون في الشارع لتتسع الدار بمن ضاق بها من كامل الأسرة مجتمعين في وقت واحد. إن الكتابة في هذا الموضوع عالجه كثير من إخواننا غير أني آت به الآن على نوع جديد من القول.

إن الأسرة الكبيرة لها متاعبها الخاصة بها مما تعانيه من اختلاف وتنافس وضائقة مادية ومعنوية وليس علاج الموضوع بالأمر السهل، وقد أخذت أسباب عديدة للنخفيف من نوع العذاب بما تشاركه بها المؤسسات والمشاريع من إقامة حدائق ومنتزهات ودور حضانة إلى غيرها من أنواع المرح واللهو إلا أن المشكلة لا تزال قائمة وليس من السهل اتساع الأمر بكامله لتجنب أي نوع من أنواع البطالة

والعطالة والضائقة.

فازدحام السكان في منطقة يؤدي إلى نوع من الضجيج والحركة لا ينفع معها إلا اتخاذ النشاط والقوة رداً ودافعاً للأذى والتململ من الانزعاج، إلا أن هذا النوع من صخب الحياة يعيش في جو من العمل لا يبرم به صاحبه لانصرافه كلياً إلى نسيانه وقته ونفسه والأمر الأليم أن تكون لبعض النفوس طاقتها المحدودة من الاستمتاع بالحركة والعنفوان فتتألم ولا يمكنها أن تضاهى بقدراتها قدرات غيرها من المشتغلين بالرياضة وممن أتيحت لهم أجسام قوية ونفوس صلبة.

 

 

برنامج ستديو 26

 

يعجبني في البرنامج:

ـ أنه متنفس لبعض الشكاوى التي بحاجة إلى الحل السريع والتي طال عليها الأمد بتجمدها وعدم الانتباه إليها.

ـ الدخول إلى أفهام فئات الشعب بأخذ الرقم المجهول والاتصال بصاحبه

والاستماع لصوته.

ـ الألحان والموسيقا التي تعقب كل مادة من برامجه بحيث تترجم عما تؤديه هذه الكلمات من حركة وتصوير.

ـ إن الوقت جد مناسب بحيث أن العدد الأكبر من الموظفين يستطيعون أن يستمعوا إليه وهم على مائدة الطعام مع أسرتهم.

ـ برنامج صوت من الزحام لمريم يمق لأن فيه أسئلة تحقيق بإجابات مختصرة ومفيدة. يسودها البداهة والواقع.

ـ برنامج " على الهواء " لأنه فيه خاطرة جديدة لمشاهدات نراها ونسمعها ونعرفها " كل يوم " غير أننا لا نركز عليها ولا نعطيها اهتماماً.

ـ الاتصال بالفنانين من أدباء وموسيقيين ومذيعين مع موجز لحياتهم.

ـ استدعاء بعض الشخصيات الموهوبة للمتابعة في العمل وطرح الحرد والدلال

بتذكيرهم وتشجيعهم.

ولا يعجبني في البرنامج:

ـ أنه كاد يصبح هدفاً للشكوى فتعود الشكوى منه لا إليه

ـ مضايقته أحياناً لبعض المسؤولين بحيث يراد منهم الإجابة العاجلة في وقت قد يكون

غير مناسب

ـ الإطالة في بعض البرامج والاقصار في البعض الآخر وبقاء القديم منه زمناً طويلاً.

ـ الألفاظ التي تدخل في صيغة التعجب والاستفهام والتمني والرجاء والأمر والنهي والطلب مثل: كيف، لماذا، لو أن … هل كان…، لا تسرع، انظر إلى الساعة ….

اقتراح: إعادة قسم من البرامج الهامة في وقت آخر من اليوم ليتاح للبعض الآخر السماع إليها في غير وقتها السابق.

هل يغضب الأستاذ المحامي هائل اليوسفي!!

ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟!

 

لاشك أن رجل القانون يغضب عندما يكون الحق في جانب القانون ومع ذلك لا يستطيع الدفاع عنه ومرد ذلك إلى غلبة الباطل في وجه الحق وهذا لا يكون إلا عندما تفشل أوجه الدفاع عنه ويكون الانتظار مستمراً والأمل طويلاً والروح لا تزال مؤمنة بمصير انتصاره. ولنأخذ مثلاً على ذلك فنقول: عندما يخدع الإنسان بحيلة محتال والعقول التي ترجح عنصر الجودة والوفاء والكرم والمحبة لا بد لها أن تستوثق وترى البراءة في كل إنسان ما لم يؤخذ بجريرة ثابتة أما أن يكون الحق هو الإدانة والباطل هو الاتهام فهذا نقيض القانون ورجل القانون.

فإذا كان البريء هو المتهم وإذا كان الحق هو المغتصب فعندها تثور ثائرة المحامي المدافع والمنتصر للظلم والغبن. فلا بد للأستاذ المحامي من أخ أو صديق أو ابن أو ابنة غلبه الباطل على الحق لجهله أو ضعفه ولسلامة قلبه وسريرته ولعدم تمرسه بالنزاعات التي تأتي من النفوس التي تهوى ولا تهوى فإذا هوت غلب عليها الشطط وإذا انصرفت عن الهوى غلب عليها التصلب والقساوة فهل يكون الأستاذ مقتصراً على عدم الرضى ثم لا يعقبه الغضب والانفعال فإذا ما غضب فما الذي يرجعه عن غضبه ويخفف ثورة غضبه وإذا جاءه الغضب وهو في بيته فهل يثور كما لو كان في نقاش ودفاع أمام الحاكم، وإذا كان الغضب في وقت من الأوقات فهل هو في الصباح أكثر منه في الظهيرة وعند المساء وإذا تم ذلك فهل هو يدفع الثمن بنفسه أم أن الثمن هو نتيجة ضبط أعصابه التي لا نظير له فيتلقى الألم كما لو كان شيئاً عادياً.

إن الإجابات على هذه الأسئلة تحت عنوان بسيط هو أنه إنسان قبل أن يكون محامياً وتكوين الإنسان هو المشاعر التي تنتابه من جراء الفرح والألم والنجاح والفشل والفهم وعدم الفهم

وإني أخصص بالغضب لأنه لا يسلم منه إنسان وهو يدافع عن الحق وأخصص بالزمن لأن الأستاذ وهو في البيت مع أهله يختلف جداً عما هو في مكان عمله وإن الصباح أرحب له بسعة الصدر من المساء الآفل فيطلع النجم ويأفل. وشكراً للأستاذ لو تعرض بالإجابة عما يعانيه من حبس النفس لكي لا تغضب إلا قليلاً وفي وقت لا يضر به الغضب لصالح الموكل وفي كل ذلك نعتبر الجهل بالقانون وعدم الإحساس به هو السائد للرؤية المستمرة والإصغاء الشامل.

سمعته يغضب في الإجابة على سائل جاء استيضاحه دليلاً على التمادي في ضلاله وغبنه ودليلاً على فرط حقه وحصوله على الطريق الأمثل ودليلاً على الضعف والظلم. لذا كان الرد والجواب شافياً له من الغضب ولا بد للدفاع عن الحق بوجه غاصبه يكون بلهجة أقسى وأمر إذا كان وجهاً لوجه أمام الدفاع.

 

 

كيف يريدني قومي أن أتكلم

 

كيف يريدني قومي أن أتكلم وقد بح صوتي من كثرة الطلب والمناداة. وكيف يريدني قومي أن أصمت وقد رأيت بعيني ما صنعه الظالمون تقتيلاً وتعذيباً بنفوس بريئة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، كيف يريدني قومي ولا يريدونني وهم في إرادتهم لا يجدون بل يهزلون وهم في هزلهم ليس لهم رأي ولا تصميم ولا تنفيذ.

ارتضيت لنفسي الهدوء في مواضع الصخب والضجيج وارتضيت لها الضجيج في مجالات أخرى أرادوها هدوءاً لينعموا بها فإذا أرى الهدوء على ما فيه من السكينة أحظى بالسعادة من ذلك الضجيج  على ما فيه من الفوضى والتخريب، وإذا الضجيج على ما فيه من المغايرة لبعض العادات دليل على استمرار النفس بالشعور بالجراح حتى يمحى أثره وبالمهانة حتى تعزز المقدسات التي استبيحت.

كيف يريدني قومي أن أنام وقلبي يقظ وكيف يريدني أن أصحو وقلبي هاجع، كيف يريدني قومي أن أنام وأصحو في وقت واحد وكيف يريدونني أن أنام بعدما جددت العزيمة وصدقت النية.

إن نومة واحدة في وقت تحتاج فيه اليقظة إلى كثير من الانتباه والملاحظة لهي نومة مميتة تبقي صاحبها في ركن من الدار تقلعه منها قلعاً وتهدم فوقه البنيان دون رحمة أو شفقة، إنهم يروني ويظنون أني نائم ولكنني في الحقيقة متلهف لسماع صوت الحق في صراخ مستغيث مألبيه وأمد يدي نحوه فأقوي ساعده وأساعده في حمل ذخيرته من السلاح لينقلها إلى مكان آخر أكثر إصابة للهدف ونجاحاً في المعركة.

 

ارتضيت لنفسي النوم على وسادة لا تهتز تحتها الأركان وفوق أديم لم تدنسه أقدام الأعداء وفي ظل سماء يرفرف عليها الحق والعدالة، ارتضيت النوم وارتضيت اليقظة وما ارتضيت أبداً أن أكون لهما محباً وفي عيني لهفة النظر إلى الارتياح وفي أذني شوق السمع إلى صيحات الفرح وفي قلبي نبض الأمل بالحياة. كيف لا يكون هناك لسان أتكلم به وقد جعلته من وراء عقلي وكيف لا يكون هناك عقل أزن  به الأمور وقد جعلته في الحكم على المعتدي والتبرئة للمظلوم.

إن قومي تخدعهم المظاهر حيناً لكن لم يطل عهدهم بهذه المظاهر الكاذبة فقد تذكروا بعد نسيان وأجمعوا بعد المشاورة واهتدوا بعد الحيرة والقلق. إن قومي عمالقة فإذا ما اشتد غضبهم فهم اسود كاسرة لن تقف النار بوجههم ولا التحدي والإمدادات إن قومي هم من سلالة كريمة أعطت مثلاً في التضحية والفداء فلا عجب إذا كان الهزل عندهم للتخفيف من ثورة الغضب التي أشعلت قلوبهم بعد أن ضربوا بسيفهم فلم يقطعوا بل قطعوا خذلانهم وتفرقهم.

 

 

المذيع وليد سرميني

 

المذيع السيد وليد السرميني يوحي بأنه يريد شيئاً آخر غير الذي يندفع به في الكلام يتعرف إليه المشاهد وذلك من جراء التعبير الطويل في الصورة الأكثر اختصاراً ومن جراء الحركات الكثيرة في الصورة الأقل دلالة، فكما عرفته شاباً نشيطاً رأيته يتردد فيما يريد أن يقوله ويظهر هذا بقوة الأداء بعد التأمل الطويل والابتسامة الحائرة بعد المفاجأة التي غلبت عليه في سكوته وانتظاره.

المذيع السيد وليد السرديني شاب تأتي جملته في القول إما سريعة لا يتوقف ليأخذ راحة نفسه في التنفس وإما بطيئة كأن المشكلة وقعت وليست هناك مشكلة وإنما استغراق في التفكير والملاحظة يتيقظ بعدها الفكر والعين لما يجب أن يرى ويرتأي. فإذا النظر محدق باليقين الذي يتحتم تصديقه وإذا السمع مشدود للواقع الذي يتحرك له ويقف من أجله وينادي بصوته العالي في إعطاء الجواب ومعرفة المتكلم ومشاهدة المتسابق الذي سيفوز بالجائزة إن أراد إرادة حرة أو كانت منساقة إلى صاحبها في غير شرط لاستحقاقها بوجه أفضل أو ممكن الاعتبار بأفضليته.

شاهدته في التلفاز أكثر من مرة وكنت في كل مرة أراه متحمساً للعمل للعطاء في صدق وحق فإذا ما خيّب الأمل مسعاه فإن إحقاقه سيكون في الاستغراق الطويل والتأمل المستمر وهذا يوقظه إلى أنه كان في شغل من نفسه وفي شغل من عقله وفي شغل يجعل التعبير الذي يجب أن يؤديه غير التعبير الذي أوحى به تقاطيع وجهه ونظرات عينيه وسرعة تجاوبه للقول الذي سمعته أذناه ولم تره عيناه ورأته عيناه ولم تسمعه أذناه.

إن هذا الشيء الموحي بإرادته هو الأمل المرتقب وهذا الأمل لم يجده في الجمهور الذي اعتاده وإنما في الأفق الذي يذهب إليه عقله إن كان في الأمنيات التي يسعاها أو في الرجاء الذي يتوقعه أو في المستقبل الذي يجد من أجله ويجند شبابه وقوته له، كل ذلك لا يعدو راحة نفسه وهناء مراده وسعادة روحه.

 

 

المذيع توفيق الحلاق

 

توفيق الحلاق كما عرفته في السالب والموجب ثم "المفتاح" وأخيراً "نادي التلفزيون" هو إنسان أحب هذا النوع من التحليل والعرض غير منتظر إلى ما يوقعه البرنامج من التأثير والألم على الجمهور وهو في برنامجه الأخير يعدل عن فكرة الأسى والحزن ليقوم بنشاط يستحث فيه همم الجمهور إلى المزيد من العطاء والإرادة ليصور لنا نوابغ الشخصيات في القدرات على جمع عدد من الميول في شخص واحد له ميزته الخاصة وتفوقه في هذا الجمع بين ميلين متشابهين أو متباعدين يدفعهم الاجتهاد والدأب على المحافظة عليها في فترات معينة من حياتهم ليكون الظرف المحيط به متخذاً القرار على المثابرة في إحدى هذه الميول للانتقال به إلى الميل الآخر علماً أنه إنسان واحد لعدة قدرات اجتمعت لتفترق في واحدة يطغى عليها الميل الآخر.

إن التعريف بهذه الشخصيات ذات الميول المتعددة هي أيضاً جزء من برنامجه المعد له وهو التحليل والعرض إلا أن الفارق في برنامجه الأخير هو أنه تحليل يترك في نفس المشاهد الأمل والبهجة والخوض في أعماق المواهب التي لم تتح لصاحبها الاستكمال في طريق المتابعة فتعود من جديد لخلق شغف جديد ونجاح مستحدث. تعرفت على الأستاذ في برنامجه الأول السالب والموجب فقلت : الأشقياء في الدنيا كثير فلا أقل أن نخفف شيئاً عنهم أما جعل  الشقاء مستعصياً عن الشفاء فهذا مما يزيد في ألم المشاهد أو السامع وكم تمنيت يومها أن يكون للأستاذ (الحلاق) قدرة قادرة فلا يعود بائس يئن ولا حزين يتألم ولا شاكٍ يتوجع.

أما في برنامجه الثاني فقلت إنه أيضاً عرض للمشكلة التي حلها يصعب لأن حلها يأتي من ذات الجمهور وفي إبداء الرأي فقط فمثلاً مشكلة المهر تعرضت لآراء أساتذة من محامين ومحاميات كانوا جميعاً متفقين على المشكلة ذاتها وإنما الحل يتعلق بالتقاليد والعادات والقوانين المسنونة لطبيعة هذا الشعب أو غيره. قلت يومها إن مفتاح الحل ليس في تبديل المفتاح وإنما في اليد التي فيها ملايين المفاتيح لكل استعصاء لا يطوع.

وأخيراً في برنامجه (نادي التلفزيون) وأظن أن المشكلة غير مستعصاة حيث  أن الحل في رضا الجمهور وابتسامته العريضة، فصلة المشكلة بالمشاهد هي أنه بينه وبينها صلة الروح بالجسد فكلما كانت الروح سامية كان الجسم لا يشعر بالتعب والملل والسأم وكلما كان الجسم أعشق إلى الروح في سموها ونضالها فإن هذا الجسم بعيد عن مهدماته من الأضرار التي تلحق به كالفوز في مكسب بدون تعب.

 

 

المذيع مروان صواف

 

المذيع مروان صواف عرفته كاتباً ناقداً من خلال مقالة نشرها في جريدة الثورة وكانت لها حق الامتياز وعرفته مذيعاً في جريدة التلفزيون معقباً لصحافة اليوم، ملخصاً ما كتبت من المواضيع والأخبار ومجتهداً في إبداء الرأي حول ما جاءت به من الأقوال مقدماً للكلمة بقوله هذا يعني

عرفته منفرداً يتكلم وعرفته مشتركاً في النشرة وليس الأمر بذات الطابع فإذا انفرد بنفسه كانت له ثمرة الجهد والاهتمام الكلي أما إذا اشترك فكان تقديمه للمذيع الذي يعقبه هو الذي يذهب برونق هذا التتابع والانعطاف فلم يكن له ما كان من قبل عندما يريد أن يختم النشرة بعد سردها كاملاً إذ تفقد بعض جمالها حيث تطول بعد استيفائها المعنى واللفظة أو تقصر حيث كان يجب أن تمتد لتفي بمعناها ما كان قد نقص من متابعة للقول والفكرة، وتفسير ذلك أن التحليل الذي يبدؤه ليختمه ما كان يتجلى واضحاً عندما يهتم بالمشاركة له في النشرة فتنقطع الفكرة قبل أن يجد لها ما يدل عليها من التعبير وتستمر الفكرة بعد أن استوحى من المشاركة ما يوسعها ويطنب بها ولذا كانت المشاركة عبئاً محبباً فتحذف منه ما أفاض وتسترد منه ما قد حذف.

عرفته في مواقفه المتنوعة مع توفيق الحلاق وعرفته في برنامجه الأخير "القنال رقم 7" والحق إن طابع الفن يتجلى بوضوح في شخصه فهو مرح لا تفارقه الابتسامة يشترك مع الفنانين المطربين ليمنحهم الشجاعة على الطرب والغناء فإذا به يضيق بالطرب والغناء ليعود ويتسع بدائرة التحليل والمقارنة فإذا ما زحم المطرب أو المغني باتساع دائرته عاد ليتفق معه بحبه وميله للفن وجمال الطرب وحب الاستماع ومقدرته على إعطاء الطرب حقه من الإتقان أو التقصير.

وتفسير ذلك أنه كما يعطف على الذوق الفني من الانحراف والتشويه فهو يعطف على المطرب أو المؤدي للحن من الحرد أو الانكماش لذلك نراه مشجعاً حتى إذا كان التشجيع عاملاً للمطرب في القصور والإهمال جاءه بالتحليل والنقد غير أن مخافته للنقد والتحليل أن يكونا عاملين للتثبيط والخوف انقطع عن الكلام وأعاد للمطرب بهجته وميله فهو فنان مطرب قبل أن يكون مستمعاً وناقداً ومحللاً  بعد أن ملكته النشوة والطرب.

 

 

المذيع مهران يوسف

 

المذيع مهران يوسف جاء متأخراً في الكتابة عنه وكان يجب أن يكون السابق والسبب في ذلك أنني عرفته من خلال معرفة زميل له كان يشاركه البهجة والمودة والعاطفة والمرح، لقد أثنى عليه ثناءً جعلني مشوقاً لرؤيته وسماع قوله شخصياً قبل أن أتعرف عليه من خلال نشراته في التلفزيون العربي السوري.

المذيع مهران يوسف إنسان يتربص للكلمة الشاذة والنابية؟ إن في المعنى أو في اللفظ فهو يحب الهدوء حبه للحياة والطمأنينة ولعل الهدوء آت من كونه إنساني في أخلاقه ومعاشرته ولعله آت من جو الحبور الذي أحاطه من خلال تعايشه مع من أحب وتآلف وتجانس وانسجم فآمن بالمحبة والإخلاص ووثق بالشجاعة والكفاءة وارتاح إلى رضا النفس وقناعتها بما تملك ورفضها لما ليس بحوزتها وبعيدة عن الاستحقاق لأنها ليست من حقه وكان يجب الحصول عليها بعد المعرفة والفهم أولاً وبعد امتزاجها بنفسه وعقله ثانياً وأخيراً بعد السهر المجد والكفاح الطويل.

المذيع مهران يوسف أحب الجد والدعابة فكان في جده قوياً وكان في دعابته يدخل إلى قلوب مستمعيه ومشاهديه ومن أين له هذا كله إذا لم يكن أديباً يهوى الكلمة الحلوة والمناسب والصحيح ويقدرها حق التقدير فتنعكس على ملامح وجهه وأساريره.

المذيع مهران  يقدر المجدين والمجتهدين في الحياة ليكونوا أقوياء يجابهون الشدائد أما محبته للمجدين فتتجلى بالنبرة العالية التي تنطلق من شفاهه حين يكون التعبير دالاً على الرزانة والرصانة أما حبه للأقوياء فيكمن في معرفته للعصامية التي تسود  نفس صاحبها فيعتمد على كسبه وسعيه إذا كان ذلك الكسب حلالاً مشرقاً وذلك من عروق جبينه وكد ساعده.

المذيع مهران يوسف ذكر أمامي في حفل بهيج يفرح له ويطرب وهذا الحفل هو اقتران زميل كان من أشد الحاجة إلى أن يشاركه فرحته وسروره إلا أن الظروف حالت دون ذلك فهو لم يعلم في حينه ولعله عرف بعد فوات الوقت ولعله عتب ولم يعذر وأخيراً كان لسوء حظي أنني لم أمتع بجلسته واقعياً ولم أستمع لقوله وهو يتحدث وجهاً لوجه.

المذيع مهران يوسف كنت ألقاه على شاشة التلفزيون وهو يقرأ النشرة فأقول في نفسي إن مشاهدتي له وأنا أذكر ما أسفت له يشدني أكثر فأكثر إلى الذكريات التي كان بودي أن لا تكون من طرف واحد وأن لا تفعل في النفس لمرة واحدة لأن في ذلك انقطاع عن التعمق في المعرفة، كان ذلك التعمق ضرورياً لأكتب عنه أكثر فلا أكتفي بما قيل عنه وما أخذته من نشراته بل ليتعدى ذلك أن أكتسب منه بعض المرح ولأحفظ حديثاً كان لا يمكن أن يقوله على الشاشة وإنما يخص به أصحابه وجلساؤه.

 

 

حياة المذيعين

 

معلمة تربية رياضية تقترح من هيئة الإذاعة العامة موافاتها بنبذة قصيرة عن سيرة كل مذيع ومذيعة كما أن إنساناً آخر طلب التصديق على معلوماته بشأن مذيعه فكما أن طلبه لم يستجاب الآن بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر، فكذلك اقتراح المعلمة لا يستجاب لطلبها ولتنتظر مدة من الزمن كما انتظر ذلك الإنسان للوصول إلى مراده وإذ آلمني عدم الموافقة على التصديق للطلب الأول وعلى شبه التوافق بين الهدفين فإنني أتخذ الموضوع التالي لأبين جمال الموهبة في حياة الحرية والجد. لي بعض الإلمام بحياة المذيع أخذتها من قريب لي كان موظفاً في الدائرة وكانت صلتي به قوية وكانت حياته على غاية من الجد والاهتمام، لم يكن متفرغاً لها تماماً غير أنه لم يكن لها مهملاً.

بعض الناس يستهويهم الجمال في النكتة وقد تشدهم لها منذ طفولتهم فتراهم يعيشون لها وتعيش لهم فإذا ما منحت لهم حرية القول والاستماع فإن ركيزة قوية تبقى في ذاكرتهم لهذه الطرفة من الحديث ولهذا الجمال من الإحساس في التعبير والحركة شأنهم في ذلك شأن خفيف الروح والمزاج، يعجبك منه حلاوته وكياسته تستطرب ساعة حديثه ولقياك معه غير أنك تبقى أبداً غير مقلد ولا قادر على التلبس بتلك الشخصية بالرغم من أنك متمتع بقدرات هي في الحقيقة ملك لك ولا يستطيع المشاهد أن ينتزع لنفسه منها أي ابتسامة أو مرح.

إن الحرية تدع المواهب تنطلق وخاصة في عهد الطفولة فتجد التعبير عن الفرح الذي يشعر به شيئاً سهلاً وبأسلوب جذاب فحرية التصرف في الحركات لا تكون تابعة إلا للمحاكاة والتشبيه فإذا كانت هذه وتلك مستقاة من جوٍ فني وإيقاع موسيقي وإبداع تصويري  فلا غرابة أن توحي لمن يعيشها بالفن الممتع من كلمة حلوة وحركة مستحبة ورشاقة مميزة وذاكرة مواتية لما يتطلب هذا المنظر من تمثيل وجاذبية.

وقد يتلاقى الفن مع محبيه ومعجبيه غير أنه أبداً لا يكون مع الصورة التي يراها الرياضي في قذف كرة السلة والفوز بهدف، وكما كانت الممارسة المستمرة في النجاح بهذه اللعبة الرياضية كذلك كانت الممارسة المستمرة في النجاح لهذا الفن وهو جمال الأداء والنبرة الحادة ووضوح الكلمة زد على ذلك ما يتطلبه المذيع من ذاكرة قوية والحاجة إلى إعجاب الجمهور به.

إن حياة أكثر المذيعين هو سهر دائم وعمل جاد وانضباط تام للحركات والأقوال مع انسجام للعمل الذي يشغل وقته وعدم التململ من الساعات الطويلة التي تقض في جنباته والتلقين والإلقاء هما عماد ذلك العمل مع نسيان وجود الفرد مع نفسه والانصراف كلياً بتفكيره إلى رونق الإتقان والكمال والإبداع.

 

 

سياسة الغناء

 

سياسة الغناء جعلت من صاحبها الفنان المطرب ملامح متشابهة مع ملامح صاحب غناء السياسة التي كان وما زال لها الدور الكبير والفعال في إدارة دقة الأعمال، الذي يهمنا الآن إعطاء التقرير ما لحركات الجسم والصوت ذلك التشابه إلا أن الأول استمد جاذبيته من الثاني الذي عرفناه وقدرنا مواهبه بعد أن أخذت دلائل المواهب تبرز مضيئة لتنير الطريق أمام سبل المستقبل إن كانت في اللقاءات أو الاتجاهات.

من هو الثاني الذي فتحت له السياسة قلبها فضمته إلى صدرها حنوناً رقيقاً إذا كان الأمر يتطلب ذلك ومنذراً متوعداً إذا فشلت المهمة التي عولجت عن طريق اللين والأناة. أكتفي بذكر اسم الفنان وهو المطرب المبدع (معين حامد) وليس لي أن أذكر اسم الثاني وإنما آتي إلى التذكير في بعض جوانب أعماله لأقول إن انطلاقة الذكاء من ذلك الوجه المتحمل للأعباء لم يكن للأول فعل ذلك الرونق لأن غناءه كان في نشيد وطنه ومعالجة أزمته ولم يكن لهذا الترديد صدى في نفوس أبناء وطنه إلا بعد تلك الزفرات الحارة التي جاءت نتيجة للدرس والتفكير إن كان في الماضي على طاولة الدراسة أو في الحاضر على ميدان العمل المحب الدؤوب.

إنني تتبعت باهتمام زائد لما يدور من الذكاء والحيلة المستعصية زمناً طويلاً لإيجاد الحل والخروج من دائرة الاستعصاء إلى دائرة الانفراج وذلك في ملامح الوجه التي له طاقة التعبير عما يحتوي صاحبه من انفعال لا يبدو ظاهراً وإنما في الكلمات التي يناقش بها وفود المستقبلين نظراً للمهمة التي أعطيت له وكان يجب عليه أن يبدو ناجحاً في مسعاه ليصار إلى الأخذ بمقولاته واهتمامه الجهة التي مثلته ليكون المتكلم باسمها والناطق بإرادتها.

كلما قلت إن هذا الموقف لصعب في أمره بدا لي أن الموقف الذي يليه لأصعب منه وكلما انتهيت من موقف لآخر تتجلى البطولة الكامنة في نفسه، تلك البطولة هي في استسهال كل صعب ومتابعة هذا الصعب ليصير إلى إذلاله وذلك دون أن يدخل اليأس إلى قلبه فيستجد وتستجد معه الأحداث ويتريث قليلاً لكن الأحداث لم تتريث فيعاود ثانية وثالثة ورابعة وليست الأخيرة إلى الكفاح يبقى وجه الحق هو الأكمل وهو الأنجح وهو المطلب لأبناء الوطن الواحد.

عندما سمعت سياسة الغناء من صاحبها الذي له ذات السمة من صاحب غناء السياسة قلت إنهما سياستان واحدة في تملك الشجاعة لقول الحق وثانية في تحقيق الحرية لإنشاد الطرب.

 

 

المذيع عادل يازجي

 

المذيع بالمقارنة مع المعلم من حيث المهنة في دقة الوقت وحرص العمل مع التلاؤم في المحافظة على المدة المخصصة إن كان في الاستديو أو في الدرس : هما في الحالة النفسية من خوف في ضياع الوقت دون استكمال المادة المطلوبة للقراءة أو الشرح أو الإفادة المقررة، فإذا ما قام بلقاء مع الجهة المعدة لإعطاء المعلومات كان عليه أن يضبط نفسه مع الزمن كي لا يكون الحديث على حساب الجهة الأخرى في اللقاء والأخذ من الوقت المخصص له، فعملية الضبط هو التمرين الذي يمارسه مع نفسه أولاً ثم مع الحديث الذي يتناوله ليستمع إليه أو يرد الكلام لجوابه.

وإني أتناول الموضوع من حيث الشعور الذاتي للكلام الذي يهدف إلى المدلول المقصود وأما المدلول المفاجأ أو الغير مقصود الذي ليس له من إرادته شيء فإنه يتطلب مرونة كاملة بحيث يجب عليه أن يسرع أو يبطئ ويرفع الصوت أو يخفضه ويقطع الكلام أو يستزيده ويعير أذناً صاغية تصل إلى فكره فقط دون استكمال المفهوم إلى قلبه أو أن المفهوم يملأ عقله وقلبه مع وقف تأثيره إلى الإرادة في الحركة أو تكون الأذن صاغية كلياً فتكون النفس مهيأة بتمامها إلى العمل شأنها في ذلك شأن  الجندي في ساحة المعركة لدى مشاهدته العدو أو مبادرة الحركة منه فإذا تلك النظرة أو سماع الصوت يكفي  كل واحدة منها لأن تكون عامل إرادة وقدرة ومصدر اندفاع أو سكون.

المذيع الذي مارس العمل مدة لا بأس بها أقدر على الإصغاء من الانفعال وأقدر على الكلام من التأثير وأقدر على التأمل والتدقيق من الأخذ بفوات الوقت وهدر المنفعة. فاليازجي معد مجلة الثقافة يشغلني مصغياً لأن في صمته أمل اللقاء وألم الانقطاع عن ذلك المتحدث الذي يجيء بالمعرفة مزوداً بالكلمة الواضحة والموضوع الجاد، كما أنه يسرني متكلماً عندما يضيق به الإصغاء عن مدى الحاجة والمعرفة إلى الكلام أو السؤال فلا يكون معترضاً فقط وإنما يكون مقرراً لواقع لا محيد عنه وتاريخ مكتوب غير مستلهم، وكما يكون في إصغائه وفي كلامه فإن في حركاته كما هو الحال في نبض دقات الساعة فكل ضربة تشير إلى الزمن كأنها تشير إلى ارتفاع في درجات الحرارة أو انخفاضها وإلى شدة الرياح أو تنسيمه أو إلى عبوق الجو فلا حرارة ولا رياح وإنما هو بين بين.

 

 

الرياضي جوزيف عطية

 

لا أتعرض لبطلنا الرياضي المتفوق في لوس أنجلوس والحائز على الميدالية الفضية من حيث الرياضة لا من حيث أدب اللقاء مع مستقبله إنما أريد أن أتحدث عن العيون التي برزت في إشعاعها عند اللقاء وماذا تعني هذه النظرات بالإضافة إلى البهجة التي لاقت باعتزاز مكرمها ومقدر البطولة في صاحبها. الرياضي كما يبدو مطرق النظر لا يريد أن يرفع رأسه وذلك لما انطوت عليه شخصية صاحبها من الأدب والتواضع في موقف كهذا الموقف يكون فيه الحظ الكبير لما تمتع به من نصر في تحقيق البطولة وكذلك من إنعام السيد الرئيس بالتحية المباركة ومنحه وسام الاستحقاق السوري.

أين هذه النظرات الوديعة من تلك النظرات التي كان يصوبها للمنافسة في الأولمبياد لدى لقائه لأول مرة قبل الدخول في حلبة الصراع. إن هذه النظرات لم تكن تعني إلا الوقوف أمام بطل آخر من نوع آخر تشمل جميع أنواع البطولة لا في الرياضة فحسب وإنما في القدرة على استيعاب جميع القدرات وتحريكها إلى ما تستحق من العناية والاهتمام شهد له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء إن البطولة لمتعددة فهي كما في الصراع فإنها تكون في الرأي وقيادة الأمة وسياسة البلد وجذب القلوب إلى محبتها والعرفان بالجميل الذي أسداه بطلنا في رفع اسم سورية عالياً وفوزه بالتقدير العالي من قبل منافسه في الأولمبياد.

إن العيون التي لم تحدق بالرئيس كما يجب فهل هذا يعني أنها حدقت من القلب بدلاً من عضو النظر الذي يتمتع بهذه الخصوصية، فإن كان هذا كذلك فله القدرة في أن يرى بقلبه كما يرى في عينه. إن الفم المطبق الذي كان يزأر أثناء المباراة هو نفسه الفم المطبق الذي لم يفتح إلا ليشكر الرئيس على إنعامه بحسن الاستقبال ومنحه الوسام. فهل هذا يعني أن فمه الذي كان ينفث غضباً في المصارعة هو نفسه الذي يفتر عن ابتسامة بهجة وفرح تطير من قبلة حب وإحساس بالرعاية يطبعها بشفاهه التي كانت تعرف الرقص حين أدرك أن منافسه جاء ليتفوق عليه فما عرفت هذه الشفايف الهدوء والضم إلا عندما وجدت أن بطلها المستقبل أحب أن يطمئن صاحبها أنه في تقدير دائم مستديم للرياضة والرياضيين.

فهل هذا يعني أن فمه كما أعد للأكل والانتقام من منافسه فقد أعد للتقبيل يوم استقبله راعي الأمة ومدبر أمرها. إن في الفم أسنان فقد اختفت هذه الأسنان رغم الابتسامة والبهجة التي سيطرت على نفسه فهل هذا يعني أن أسنانه لا تبرز إلا عند الغضب والمبارزة وأنها اختفت أثناء لقاء الحبيب الأول حبيب الشعب وحبيب الرياضيين. إن الثوب الذي كان يغطي جسمه وعضلاته لم تختف مطلقاً لدى تصافح الرئيس معه فهما يدان قويتان شدتا على بعضهما لتحافظ على العهد والوفاء العهد الذي يتجدد عند كل أولمبياد آخر والوفاء لسوريا بأن تشهد دائماً أبطالاً ومتفوقين.

 

 

الرياضي جوزيف عطية مرة أخرى

 

أعود للحديث عن الرياضي المتفوق "جوزيف عطية " بعدما شاهدته للمرة الثانية في اللقاء العظيم مع أهله وأهل بلده. فماذا رأيت وما هي الصورة التي تركها الانطباع في نفسي بعد ما كانت شبه غامضة حيث كانت طلعة السيد الرئيس هي التي أهابت به إلى عدم الإفصاح عن معالم بطلنا المحبوب.

يبدو أن السيد جوزيف وجد في أسرة تحب الرياضة وتشجع الرياضيين فهي تهتم بالبطولة والأبطال من أفرادها وقد أنعم الله عليهم هذه الميزة بسبب طبيعة الأقليم والحياة فقد كان التقدير الأول لهذه الأسرة أن تحصل على مكانتها في التفوق والشهرة وقد أراد الله لها ذلك فكان منها البطل المحبوب الذي اكتحلت عينه بالعودة إلى قريته لمشاهدة أبناء عمومه والذكرى الجميلة لهم في قلبه فما أن رأوه حتى عادت لهم البهجة من جديد يحيونها مع سابق ما ألفوه من التعاون فكانت الدبكة والرقص عنوان هذه الطلعة الجميلة التي جددوا فيها ذكرياتهم مع ابنهم المحبوب الذي وجدوه أهلاً للافتخار والتمجيد.

ولعل ما شاهدوه من ضرورة الاحتفال ببطلهم حيث بدأه السيد الرئيس فكان عنواناً لهذا الواجب المحتم. ولقد عاد إليهم بطلهم بعد غياب طويل أو قصير إنما في هذه المرة كان مشيعاً برفاقه الذين عشقوا الرياضة وكرموا الرياضيين. لقد بدا لي في التلفزيون أن أيديه تتشابك لترقص على أنغام الإيقاع من الطبل والتصفيق فقد أجاد في دبكته ليأخذ دوره بين المبتهجين الشباب.

إلا أن السؤال الملح هو أن هذا الرياضي بالرغم من منافسته لرفاقه في إنجاحه بالتفوق إلا أن الحماس بالنصر غلب عليهم شعورهم فوضع المشاركة المكان الأول دون أن يكون للمنافسة دور في إنقاص بهجة اللقاء وفرحة الفوز والنجاح. لقد رفع على الأكتاف وأخذت له صورة بارزة بين الموجودين وكأنه يشير إلى علم بلاده وخاصة مسقط رأسه التي عرفته طفلاً وشاباً رياضياً وعائداً كريماً.

إن للعائد فرحتين كانت الأولى في تسجيل الانتصار المشهود والثانية في لقاء الأحبة من الأهل والإخوان والأمل كبير أن لا تقعده هذه الفرحة عن متابعة نشاطه في الرياضة ليبقى للوطن عزته بأمثال هؤلاء الأبطال. وليبقى التكريم بأحسن ما يمكن فيرضى الرياضيين إرضاءً يطمئنون به على مستقبلهم إذا هم عشقوا الرياضة عشقاً جعلهم أبطالاً دوليين يحرزون ميداليات فضية وذهبية في دورات أولمبية جديدة. ومني لبطلنا المحبوب أسمى آيات التقدير والشكر فهو مستحق لهذا الثناء من جميع القلوب التي عرفته شخصياً أو على الشاشة.

 

 

المذيع عبد القادر اليوسفي

 

تحضرني الذاكرة أني يوماً ما شاهدت المذيع عبد القادر اليوسفي مع مجموعة من رفاقه يتحدث ويتأمل بي لوجودي بقربه منفرداً وما كنت أعلم يوماً أني سأشاهده على التلفزيون مذيعاً لنشرة الأخبار وجاداً في الكتابة عنه بلمحة موجزة.

 

شاهدته منذ أكثر من عشر سنوات وكان نحيفاً وفي طلعته حب للكلام والحديث والملاحظة وأخيراً للبادرة التي تظهر فيضحك من أجلها أو يخترعها

فيضحك الآخرين.

 

نظرت إليه على أنه طويل القامة أسمر اللون مشابهاً لأحد من معارفي الذين يمتازون بالقدرة على الجواب حين يسألون وعلى الاعتراض حين لا يكون السؤال واضحاً ومعقولاً المذيع عبد القادر اليوسفي يتوقف أحياناً في قراءة النشرة ولا أدري هل توحي له بعض الكلمات ما علقت به الذاكرة من أحداث في الماضي وصور في الحاضر فيعود ليتابع القراءة وسط جو من الحماس والإرادة.

 

المذيع عبد القادر اليوسفي يتسامح مع نفسه كما يتسامح في برنامجه السابق " مسابقات " غير أن هذا التسامح يجب أن يكون في حدود المعقول بحيث لا يؤخذ عليه تسامحه وتساهله ولا يتجاوز المتسابق العبث في إجابته فيكون الموقف خارجاً عن حدود اللباقة ومنطق الاحترام.

المذيع عبد القادر اليوسفي يترك المجال يترك المجال في برنامجه أو في قوله. ليكون مستمعاً كاملاً وعطوفاً على النشء الجديد المشترك في برنامجه حتى إذا انتهى لقول وصارت الإجابة إلى التسجيل فإنه لا يرى بداً من الانتفاضة في غرقه في الاستماع ليتصور أن الجواب لا يمكن قبوله ولا يمكن السكوت عن خطئه لذلك يرى الضرورة في سرعة الكلام والتصحيح في مهلة قصيرة لا تتجاوز العد أصابع اليد وذلك كفرصة أخيرة لفوزه في الدرجة التي تضعه فوق الوسط.

عرفته شاباً أنيقاً ولا أدري كيف لم يعد يحتفظ بهذه الأناقة التي عهدتها به ويكفي لتهديم هذه الأناقة أنه أصبح يتثاقل وذلك لما انطوى عليه جسمه من امتلاء يمنعه أن يكون رشيقاً خفيف الحركة سهل الالتفاتة والإمعان.

بعد أن أجلت الكتابة عنه إلى هذا التاريخ أرى نفسي أنها مدفوعة إلى القراءة دفعاً ولا أدري هل هو من تثاقل هذا الجسم الذي لم يعد قادراً على الحركة كما كان أو هو من توقف طموحه الذي كان يطمح إليه وقتما كان شاباً وبعد أن صار إلى تحديد هذا الطموح الشيء البارز الذي يمكن وضعه هو أنه يرغب كما لو تقرأ النشرة بكلمة كما يرغب لو أن الكلمة الواحدة يستطيع قراءتها بعدة جمل غير أن العمل الإلزامي يتطلب منه أن يقرأ الكلمة كما هي دون زيادة وألا يختصر الجملة بكلمة

واحدة تحل محلها.

هذا ما كتبته عن شعوري نحو المذيع وكان بودي أن يكون التأخير لهذه الكتابة دافعاً إلى الاستفاضة أكثر من ذلك غير أني تذكرته ولم يكن في حسبانه أني سأذكره وأعجبت بنفسه الطويل الذي يقصر حيناً ليضيق بمتابعة القراءة ورغم القدرة على الإفصاح بالتعبير فإن سرعة جوابه أحياناً لتبطئ حتى لم يعد قادراً على الجواب أو رفع الصوت عالياً ليسمعه المحب لصوته ورده.

 

 

شعوري نحو المذيعين

 

آليت على نفسي أن أكتب عن شعوري نحو جميع المذيعين واحداً بعد واحد وقد أسهمت في كتابة عدد منهم واليوم أجدني أكتب عن الأستاذ رجا فرزلي المذيع التلفزيوني فماذا أقول: الأستاذ المذيع التلفزيوني يظهر على الشاشة وكأنه يريد أن يصب غضبه فما يجده إلا في صوته الذي يعبر عن الانفجار الذاتي فلا أدري أيعود السبب إلى ظهوره على الشاشة وهو يريد أن يعطي المشاهد صورة حية عن الأخبار التي تفرح فيجعله يتحرك كما يتحرك بذاته ولكن هذا التحرك لا يدري إلى اليمين أو اليسار كما لو كان باستطاعته أن يمزق حجب الكسل فينفض عنه غباره وحجب الجبن فيثور شامخاً وحجب الفقر فلا يتلوى ولا يتألم وكفى بالقدر الذي فرضته الحياة أن يكون مواطناً كريماً شريفاً.

 

الأستاذ المذيع يحتجب لوقت نتوقع ظهوره على الشاشة بعد حشد من الأخبار يستطيع بها السرد مفصلة واضحة غير أنه في إطلالته الجديدة يعود مشرقاً إلا أن فترة من الزمن مرت كان فيها متوقف النشاط كما عهدته وقد يعود ذلك إلى هبوط في صحته بحيث لا يمكنه أن يكون كما عهده المشاهد.

 

الأستاذ المذيع بطلعته البهية يوحي إلى المشاهد أنه حضر ليزحم الأفكار بالصور المليئة بالغضب والنقمة وإن كانت هذه النقمة على المستعمر الغاصب أو كانت على النقمة التي يوجهها الشعب المغلوب على أمره تجاه الاعتداء المتكرر. الأستاذ المذيع يتفوق بسرعة قراءته ووضوح ألفاظه وإتقانه للقراءة التي يشتد فيها الصوت ولا يتراخى مما يدل على حيوية وعدم مبالاة فالذي يحدث تجابهه القوة المحكمة والذي يتفجر يقابله التضحية الرخيصة والذي يموت يحيا بعد أن أعطى الدرس البليغ في الشجاعة والمقاومة فيسقط حسابه من الأموات ليقول إن الموت ينتظر الأحياء ليعيشوا عيشة كريمة شريفة.

 

الأستاذ المذيع يظهر على الشاشة حيناً وكأنه خارج من غرفة الطعام فيأكل الحزن أكلاً كما لو كان يتهيأ إلى زاد آخر لكن هذا الزاد ليس من نوع الطعام وإنما هو من الهجمة البطولية لأبناء شعبنا لينقضوا على الجناة الذين لم يعرفوا الإنسانية في تشريدهم ودمارهم وقتلهم للأبرياء المقيمين من الأطفال والشيوخ والنساء. الأستاذ المذيع: قوة في الشباب وقوة في العزيمة وقوة في الأمل فما عليه إلا أن يحافظ على هذه القوة وذلك باستمرارية العمل وتقدير البطولة واستمتاعه بكامل الحقوق التي يمنحها الشباب لأبنائه.

 

 

المذيع مروان زرزر

مذيع قديم لطابع جديد

 

المذيع مروان زرزر له طابع خاص وطابعه يأتي على ما أعتقد من إلمامه باللغة الإنكليزية إضافة إلى معرفته في اللغة العربية فهو يتمعن في قراءة الكلمة فيدقق لفظها ويخرجها من الجمود على الورقة إلى الحياة والقوة ليسمعها المشاهد في التلفزيون وهي في معناها التي تتحرك كما لو كانت دخلت إلى القلب قبل الفكر فتلعب بالمشاعر لتهيج والهدوء يأتي بعده إلى الإصغاء لإتمام الفكرة وتوضيح المغزى.

المذيع مروان زرزر له طابع خاص في قراءته وجلسته أمام المذياع فيكون كمن أراد أن يوضع له صورة جانبية يتأمل في نفسه ولا يشغله الجمهور إلا في أن يتفهم ويعي ما يقوله لينتهي بعد ذلك ويختم قراءة النشرة ليقول شكراً لإصغائكم.

المذيع مروان زرزر يتهيأ ليخفض صوته قليلاً حين تكفي النبرة الخفيفة لشد مسامع المستمعين ويعود ليرفعه من جديد حين يتطلب منه الكلام ذلك فإذا لم تكن الحاجة إلى العلو والخفض فالحاجة عنده إلى التعبير عن مشاعره للألم أو الفرح الذي يعقب الفكرة أو تسبقها قبل قراءتها ولا يكون ذلك داعياً إلى مظاهر الوجه في التقطيب أو البسط تبعاً لما توحيه بهجة الفرح أو تتغيض الألم.

المذيع مروان زرزر يجيد في قراءة " أضواء على الأحداث " كأن الحدث يأتي مع طلعته على الشاشة فيبشر أو ينذر ولا يكون التبشير إلا مع ما يجيء به الخبر من قوة في الصمود وثبات في الموقف وسداد في الرأي. ولا يكون الإنذار إلا ما يتحتم على الخبر من فهم خفاياه وطي كتمانه فهل يكون اللين إلا بعد القوة وهل يكون الصبر إلا بعد المحنة وهل يكون الاستعداد والأهبة إلا للسواعد التي تحمل السلاح بكف والأمل والنصر والنجاح بالكف الآخر.

المذيع مروان زرزور يتوقف أحياناً عند قراءة بعض الكلمات لعله يجد فيها معنى آخر غير التي وضعت له ولعله يصححها في المعنى التي أوحت بها إلى السامع ولكنه في كل هذا يعيد قراءتها من جديد فيخفق قلبه فرحة ويشتد ساعده قتالاً ويشخص بصره إمعاناً ويهتز اهتزاز المطمئن إلى المصير الذي خدعته الكلمة بمحتواها الذي لا يأتي بما أحب لها أن تكون في القوة والأمل والنجاح.

لصوته كما قلت حنين وصراخ وبسمة فالحنين يأتي من المخرج الذي جاءت به الكلمة والصراخ من الذاكرة المتتبعة للنبأ والبسمة من اختتام القراءة ليقوي في نفس المستمع ما آلمه وأفرحه وأكده وأخف به وما عانى وسيعاني من الصبر الطويل على القدر الذي لحق بالجهد الطويل أن لا يتوقف.

 

 

المذيع الياس حبيب

 

الياس حبيب كما شاهدته في برنامجه " الصحة والحياة وفي المنوعات " مذيع يعطي ليأخذ وما عطاؤه وأخذه إلا نتيجة لما يشهده ويسمعه وقد يتردد حيناً في العطاء ليتأكد أن ما أخذه صحيح وسالم وجدير بالاهتمام.

 

إن المتتبع لبرنامجه " الصحة والحياة " يرى أن في عرض أسئلته لوناً خاصاً يستوجب الاهتمام فهو بالإضافة إلى معرفة الجواب يشعر المخاطب أنه يقول شيئاً ويريد أن يسمع ما وراء هذا القول من إجابة يشفي الكلام الهدف الذي يصح معه أن يكون دواءً ناجعاً وبلسماً شافياً ولعل موضوع السؤال عن أسباب المرض فليس الجواب عنده إلا المبادرة لأخذ الدواء وإعطائه للمريض ومشاركة الطبيب فرحته بالاستفادة من هذا العلاج وإن أمكن أخذه الوقاية التامة لعدم الرجوع مرة ثانية للمداواة بعدما تعلم الوقاية والاهتمام بالصحة. فمهما كثر الشرح والتعليل فلن يغني ذلك عن لوم المريض لإهماله تناول الدواء وقته المعين وعن استعداده لعدم الشفاء استعداداً تاماً ما لم يكن ذا حصانة واقية من جسمه وراثة أو اكتساباً.

 

إن الياس حبيب عندما يضيق ذرعاً بالمرض والدواء فلا بد له أن يتنفس تنفساً طويلاً من الجراثيم المحيطة بالكائن الحي فلا تتركه حراً طليقاً دون الرجوع إلى السؤال ليفيد به السامع وكان شخص الطبيب المختص هو الفرصة السانحة للترويح عن النفس بعدما أذيقت من عناء البحث الطويل والاستعصاء لإخراج المرض من عرضته ألا وهو الكائن الحي الواقع تحت مخالبه في أي منحى من مناحي الحياة التي يريدها

الإنسان سالمة.

الياس حبيب في منوعاته يوضح بصورة أقوى عما يجب أن يعطيه الإنسان ويأخذه وإن الحظ الأوفر في العطاء هو ما اكتسبه من قدرات وعندها لا يبقى عليه إلا اللوم فيما امتنع ويمتنع من ردف العطاء طالما الأخذ مستمر ومشع يعوض عما هدره من منح وهبات هو بها جدير وهي به مكملة لشخصه وقدراته.

فمثلاً يريد أن يمنح المتسابق مكافأة نتيجة لفوزه في المسابقة ولكنه قبل أن يمنحه الجائزة نراه يدغدغه من جميع الجوانب حتى لم يعد فيه موضع للدغدغة وعندها نجده هو نفسه يسأم من طول هذا العذاب ليبرح إلى هناء مؤقت فيكتفي بالقدر المعالج وينتهي الأمر بالموافقة على منح الجائزة فيكون بذلك أهلاً لها وتكون هي واقية له ومجددة للأمل الذي يكاد يفلت من صاحبه. المذيع الياس حبيب صارم حيناً فيما يتخذ من قرار وسهل حيناً فيما يحجم عن قرار وهذه الصرامة أو السهولة ناتجة عما يسمح له الزمن أن يكون كذلك.

 

 

المذيع ابراهيم القاسم

 

أحببت أن أتحدث اليوم عن المذيع إبراهيم القاسم فماذا أقول؟!

إنه شاب جريء وجرأته تنبع من قوة ذاكرته ومن الاعتماد على نفسه ومن صبره في الشدائد ومن قدرته على محاربة أهوائه ومن قوة عقيدته وإيمانه بوطنه ورفعة شأنه وأخيراً من حسن إلقائه وجهورة صوته. إنه شاب جريء وليس لي أن أتكلم عن جرأته فقط فقد تتغير معالمه حين يبدو عليه التأثير وهذه المعالم تتجلى واضحة في سرعة قراءته للخبر ومتابعته للقراءة دون توقف واحمرار وجهه أو اصفراره التي لا تكون في العادات الطبيعية معه وليس هذا بغريب لأنه إنسان قبل أن يكون مذيعاً وإنسان نشيط قبل أن يأخذ دورة في الإذاعة.

 

لقد شاهدته في المرة الأولى من برنامجه " الأغنية المحلية " وهو واقف يؤدي دوره فقلت في نفسي: إن البرنامج الذي أعد ليكون فيه ذا دور رئيسي لم يكن من اختياره ولا من إرادته ولا من ميوله ولكن ما إن رأيته في المشهد الثاني من المرة الثانية حتى أعطى البرهان على أنه يستطيع أن يتبلور في الموقف ويقوم بحسن الأداء كما لو كان ممتزجاً معه كل الامتزاج ومتمكناً منه كل التمكن.

لقد أعجبني جديته في القول وجديته في الفهم حديثاً سمعه أو كلاماً نطقه وكما كانت الجدية طابعه الشخصي فإني على ملاحظة منه لما يردده حيناً حينما يسمع لمستمع سؤاله وفي ذلك ما يتطلب إلى البرودة الشخصية فلا يقدر وإلى الحرارة اللاهبة فيشتعل غضباً وإلى الحنان والعطف فتراه يأخذ بيد السامع ويتأثر كما لو كان هو نفسه صاحب المشكلة وصاحب الألم.

 

دعاني إلى الاهتمام ببعض النواحي التي وجدتها فيه أنه لا يملك إلا الحيلة في الدفاع عن القسوة التي استبدت بالمستمع وإن الجهد المتواصل في السؤال والطلب للجهة المسؤولة علها تجد لهذا المستدعي شكوى تجاب و طلب ليس له أذن في الرفض وعدم الملاحقة. دعاني إلى الاهتمام أني أسمع المشكلة وأرى الصلاحيات محددة فكيف لا يكون باعثاً إلى التوقف والتردد في الإيجاب مع العلم أن نفس المشكلة قد يثيرها آخرون ويجدون حلها بعد ذلك مطولاً أو عسيراً أو صعبة التحقيق والمنال.

 

إن احمرار وجهه في التأثر ليس له إلا أن يتضافر مع اصفراره في الغضب أو الألم لتبدو الصورة معدلة فلا يفقد بهجته في القراءة ولا ينطلق بها آخذاً إلى نهايتها بسرعة البرق ومتابعاً النظرة في الكلام متابعة تامة بحيث أنه لا يرى أمامه إذا كان متأثراً تأثير الغضب ولا يلتزم التوقف كثيراً إذا كان متأثراً تأثير الفرح مما يدل أن غضبه يمتد طويلاً وبهجته كذلك تمتد أيضاً طويلة ابتداءً من قبل القراءة للنشرة وإلى ما بعدها ولعله في البهجة أقل استغراباً من الكآبة والسلام.

 

أضيفت في 30/04/2009/ خاص القصة السورية / المصدر: الأستاذ نبيه الحسامي

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية