أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 02/09/2022

دراسات أدبية - اللغة العربية

الثقافة العربية - العروبة

 

 

لقراءة الدراسات

 

 

الدراسات

            الثقافة العربية بين الأصالة والمعاصرة

 تعريف الثقافة 

وجهة نظر حول معنى العروبة

الثقافة هي روح الأمة وعنوان هويتها 

منطلق العروبة هو أساس النهضة

سقوط بدائل العروبة

الفصل1   الفصل2   الفصل3    الفصل4   الفصل5   الفصل6 

التعدّدية في مُجتمع إسلامي

 

 تعريف الثقافة

 

الثقافة هي مجموعة من الاشكال والمظاهر لمجتمع معين. تشمل:

العادات، والممارسات، وقواعد ومعايير كيفية العيش والوجود، من ملابس، دين، طقوس وقواعد السلوك والمعتقدات.

 

ومن وجهة نظر أخرى، يمكن القول ان الثقافة هي كل المعلومات والمهارات التي يملكها البشر.

 

مفهوم الثقافة أمر أساسي في دراسة المجتمع، لا سيما لعلم الانسان وعلم الاجتماع.

 

لعل شيوع المصطلح يجعل من الصعب تعريفه والثقافة من المصطلحات الشائعة فكل من يطلقها بقصد بها معنى ومصطلح الثقافة من أكثر المصطلحات استخداما في الحياة العربية المعاصرة، وبالتالي فهو من أكثر المصطلحات صعوبة على التعريف ففي حين يشير المصدر اللغوي والمفهوم المتبادر للذهن والمنتشر بين الناس إلى حالة الفرد العلمية الرفيعة المستوى، فإن استخدام هذا المصطلح كمقابل لمصطلح (Culture) في اللغات الأوروبية تجعله يقابل حالة اجتماعية شعبية أكثر منها حالة فردية، فوفق المعنى الغربي للثقافة:

تكون الثقافة مجموعة العادات والقيم والتقاليد التي تعيش وفقها جماعة أو مجتمع بشري، بغض النظر عن مدى تطور العلوم لديه أو مستوى حضارته وعمرانه.

 

وبذلك فان الاشكال يطرح نفسه، ذلك ان تعريف الثقافة اختلط عند العرب باعتبار ان هناك فرق بين المثقف والمتحضر.

 

فالمثقف هوالذي يتعدى إحساسه الذاتي للإحساس بالآخر والمتحضر هوالذي يسلك سلوكا يلائم البيئة الذي يعيش فيها ولكي يكون الإنسان متحضرا لابد أن يكون مثقفا.

 

أصل كلمة الثقافة:

الثقافة في اللغة العربية أساسا هي الحذق والتمكن، والمثاقفة أي الملاعبة بالسيف، وثقف الرمح أي قومّه وسواه، ويستعار بها للبشر فيكون الشخص مهذباً ومتعلماً ومتمكناَ من العلوم والفنون والآداب، فالثقافة هي إدراك الفرد والمجتمع للعلوم والمعرفة في شتى مجالات الحياة؛ فكلما زاد نشاط الفرد ومطالعته واكتسابه الخبرة في الحياة زاد معدل الوعي الثقافي لديه، وأصبح عنصراً بناءً في المجتمع.

 

وكان أول من استعمل مصطلح ثقافة ليقابل به لفظة culture في العصر الحديث هو سلامة موسى 1 .

 

ويستخدم مصطلح الثقافة وفق المفهوم الغربي للإشارة إلى ثقافة المجتمعات الإنسانية، وهي طريقة حياة تميّز كل مجموعة بشرية عن مجموعة أخرى.

 

والثقافة يتم تعليمها ونقلها من جيل إلى آخر؛ ويقصد بذلك مجموعة من الأشياء المرتبطة بنخبة ذلك المجتمع أو المتأصلة بين أفراد ذلك المجتمع، ومن ذلك الموسيقى، الفنون الشعبية، التقاليد المحببة، بحيث تصبح قيما تتوارثها الأجيال ومثال ذلك الكرم عند العرب، الدقة عند الأوروبيين، أو رقصات أو مظاهر سلوكية أو مراسم تعبدية أو طرق في الزواج.

 

فيقصد بالثقافة الكيان المادي والروحي لمجتمع من المجتمعات ويدخل في ذلك التراث واللغة والدين وعادات المجتمع ونشاطه الحضري.

 

وتستخدم كلمة ثقافة في أوساط المجتمع، كأن تقول فلان مثقف سياسي (أي ملم بكافة حيثياتها)، بمعنى آخر ((أن تعرف شيء عن كل شيْ، وأن تعرف كل شيْ عن الشيْ)).

 

الثقافة وأبعادها والمجتمع:

كما هو عاليه هي مجموعة العادات والتقاليد التي يتقلد بها المجتمع وتلك الثقافة هي نتاج لكل الثقافات والموروثات التي بداخل كل مجتمع فرعي.

 

وكل مجتمع فرعي يتكون من عدة أحياء.

وكل حي يتكون من عدة شوارع.

وكل شارع يتكون من عدة منازل.

وكل مبنى يتكون من عدة شقق أو من الممكن أن نقول عدة أسر تسكنه.

وهذه الأسر مكونة من أفراد ولكل فرد اتجاهاته الخاصة التي يتوجه بها.

فنستطيع أن نقول أن كل هذه السلسلة تكون مفهوم أن المجتمع عبارة عن عدة مجتمعات فرعية تتشابك مع بعضها البعض لتكون المجتمع.

 

أي ان المجتمع يتكون من مجتمعات فرعية أو SubSocites

 

أبعاد مفهوم الثقافة في اللغة العربية:

1- إن مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية ينبع من الذات الإنسانية ولا يُغرس فيها من الخارج. ويعني ذلك أن الثقافة تتفق مع الفطرة، وأن ما يخالف الفطرة يجب تهذيبه، فالأمر ليس مرده أن يحمل الإنسان قيمًا-تنعت بالثقافة- بل مرده أن يتفق مضمون هذه القيم مع الفطرة البشرية.

 

2- إن مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية يعني البحث والتنقيب والظفر بمعاني الحق والخير والعدل، وكل القيم التي تُصلح الوجود الإنساني، ولا يدخل فيه تلك المعارف التي تفسد وجود الإنسان، وبالتالي ليست أي قيم وإنما القيم الفاضلة. أي أن من يحمل قيمًا لا تنتمي لجذور ثقافته الحقيقية فهذه ليست بثقافة وإنما استعمار وتماهٍ في قيم الآخر.

 

3- أنه يركز في المعرفة على ما يحتاج الإنسان إليه طبقًا لظروف بيئته ومجتمعه، وليس على مطلق أنواع المعارف والعلوم، ويبرز الاختلاف الواضح بين مفهوم الثقافة في اللغة العربية ومفهوم "Culture" في اللغة الإنجليزية، حيث يربط المفهوم العربي الإنسان بالنمط المجتمعي المعاش، وليس بأي مقياس آخر يقيس الثقافات قياسًا على ثقافة معينة مثل المفهوم الإنجليزي القائم على الغرس والنقل. وبذلك فإنه في حين أن الثقافة في الفكر العربي تتأسس على الذات والفطرة والقيم الإيجابية، فإنها في الوقت ذاته تحترم خصوصية ثقافات المجتمعات، وقد أثبت الإسلام ذلك حين فتح المسلمون بلادًا مختلفة فنشروا القيم الإسلامية المتسقة مع الفطرة واحترموا القيم الاجتماعية الإيجابية.

 

4- أنها عملية متجددة دائمًا لا تنتهي أبدًا، وبذلك تنفي تحصيل مجتمع ما العلوم التي تجعله على قمة السلم الثقافي؛ فكل المجتمعات إذا استوفت مجموعة من القيم الإيجابية التي تحترم الإنسان والمجتمع، فهي ذات ثقافة تستحق الحفاظ عليها أيَّا كانت درجة تطورها في السلم الاقتصادي فلا يجب النظر للمجتمعات الزراعية نظرة دونية، وأن تُحترم ثقافتها وعاداتها.

 

إن الثقافة يجب أن تنظر نظرة أفقية تركيبية وليست نظرة رأسية اختزالية؛ تقدم وفق المعيار الاقتصادي -وحده- مجتمع على آخر أو تجعل مجتمع ما نتيجة لتطوره المادي على رأس سلم الحضارة.

 

وقد أدت علمنة مفهوم الثقافة بنقل مضمون والمحتوى الغربي وفصله عن الجذر العربي والقرآني إلى تفريغ مفهوم الثقافة من الدين وفك الارتباط بينهما. وفي الاستخدام الحديث صار المثقف هو الشخص الذي يمتلك المعارف الحديثة ويطالع أدب وفكر وفلسفة الآخر، ولا يجذر فكره بالضرورة في عقيدته الإسلامية إن لم يكن العكس تمامًا.

 

ووضع المثقف كرمز "تنويري" بالفهم الغربي في مواجهة الفقيه، ففي حين ينظر للأخير بأنه يرتبط بالماضي والتراث والنص المقدس، ينظر للأول -المثقف- بأنه هو الذي ينظر للمستقبل ويتابع متغيرات الواقع ويحمل رسالة النهضة، وبذلك تم توظيف المفهوم كأداة لتكريس الفكر العلماني بمفاهيم تبدوا إيجابية، ونعت الفكر الديني -ضمنًا- بالعكس.

 

وهو ما نراه واضحًا في استخدام كلمة الثقافة الشائع في المجال الفكري والأدبي في بلادنا العربية والإسلامية؛ وهو ما يتوافق مع نظرة علم الاجتماع وعلم الاجتماع الديني وعلم الأنثروبولوجيا إلى الدين باعتباره صناعة إنسانية وليس وحيا منزلاً، وأنه مع التطور الإنساني والتنوير سيتم تجاوز الدين والخرافة!! أما في المنظور الإسلامي فمثقف الأمة هو المُلمُّ بأصولها وتراثها.

 

وعبر التاريخ حمل لواء الثقافة فقهاء الأمة وكان مثقفوها فقهاء.. وهو ما يستلزم تحرير المفهوم مما تم تلبيسه به من منظور يمكن فيه معاداة الدين أو على أقل تقدير النظر إليه بتوجس كي تعود الثقافة في الاستخدام قرينة التنوير الإسلامي الحقيقي، وليس تنوير الغرب المعادي للإله، والذي أعلن على لسان نيتشه موت الإله فأدى فيما بعد الحداثة إلى موت المطلق وتشيؤ الإنسان.

 

الثقافة الفرعية:

كل مجتمع ينقسم إلى عدة أجزاء تسمى بالمجتمعات الفرعية ولكل جزء من هذه الأجزاء ثقافة خاصة وقيم وعادات وتقاليد وموروثات واتجاهات خاصة بها فقط.

 

تسمى تلك الثقافة بالثقافة الفرعية أو SubCulture ومن الممكن ان نجد أن الثقافة الفرعية هي في ذات الوقت تنقسم إلى ثقافات فرعية أصغر منها حتى نصل إلى ثقافة الفرد ومن خلال ثقافة الفرد نجد أن الموروثات والقيم والعادات التي بداخل هذه الثقافة هي جزء من الثقافة العامة للمجتمع.

 

هوامش:

-بوابة علم الإنسان

-بوابة الثقافة

1: "كنت أول من أفشى لفظة الثقافة في الأدب العربي الحديث، ولم أكن أنا الذي سكّها بنفسه فإني انتحلتها من ابن خلدون، إذ وجدته يستعملها في معنى شبيه بلفظة (Culture) الشائعة في الأدب الأوروبي، الثقافة هي المعارف والعلوم والآداب والفنون يتعلمها الناس ويتثقفون بها، وقد تحتويها الكتب ومع ذلك هي خاصة بالذهن"

عن سلامة موسى: الثقافة والحضارة

أضيفت في 01/06/2009/  خاص القصة السورية

 

 

الثقافة العربية بين الأصالة والمعاصرة

 

بقلم الكاتب: د. فرحان السليم

 

إن أول تكليف نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أهم أسس التثقيف

((اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم))

كان هذا النص قاعدة الإصلاح الأولى التي صنع النبي صلى الله عليه وسلم بها نواة مجتمع حضاري حوَّل مجرى التاريخ في منطقة لا تمتلك أنموذجاً للحضارة.

 

وفي واقعنا المعاصر ثمة انفصام بين هويتنا وثقافتنا يحكم مسبقاً على مشاريعنا بالعقم، فالوطن العربي تمتلك شعوبه هوية تختلف عن هوية الشعوب الأخرى، ولا يمكن بحال أن تتفاعل مع ثقافتها، بل تنبهت مؤخراً إلى الغزو الثقافي الذي رافق الغزو الإعلامي وأصبح موضوع بحث ونقاش  يطرح هذا في أوساط المؤسسات الثقافية التي تقف حيرى أمام فشلها في الرقي بثقافة الشعوب وتنميتها.

 

إن الجدلية بين ثقافة المجتمع وقيمه لا يمكن أن تنفصم ، وكل تنمية للثقافة لا تنطلق من قيم المجتمع الذي تطرح فيه هي عقيمة ، ومن ثم فإن الشعب العربي لا يمكن أن يتفاعل مع ثقافات تتنافى مع قيمه وإن سميت ثقافة عربية.

 

ولا تعني أصالة الثقافة إهمال ثقافة الآخر وعدم الاطلاع عليها والإفادة منها ، كما لا تعني ثقافة دينية بالمعنى الكهنوتي، وأيضاً ليست نشر العلوم الشرعية التخصصية التي تدرس في المعاهد كما هي عليه ، بل تعني العودة إلى الأصالة منهجاً وقيماً ومصدراً في تنمية ثقافة المجتمع أيا كان اتجاهها أدباً أو فكراً أو فناً.

 

والثقافة العربية ليست ثقافة مستوردة، ولا مترجمة، ولا ملفقة، ولا منغلقة، بل هي ثقافة تعتمد على الإبداع الذي ينبع من التأمل والنظر في الكون، ولا حدود لهذا الإبداع فأفقه مفتوح.

 

تعد ثقافتنا العربية من أغنى الثقافات العالمية وأهمها، فبعد أن ترسخت جذورها قبل الإسلام لغة مشرقة وحكماً وخطباً وأمثالاً وشعراً تجلت فيه العبقرية العربية وكان صورة لحياة العرب ومرآة تفكيرهم ومشاعرهم ومسرح خيالهم، تنزل القرآن الكريم بالعربية فأغناها معاني سامية وبياناً رائعاً، وفتح لها سبل الانتشار في مشارق الأرض ومغاربها.

 

وبعد السلطان المكين، أقبل العرب على نقل علوم الأقدمين، ومنها انطلقوا في آفاق العالم مستكشفين مبدعين إلى جانب عطائهم المستمر في الفقه والأدب وفنون القول كافة.

 

وخلال هذه المسيرة الشاقة تعرضت الثقافة العربية لسهام "الآخرين"، الذين حاولوا الإساءة إلى اللغة العربية وإقصاءها عن التدريس ومجالات الحياة المختلفة، ثم حاولوا إدخال مفاهيم مزيفة في الثقافة العربية، ثم جاءت ثقافة العولمة لتزاحم الثقافة العربية في عقر دارها كما تزاحم ثقافات مختلف شعوب العالم لتجعله بلا حدود ولا ألوان، ساحة للسلع ومتجراً واسعاً يكدس منه الطامعون أرباحاً خيالية هي عرق الكادحين ودم المناضلين في أرجاء الأرض.

 

إن قدر لغتنا العربية أن تقاوم الإقصاء والتشويه، وقدر أمتنا أن تحافظ على هويتها وترد َالطامعين بها.

 

إن إرادة الحياة هي الأقوى والحقَّ هو الأبقى والمستقبل لمن صبر حتى نيل الظفر.

 

الصراع بين دعاة الأصالة والمعاصرة:

لقد شهدت الساحة العربية توترات شديدةً بين ثنائيات عديدة مترادفات لمعنى واحد: التقليد والتجديد، المحافظة والتحديث، الجمود والتحرر، الرجعية والتقدمية، الأنا والآخر، الداخل والخارج، المحلي والعالمي، القديم والجديد، التراث والحداثة، ومنها الأصالة والمعاصرة.

 

وجدت منذ عصر النهضة ـ وتوجد الآن ـ في المجتمع العربي أقلية تدعو تصريحاً أو تلويحاً إلى تقليد الغرب جملة وتفصيلا، بهدف الخروج من وضعنا البئيس.

 

إن بعضهم يفسر هذا الميل بالقانون الاجتماعي الذي ذكره ابن خلدون، القاضي بأن المغلوب مجبول على تقليد الغالب في كل شيء.

 

إن أمتنا العربية على الصعيد الثقافي لا تبدأ من العدم بل هي تستند إلى إرث ثقافي غني باذخ، وما يشغلها الآن هو: كيف توائم بين هذا التراث وبين متطلبات العصر الذي نعيش فيه.

 

هل تتمسك بالثقافة المتوارثة التي ألفتها أم تهجرها إلى ثقافة مستوردة ؟ خطران يتهددانها لأنها إن تمسكت بالقديم مكتفية به عاشت خارج الزمان، وإن تلبست الجديد بلا روية عاشت خارج المكان.

 

إن هذه المشكلة قد شغلت العديد من المفكرين والباحثين، ولكن من الجلي أن الثقافة ليست في أكثر مكوناتها صيغة جامدة لا تتغير، بل هي نتاج بشري ينمو ويزداد عمقاً واتساعاً بجهود البشر.

 

فالثقافة العربية في عصر المعري ببلاد الشام وعصر ابن رشد في الأندلس ليست الثقافة العربية في العصر الجاهلي أو صدر الإسلام أو العصر الأموي.

 

إننا نستطيع أن نقدر للتراث قيمته ودوره في تكويننا النفسي والاجتماعي ونأخذ منه ما تقتضيه حاجتنا اليوم، وأن نقبل على الثقافة المعاصرة فنقتبس من ثقافات الآخرين ما تحتاج إليه ثقافتنا لتحقق معاصرتها ومواكبة الثقافات الأخرى، ولاسيما في ميدان العلوم والتقانة والتقنية والعلوم المستحدثة في السنوات الخمسين الأخيرة، فالمواءمة بين الموروث والجديد يحفظ للأمة هويتها ويجدد طاقتها على النماء والتطور.

 

أجل إن الثقافة العربية هي إحدى الثقافات الكبرى في تاريخ البشرية، وهي مؤهلة اليوم لاستئناف دورها حاضنة لقيم الخير والعدالة والمساواة والمحبة والسلام ونابذة كل ما يشوه الإنسان من صور الشر والجور والعنصرية والظلم، وذلك من خلال صيغة مركبة متحركة متطورة لا تتنكر للأمس الغابر ولا تغمض العين عن متطلبات اليوم والغد.

 

هكذا يوجد على الساحة العربية تياران يتفقان في الهدف، محو التخلف، ويفترقان في الأسلوب: الأصالة بالمحافظة على الموروث، أم النبوغ في إطار التراث الإنساني المشترك ؟

كان التيار الأول يمثل القديم الموروث في ثباته وشموخه ، وكان التيار الآخر يمثل الجديد الوافد في بريقه وإغرائه.

 

ولا ريب: أنه وجد غلاة في كلا الفريقين. ففي مقابل الذين يريدون تجديد الكعبة والشمس والقمر، وجد الجامدون على كل قديم، الذين يريدون أن يوقفوا حركة الفلك وسير التاريخ، شعارهم : ليس في الإمكان أبدع مما كان ! وضاع الوسط بينهما حتى قال محمد كرد عل : نسينا القديم، ولم نتعلم الجديد.

إنها ثنائية مقبولة إذا أعطيت الكلمة حقها من الفهم والتحليل، وهي ثنائية التكامل، لا ثنائية التضاد والتقابل، وقد أحسن د. عبد المعطي الدالاتي صياغتها بقوله : "لن تمتد أغصاننا في العصر حتى نعمق جذورنا في التراث" .

 

مكونات الثقافة العربية:

إن الثقافة العربية تتكون من مكونين رئيسيين: اللغة العربية والإسلام ومن هنا إصرار بعضهم على تسميتها : "الثقافة العربية الإسلامية".

إن اللغة هي وعاء العلوم جميعاً، وأداة الإفهام والتعبير العلمي، والفني والعادي، ووسيلة التأثير في العقل والشعور بأدبها ونثرها وشعرها وحكمها وأمثالها وقصصها وأساطيرها ، وسائر ألوانها وأدواتها الفنية.

 

ومن هنا فإن كل من يحارب اللغة العربية يحارب بالنتيجة الثقافة العربية.

 

وكان من ديدن أعداء هذه الأمة إضعاف الفصحى، وإشاعة العامية، وإعلاء اللغة الأجنبية على اللغة القومية، وإلغاء الحرف العربي في الكتابة، وإحلال الحرف اللاتيني محله.

 

أما الدين فكل الثقافات مدينة للأديان في تكوينها وتوجيهها، سواء أكان هذا الدين سماوياً أم وضعياً، كما هو واضح في ثقافات الشرق والغرب ولاسيما الإسلام الذي له تأثيره العميق والشامل في ثقافة أمتنا العربية عن طريق عقائده الإيمانية، وشعائره التعبدية، وقيمه الخلقية، وأحكامه التشريعية، وآدابه العملية، ومفاهيمه النظرية، حتى إنه يعد مكوناً مهماً لثقافة غير المسلم الذي يعيش في المجتمع المسلم، وهو ينضح على تفكيره ووجدانه وعلاقاته، شعر أم لم يشعر، مما دعا الزعيم السياسي مكرم عبيد في مصر إلى القول: أنا نصراني ديناً، مسلم وطناً.

 

ويأتي السؤال ـ الإشكالية: كيف تكون العلاقة بيننا وبين هذا الوافد الجديد ؟ كيف نوازن بين قديمنا وحديثهم ؟ وبين تراثنا الأصيل ومعاصرهم الدخيل ؟ هل العلاقة بين التراث القديم والوافد الحديث ـ أو بين الأصالة والمعاصرة ـ هي علاقة التضاد والتناقض ؟ فلا أمل في الجمع بينهما ، أو هي علاقة التنوع والتكامل وهنا يمكن الجمع بينهما.

 

السؤال خطير، والجواب مهم، ولاسيما في هذه المرحلة التي تسعى فيها أمتنا لتحقيق ذاتها، بعد أن اكتشفت ذاتها التي غابت أو غُيبت عنها زمناً.

 

وقد أجاب عنه أناس بافتراض التناقض بين الأمرين ، فاختار فريق التراث والأصالة ، وعاشوا غرباء عن العالم والزمان.

 

واختار آخرون العصر والحداثة ، وعاشوا غرباء عن الأهل والمكان . وبقي آخرون مترددين بين أولئك وهؤلاء.

 

لا تعارض بين الثقافة العربية والمعاصرة:

إن الموقف الصحيح هو الذي يُتخذ بعد الدراسة المتأنية لكل من الأمرين المعروضين. وقد سقط الكثير في هذا الخطأ الشنيع، حين تسرع في الجواب بغير علم عن هذا السؤال.

 

ويحكي لنا الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه " تجديد الفكر العربي " قصة تسرعه حين واجه السؤال عن طريق للفكر العربي المعاصر ، يضمن له أن يكون عربياً حقاً ( أي أصيلاً ) ومعاصراً حقاً.

 

"قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تناقضاَ أو ما يشبه التناقض بين الحدين لأنه إذا كان عربياً صحيحاً ، اقتضى ذلك منه أن يغوص في تراث العرب الأقدمين حتى لا يدع مجالاً لجديد ـ وإن من أبناء الأمة العربية اليوم من غاصوا هذا الغوص الذي لم يبق لهم من عصرهم ذرَة هواء يتنفسونها ـ وأما إذا كان معاصراً صحيحاً ، كان محتوما عليه أن يغرق إلى أذنيه في هذا العصر بعلومه وآدابه وفنونه وطرائق عيشه ، حتى لا تبقى أمامه بقية ينفقها في استعادة شيء من ثقافة العرب الأقدمين .

 

نعم قد يبدو للوهلة الأولى أن بين العربية والمعاصرة تناقضاً أو ما يشبه التناقض ، ولذلك يجب السؤال الذي يلتمس طريقاً يجمع الطرفين في مركّب واحد ، وكأنما هو سؤال يطلب أن تجتمع مع الماء جذوة نارة ، فهل بين الطرفين مثل هذا التناقض حقاً ؟ أو أن ثمة طريقاً يجمع بينهما ، ذلك هو السؤال " .

 

ويقول الدكتور : " لقد تعرضت للسؤال منذ أمد بعيد ، ولكني كنت إزاءه من المتعجلين الذين يسارعون بجواب قبل أن يفحصوه ويمحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره ، فبدأت بتعصب شديد لإجابة تقول : إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً ، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة ، ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم ، بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل كما يأكلون ، ونجدَ كما يجدُون ، ونلعب كما يلعبون ، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون !! على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ ، فإما أن نقبلها من أصحابها ـ وأصحابها اليوم هم أبناء أوربا وأمريكا بلا نزاع ـ وإما أن نرفضها ، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانباً ونترك جانباً ، كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال ؛ بدأت بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة ، وربما كان دافعي الخبيء إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوربا وأمريكا ، وجهلي بالتراث العربي جهلاً كاد أن يكون تاماً ، والناس ـ كما قيل بحق ـ أعداء ما جهلوا .

 

ثم تغيرت وقفتي مع تطور الحركة القومية ، فما دام عدونا الألدُ هو نفسه صاحب الحضارة التي توصف بأنها معاصرة ، فلا مناص من نبذه ونبذها معاً ، وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعين إلى طابع ثقافي عربي خالص ، يحفظ لنا سماتنا ويردُ عنا ما عساه أن يجرفنا في تياره فإذا نحن خبر من أخبار التاريخ ، مضى زمانه ولم يبق منه إلا ذكراه " . ويتابع الدكتور قوله : " ولولا رجوعي إلى ثقافتي العربية لدخلت القبر بلا رأس " ( تجديد الفكر العربي ، القاهرة ، دار الشروق ، ص12ـ 14 ) .

 

ماذا تعني الأصالة ؟

 

إن فهم الأصالة يقتضي ما يلي:

1-ضرورة المعرفة والفهم لثقافتنا: فهم هذه الثقافة من مصادرها الأصلية، ومن أهلها الثقات، وبأدواتها ومناهجها الخاصة.

 

2-الاعتزاز بالانتماء العربي الإسلامي: يشعر المثقف العربي المسلم، الذي ينتمي إلى ثقافة العرب والمسلمين، أنه عضو في جسم هذه الأمة، وأنه متحرر من عقدة النقص التي يعاني منها بعض الناس تجاه كل ما هو غربي.

 

إنه يعتز بلغته، لغة القرآن والعلوم، ويعمل على أن تكون لغة الحياة، ولغة العلم، ولغة الثقافة، وقد كانت لغة العلم الأولى في العالم كله لعدة قرون، فلا يجوز أن تعجز اليوم عما قامت به بالأمس.

 

3-العودة إلى الأصول: إلى أصولنا وجذورنا العقدية والفكرية، والأخلاقية، ونسعى إلى تحويل اعتزازنا النظري والعاطفي إلى سلوك عملي.

 

إن الاعتزاز يصبح ظاهرة مرضيَة إذا ظل مجرد كلام يردد، وشعارات ترفع، وصيحات تتعالى، لسرد الأمجاد، وتعظيم الأجداد.

 

4-الانتفاع الواعي بتراثنا: والغوص في حضنه الزاخر، لاستخراج لآلئه وجواهره.

 

ولا يتصور من أمة عريقة في الحضارة والثقافة أن تهمل تراثها وتاريخها الأدبي والثقافي ، وتبدأ من الصفر ، أو من التسول لدى غيرها .

 

إن التراث يحتوي الحق والباطل، والصواب والخطأ، والسمين والغث.

 

ففي التراث روايات يرفضها العقل والمنطق، وفيه الإسرائيليات التي شاعت وانتشرت.

 

من ذلك مثلاً كلام الفلاسفة الكبار عن العناصر الأربعة: التراب والهواء والنار والماء، أو عن الأفلاك، أو عن شكل الكون، ومركز الأرض، أو غير ذلك، مما أبطلته علوم العصر ووثباته الهائلة.

 

وفي التراث أشياء لم يثبت خطؤها، ولكن لم تثبت جدواها، أو لم تبق الحاجة إليها قائمة، كما كانت من قبل، مثل مباحث علم الكلام المتفلسف، ولم تبق تخاطب الناس بلسان العصر، وبعض مباحثها أمسى غير ذي موضوع، وبعضها تجاوزه العلم أو أبطله.

 

وينبغي وضع علم كلام آخر يعبر عن عصرنا ، ويواجه تياراته ، ويحل مشكلاته.

 

وفي علم التصوف شطحات ونتوءات في الفكر والتصور ـ كالحلول والاتحاد ـ تناقض صفاء التوحيد الإسلامي، وأخرى في السلوك والعمل ـ كالمبالغة في الزهد والتوكل ـ تنافي وسطية الخلق الإسلامي.

 

وفي كتب الأدب والشعر أشياء تجاوزت الدين والخلق والعرف والذوق ، كالغزل بالذكور والحكايات الهابطة.

 

إننا لسنا مع الذين يضفون القدسية أو العصمة على كل ما مضى، ولا مع خصومهم الذين ينأون بجانبهم عن كل موروث، لا لشيء إلا لأنه قديم، ولكن لابدَ من التخير والانتقاء، لاسيما في مجال التربية والتثقيف، أو مجال الدعوة والتوجيه، أو مجال الحكم والتشريع.

 

قراءة مستبصرة للتراث:

يجب أن تتحقق قراءة مستبصرة للتراث، وفق معايير مضبوطة تسهم في نهضة الأمة، وتأخذ بيدها نحو الصراط المستقيم.

 

فمثلاً نقرأ الشعر العربي فنأخذ من روائع التصوير، وبدائع التعبير، عن النفس والطبيعة والحياة، ونقتبس غوالي الحكم، ونترك المديح المسرف والهجاء المقذع، والعصبية القبلية، والمجون المكشوف، والشك المتحير.

 

نقرأ حجة الإسلام الغزالي وننهل من تراثه الرحب في التربية والأخلاق، ونترك ما تضمنت كتبه من غلو الصوفية، أو من معارف أثبت علم العصر بطلانها، أو ما استند إليه من الأحاديث الواهية والموضوعة التي لا سند لها.

 

نقرأ التفسير، ونحذر من الإسرائيليات، والأقوال الفاسدات.

ونقرأ الحديث، ونحذر من الموضوعات والواهيات.

ونقرأ التصوف، ونحذر من الشطحات والتطرفات.

ونقرأ علم الكلام، ونحذر من الجدليات والسفسطات.

ونقرأ علم الفقه، ونحذر من الشكليات والتعصبات.

 

قراءات متحيزة أو موجَهة للتراث:

تنحاز بعض القراءات المتحيزة لبعض المدارس دون بعض، ولبعض الاتجاهات والشخصيات دون بعض، تأخذ من التراث وتدع، وتحذف منه وتبقي، وفق أهوائها وميولها الخاصة.

 

منهم من ينحاز إلى "المدرسة الفلسفية" ولاسيما "المدرسة المشائية"، التي جعلت أكبر همها التوفيق بين الفلسفة والدين، ولكنها اعتبرت الفلسفة أصلاً، والدين تبعاً، فإذا تعارضا أولَ الدين ليتفق مع الفلسفة.

 

ومنهم من ينحاز إلى "المدرسة الاعتزالية" ، ويعدُ المعتزلة "المفكرين الأحرار" في الإسلام.

 

وحديث هؤلاء عن المعتزلة يوهم أنهم جماعة "عقلانية" محضة، لا تذعن لنصوص الدين، ولا تخضع لأحكام الشرع، وهو تصوير غير صحيح، لاسيما في مجال الفقه والأحكام العملية، التي كثيراً ما تبعوا فيها المذهب الحنفي.

 

ومنهم من ينحاز إلى شخصيات معروفة دون غيرها، مثل ابن رشد، وابن حزم، وابن عربي، وابن خلدون، وكلامهم عن هؤلاء وأمثالهم يصورهم بصورة "العقلانيين" الخلصاء ، الذين يرفضون النصوص إذا خالفت مقرراتهم العقلية .

 

وهذه قراءة متحيزة لهؤلاء الأعلام ، فكتبهم تدل بوضوح على أنهم ـ ككل المسلمين ـ لا يملكون أمام محكمات النصوص، إلا أن يقولوا: سمعنا وأطعنا.

 

فابن رشد وابن خلدون كلاهما قاض شرعي وفقيه مالكي، وابن رشد هو صاحب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" في الفقه المقارن، الذي يتجسد فيه احترام المصادر والأدلة الشرعية كلها، من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

 

وابن حزم وابن عربي كلاهما فقيه ظاهري، يأخذ بظواهر النصوص وحرفيتها في مجال الفقه واستنباط الأحكام، وإن كان على ابن عربي اعتراضات جمة في تصوفه الفلسفي.

 

ولكن هؤلاء العصريين يستنطقون تلك العقول الكبيرة ـ على اختلاف اهتماماتها وتخصصها ـ بما يحبون هم أن تنطق به، لا بما نطقت به بالفعل، فهم يريدونها مترجمة عنهم، معبرة عن فكرهم، لا عن ذاتها وفكرها الخاص.

 

ويرى الدكتور فهمي جدعان (نظرية التراث، عمان، دار الشروق، ص26) أن هؤلاء يستلهمون التراث الماضي ما يبررون به الواقع الحاضر، ويرى أن عملية "الاستلهام" هذه ليست إلا عملية تسويغ لقيم الحاضر ، بإسقاط غطاء تراثي عليها ، وأن الذي يحدث عملياً أن الحاضر هو الذي يفرض قيمه ، ويلزم بها.

 

ومثل هؤلاء من يدعو إلى " إعادة قراءة التراث " وفق مناهج معاصرة ، ارتضاها أصحابها ، تبعاً للمدارس التي ينتمون إليها.

 

وهذا التوجه شائع عند المثقفين الذين مارسوا خبرة بمناهج العلوم الإنسانية الحديثة، وبالفلسفات الغربية المعاصرة، فكل واحد من هؤلاء يقرأ التراث وفقا لمنهجه المحدد، ويفسره ويوجهه تبعاً لإطاره المرجعي، فهذا يقرؤه قراءة عقلانية، وثان قراءة لسانية، وثالث قراءة مادية، ورابع قراءة براجماتية، وقراءات أخرى معرفية ووظيفية وبنيوية ، إلى آخر التصنيفات التي تحاول "أدلجة" التراث، وتوظيفه لخدمة أفكار مدرسة معينة، وتوجيهه توجيها قبْلياً واضحاً، فهي ليست قراءة للفهم، وإنما للفعل والتأثير بل "للتثوير" عند بعضهم.

 

يقول الدكتور جدعان: إن هذه "الأدلجة" لم تكن تعني في نهاية التحليل إلا شيئاً واحداً هو: أن الحاضر عاجز ـ بإمكاناته وقدراته الكامنة والصريحة ـ عن إحداث التغيير المنشود. وأن التراث الذي يشد الناس إليه، هو الذي يملك القوة السحرية على التغيير، وذلك ـ بطبيعة الحال ـ بعد توجيه قراءته الوجهة التي تخدم الأهداف المنصوبة (ص28ومابعدها).

 

ماذا تعني المعاصرة ؟:

إن المعاصرة تعني أن يعيش الإنسان في عصره وزمانه، ومع أهله الأحياء، يفكر كما يفكرون، ويعمل كما يعملون، يعايش الأحياء لا الأموات، والحاضر لا الماضي. ويقتضي ذلك ما يلي :

 

1. ضرورة معرفة العصر:

أي أن نعرف "العصر" الذي نعيش فيه معرفة دقيقة وصادقة، فإن الجهل بالعصر يؤدي إلى عواقب وخيمة، وهذا ما دفع أحد المفكرين إلى القول : إن المشكلة ليست في جهلنا بالإسلام ، بل المشكلة في جهلنا بالعصر ! والجهل بالعصر سمة مشتركة بين دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة.

 

إن من بين دعاة الأصالة من يعيش في الماضي وحده، ويسكن في صومعة التراث، وقد أغلق عليه بابها، فلا يكاد يرى أو يسمع أو يحسُ شيئاً مما حوله.

 

ويا ليته يعيش في عصور التألق والازدهار، بل كثيراً ما يعيش في عصور التخلف والتراجع.

فهو يفكر بعقولهم، ويتحدث بلغتهم، ويحيا في مشكلاتهم، ويجيب عن أسئلتهم، فهو حي يعايش الأموات، أكثر مما يعايش الأحياء.

 

إن مما ابتليت به الثقافة العربية نفراً من الآبائيين الذين يفرون من مواجهة الواقع إلى أحضان آبائهم وأجدادهم: ((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)).

 

وإذا سألتهم عن حل لمشكلة معاصرة استنجدوا بآبائهم لكي يحلوها. حتى قال فيهم جمال الدين الأفغاني: لقد أضحوا على حالة كلما قلت لهم كونوا بني آدم قالوا كان آباؤنا كذا وكذا.

 

المطلوب ـ إذن ـ أن يعيش الإنسان القوي في حاضره، منطلقاً إلى مستقبله، ولكي يحسن العيْشة في حاضره وزمانه (عصره) ينبغي أن يعرفه حتى يتعامل معه على بصيرة. وكلمة اللسان الواردة في الآية : ((وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم))، يفهم منها اللغة ويفهم منها طبيعة العصر.

 

معرفة الواقع من تمام معرفة العصر: الواقع المحلي (الوطني)، والإقليمي (العربي)، والإسلامي، والعالمي.

 

وهذه المعرفة لازمة لكل من يريد تقويم هذا الواقع، أو إصدار حكم له أوعليه، أو محاولة تغييره.

 

ولا تتم معرفة الواقع على ما هو عليه حقيقة إلا بمعرفة العناصر الفاعلة فيه، والموجهة له والمؤثرة في تكوينه وتلوينه، سواء أكانت عناصر مادية أم معنوية، بشرية أم غير بشرية ومنها عناصر جغرافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وروحية.

 

وتفسير الواقع كتفسير التاريخ، يتأثر باتجاه المفسر وانتمائه العقدي والفكري.

 

ويجب أن نحذر من النظرات الجزئية، والمحلية، والآنية، والسطحية، والتلفيقية والتسويغية.

 

فعلينا أن نحذر من الاتجاه "الإطرائي" للواقع، ومحاولة تحسينه وإبراز صورته سالمة من كل عيب، منزهة عن كل نقص، وغضّ الطرف عن العيوب الكامنة فيه، وإن كانت تنخر في كيانه، واتهام كل من ينقد هذه العيوب والآفات بأنه مشوش، أو مبالغ أو متطرف.

 

ونحذر كذلك من الاتجاه "التشاؤمي" الذي ينظر إلى الواقع بمنظار أسود، يجرده من كل حسنة، ويلحق به كل نقيصة، ولا يرى فيه إلا ظلمات متراكمة، موروثة من عهود التخلف، أو وافدة مع عهد الاستعمار.

 

جماهير مُضلَّلة، وأقطار هي مجموعة "أصفار" !! وما يرجى من تغيير، أو يؤمل من إصلاح، فهو سراب يحسبه الظمآن ماء.

 

ومثل ذلك: الاتجاه "التآمري" الذي يرى وراء كل حدث ـ وإن صغر ـ أيادي أجنبية، وقوى خفية، تحركه من وراء ستار.

 

ونحن لا ننكر التآمر والكيد ولكن تضخيم ذلك بحيث يجعلنا " أحجاراً على رقعة الشطرنج " يفتُ في عضدنا ، وييئسنا من أي توجه إيجابي لإرادة التغيير ، ويريحنا بأن نشعر أننا أبدا ضحايا من هو أقوى منا ، ولا حلَ أمامنا غير الاستسلام للواقع المر . ومن ناحية أخرى يجعلنا هذا لا نعود على أنفسنا باللائمة ولا نحاول إصلاح ما فسد ، وتدارك ما وقع.

 

إن أوْلى من تعليق أخطائنا على مشجب التآمر الخارجي، أن نردَها إلى الخلل الداخلي، أي الخلل في أنفسنا قبل كل شيء : ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) .

 

وقريب من ذلك الاتجاه "التنصلي" في تفسير الواقع، بمعنى أن أحداً لا يريد أن يتحمل مسؤولية ما في هذا الواقع من سوء وانحراف، فكل واحد، وكل فريق، يريد أن يحمل وزره على غيره، أما هو فلا ذنب له، ولا تبعة عليه.

 

الكل يشكو من الفساد، ولكن من المسؤول عن فساد الحال ؟ وأين الخلل ؟ جمهور كبير من الناس يحملون المسؤولية على العلماء، والعلماء يحملون المسؤولية على الحكام، والحكام يحملونها على الضغوط الخارجية أو الضرورات الداخلية.

 

والحق أن الجميع مسؤولون، كل حسب ماله من طاقة وسلطة: الجماهير والعلماء، والمفكرون والمربون والحكام: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) . (متفق عليه من حديث ابن عمر . صحيح الجامع الصغير برقم 4569).

 

ومن التفسيرات الخاطئة للواقع: التفسير التسويغي التبريري الذي يحاول أن يضفي على الواقع، ما يجعله مقبولاً ومشروعاً، وإن حاد عن الحق وسواء السبيل، وفي هذا لون من التدليس والتلبيس، بإظهار الواقع على غير حقيقته، وإلباسه زيا غير زيه.

 

إننا نريد معرفة واقع عصرنا وعالمنا عموما، وواقع أمتنا خصوصاً كما هو، دون تحريف ولا تزييف، ولا تهويل ولا تهوين، ولا مدح ولا ذم، مستخدمين الأساليب العلمية الموضوعية في الكشف والرصد والتحليل، وفي هذا ما يساعدنا على تشخيص الداء ووصف الدواء.

 

إن أعداءنا يعرفوننا تماماً، فنحن مكشوفون لهم حتى النخاع، فهل عرفنا نحن أعداءنا ؟ وإذا كنا لم نعرف أنفسنا كما عرفها غيرنا، فكيف نعرفهم ؟ بل هل عرفنا أنفسنا مثلما عرفها خصومنا ؟

 

عصرنا بين الإيجابيات والسلبيات

إنه عصر الإيجابيات:

عصر العلم والتكنولوجيا.

عصر الحرية وحقوق الإنسان واستقلال الشعوب.

عصر السرعة والقوة والتغيرات السريعة، والتطورات الهائلة.

عصر الاتحاد والتكتلات الكبيرة.

عصر التخطيط والتنظيم لا الارتجالية والفوضى والتواكل .

عصر اقتحام المستقبل، وعدم الاكتفاء بالحاضر، فضلاً عن الانكفاء على الماضي.

 

وهو أيضاً عصر السلبيات:

عصر غلبة المادية والنفعية.

عصر تدليل الإنسان بإشباع شهواته.

عصر التلوث بكل مظاهره.

عصر الوسائل والآلات، لا المقاصد والغايات.

عصر القلق والأمراض النفسية، والتمزقات الاجتماعية.

 

والناس قسمان حيال العصر: منهم من يهرب منه إلى الماضي خوفاً منه بدل المواجهة، ومنهم من يندمج فيه إلى حد الذوبان، والخير في الوسط حين نستعمل إرادتنا واختيارنا أمام هذه المؤثرات لنأخذ ما ينفعنا وندع ما يضرنا.

 

ويجب أن ننتبه الى نقطة أن العصر ليس الغرب وحده وإن كان هو المهيمن والمسيطر ، فهناك العالم الإسلامي، وعالم الشرق الأقصى بدياناته وفلسفاته.

 

ويردد كثير من تجار الثقافة دعوة مشبوهة هي استيراد الثقافة الغربية بكل عناصرها بدعويين: عالمية هذه الثقافة، وأنها ثقافة لا تتجزأ.

 

أما عالمية الثقافة فهي شبهة خاطئة لأنهم يخلطون بين العلم والثقافة ، فالعلم كوني ، والثقافة خاصة بكل قوم وكل جماعة. العلم واحد والثقافات متنوعة متعددة.

 

أما دعوى أن الثقافة لا تتجزأ فهي مرفوضة تاريخياً وواقعياً.

 

لقد أخذ العرب عن الأمم كثيراً مما عندها من العلوم والمعارف، ولكنهم لم يأخذوا ثقافتها، وبقوا محافظين على لغتهم وعقيدتهم وعاداتهم وأعرافهم . أما في العصر الحديث فقد أخذ اليابانيون عن الغربيين العلم والمناهج ، ولم يأخذوا عنهم عقائدهم وشعائرهم وتقاليدهم .

 

2-العلم والتكنولوجيا:

إن أصالتنا لا تمنعنا من أخذ هذا العلم والاقتباس منه والانتفاع به، بل هي توجب علينا ذلك إيجاباً. إن التكنولوجيا لا تشترى شراء، فتلك التي تشترى لا تطور المجتمع، فهي تساعد على الاستهلاك لا الإنتاج، والتقليد لا الاتباع. إن التكنولوجيا يجب أن تنبت عندنا، وأن تتفاعل مع واقعنا، وأن نحملها نحن. ولا يظنَنَ ظان أن ما نملكه اليوم من أجهزة ومعدات يجعلنا عصريين.

 

3 - النظرة المستقبلية:

إن من طبيعة المعاصرة ألا نستسلم للحاضر بل نتطلع دائماً إلى المستقبل. إن النظرة إلى المستقبل لا تقوم على الكهانة والتنجيم، ولكن على الإحصاء والتخطيط، والدراسة والرصد وبناء النتائج على المقدمات. يجب أن نفيد من دراسات المستقبل التي ازدهرت في الفترة الأخيرة ازدهاراً كبيراً.

 

والناس بين الماضي والمستقبل على ثلاثة أنواع:

أ‌-الماضويون: المشدودون دائماً إلى الوراء لا ينظرون أمامهم أبداً . ومن سماتهم أنهم يضفون لوناً من القداسة على التراث فهو برأيهم حق كله لا يمكن أن نترك شيئاً فيه. ويسرفون في ردّ كل جديد إلى قديم من التراث، وإن لم يقم على ذلك برهان: فالطب الحديث مأخوذ من الرازي وابن سينا، وعلم الاجتماع المعاصر يوجد عند ابن خلدون، واللسانيات المعاصرة عند سيبويه... وهلم جرَا. وهم يعتبرون كل زمن شراً مما قبله، ومتعلقون بالصورة والشكل لا بالروح والجوهر.

 

ب‌-المغرقون في المستقبلية: ينظرون دائماً إلى الأمام ولا يلتفتون إلى الوراء لأن الإنسان يتطور دائماً إلى ما هو أحسن وأمثل، إنهم كما وصفهم أحد المفكرين: "كأنما يريدون أن يلغوا الماضي من الزمن، و (أمس) من اللغة، والفعل الماضي من الكلام، ويحذفوا الوراء من الجهة، والذاكرة من الإنسان". التراث عندهم متهم، والماضي بغيض، والسلف متخلفون ، وتاريخ الأمة ظلمات بعضها فوق بعض . يسكتون عن حسنات التراث، ويضخمون ما فيه من فتن وانحرافات.

 

ج-دعاة الوسطية: هم الذين سلموا من إفراط الأولين وتفريط الآخرين، يعلمون أن التطور والتغير ليس دائماً إلى الأحسن والأمثل. يرحبون بالتطور إذا كان ارتقاء إلى ما هو أفضل، وينكرونه إذا اتجه نحو الهبوط والانحدار. إنه تيار الوسطية الذي لا يغفل المستقبل ولا ينسى الماضي.

 

4. العناية بحقوق الإنسان:

يصور كثير من الباحثين أن حقوق الإنسان نبت غربي لم يكن قبلا في الأمم السابقة، والحقيقة أن هذه نظرة مبتسرة قاصرة.

 

إن الأمة العربية قد عرفت حقوق الإنسان عن طريق ما بثه الإسلام، بمصدريه القرآن والسنة، من قيم ومبادئ تعترف للبشر بحقوقهم كاملة غير منقوصة، حتى إنها اعترفت بحقوق الحيوان.

 

لقد شمل الإسلام حقوق الإنسان الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية ، وأكد المساواة والحريات العامة المتنوعة.

 

وقد شمل الإسلام حقوق البشر بأنواعهم : الرجال والنساء والأطفال.

 

وشمل المسلمين وغير المسلمين في داخل الدولة الإسلامية وخارجها.

 

وضمن الإسلام واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني إحقاق الحق ومقاومة البغي ، وجعله فرضاً على الفرد والجماعة والدولة.

 

وقد شرع الإسلام الجهاد لحماية حقوق الإنسان، ومنع استضعافه، والبغي على ذاته وحقوقه: ((ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان)) .

 

وقبل أن أختم بحثي أريد أن أؤكد بعض النتائج الضرورية في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها أمتنا:

1. ضرورة تواصل الحوار بين المخلصين من الطرفين: الأصالة والمعاصرة، لتصحيح المفاهيم، وإزالة الشبهات، وتقريب الشقَة، ومحاولة توسيع مساحة المتفق عليه، وتأكيد التعاون فيه، والمناقشة الجادّة في المختلف فيه، والعمل على تضييقه، والاجتهاد في الوصول إلى الصواب أو الصحيح أو الأصح، وأن نعمل بالقاعدة الذَهبية: (نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه).

 

2. تأكيد كرامة الإنسان: لقد وجه كثير من مفكري الغرب النقد العنيف إلى الحضارة الغربية التي أعلت من شأن المادة وهبطت بقيمة الإنسان ، فعلينا أن نؤكد ذلك ونتبناه ، ونجعل من ثقافتنا الإنسانية واقعاً حياً في أرضنا ومجتمعاتنا ، ونمكن لها في حياتنا العقلية والوجدانية ، حتى تؤدي دورها المطلوب في البناء والإعلاء .

 

3. لا تناقض في ثقافتنا بين العروبة والإسلام: إلا إذا حرفت العروبة فكانت معادية للإسلام ، وحرف الإسلام فكان معادياً للعروبة .

 

4. لا صراع في ثقافتنا بين العلم والدين:  أو بين العلم والإيمان أو بين العقل والنقل . العقل أساس النقل ، والنقل يُشيد بالعقل ويحتكم إليه ، ولا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول . لذا يجب أن نعلي من شأن العلم والإيمان حتى تدخل الأمة العصر بجناحين راسخين .

 

5. لا تعارض بين الأصالة الحقة والمعاصرة الحقة:  إذا فهمت كل واحدة منهما على حقيقتها. إذ نستطيع أن نكون معاصرين إلى أعلى مستويات المعاصرة، وأن نبقى كذلك أصلاء حتى النخاع.

 

إنما تتعارض الأصالة والمعاصرة، إذا فهمت الأصالة على أنها الاحتباس الاختياري في سجن الماضي، والمعاصرة على أنها الدوران في رحى الغرب.

 

لذا يجب أن نرفض اتجاهين متطرفين: الاتجاه الأول الذي ينتهي بالأصالة إلى الجمود والتحجر، والاتجاه الثاني الذي ينحو بالمعاصرة نحو الفناء في الغرب، واتّباع سننه "شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه"، ولا يكتفي بأخذ العلم والتكنولوجيا وحسن الإدارة والتنظيم فيه، واقتباس كل ما تنهض به الحياة، بل هو يصرُ على نقل الأنموذج الغربي إلينا بكل عناصره ومقوماته، ولاسيما جذوره الفلسفية، ومفاهيمه الفكرية، ومجالاته الأدبية، وتقاليده الاجتماعية، وقوانينه التشريعية، ومؤثراته الثقافية. لقراءة موضوع آخر للكاتب: اللغة العربية ومكانتها بين اللغات-الجزء الأول  -  اللغة العربية ومكانتها بين اللغات-الجزء الثاني

أضيفت في 01/06/2009/  خاص القصة السورية

 

 

الثقافة هي روح الأمة وعنوان هويتها

 

بقلم الكاتب: د. عبد العزيز بن عثمان التويجري*

 

الثقافة هي روح الأمة وعنوان هويتها، وهي من الركائز الأساس في بناء الأمم وفي ﻧﻬوضها، فلكل أمة ثقافٌة تستمدّ منها عناصرها ومقوماﺗﻬا وخصائصها، وتصطبغ بصبغتها، فتنسب إليها. وكل مجتمع له ثقافتُه التي يتسم ﺑﻬا، ولكل ثقافة مميزاﺗﻬا وخصائصها. ويعرف التاريخُ الإنسانيُّ الثقافَة اليونانية، والثقافة الرومانية، والثقافة الهلِّينية، والثقافة الهندية، والثقافة المصرية الفرعونية، والثقافة الفارسية.

 

ولما استلم العرب زمام القيادة الفكرية والثقافية والعلمية للبشرية في القرن السابع للميلاد، واستمروا في مركزهم المتميّز إلى القرن الخامس عشر منه، عرف العالم الثقافة العربية الإسلامية في أوج تألقها، حتى إذا ما تراجع العرب والمسلمون عن مقدمة الركب الثقافي العالمي، ودبَّ الضعف في كياﻧﻬم، وتوقفوا عن الإبداع في ميادين الفكر والعلم والمعرفة الإنسانية، انحسر مدُّ ثقافتهم، وغلب عليهم الجمود والتقليد، وضعفوا أمام تيارات الثقافة الغربية العاتية التي أّثرت بقوةٍ في آداﺑﻬم وفنوﻧﻬم وطرق معيشتهم.

 

والثقافة كلمة عريقة في اللغة العربية أصلا، فهي تعني صقل النفس والمنطق والفطانة، وفي القاموس المحيط : ثقف ثقفًا وثقافة، صار حاذقًا خفيفًا فطنًا، وثقَّفه تثقيفًا سوَّاه، وهي تعني تثقيف الرمح، أي تسويته وتقويمه.

 

واستعملت الثقافة في العصر الحديث للدلالة على الرقيّ الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات.

 

والثقافة ليست مجموعًة من الأفكار فحسب، ولكنها نظريٌة في السلوك بما يرسم طريق الحياة إجما ً لا، وبما يتمّثل فيه الطابع العام الذي ينطبع عليه شعبٌ من الشعوب، وهي الوجوه المميّزة لمقوّمات الأمة التي تُمَيَّزُ ﺑﻬا عن غيرها من الجماعات بما تقوم به من العقائد والقيم واللغة والمبادئ، والسلوك والمقدّسات والقوانين والتجارب. وفي الجملة فإن الثقافة هي الكلُّ المركَّب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات.

 

لكي تصبح الثقافة العربية مفتاحا لنهضة الأمة

تعود مسألة الثقافة العربية الى واجهة الاهتمام في ضوء الظروف الحالية التي تعيشها قضية الصراع العربي الاسرائيلي، وما خلفه الاجتياح الاسرائيلي لمناطق السلطة الفلسطينية واكثرها بربرية مجزرة جنين، وكذلك المعركة الكبيرة التي فتحتها الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما يصاحبها من خلط بين المعركة ضد (الارهاب) وبين استهداف الهوية العروبية والاسلامية، وكذلك لكون الثقافة العربية تشكل المرتكز وخط الدفاع الاخير في التحديات التي تواجهها الامة بعد ان تعرضت خطوطها السياسية والعسكرية للهزيمة والانكسار.

 

وحيثما تخمد حرائق الازمات والكوارث يثار جدل بين اوساط المفكرين والمثقفين العرب في محاولة لتشخيص عناصر الخلل في ضعف القدرات والارادات، لكن تلك المحاولات دائما ما تقع في خانة المشاحنات والمساجلات والتنظيرات التي ابعدتها عن الهدف الرئيسي في وضع حلول لأزمة العرب الفكرية والسياسية.

 

ولعل الامثلة كثيرة منذ نكبة عام 48 والنكسات القومية اللاحقة، خصوصا بعد هزيمة الخامس من حزيران 67، عندما رحلت معظم النخب الثقافية العربية اسبابها السياسية الى مرجعية المشروع القومي العربي، ورموزه الوطنية، ومثاله الاول الراحل جمال عبد الناصر، وقد عجز ذلك المشروع عن وضع حلول لأزمة الصراع العربي الاسرائيلي، كما تحول ذلك السجال الطويل، بين الفرق والاشياع المتناحرة، من هدف وضع حلول للانقاذ الى زوايا ضيقة بين سلفية متمسكة بقداسة التراث، ومجددة وفق حداثة خاضعة للآخر، وما بين اصولية اسلامية وعلمانية متحررة، توقعت في الجانب الآخر الدعاوى المحمومة المشككة بالعقل العربي وبثقافة الأمة انها كسبت المعركة ضد المشروع النهضوي لاسباب مظهرية مباشرة شجعتها اتفاقيات السلام الاسرائيلية ـ المصرية والاردنية، وما برز من نزعات للثقافات المحلية الطائفية والعرقية، في ظل ضعف ووهن الانظمة السياسية العربية واستسلامها لمنطق الهزيمة، لكن تلك الحملة سقطت في اول اختبار لها بسبب فضائح شعارات التطبيع الذي قادته المؤسسات الثقافية الصهيونية من داخل اسرائيل وخارجها، حيث واجهت رفضا واسعا من ابناء الجيل العربي الشبابي في الجامعات والقطاعات المهنية والتعليمية، قبل ان يتعرض لها المثقفون العرب. وقد دللت الانتفاضة الفلسطينية الباسلة، الاخيرة، في مقاومتها وصمودها بوجه المحتل الاسرائيلي عن وجه من وجوه الوعي العربي، وعن الامكانيات الهائلة المختزنة لدى العرب في تعديل موازين قوى الاختراق الصهيوني لصالح الأمة، وفي القدرة على تقديم انموذج واقعي لثقافة الصمود ومواجهة عناصر العجز.

 

ولكي لا تستغرق ساحة الرأي العام العربي مجددا بأصوات تلك المنابر المتبارزة، نجد من الاهمية ان تتركز جهود المفكرين والمثقفين والاعلاميين العرب على تحديد ملامح ومقومات الثقافة العربية المطلوبة، ومسؤولياتها، في المرحلة الراهنة، لانتزاع عناصر الخوف والقلق من صدور النخب الثقافية، وزرع الثقة في نفوس ابناء الجيل الحالي، والتوصل الى وضع قواعد واضحة للرأي العام العربي يمكن من خلالها مواجهة التحديات الكبرى، ومن بين تلك القواعد:

 

أولاـ ان الصراع الحالي بين الثقافة العربية وثقافة الاختراق الصهيوني لا تقوم على افتراضات نظرية بين مناهج ومدارس فكرية، ما بين الاصولي والحداثي، او ما بين المجدد والسلفي، وانما هي معركة تاريخية بين المشروع الصهيوني الذي يستهدف الهوية والانتماء العروبي والاسلامي، وما بين مشروع النهضة العربية.

 

ثانياـ لم يعد الحديث حول الهزائم العسكرية والسياسية للنظام السياسي العربي قاعدة لوصف الأمة بالمهزومة والضائعة حضاريا، مبررا ومقبولا ليصبح منطلقا لتهميش دور القيم العروبية والاسلامية في تحريك عوامل النهضة ومحاولة وضعها في مدارج الوهم والخيال العاطفي، في وقت قدمت شواهد الكفاح العربي التحرري الاستقلالي وخصوصا الانموذج المنجز في الجزائر، وحاليا الانموذج الفلسطيني، امثلة على حضور الوعي وامكانياته في خلق الارادة السياسية القوية القادرة على الانتصار وإلحاق الهزيمة بالمحتل. في المقابل نلاحظ كيفية استثمار المؤسسات الصهيونية العالمية الثقافية والاعلامية الاساطير والمعتقدات الوهمية والتحريفية وتمريرها على الرأي العام العالمي مثل (كارثة اليهود في المانيا على يد هتلر).

 

ثالثاـ ان اية مقارنة وتأويل لما حدث من كوارث قومية سابقة في عامي 48 و67، وما حدث للفلسطينيين عام 2002 من قاعدة (انعدام توازن القوة) الى فرضية (انعدام القدرة والارادة بسبب ضياع الهوية وتفتت المرجعية العربية وتهافتها)، انما هي محاولة لا تعتمد على قراءة سليمة للتطور التاريخي لحياة الامم ولحياة الامة العربية، وتسعى لفرض حالة انهزام العرب فكريا وسياسيا وثقافيا، وهي فرضية ليست مطلقة، فمثال انتصار مصر العسكري على اسرائيل في حرب اكتوبر عام 73 يكشف حقيقة ان الخامس من حزيران عام 67 لم تكن هزيمة تاريخية لمشروع النهضة العربي، وانما هي هزيمة ارتبطت بمكونات النظم السياسية وعدم قدرتها على توفير امكانيات المواجهة المختزنة لدى الأمة.

 

رابعاـ ان ازمة الثقافة العربية هي في الجوهر ازمة بين اوساط نخب من المثقفين العرب الذين لم يسترشدوا الى استخلاص دروس وتجارب الهزائم السياسية والعسكرية العربية، ولم يتمكنوا من تحويلها الى قواعد جديدة للرد التاريخي والنهضة القومية.

 

ولعل مثال الثقافة الفلسطينية، وهي جزء فعال وحي من الثقافة العربية يؤكد قدرة الوعي الشعبي المتحرر من قيود الانظمة الحاكمة على استحضار القيم وتحويلها الى مادة حية للبطولة والصمود.

 

خامساـ ان مواجهة مخاطر التوسع الثقافي الصهيوني، الذي يمتلك قدرات واسعة في المخادعة والتخفي تحت اغطية العولمة الثقافية الحالية وشعارات الحرية والديمقراطية، ليست مهمة سهلة، وتتطلب قدرات جماعية في الفحص والتحري والفرز ما بين عناصر النهضة والتطور، القادمة من اوربا واميركا، والتي يحتاجها العرب في بناء نهضتهم الجديدة، وما بين مخلفات الاساطير والاوهام الصهيونية العنصرية المتخلفة التي حملتها في غفلة النهضة الحضارية الاوربية والاميركية مجاميع المرابين العالميين داخل اروقة المراكز المالية والتجارية في الولايات المتحدة الاميركية، ولعل ابرز ما تهدف اليه الثقافة الصهيونية هو بناء عوازل ما بين تراث الحضارات الانسانية وما بين الحاضر، ليسهل عليها تمرير الاساطير القديمة القائمة على اسس دينية محرفة (اليهودية التوراتية)، وأسس العرقية الجامدة (السامية). ويتحمل المثقفون العرب، وخصوصا المقيمين في بلدان المهجر في اوربا واميركا، ومن خلال المؤسسات والجمعيات الثقافية والمراكز الصحافية والاعلامية، مسؤولية التحرك لفتح حوارات ثقافية عربية ليست موسمية تكشف، وبعقلية علمية منفتحة، عمليات التحريف التي تقوم بها المؤسسات الثقافية والاعلامية الصهيونية ضد العرب وقيمهم الدينية والحضارية والثقافية، وكذلك هدفها في خلق التنافر والصراع ما بين العرب والغرب، والعمل على وضع ملامح القيم الحضارية المشتركة ما بين العالمين العربي، والاوربي والاميركي.

 

ان صراع الامة الرئيسي ليس مع الصهيونية التي اختارت العداء للعرب وحسب، وانما هي في الوقت عينه، معركة وطنية داخلية من أجل التطور والتحديث والمدنية القائمة على بناء الديمقراطية واشاعة الحرية في المجتمعات العربية، ومواجهة الظلم والاستبداد، ونحن اليوم امام ملامح نهضة جديدة شبيهة بالنهضة الفكرية العربية اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتي ارست المعالم الفكرية والسياسية للنهوض القومي العربي بوجه الاستعمار الصهيوني الاستيطاني والتخلف الاجتماعي والثقافي.

 

نهضة يمكن، من خلالها، استكشاف جذور الازمة السياسية العربية، وتحديد اولوياتها، وخاصة فيما وقعت فيه المؤسسة الوطنية الحاكمة من امراض اعاقت التطور الاجتماعي والتنمية الشاملة، وحجبت آفاقه العصرية من تحقيق الاندماج الحضاري مع المجتمعات الانسانية المتطورة، وكذلك من أجل تجاوز حالة الاخفاق السياسي العربي عن ايجاد حل للنزاع العربي الاسرائيلي.. نهضة يمكن ان تلغي الاسوار القائمة ما بين الدولة الوطنية العربية والمجتمع، وليس في تهديم أحد طرفيها، والدخول في عقد مشروع نهضوي يكون في أحد مظاهره خلق مصالحة ما بين المثقف والسياسي داخل المنظومات السياسية العربية لاعادة بنائها وتحديث ادواتها المتخلفة، وازاحة الادوات المعطلة للحركة، واعطاء اطراف العلاقة فيها وبشكل خاص الطرف التاريخي (الشعب) مسؤوليات المشاركة في القرار السياسي وبناء السلطة الديمقراطية ذات القاعدة الشعبية الواسعة، لكي تعاد للدولة الوطنية مهابتها وقدسيتها التي افتقدتها نتيجة دخولها في نفق مصالح السلطة، وتستعيد دورها التاريخي كخزان للقيم وكحارس للهوية الوطنية، عليها مسؤوليات بناء وحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين، وارساء قواعد وتقاليد عصرية ديمقراطية للسلطة السياسية، واحلال سيادة القانون والعدالة. ولكي تكون الثقافة وسيلة للنهضة العربية لا بد ان تتمكن من التعبير عن حاجات الناس ومطالبهم العصرية الجديدة، وتحافظ على جذور قيمهم الدينية والحضارية، وتحمي انتماءاتهم الوطنية والقومية. التاريخ: 1998

*سفير عراقي سابق m.alsamarrai@blueyonder.co.uk

أضيفت في 01/06/2009/  خاص القصة السورية

 

 

وجهة نظر حول معنى العروبة

بقلم الكاتب: د. صبحي غندور

 

مدخل معنى العروبة هو إدراك ماهية الإنسان العربي.

وقد وضعت كلمة الإنسان قبل كلمة العربي -ومعها- لأن ذلك أساس لتأكيد وحدة الأصل الإنساني ولإسقاط كل تعريف على أساس عنصر الدم أو الجنس أو الأصل العائلي أو حتى مكان الولادة.

 

فكثيرون يولدون خارج المنطقة العربية، ويعتبرون أنفسهم عرباَ.. وكثيرون يولدون داخل المنطقة العربية، ويرفضون الانتماء العربي ويعتزون بأصول قومية أخرى غير عربية.

 

فالإنسان العربي لا يتحدد فقط من خلال كونه يتحدث بالعربية، لأن الحديث بأي لغة لا يعني بالضرورة حالة انتماء لأمَّة اللغة نفسها..

 

الإنسان العربي، هو إنسان الثقافة العربية (لغة وتفكيراً).. هو الإنسان الذي يعيش الثقافة العربية بما فيها من لغة وعناصر تاريخية مشتركة حصلت وتحصل على أرض عربية مشتركة، أي جمع اللغة مع التاريخ المشترك على أرض مشتركة. فهكذا مثلاً تكونت الأمَّة الأميركية في القرون الخمسة الماضية.

 

الإنسان العربي هو الإنسان المنتمي للأمَّة العربية من حيث عناصر تكوينها: لغة/ثقافة مع تاريخ مشترك على أرض مشتركة، حتى لو لم يدرك هذا الإنسان العربي عناصر تكوين أمَّته.

 

لكن هناك فوارق بين:

(1) العروبة واللغة العربية

(2) وبين العروبة والقومية

(3) وبين العروبة والوحدة العربية.

 

- الفرق بين العروبة واللغة العربية:

 

اللغة العربية: هي لغة الثقافة العربية. فكل إنسان عربي، هو عربي اللسان.. لكن ليس كل إنسان عربي هو عروبي.

فالعروبي هو من يجمع بين لغة الثقافة العربية وبين المضمون الحضاري لها وبين التسليم بالانتماء لأمَّة واحدة قائمة الآن على أوطان متعددة.

إن "الكل العربي" هو مكون أصلاً من "أجزاء" مترابطة ومتكاملة.

فالعروبة لا تلغي - ولا تتناقض مع - الروابط العائلية أو القبلية أو الوطنية، بل هي تحددها في إطار علاقة الجزء مع الكل.

 

- حول العروبة والقومية:

 

القومية تعبير يسمح بالتقلص بما هو أقل من معنى العروبة.

كمثال "القومية السورية" في المجال العقائدي والسياسي، و"القومية الكردية" أو "البربرية" في المجال العرقي...

 

القومية تعبير اختلطت فيه مضامين أخرى في التاريخ الحديث والمعاصر، مضامين عنصرية أو مضامين معادية للدين أحياناً...

 

تعبير القومية تَشَوّه استعماله من قبل الكثير من الحركات السياسية المعاصرة...

 

بينما العروبة تحدد نفسها بنفسها، فالعروبة تشمل خصوصيتها وعمومية تعريف القومية، في حين أن استخدام تعبير القومية الآن لا يؤدي غرض معنى العروبة نفسها. فالقول: أنا "عروبي" يعني أموراً فكرية وثقافية محددة، بينما القول أنا "قومي عربي" يحتاج الآن إلى الكثير من التوضيح والتفسير.

 

فالعروبة هي تعبير عن الانتماء إلى قومية محددة، لها خصائص وخصوصيات تختلف حتى عن القوميات الأخرى في دائرة العالم الإسلامي.

 

- حول العروبة والوحدة العربية:

 

الدعوة إلى العروبة هي دعوة فكرية وثقافية، بينما الدعوة إلى الوحدة العربية هي دعوة حركية وسياسية.

 

الانتماء إلى العروبة يعني التسليم بالانتماء إلى أمَّة واحدة يجب أن تُعبّر عن نفسها بشكل من أشكال التكامل والاتحاد بين أبنائها.. لكن "الوحدة" قد تتحقق بحكم الفرض والقوة أو بحكم المصالح المشتركة (كالنموذج الأوروبي) دون أن تكون الشعوب منتمية بالضرورة إلى أمَّة واحدة. ف"الوحدة" ليست معياراً لوجود العروبة بينما العروبة تقتضي حتماً التعبير السياسي عن وجودها بشكل وحدوي أو إتحادي تكاملي.

 

الملفت للانتباه على الصعيد العربي (منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى نهاية العهد العثماني) هو توالي أشكال من الحكم العربي وغير العربي على أساس غير قومي أصلا وغير محدد بشعب معين أو أرض معينة (وهذا شكل من أشكال الإمبراطورية التي تضم أكثر من شعب وقومية).

 

وفي مرحلة القرن العشرين -التي ورثت فيها الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية، الإمبراطورية العثمانية- انتقل العرب من حال حرية الحركة على أرض واحدة (بدون كيان سياسي عربي واحد طبعاَ) إلى حال من القيود والحواجز على أرض العرب المشتركة، في ظل محاولات لصنع ثقافات خاصة مجتزأة شجعت عليها بقوة السلطات البريطانية والفرنسية التي كانت تهيمن على معظم البلاد العربية. ثم ورثت الولايات المتحدة الأميركية دور بريطانيا وفرنسا في المحافظة على الواقع العربي المجزأ، مع دعم كبير ومفتوح لوجود إسرائيل كقومية جديدة غير عربية على الأرض العربية، وبطابع عنصري يهودي!.

 

إن السمة "العربية" موجودة كلغة وثقافة قبل وجود الإسلام، لكنها كانت محصورة بالقبائل العربية وبمواقع جغرافية محددة، بينما العروبة –كهوية انتماء ثقافي حضاري- بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة رواد عرب.

 

فالعروبة هي إضافة حضارية مميزة أوجدها الإسلام على السمة العربية كلغة نتيجة ارتباط الإسلام بالوعاء الثقافي العربي ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

 

وهكذا أصبحت العروبة الحضارية هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري، وبالتالي خرجت الثقافة العربية من دائرة العنصر القبلي أو العرقي ومن حدود الجغرافية الصغيرة إلى دائرة تتسع في تعريفها ل"العربي"، كل من يندمج في الثقافة العربية بغض النظر عن أصوله العرقية أو عن طائفته أو مذهبه.

 

إن العرب هم أمَّة واحدة في الإطار الثقافي وفي المضمون الحضاري وفي المقاييس التاريخية والجغرافية (اشتراك في عناصر اللغة والثقافة والتاريخ والأرض) لكنهم لم يجتمعوا تاريخياً في إطار سياسي واحد على أساس العروبة فقط. فالعروبة قائمة وجوداً كثقافة خاصة قبل الإسلام ثم كحضارة من خلاله وبعده لكنها لم تتجسد سياسياً بعد كأمَّة واحدة، في إطار كيان سياسي واحد، وعلى أساس مرجعية العروبة فقط. فالأرض العربية كانت تحت سلطة واحدة في مراحل من التاريخ، لكن على أساس مرجعية دينية إسلامية (الخلافة) وليس على أساس قومي عربي.

 

إن العروبة هي حالة انتماء إلى مضمون حضاري مميز بعلاقته مع اللغة العربية، وتقوم على قاعدة الثقافة العربية، وهي رغم توفر عناصر تكوين الأمَّة فيها، فإنها لم تصل بعد إلى حالة الانتماء إلى كيان سياسي موحَّد، ولم يحصل ذلك تاريخياً من قبل على أساس مرجعية العروبة فقط.

 

وللوصول إلى مشروع الكيان العربي الواحد أو الاتحادي، تتوجب الأساليب المرحلية شرط قيامها جميعاً على أساس ديمقراطي في الداخل وسلمي حواري في العلاقة مع الطرف العربي الآخر. من هنا أهمية التوافق العربي على ضرورة المرونة في كيفية الوصول إلى كيان دستوري سياسي يعبّر عن وحدة الأمَّة.

 

ويبقى الأساس في أي وسيلة تستهدف الوصول إلى الوحدة هو:

 

- الدعوة السلمية ورفض الابتلاع أو السيطرة أو الهيمنة من وطن عربي على آخر..

- نظام الحكم الديمقراطي قبل المباشرة بعملية الوحدة. فالتحرر والديمقراطية معاَ هما المدخل السليم لوسائل تحقيق الوحدة أو أي شكل اتحادي عربي.

15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005

أضيفت في 01/12/2009/  خاص القصة السورية

  

 

سقوط بدائل العروبة

بقلم الكاتب: د. صبحي غندور

 

من حقّ الجهلاء في هذه الأمّة القول: هذا عصرنا.

 

نعم، هو الآن عصر التطرّف في الأفكار، والعنف في الأساليب، والجهل في الدين، والتجاهل للوقائع ولحقيقة ما يحدث على أرض هذه الأمَّة وبين شعوبها.

 

هو عصرٌ يرفض الهويّة العربية المشتركة، بل ويرفض أحياناً كثيرة الهويّة الوطنية، ويريد وصم شعوب هذه الأمَّة بتصنيفات تقسيمية للدين وللعروبة وللأوطان.

 

هؤلاء الجهلة يريدون إقناع أبناء وبنات البلاد العربية أنّ مستقبلهم هو في ضمان «حقوقهم» الطائفية والمذهبية، وفي الولاء لهذا المرجع الديني أو ذاك، بينما خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي تفتيت الأوطان والشعوب وجعلها ساحة حروب لقوى دولية وإقليمية تتصارع وتتنافس الآن على كيفية التحكّم بهذه الأرض العربية وبثرواتها.

 

هناك حتماً أكثرية عربية لا تؤيّد هذا الطرح «الجاهلي» ولا تريد الوصول إلى نتائجه الوخيمة، لكنّها أكثرية «صامتة»، ومن يتكلّم منها بجرأة ضدّ هذا العصر الجاهلي، يفتقد المنابر الإعلامية والإمكانات المادية، فيبقى صوته خافتاً أو يتوه هذا الصوت في ضجيج منابر المتطرّفين والطائفيين والمذهبيين الذين هم الآن أكثر «حظّاً» في وسائل الوصول إلى الناس.

 

العرب يحصدون اليوم نتائج زرعٍ متعدّد المصادر جرى في الأربعين سنة الماضية، وكانت بدايته في حرب العام 1967، من أجل اقتلاع فكرة العروبة من رؤوس العرب الطامحين بمستقبل أفضل لأمَّتهم وأوطانهم وأجيالهم الجديدة، وقد استغلّت أطراف خارجية ومحلية سلبيات كثيرة كانت ترافق فكر وممارسات الحركة القومية العربية.

 

في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه دعوات بديلة للهويّة العربية كانت تتمحور حول الدين والهويّة الإسلامية بمنظور فكري يرفض الانحسار في تسميات قومية ووطنية ويدعو إلى نظامٍ شمولي يقوم على الشريعة ويتحدّث عن «أمَّة إسلامية» أكبر وأوسع من جغرافية الأمَّة العربية.

 

لكنْ عقود زمنية طويلة من الطرح الفكري والممارسة العملية أثبتت أن «البديل الديني» للعروبة لم يفتح آفاقاً جديدة في الهويّة أو الانتماء، وإنّما قزَّم الواقع العربي إلى مناطق ومدن وأحياء في كل بلد عربي، فتحوّلت الهويّة الدينية الشمولية إلى هويّة في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إن كان من طائفةٍ أخرى أو مذهبٍ آخر، أو حتى من اتجاهٍ سياسيٍّ آخر!

 

ويخطئ من يعتقد الآن أنَّ نجاح بعض الجماعات الدينية في المواجهة مع قوى أجنبية أو محتلّة يعني ضماناً لمستقبل أفضل. بل إنّ في بعض هذه المواجهات، ذات الأساليب الإرهابية، فائدة للتطرّف على الطرف الآخر الذي تقوده الآن إدارة أميركية قامت سياستها على أيديولوجية العنف والتطرّف أيضاً.

فالتطرّف الفكري وأسلوب العنف العشوائي لدى جهةٍ ما يخدم حتماً المقابل له في الجهة الأخرى.

 

حتى «مقاومة الاحتلال» أصبحت ظاهرة رهينة لمن يشوّهها فكرياً بالتطرّف، وعملياً بأسلوب العنف العشوائي الذي يستهدف المدنيين الأبرياء في أماكن عديدة من العالم. وكما فشل وما زال يفشل «البديل الديني» للهويّة العربية في توحيد شعوب هذه الأمّة، فقد عجز «البديل الوطني» أيضاً عن بناء مجتمعٍ تكون الأولويّة فيه للولاء الوطني. بل إنّه لا يمكن بناء أوطان عربية سليمة في ظلِّ غياب الهويّة العربية، وفي عصر الجاهلية السائدة الآن، والفهم الخاطئ للدين وللتعدد الفقهي فيه، ولكيفية العلاقة مع الآخر أياً كان.

 

إنّ تعزيز الهوية الوطنية يتطلّب إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل. فتحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي هو أمر مهم لبناء علاقات عربية أفضل، ولضمان استمرارية أيّ صيغ تعاون عربي مشترك، لكن المشكلة أيضاً هي في ضعف الهوية العربية المشتركة - كما هو في ضعف الهوية الوطنية - وطغيان التسميات الطائفية والمذهبية والعرقية على المجتمعات العربية. وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ لأزمة العلاقات بين البلدان العربية فقط، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلِّ بلدٍ عربي ولمواجهة مخاطر الانفجار الداخلي في كل بلد عربي.

 

إنّ المدخل السليم لنهضة هذه الأمَّة من جديد وللتعامل مع التحدّيات الخطيرة التي تستهدف أوطانها وشعوبها وثرواتها، هو السعي لبناء هُويّة عربية جامعة تلمّ شمل هذه الأمَّة وما فيها من خصوصيات وطنية وإثنية وطائفية، وتقوم على حياة سياسية ديمقراطية سليمة تعزّز مفهوم المواطنة وتحقّق الولاء الوطني الصحيح.

 

إنّ ذلك يحتاج حتماً إلى طليعة عربية واعية وفاعلة تبني النموذج الجيد لهذه الدعوة العربية المنشودة. ولن يتحقّق ذلك البناء في زمنٍ قصير لكنّه الأمل الوحيد في مستقبل أفضل يحرّر الأوطان ولا يفتّتها بعد تحريرها، ويصون الشراكة مع المواطن الآخر في الوطن الواحد، فلا يكون مُسهِّلاً عن قصدٍ أو عن غير قصد لسياسات أجنبية تفرّق بين العرب لتسود عليهم.

 

هناك بلا شك خميرة عربية جيدة صالحة في أكثر من مكان وهي الآن تعاني من صعوبة الظرف وقلّة الإمكانات وسوء المناخ الانقسامي المسيطر، لكن تلك الصعوبات لا يجب أن تدفع لليأس والإحباط بل إلى مزيدٍ من المسؤولية والجهد والعمل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة تماماً لصالح من يعبثون في وحدة هذه الأمّة ويشعلون النار في رحابها.

 

الظروف ستتغيّر عاجلاً أم آجلاً. وفكر التطرّف سيفشل عالمياً وهو ينحر نفسه كما ينحر الآخرين، إن كان ذلك المتطرّف حاكما هنا أو معارضا هناك، لذلك من المهم أن تكون هناك خمائر طيّبة جيّدة جاهزة تتحمّل مسؤولياتها في إعادة بناء ما هدمه ويهدمه القائمون على عصر الجاهلية والتطرّف الآن.

 

لقد سقطت بدائل العروبة في امتحانات كثيرة، لكن المشكلة أنّ هناك ندرةً حالياً في الأيدي الرافعة للعروبة!

5 تموز (يوليو) 2007

أضيفت في 01/12/2009/  خاص القصة السورية

  

 

منطلق العروبة هو أساس النهضة

بقلم الكاتب: د. صبحي غندور

 

 

ثلاثة عناصر تصنع الآن الحاضر العربي:

أوّلها وأهمّها، اهتراء الأوضاع السياسية الداخلية بوجهيها الحاكم والمعارض.

وثانيها، التدخّل الأجنبي في شؤون الأوطان العربية.

وثالثها، هو غياب المشروع الفكري النهضوي الجاذب لشعوب الأمَّة العربية ولجيلها الجديد التائه بين السلبية والتطرّف.

 

صحيحٌ أنّ هناك خصوصيات يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضاً مشاكل مشتركة بين أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل تنعكس سلباً على الخصوصيات الوطنية ومصائرها.

لذلك هناك حاجة ماسَّة الآن لخطاب عربي نهضوي مشترك، كما هي الحاجة للخطاب الوطني التوحيدي داخل الأوطان نفسها.

 

إنّ الحديث عن «نهضة عربية» مطلوبة يعني القناعة بأنَّ العرب هم أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة لكنّها تشكّل في ما بينها امتداداً جغرافياً وحضارياً واحداً، وتتكامل فيها الموارد والطاقات.

 

إنّ المتضرّرين من هذه «النهضة» هم حتماً من غير العرب الذين يعملون، في الماضي وفي الحاضر، على تجزئة الأمَّة العربية وتشجيع الانقسامات فيها حفاظاً على مصالحهم في المنطقة، وعلى مستقبل استنزافهم لثرواتها الطبيعية والمالية.

 

إنّ «الكلّ العربي» هو مكوَّن أصلاً من «أجزاء» مترابطة ومتكاملة.

 

فالعروبة لا تلغي، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية، أو القبلية، أو الوطنية، أو الأصول الأثنية، بل هي تحدّدها في إطار علاقة الجزء مع الكل.

 

إنّ القومية هي تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً، أو نظاماً للحكم، أو مضموناً عَقَديّاً/أيديولوجياً. لذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن «فكر قومي» مقابل «فكر ديني»، بل يمكن القول «فكر علماني» و«فكر ديني»، تماماً كالمقابلة بين «فكر محافظ» و«فكر ليبرالي»، و«فكر اشتراكي» مقابل «فكر رأسمالي»... وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة، في حين يجب أن يختصّ تعبير «الفكر القومي» فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي. ولذلك أيضاً، يكون تعبير «العروبة» هو الأدقّ والأشمل حينما يتمّ الحديث عن القومية العربية حتى لا تختلط مسألة الهويّة الثقافية المشتركة بين العرب مع قضايا المناهج والأيديولوجيات المتنوّعة داخل الفكر العربي ووسط المفكّرين العرب.

 

إنّ العروبة هي تعبير عن الانتماء إلى قومية محدّدة، لها خصائص وخصوصيات تختلف عن القوميات الأخرى حتى في دائرة العالم الإسلامي.

 

إنّ الدعوة إلى العروبة هي دعوة فكرية وثقافية، والانتماء إلى العروبة يعني التسليم بالانتماء إلى أمَّة واحدة يمكن أن تُعبّر عن نفسها بشكل من أشكال التكامل والاتحاد بين أبنائها... وهي رغم توافّر عناصر تكوين الأمَّة فيها، فإنها لم تصل بعد إلى حالة الانتماء إلى كيان سياسي موحّد، ولم يحصل ذلك تاريخياً من قبل على أساس مرجعية العروبة فقط. وللوصول إلى مشروع الكيان الواحد أو الاتحادي تتوجّب حتماً الأساليب المرحلية المتعدّدة شرط قيامها جميعاً على أساس ديموقراطي في الداخل وسلمي حواري في العلاقة مع الطرف العربي الآخر.

 

إنَّ الأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة بين أمم كلِّ العالم الإسلامي التي لا يصحّ التناقض فيها بين الإسلام والانتماء للعروبة.

 

فالأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة التي نسج خيوطها الإسلام ولم تكن موجودة قبله، وهي تتميّز بهذا عن بقية الأمم الأخرى ولو كانت أمماً مسلمة.

 

وبينما الإسلام هو دين وحضارة للعرب المسلمين، فإنّه حضارة وتاريخ وتراث للعرب المسيحيين.

 

فلو أمكن للهويّة القومية بشكل عام أن تتناقض مع الإسلام في أيَّ أمَّة في العالم، فهذا غير ممكن لها في الأمَّة العربية.

 

فالعرب كانوا هم حملة رسالة الإسلام، واللغة العربية هي لغة قرآنه الكريم وحاوية معظم تراثه الفكري، بل إنّ في توحّد العرب قوّة للعالم الإسلامي كلّه.

 

وهذه علاقة خاصّة جداً بين الثقافة العربية والدعوة الإسلامية، تتميز بها الثقافة العربية عن غيرها من الثقافات العالمية بما في ذلك الثقافات المنضوية تحت الإسلام وحضارته.

 

وهذه العلاقة الخاصة بين الثقافة العربية كإطار، وبين الحضارة الإسلامية كمضمون، وإن كانت تعني تمييزاً لا تمايزاً عن باقي الثقافات في العالم الإسلامي، لكنها أيضاً تعني دوراً مميزاً لها ولمن ينتمون إليها (أي العرب)، ففي الحفاظ على الثقافة العربية ولغتها، حفاظٌ على لغة القرآن الكريم وتسهيلٌ لفهمه الصحيح ولاستيعاب مضامينه.

 

هكذا هو تعبير «العروبة الحضارية» الذي يعني «الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري»، هذا المضمون الذي جاء به الإسلام ثم اشترك في صيانته ونشْرِه مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتالي خرجت الهويّة الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الإثني، ومن محدوديّة البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع في تعريفها لـ «العربي»، لتشمل كلّ من يندمج في الثقافة العربية بغضِّ النظر عن أصوله العرقية.

 

ودخل في هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من جذور أو أصول عربية من حيث الدم أو العرق.

 

ولا أعلم لِمَ هذا التناقض المفتعل بين العروبة والبعد الديني الحضاري في الحياة العربية، فتواردهما معاً هو واقع حال هذه الأمَّة، وهو حال مميِّز للأرض العربية التي منها خرجت الرسالات السماوية كلّها والرسل جميعهم، وعليها كلّ المقدّسات الدينية، ولغة أبنائها هي اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، والوعاء الثقافي للحضارة الإسلامية.

 

لقد كانت الطروحات الإسلامية والقومية موجودة منذ مطلع القرن العشرين بل وقبله، لكن التوقّف يحدث عند النصف الأخير من القرن العشرين لما له علاقة بوصول بعض هذه الحركات القومية والدينية إلى السلطة وتحوّلها عن الدعوة الفكرية إلى الممارسة السياسية في الحكم أو في المعارضة.

 

أيضاً النصف الثاني من القرن العشرين تميَّز عن نصفه الأول من الناحية العالمية بانتقال العالم من صراعٍ دولي وسط الدائرة الحضارية الغربية الواحدة (فرنسا- بريطانيا- إيطاليا - ألمانيا) إلى صراعٍ دولي ذي طابعٍ أيديولوجي (شرقي شيوعي/غربي رأسمالي)، وصراعهما المباشر وغير المباشر في بلاد العرب، والذي فرز المنطقة بطابع أيديولوجي وكان أحد أسباب صراعاتٍ عربية/عربية في أكثر من مجال ومكان.

 

أما سمات القرن الحادي والعشرين الذي نختم عقده الأول قريباً، فلا تقوم حتى الآن على صراع دولي بطابع أيديولوجي (عقائدي) بل على تنافس بين قوى وكتل كبرى على الاقتصاد والتجارة والمصالح، بينما المنطقة العربية تشهد مزيداً من الانقسام والتشرزم. وفي هذا العقد الأول لمسنا تراجُع الطروحات الاجتماعية التي كانت سائدة في منتصف القرن الماضي (الاشتراكية والعدالة الاجتماعية)، وبروز الطروحات السياسية حول الديموقراطية وأساليب الحكم السياسي.

 

كذلك ارتفعت شعارات «العولمة» و«القرية الكونية الواحدة» رغم وجود دعوات التمايز الثقافي والحضاري بين أمم وشعوب... وبالتالي ضعُف الحديث عن القوميات بالمعنى السياسي، وارتفع الحديث عن الخصوصيّات الثقافية والحضارية والتي قد يشترك فيها أكثر من أبناء شعبٍ واحد أو بلدٍ واحد.

 

فعسى أن نشهد قريباً ولادة حركة عربية جادّة تحرص على الهويّة الثقافيّة العربيّة ومضمونها الحضاري، وتنطلق من أرضيّة عربيّة ووطنيّة مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة لا الانتماء الطّائفي، أو المذهبي، أو الأصول العرقيّة، وتستهدف الوصول، بأساليب ديموقراطيّة لا عنفيّة، إلى «اتّحاد عربي ديموقراطي» حرّ من التّدخّل الأجنبي، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها كما تتساوى في كلٍّ منها حقوق كل المواطنين.

 

لكن النهضة العربية المرجوّة لها مواصفات وشروط تستلزم أولاً وجود طليعة عربية تجمع بين البناء الفكري السليم وبين الممارسة السياسية الشريفة، ويكون عملها في أطر مؤسسات قائمة على التفاعل الدائم المثمر مع الناس بمختلف مستوياتهم الثقافية، والعلمية، والاجتماعية.

20 سبتمبر 2009م

أضيفت في 01/12/2009/  خاص القصة السورية

 

د. صبحي غندور

مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن

alhewar@alhewar.com  

 

 

التعدّدية في مُجتمع إسلامي

 

بقلم الكاتب: المفكر والبالحث الإسلامي جمال البنا

 

مقدمة:

تصور البعض أنه لما كان الإسلام دين التوحيد. فإن التوحيد ينسحب على كل شىء فيه بما فى ذلك المجتمع ومظاهره وتجلياته من نظم وأوضاع وفنون وآداب وعادات وسلوك وأزياء الخ... فلا يوجد إلا نمط واحد فى كل مجال من هذه المجالات وهو ما يضع المجتمع الإسلامى فى قالب واحد لا يتغير ولا يتطور ولا يتعدد.

 

وقد يُذكر فى هذا الصدد "الوسطية" التى ينادى بها بعض المفكرين باعتبارها الموقف المختار للمجتمع الإسلامى تجاه التيارات المتعارضة يمينـا، ويساراً، شرقاً وغرباً، وهو تكييف سليم، وقد نص عليه القرآن. فلم يقل القرآن "أمة التوحيد" ولكنه قال ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾. ولكن هذا نفسه لا ينفى التعددية، بل هو يثبتها لأن الوسطية تفترض وجود الإفراط والتفريط. التحلل والتزمت. الإسراف والتقتير الخ... ولا يمكن تصور وسطية حيوية بدون تعددية، وإلا تصبح هى الوسطية الرياضية التى تعنى التوسط بين نقطتين أو أنها تتجمد فى قالب واحد وتأخذ طابعاً ثبوتيا، وهو ما يتنافى مع حيوية ودينامية الإسلام.

 

ويرى هذا البحث أن التوحيد فى الإسلام إنما أريد به الله تعالى وحده، وأن سحب هذه الصفة (الواحدية) على غيره أمر لا يجوز، بل إنه قد يصبح شكلاً من أشكال الشرك. لأن الله تعالى قد تفرّد بهذه الصفة، واضفائها على غيره شرك به. فتوحيد الله يستتبع تلقائيا التعددية فيما عداه.

 

ونحن فى استخدامنا لهذه الطريقة إنما نتبع الأسلوب الفريد الذى صاغه الإسلام فى إثبات الوجوب بنفي ما عداه. والشاهد الأعظم على هذا هو لا إله إلا اللَّهُ فهنا يثبت الإسلام وجود الله فى الوقت نفسه الذي ينفي ما عداه ولو أنه قال "الله موجود" هذه الصيغة وإن أثبتت وجود الله، ولكنها لا تنفي ضرورة ما عداه – أي أن يكون له أنداداً – فى حين أن "لا إله إلا الله" تثبت الله وتنفي ما عداه.

 

ومن هنا فإن لقب "دولة التوحيد" الذى يرسله البعض فى اعتزاز وفخر ليس وصفا سليما من ناحيتيه، فالإسلام ليس دولة، وإنما هو[1] أمة، وهذه الأمة تأخذ بالتعددية لا بالواحدية كما لا يمكن أن يقال "دولة الفضيلة" لأن نصيب الدولة فى إقامة الفضيلة أو تعزيزها تافه، بل قد يودى تدخل الدولة فى هذا المجال إلى المساس به.

 

والتعبير الصحيح هو "أمة العدل" لأن الإسلام بالنسبة للتجمع البشرى "أمة" ولأن طابعه الرئيسى فى القيم الاجتماعية هو العدل.

 

وقد وضع الإسلام للمجتمع البشرى كيفية أوردها القرآن الكريم تقوم على تفاعل ركائز أو قوى. فهناك هداية الأنبياء التى تعين الإنسان على سلوك الطريق المستقيم، وهناك غواية الشياطين التى تلقى به فى لجج الشهوات والشرور، وهناك الإنسان نفسه الذى يملك بما غرس الله فيه من عقل وفطرة أن يتجاوب مع هداية الأنبياء، كما يمكن – فى حالات أخرى – أن يستسلم لغواية الشياطين بالتفصيل الذى سيرد فى هذا الكتاب، فالمجتمع البشرى له طبيعة تعدّدية.

 

والمجتمع الإسلامى لا يشذ نوعياً عن المجتمع البشرى، لأن الإنسان مسلماً أو غير مسلم، له طبيعة واحدة، ولكن المجتمع الإسلامى يختلف فى الدرجة وليس فى الطبيعة، وفى بعض التجليات، وليس فى كلها، فلا جدال  أن فى الإسلام قوة خاصة تكيف سلوك المؤمنين به، وفيه من الضمانات ما تحول دون الاستسلام الكامل للشهوات والشرور أو الانسياق وراء خطأ الشيطان. أو انتهاج السرف والشطط، ولكن هذه الضمانات قد لا تحول دون ممارسات أدنى من ذلك لأن للطبيعة البشرية - بعد كل شىء - حكمها وضعفها، ولأن الله تعالى عندما جبل النفس البشرية ﴿َأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾.

 

وأى محاولة لفرض قالب واحد مصمت على المجتمع بدعوى التوحيد الإسلامى، أو حتى الوسطية الإسلامية، وأي تجاهل للعوامل العديدة التى تؤثر فى هذا المجتمع أو تقف فى وجه التعدّدية تكون محاولة محكوم عليها بالفشل بعد أن تستهلك وقتاً وجهداً كان البناء الرشيد والقصد السديد أولى بهما وهذه هي قيمة المعرفة، إذ هي تميز ما بين الخطأ والصواب كما تهدينا إلى السبل الموصلة والوسائل الناجحة. فإذا لم تكن لدينا المعرفة بهذا كله تخبطنا وتوزعتنا الطرق وغلبت المماحكة أو غرّتنا الأمانى وخدعنا السراب فنمضى طويلاً دون أن نصل إلى شيء.

 

ولكى لا يحدث هذا وضعنا هذا الدفتر من دفاتر الإحياء، وأن يكون الثالث، بعد الحرية وتثوير القرآن هو ما يعبر عن الأهمية الكبيرة للموضوع فى الفهم السليم للإسلام.

 

 

الفصل الأوّل
توحيد الله يستتبع التعدّدية فيما عداه

 

لم يصل دين من الأديان بتوحيد الله إلى الحد الذى وصل إليه الإسلام، وقد أهدرت اليهودية المعنى المطلق للتوحيد عندما جعلت الاهها الواحد إلها خاصاً ببنى إسرائيل، ومن ثم فلا معنى للحديث عن التوحيد فى اليهودية. أما المسيحية فقد ألقت ظلالاً كثيفة على الاهها الواحد بفكرة الأقانيم الثلاثة، فإذا أريد التوحيد بأجلى معانيه فليس إلا الإسلام.

 

فـ الله فى الإسلام هو الْوَاحِدُ الـ أَحَدٌ الفرد الصَّمَدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ولم يكن له كفئا أحد.

 

وقد أسهب القرآن الكريم فى عرض صفاته تعالى وكلها تصب فى هذا المعنى فهو الذى لا تدركه الأبصار وليس كمثله شىء. ونهى القرآن عن أن يضرب المؤمنون له الأمثال أو أن يجعلوا له أنداداً لأنه لا مثيل له.

 

وقد أمل الفلاسفة القدامى أن يصلوا إلى الجوهر الفرد الذى لا يتجزأ، وظن بعضهم أنه يمكن الوصول إليه، وأنه سر الكون، ولكن هيهات فقد أثبت العلم الحديث أن ليس فى الموجودات والقوى والعناصر جوهر فرد أو عنصر لا يتجزأ فكل شىء يتجزأ إلى ما لانهاية، وكل جزء يرتبط وينفصل عن بقية الأجزاء والجميع يدورون بانتظام أو بالتعبير المعجز ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.

 

وعندما يتحدث القرآن الكريم عن الله الواحد الأحد فإنه يتحدى الإدراك الإنسانى رغم ما يبدو من بساطته وبداهية فكرة الواحديه فما أن بفكر الإنسان حتى يعجز عن تصورها لأنه يعجز عن تصور كيان غير مركب من أجزاء وهو يتصور أنه إذا انتفت الأجزاء انتفى الكيان، ولا يوجد شىء، وليس إلا العدم ومن ثم فإما أن يكون مركباً من أجزاء وإما أن لا يكون، خاصة وأن القرآن يعزز ويعمق فكرة التوحيد وينزهها فنفى عنها كل شوائب التجسيد والتوثين، وأضفى عليها فى الوقت نفسه الحياة والقوة والإدراك والحكمة والسمع والبصر و99 اسما من الأسماء الحسنى بجانب الصفة الهامة التجريد ..

 

وعندما يقول الله تعالى عن نفسه إنه "الباقى" أو "الذى لا يموت" فإنه بالتبعية ينفى أن يكون لشىء أو مخلوق هذه الصفة- فكل ما نراه يتعرض للتغيير، وللموت وللفناء- ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾. والموت هو مصير الجميع فى هذه الحياة الدنيا ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾. ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ﴾.

 

ولو قلنا إن هناك خالقاً غير الله وباقيا غير الله لكان هنا شركاً بالله وخروجاً عن "التوحيد" الإسلامى لأنه يشرك أحداً فيما خص التوحيد الإسلامي الله تعالى – وحده – به.

 

وكذلك عندما يقول الله تعالى عن نفسه إنه الواحد الأحد ، فمعنى هذا أن ليس فى الكون أو المجتمع أحدية ولكن تعددية يمكن أن تصل إلى مئات وألوف الصور.

 

وقد ضلّ الفلاسفة وبعض الذين تحدّثوا عن "وحدة الوجود"، ووهم الشعراء الذين تصوروا الله تعالى فى الشمس البازغة والزهرة اليانعة والجمال الإنسانى فهذه كلها من آيات الله فى الخلق فى أحسن تقويم، ولكنها ليست صفاته وأبعد منها أن تمس ذاته.

 

كما ضلّ كل من تصوّر أنه يمكن بحكم إيمانه وتفانيه فى حب الله تعالى أن يصل إلى درجة من القرب بالله توجد نوعا من التوحيد فهيهات أنا للإنسان أن يصل إلى هذا ولم يصل الرسول إلا إلى "قَابَ قَوْسَيْنِ" من سدرة المنتهى لأن ما بعد ذلك يخالف طبيعة التوحيد ويمكن أن يصل إلى حد الشرك.

 

وعندما يقول الله تعالى فى عشرات، أو مئات الآيات أنه الخالق، فانه ينفى بالتبعية أى خلق لغير الله تعالى ويصبح من ينسب قدرة الخلق إلى غير الله مشركاً، وهو الذنب الوحيد الذى أعلن الله تعالى أنه لا يغفره إلا أن يتوب.

 

وهو لا يكتفى بهذا المعنى الضمنى، بل يعلنه مراراً وتكراراً فمن غير الله يخلق؟ إن كل شىء عدا الله تعالى مخلوق ..

 

ووصل حرص الإسلام على إفراد الله تعالى وحده الخالق. أن حرّم الإسلام فى المرحلة الأولى لظهوره التصوير ونحت التماثيل لأنها نوع من "الخلق" يمكن أن يؤدى إلى الوثنية، خاصة والعرب حديثو عهد بها. فجاء فى الحديث "من أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى فليخلقوا ذرة. "

 

ولا يجوز لأحد أن يقول عن سيده "ربّي" ولكن سيدى كما لا يجوز للسيد أن يقول "عبدي" ولكن فتاي ..

 

ولا يجوز لأحد أن يتألى على الله فيقول مثلا "والله لا يغفر الله له"! فمن ذا يتألى على الله، ومن ذا يعلم ماذا سيفعل الله.

 

ورفض القرآن فكرة أن يعبد العرب أوثانا ﴿لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ وندد بالذين اتخذوا أحبارهم أربابا دون الله، وفسر الحديث ذلك بأن هؤلاء الأحبار كانوا يحللون ويحرمون، وهذه المهمة هى ما ينفرد بها الله تعالى فقيام الأحبار بها نوع من الشرك.

 

بل حتى الشفاعة، التى ليست إلا رجاءً وسؤالا، لا يجوز إلا لمن أذن الله وبضوابط موضوعة- لأنه إذا عدمت هذه الضوابط فيمكن أن تتحول الشفاعة إلى الشرك أو أن تقارب الشرك.

 

من هذا نفهم إن ما تطرق إلى بعض الأذهان من وجود مجتمع إسلامى أحادى الطبيعة لأنه يدين بالتوحيد إنما هو لبس ووهم بل مفارقة لأن الإيمان بتوحيد الله يستتبع التعددية فيما سواه، وأن هذه التعددية تصبح أمراً لازماً بحكم الواحدية الإلهية، لأنها تعد الضرورة المنطقية أمام الواحدية الإلهية حتى لا تتطرق إثارة من شرك لمعنى التوحيد الإلهى- وفى الوقت نفسه فإن الله تعالى هو الذى أراد هذه التعدّدية ووضع لها آلياتها حتى لا يتطرق الخلل إلى هذه التعدّدية وبهذا نجد التوحيد الخالص بالنسبة لله تعالى والتعدّدية المنضبطة بالنسبة للمجتمع.

 

 

الفصل الثانى
إشارات القرآن إلى التعددية

 

كل من يتصفح القرآن الكريم، ويتأمل سوره سورة سورة، يجد أنه بمقدار ما حرص على إبراز وتأييد التوحيد بالنسبة لله تعالى بقدر ما أبرز التعدّديات فيما عداه.

 

بل إن القرآن نفسه كان من اكبر مصادر التعددية، ذلك لأن أسلوبه المجازى وصياغته المتميزة للكلمة تجعل لها معانى متعددة، فما من كلمة قرآنية أو آية إلا ويمكن تقديم عدد من التفاسير لها لأن القرآن أُنزل لكل المسلمين فى كل العصور وكان سر الأعجاز القرآنى أن الكلمة القرآنية تتسع لتأويل يتفق مع مفاهيم العصر الحديث، كما تقبلتها مفاهيم العصر القديم. بل إن الأحكام (العقوبات) القرآنية نفسها التى يفترض فيها التحديد- صيغت بصورة عامة مما استوجب أن تقوم السنة بدور كبير فى "البيان" القرآنى، ونشأت عن هذا كله مجلدات التفاسير والحديث وما بُنى عليهما من فقه وسمح جو الحرية الأول بظهور المئات والألوف من التعدديات فى العقيدة والشريعة قبل أن ينغلق باب الاجتهاد.

 

فالقرآن نفسه يُعَدُّ من أكبر مصادر التعددية، أو قل إنه الأصل فى التعددية الإسلامية.

 

ويوضح لنا القرآن صوراً من التعددية أبعد وأكثر مما يتصوره أنصارها.. فهذا الكوكب الأرضى الذى نعيش عليه ليس إلا وحدة صغيرة من ملايين أو حتى بلايين الكواكب تفصل ما بين الأرض وبينها مئات السنوات الضوئية، ويفوق بعضها الأرض حجماً مرات عديدة، ومره أخرى فإن كل هذه الكواكب والمجرات التى يضمها الكون ليست إلا عالم "الشهادة"، وهناك عالم آخر يطلق عليه عالم الغيب.. يبدأ حيث ينتهى عالم الشهادة، وفي عالم الغيب هذا جنّة ونار، وعذاب وثواب.

 

وفي عالمنا الصغير – كوكب الأرض – تتعدد الأنهار والبحار ويختلف الليل والنهار وترتفع الجبال والهضاب وتنخفض السهول والوديان.. وهناك أنواع بمئات الألوف من الحشرات والطيور والنبات أما الإنسان نفسه فرغم أنه واحد يسير على قدمين فإنه متعدد الجنسيات والألوان والألسنة واللغات والأديان والمعتقدات فالكون الأرضى ومجتمعه الإنسانى أبعد ما يكون عن الواحدية.

 

واستبعد القرآن أن يكون الناس أمة واحدة ينتظمهم اتفاق ورأى إنهم مختلفون، وسيظلون مختلفين تميز بعضهم عن بعض ألوان البشرة ولغة اللسان والعقائد والانتماءات.. وأنهم فى الأمة الواحدة سلف.. وخلف.. يختلف بعضهم عن بعض وأعتبر من آيات الله ﴿اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾، وما أكثر مادة "اخْتَلَفَ" فى القرآن "اخْتَلَفَ- اخْتَلَفْتُمْ- اخْتَلَفُوا- تَخْتَلِفُونَ- خِلَافٍ- اخْتِلَافِ- مُخْتَلِفٌ" فهذه كلها تدل على مساحة واسعة للاختلاف وبالتالي التعدّدية ...

 

وإذا كان القرآن الكريم قد وصف أمّة المسلمين إنها "واحدة" فهذا يعنى أنها واحدة فى عقيدتها ولكنه لا ينفى عناصر التميز والاختلاف والتنوع بين شعوب وفصائل هذه الأمة داخل الإطار الفسيح للعقيدة الواحدة.

 

على أن القرآن الكريم لا يكتفى بهذه الإشارات العامة إلى التعددية ولكنه يقرنها بعدد من القواعد التى ترسى التعددية، ثم يصل إلى الغابة عندما يقرر التعددية الدينية وتعايش الأديان جنباً إلى جنب.

 

ومن القواعد التى ترسي التعدّدية فى القرآن الكريم:

1-النص على أن الله تعالى خلق كل شىء من زوجين، وبهذا نفى الواحدية من المجتمع وأثبت التعددية ابتداء من زوجين أو "أزواجاً" بصيغة المجتمع.

 

﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ {36 يس}

 

﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا﴾ {11 فاطر}

 

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ {26 الشعراء}

 

﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ {49 الذاريات}

 

فهناك تعددية حتمية أدناها "الزوجيّـة" ..

 

2-تقرير مبدأ الـ دَرَجَاتٌ بما يتضمنه ذلك من تفاوت، وبالتالى تعدّدية وقد استخدم القرآن كلمة "دَرَجَة" ليميز بها بين فئات من المؤمنين فقال ..

 

﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ {95 النساء}

 

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ {132 الأنعام}

 

﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ {165 الأنعام}

 

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ﴾ {20 التوبة}

 

﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ {32 الزخرف}

 

وحتى بالنسبة للأنبياء ..

 

﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ {253 البقرة}

 

3-تقرير مبدأ استباق الخيرات، وجاء تصوير القرآن لهذا المبدأ متضمناً حرية انطلاق الأفراد من منطلقاتهم الخاصة ..

 

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ..﴾  {148 البقرة}

 

﴿... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ {48 المائدة}

 

﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ {100 التوبة}

 

﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ {32 فاطر}

 

﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ {21 الحديد}

 

4-تقرير مبدأ "التدافع" وهو أقوى من مبدأ استباق الخيرات، وقد جاء فى سورتي {البقرة} و{الحج}.

 

﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ {251 البقرة}

 

﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ {39-40 الحج}

 

وهذا المبدأ يصور المجتمع وفعالياته، والصراع ما بين الحق ودعاته والباطل وأشياعه. كما يشير إلى بعض تجليات التعددية فى الصوامع والمساجد والصلوات والبيّع...

 

5-شمول العطاء الإلهى ..

 

تحدث القرآن الكريم عن الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، أو الذين يستسلمون للمغريات، وتقبّل هذا كأمر واقع بحكم الضعف البشري الذي يستولي على بعض الناس. وأوضح أن عطاء الله ليس محظوراً عليهم، وأن حسابهم لا يكون فى هذه الدنيا، وإنما فى الآخرة ..

 

﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ {19 – 20 الإسراء}

 

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ {20 الشورى}

 

6-تقرير مبدأ حرية الاعتقاد- ولعل تقرير القرآن لهذا المبدأ- أعظم دليل على تقرير التعددية فى مبدأ هو صلب الأديان جميعاً : الاعتقاد، وجاء تقرير القرآن له صريحاً لا يقبل لبساً، وفى العديد من الآيات التى يضيق هذا الموجز عن استيعابها مثل:

 

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ﴾ {256 البقرة}

 

﴿... فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ {108 يونس}

 

﴿مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ {15 الإسراء}

 

﴿وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ {29 الكهف}

 

وأوضح القرآن أن الدعوة إلى الإسلام لا تستتبع قسراً أو إغراء.. أو حتى ما لابد وأن يساور نفس الداعية من أمل فى الهداية وضيق بالرفض.. لأن الهداية من الله ودور الرسول هو البلاغ وليس له أن يأسى لرفض الرافضين.

 

﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ {272 البقرة}

 

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ {99-100 يونس}

 

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ {56 القصص}

 

﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ {6 الكهف}

 

﴿أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ {5-7 عبس}

 

7- تقرير القرآن أن الأصل في الأشياء الحل، وفي الأعمال الإباحة، وهى وإن كانت صياغة فقهية إلا أنها مستقاة من الآية ...

 

﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ {93 آل عمران}

 

﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ {13 الجاثية}

 

كما أن ذلك هو مفهوم جعل التحريم والتحليل وقفاً على الله تعالى وحده فيما ينص عليه فى القرآن الكريم جلياً وصريحاً، ومثل هذه التحريمات معدودة ولا تمس الأصل الذي هو الحل، وما يعنيه من تعدّدية.

 

ويثبت تقرير القرآن لهذه القواعد، أن القرآن الكريم يتفهم المجتمع البشري تفهما صحيحاً وعميقاً، ويحترم طبيعته، وأنه لم ير هذه الطبيعة جسماً صلبا يستعصي على التطوير، كما أنه ليس جسماً طرياً تسير فيه سكين الإصلاح كما تسير فى قالب زبد.. وليس هو أيضاً عجينة رخوة هلامية، ليس لها قوام ويمكن تشكيلها حسب الإرادة أو الطلب. وإنما هو كيان معقّد مركّب متعدّد يتفاعل بطريقته الخاصة، وله الطبيعة العضوية للجسم الإنسانى الذى يكتسب وجوده وحياته من الأعضاء والدم والانسجة والأعصاب والعظام، كل منها يؤدى وظيفة محددة، وله الهيئة التى تمكنه من هذا وفى الوقت نفسه فإن عمل كل عضو من هذه الأعضاء يتلاقى ويتجاوب مع عمل بقية الأعضاء، وكلها تصب فى مجرى واحد وتستهدف غاية واحدة هى صحة الجسم الإنسانى وقيامه بمهامه نتيجة للتخصص الدقيق والتجاوب التلقائى بين كل هذه التخصصات، ويتم هذا بنعومة وسرعة تفوق فى بعض الحالات لمح البصر.

 

ويصدق هذا التصور على جسم كل فرد من البلايين الذين يمثلون مجموع الجنس البشري وفى الوقت نفسه فما من فرد من هذه البلايين يشبه الآخر شبهاً تاماً فى كل شيء، وقد نجد عدداً من الأخوة الأشقاء لأب وأم، وكل واحد منهم يختلف عن الآخر.. فبعضهم يرث صفات عن أمه، والبعض الآخر عن أبيه والبعض الثالث عن صفات مضمورة فى الأعمام والأخوال والأجداد الخ... وما من واحد منهم له بصمة يد تشبه بصمة أخيه. فضلاً عن الآثار الاجتماعية المكتسبة والمختلفة لكل واحد كحظه فى الزواج والعمل، والموقع الذي يعيش فيه والتعليم الذي ناله.

 

هذه هى صورة المجتمع البشري، والقرآن الكريم الذى تنزل من لدن خالق هذا المجتمع، يعامل المجتمع تبعاً لهذه الطبيعة.

 

وكان يجب أن تؤدي طريقة تعامله مع المجتمع البشري وإشاراته المتكررة التى تصب فى بحيرة التعدّدية لجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً تعدّدياً بمعنى الكلمة تزدهر فيه الآراء.. وتتلاقح الأفكار ويدلى كل واحد بدلوه، ويرفع كل واحد صوته، ولكن هذا لم يتحقق إلا فى بعض جوانب الحياة، ولفترة محدودة مما جعل الإنسان يتساءل كيف حدث هذا، ولماذا ...

 

لقد كانت الفترة الذهبية القصيرة فى تاريخ الإسلام هى الفترة النبوية والخلافة الراشدة، وقد حدثت فى مجتمع ساذج بسيط هو المجتمع ما بين مكة والمدينة فلم يتطلب تعدّدية كبيرة، ومع هذا فإن صحيفة الموادعة التى وضعها الرسول غداة قدومه المدينة، واعترفت باليهود جنباً إلى جنب الأنصار والمهاجرين واعتبرتهم "أمّة واحدة" نموذج فريد فى تقبّل التعدّدية على قدم المساواة وداخل إطار فسيح يضم مختلف الأعراق والديانات.

 

كما أن موقف الرسول من "المنافقين" الذين صرح القرآن بكفرهم، وعدم اتخاذ إجراء نحوهم، بل صلاة الرسول على جثة كبيرهم عبد الله بن أُبَيّ هى صورة نادرة من السماح بوجود الآخر.. وقبول ما يعلنه رغم أنه يضمر عكس ذلك الأمر الذى يضع مبدءاً من أخطر المبادئ وأهمها هو أن المحاسبة تكون على الظاهر، أما باطن الإنسان، وما يقر فى أعماقه وبين جنبيه فيجب أن لا يكون موضوعاً لبحث أو محاسبة، كما يجب ملاحظة أن إشارات القرآن الخاصة بحرية الاعتقاد كانت فى أصل سماحة الإسلام تجاه الأديان الأخرى وإقراره كل ذى دين على دينه على نقيض سياسة الدول الأوربية التى كانت تفرض على اليهود والمسلمين نبذ دياناتهم والإيمان بالمسيحية حتى مشارف العصر الحديث.

 

ولو أستمر التقدم الحضارى للمجتمع الإسلامى، ولم يبتلِ بما أوقفه، لكان من المحتمل أن تصل التعدّدية فى هذا المجتمع إلى مستوى قريب مما وصلت إليه التعدّدية فى المجتمع الأوروبي لأن طبيعة التعدّدية تملي عليها ظهور التجليات العديدة للنفس البشرية حسنة أو سيئة، وصور الإغواء وإشباع الشهوات بمختلف الطرق، وسنرى التكييف "الشرعي" لمثل هذا الوجود فى مجتمع إسلامي طبقاً لما يقرره القرآن، ولازدهرت الفنون والآداب ومشاركة المرأة فى حياة المجتمع، ولما فقد المجتمع جمالياته التى جعلته يشبه صحراء غبراء بلقع.. إن هذا التطور لم يحدث، فقد قضت عليها النظم الحاكمة الاستبدادية والتقليد الفقهي المغلق.

 

ويصور تطور الفقه الإسلامي هذه المأساة ففي فترة الازدهار طوال القرون الثلاثة الأولى تعدّدت الاجتهادات تعدّداً وصل إلى حد البلبلة، وتعدّدت، وتناقضت الأحكام فى المدينة الواحدة وبقدر ما كان هذا يدل على  درجة عالية من الحرية والخصوبة فى الفكر، بقدر ما كان يتطلب نوعاً من التنظيم، ولكن هذا تأبى على المجتمع وقتئذ. فالتجأ الفقهاء إلى إغلاق باب الاجتهاد.. وكانت تلك بداية النفق المظلم الذي سار فيه الفكر الإسلامي قرابة عشرة قرون فقد تجمد الفقه، وحُبِسَ في قميص المنطق الصوري الأرسطي، وتجمّد معه الفكر الإسلامي.. وشيئا فشيئا أصبح الفقهاء هم رجال القانون الذين يحفظون النظام القائم ويعبرون عن سياساته، وبذلك فقد المجتمع الإسلامي حرّيته الفكريّة بعد أن فقد حرّيته السياسية.

 

والحرّية هي أم التعدّدية فإذا لم تعد حرّية فليس هناك تعدّدية:

ومع هذا فإن المجتمع الإسلامى بحكم الحيوية الفائقة للإسلام والروح الثورية والتحررية للقرآن، لم يفقد صوراً عديدة "للتعددية" فظهر فى  العصر العباسى فى بغداد ما لم يظهر فى روما من التعددية الفكرية ما بين الإلحاد (أو الزندقة كما كانوا يقولون) حتى التزمت فظهرت الطرق الصوفية وازدهرت بينما انتعشت دعوة "إخوان الصفا" الغامضة المتحررة ووجدت من الملل والنحل ما ملأ كتاب ابن حزم والشهرستانى، وما يصعب تصوره الآن، وقرأنا عن ندوات تجمع الصوفى، والملحد والمتكلم والفقيه لا يرفض أى واحد منهم الآخر، ولكن يكله إلى خالقه.

 

أما فى القضية الحساسة "المرأة" التى كان يمكن أن تكون أصلاً لعدد كبير من التعدديات فإن إشارات القرآن إلى تحريرها ومساواتها، وممارسات الرسول المتعاطفة مع المرأة. لم تنجح كلها فى اقتلاع "حمية الجاهلية" التى انتقلت من العهد الجاهلى حتى العصور التالية.. وكان المجتمع الجاهلى الذى يقوم على النهب والسلب لا يعترف بالمرأة لأنها لا تحارب ولا تأتى بغنيمة وترسب هذا المعنى فى نفسية المسلمين حتى بعد أن تغير المناخ الاجتماعى فى بغداد، وقد حل هذا المجتمع مشكلة المرأة باتخاذ الإماء (الجوارى) والقيان والسماح لهن بأداء دور يكسر حدة إبعاد المرأة عن الحياة وحجبها فى البيوت بحيث سمح هذا التطور بظهور صور من المجتمع المختلط وإن لم تكن الصورة سليمة ..

 

فإذا كان انعدام التعددية فى المجتمعات الإسلامية إنما يعود بالدرجة الأولى إلى فقد هذه المجتمعات لحرياتها السياسية والفكرية، وليس إلى سبب أصولى فى الإسلام فإن استعادة هذه الحرية يمكن أن تحقق التعددية، وتلك هى المشكلة التى يكون على المجتمع الإسلامى الحديث أن يجابهها بقوة، ذلك أن الألفة الطويلة لعهود الانغلاق كادت تطمس الإشارات المتكررة للقرآن الكريم عن الحريات والتعدديات خاصة بعد أن قام المفسرون بتأويلها تأويلات تميل بها عن هدفها كما حدث بالنسبة لحرية الاعتقاد يدل على ذلك متابعة المفكرين الإسلاميين المحدثين لما ذهب إليه الفقهاء القدامى من تطبيق حد الردة على كل من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، إذا رفض الاستتابة، وهو نص مناقض لكل آيات حرية الاعتقاد فى القرآن الكريم التى عرضنا لها، بل ومناقض لسلوك وعمل الرسول الذى لم يحدث أبداً أن أوقع حداً لمجرد تغيير الدين، وإنما ضم إلى ذلك مقاومة الدولة والتخلى عن الجماعة والانحياز إلى الأعداء ..

 

وهو ما يدل على ضرورة معالجة القضية فى صورتها التى يمكن أن تأخذها عمليا معالجة لا تخشى المصارحة بل تقوم على المجابهة ...

 

 

الفصل الثالث

تقرير تعدّدية الأديان


-السبب التاريخى
-السبب الموضوعي

 

يصل القرآن إلى الغاية فى التعددية عندما يقرر -وهو الذى يختلف عن المسيحية واليهودية وبقية الأديان الأخرى- قبول وجود هذه الأديان والتعايش معها ..

 

وهذا الموقف الفريد – لأننا لا نعلم مثيلاً له بين الديانات الأخرى – يعود إلى سببين أولهما تاريخى وثانيهما موضوعي.

 

أما السبب التاريخي:

فإنه يعود إلى النشأة التاريخية للديانات السماوية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام.

 

فكما هو معروف فقد ولد سيدنا إبراهيم فى العراق وعاش ردحاً من الدهر فى "أور" "الكلدانية" ثم تنقل ما بين مصر وفلسطين حتى مات ودفن فى بئر سبع.

 

وكانت زوجة إبراهيم "سارة" عاقراً فدفعت بسيدة جاءت بها من مصر هى هاجر إليه ليتزوجها عسى أن تلد له ولداً. وهذا ما حدث فقد ولدت له هاجر بكر أبنائه "إسماعيل" وتملك الغيظ والغيرة سارة، ودفعت زوجها لأن يبعد هاجر وأبنها عنها. فأخذهما إلى الحجاز وأودعهما ذلك المكان الذى سيصبح أقدس الأماكن، وتركهما. وبعد فترة أشتد العطش بها وبطفلها، وأخذت تروح وتجئ بحثاً عن المياه حتى عثرت على بئر زمزم فارتوت، ولاذ بالبئر نفر من العرب، ونشأ إسماعيل معهم وتزوج منهم وأصبح رأس العرب العدنانيين الذى سيولد منهم رسول الإسلام العظيم محمد بن عبد الله.

 

وقد لا يفهم الإنسان الحكمة فى هذه العملية كلها، وقد يستشعر غيظاً من سارة التى أصرت على إبعاد هاجر وإبراهيم الذى أطاعها، ولكنهما كانا مسيرين بإرادة الله وبعنايته الذى شاء أن يستقل هذا الفرع من أسرة إبراهيم بدين هو الإسلام.. وبشعب هو العرب.

 

ولنعد إلى السياق فبعد أن عاد إبراهيم إلى موطنه أوحى إليه الله تعالى أن سيرزق من سارة العجوز بابنين هما أسحق، ثم يعقوب.

 

ومن يعقوب الذى يطلق عليه إسرائيل جاءت الأسباط التى كونت شعب بنى إسرائيل وتكرر بالنسبة ليعقوب ما حدث بالنسبة لإبراهيم فقد وقعت المجاعة المجاعة بديارهم وأرسل يعقوب بعض أبنائه إلى مصر ليمتاروا منها وغار الأبناء من أخيهم الصغير يوسف الذى كان والده يؤثره بالحب.. فتآمروا عليه وباعوه بدورهم لأحد حكام مصر.

 

وظفر يوسف باحترام الحاكم عندما فسر له حلمه المشهور عن سبع بقرات عجاف تأكل سبع بقرات سمان. بأن سيحدث فى البلاد قحط يستمر سبع سنوات.. وعينه مديراً لخطة مقاومة القحط.

 

وعندما جاء للمرة الثانية – أخوته – عرفهم بنفسه وطلب منهم إحضار الأسرة كلها فجاءوا وأقاموا فى إحدى مناطق الشرقية بالوجه البحرى، وأمضوا أجيالاً عديدة تكاثروا فيها حتى ضاق بهم المصريون فاستعبدوهم وشغلوهم فى بناء المعابد (وهذا لا ينطبق على الأهرام لأنه جاء بعد الأهرام بمئات، وربما آلاف السنين) حتى ظهر منهم موسى الذى تربى فى بيت فرعون ونشأ كنبيل مصرى ولكنه تبنى قضية بنى إسرائيل ودخل فى صراع مع فرعون وأيده الله وجعله نبياً وكتب له النصر على فرعون بحيث خرجوا من مصر "بيت العبودية" فذهبوا إلى فلسطين "ليستعبدوا" الفلسطينيين وتوالت الأجيال حتى ظهر فيهم عيسى السيد المسيح الذى أراد هداية خراف بنى إسرائيل الضالة فانقلبوا عليه وتوصلوا إلى محاكمته، وصلبه ﴿وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾.

 

وبعد قرابة ستة قرون من ظهور المسيحية أذن الله تعالى بظهور الإسلام على يد محمد بن عبد الله وهو سليل إسماعيل بن إبراهيم.

 

وكادت القضية تتكرر عندما أهدى المقوقس للرسول مارية المصرية القبطية، وعندما أنجبت من الرسول وولدت له إبراهيم.. ولكن الله تعالى لم يشأ لإبراهيم أن يعيش فمات طفلاً.

 

وهكذا نجد أن الديانات الثلاث نشأت عن أب واحد، وهو ما يجعلنا نفهم كلمة الرسول عن الأنبياء أنهم "أبناء علات" أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، وارتبطت تاريخياً وجغرافياً بمكان وزمان متقارب قبل أن يتفرغ كل دين ويذهب إلى قارات الأرض، وكان يفترض أن تكون العلاقة بينهم كالعلاقة ما بين الأخوة، ولكن سدنة كل دين ضاقوا بالدين الآخر.. وساد الجميع نوع من الفتور، إن لم يكن العداء.. وكانت العلاقة على أسوئها ما بين المسيحيين من ناحية واليهود والمسلمين من ناحية أخرى، وكانت على أخفها ما بين المسلمين من ناحية والمسيحيين واليهود من ناحية أخرى، ذلك لأن الإسلام كان عليه كآخر الأديان أن يحدد الموقف بالنسبة للأديان التى سبقته فوضع مبدأ القبول لكل الأديان، وحرية أصحاب كل دين فى ممارسة دينهم دون أى تقييد، وتطبيقاً لهذا المبدأ ظفر المسيحيون واليهود بالحرية الدينية الكاملة.

 

ويغلب أن تدق الحكمة الإلهية فى الطريقة التى ظهرت بها الأديان الثلاثة، والسياق الذى أخذته فى حين أن إنعام النظر يمكن أن يكشف فى كل حركة منها حكمة فقد شاء الله تعالى أن يظهر إبراهيم فى الجناح الأيسر فى المنطقة العربية. ويغرس دينه فيها، ثم أراد الله أن يسكن أحفاده فى مصر ليظهر موسى ويعلن اليهودية ويقود بنى إسرائيل إلى فلسطين ليظهر فيها بعد عدة قرون المسيح ويعلن المسيحية.. وبعد عدة قرون أخرى أعلن محمد بن عبد الله – سليل إسماعيل الذى أبعد إلى الحجاز – الإسلام.

 

ولا جدال أن فى إرادة الله تعالى وجود الأديان الثلاثة جنباً إلى جنب حكمة كبيرة فقد أراد لها أن تتحد فى الأب وتختلف فى الأم فتكون "أبناء علات" كما قال الرسول ليتحقق فيها عنصر من الوحدة وعنصر أخر من التميز كما لم يشأ أن ينفرد واحد منها بالبشرية، فهذا يتعارض مع التعددية التى هى فى طبيعة المجتمع البشرى، وما لا يكون هناك مفر منه، وعادة ما  يفضل الأب أن يكون لأبنه الواحد أخ يلاعبه ويكسر فيه حدة الاحتكار ويحقق كل ما فى "التجمع" من مزايا سواء كانت فى العاطفة أو فى الإضافة، التى يضعها الثانى إلى الأول والثالث إلى الثاني.

 

فوجود أديان ثلاثة التى هى الحد الأدنى للجمع، وأتصاف كل منها بمعالم مميزة يمثل تعددية "الأسرة" التى تُعَّرف أبناءها قواعد التعامل والأخذ والعطاء وما يكون لها وما يكون لغيرها. وأداب الائتلاف والاختلاف وأن يكمل ما لدى الواحد ما ينقص الآخر. فاليهودية بتوحيدها الصلد، والمسيحية بمحبتها والإسلام بعدله. كلها تمثل التكامل المطلوب فى عالم القيم.

 

إن التكييف الإسلامى لهذه الدرجة من تعدد الديانات على أساس التعايش والتسامح والتكامل لهو أفضل الخيارات فهو أفضل من وجود دين واحد فحسب لن يتجاوب مع الطبيعة البشرية، ويحرم من مزايا المنافسة ووشائج القربى فى وقت واحد. وهو أفضل من وجود عشرات الأديان الذى يؤدى إلى التفتت وقيام العلاقات التى توجدها التعددية على أساس السماحة تمثل العطاء والتكامل وهو الوضع الأصولى لأنها كلها تبتهل إلى إله واحد وتنادى بقيم الحب والخير والعدل وما الذى يدفع دينا منها لأن يتكاثر على حساب الآخر وفى كل دين مئات الملايين ولكل دين نكهته وضرورته وأضافته إلى الحضارة ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.

 

إن الدين هو البيت الكبير الذى يضم على الأقل وما نحن بصدده، الأديان الأخوة "اليهودية والمسيحية والإسلام" الثلاثة، وأن يكون لكل واحد منها دور فيه يمثل قدراً من استقلال داخل الإطار الواحد، وأن يحب كل واحد نفسه وأبناءه لا يعنى بالضرورة أن يكره أخويه وأبناءهما أو ألا يخصهم بجانب من الحب لأن الحب يتسع للجميع ويسعد به الجميع .

 

ووجود أخوة ثلاث فى البيت أفضل من أن يستأثر واحد فحسب بالبيت، لأنه وإن كان البيت سيصبح خالصاً له، فسيكون عليه مسئولية القيام بنفقاته وأعبائه ثم يمكن أن يقع فى مزالق "المنفرد" الذى تتملكه الأثرة والأنانية، ولا يجد شريكاً يكبح جماحه ويتحمل معه الخسارة. أما الربح فإن استخدام العقل واستلهام القلب يضاعفه ويجعله أكثر مما كان يمكن للفرد وحده أن يصل إليه.  

هذا عن السبب التاريخى ..

 

أما السبب الموضوعى:

لتقرير الإسلام تعدّدية الأديان، فإنه يعود إلى تكييف الإسلام لفكرة "الله" باعتباره خالق الكون بأسره، والوجود كله. فى حين أنه فى الفلسفة كان مجرد "فرض لحل سلسلة الخلق" دون أن يتضمن هذا الفرض بالضرورة خصائص الحياة والفعالية والمقدرة الخ.. كما انه فى الأديان الأخرى كان إلها محليا، للمصريين أو البابليين أو بنى إسرائيل، بينما ألقت عليه الوثنية باوضار ولوثات تصوراتها الفجة والبدائية، إن "الله" فى الإسلام هو خالق الكون بأسره وجابل البشرية، وأصل القيم العليا من حكمة وقدرة وعدل وخير وسلام الخ.. وواضع النظم التى يسير عليها الكون كما يسير عليها المجتمع البشرى، وهو الذى أنزل الديانات كلها من لدن آدم حتى محمد، بما فى ذلك رسل وديانات لم يقصص علينا القرآن أنباءهم. فما دام الأمر كذلك فلا يفترض أن يكون فى تعددية الأديان تناقض أو تنافر لأنه تعالى هو الذى أنزلها ولأنه يرسل الرسل وينزل الديانات تبعاً لحاجات البشرية المتفاوتة والمتعددة حسب الأزمان والعصور والأجناس والملابسات التى تتحكم فى كل جنس وشعب. وهذه الأديان كلها تؤثر، وتتأثر بأوضاع مجتمعها، ولا يستشعر القرآن حرجاً أو حساسية فى ذلك لأن كل شئ من خلق الله.. فلن يكن فرار من قدر الله إلا إلى قدر الله، وعندما سئل الرسول "ارأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وثقاة ثقيها هل ترد من قدر الله فقال هى من قدر الله" ولأن الله تعالى وضع أصولاً ومبادئ تحكم المجتمع.

 

وفى الوقت الذى لا يمكن أن يغيب مثقال ذرة فى هذا الكون اللانهائى عن علم الله. فإن الإنسان ليعطي نفسه أهمية قد لا تكون له إذا تصور أن الله تعالى ليس لديه عمل إلا متابعته، فأين هو من ملك الله..

 

من هنا فإن منطق الخطأ والصواب لا يمكن أن يطبق على الأديان. فكل دين يمثل إحدى احتياجات البشرية. واختلافها يعود إلى إختلاف الاحتياجات والملابسات والعصور والبيئات.

 

وليس هناك حساسية فى القول بأن الأديان، وأن كانت منزلة من الله فإنها تصبح "ظاهرة اجتماعية" عندما يتعامل الناس معها. الأمر الذى أشار إليه القرآن عندما تحدث عن غلبة الأهواء التى تحرف الكلم عن حقيقته وآثار مر الغداة وكر العشى وتوالى القرون وكيف تقسوا القلوب عندما يطول عليها الأمد وتتجمد المشاعر والعواطف أو تتقولب الخ..

 

يجب أذن التفريق بين ما جاء فى القرآن الكريم الذى هو التعبير الحقيقى عن الإسلام. وبين ما ينتهى إليه رجال الدين فى كل عصر وأوان من فهم لحقيقة الرسالات الإلهية لأن هذا الفهم لابد وأن يتأثر برواسب فكر هذه المجتمعات. وقصور الإدراك البشرى وغلبة المصلحة والذاتية على نفوس الذين يتحدثون باسم الأديان ويرون أنفسهم حراسها وحفظتها وما يسلك إليهم مع احتكارهم لتمثيل الدين من انحرافات.

 

وهذه الظواهر توجد فى كل المجتمعات ويتأثر بها رجال الدين من مسلمين أو مسيحيين أو بوذيين الخ.. وهى السر فيما يصدره رجال الدين من أحكام ينسبونها إلى الدين.

 

وموقف الإسلام الذى جلاه القرآن الكريم واضح دون خفاء، وقد كرره القرآن مراراً وتكراراً فى عديد من الآيات. أن الله تعالى أراد هذه التعددية الدينية، بما تتضمنه من اختلافات لا مناص عنها بحكم ما أرساه الله من أسس يسير عليها المجتمع. ولما كان الاختلاف ليس فحسب وارداً، بل هو مطلوب، فإن الله تعالى خص نفسه بالفصل فيما كانوا فيه يختلفون يوم القيامة.

 

وبهذا حسم القرآن شأفة الخلاف، وحرّم على كل فريق أن يدّعي الأفضلية وأن يرى أن الآخرين ليسوا على شيء، ولأن يدعى الجنة لنفسه والنار للمخالفين فهذا ليس من حقه، وفيه أفتيات وتألى على حق الله تعالى، وأن هذا كله "أمانى" يصدر عنها كل فريق من منطلق ذاتى والأمر ليس بأمانى المسلمين أو أهل الكتاب أو غيرهم ..

 

وحكمة الله تعالى فى هذا كله أن الأديان رغم اختلافها تنتهى كلها إلى حقيقة واحدة هى الألوهية فالاختلافات لا تنال الجوهر – كما يبدو لبعض الذين يحول استغراقهم فى أنفسهم دون فهم الآخرين. فالملايين فى أوربا وأمريكا الذين يقولون "أبانا الذى فى السماء" لا يفهمون منه إلا ما يفهمه المسلمون من حديث "الناس عيال الله" ومن المؤكد أنهم لا يفهمون، ولا يعنون بالأقانيم الثلاثة وعلاقة كل واحد بالآخر، أما التعميد فى المياه، أو تناول القربان فليس إلا طقوس وتقاليد لا تضر، وقد تفيد، وفى هذه الدول التى لا تؤمن بالإسلام يعمل الناس بجد وإخلاص ولديهم الصدق فى القول والإتقان فى الأداء والوفاء بالعهود والخلق الحسن، كما يعد كذب الساسة فيما يدلون به من وقائع أو بيانات أمام القضاء أو مؤسسات الدولة جريمة كبرى قد لا يكفر عنها إلا بالاستقالة كما حدث بالنسبة لنيكسون الذى أتهم بالتجسس على خصومه السياسيين وللرئيس كلينتون بالنسبة لعلاقته بإحدى موظفات البيت الأبيض، وقد تعرض للوم والتقريع ودفع غرامة كبيرة والحرمان من ممارسة المحاماة لمدة خمس سنوات فى حين أن معظم قادة الدول الإسلامية ليس لهم من كلام إلا الكذب والتزييف وليس لهم من عمل إلا الاستبداد والتحكم، وبهذا فإن المجتمعات الأوربية قد تكون أقرب إلى الله، وإلى المثل والقيم الإسلامية، من عديد من المجتمعات التى تدعى الإسلام.

 

أذكر أنى كنت فى شتاء عام 1948 فى معتقل الطور مع الإخوان المسلمين الذين اعتقلوا بعد الحل الأول للإخوان. وكان المعتقل الذى غرس وسط الصحراء القاحلة يبدو ليلاً متلألئ الأضواء بفضل المصابيح الكهربائية التى أقامتها إدارة المعتقل لفرض الحراسة وبفضل ما توصل إليه الإخوان خاصة الكهربائيين منهم من استخدامات للطاقة الكهربائية فى تسخين المياه للاستحمام والغسل والطهى الخ.. وكنت أقول للإخوان إلا تظنون أن الله تعالى سيدخل "أديسن" الجنة، بعد أن أتاح للبشرية كل هذه الأنوار فيردون بقوة "كلاً أنه لم يؤمن بالله ولا الرسول" وكأنهم تصوروا أن الإسلام ظهر فى أمريكا وأن الرسول دعا أديسن والأمريكيين إلى الإسلام فرفضوا.

 

وكنت أرد عليهم – صدق الله ﴿قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا﴾.

 

وقد آن للدعاة الإسلاميين أن يعلموا أنه ليس مطلوباً منهم، أن يكسبوا للإسلام مؤمنين بأديان أخرى، وليس من حقهم أن يحكموا على الآخرين بالنار كأن مفاتيح الجنة والنار فى أيديهم. أن هذا منتهى الأفتيات والتألى بل الوقاح، فى حق الله تعالى. أن كل ما طلبه القرآن – بعد أن قال ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [2] هو أن يكونوا ﴿شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ ويقتضى هذا أن يعرفوهم على الإسلام ثم يتركوهم لأنفسهم لأن تغيير الدين ليس مسألة إيمان قلبى ونظرى فحسب، ولكنه يتطلب تعقيدات اجتماعية وترتيبات فى الميراث وغيره، ولأن الهداية من الله وليست من الرسول ..

 

ولكن يبدو أن كل هذا لم يفهم من المسلمين المعاصرين، ولم تؤثر فى أحكامهم وتصوراتهم أو فى النزعة الدفينة فى نفوس بعضهم، فقد قرأت عدداً خاصاً من مجلة التوحيد عن التعددية حاول أن يطرح هذه القضية بكل إخلاص وعمق ورغبة فى التوصل إلى الحقيقة، ومع هذا فإن التيار الفكرى الكاسح الذى يسيطر على الفكر الدينى جعل محور المعالجة يدور حول أمرين:

 

الأول: هل يمكن قبول تعدّد الأديان، وهلا يعني هذا خطأ البعض وصواب الآخر ..

 

والثاني: ما هو مصير الذين لا يؤمنون بالإسلام يوم القيامة وهل سيكون مصيرهم إلى النار[3] ..

 

ثم لا يقفون عند هذا، ولكنهم يقطعون بانهم فى الجنة وأن مخالفيهم فى النار.[4]

 

وأى جرأة على الله مثل هذه الجرأة وهل يملكون هم مفاتيح النار أو يقدرون على زج الناس فيها.. وعلى أى أساس بنوا هذه النتيجة الفاسدة وأين هم من رحمة الله التى لا تحد، والتى تثيب بسبعمائة ضعف ولا تعد رحمة الأم بأبنائها إلا جزء من مائة جزء هى رحمة الله.. وفى النهاية قد لا يزج فى النار إلا بالمارد المتمرد، كما جاء فى أثر كريم. سنشير إليه فى فقرة تالية ..

 

وقد عالج هذا الموضوع معالجة وافية فقيه أزهرى مجدد لم يظفر بالشهرة التى كان يستحقها هو الشيخ عبد المتعال الصعيدي رحمه الله فى كتابه "حرّية الفكر في الإسلام" الذى ظهر فى أربعينات القرن العشرين، وسنعرض هنا للفقرة التى كتبها على طولها لتتضح الصورة.

 

فتحت العنوان الفرعي "رأي الجاحظ والعنبري في عذر غير المعاند في الحق" قال الشيخ عبد المتعال الصعيدي ..

 

"وهناك فريق آخر على رأسه الجاحظ والعنبرى من أئمة المعتزلة يرى أنه لا إثم على المجتهد مطلقاً، وإنما الإثم على المعاند فقط، وهو الذى يعرف الحق ولا يؤمن به عناداً واستكباراً، فالمجتهد المخطئ عند هذا الفريق غير آثم، ولو أداه اجتهاده إلى الكفر الصريح، لأن تكليفه عندهم بنقيض اجتهاده تكليف بما لا يطاق، والتكليف بما لا يطاق ممتنع شرعاً وعقلاً، وقد أجاب الجمهور عن هذا بأن التكليف بما لا يطاق ممكن غير ممتنع عقلاً ولا عادة، فلا يكون من المستحيل فى شئ، وفى هذا الجواب من الضعف ما هو ظاهر، لأن الله تعالى يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ {286 البقرة} فهو ممتنع شرعا وعقلاً.

 

ولا شك أن مذهب هذا الفريق ظاهر فى نفى الإثم مطلقاً عن المجتهد المخطئ بمقتضى دليلهم السابق، ولكن بعض المتكلفين رأى متطفلا عليه أن يقيده ببعض المسائل الخلافية بين الفرق الإسلامية، مثل نفى رؤية البارى تعالى، ومثل القول بخلق القرآن، فلا يدخل فيه ما هو من الكفر الصريح، ولكن هذا خلاف مذهب هذا الفريق كما هو ظاهر.

 

وقد استدل الجمهور لمذهبهم بإجماع المسلمين قبل ظهور هذا الفريق على وجوب قتال الكفار مطلقا، وعلى أنهم من أهل النار مطلقا، وهذا من غير فرق بين معاند منهم وغير معاند، ولو كانوا غير آثمين لما ساغ قتالهم، ولما كانوا من أهل النار أيضا.

 

والشق الأول من دليل الجمهور مبني على مذهبهم فى وجوب قتال الكفّار على كفرهم، وقد ثبت فى عصرنا بطلان هذا المذهب، لقوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ {256 البقرة} وكل آيات القتال فى القرآن ظاهر في أن قتالنا للكفّار مسبوق بقتالهم لنا، فنحن نقاتلهم على قتالهم لنا، لا على كفرهم، وقد بينت هذا فى بعض كتبى، وبينه السيد محمد رشيد رضا فى تفسير الآية السابقة من سورة البقرة، ولا داعى إلى ذكره الآن هنا، وسيأتى فى موضوعه من هذا الكتاب.

 

والشق الثانى من دليل الجمهور فيه مصادرة على المطلوب، لأن أصل النزاع بين الجمهور وهذا الفريق فى كون الكفّار غير المعاندين آثمين ومن أهل النار، أو غير آثمين ولا من أهل النار، ودعوى الإجماع فى ذلك لا قيمة لها، لأن الإجماع لابد له من دليل يستند عليه، والدليل قائم عند هذا الفريق على أن الكفار غير المعاندين غير آثمين، وهذا إلى إنكار بعضهم للاحتجاج به.

 

وقد ذهب الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" إلى مثل هذا، فذكر أن من لم يؤمن بالله ولا برسله ولا بنحو ذلك لا تجرى عليه أحكام المسلمين فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم بعضهم بعض، وليس معنى هذا أن من لم يؤمن بشئ من ذلك يكون كافراً عند الله يخلد فى النار، وإنما معناه أنه لا تجرى عليه فى الدنيا أحكام الإسلام، فلا يطالب بما فرضه الله على المسلمين من العبادات، ولا يمنع مما حرمه الإسلام كشرب الخمر وأكل الخنزير والاتجار بهما، ولا يغسله المسلمون إذا مات ولا يرثه قريبه المسلم فى ماله، كما لا يرث هو قريبه المسلم إذا مات.

 

أما الحكم بكفره عند الله فهو يتوقّف على أن يكون إنكاره لتلك العقائد أو لشئ منها بعد أن بلغته الدعوة على وجهها الصحيح، واقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، ولكنه أبى أن يقنعها ويشهد بها عناداً واستكباراً، أو طمعاً فى مال زائل أو جاه زائف، أو خوفا من لوم فاسد، فإذا لم تبلغه تلك العقائد، أو بلغته بصورة منفرة، أو صورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر، أو كان من أهل النظر ولكن لم يوفق إليها، وظل ينظر ويفكر طلبا للحق حتى أدركه الموت أثناء نظره، فإنه لا يكون كافراً يستحق الخلود فى النار عند الله.

 

ثم قال : "ومن هنا كانت الشعوب النائية التى لم تصل إليها عقيدة الإسلام، أو وصلت إليها بصورة سيئة منفرة، أو لم يفقهوا حجته مع اجتهادهم فى بحثها – بمنجاة من العقاب الأخروى للكافرين، ولا يطلق عليهم أسم الكفر. والشرك الذى جاء فى القرآن أن الله لا يغفره هو الشرك الناشئ عن العناد والاستكبار، الذى قال الله في أصحابه ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ {14 النمل}."

 

وهذا صريح فى اختيار الشيخ محمود شلتوت لمذهب هذا الفريق، لولا أنه خلط بين مذهب هذا الفريق ومذهب الجمهور فيما رتبه على ما ذهب إليه من النتيجة المقصودة، وهو أن من كان من الكفار من أهل النظر وظل ينظر ويفكر طلباً للحق حتى أدركه الموت أثناء نظره، فإنه لا يكون كافراً يستحق الخلود فى النار عند الله.

 

فإن هذا ليس محل الخلاف بين مذهب الجمهور ومذهب هذا الفريق فى الكافر غير المعاند، بل هو محل اتفاق بين الجمهور وهذا الفريق، لأنه مات طالباً للحق ولم يصل إلى رأى قاطع، وليس هذا هو الذى يخالف فيه هذا الفريق مذهب الجمهور، وإنما الذى يخالف فيه الجمهور هو من نظر واجتهد فأداء اجتهاده فى حياته إلى الكفر الصريح، وهذا هو الذى لم يشر الشيخ محمود شلتوت إليه، مع أنه فيما نقلناه عنه يرى رأى هذا الفريق الذى يفرق بين الكافر المعاند وغير المعاند.

 

وللبحث بعد هذا كله مجال فيمن هو المعاند ؟ فهل هو الذى يعرف الحق ولا يؤمن به ولو أقتصر على نفسه، فلم يحاول منع غيره من الإيمان بوسيلة قهرية أو جدلية، أو الذي لا يقتصر على نفسه بل يحاول ذلك مع غيره ؟ ومما يفيد فى هذا البحث خلاف الجمهور فى أبى طالب عم النبي فقد ذهب بعضهم إلى أنه مات على شركه، ثم ذهب إلى أن حمايته للنبي من المشركين تنفعه فى أخراه، وتنجيه من عذاب النار إلى ما لا يذكر من العذاب، لأنه يبلغ فى خفته إلى أبعد حد.

 

ولا يفوتنى بعد هذا أن أضيف إلى نقدى السابق للشيخ شلتوت نقدا آخر لإخفائه نسبة ذلك الرأى إلى صاحبيه القديمين – الجاحظ والعنبرى – وهما من أعلامنا الأقدمين، ونسبته إليهما تجعل له قيمة أكثر من نسبته إلى الشيخ شلتوت، وما كان هذا ليخفى عليه وهو رأى مشهور درسه وهو طالب فى كتاب مشهور من كتب علم أصول الفقه. وإن كنا على عهد الطلب لم ندرك قيمة هذا الرأى فى عصرنا، لما كان يحيط بنا من الجمود الدينى والفكرى، فمر علينا فى ذلك الكتاب كما مر غيره من مسائل علم أصول الفقه، ولم ندرك مدى ما وصلت به سماحة الإسلام إلى حد لا يوجد فى غيره من الأديان، ولم ندرك أن الإسلام يصل به إلى أن يكون أسمح دين لبنى الإنسان" انتهى كلام الشيخ عبد المتعال الصعيدي.

 

وما يمكننا إضافته – على طريقتنا في تقديم الاستشهاد بالقرآن واستخلاص الأحكام منه، أن نقول أن القرآن يتضمن العديد من الآيات التى تؤيد حرية العقيدة وتتقبل الأديان وتدع الاختلاف فيها إلى الله.

 

من هــذه الآيات ...

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ {62 البقرة}

 

﴿وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ {113 البقرة}

 

﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ {84 آل عمران}

 

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ {118- 119 هود}

 

﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ {24 - 25 سبأ}

 

﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ {1 – 6 الكافرون}

 

وتحدث القرآن الكريم عن اليهود والنصارى حديثاً منصفاً، يمثل الحياد والنزاهة التامة مما كان يمكن أن يكون درساً فى الموضوعية والأنصاف، ففى الوقت الذى ندد فيه بتعصب وإصرار اليهود، فإنه أعترف بما لدى البعض منهم من فضائل فقال ..

 

﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ {75 آل عمران}

 

﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَــرُوهُ وَاللَّـــهُ عَلِيــمٌ بِالْمُتَّقِيــنَ﴾ {113– 115 آل عمران}

 

﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾  {199 آل عمران}

 

﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ {83-82 المائدة}

 

واستغرب القرآن أن يدعوا اليهود الرسول ليحكم بينهم فقال:

 

﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ...﴾ {43 المائدة}

 

وتحدث عن الإنجيل ..

 

﴿.. فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾  {46 المائدة}

 

﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ {47 المائدة}

 

وكان توجيه القرآن للحكم على الآخرين أولهم، أن يترك ذلك لله. وأنها أمم قد خلت لها ما كسبت "ولا تسألون عما كانوا يفعلون. وأن الله أعلم بمن يضل عن سبيله"...

 

وقال القرآن بصريح العبارة ..

 

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ..﴾ {105 المائدة}[5]

 

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾  {134 البقرة}

 

﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ {25 سبأ}

 

﴿.. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى﴾ {30 النجم}

 

﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ {7 القلم}

 

ونحن لا نعلم على وجه القطع هل أرسل الله تعالى إلى أهل الصين والهند واليابان رسولاً أم لا، ولكننا نعلم يقيناً أن الله تعالى قال ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ {15 الإسراء}، ومن ثم فإن من الخطأ الحكم بأن اتباع بوذا وكونفوشيوس وهم – أضعاف المسلمين والمسيحيين واليهود – فى النار.[6]

 

ولما كانت السنة مبينة للقرآن ومطبقة لتوجيهاته فإن الرسول ما أن وصل المدينة حتى وضع وثيقة وحد فيها بين كل من يسكن المدينة وأعتبرهم "أمة دون الناس" "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم" وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الآثم الخ..[7]

 

وهناك أثر له دلالة عميقة هو ما جاء فى "مشكاة المصابيح"، مرويّاً عن عبد الله بن عمر قال كنا نسير مع النبي فى بعض غزواته، فمر بقوم فقال "من القوم" قالوا نحن المسلمون، وامرأة تحصب (أي توقد) بقدرها ومعها ابن لها فإذا ارتفع وهج تنحت به فأتت النبي r فقالت "أنت رسول الله؟" قال نعم قالت "بأبي أنت وأمي أليس الله أرحم الراحمين" قال "بلى" قالت "إن الأم لا تلقى ولدها فى النار" فأكب رسول الله r يبكي ثم رفع رأسه إليها فقال "إن الله لا يعذب من عباده إلا المارد المتمرد الذى يتمرد على الله وأبى أن يقول لا إله إلا الله" رواه ابن ماجة.[8]

 

فهل هناك تعددية دينية دون حساسية مثل هذه.. ولماذا لا يقبل المسلمون اليوم ما قبله الرسول نفسه عندما دخل المدينة، ولا يذهبون إلى ما ذهب إليه مما هو أقرب إلى رحمة الله؟ ..

 

ومنذ أن كتب الرسول وثيقة المدينة، وقال إن الأنبياء أخوة علات وأن الأديان هى "البيت الكبير" الجميل لولا ثغرة فيه، جاء الإسلام ليسدها، ومنذ أن قال "نحن أولى بموسى منهم" وقد نزل حبل صُرى من الرسول إلى أفراد من المسلمين آمنوا بتعددية الأديان وأخوة الأنبياء، ولعل أبرزهم هو أبن عربى فى أبياته المشهورة:

 

لقد كنتُ قبل اليوم أنكر صاحبى          إذا لم يكن دينى إلى دينه دانى

 

وقد صار قلبى قابلاً  كل صورة          فمرعى لغزلان وبيـت لأوثان

 

وديـر لرهبان  وكعبة  طائـف         وألواح تـوراة ومصحف قرآن

 

أديـن بدين الحـبّ أنىّ توجهت         ركائبه  فالحب  ديـنى وإيمانى

 

ومن أبن عربى أنتقل الحبل إلى أبن الفارض الذى قال فى "تائيّة السلوك":

 

وإن نـار بالقرآن محراب  مسجـد      فما بـار  بالإنجيل  هيكل بيـعة

 

وإن عبد النار المجوس  وما أنطفت      كما جاء فى الأخبار فى ألف حجة

 

فما قصدوا غيرى وإن كان  قصدهم      سواى وإن لم تكن أفعالهم بالسديدة

 

وظل هذا الحبل كامنا حتى بعثته يقظة الفكر الإسلامى فى العصر الحديث، فأعاد شوقى الفكرة فى ثوب قشيب:

 

رب  شقت  العبـاد أزمان لا           كتب بها، يهتدى  ولا أنبياء

 

ذهبوا فى الهوى مذاهب شتى           جمعتها الحقيـقة الزهـراء

 

فـإذا  لقبــــوا آلها  قوياً           فله بالقـوى  إليـك انتهاء

 

وإذا آثـروا  جميـلا  بتنزيه           فإن الجمال منـك حبــاء

 

وإذا  انشأوا التـماثيل غـرا           فأليـك الرمــوز والإيماء

 

وإذا  قدروا  الكواكب  أرباباً            فالمراد  الجــلالة  الشماء

 

وإذا  يعبـد الملوك فإن الملك           فضل تحبــو به من تشاء

 

وإذا  تعبد البحار مع الأسماك           والعاصفات  والأنـــواء

 

وسباع السماء والأرض والأرحــــــــام والأمهات  والآباء

 

لعلاك  المذكــرات  عبـيد            خضـع والمؤنـثات إماء

 

جمع الخلق والفضيلة سر شـــــف عنه الحجاب  فهـو ضياء

 

وقد لا تثير هذه الأبيات دهشة لشفافية روح الصوفى والشاعر، ولكن الذى يثير الدهشة أن يجدها بألفاظها تقريباً لدى فقيه يمثل الفقه الشيعى وهو أكبر وأشهر آيات الله فيه إلا وهو آية الله العظمى الإمام الخمينى الذى روى عنه ..

        "على بـوابـة  الخـان

        والمعبد والمسجد والدير

        وقعتُ منهاراً فى سجود 

        كأنك ترمقنى من هناك"[9]

 

 

الفصل الرابع

الحكمــة


-أصل مسكوت عنه من أصول الإسلام يقرّر الانفتاح والتعدّدية
-ماذا يعنيه القرآن بتعبير الحكمة
-لماذا ذكر القرآن الحكمة جنباً إلى جنب الكتاب

 

يعجب الإنسان كيف فات على الأئمة الأعلام أن يجعلوا من الحكمة أصلاً من أصول الإسلام ومصدراً من مصادر الفقه. بعد أن ذكر القرآن الكريم الحكمة مراراً وتكراراً، وقرنها بالكتاب.

 

أغلب الظن أنهم عزفوا عن الاعتراف بأصل ومصدر مفتوح غير محدد أو منضبط، يسمح بالانفتاح والتعددية، وهى صفات يضيق بها الفقهاء عادة، لأنها تفتح عليهم بابا لا يمكنهم التحكم فيه.

 

وقد ذكر القرآن الكريم الحكمة فى آيات عديدة منسوبة إلى الرسول ومقترنة بالكتاب مثل:

 

﴿وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ {129 البقرة}

 

﴿وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ {151 البقرة}

 

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ {123 البقرة}

 

﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ {34 الأحزاب}

 

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ {2 الجمعة}

 

وكان إيراد القرآن للحكمة بهذه الصفة مما دفع بالشافعى لأن يذهب إلى أن الحكمة هى السُنة، لأنه ليس للآيات من تأويل إلا هذا، وهو أمر كان يمكن قبوله لولا أن القرآن الكريم استخدم كلمة الحكمة فى آيات أخرى كثيرة بمعنى ينفى أن يكون المقصود بها السُنة. فقد آتى الله داود الحكمة.

 

﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ {251 البقرة}

 

﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ {20 ص}

 

كما آتى "الحكمة" لقمان:

 

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ {12 لقمان}

 

كما آتاها عيسى:

 

﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ﴾ {48 آل عمران}

 

﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي﴾ {63 الزخرف}

 

بل آتاها النبيين :

 

﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ﴾ {81 آل عمران}

 

كما تكلم عن الحكمة بصفة مجرد:

 

﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ {269 البقرة}

 

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ {125 النحل}

 

﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ {5 القمر}

 

إزاء هذه الآيات التى تجعل الحكمة جزءاً من رسالة الرسل وشريكة للكتاب، يكون علينا أن نرد على سؤال ذى شقين: الشق الأول هو ماذا يعنيه القرآن بتعبير "الحكمة" ؟ والثانى هو لماذا ذكر الحكمة جنبا إلى جنب الكتاب ولم يقتصر على الكتاب وحده ..

 

لعل أقرب تعيين لـ معنى الحكمة فى القرآن هو العقل الخّير والقيم العليا، والعلم الهادي الذي يستبعد الخرافة ويحول دون أن يضل المؤمنون ..

 

وقد يلقى بضوء على هذا أن الله تعالى وصف نفسه فى آيات كثيرة بأنه "حكيم" أو عزيز، وفي مواضع قليلة "خبيراً".

 

كما قد يعنينا أن نعلم أن "الحكم" وليس هو ببعيد فى الاشتقاق اللغوى من كلمة "حكمة" يراد به "القضاء" أو سياسة أمور الناس، وهى كلها تحتاج أول ما تحتاج إلى الفطنة والكياسة ومعرفة طبائع الأشياء وأصول الشريعة. والسنن التى يسير عليها المجتمع.. وهى فى إجمالها لا تخرج عما أشرنا إليه من المعرفة، والعلم والخبرة.

 

يعزّز هذا أيضا النصوص المتواترة والمتعددة فى القرآن عن الحث على التفكير وإعمال العقول والتدبر فيما خلق الله وأوجده من آيات وسنن والتعرف على آثار الحضارات القديمة وما تركوه من جنات وعيون الخ.. وأدل على هذا ما جاءت به الآية 37 من سورة الرعد ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾. فنجد هنا الجمع ما بين القرآن والحكم والعلم فى سياق واحد.

 

ومن ناحية أخرى، فمن المعروف أن الحكمة ترادف كلمة "الفلسفة" وأن "الفيلسوف" إنما هو "محب الحكمة" وقد فهم أبن رشد الحكمة التى ذكرها القرآن بمعنى الفلسفة.

 

وجاء فى مقال لأحد الباحثين عن معنى الحكمة ..

 

إن معانى الحكمة التى حددها اللغويون والمفسرون الإصابة فى القول والفعل، ومعرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، أو هى العقل، والعلم والفهم، والمصلحة، والموعظة، والفلسفة، أو المعرفة بالدين والفهم فيه، والنبوة، والفقه، أو هى بحسب الطبرسى فى كتابه "مجمع البيان فى تفسير القرآن" العلم الذى تعظم منفعته وتجل فائدته، وإنما قيل للعلم حكمة لأنه يمتنع به عن القبيح لما فيه من الدعاء إلى الحسن والزجر عن القبيح.[10]

 

ومهما قيل أو يقال فإن الحكمة لا تخرج أبداً عن معنى السداد والصواب، ووضع الشىء فى موضعه قولاً وعملاً فالحكيم هو الذى يحكم الشىء، ويأتى به على مقتضى العقل الواقع لا بحسب الميول والرغبات ولا يستعجله قبل أوانه أو يمسك عنه فى زمانه أو ينحرف به عن حدوده وقيوده كما يذكر محمد جواد مغنية فى كتابه "التفسير الكاشف".

 

والتعريفات التى قدمها فلاسفة الإسلام للحكمة لا تختلف فى جوهرها عما سبق ذكره، فهى عند الكندي "علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، لأن غرض الفيلسوف فى عمله إصابة الحق، وفى عمله العمل بالحق" (راجع رسائل الكندي الفلسفية)، والأمر نفسه نجده عند الفارابى وابن سينا.

 

أما ابن رشد فلعله خير من فصَّل العلاقة بين الحكمة والشريعة، وأثبت بما لا يقبل الشك أن الحكمة واجبة شرعاً وعقلاً. فهو يرى ابتداء فى كتابه "فصل المقال" أن الحكمة أو الفلسفة لو تعمقنا معناها فهى ليست شيئاً أكثر من "النظر فى الموجودات من حيث دلالتها على الصانع، أعنى من جهة ما هى مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعها، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم" وهذا توجيه واضح إلى أن غاية الفلسفة في النهاية الوصول إلى حقيقة وجود خالق لهذا الكون، ولا أدري هل توجد للدين عموماً، وللإسلام خصوصاً، غاية أجل وأسمى من ذلك " أ هـ .

 

نقول إننا وإن كنا نتفهم تفسير ابن رشد للحكمة فإننا نؤثر التعريف العام – أى العقل والعلم والفهم وإدراك روح الإسلام ومقاصده وقيمه. لأن الفلسفة قد تثير معنى اصطلاحيا يحصر الحكمة فى متاهات علم الكلام ويركز الاهتمام على ذات الله تعالى – كما عند المعتزلة – وكان أحرى بهم أن يستخدموا الحكمة فيما يحقق الخير للمجتمع والناس وما يصلح الأوضاع الاقتصادية والسياسية وينقلها إلى عالم الحياة الدنيا الذى تكون مفيدة وفعاله فيه، وليس إلى عالم الغيب وذات الله تعالى فضلاً عن أننا نهينا عن تقصيه وعمليا فإن اعتبار الحكمة هى الفلسفة وعكوف الفقهاء عليها أدى إلى إفساد الفلسفة، وإفساد الدين معاً.

 

إن هذا التفسير لمعنى كلمة "الحكمة" التى ترددت فى القرآن الكريم كأصل من أصول رسالة الأنبياء يعيننا فى الرد على الشق الثانى من السؤال، وهو لماذا ذكر القرآن الحكمة جنباً إلى جنب القرآن ولم يقتصر على الكتاب وحده ؟ الرد أن الكتب السماوية سواء كانت قرآناً أو إنجيلاً أو توراة هى بالدرجة الأولى كتب هداية، وقد تضمنت أصول وقواعد ومبادئ هذه الهداية، ولكنها لم تتضمن تفاصيل وجزئيات ذلك. كما لم تتناول جوانب أخرى عديدة تزهر بها الحياة الإنسانية، ولا يمكن أن يتضمنها كتاب واحد، وفى الوقت نفسه فلا يمكن تجاهلها أو إغفالها، فهناك الآداب من شعر أو نثر أو رواية، وهناك الفنون من تمثيل وموسيقى ورقص، وهذه الآداب والفنون تبلور العواطف والأحاسيس وما يجيش به القلب، وهناك الفلسفة وطرائقها فى البحث وهناك قبل هذا كله، العقل الإنسانى الذى يستبد به الفضول والاستشراف للمعرفة ونشوة الكشف عن الأفاق المجهولة، والتجربة.. بحيث يغير، ويبدل فى حياة الناس وأوضاع المجتمع، ويكون ما أراده الله له – وحيا ذاتيا فى نفس كل فرد يحمل النفثة الإلهية فى الإنسان، ويبدع نماذج وتجليات للحكمة التى تعزز الدين وتستكمل نقصه، وتحقق للحياة الإنسانية الثراء، والوفرة، والتعددية، وتربط ما بين القديم والجديد، الشرق والغرب اللغة العربية وغيرها من اللغات.

 

ولعل الله تعالى وهو العليم بذات النفوس لم يشأ للمسلمين أن يوغلوا فيما وجههم إليه القرآن من تقوى وورع بحيث يحيف هذا على حق الحياة الدنيا وما تتطلبه من مقتضيات فتذهب حياتهم الدنيا بدعوى الحرص على الحياة الآخرة والله تعالى يريد التوازن وأن لا يفقد المسلمون حياتهم ووجودهم الدنيوى فنص على الحكمة بجانب الكتاب وأورد ذلك فى الكتاب نفسه حتى لا يظن ظان أن الأخذ بها (أى الحكمة) يخالف الكتاب.

 

لأن الله تعالى أراد بجانب التدين الأخروى نوعاً من التدين الدنيوى، بل أنه أعترف بما تنزع إليه النفوس بحكم طبيعتها، ولم يأت الإسلام لقمع الميول والعواطف، ولكن للحيلولة دون أن تستبد الشهوات بالناس فلا يعنوا إلا بها.

 

ونحن لا نستبعد أن ينتهى هذا المنهج إلى ما قد يجافى الحكمة نفسها، والميل إلى بعض ما "تهوى إليه الأنفس"، ولكن لا يدق على من يتعمق فى الأمور أن يرى أن هذا إنما أريد به توقى شر أعظم. ونحن نرى فى حياتنا اليومية أن الإغراق فى العبادة وشدة الحرص على تجنب صغائر الذنوب قد أضاع على المسلمين حياتهم الدنيوية، وجعلهم يشقون على أنفسهم ويلزمونها بما لا يلزم، ويهدرون فى سبيل ذلك ما هو أجدى. وأنه أفقد فيهم حاسة الأولويات وواقع التعدديات.

 

هذا كله فضلاً عن أن معالجة الأوضاع لا يمكن أن تتم بتجاهل ما تتضمنه من جوانب قد لا تروق لنا.. إذ لابد من الاعتراف بها والتعامل معها تعاملاً موضوعياً علمياً، أى بالحكمة، وليس بالتجاهل أو بالقمع.

 

ولو أقتصر الله تعالى على ذكر الكتاب دون ذكر الحكمة لكان من المحتمل أن يتعسف فهمه وتفسيره فئات من الناس أو أن يتخذوا منه أداة تحقق مآرب خاصة، واتجاهات معينة ولضاقت مجالات الحياة بالإنسان ووقعوا فى قبضة "كهنوت" يعسر لا ييسر ويغلق لا يفتح ويضيق لا يوسع، وهذا هو ما حدث للأسف الشديد، عندما تجاهل العلماء "الحكمة" فحرموا الفكر الإسلامى الإفادة من ثمار الحضارات البشرية، قديمة وجديدة شرقية، وغربية. فحجروا واسعا، وحبسوا أنفسهم – والإسلام – فى دائرة مغلقة.

 

إن "ثورة المعرفة" فى العصر الحديث وتدفقها من أربعة أركان العالم ووصولها عبر المطابع والقنوات الفضائية والإنترنت وخدمات التصنيف وضع تحت أيدى البحاث كل كنوز العالم القديم، وكل مستجدات العصر الحديث بحيث أصبح "الكتاب" أى القرآن يمثل دليل العمل والإطار العريض للخطوط الرئيسية، أما ما يملأ الحياة فهى هذه العلوم والفنون والمعارف التى تتدفق فيما يشبه الفيضان من كل الدول المتقدمة. وأصبحت رمز ثروة وقوة العصر الحديث. ومن هنا تتضح حكمة الله تعالى فى النص عليها مرجعاً وأصلاً من أصول الإسلام لأنها هى أداة التعددية والانفتاح والإفادة من كل معارف العالم وهى بعد، ما يحقق العزة والمنعة والقوة للمسلمين.

 

وقد طبق الرسول توجيه القرآن عندما قال "الحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق بها"، وقال "اطلبوا العلم ولو فى الصين"، ووجه أصحابه لتعلم اللغات وأخذ باقتراح سلمان شق الخندق الخ ..

 

واليوم تنفض دعوة الإحياء الإسلامى الغبار من على الحكمة، وتعيدها إلى ما أرادها الله تعالى شريكة للكتاب فى الرسالة.. وتنهل من كل معين للحكمة. من علوم، وفلسفة، وآداب وفنون دون حرج لأنها أصل نص عليه الكتاب كمصدر للإسلام، كما أنها ليست إلا تجليات للفكر الإنسانى وما أودعه الله فيه من قوى تتوصل بها إلى الحقائق، وتصول، وتجول فى مجالات الإبداع الإلهى المعجز وتفيد منه وتثرى الحياة به، وتسعد القلوب والعقول، وتسد الحاجات – فلا تكون فاقة مادية ونفسية – ولا احتكار للمعارف ولا سدود قائمة تحول دون الإفادة من ذخائر الحضارة الإنسانية ..

 

 

الفصل الخامس

التعدّدية فى مجتمع إسلامي


-قضية الاختلاف والائتلاف
-هداية الأنبياء
-غواية الشياطين

 

التعدّدية فى مجتمع إسلامي

تعود الإشارات الكثيرة التى أوردناها عن التعدّدية فى القرآن الكريم إلى وجود أصل رئيسى لها هو التصور الخاص للإسلام لما يكون عليه المجتمع البشرى الذي أشرنا إليه إشارة موجزة فى مقدّمة هذه الرسالة، ولما كان المجتمع الإسلامى جزءاً من المجتمع البشري – حتى وإن كان له خصائصه المميزة – فإن ما يقال على المجتمع البشري يصدق بدرجات متفاوتة على المجتمع الإسلامي.

 

ولما كان المجتمع يضم ملايين الأفراد وآلاف الهيئات فلابد من وجود التعدّدية بحكم الأمر الواقع من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى لا يمكن لأي هيئة أن تستوعب الحقيقة. فالحقيقة أكبر أتساعا، وأكثر عمقاً وأشد تعقيداً وتعميقاً من مدارك فرد واحد أو هيئة واحدة. فالقصور البشري يحول دون ذلك، وغلبة الذاتية على الفرد الواحد أو النظرة الواحدة تجعلها لا ترى إلا بعداً واحداً من أبعاد الحقيقة وتؤثر على أحكامها، وتجعلها بعيدة عن الموضوعية. ويمكن بالطبع لفرد أو لهيئة أن تمسك بشعبة من الحقيقة، أما أنه، أو أنها تستطيع الإحاطة بالحقيقة فهذا ما لا يمكن. وما يعني أن لم يعد للآخرين فكر أو رأي أو مجال، وهو اختزال لمجتمع يناقض الطبائع الاجتماعية ولا يعني – فى النهاية – إلا فرض ديكتاتورية غشوية تقوم على الظلم وتنتهي بالفشل.

 

ومن الطبيعي أن تستتبع هذه التعددية وجود الاختلاف وقبوله لا على أساس أنه ضرورة سيئة ولكن على أساس أنه جزء لا يتجزّأ من بينة وكيان المجتمع، لا يمكن أن يقوم بدونه. ولما كانت تلك النقطة قد تبدو جديدة على الكثيرين ممن تثقفوا ثقافة إسلامية تقليدية واحدية، فقد رأينا أن نبسط القول فيها فى النبذة التالية.

 

قضية الاختلاف والائتلاف فى المجتمع الإسلامي:

الائتلاف والاختلاف هما قوام كل مجتمع، بما فى ذلك المجتمع الإسلامي.. فالمجتمع كالنسيج الذي يكتسب تماسكه وقوته من تلاقي اللحمة بالسدى. ومن تقابل الخطوط العرضية بالخطوط الطولية. والحقيقة أن الائتلاف والاختلاف لا يقتصر على المجتمع، فهما موجودان فى الكون كما أنهما موجودان فى الفرد، وداخل كل واحد منا تدور معارك وتحدث حروب لا يراها أحد ولا يحس بها صاحبها ما بين كرات الدم البيضاء والميكروب الذى يغزو الجسم ويصيبه بالأمراض، وهناك عمليات تتم فى جزء من ثانية غاية فى الدقة والتعقيد الكيميائى والكهربائى لتحويل الهواء إلى دماء وفرز الطعام وهضم ما يريده الجسم وطرد الزائد عنه الخ.. فالفرد الإنسانى كائن معقد، متعدد وأن كان هذا يتم فى إطار الكيان الفردى للفرد ولو عددت الخلايا التى تعمل داخله كما لو كانت جنوداً لأشبهت جيشاً جراراً يضم الملايين.

 

فإذا كان هو شأن الفرد، فإن هذا الفرد ما أن ينشئ أسرة حتى تتضخم المسئوليات، وتتعدد الائتلافات والاختلافات ما بين شخصه، وشخص زوجته، فإذا جاء الأبناء أضيف عامل جديد... وهذا كله بالنسبة لأصغر دائرة من دوائر المجتمع وهى الأسرة.. ولنا أن نتصور حجم الائتلافات والاختلافات فى الوطن الذى يضم ملايين العائلات والأسر ..

 

من هنا فإن التسليم بالائتلاف والاختلاف فى المجتمع، والالتزام بآدابه هو الضمان لأن لا يتحول الاختلاف الذي هو جوهر التعددية إلى خلاف هو جوهر الأحادية.. فالاختلاف يحتمل الرأى الآخر.. ولكن الخلاف يضيق بالرأى الآخر، وبالتالى يسد المنافذ والطرق أمام التعددية لينتهى إلى سيادة الرأى الواحد.. ونعتقد أن هذا من أكبر المخاطر التى تتعرض لها التعددية فى المجتمعات الإسلامية لأنها عادة حديثة عهد بالحرية. والكثير منها يؤمن بالإسلام "قولاً واحداً" وأن الحق هو ما يراه هو، والآخر نوع من الضلال. فإذا لم يلتزم الجميع بآداب الاختلاف ويؤمنوا أن الاختلاف فى الفكر لا يثير حفيظة ولا يقتضى عداوة بل إنه أمر مطلوب لأن الحقيقة أعظم من أن يستوعبها رأي واحد. وإن كان كل واحد يمكن أن يمسك بشعبة منها، وأن هذا لا يثير عداوة، ولا يبعث على التنديد بالآخرين، وأن الفكر والمجتمع هو غير الحساب والرياضة لا يعني الاختلاف فيه الخطأ والصواب بالمعنى الرياضي، وإنما هو النظر إلى بعد من أبعاد الحقيقة لم ينظر إليه الطرف الآخر أو التركيز على جانب لم يعطه الفريق الأخر حقه، وهذا لا يعنى أن يتضارب فريق مع الآخر أو يتناقض معه ولكنه يكمله.

 

إن الذين يرون – كالمودودي – أن المجتمع الإسلامي الأمثل هو المجتمع الذى لا يوجد فيه إلا إمام واحد وفكر واحد وحزب واحد يقودون اتباعهم إلى نفق مظلم، ويؤخذون بفكر نظري يناقض طبيعة الأشياء ولو قدر لهم الانتصار لجنوا على بلادهم أعظم الجنايات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

 

وهؤلاء لا يختلفون فى شيء عن جماعة أخرى تقيم مجتمعاً أحاديا لأن حديثا الله أعلم به يقطع بأن فرقة واحدة هي الناجية من الفرق السبعين التى ستختلف عليها الأمة...

وما على هذا تبنى النظم وتستخلص الأحكام ..

ويعطي ما جاء فى القرآن الكريم تحت مادة "اختلف" دلالات ثمينة تناقض الانطباع السائد، لأنها ترى أن الاختلاف ظاهرة طبيعية يقوم عليها الكون والمجتمع والفرد. فليس مر السنين إلا نتيجة لاختلاف الليل عن النهار ورأى القرآن فى هذا الاختلاف آية تثير الفكر ]إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ[. وهو معنى مكرر فى عديد من الآيـات كمـا تتمـايز العناصر والشعوب (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ). ورأى فى اختلاف الألوان جمالاً فى الطبيعة، والثمرات والجبال، وجعل الناس (شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).

 

ورأى القرآن الكريم أن الاختلاف فى المجتمع هو أمر لا مناص عنه، وأن الاتفاق أمر مستبعد، أن لم يكن مستحيلاً، وأن محاولة فرض رأى معين على الآخرين يثير العناد ويدفع للتمسك بالرأى الآخر ويصبب العلاقة بسم العداوة.. ولهذا فأنه أحال البت فى هذا الاختلاف إلى الله تعالى يفصل فيه يوم القيامة. وهو ما يغنى الفرقاء عن الصراع والكفاح والعمل بكل وسيلة لحمل الآخرين على التسليم لهم.

 

وكان هذا هو الحل الأمثل فما دام الاختلاف قائماً وما دام المطلوب هو أن لا يثير هذا الاختلاف العداوة والبغضاء والنزاع والخصام، فلا مفر من  إيكال الأمر إلى الله تعالى يفصل فيه يوم القيامة.

 

ومراجعة مادة "اختلفوا" في القرآن توضح ذلك كما يلي ..

 

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) {55 آل عمران}

 

(إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) {48 المائدة}

 

(ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) {164 الأنعام}

 

(اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) {69 الحج}

 

(قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) {63 الزخرف}

 

(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) {113 البقرة}

 

(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) {19 يونس}

 

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) {93 يونس}

 

(لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) {39 النحل}

 

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) {124 النحل}

 

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) {10 الشورى}

 

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) {25 السجدة}

 

(إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)  {3 الزمر}

 

(أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) {46 الزمر}

 

وثمة لفته هامة أشار إليها القرآن أكثر من مرة بالنسبة للاختلاف، تلك هى أن هيمنة البغى هي التي تجعل الاختلاف أمراً سيئاً ..

 

(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) {213 البقرة}

 

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) {19 آل عمران}

 

وأقرب المعانى إلى ما أراده القرآن الكريم بتعبير "بغيا بينهم" هو السلطة التى هى بطبيعتها مفسدة ويغلب دائما أن تغرس بذرة البغى، وبدون هذا لا يحتدم الاختلاف أو يتحول إلى عداوة، والتاريخ السياسى فى المجتمع الإسلامى شاهد على هذا. فأفضلية الإمام على كرم الله وجهه على أبى بكر أو عمر كان يمكن أن تكون اجتهاداً نظرياً صائبا، أو خاطئاً. ولكن عندما أصبح له مضمون سياسى وسلطوى تسبب فى انشقاق الأمة. كما أن فكرة خلق القرآن كان يمكن أن تعد حذلقة فلسفية أو ترف فكرى. ولكن عندما آمن بها الحاكم واتخذها مذهباً مقرراً فى الدولة أنتهى باضطهاد المخالفين وجلد الإمام الجليل أحمد بن حنبل.

 

فإذا كان القرآن قد أقر الاختلاف، ووكل الفصل فيه إلى الله تعالى يوم القيامة، فإن السُنة أيضاً أقرت الاختلاف عندما ارتأى الرسول أن للمجتهد المصيب حسنتين (أو أجرين)، وللمخطأ حسنة (أو أجر) فأثاب المجتهد الذى يخطئه التوفيق، فإذا كانت حسنة التوفيق قد اخطأته، فإن حسنة الاجتهاد لم تفته. وهذا أقصى ما يمكن أن يصل إليه الاعتراف بالتعددية وبحرية الفكر لأنه يجاوز إطار الإقرار إلى درجة التشجيع.  كما أن الرسول أقر الاختلاف فى جانب هام له قداسته الخاصة وهو قراءات القرآن. فقد صعب على بعض قبائل العرب النطق بلغة قريش فى بعض الآيات ونطقوها بطريقة مختلفة فأجاز الرسول لهم ذلك ما دام التغيير مقصوراً على طريقة النطق بالكلمة دون مساس بمعناها، وأن التطور سيقضى على هذه الاختلافات الآنية، وكان هذا هو الأصل فى تعدد القراءات القرآنية.

 

ومعلوم جيداً أن الصحابة كانوا يختلفون فى فتاويهم، وأن هذا لم يؤثر أبداً على مشاعر المودة والتقدير المتبادلة. وورث التابعون هذه الصفة عن الصحابة، كما ورثها تابعوا التابعين.. ولم يثر الاختلاف عداوة إلا عندما أرتبط – فيما بعد – بالسلطة.

 

ولم يجد الصحابة والتابعون حرجاً فى اختلافهم، وكانت وشائج التقدير والحب تربط بين الذين جمعهم وقت واحد مثل مالك والشافعى والليث ومحمد بن الحسن الخ.. وكان بعضهم يأخذ فى – بعض المناسبات – ببعض ما ذهب إليه الآخرون وكانوا جميعاً ينهون الناس عن أن يقلدوهم ويأمرونهم بأنعام النظر والتدبّر.

 

وقال القاسم بن محمد – أحد أئمة المدينة السبعة – " لقد نفع الله باختلاف أصحاب محمد r فى أعمالهم لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه فى سعة" وقال عمر بن عبد العزيز "ما يسرنى أن أصحاب محمد r لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فمخالفهم ضال، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان فى الأمر سعة."

 

وقد حفظ لنا التاريخ أمثلة للاختلافات ما بين الأئمة، ونماذج ردودهم مثل:

1- الرد على سير الأوزاعي لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم.

2- الرد على أبي حنيفة لأبى بكر بن أبى شيبة ضمن كتابه المصنف.

3- الرد على محمد بن الحسن الشيبانى للإمام الشافعي.

4- بيان خطأ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري فى تاريخه لأبى محمد بن أبي حاتم الرازي.

5- كشف الأوهام التي فى كتاب "المدخل إلى الصحيح" الذي صنفه الحاكم النيسابوري لعبد الغني الأزدي.

6- بيان الوهم والإبهام الواقعين فى كتاب الأحكام لعبد الحق الاشبيلى لإبن القطان.

7- إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث لأبن قتيبة الدينوري.

8- ما دار بين الليث بن سعد إلى مالك بن أنس من مكاتبات تكشف عن الأدب الجم والتقدير المتبادل.

 

وهذا قليل من كثير ..

 

ومعروف أن الإمام مالك بن أنس رفض أن يكون كتاب "الموطأ" هو المرجع الوحيد فى الأحكام عندما أراد ذلك الخليفة أبو جعفر المنصور. كما أنه (أى الخليفة المنصور) رفض ما اقترحه ابن المقفع فى رسالة الصحابة تقنين الفقه أو الأخذ بإحدى وجهات النظر الفقهية. وقد حاول عمر بن عبد العزيز شيئاً من هذا من قبل، وكان ذلك فى أصل فكرته عن تدوين السنن، ولكن الطبيعة التعددية المتفتحة للمجتمع الإسلامى حقبة النهضة والفتوة والثقة فى النفس كانت أقوى من أن تستسلم للقيود أو الضوابط، وظل الاجتهاد سارياً حتى أدى إلى نوع من البلبلة فى الأحكام فى البلد الواحد. فى الوقت الواحد. وكان المفروض أن يوجد نوع من التنظيم وإطار من الضوابط – لأن الضوابط مما لا مناص عنها فى أى عمل اجتماعى – ولكن فتوه المجتمع الإسلامى وقتئذ استعصت على ذلك، وكان الحل المؤسف فيما بعد هو إغلاق باب الاجتهاد والاقتصار على المذاهب التى أثبتت رسوخها، ويلحظ أنه حتى فى هذه الحالة فإن التحديد لم يأخذ شكل الواحدية ولكن بالإضافة إلى المذاهب الأربعة، فإنه ضم المذاهب الأخرى كالأثنى عشريا فى إيران والزيدية فى اليمن والاباضية التى يؤمن بها البعض فى عمان. كما أن مذهب الطبرى وداود الظاهرى (ومعه ابن حزم) أى الظاهرية.

 

بالإضافة إلى هذه الضرورية الأصولية للاختلاف فى المجتمع، فقد كان هناك عاملان أديا إلى التعددية فى مجتمع إسلامي هما هداية الأنبياء، وغواية الشياطين ..

 

أ-هداية الأنبياء:

إنه لمن الطبيعى فى مجتمع يؤمن بدين ما، أن يكون الدين هو أكبر عامل فيه. فهداية الأنبياء هى محور هذا المجتمع. وهذه الهداية لا تأخذ شكل الواحدية فى المجتمع، ولكن التعددية، كما أثبتنا ذلك فى الفصول السابقة عن إشارات القرآن إلى التعددية وعن قبوله لتعددية الأديان، وأن داخل إطار المجتمع الإسلامى تتعدد الاجتهادات وتتباين الآراء وتظهر المذاهب، وإن كانت هذه التعددية تأوى فى النهاية إلى إطار فسيح وإلى أصل مكين هو الإسلام ونحن فى غنى عن أن نكرره هنا، لأن المقصود هو الإشارة إليه، كعامل بارز من عوامل التعددية أما شرحه وتبيانه والبرهنة عليه فهذا ما تضمنته الفصول السابقة.

 

ب-غواية الشياطين:

العامل الثانى الذى يؤدى إلى تعددية تختلف عن التعددية السابقة فى إنها قد تشط حتى تجاوز إطار السمت الإسلامى هو غواية الشيطان.

 

فقد خلق الله تعالى الإنسان من "طين" ليتلاءم مع تربة الأرض التى سيعيش عليها وضروراتها الملزمة ونفث فيه من روحه ليمكنه – إذا أراد – من السمو إلى سماوات القيم ووهبه عقلاً يميز به ما بين الخطأ والصواب وقلبا يهديه إلى الخير دون الشر. ولكن الله تعالى العليم بالإنسان وما توسوس به نفسه – رأى أن هذا كله لا يعصم الإنسان من الانحرافات أو إيثار اللهو واللذة والمتعة على العمل والقصد والاعتدال. دعم الإنسان بهداية الأنبياء الذين عرفوه المعرفة الحقة – على الله تعالى، وعلى ما يحدث للإنسان بعد الموت وهو ما يعجز العقل عن الوصول إليه ..

 

واقتضت إرادة الله وحكمته البالغة أن يكون هناك محك للإيمان، ولمدى عمقه أو سطحيته فى نفوس الناس، فمن أسهل الأشياء الإدعاء أو التظاهر. ولذلك جعل الله تعالى "العمل" مصداقاً للإيمان فالإيمان دون عمل يظل ادعاءً حتى يثبته – أو ينفيه – العمل..

 

ولكن هذا العمل يحتاج بدوره إلى محك يكفل دوامه ويثبت صموده أمام الشهوات وما تهوى الأنفس.

 

إن الملائكة لا تتعرض للإغواء، وإيمان هؤلاء الملائكة لاشك فيه. كما أن عملهم هو التسبيح والتهليل وكان يمكن أن يكونوا أفضل من البشر، ولكن الله تعالى أراد للمجتمع البشرى أن يكون شيئا آخر غير مجتمع الملائكة، أراد له أن يتعرض للإغواء – كأقوى ما يكون الإغواء – ثم ينتصر على هذا الإغواء بفضل الإيمان وبهذا الانتصار فضل البشر على الملائكة الذين لا يتعرضون لأى إغواء ..

 

وقد أشار القرآن إلى هذه القوة الفعالة فى المجتمع البشرى "بما فيه المجتمع الإسلامى" فى عديد من الآيات بصورة صريحة، وجازمة ووصلت إلى الدرجة التى يمكن أن يقال فيها إن الله تعالى أعطى الشيطان "كارت بلانش" كما يقولون أو حتى أمره بها، وزاد له من السلطة ليقوم بدوره فى غواية الإنسان وأن هذه السلطة التى تضم المجالات العديدة التى ذكرها القرآن ستبقى وستستمر إلى يوم الساعة، وكأن القرآن يريد أن يقول إنها عنصر دائم وباق، ولا يمكن للمجتمع البشرى أن يتحرر منه إلى يوم الساعة.

 

واقرأ مثلاً ..

 

(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ) {11 الأعراف}

 

(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) {12 الأعراف}

 

(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ) {13 الأعراف}

 

(قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) {14 الأعراف}

 

(قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ) {15 الأعراف}

 

(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) {16 الأعراف}

 

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) {17 الأعراف}

 

(قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) {18 الأعراف}

 

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) {61 الإسراء}

 

(قَـالََ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) {62 الإسراء}

 

(قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا) {63 الإسراء}

 

(وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) {64 الإسراء}

 

(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) {65 الإسراء}

 

لقد كانت قضية "الشر" ووجوده فى المجتمع من المسائل التى شغلت الفكر الدينى من أقدم العصور حتى لقد قامت أديان على أساس وجود إلهين إله للخير، وإله للشر أو إله للنور، وآخر للظلام، وهذا أكبر دليل على قصور الفهم البشرى عندما يتصدى لقضية الألوهية فهو يجعلها نوعاً من السجال بين قوتين لن يسفر بالطبع إلا عن صراع.

 

فى حين أن الفرض الذى قدمه الإسلام هو الحل الأمثل فقد أبرز الشيطان – ما بين الحقيقة المادية والمجاز النظرى – كرمز للشر الذى يتأتى بالدرجة الأولى من الاستعلاء والأثرة والأنانية وغلبة الذات عندما رفض السجود لآدم بحجة أنه خير منه (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وأن هذه الطبيعة فيه قد دفعته لإغواء آدم، ومن ثم فإن الله تعالى ترك له هذه المهمة التى خلق لها أو التى اختارها، ولم يخش على المؤمنين لأن هداية الأنبياء تحصنهم من هذه الغواية، وفى الوقت نفسه فإن هذه الغواية، وما ستأخذه من صور وممارسات تثير فى نفوس الصادقين قوة المقاومة فيزدادوا إيمانا، أما من هم دونهم فأمامهم درجات عديدة من السلوك التى يخلطون فيها عملاً حسناً بعمل سيئ ، وقد لا تفوتهم التوبة بعد الندم، فإذا استسلموا تماماً أو حتى تمادوا فإنهم يكونون مثلاً مروعاً يردع المؤمنين من أن يتردوا فيه. ولم يكن هناك مناص من هذا كله. لأن الشر على سوئه كان لازما لكى تبرز خصيصة الخير، فبضدها تتبين الأشياء كما فطن إلى ذلك الشاعر، ومن هنا كان لابد من وجود الشيطان، ولابد من أن يقوم بدوره الرجيم، ما دام الله تعالى قد أراد للحياة الإنسانية أن تكون دار ابتلاء واختبار وأن يقوم المجتمع على أساس الحرية والاختيار، ولهذا يكون أقل نقاء من مجتمع الملائكة. الأمر الذى جعل الملائكة تعجز عن فهم حكمة استخلاف الله لهذا المخلوق، ولكن الله تعالى يعلم ما لا يعلمون.

 

وأوضحت آيات عديدة أن لا أحد يفلت من غواية الشيطان حتى الأنبياء أنفسهم، بل لقد بدأت الحياة الدنيا نتيجة لغواية الشيطان الأولى لآدم ثم تواصلت هذه الغواية مع ظهور الأنبياء فقال:  (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) {52 الحج} ..

 

وتحدث القرآن عن أخطاء للأنبياء فى غير ما كلفوا بتبليغه فقال عن آدم (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) وعن سليمان وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ وقال عن يوسف (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) وروى عن موسى (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) وقال عن ذي النون (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) وقال عن محمّد  (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) {73 – 74 الإسراء}[11]

 

ولم ينف الأنبياء أنفسهم ذلك فكلهم مثل يوسف (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ) فالأنبياء جميعاً محفوفون برعاية الله وهذه الرعاية تجعلهم ينتصرون على الشياطين، ولكنهم بدونها يصبحون كبقية البشر. وقد قال النبى إن الشيطان يسرى من الإنسان مسرى الدم، وقال إن لكل واحد شيطان فلما سألوه "حتى أنت يا رسول الله" أجاب بالإيجاب ولكن الله تعالى نصره عليه – فلا يتصور، والأمر هكذا أن يخلو مجتمع بشري – إسلامى أو غير إسلامي من غواية الشيطان لأنه فى النهاية مجتمع بشري وليس مجتمع ملائكة.[12]

 

بل لو أخذنا بالقياس فإن أعظم ما يفترض أن يقوم به الشياطين يكون فى مجتمع إسلامى، لأن مهمة الشياطين هى فتنه المؤمنين.

 

وأبرزت الآيات المجالات التى يمكن للشيطان أن يؤتى الإنسان منها وهى المال، والنساء، بالإضافة إلى السلطة التى تعود بذرتها إلى الأنانية والكبرياء، والاستعلاء، والزهو، وحب السيطرة الذى يتجلى عادة فى مجال الحكم، ويفسده.

 

وطبقاً لهذا لا يكون مستغربا أن تظهر صور عديدة لممارسات خضعت للشيطان فى مختلف الحالات. فيظهر الاستبداد فى السياسة، والتفارق فى الثروات ما بين الذين يتضورون جوعاً والذين ينتفخون ثراء، ويلوث النفاق والكذب الأقوال والأفعال وتظهر "الكاسيات العاريات" ليس فحسب على الشواطئ، ولكن فى شوارع المدينة، وتنتشر دور السينما، والمسارح، والملاهى، وتروج الصحافة الصفراء، وروايات الجنس والغرام الخ ..

 

ولا يتصور مجتمع بشري لم يمارس فيه الشيطان مهمته فى هذه المجالات، ونرى شواهد لها فى كل المجتمعات، والفرق بين المجتمع الإسلامي وبقية المجتمعات البشرية أن المجتمع الإسلامى لديه من القوى الإيمانية والخّيرة ما يحد من مدى فجور وانتشار هذه الموبقات وأن يصمد بدرجات متفاوتة أمام هذه المهالك والمغريات.

 

وكان من ذكاء الشيطان أن أخفى عن المسلمين القدامى والمحدثين أهمية ومنزلة الحكم، والآثار المدوية لإفساده بحيث لم تكن محل ملاحظة وتعقب المصلحين، قدر ما ضخم من أهمية آثار الاقتنان بالمرأة، وضرورة العمل بكل الطرق للحيلولة ما بين المجتمع الإسلامى وهذا البلاء المستطير.

 

وكان هذا الموقف هو الذى سمح لمعاوية بأن يحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض، مع حرص المجتمع على الوقوف من المرأة موقفاً ظن أنه الموقف الإسلامى وكان هذا دليلاً لا يدحض على غفلة المجتمع الإسلامى وتخلف تقديره، واختلال الموازين فى وقت مبكر جداً، ولأسباب عديدة لا يتسع المجال لتفصيلها، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وتحقق نبوءة الرسول عن تحلل عرى الإسلام عروة عروة "فأولها الحكم وآخرها الصلاة".

 

ونحن لا ندين الأسلاف فقد كان هناك أسباب عديدة أدت إلى هذا الموقف ولكن ما نرى أنه يستحق اللوم هو موقف الفقهاء المعاصرين الذين كان عليهم أن يروا ما دق على أسلافهم، أو أن يتحرروا من قوى الرواسب التى تحكمت فى الأسلاف.

 

فما قيمة الضرر الذى تحدثه امرأة ترقص وهى ترتدى زيا يكشف أكثر مما يحجب أمام قرارات حاكم مطلق يذل ويتحكم فى معارضيه. على الأقل إن إساءة المرأة لن تلحق إلا بأفراد جاءوا بمحض إرادتهم، بل دفعوا أجراً للدخول لكى يشاهدوا هذه المنكرات ..

 

وما قيمة مسرح أو مرقص يصخب رواده ويرقصون أو يشاهدون أفلاماً جنسية إزاء وضع يقضى باستغلال العمال وتشغيلهم ساعات طويلة تنهك صحتهم لقاء أجور هزيلة لا تفى بحاجة الأفواه الجائعة، أو يستخدم وسائل الاحتكار والغش لمضاعفة أرباحه.

 

إن مجرد وجود المشاهد التى تثير الأغراء يختلف عن الوجوب الذى يتضمنه أى قرار سياسى فوجود مشاهد الفتنة والأغراء لا يقوى وحده على جذب المشاهد، لأن عدداً كبيراً من العوامل قد يحول دون ذلك من صلابة، أو مشغولية، أو خوف الخ.. ولكن قراراً سياسياً يصدره الحاكم يطبق فوراً وعلى جميع من ينطبق عليهم هذا القرار، حتى لو كانوا كل المواطنين، وقد يجعل الأغنياء أكثر غنى، والفقراء أكثر فقراً وقد يشل الحريات ويفرض الخوف والرعب والإرهاب على الناس ويمتهن الكرامات ويقهر النفوس، كما يحدث فى معظم نظم الحكم فى الدول الإسلامية قديماً وحديثاً.

 

إن الرسول عندما رأى أعرابا فى أسمال "إحمرّ" وجهه "كأنما فقئ فى وجهه حب الرمان" لأن مشاهدة هذه الأسمال يثير الخجل، ولم يستعد الرضا إلا بعد أن خطب وانهالت عليهم الملابس من كل حدب وصوب ولكن الإسلاميين المحدثين لا يستشعرون خجلاً أمام مظاهر الفاقة المدقعة.. وإنما يحسونه أمام امرأة عارية ..

 

وهكذا فإن غواية الشياطين لابد وأن توجد فى المجتمع الإسلامى صوراً من التعدديات والممارسات المخالفة والنابية عن أدب الإسلام سواء كان فى شهوات الجنس أو دعوات الثراء والاستزادة من المال. أو النظم التى تسخر الجماهير لخدمة الحاكم وتفرض حكم القوة.. ويفترض أن يكون لدى المسلم الكياسة والفطنة للتمييز بينها على أساس خطورتها على المجتمع وأثارها الوبيلة وأن يمنح الأولوية لكل ما يمس الحكم، ويتلوه ذلك ممارسات الإثراء والتكاثر وأخيراً فتنة المرأة والجنس، وله بالطبع حق مقاومتها جميعاً بكل الطرق، أو التحصن من الوقوع فى شراكها وقد يجد فيها ما يستثير فيه التمسك بدعوته والحرص عليها.. وعليه فى الحالات التى يعجز فيها عن ضبط نفسه ويتغلب عليه الضعف. أن يستدرك هذا بالتوبة والاستغفار والقيـام بالأعمال الصالحة التى تجب السيئات.

 

وهذا الأسلوب يختلف جذريا عن أسلوب الفقهاء فى سد باب الذريعة ومحاولة حماية الفرد المسلم فى "صوبا" تبعده عن المغريات، وقد عالجنا تلك النقطة فى كتابات عديدة وأوضحنا أفضلية الأسلوب القرآنى وحيويته وفعالية على أسلوب سد الذريعة ..

 

وقد يقول قائل ما هى الحكمة التى أرادها الله تعالى من هذه "التمثيلية" فنقول هل هناك أروع وأعظم من إيجاد هذا المجتمع الإنسانى العظيم الذى يضم المليارات كل واحد له شخصيته المنفردة، وله اهتماماته الخاصة، وكل هذه الصور الرائعة، المتوهجة، من نشاط الناس فى أربعة أركان الأرض وأنشطتهم من صناعة وزراعة وفنون وآداب واكتشافات واختراعات ؟ أن المصور الذى يرسم أو النحات الذى ينحت مائة شخص مثلا كل واحد مختلف عن الآخر يعد عبقرياً فما بالك بالذى يخلق بالفعل الملايين بل البلايين ويعطيها القوة والحياة والعقل والذكاء والعواطف والشهوات، والشخصية الخاصة. هل هناك أروع مما وصل إليه المجتمع أو أعظم من صور الجمال الذى توصلت إليه الفنون أو أدق وأعجب من أسرار الصناعة والإدارة والتنظيم التى تسير عجلة هذا المجتمع فى نعومة ويسر.

 

لقد أسلم الله تعالى هذه الأرض للإنسان فأضاف إلى جمالها البرى الطبيعى جمالاً حضارياً أضاء كل جنباتها بالنور وغرس فى تربتها الزهور وأقام على أرضها ناطحات السحاب والمصانع التى تصنع الطائرات والسيارات وأجهزة التلفاز والصواريخ التى تنطلق محررة لأول مرة من إسار الجاذبية الأرضية وتصل لأول مرة إلى كواكب أخرى غير الأرض. وأقام الجامعات ومعاهد الأبحاث والمستشفيات ودور الفنون على اختلافها من موسيقى أو تمثيل أو سينما.. وهناك الملايين والملايين من البيوت فى كل منها أسرة تستمتع بالدفء والحب والسعادة، وإذا كان هذا ليس حظ كل البشرية، وإنما هو مقصور على الدول المتقدمة، فليس هناك ما يقف أمام بقية الدول للوصول إلى هذه الدرجة كما قد يكون لدى هذه الدول من دين أو فكر أو قيم ما تفتقده الدول المتقدمة ..

 

وعندما يجاوز التطور البشرى حده، ويبلغ غايته بحيث يظن الإنسان أنه أصبح سيد الكون عندئذ يؤذن الله تعالى بنهايته لأنه جاوز طوره وقدره، ومن رحمة الله أن هذه النهاية لا تعنى الفناء والعدم وإنما هى مقدمه لعالم آخر يختلف اختلافاً تاماً عن عالم الحياة الدنيا عالم تتجلى فيه قدرة الله التى لا يحدها حد ولا يشوبها نقص.

 

فكيف لا يكون فى هذا كله من بدأ الخلق حتى أعادته حكمة وغائية وروعة تأخذ بالألباب.

 

 

الفصل السادس

آليات ضبط التعدّدية


-توفر درجة من الوعي السليم بالإسلام
-الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
-مقتضيات التعددية فى المجتمع الإسلامي

 

قد يبدو أن التعددية ليست فى حاجة إلى آليات لضبطها لأن طبيعة التعددية تسمح بكل التوجيهات والتيارات، وبهذا يمكن لكل ناقد أن ينتقد ولكل مصلح أن يصلح، فهى كالحرية تصلح أخطاءها وشططها بنفسها ولكن التجربة تعلمنا أن الآليات الطبيعية تتعرض لعوامل ذاتية عديدة تحولها عن غايتها أو توهنها، وما النقص فى الرأسمالية – وهى تطبيق الحرية فى الاقتصاد – إلا أنها اعتمدت كليه على آليات السوق وقوانينه كالعرض والطلب والمنافسة وغيرها التى ظهر أنها غير كافية.

 

كما دفعت الديمقراطية غالياً ثمن افتقاد الضوابط إذ نشأت بين أعطافها الدعوات الشمولية التى أودت بها ولم ينفعها انفتاح تعدديتها أو أنفساح حديتها، لأن عملية الهدم أسهل من عملية البناء ولأن استهواء العواطف والشهوات أكثر تأثيراً من استهداء العقل واستلهام الحكمة. وتعلمنا المباريات الرياضية ضرورة وجود "قواعد اللعبة" التى تحول دون انحراف اللاعبين، كما نجد لكل لعبة حكمها الذى يطبق هذه القواعد ويؤاخذ كل من ينحرف عنها ولم يقل أحد إن قواعد اللعبة ووجود الحكم يضيقان من الحرية أو يعرقلان اللعبة. فالكل يجمع عليها دون استثناءات ذلك أن وجود قواعد اللعبة واحترامها هو وحده الذى يكفل مضى اللعبة واستمرارها ونجاحها ويحول دون تعثرها وانحرافها.

 

من هنا فإن من المهم التثبت من وجود آليات لضبط المعالجات لا تعد حجراً على التعددية، ولكن تنظيما لها حتى لا تهدر التعددية نفسها بنفسها أو ينتهى الأمر فيها إلى مجرد عرض الآراء. فإن الغرض من التعددية – فى النهاية – التوصل إلى أوضاع تحقق الأهـداف المطلوبة ويكمل بعضها بعضاً، وبهذا يتحقق الوصول إلى الهدف وينتفى أن تتبدد الجهود سدى أو أن تحطم بعضها بعضاً، ولكى تظل المعالجة مستمرة لضمان حسن التطبيق أو علاج ما يكشف عنه التطبيق من مآخذ.

 

-توفّر درجة من الوعي السليم بالإسلام:

للتعدّدية فى مجتمع إسلامى طابعها الذى يميزها عن التعددية فى مجتمع غير إسلامى. لأن الخصوصية تفرض نفسها، وتعد من مقومات الشخصية العامة وليس الغرض من التعددية طمس هذه "الشخصية" الإسلامية، أو المصرية التى تعد خصوصية أخرى ولا تتعارض الخصوصية الإسلامية مع الخصوصية المصرية، فهذه الأخيرة تقدم إضافة خاصة، وهما معا لا يتعارضان مع التعدّدية.

 

ويعدّ توفّر قدر من الوعي الرشيد بالإسلام من العوامل التى ترشد التعددية وتجنبها الانحراف نحو اتجاهات قد تكون سليمة موضوعياً، ولكنها غير مواتية فى مجتمع إسلامى أو مصرى أو أنها تؤدى إلى إذابة أو طمس لخصوصية تمثل إضافة وتمييزاً.. ويفترض أن يغرس الأبوان، وبصفة خاصة الأم بذرة هذا الوعى فى الأبناء. ثم تتولاه المدرسة ووسائل الإعلام بتوسيع إطاره، فما لم يفهم الإسلام فهما رشيداً مرناً متفتحاً. فقد يؤدى هذا إلى فض التعددية، أو الضيق بها أو العمل على أن تأخذ لونا معينا أو حداً أقصى لا تتجاوزه مما قد يحول دون ظهور التعددية أصلاً.

 

وما بين الخصوصيّة التي لابد وأن تكون لتعدّدية فى مجتمع إسلامى، وما بين العمومية التى تفترضها طبيعة التعددية الحرة التى لا تعرف حدوداً أو قيوداً يوجد موطأ القدم الذى تقف عليه التعددية فى مجتمع إسلامى / مصرى، ويتفاعل من منطلق لا يضيق به الإسلام بل يمكن القول أنه إسلامي خالص هو حريّة الفكر التي إن وصلت إلى الإطلاق فى القول والكتابة فإنها عندما يراد تطبيقها لابد وأن تصطدم بضرورات الواقع التي قد تكون من القوة بحيث تغلب من يغالبها.

 

ويحل الإشكال أن الإيمان ما دام صادراً من أفراد، وما دام يتبع الطريقة التى تمليها "قواعد اللعبة" أعني أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة فإن درجة من الإصلاح ستتحقق وستتخلخل الصفوف العريضة للمعارضين وتتأثر الرواسب المذهبية، وستكسب الدعوة أنصاراً ومع مر الزمن، وبمواصلة الجهود سيمكن التوصل إلى الانتصار فى النهاية.

 

وفى الوقت نفسه فإن حرية المعارضين فى عرض وجهات نظرهم فى الحفاظ والاتباع وضرورة ملاحظة اعتبارات عديدة ستحول دون انزلاق أراء الذين يريدون الإصلاح والتحرر من إسار الماضى إلى درجة من الشطط التى لا يمكن التحكم فيها مما قد يؤدى إلى حالة من الفوضى والتحلل يمكن أن تنتقل من مجال الفكر إلى مجال العمل ويكون لها نتائج سلبية سيئة على اقتصاد وأوضاع البلاد وهو أمر غير مطلوب بالطبع.

 

وعندما يكون التعصب وضيق الأفق مستولياً على جماهير غفيرة – كما هو الحال للأسف فى معظم الدول العربية والإسلامية – فإن عملية التعددية ستكون شاقة وقد تتحول من السجال الفكرى إلى العراك اليدوى أو التهديد بالقتل وليس هناك من حل "مشفى" جاهز، وقد يكون أقرب الحلول هو إبراز توجيهات القرآن الكريم ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ {64 آل عمران}

 

كما يؤدى إلى تقبل التعددية التعريف بآداب الائتلاف والاختلاف فى الإسلام التى أشرنا إليها فى الفصل السابق واستيعابها تماما.

 

-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

يُعَدُّ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر – أحد ضمانات التعددية لأنه ليس إلا ترخيصاً بحرية الفكر وتأكيداً عليها إيجابا وساباً – ولو أنعدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لكان من المحتمل دخول منكرات لا عداد لها دون احتجاج أو نقد ولكان من الممكن لبعضها القضاء على التعدّدية نفسها، ولكان من الممكن أيضاً أن لا يوجد المعروف، أو أن تكون ممارسته ممارسة سيئة دون أن يوجد من يصحح السقيم ويستكمل الناقص أو تكون القاعدة فى هذا المجتمع هى "الأنا مالية" "أنا مالي" ..

 

ولكن إساءة فهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن تجعل منه أداة لوأد التعدّدية، أو الحيف عليها لا أن يكون ضمانا لها. عندما يتخذه أنصار النظرة الأحادية، وأصحاب شعار "قولاً واحداً" سلاحاً بتّاراً يسلطونه على كل صاحب نظرة مختلفة، وقد لا يتسبب عن هذا شر مستطير ما دام محصوراً فى إطار الفكر (أو اللسان – كما يشير الحديث المشهور"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع بلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان) ولكن يغلب أن ينتقل من إطار الفكر واللسان إلى مجال اليد والعمل لأن الحديث جعل الأولوية للتغيير باليد، وإنما جعل اللسان والقلب عند عدم الاستطاعة.

 

لقد جاءت صياغة الحديث الذى يعدّ عماد هذا التوجيه مختلفة عن صياغة القرآن. فهذه الأخيرة تقتصر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فى حين أن الحديث يتضمن تغييراً لا مجرد أمر ونهى وحدد له ثلاث مستويات هى اليد، واللسان والقلب، ولابد لاختلاف هذه الصياغة من مبرر.

 

فى نظرنا أن تضمن الحديث التغيير باليد إنما يراد به حالات معينه لا يكون فيها بديل آخر. فإذا وجد أحدنا فرداً يحاول القيام بجريمة ما كأن يشعل ناراً فى بيت أو يضرب حيواناً بقسوة.. أو حتى يحاول الانتحار عندئذ يصبح اللواذ باليد أمراً لا مناص عنه.. أما ما يورده الفقهاء عن سلطة للفرد على آخرين تعطيه حق التأديب كسلطة الأب على الابن والزوج على الزوجة، فهذا ما لا نفضل الخوض فيه تأسيا بالرسول الذى ما ضرب أحداً قط، ولا خادماً.

 

ونعتقد أن تفسير حديث "من رأى منكم منكراً.." لابد أن يستصحب الآيات العديدة التى حدد الله تعالى للرسل طريقة التبليغ، وضرورة الاقتصار عليه، والحذر من أن يأسى لرفض المشركين. أو أن يحاول اكتساب الإيمان بمختلف الطرق. فمن غير المعقول أن يتصور أحد من عامة المسلمين أو خاصتهم أنه أكثر غيرة على الإسلام من الرسول، أو أن عليه أن يفعل أكثر مما وجّه القرآن رسوله ..

 

ويلحظ هنا أن القرآن أكد هذا المعنى مراراً وتكراراً وأوضح للرسول ..

 

﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ {272 البقرة}

 

﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ {56 القصص}

 

﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ {8 فاطر}

 

﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ {99 يونس}

 

وحدد القرآن للرسول ما يفعله عند إعراض من يدعوهم ..

 

﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾  {41 يونس}

 

﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ {12 هود}

 

﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ {40 الرعد}

 

﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ {94 الحجر}

 

﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ {82 النحل}

 

﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ {45 ق}

 

﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾ {52 – 54 الذاريات}

 

﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ {6 الشورى}

 

﴿أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ {5 – 7 عبس}

 

﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ {21 – 22 الغاشية}

 

وهذه الآيات التى تقصر صلاحيات الرسول على التبليغ دون محاولة الهداية تقرر حق الآخرين فى الرفض، وأرجاء حسابهم إلى الله تعالى يوم الدين، وتوجه الرسول لأن لا يستشعر غضاضة من ذلك أو يحس ضيقا لأن الله تعالى يعلم ما لا يعلمه من طبيعة النفوس التى جبلها الله، وأن الإلحاح فى الوعظ أو الجذب قد يوجد أثراً عكسياً.

 

فى حين أنه لو ترك وشأنه فربما يعيد التفكير فيتوب ويتوب الله عليه وقد يعمل الكثير من الحسنات ليكفر عن سيئاته ويجعل الله تعالى سيئاته حسنات.. فضلاً عما يعلمه الله من غيب لا يعلمه الرسول، فقد يكون لهذا الرافض مستقبل فى الإيمان وخدمه الإسلام، وهل هناك من كان أشد عداوة للإسلام – فى فترة ما – من خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وقد أصبحا من قادة الإسلام الإعلام.

 

هذه كلها آفاق قد لا يلم بها الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر خاصة إذا لم يكن عميق الخبرة بالنفس الإنسانية، وهى صفة قلما تتوفر لعامة الناس، وإنما تتوفر لديهم بدلاً منها الحماسة والاندفاع.

 

فهذه الآيات ترسم للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الموقف الأمثل بحيث يُعرف أن دوره ينتهى بمجرد الأداء باللسان أو القلب. أما تطبيق التغيير باليد فلا يكون  إلا فى حالات الضرورة المحددة التى أشرنا إليها آنفا، وفى غير هذه الحالات تكون أى محاولة لتغيير المنكر باليد مجافية تماماً لروح الآيات، ولن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أكثر حرصاً على الإسلام من الرسول الذى كلفه الله بحمل رسالة الإسلام ولن تكون عاطفته أشدّ وحرصه على الهداية أعظم، ومع هذا فقد وجّهه القرآن ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ ..

 

فهذه الآيات هى التى تفسر طريقة فهم وتطبيق حديث تغيير المنكر وهى حاكمة عليه، وضابطة له لأن من أعسر الأمور التفرقة ما بين النية الموضوعية الخالصة فى التغيير، وما يمتزج بها امتزاج اللحم والدم من مشاعر شخصية، وانطباعات خاصة ورغبة فى النهي والأمر "والشخط والنتر" وهى تعود إلى الزهو والغرور، وهما من الموبقات ، ومحاولة تلبيس المعنى الخاص الثوب العام، وهى صورة من النفاق النفسى الذى يتطرق إلى النفس بأخفى من دبيب النمل ..

 

ومما يلفت الانتباه أن كل الكتابات التقليدية عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير المنكر باليد انحصرت فى تدمير المعازف وما يمت بصلة إلى الموسيقى وتحطيم أوانى الخمر وإلزام النساء بالنقاب والخمار الخ.. وقد استهلكت هذه المجالات الثلاثة جهود كل الكاتبين عن هذا الموضوع من الفقهاء القدامى حتى الكتاب المعاصرين، ولم يتحرك أمر بالمعروف أو إنهاء عن المنكر لمقاومة استبداد الحكام الطغاة.. ولم يفكر أحدهم فى التنديد باستغلال الأغنياء للفقراء ووجود من لا يملك قوت يومه.. ومن يوجد لديه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ولم يثر ثائر على الجهالة والأمية فى حين أن أول كلمة فى الإسلام كانت اقرأ.. وأن رسالة الإسلام كانت إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأنه عندما أراد أن يصم العهد السابق عليه أطلق عليه "الجاهلية".

 

وهذه الاتجاهات بالإضافة إلى ما أشرنا إليه فى الفقرة السابقة عن ادعاء الغضب لله والثورة لمحارمه ودخول العامل الذاتى فى ذلك هو ما يوضح لنا أن الصورة فى أذهان "الإسلاميين" سواء القدامى والمحدثين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تختلف عما أمر به القرآن وطبقه الرسول.

 

مما يوحى بأن ما يجاوز الأمر باللسان أو النية فى القلب إلى ممارسة تغيير باليد منسوخ بنص الآيات القرآنية، باستثناء حالات الضرورة التى يؤدى فيها الموقف السلبى إلى مشاركة فى جريمة وهو أمر تجرمه معظم القوانين الوضعية.

 

وفي ثلاثينات القرن العشرين تملكت الحماسة لفيفا من أعضاء "مصر الفتاة " للقضاء على الحانات فداهموا عدداً منها ودمروا مقتنياتها، وقبض البوليس على الذين قاموا بذلك وقدموهم للمحاكمة، وفى هذه المناسبة أرسل الإمام حسن البنّـا رحمه الله خطاباً مفتوحاً للسلطات نشرته مجلة "الإسلام" في العدد 49 السنة السابعة الصادر فى 17/2/1939 ص 6 أستنكر فيه هذا الفعل {تدمير الحانات} والطريقة التي تم بها، ولكنه فى الوقت نفسه وجه نظر السلطات إلى المعاني الموضوعية التى دفعت بالشباب إلى هذا العمل، واعتقد أن مسلك الإمام البنّـا هذا هو المسلك الأمثل من زعيم إسلامي كبير يقدّر كافة الأبعاد والعوامل.

 

وجاء في هذا الخطاب ..

"لست أُقر أحداً على أن ينتفض على القانون ولست أدعو إلى العدوان في أية صورة من صوره. فقد نهانا القرآن عن العدوان، ولكنى أعتقد أن عناصر الجريمة في هذه القضية مفقودة تماماً والقصد الجنائى منعدم تماماً فليست بين هؤلاء الشباب، وهذه الحانات وأصحابها صلة تحملهم على الانتقام والإجرام، وإنما حملهم على ذلك دافع شريف جدير بالتقدير هو في الواقع مساعدة للقانون على أداء مهمته، وهي محاربة الجريمة والقضاء عليها، وسد المنافذ التى يدخل منها المجرمون إلى انتهاك حرمة القانون" ..

 

وفي السبعينات شهدت مصر انتشار ظاهرة النهى عن المنكر خاصة فى الصعيد، وبين طلبه جامعتها ووصل الأمر إلى حرق أندية الفيديو، بينما كان طلبة الجامعة يترصدون لكل من يسير مع سيدة ويطالبونه بإثبات علاقته بها. كما كانوا يوقفون المحاضرات بمجرد أن يرفع الآذان ..

 

وأخيراً سمعنا في أبريل عام 2000 عن اعتداء بعض الشباب على فتاه كويتية غير محجبة فضربوها، وقصوا شعرها.. مما كان له أسوء الأثر.. في المجتمع الكويتي.

 

وهذه الصور من الأعمال هي فى صميم ما قامت من أجله هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما تكونت فى العقد الثالث من القرن العشرين فى السعودية، وتحدث عنها كاتب سعودي بمجلة "المجلة" فقال :

 

"كان أعضاء الهيئات يمشون فى الأسواق فيمنعون الاختلاط والسفور ووقوف الرجال فى طريق النساء لغير حاجة وتطفيف المكاييل والموازين وظلم الدواب، كما يمنعون الحلاقين من التعرض للحى زبائنهم بقص أو حلق، ويؤدبونهم على ذلك ويمنعون القزع (هى قصة من قصات الشعر كان يطلق عليها قصة التواليت، وكانت منتشرة فى أواخر الستينات، وطوال فترة السبعينات) ويقومون بقص الرأس المقزوع، ويمنعون التدخين ويؤدبون عليه ويصادرون التبغ من الدكاكين ويحرقونه، ويؤدبون بائعيه ويقيمون الناس إلى الصلاة حين المناداة لها، وإذا عثروا على من ارتكب حدا رفعوا أمره إلى رئاستهم فيتولى المحققون فيها التثبيت مما فعله المتهم، ثم يرفعون نتائج التحقيق إلى الرئيس العام فيصدر بدوره ما يلزم من جلد أو نفى أو حبس، ويمنعون تصوير ذوات الأرواح ويكسرون صورها، ويمنعون اللهو الحرام ويكسرون ما يجدون من آلاته من دون أى قيد، ومهما كان ثمنها، ويمسون من يجدون هذه الأشياء فى حوزته بشىء من العقاب الفورى جزاء على حيازته لهذه الممنوعات شرعاً، كما أن هناك سجنا خاصاً بالهيئات، يودعون فيه من يجدونه من المذنبين، فيقضون فيه ما حكم عليهم من حبس وخلافه.

 

وقد قننت هذه المهام فى المادة التاسعة من نظام الهيئة الصادر فى المرسوم الملكي رقم 3/37 بتاريخ 26/10/1400 إذ ضمت هذه المادة خمسة عشراً واجباً يكون على أعضائها القيام بها."[13]

 

ونرى أن هذه صورة سقيمة لتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كانت وليدة طبيعية للمناخ السعودي وللفقه التقليدي (البدوي) السائد فيها.

 

أما الصورة المثلى فيفترض أن تختلف شكلاً وموضوعاً. ففي الشكل تأخذ طبيعة جماعية وليست فردية، وذلك بتكوين الجمعيات والهيئات لذلك. لأن العمل الفردي، وإن كان له أهميته التي يحرص عليها الدين ويحميه من الإفتيات باعتباره ممثل الحرّية الفردية الثمينة، والتي هي أساس كل الحرّيات. إلا أنه لم يعد – أي العمل الفردي – فعالاً فى عالم التنظيم والتنهيج..  وأما في الموضوع أو المضمون فيجب التركيز على الأمر بالمعروف أكثر من النهي عن المنكر، ليس فحسب اتباعاً للترتيب فى الآية، ولكن أيضاً لأن الإيجاب أفضل من السلب. ويغطى هذا المضمون مجالات مثل إشاعة الثقافة والمعرفة والإلمام بالمهارات المطلوبة للمجتمع وتعليم الجاهلين، وقضايا العدالة الاقتصادية والتكافل الاجتماعي الخ.. وقد يؤدى ظهور هذه الجمعيات وحديثها فى الدعوة إلى تكوين جمعيات معارضة، وبهذا تتحقق التعدّدية ويظهر الرأي والرأي الآخر ويتصارعان فى مجال الفكر ويتحقق الثراء للقضية، ويظهر فى النهاية الرأى الأفضل، حتى وإن لم ينفرد بالساحة لأن هذا ينافي طبيعة التعدّدية.

 

-مقتضيات التعدّدية فى المجتمع الإسلامي:

إذا أردنا من باب التحديد تعيين ما تستتبعه التعددية فى مجتمع إسلامى لقلنا إن أول قاعدة تنبثق منها التعددية نفسها هى الحرية كمنطلق لكل خطوة فى النشاط الفردى والجماعى. وقد أوضحنا أن الإسلام – على خلاف ما يظن الناس أو يذهب إليه كثير من الدعاة – لا يتناقض مع فكرة الحرية كأصل والتعددية كمظهر وتطبيقه لها فإن توحيد الله لا يحتمل تأويلاً ويستتبع التعددية فى كل ما عداه، كما ذكرنا، والحرية لها ما يقابلها فى "اللغة" الدينية وهو مبدأ البراءة الأصلية وأن الأصل فى الأشياء الحل ما لم يرد بتحريمه نص صريح من القرآن.

 

فضلاً عما توصلنا إليه من أن الحكمة أصل من أصول الإسلام يجب أن يستلهم عن وضع السياسات، وهى ما يبعد التعصب وضيق الأفق والاقتصار على ما ورد فى الكتاب لأن النص عليها وارد فى الكتاب نفسه.

 

ونطاق الحرية فى الإسلام فى مجال الفكر والاعتقاد لا يحده إلا تحوّل ممارسة هذه الحرّية إلى ممارسة قذف وسب أو جعلها وسيلة ابتزاز. أما أى حرية تقوم على منطق وتستند على حجة فلا يجوز أن يوضع عليها قيد، وبالنسبة للحريات الاقتصادية والسياسية فإن التحفظ الوحيد عليها هو العدل حتى لا تتحول الحرية إلى استعباد الجمهور أو التحكم فى الشعوب.

 

والأخذ بالتعددية فى المجتمع يستتبع وجود صور من التعددية فى المجال السياسى كتداول السلطة وحرية المعارضة وتقييد صلاحيات الحاكم بإرادة الشعب الخ.. وهى تستتبع فى المجال الاجتماعى ظهور منظمات المجتمع المدنى وهيئات الإصلاح وكل ما يرى بعض الناس أنه جدير بأن يعالج عبر هيئة تنظم هذه المعالجة وتعطيها طابعاً جماعياً كما يجب أن تكون هناك صحافة حرة تماماً باعتبارها "رسالة" فكرية بحيث لا يجوز حتى للمؤسسة الصحفية نفسها أن تحد من هذه الحرية أو تضع القيود عليها. كما يفترض أن توجد المنظمات النقابية طبقاً لما يراه العمال أنفسهم باعتبار أنها هيئات يؤسسونها بأنفسهم للدفاع عن حقوقهم ويدخل فى هذا كافة الحريات النقابية التى نصت عليها الاتفاقيات الدولية.

 

وهناك المجال الحساس للفنون والآداب من شعر أو رواية أو قصة أو تمثيل أو سينما أو موسيقى أو أغان أو رقص.. فكل هذه يجب أن ينظر إليها باعتبارها وسيلة للتعرف على ملكات النفس الإنسانية، وما يمكن أن تقدمه من عطاء وإضافة ونقد وإصلاح أو حتى إشباع لعواطف والاستمتاع بلهو.. فهذه كلها يجب أن تكفل لها الحرية رغم ضيق كثير من الدعاة الإسلاميين الذين يرون فى بعضها إشاعة للفحشاء.. وقد عالجنا هذه النقطة عندما تعرضنا لأثر غواية الشياطين التى لا مناص منها وقد أوضحت التجربة وطبائع الأشياء أن فرض الرقابات  – كائنة ما كانت الحجة – يوجد مفاسد أكثر من التى أريد تجنبها ومن ثم فلا يجوز أن يكون عليها رقابة إلا إذا وجد الرأى العام أن بعضها يمتهن لمشاعرهم، ويطلب بالتدخل.

 

وفيما نرى، فإنه ما دام أصل التعددية – وهو الحرية – هو ما يتقبله الإسلام فإن التعددية ومقتضياتها لا تختلف فى المجتمع الإسلامى عما هى عليه فى المجتمعات الأخرى إلا فى المدى والدرجة وليس فى النوع أو الكيف.

 

لأن الإيمان بالقيم الإسلامية يحول دون الجموح والشطط الذى تتصف به مقتضيات التعددية فى بعض المجموعات الأوربية الحديثة.. لأن المجتمع الإسلامى، وإن كان جزءً من المجتمع البشرى الذى يخضع لقوانين عامة – فإنه مجتمع متميز له خصائصه التى ترتفق على الصفة العامة له. وأن لم تجرده منها.

جمال البنا مفكر إسلامي والشقيق الأصغر لحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمون، ولد سنة 1920م في المحمودية بمحافظة البحيرة بمصر.

 

صدر أول كتاب له بعنوان "ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد" سنة 1945م، وفي العام التالي 1946م أصدر كتابه الثاني "ديمقراطية جديدة"، ثم توالت مؤلفاته في الصدور حتى تجاوزت مؤلفاته ومترجماته الـ150 كتابا.

 

عمل محاضرًا في الجامعة العمالية والمعاهد المتخصصة منذ سنة 1963م، وحتى سنة 1993م. وعمل خبيرًا بمنظمة العمل العربية.

 

ولجمال البنا العديد من الآراء الفقهية التي تخالف آراء العديد من علماء المسلمين؛ فهو يرى في أن المرأة لها حق الإمامة من الرجال إذا كانت أعلم بالقرآن كما يرى أن الحجاب ليس فرضا على المرأة وأن القرآن الكريم خص به نساء الرسول محمد، وأن الارتداد من الإسلام إلى اليهودية أو المسيحية ليس كفرا، وأن التدخين أثناء الصيام لا يبطل الصوم خصوصا للغير قادرين عن الإقلاع عنه.

 

أسس جمال البنا دار الفكر الإسلامي لنشر مؤلفاته.

 

مؤلفاته:

على هامش المفاوضات.

المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء.

الحجاب.

ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد.

ديمقراطية جديدة.

جواز إمامة المرأة الرجال.

قضية الفقه الجديد.

الإسلام والعقلانية.

حرية الاعتقاد في الإسلام.

الأصول الفكرية للدولة الإسلامية.

ما بعد الإخوان المسلمين.

مسؤولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث.

قيمة العدل في الفكر الأوروبي والفكر الإسلامي.

نحو فقه جديد (3 أجزاء).

قضية الفقه الجديد.

الإسلام هو الحل.

رسالة إلى الدعوات الإسلامية المعاصرة.

خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه.

البرنامج الإسلامي.

كلا ثم كلا.

العودة إلى القرآن.

الربا.

قضية الحرية في الإسلام.

سيادة القانون والحكم بالقرآن.

قصة فرسان العمل.

في التاريخ النقابي المقارن.

العمل في الإسلام.

الحركة العمالية الدولية.

العمال والدولة العصرية.

الحساية الدينية.

الجمع بين الصلاتين.

قضية الإنتاج.

الإيمان بالله.

إيماننا.

في الأجازة.

أخت الصلاة المهجورة.

نحن ودعوتنا.

المعارضة العمالية في عهد لينين.

قضية القبلات.

جناية قبيلة حدثنا.

العهد.

http://www.islamiccall.org

 

أضيفت في 01/05/2009/  خاص القصة السورية

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية