أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: بسام الطعان

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

من مواليد القامشلي سوريا

 

صدر له:

1ـ ورود سوداء. قصص قصيرة

2ـ غرفة معبأة بالنار. قصص قصيرة

3ـ غزالة الغابة. قصص قصيرة

4ـ نهر الدم. قصص قصيرة

ينشر في معظم الصحف والدوريات المحلية والعربية

فاز بعدة جوائز أدبية

 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

قراطيس البكاء

أقرب إلى اللبلاب

غزالة الغابة

صباحنا أسود 

 

صباحنا أسود

 

صباحاً, ارتفعت صيحات مفاجئة في الشـــارع الذي لم يرتد كامل يقظته بعد, فانفتحت كل الأبواب والشبابيك, ثم انتشر خبر هـز البلدة كلها وحولها إلى خلية نحل.

طار النوم من عينيّ, فخرجت مســـــــرعاً وأنا أرتدي منامتي, ثم لحق بي أخي, وأبي و... و... رأيت حــــركات غير طبيعية, ورأيت الرجال والنساء والأطفال يركضـــــــــون باتجاه الغرب وقد تشعبت الدهشة في ذواتهم.

"ماذا حصل؟"

لم يكلف أحد نفســـــــه بالرد على سؤالي, فركضت خلفهم إلى أن رأيت ما رأيت.

وأنت يا عريس, يا صـــــــــديقي الوفي, كنت مرميا بين الأشجار المزروعة في مدخل البلدة الغربي, ترتدي بذلتك السوداء, وقميصك الأبيض, وربطة عنقك الذهبية, وكانت سـكين لئيمة مغروزة بغرور في أقصى صدرك, فتبدو وكأنها إســـفين أســـــود مغروز في كومة من الثلج, أبعدت من في طريقي واقتربت منك, فرأيت خرائــط الدم مرســــومة على رقبتك وصدرك  وتســـــــريحة شـــعرك, ورائحة عطــرك التي تملأ المكان, وكانــــــــت البراءة ومعها كل ابتسامات الأمـــــــــــس, ليلة عرســــــــك, واضــــــــحة على شفتيك وعينيك المفتوحتين.

 

بحثت عن عروسك بين الوجوه الكثيرة فلم أجدها.. كثـيرون كانوا يحسـدونك على حبها لك, وعلى جمالها الخارق ونقاء روحها. ســــــــألت عنها وأنا أتأبط الهذيان, فلم يرد عليّ أحد.

 

"هل هربت أم خطفت في عتمة الليل؟"

آه يا صديقي.. قبل ساعات كنا زوجتي وأنا في حفل عرســـــــك, وبعد أن رقصنا وغنينا وضـــــحكنا وترنمنا مع المواويل في النادي المكتظ بكل أنواع الفرح,ودعناك وودعنا عروسـك التي كانت تتأبط ذراعك وترش من حولها البســـــــــــمات, وحين سرت معها باتجاه السيارة لتجمعكما ليلة من أجمل الليالي, لوّحــــت لنا, وطلبت منا أن نزورك, فوعدناك مع تلويحة أن نكون عنك في المســـــاء.

" أين العروس؟" صاح أحدهم.

 

"الكل بحث عنها في البيوت والبراري وعلى ضـفتي النهر, ولكن لا أثر لها وكأنها تحولت إلى نقطة ماء في بحر متلاطم الأمواج. صاح آخر وهو يبكي.

إيه.. إيه يا عريس, يا يتيم الأبوين, هل تتذكر أيام الشــــقاء؟ وهل تتذكر كيف جمعت من تعبك وســــهرك في الليالي, وأيضا من تعب أختك, مهر العروس؟ حيث كنتما تشـــــتغلان في الليل والنهار دون كلل أو ملل, تجمعان القرش فوق القرش, وتحرمان نفســــــيكما من أشــــــــــياء كثيرة كنتما بأمس الحاجة إليها, والآن ضاع كل شيء, وتركت أختك الوحيدة, لمن تركتها يا مســــــــــكين؟ ها هي تفترش التراب, تلعقه, تنثره على رأســـــــــــــها, تنتف شعرها نتفاً عجيباً, تذرف الدموع المدرارة, تطبع على وجــــهك البارد قبلاتها الأخيرة وتتســــــاءل بكل عذابات الأرض:

" من هم القتلة, وبأي ذنب قتلوه؟ فهو كان مثل حمامة الســـلام"

لا تســــــــمع إجابة من أحد, فتســـــقط مغشية عليها, وحين تفتح عينيها مرة أخرى, تبقى صامتة للحـــظات, تنظر من حولها وكأنها تبحث عنك بين الوجــــــــوه, ثم تنتحب من جديد وقد جف فمها من العطــــــش الطويل:

" والله ليـــس لي غيره, لا أخاً ولا أختاً, فلماذا قتلوه؟.. يا عالم يا ناس, لأي سبب قتلوه, لماذا تركوني وحيدة؟ لماذا لم يقتلوني قبله؟"

تتوقف عن النحيب وكأنها تذكرت شيئا مهماً, وبعد لحـــظات تهز رأسها وتقول مع الشهقات:

" حين عدنا إلى البيت, باركت زواجهما, قبلتهما ودخلـــــــت إلى غرفتي, تمددت, وقبل أن يأخذني النوم, ســــــــمعت صوت ارتطام شــــــيء, لكني لم أخرج من غرفتي, ليتني خرجـــت, ليتني لم أنم, نمت ولم اشعر بشيء حتى ســــمعت دقات عنيفة على الباب, وحين فتحت الباب لم اصدق ما سمعت, هرولت إلى غرفة العروســــــين, فكانت مرتبة كما لو أن أحداً لم يدخلها..."

لم تستطع أن تكمل , وسقطت على الأرض مرة أخرى.

كغصن جاف تهزه الريح, كنت أسير خلف نعشك في صـباح شبه ميت, اقطع دروب التيه وخطاي تتدثر بالفوضى والهذيان, ومع كل شهقة تخرج من حنجرتي , كنت أبكي بكل لوعتي وضـعفي, وأزفك إلى عرسك الجديد بمرارة وحزن كبير بحجم الكرة الأرضية.

كنت تســـتريح على الأكتاف , وأنا أنظر إليك ولا أمّل من النظر, وفجأة رفعت رأسك, أرسلت نظراتك إلى الوجوه المنكســرة, وحين وقعت نظراتك عليّ, قلت بلهفة وكأنك قادم بعد غياب طويل:

" أين أختي وعروسي؟"

مسحت دموعي وقلت بصوت سمعه الجميع:

" ها هي أختك خلفي, إلى جانب زوجتي, وهي محاصرة بالحزن والقهر والعذاب, ها هي حافية القدمين, مبعثرة الشـــــــــعر, ممزقة الثياب, وها هي الورود السوداء تنبت تحت قدميــــــها, ورود مليئة بالأشواك, كل من يمر من فوقها أو من جانبهــا, يتألم ويحزن ويمتد حزنه إلى القمر, أما عروســـك يا صاحبي فهي غائبة في المجهول, وربما هي الآن تسأل عنك وتقول أريد عريسي".

عندئذ بكيت بألم فقلت لك:

" لا تبكي أرجوك"

سقطت عليّ النظرات المســــتغربة, فلم أبال بها, تابعــت الحديث والرد على أسئلتك, فراحت الرؤوس تهتز بأسف:

" اتركوه يفعل ما يريد"

" كان من أعز أصدقائه"

" لم أر مثل وفائهما"

" سيجن المسكين"

ليتني أجن وأنسى كل هذه الآلام. اســتعدوا لمواراتك الثرى, فقلت وأنت تحترق بنار لا تعرف الانطفاء:

" لا تردموا الحفرة, اتركوها مفتوحة أرجــــــــوكم, فربما جاءت عروسي, وإذا جاءت ورايتها, عندئذ اردموها بالإسمنت إن أردتم"

لكنهم لم ينتبهوا إليك, انهالــــت الرفوش على التراب, فهتفت وأنا أحس بان كل سكاكين البلدة مغروزة في صدري:

" لن يكون إلا ما تريد يا صديقي"

اقتربت منهم, أبعدتهم بكل قوتي وصرخت بأعلى صوتي:

" ألا تسمعون؟ لا تردموا الحفرة, اتركوها مفتوحة كما يقول لكم"

" بماذا يبرطم هذا؟" صاح أحدهم بغضب تولد فجأة.

أبعدوني عنهم وعادوا إلى عملهم, حاولت أختك أن ترتمي فوقك, لكن رجلاً ظالماً وبلا قلب, أمسك بيدها وأخذها رغما عنها .

غادر الجميع المقبرة وتركوني وحيداً مع الفجيعة والغياب, وحين لم يبق غير الصمت , سألتك بصوت ليس فيه إلا الوهن:

" قل لي يا صديقي, من هم القتلة؟"

" هم الذين يعشقون الموت بلا سبب"

بقينا ننظر إلى بعضنا البعض, أنت تنظر وتهز رأســـــــــك حينا, وحيناً تغمض عينيك, وأنا أنــــظر بحنان الأب والأم والأخ والأخت وأتحسر .

" والله العظيم ســـــــــــأزورك في كل الأوقات. قلت حين فاجأني صوتك:

"لا تتركني وحيداً, وكلما اشتقت إليّ تعال إلى هنا"

وحين بكيت وقبلتك, ربتّ على كتفي وقلت:

" يكفي البكاء.. اذهب الآن وابحـث عن عروسي, وإذا وجدتها قل لها أنني أريدها لأمر هام"

ولم تخبرني عن هذا الأمر الهام على الرغم من إلحاحي الشـــديد, فنهضت بقلب يقطر دماً, رجعت أدراجـــــــي إلى البلدة , ولم تنقطع زياراتي إليك, كنت أجلس إلى جانبك, أسـليك وتسليني في النهار أو في عتمة الليل, وفي كل مرة تســـــــــــألني عن أختك فأجيب, وعن عروسك فتموت الكلمات في حنجرتي.

 

 

 

غزالة الغابة

 

في المدينة التي تسبح شمســـها في الغبار, ومطرها آثر الانتحار. أواه.. من هــذه المدينة, كلــها محن.. وتتبعها محن. أقصــد المدينة المحاصرة بالتراب التي أعيش فيها, ثمة غابة لم اعد اذكــر في أية جهة تقع, فقد غادرت المدينة منذ مدة طويلة, على الأرجــح أنا فيها منذ مدة طويلة, في هذه الغابة التقيت صدفة بغزالة حبلى باشتعالات المحبة, غزالة مثل قطر الندى, تغفو تحت أهداب الطفولة, تهتز في وجهها المـروج الندية, وجنتاها زهـر البرتقال, خصــرها كالحور, نهودها أسوار عالية جدا, وشفاهها نبع ماء بارد.

ـ هل مازلت تحبني؟

ألقت كلامها وابتعــدت بخفــة ورشــاقة, فتابعت خطــواتها حتى اختفت, في تلك اللحظة خفــق قلبي بإيقاع حنين لم اعــرف اللحظة حجمه, بينما أحاسيس مصابة بالخدر اللولبي تتلاطم في داخلي.

نهضت من مكاني وأنا أريد اللحاق بها, لكنني اصطدمت بحــافة شجرة فكاد الإنســان بداخلي يحتضــــر, خيمــت عليّ وحدة معتقة بتأملات تلتف على انكســـاراتها, وانفراد ليس ما ألهــو به غير أن اســـتعيد ذاكرتي وأصــــدقائي, استعيد أحلاما أبحر فيها مع نسـاء عاريات, مصاغات من الزبدة والعســل, نساء ضفائرهن طويلة لا حد له, أين ذهبن يا ترى؟

وقفت الغزالة أمامي وكأنها تسللت من حدود الســماء واستوطنت الأرض في غفلة مني, وبدا صوتها يخترقني من جديد:

ـ هل مازلت تحبني؟

كانت تتقمص الغــار, ســـكنتني رعشة وبدأت أشــعل في غابات الكلام أشجارا, أما هي فبدأت تبوح بطيور بيضاء وتسد أفق الجسد.

اختفت قبل أن المسها, فتفجر نبع الحسرة كاسحا كل كياني, بدت لي الغابة موحشة, حيث لا أنيس فيها ولا وليف, وبدا نبضي يتوزع في المدى ولا ادري كيف التفــت من حولي ورحــت اثبت عينيّ في الفضاء, فجأة صـــعقني منظــر لم أر مثله في حياتي:"يا الهــي إنها طيور كثــيرة وملونة تلتف على الهــواء, تمارس هــواية الصــعود والهبوط, ثم تشكل بأجســادها الرائعة اســم الغزالة في الفضــاء, ثم اسمي, ثم اسمها واســمي معا, كانت تقوم بحــركات رائعة, من أين أتت كل هذه الطيور الجميلة؟

هل أنا في حلم يا ترى؟ أم نائم على حافة نهـــر تمخر فيه سفن على شكل نسوة جميلات.

أصعد إلى قمة الريح, ثم اهبط.. اهبط إلى أســفل الضجر, انظر إلى الأرض التي تهدي أشـواقها للغيوم, وأواصــل ثرثرة المواويل, أرى سيارات وكائنات تتدفق عن يميني ويساري, انظر إلى وامتص دخان سيجارتي بنهم, أرسل نفسا في المدة واسـتجمع العشق في باقة وأرسلها قبلة حارة للتي أشعلت في أعماقي كل المرايا.

"ماذا حصل لها؟"

 حملتها الريح ونثرتها مثل البذور"

"إنها ليست إلا حلما جميلا تتوالى صوره"

بعد حين رأيتها في ربوة تمنــح احدهم هديل جســدها, وبعد حين آخر رأيتها جالسة تحت شجرة جوز تفرد ضفائرها وتهمــس أغنية حزينة, اقتربـت منــها, فرأيــت قدميها من عشــب, وثوبها ضـباب مكثف, لحظتئذ افعمتني الدهشــة, تجمد قلبي وهزته ريح البكاء.

أنظر ما يجاوز الغابــة, حيث ترتفــع من البعيد جبال زرقاء, اذهب بعيدا بعيدا, لكن توقظني من شرودي امرأة قبيحة تمر من أمامي.

أشرت لصــديقي الذي رأيته جالســــــا إلى جانبي فجــأة, والذي لم اعرف من أين انبثق:

ـ ما أقبح تلك المرأة.

ـ لكن التـــي مــرت قبل قلـيل كانــت أقبح.. لم تنتبه إليها لأنك كنت شبه نائم وتعزف على وتر حزين.

رجل غامق يمتطي دراجة نارية, شـــكله أقــــرب إلى القرد يقـطع حلمي, تناولت سيجارة من علبة صــديقي رغم أن علبة تبغي كانت مليئة.

" أين غزالة الغابة؟"

 ذهبت إلى البعيد, ربما تعود, وربما لا تعود.. ستعود.. لن تعود.. هل اختفت؟ أم ضاعت؟ أم ذابت؟"

على حين غرة وأنا أوزع بوحشــة ابتهـــالاتي على مـــدار الوقت, وابحث عن الغزالة الجمــيلة في دهاليز الكلام, لطـــخ رؤيتي رجل ملامحه جامــدة:"آه يا ربي هل هذا وقته الآن؟ يبدو أنني أســير في طريق وعرة ولا اعرف أن اكتب الحدث بواقعيته, في الواقع وقف أمامي رجل يرتدي ألبسة تقليدية وقال:

ـ ليس لي مال ولا بنون.

عندما لم أرد عليه نظر إلي بحقد كما لو كان يشـــتمني ثم مضى بعد أن قطع أفكاري.

أنظــــــر يميــنا ويســـارا, مرآة كبيرة تنبثق أمامـــي ويذهب الناس والسيارات فيها عميقا عميقا إلى جهات غير محددة, تأملتها مليا فإذا بها تستبد بالمكان وتسطو عليه.

داخل أقبية اللذة المستطابة, أوقدت شـــمعة الحلم الوليد بينما الغزالة تركن في المرآة وتناديني باسم جميل لعلني لم اسمه به أبدا ولم افـهم معناه, ولم اعرف لماذا كانت تناديني أنا بالذات.

اتجهت صوب الســماء وأنا أتيه في لوحــة الغزالـــة التي ابتدعـــها خيالي المجنح, رايتها جالسة فوق غيمة صغيرة وترســل إلي نظرة عبر عينيها السوداوين اللتين خيل إلي أنهــما تشعان حرارة, أنشدت ســبيلا من فرح وأردت الجلوس معــها, لكن صـــديقي الجالس إلى جانبي أعادني إلى مكاني:

ـ هات البشارة.

دسست الرســـالة في جيبي وبدأت أغـنــي أغنية جميلة, ثم رحـــت أحلق في أجــــواء المجلة التي تضــيء فيها قصــتي, ومضى زمن طويل, نكثت بوعدي دون أن أدعو صديقي إلى وليمة دسمة.

بعد زمن آخر, التقيت صــديقي وقبل أن أعانقـــه ذكرني بالوليــمة, فوعدته خيرا.

حين اندســسنا في حانوت صغير ســــموه (مطعـــما) كانــت ثمــة طاولات متسخة تركن إلى الحائط مع أوراق صـــفراء في الأقداح, وحين مدّ لنا النادل الصغير زجاجة الماء, نهضـــت مذعورا, كانت غزالة الغابة جالسة في الزجاجة وتنظر إلي بنهدين مقطوعين ينزان بأغنية جريحة. 

 

 

أقرب إلى اللبلاب

 

 

بالأمس, لا اعرف إن كان بعيداً أم قريباً, فهذا لا يهم, المــهم أن ســــنوات العمر تقصفت تحت ثقل الظلم, وأن نهر الحقد فرّق بين قلبين أخضرين.

قلبان يحملان الحب وشاحاً, ويرتديان اللوعة شالاً, كانا يلتقيان بين المروج, أو بجانب النهر المسافر إلى البعيد, وفي بعض الأحيان عندما تكون العيون الحاســـــدة التي تسرق البسمة من الشفاه متفتحة, كانا يحتميان في الوادي, خلف صخرة كبيرة تحمل أول حرف من اســـــميهما, ويتمتعان بالدفء المتولد من عشرة أصابع تعصر عشرة أصابع, بينما أربعة عيون مبدعة, لا تتعب من الغزل, تطيّر ملايين العصافير المشــــتاقة, وتغزل من خيوط شمس الأصيل كباكيب ملونة بألوان قزحية, ثم تحولها إلى ثوبين مطرزين بالمرح.

لا هو ولا هــي, كانا يظنان أن السدود العالية ســـترتفع من حــــولهما, وتتركهما في بحيرة سوداء.

رأتهما بعض العيون الشـــرسة وهما في وضـــــــــع يتمناه كل ولهان, وآن انتشر الكلام, تقدم من أوسع الأبواب بمشروع ســـــــلام, بنده الأول والاهم طلب يدها, وبنده الأخير نســــــــيان الماضي بكل آلامه وعودة الصفاء إلى القلوب المتخاصمة منذ سـنوات طويلة, لكن مشروعه انهار قبل أن يقدم كل بنوده, حتى أن أكثرهم من الطرفين, سخروا منه بشـــــدة وهددوه بالقتل إن رآها أو حلم بها مرة أخرى.

يا لهم من حمقى, انهم يصادرون الأحـــلام وكأنهم أصــــــحابها يوزعونها على من يريدون.

تحدث إليهم بلغة الطيبة فلم يفهـموها, تحدث بلغة التهديد ففهـــموها وبادلوه بمثلها, لكنه غيّر رأيه وانتظر معجزة تطل برأسـها وتحول الجمر إلى مرج اخضر يتسع للكل.

تأخرت المعجزة كثيراً, فأرســـل حمامة وحملها غصن زيتون, غير انهم ومثل كائنات ممهورة بالهمجية, أعادوها إليه بوجه كئيب وغصن مكسور.

خــرج من غرفة العناية المشـــــددة, فأبحــر نحــــوهم بقارب من ســـلام وبمجدافين من أمل, وفي منتصف الطريق المفروشة بالبارود, كســــــــروا القارب على صخور العناد وزرعوا المسافات بأسلاك شائكة.

حاصروها بالخــراب وأهانوها, ومن ثم حبســـــــوها بين أربعة جدران لا تعرف ما هي الشمس, أما هو فصادروا حريته, طوقــــــوه بمئات الأشباح, والقوا به في أحضان الاضطراب الأرعن.

ماذا عليه أن يفعل كي يراها, إنه يحن إلى النور الأخضـــــــر الطالع من عينيها, إنها مثل اللبلاب تعرش في وجدانه فكيف يبتعد عنــــها, أو يتركها, لمن يتركها, ولماذا يتركها؟

الأبواب كلها مغلقة بمزاليج من نار, وها ســـبعة أشهر وعشرة أيام قد مرت, أرسل لها مع عصفور رسالة مكتوبة بحبر اللوعة, بدايتها تصــــميم على الصمود, ونهايتها رغبة قوية بالهرب ســــــوياً إلى عالم ليس فيه غير الحب والرحمة.

ـ كيف تطلب من حمامة ليس لها أجنحة أن تطير؟

ردها أشعل الحرائق في داخله, فتوسل إلى أمه أن تتوســـط وتمده بشي من الراحة المفقودة, لكن صواعق اللامبالاة والتوبيخ أصابته  وشــــّوشته لأيام طويلة.

آه من الأيام,حـــولته إلى مغلوب ومنكســــر, ولكي لا يجـــري نهــــر الدم المسفوح بلا ســـــبب كما قال أحدهم, خلع ثوب الأمل وارتدى ثوب الحداد, وهاجر إلى الشمال البعيد.

قال لها مرة عند باب الليل الذي غار من شعرها الطويل:

ـ سأفعل المستحيل لكي يكون هذا الشعر لي.

طأطأت برأسها وانكسرت تعابيرها:

ـ أي ذنب ارتكبناه حتى نعاقب بهذه الطريقة المؤلمة؟

ـ لا تخافي يا (أفين) مهما حاولوا فلن يفرقوا بيننا.

تقلبت شهور الغربة وارتحلـــت, أخـــــــذت منه الكثير , وبالمــقابل عبأت جســده الباحث عن الدفء والحنان بالوهم والأنين, وحولته إلى غريـــب لا ينتمي إلى الزمن الذي هو فيه.

ذات صباح دافئ, تزينه حبات مطـــر ناعمـــة, فتح نافذة غرفته في الطابق الثالث, وأمام النافذة تذكر مرابع طفولته, فأرسل نظراته في الاتجاه المؤدي إلى بلده, شاهد عصفورا يرفرف وحيدا ويذهب في الاتجاه نفسه, شـعر بأن العصفور حزين ووحيد مثله, ظل ينظر إليه وحبات بلورية تســـــــــقط من عينيه, وفجأة صاح بصوت أشبه إلى الهمس:

اذهب أيها العصـــفور الحزين, قل لأفين الطهارة  والصـــفاء, أفين الجمال وبيارات الحنان, أفين التفاح المغمس بالعسل, أفين اللوز وعطر الربيع, قل لها يا بتولة, اسمك سيظل مكتوبا على قرص الشمــس, ولك وحدك الانتماء وهذا الحب الكلي.

اذهب أيها العصـــفور الحزين, قل لابناء عشــــيرتي الميامين, يا قلوباً بلا صفاء, يا أجساداً بلا أحاســــيس, يا رؤوساً فارغة وبلا أفكار, لماذا أطفأتم الشمس في عينيه؟ والى متى ســــــــتبقون في صدفة الحقد خالدين مخلدين؟

اذهب أيها العصفور الحزين, قل لجحافل الشــــر, كنتم ســــــــــعداء وانتم تحبســــــونها وتمنعون عنها الطعام, كنتم أغبياء وأنتم تعتقدون  أنه ذهـــب بلا قلب وبلا عودة, فأنتم لا تعرفون أنه ترك لها قلبه وأخـــــــذ قلبها, وأنها دائما معه, لا تفارقه, شــــعرها ينســــــــدل على كتفيه, يلعب به في الليالي الطويلة ويتسلى به, صدرها في النهار يمنحه الدفء, وفي الليل يتـحول إلى سرير وثير, ينام فيه ولا يصحو إلا لينام من جــــديد, شفاهها نبع ماء بارد, يشرب منه ولا يرتوي أبدا, أصابعها لا تفارق أصـــابعه, يداعبها باستمرار ويحكي حكايات حبه التي لا تنتهي.

اذهب أيها العصفور الحزين, قل للجميع, الصغار قبل الكبار, اخــــرجوا من دوائركم السوداء, جربوا الحب مرة واحدة, عندها ســــــتعرفون كم من قلوب عذبتم, كم من أحلام قتلتم, وكم من حقد زرعتم.

اذهب أيها العصــــفور الحزين, قل لكل المحبين, لا تتركوا قلوبكم تعيـــش مع قلوب لا تعرفها, وإذا فعلتم غير ذلك, ستندمون على العمر الضائع حتى الصـــــمت الأخير, وستقول لكم قلوبكم لماذا امتهنتم الخيانة وحولتمونا إلى مظلومين في الحياة, ولا تنســـــــى أيها العصـــــفور الحزين, أن تقول لكل العاشقين, لكم المجد وإياكم والاستسلام.

اختفى سفيره فعاد مع حزنه وتناول طعامه بصمت.

بعد ثلاثة أيام, استيقظ في ليلة باردة من نومه مذعورا, فقد رآها أثناء نومه تغرق في بحر أسود متلاطم الأمواج وتناديه باسمه مرات ومرات, كم تألم وكم شعر بالحزن لأنه كان واقفا على الشاطئ ينظر ولا يتحرك حتى اختفت.

ترك الحلم انفصالاً عسيراً يدب في كيانه, شرب حسوة ماء وحاول النوم من جديد, ولكن كيف يأتيه النوم والوسن طار دون أجنحة, وتركه مع الهموم والأوهام, ظل السهد يعاشـــــــره بوقاحة, وهرباً من جنون يراوده , ارتدى ثيابه وخرج دون أن تكون له وجهة محددة, على الدرج ســمع صوتاً من داخله يقول:" الجو بارد جداً فأين ستذهب الآن؟" لم يســـــتمع إليه وانما راح يسير في الشارع الخالي من المارة وهو يحرك يديه باتجاهــات مختلفة ويتحدث بصوت مسموع, أكل البرد دفء جسده كله فعاد مثل عصـــــــفور منتوف الريش, أشعل المدفأة, الصق جسده بها إلى  أن عادت إليه الحرارة, وبتفكير لم يدم اكثر من دقائق, وفرارا من الضياع, حزم حقائبه وكان قلــبه يفيض شوقاً للصباح.

حين وصل لم يسأل عن غيرها, فقالوا وهم يبتسمون:

ـ إنها ترقد في سلام.

تخشب جسده من هول المفاجـــأة, زفت خلاياه إلى الهذيان, وســــرعان ما وقع مغشيا عليه, وحين نهض, دار من حــوله كأنه يبحث عنها بينهم, تطلع إلى بعض الوجوه, ثم استدار وسار إلى حيث ترقد بســـــــــــلام, صعد التل المفروش بالأشواك وبعض الأزهار اليابســــــة, اقترب منها بخطـــــــوات مرتعشة, خائفة, باكية, مجنونة, وقف إلى جوارها:

ـ صباح الخير يا افين الطــهارة, ها قد جئت إليك رغما عنهـــم ولن يفرقوا بيننــ ..

لم يستطع أن يكمل, انهار فيه شيء ما, رأى الدنيا كلها بيضاء صـــــافية, ولم ير بعدها أي شيء, وكان الآخرون بعضهم يبكي وبعضهم يبتسم.

 

 

قراطيس البكاء

 

من زمااااااااان.. كانت ليلة هادئة, ومرج اكثر هدوءا, وكان قمر يرتاح في عليائه ويريح, يوقد الأحلام , ويبارك حكايتهما التي أصبحــــت مهيأة لابتداء البهجة, وكان قلبان صغيران يشدوان سوية ويحلقان في فضاءات صافية, وفجأة تحول العشب إلى سرير أشعل المســــــــاء بقناديل القــبل , واستعدت الشفاه لأن تدخل في مدائن التوحد, لكن الفاكهة نــــــبهته عندما

سمعت خشخشة ما .                                                                    

قال وهو يرسل عينين منتفضتين إلى أعواد القصب المنتشرة فـــي النهر:

- أنا أيضاً سمعت ولكن لا تخافي.

نهضا بخفة طفولية واختبأا بين الأشجار , وفشل الذئب في العثور عليهما.

بعيدا عن الذئب , طاردها وطاردته وهما يضحكان إلى أن انهمر منهما التعب , جلسا تحت شجرة , بغتة سحبها إلى حضـــنه, غزل الكلام, أخرج الرغبة المخبأة تحت الأوردة وبين الرمـــوش, حاول أن يقدم لها هدية لذيذة , لكنها رفضتها بتوسل وأبعدت رأسها, وبعد حين قبلت منه بعض اللمسات الريّانة وبعض الأشعار ولحظات من العمر اللذيذ.

ليت هذا الزمن يرجع إلى الوراء , وليت العمر يبتعد عن عتبات الألم.

ومن زمان أيضاً, دلته إلى كوخ صغير في أطراف الغابـــــــة , دروبه فرح , جدرانه سكون, سقفه دفء , شباكه الوحـــــــيد دائم الابتسام, وفيه سرير من عشب , لا يتسع إلا للهمـــــــسات وتبادل الشفتين.

      

دخل إليه أولا, فبدا مثل طائر فاجأته فوهة البندقية فأطلق شــــهقة الدهشة , لكنه لم يدر أن من يدخله لن تتحقق أمنـــياته مهــــما كانت صغيرة.

لا هو ولا هـــــي كانا يتوقعان أن يجدا داخـــــل الكوخ ذلك الذئب الأسود الذي يتمدد بأريحية على السرير.

لو كانت الحسرة رجلاً , ترى ماذا كان سيفعل به ؟

وقفا ينظران إليه بجمود مطلق وكأنهما تمثالان من الطــــين , أما الذئب فكان شبه عار وغـير مبال بالمرئيات من حوله , بعد حـــــين دبت فيهما الحياة , وغصت حنجرتاهما بالبكاء , حاولا إســــــــكات صرخات الوجع المقهورة , لكن آلاف الغربان ظهرت فجأة ومـلأت الأفق , فتراجعا مقهورين لأنهما لا يتقنان إلا الحب وهديل الحمام.

لم يلتقيا بعد ذلك لأن الفاكهة بيعت بسعر غال.

والآن لم يبق لديه إلا الأوقات المهدورة والتسكع واســــــتعراض الوجوه والبحث عن حفنة أمل يخلصه من قسوة الحياة.

(بعيدا عن القصة ): منذ سنوات طويلة قالت جدة جليلة مولــــــعة بالجمال لحفيدها الشاب :

-كلما كانت الفتاة جميلة , كثرت من حولها الذئاب.

تساءل الشاب بدهشة :

- حتى في ذلك الزمن الغابر كان الظلم موجودا ؟!

( قصة ثانية) : كان في قريتنا عاشقان شهيران , شـــاب وســـيم الطلعة , وفتاة يصل جـــمالها إلى حدود القمر .. ياه  كم من ذئاب تصارعت من أجلها , وفي النهاية افترسها ذئب يملك الكثـــــير , ومن يومها صارت أيام الشاب قراطيس للبكاء , وظل لســــنوات يقرض الهذيان في الحواري والأزقة .

( قصة ثالثة): تزوجت فتاة جمـــيلة وفقيرة رغما عنها من شاب قبيح وغني , وحين رزقت بطـفلها , بهرت البلدة كلها من جماله!

(قصة رابعة) ....

 

أضيفت في 09/06/2006/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية