أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

الكاتب الكبير: جبران خليل جبران / 1883-1931

       
       
       
       
       

 

بدايات في حياته

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

واجه جبران خليل جبران (1883 - 1931) عصره; فتعارفا وكان صراع .. سافر شاعرًا في أبعاد العصر ليبلور الحكمة الكامنة, علّه يدفع بالإنسان نحو ذاته الفضلى.

 

من (بشرِّي) لبنان (1883 - 1895), حيث ولد وحيث تفتح وجدانه وخياله, انتقل إلى (بوسطن) (1895 - 1898) التي كانت تشهد -آنذاك- نهضة فكرية, وعاد إلى (بيروت) (1898 - 1902) ليعيش نكبات شرقه وتخلّفه, بينما كان يستزيد من تعلم العربية في بلاده. ثم إلى (بوسطن) ثانية (1902 - 1908), ليعيش تجربة الموت الذي حصد أسرته (1902 - 1904), ثم إلى (باريس) (1908 - 1910) ليسبر عمق التحول الثقافي والفني الذي كانت تشهده, وبعدها (نيويورك) (1911 - 1913), حيث يدرك معنى المدينة الحديثة في أوسع مفاهيمها.

 

ووسط (العالم الجديد), يناديه التاريخ في الحواضر العريقة فيسيح في مصر وفلسطين وسورية (1903), وتجذبه روما ولندن; فيقرأ فيهما نموّ الوعي الخلاّق في رحم التاريخ.

 

وتقدم الحرب العالمية الأولى لجبران أغزر وأغنى مادة للتأمل الجذري في طبيعة القوة وماهية الضعف في النفس البشرية. وينتهي إلى اكتشاف مكنون إنساني أعمق وأبعد من ظواهر القوة والضعف, هو قدرة الإنسان الروحية اللامتناهية, التي رأى التوصل إليها ممكنًا عبر الحوار الباطني مع النفس ومع الإنسانية.

 

كان ذلك الحوار هو طريق جبران إلى التجربة الصوفية, وكان -أيضًا- مصدر تحوّله من الرومنسي إلى رافض الحَرْفية والأنظمة الفكرية والفلسفية, ليركن إلى شاعرية الحكمة.

 

منذ أوّل مقال نشره بعنوان (رؤيا), وأول معرض للوحاته (1904) حتى اليوم, تتشاسع مدارات انتشار نتاج جبران; فيزداد -باضطراد- عدد ترجمات مؤلفه (النبي) ليتجاوز الثماني والعشرين لغة. وتقف العواصم الحضارية بإجلال أمام أعماله التشكيلية التي يقتنيها عدد من أهم متاحف العالم.

 

ويتكثف حضور جبران: الشاعر, والحكيم و(خلاّق الصور) كما كان يسمي نفسه. ويتفرّد نتاجه بمخيلة نادرة, وبإحساس خلاق مرهف, وبتركيب بسيط. وبهذه الخصائص, تبلور في لغته العربية -كما في الإنكليزية- فجر ما سيُدعى - فيما بعد- (القصيدة النثرية) أو (الشعر الحديث).

 

ويمكن تبيّن أربع مراحل في إنتاج جبران:

الرومنسية: كما تنعكس في كتيب (نبذة في الموسيقى) (1906), وأقصوصات (عرائس المروج) (1906), و(الأرواح المتمردة) (1908), و(الأجنحة المتكسرة) (1912), ومقالات (دمعة وابتسامة) (1914), والمطوّلة الشعرية (المواكب) (1919).

 

الثورية الرافضة: تتصعّد الرومنسية لتنتهي إلى اكتشاف أن القوة الإنسانية تكمن في الروح الخاص والعام, كما في مقالات وأقصوصات وقصائد (العواصف) (1920), و(البدائع والطرائف) (1923), وفي كتابه بالإنكليزية (آلهة الأرض) (1931).

 

الحِكَمية: تعتمد المثل أسلوبًا, كما في ثلاثيته إنكليزية اللغة: (المجنون) (1918), (السابق) (1920), و(التائه) (1923).

 

التعليمية: وفيها يختصر جبران خلاصات تجاربه وتأمله الحياة, والإنسان, والكون والعلاقات المتسامية. وهي المرحلة التي تُعَدّ ذروة نضجه الذي يتبدّى في ثلاثية أخرى باللغة الإنكليزية: (النبي) (1923), (يسوع ابن الإنسان) (1928), و(حديقة النبي) (1933).

 

ويكاد هذا النتاج / الموقف أن يكون علامة فارقة في تراث تباينت حوله الآراء, لكن كان هناك دائمًا إجماع على شموليته الإنسانية التي تروحن الغرب بحكمتها الصوفية, وتُخرج الشرق من المطلقات المسبقة إلى التجربة الشخصية الحية باتجاه المطلق.

 

بدايات في حياته

 

قليلون جدا من لم يسمعوا بـ "جبران" حول العالم، والأقل منهم من لم يسمعوا بكتاب "النبي". وهذا الكتاب يختصر بالفعل فلسفة جبران ونظرته إلى الكون والحياة. وقد ترجم إلى لغات العالم الحية كلها، وكانت آخرها اللغة الصينية ( هذا العام)، وقد حققت مبيعاته أرقاما قياسية بالنسبة إلى سواه من الكتب المترجمة إلى تلك اللغة.

 

صحيح أن معظم كتب جبران وضعت بالإنكليزية، وهذا ما ساعد كثيرا على انتشارها، ولكن جبران كتب ورسم و "فلسف" الأمور بروح مشرقية أصيلة لا غبار عليها، سوى غبار المزج بين ثقافات متعددة وعجنها ثم رقها وخبزها على نار الطموح إلى مجتمع أفضل وحياة أرقى وعلاقات بين البشر تسودها السعادة المطلقة التي لم يتمتع بها جبران نفسه. وكأن قدر كل عظماء العالم من فلاسفة ومفكرين ان يعانوا الآلام النفسية والجسدية في سبيل بلوغ الغاية القصوى واكتشاف أسرار الحياة والمعرفة.

 

ولد هذا الفيلسوف والأديب والشاعر والرسام من أسرة صغيرة فقيرة في بلدة بشري في 6 كانون الثاني 1883. كان والده خليل جبران الزوج الثالث لوالدته كاملة رحمة التي كان لها ابن اسمه بطرس من زواج سابق ثم أنجبت جبران وشقيقتيه مريانا وسلطانة .

 

كان والده، خليل سعد جبران، الذي ينحدر من أسرة سورية الأصل، يعمل راعياً للماشية ويمضي أوقاته في الشرب ولعب الورق. "كان صاحب مزاج متغطرس، ولم يكن شخصاً محباً"، كما يتذكر جبران، الذي عانى من إغاظته وعدم تفهمه. وكانت والدته "كاملة رحمة"، من عائلة محترمة وذات خلفية دينية، واستطاعت ان تعتني بها ماديا ومعنويا وعاطفيا.. وكانت قد تزوجت بخليل بعد وفاة زوجها الأول وإبطال زواجها الثاني. كانت شديدة السمرة، ورقيقة، وصاحبة صوت جميل ورثته عن أبيها.

 

لم يذهب جبران إلى المدرسة لأن والده لم يعط لهذا الأمر أهمية ولذلك كان يذهب من حين إلى آخر إلى كاهن البلدة الذي سرعان ما أدرك جديته وذكاءه فانفق الساعات في تعليمه الأبجدية والقراءة والكتابة مما فتح أمامه مجال المطالعة والتعرف إلى التاريخ والعلوم والآداب.

 

وبفضل أمه، تعلم الصغير جبران العربية، وتدرب على الرسم والموسيقى. ولما لاحظت ميل الرسم لديه،زودته بألبوم صور لـ "ليوناردو دفنشي"، الذي بقي معجباً به بصمت. بعد وقت طويل، كتب يقول: "لم أر قط عملاً لليوناردو دفنشي إلاّ وانتاب أعماقي شعور بأن جزءاً من روحه تتسلل إلى روحي...".

 

تركت أمه بصمات عميقة في شخصيته، ولم يفته أن يشيد بها في "الأجنحة المتكسرة": "إن أعذب ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة "الأم"، وأجمل مناداة هي "يا أمي". كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأمل والحب والانعطاف وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هي ينبوع الحنو والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدراً يسند إليه رأسه ويداً تباركه وعيناً تحرسه...".

 

سنواته الأولى أمضاها جبران لا مبالياً، رغم الشجارات بين والديه والسقوط من فوق ذلك المنحدر الذي ترك فيه التواء في الكتف. تتلمذ في العربية والسريانية على يد الأب "جرمانوس". وعلمه الأب "سمعان" القراءة والكتابة في مدرسة بشري الابتدائية. ويروي صديقه الكاتب "ميخائيل نعيمة" أن الصغير جبران كان يستخدم قطعة فحم ليخط بها رسومه الأولى على الجدران. ويحكى أنه طمر يوماً، وكان عمره أربع سنوات، ورقة في التراب وانتظر أن تنبت.

 

في العاشرة من عمره وقع جبران عن إحدى صخور وادي قاديشا وأصيب بكسر في كتفه اليسرى ، عانى منه طوال حياته.

 

لم يكف العائلة ما كانت تعانيه من فقر وعدم مبالاة من الوالد، حتى جاء الجنود العثمانيون عام (1891) والقوا القبض عليه أودعوه السجن بسبب لسوء إدارته الضرائب التي كان يجيبها. أدين، وجرد من كل ثرواته وباعوا منزلهم الوحيد، فاضطرت العائلة إلى النزول عند بعض الأقرباء ولكن الوالدة قررت ان الحل الوحيد لمشاكل العائلة هو الهجرة إلى الولايات المتحدة سعيا وراء حياة أفضل !!

 

هجرة العائلة إلى أمريكا

أربك دخول خليل والدة جبران تماماً. كيف ستطعم أولادها الأربعة ولا تملك أي شيء. فكرت بالهجرة. ولكن، أين ستجد نفقات السفر.. باعت ما تبقى لها من تركة والدها. والتمست تدخل أحد الأساقفة للحصول على إذن السفر من السلطات الأمريكية. ورحلت الأسرة بحراً عام 1895 إلى العالم الجديد، إلى بوسطن.

 

عام 1894 خرج خليل جبران من السجن، وكان محتارا في شأن الهجرة، ولكن الوالدة كانت قد حزمت أمرها، فسافرت العائلة تاركة الوالد وراءها.

 

حطت الأسرة الرحال في "إليس إيسلاند"، نيويورك، في 17 حزيران 1895. ووصلوا إلى نيويورك بالتحديد في 25 حزيران 1895 ومنها انتقلوا إلى مدينة بوسطن حيث كانت تسكن اكبر جالية لبنانية في الولايات المتحدة.بعد ذلك بوقت قصير وهي المدينة التي ترتبط بها قضايا التاريخ الأمريكي الكبيرة: الثورة، والاستقلال، وإلغاء العبودية، وتحرير النساء... . ونزلت العائلة في بوسطن في ضيافة أقارب كانوا قد جاءوا من بشري قبل سنوات قليلة وبذلك لم تشعر الوالدة بالغربة، بل كانت تتكلم اللغة العربية مع جيرانها، وتقاسمهم عاداتهم اللبنانية التي احتفظوا بها.

 

اهتمت الجمعيات الخيرية بإدخال جبران إلى المدرسة، في حين قضت التقاليد بأن تبقى شقيقتاه في المنزل، في حين بدأت الوالدة تعمل كبائعة متجولة في شوارع بوسطن على غرار الكثيرين من أبناء الجالية. وقد حصل خطأ في تسجيل اسم جبران في المدرسة وأعطي اسم والده، وبذلك عرف في الولايات المتحدة باسم "خليل جبران". وقد حاول جبران عدة مرات تصحيح هذا الخطأ فيما بعد إلا انه فشل.

 

بدأت أحوال العائلة تتحسن ماديا حيث راح الأخ البكر غير الشقيق بطرس يبحث عن عمل. ووجده في محل للمنسوجات. وكان على الأم كاملة أن تحمل على ظهرها بالة صغيرة من الشراشف والأغطية والحريريات السورية وتنتقل بها من بيت إلى بيت لبيعها. ثم عملت في الخياطة، بمساعدة ابنتيها سلطانة وماريانا، وعندما جمعت الأم مبلغا كافيا من المال أعطته لابنها بطرس الذي يكبر جبران بست سنوات وفتحت العائلة محلا تجاريا.

 

وكان معلمو جبران في ذلك الوقت يكتشفون مواهبه الأصيلة في الرسم ويعجبون بها إلى حد ان مدير المدرسة استدعى الرسام الشهير هولاند داي لإعطاء دروس خاصة لجبران مما فتح أمامه أبواب المعرفة الفنية وزيارة المعارض والاختلاط مع بيئة اجتماعية مختلفة تماما عما عرفه في السابق.

 

في نفس الوقت أشفقت كاملة على بطرس وهي تراه يكد لإعالة الأسرة، بينما كان يمضي جبران وقته في القراءة والرسم والاستغراق في الأحلام. وطلبت منه مساعدة أخيه. لكنه رفض صراحة، معلناً إن إصبع رسام صغيرة لتساوي ألف تاجر ـ ما عدا بطرس؛ وإن صفحة من الشعر لتساوي كل أنسجة مخازن العالم!. في الواقع، أخذ جبران يواظب على التردد إلى مؤسسة خيرية تعطي دروساً في الرسم اسمها "دنسيون هاوس"،حيث لفتت موهبته انتباه مساعدة اجتماعية نافذة جداً اسمها "جسي"، التي عرّفته من خلال صديق لها إلى المصور الشهير "فرد هولاند داي"، الذي كان يدير داراً للنشر في بوسطن.

 

كان داي بحاجة لموديلات شرقية لصوره. وقد راقه جبران بوجهه المسفوع، وشعره الأسود، ونظراته التأملية. ألبسه راعيه إياه ثياباً جديدة، وأولمه، وعرّفه إلى عالم الرسام والشاعر "وليم بليك"، الذي اكتشف فيه جبران عالماً أسطورياً وتنبؤياً، وبهره تنوع الينابيع التي أثرت مفرداته الشعرية، وتأثر بخصوبة أعماله الرمزية الموسومة بالجدل الروحي بين الخير والشر والجنة والجحيم... . لم يكن بعد، لصغر سنه، بمستوى الارتقاء إلى فكر "بليك" كله، غير أنه تمثل بعض أفكاره كنقد المجتمع والدولة، وفضيلة الرغبة الخلاقة، ووحدة الكائن، وراح يخط رسوماً مشحونة بالرموز مستوحاة من رسوم الفنان والشاعر اللندني الشهير...

 

كان لداي فضل اطلاع جبران على الميثولوجيا اليونانية، الأدب العالمي وفنون الكتابة المعاصرة والتصوير الفوتوغرافي، ولكنه شدد دائما على ان جبران يجب ان يختبر كل تلك الفنون لكي يخلص إلى نهج وأسلوب خاصين به. وقد ساعده على بيع بعض إنتاجه من إحدى دور النشر كغلافات للكتب التي كانت تطبعها. وقد بدا واضحا انه قد اختط لنفسه أسلوبا وتقنية خاصين به، وبدأ يحظى بالشهرة في أوساط بوسطن الأدبية والفنية.

 

العودة إلى لبنان

قررت عائلة جبران وخصوصا أمه أن الشهرة المبكرة ستعود عليه بالضرر، وانه لا بد أن يعود إلى لبنان لمتابعة دراسته وخصوصا من أجل إتقان اللغة العربية .. وكان قد أثار تردد جبران المتزايد إلى أوساط "داي"، الذي لم تكن سمعته تدعو للارتياح، قلق الأسرة. وازدادت الأمور سوءاً بعد أن وقع في شراك زوجة تاجر في الثلاثين من عمرها، وغيابه المتكرر عن البيت ليلاً. وكان قد فتن قبلها بامرأة أخرى... وفكرت كاملة بإعادة ابنها المراهق إلى لبنان. ولم يعترض جبران فوصل جبران إلى بيروت وهو يتكلم لغة إنكليزية ضعيفة، ويكاد ينسى العربية أيضا.

 

رحل إلى بيروت في 30 آب 1898. كان بين أمتعته الأناجيل وكتاب لـ "توماس بلفنيتش" في الميثولوجيا اكتشف فيه الفنان الناشئ جبران دراما "بروميثيوس"، وأسطورة "أورفيوس"، والنبي الفارسي "زرادشت"، والفلسفة الفيثاغورسية، والأساطير الهندية...

 

هرع جبران فوراً إلى بشري، وحضن أبيه، وتوافد الأقارب والأصدقاء لرؤية "الأمريكي". كان بينهم أستاذه الشاعر والطبيب "سليم الضاهر"، الذي نصحه بمتابعة دروسه في "كوليج دو لا ساجيس"، التي بقي فيها زهاء ثلاث سنوات. ورغم تأخره في العربية الفصحى، "طلب" الفتى قبوله في صف أعلى وعدم سؤاله قبل ثلاثة أشهر. وقبل القيمون "شروط" جبران، الذي أعجبتهم جرأته وقوة شخصيته. كان من بين أساتذته الأب "يوسف حداد"، الشاعر والكاتب المسرحي الذي اكتشف برفقته كنوز اللغة العربية، وابن خلدون، والمتنبي، وابن سينا، والشعراء الصوفيين. وبدأ يجيد التعبير عن أفكاره بلغته الأم، وكتب أولى نصوصه بالعربية. وتعلم الفرنسية وأخذ يقرأ آدابها. ويتذكر جبران أن تلك المدرسة كانت صارمة؛ وأنه لم يكن يمتثل لمعلميه؛ وأنه كان أقل تعرضاً للعقاب من بقية التلاميذ، لأنه كان يدرس كثيراً. كان في الصف يسرح في فكره دائماً، ويرسم، ويغطي كتبه ودفاتره برسوم كاريكاتورية لأساتذته. كان جبران في نظر رفاق الصف غريباً، بشعره الطويل الذي يرفض قصه، ومواقفه غير المألوفة.

 

في بداية العام 1900، مع مطلع القرن الوليد، تعرف جبران على يوسف الحويك واصدرا معا مجلة "المنارة" وكانا يحررانها سوية فيما وضع جبران رسومها وحده. وبقيا يعملان معا بها حتى أنهى جبران دروسه بتفوق واضح في العربية والفرنسية والشعر (1902) وكان في عام 1901 تم اختيار إحدى قصائده لنيل الجائزة التقديرية. وكان يتوق بحماس لنيل هذه الجائزة، لأن التلميذ الممتاز في هذه المدرسة هو الأكثر موهبة في الشعر، كما قال.

 

عودته إلى أمريكا .. والمآسي في انتظاره

وقد وصلته أخبار عن مرض أفراد عائلته، فيما كانت علاقته مع والده تنتقل من سيء إلى أسوأ فغادر لبنان عائدا إلى بوسطن، ولكنه لسوء حظه وصل بعد وفاة شقيقته سلطانة. وخلال بضعة اشهر كانت أمه تدخل المستشفى لإجراء عملية جراحية لاستئصال بعض الخلايا السرطانية. قرر شقيقه بطرس ترك المحل التجاري والسفر إلى كوبا. وهكذا كان على جبران ان يهتم بشؤون العائلة المادية والصحية. ولكن المآسي تتابعت بأسرع مما يمكن احتماله. فما لبث بطرس ان عاد من كوبا مصابا بمرض قاتل هو ( السل ) وقضى نحبه بعد أيام قليلة (12 آذار 1903) فيما فشلت العملية الجراحية التي أجرتها الوالدة في استئصال المرض وقضت نحبها في 28 حزيران من السنة نفسها.

 

إضافة إلى كل ذلك كان جبران يعيش أزمة من نوع آخر، فهو كان راغبا في إتقان الكتابة باللغة الإنكليزية، لأنها تفتح أمامه مجالا أرحب كثيرا من مجرد الكتابة في جريدة تصدر بالعربية في أميركا ( كالمهاجر9 ولا يقرأها سوى عدد قليل من الناس. ولكن انكليزيته كانت ضعيفة جدا. ولم يعرف ماذا يفعل، فكان يترك البيت ويهيم على وجهه هربا من صورة الموت والعذاب. وزاد من عذابه ان الفتاة الجميلة التي كانت تربطه بها صلة عاطفية، وكانا على وشك الزواج في ذلك الحين (جوزيفين بيبادي)، عجزت عن مساعدته عمليا، فقد كانت تكتفي بنقد كتاباته الإنكليزية ثم تتركه ليحاول إيجاد حل لوحده. في حين ان صديقه الآخر الرسام هولاند داي لم يكن قادرا على مساعدته في المجال الأدبي كما ساعده في المجال الفني.

 

مع فجر القرن العشرين، كانت بوسطن، التي سميت "أثينا الأمريكية"، مركزاً فكرياً حيوياً اجتذب فنانين مشهورين وواعدين. وكان بعضهم راغباً في الخروج من معاقل المادية للبحث عن سبل فنية جديدة واستكشاف ميثولوجيا وحضارات الشرق بل وعلومه الباطنية والروحية. وغاص جبران في هذا المجتمع البوسطني الذي تزدهر فيه حركات صوفية كان أبلغها تأثيراً "الحكمة الإلهية" التي أنشأتها عام 1875 الأرستقراطية الروسية "هيلينا بتروفنا بلافاتسكي" التي اطلعت على تراث الهند، والتيبت وشجعت نهضة البوذية والهندوسية. وشيئاً فشيئاً، اتضح له أن الروحانية الشرقية التي تسكنه يمكن أن تجد تربة خصبة في هذه البيئة المتعطشة للصوفية... .

 

في 6 كانون الثاني 1904، عرض "داي" على جبران عرض لوحاته في الربيع القادم. لم يكن أمامه سوى أربعة أشهر. وبتأثيرات من عالم "وليم بليك"، أنجز رسوماً عديدة تفيض بالرمزية. اجتذبت أعماله كثيراً من الفضوليين، ولكن قليلاً من الشارين. وعبر عدد من النقاد عن إعجابهم بها.

 

قدمته جوزفين إلى امرأة من معارفها اسمها ماري هاسكل (1904)، فخطّت بذلك صفحات مرحلة جديدة من حياة جبران.

 

كانت ماري هاسكل امرأة مستقلة في حياتها الشخصية وتكبر جبران بعشر سنوات، وقد لعبت دورا هاما في حياته منذ ان التقيا. فقد لاحظت ان جبران لا يحاول الكتابة بالإنكليزية، بل يكتب بالعربية أولا ثم يترجم ذلك. فنصحته وشجعته كثيرا على الكتابة بالإنكليزية مباشرة. وهكذا راح جبران ينشر كتاباته العربية في الصحف أولا ثم يجمعها ويصدرها بشكل كتب ، ويتدرب في الوقت نفسه على الكتابة مباشرة بالإنكليزية.

 

عزم جبران على البحث عن عمل أكثر ربحاً من الرسم. ولما علم بأن شاباً لبنانياً يدعى "أمين غريّب" أصدر صحيفة بالعربية في نيويورك اسمها "المهاجر"، تقرب منه وأطلعه على رسومه وكتاباته وقصائده. قبل "غريب" مقابل دولارين في الأسبوع لجبران. وظهرت أول مقالة له في "المهاجر" بعنوان "رؤية". كان نصاً مفعماً بالغنائية أعطى الكلام فيه لـ "قلب الإنسان، أسير المادة وضحية قوانين الأنام".

 

وفي 12 تشرين الثاني 1904، احترق مبنى معرض "داي"، وأتى على موجوداته كلها، بما في ذلك رسوم جبران. وتحت صدمة الحريق، الذي وصفه بأنه مشهد جديد من التراجيديا التي يعيشها منذ سنتين، أصبح جبران يكتب أكثر مما يرسم. وخصه "أمين غريب" بزاوية منتظمة بعنوان "أفكار"، ثم استبدله بعنوان "دمعة وابتسامة"، حيث راح جبران يتحدث عن المحبة، والجمال والشباب والحكمة. ونشرت له "المهاجر" عام 1905 كتاباً بعنوان "الموسيقى".

 

باريس .. مرحلة جديدة

كانت باريس في بدايات القرن العشرين حلم فناني العالم كله. بعد وصوله إليها بوقت قصير، أقام في "مونبارناس"، وسرعان ما انتسب إلى "أكاديمية جوليان"، أكثر الأكاديميات الخاصة شعبية في باريس، التي تخرج منها فنانون كبار، "ماتيس"، و"بونار"، و"ليجيه"... وانتسب كطالب مستمع إلى "كلية الفنون الجميلة". أوقات فراغه، كان جبران يقضيها ماشياً على ضفاف نهر السين ومتسكعاً ليلاً في أحياء باريس القديمة. بعد أن ترك باريس لاحقاً، قال لصديقه "يوسف حويك" الذي عاش معه سنتين في مدينة النور: "كل مساء، تعود روحي إلى باريس وتتيه بين بيوتها. وكل صباح، أستيقظ وأنا أفكر بتلك الأيام التي أمضيناها بين معابد الفن وعالم الأحلام...".

 

لم يستطع جبران البقاء طولاً في "أكاديمية جوليان"، حيث وجد أن نصائح أستاذه فيها لم تقدم له أية فائدة. من المؤكد أن أسلوبه لم يستطع إرضاء روح جبران الرومانسية. في بداية شباط 1909، عثر الفنان على أستاذ جديد: "بيير مارسيل بيرونو"، "الفنان الكبير والرسام الرائع والصوفي.."، حسب عبارة جبران. لكنه تركه أخيراً، بعد أن نصحه الفنان الفرنسي بالانتظار والتمهل حتّى ينهي كل قاموس الرسم، فجبران نهم إلى المعارف والإبداع وراغب في حرق المراحل.. .

 

تردد حينذاك إلى أكاديمية "كولاروسي"، المتخصصة في الرسم على النموذج، والتي كانت تستقبل فنانين أجانب، غير أن جبران كان يفضل العمل وحيداً وبملء الحرية في مرسمه، وزيارة المعارض، والمتاحف، كمتحف اللوفر، الذي كان يمضي ساعات طويلة في قاعاته الفسيحة. وأعطى دروساً في الرسم لبعض الطلبة. وانخرط في مشروع طموح: رسم بورتريهات شخصيات شهيرة، وقد ابتدأها بالنحات الأمريكي "برتليت"، دون أن نعرف بدقة إن كان قد التقى بهؤلاء.

 

في هذه الأثناء، توفي والده. وكتب إلى "ميري هاسكل" يقول: "فقدت والدي.. مات في البيت القديم، حيث ولد قبل 65 سنة.. كتب لي أصدقاؤه أنه باركني قبل أن يسلم الروح. لا أستطيع إلاّ أن أرى الظلال الحزينة للأيام الماضية عندما كان أبي، وأمي وبطرس وكذلك أختي سلطانة يعيشون ويبتسمون أمام وجه الشمس...".

 

كان جبران دائم الشك، طموحاً، ومثالياً، متصوراً أنه يستطيع إعادة تكوين العالم، وسعى إلى إقناع الآخرين بأفكاره ونظرياته حول الفن، والطبيعة...، وقلقاً، وكثير التدخين، وقارئاً نهماً، وقد أعاد قراءة "جيد" و"ريلكه" و"تولوستوي" و"نيتشه"، وكتب نصوصاً بالعربية وصفها المحيطون به بأنها "حزينة ووعظية".

 

في ذلك الوقت، قدم إلى باريس عدد كبير من دعاة الاستقلال السوريين واللبنانيين، المطالبين بحق تقرير المصير للبلدان العربية الواقعة تحت النير العثماني. وظهرت فيها جمعيات سرية تطالب بمنح العرب في الإمبراطورية العثمانية حقوقهم السياسية وبالاعتراف بالعربية لغة رسمية... وتردد جبران إلى هذه الأوساط وتشرب بأفكارها. ورأى أن على العرب أن يثوروا على العثمانيين وأن يتحرروا بأنفسهم.

 

رغب جبران في التعريف بفنه. ونجح في الوصول إلى أشهر معارض باريس السنوية، معرض الربيع، حيث استطاع أن يعرض لوحة عنوانها "الخريف"، آملاً أن يمر بها "رودان العظيم" فيعجب بها ويثمنها. جاء الفنان الفرنسي، ووقف لحظة أمامها، وهز رأسه، وتابع زيارته. بعد ذلك، راح يهيئ اللوحات التي دعي لعرضها في معرض الاتحاد الدولي للفنون الجميلة في باريس الذي دعي إليه بشكل رسمي. إلاّ أن عدم الاستقرار أتعبه، فتخلى عن المشروع ليترك باريس ولم تتسن له بعد ذلك العودة قط إلى مدينة الجمال والفنون، ولا إلى مسقط رأسه لبنان. ولم تأته فرصة لرؤية إيطاليا التي طالما حلم بزيارتها... !!

 

غادر باريس ليعود إلى بوسطن

عام 1908 غادر جبران إلى باريس لدراسة الفنون وهناك التقى مجددا بزميله في الدراسة في بيروت يوسف الحويك. ومكث في باريس ما يقارب السنتين ثم عاد إلى أميركا بعد زيارة قصيرة للندن برفقة الكاتب أمين الريحاني.

 

وصل جبران إلى بوسطن في كانون الأول عام 1910، حيث اقترح على ماري هاسكل الزواج والانتقال إلى نيويورك هربا من محيط الجالية اللبنانية هناك والتماسا لمجال فكري وأدبي وفني أرحب. ولكن ماري رفضت الزواج منه بسبب فارق السن، وان كانت قد وعدت بالحفاظ على الصداقة بينهما ورعاية شقيقته مريانا العزباء وغير المثقفة.

 

وهكذا انتقل جبران إلى نيويورك ولم يغادرها حتى وفاته . وهناك عرف نوعا من الاستقرار مكنه من الانصراف إلى أعماله الأدبية والفنية فقام برسم العديد من اللوحات لكبار المشاهير مثل رودان وساره برنار وغوستاف يانغ وسواهم.

 

ميري العزيزة

حال وصوله إلى بوسطن في بداية تشرين الثاني، هرع لرؤية أخته "مارينا". ثم مضى للقاء "ميري"، التي أعلمته على الفور ـ حرصاً منها على إبقاء الفنان تحت رعايتها ـ بأنها مستعدة للاستمرار في منحه الخمسة وسبعين دولاراً التي كانت تقدمها له إبان إقامته الباريسية. ونصحته باستئجار بيت أوسع لممارسة فنه بحرية. وساعدته في تحسين لغته الإنكليزية. وتعززت صداقتهما. وفي 10 كانون الأول، زارها في بيتها لمناسبة عيد ميلادها السابع والثلاثين، وعرض عليها الزواج. لكنها رفضت بحجة أنها تكبره بعشر سنوات. وكتب لها فيما بعد أنها جرحته بهذا الرفض. وقررت "ميري" أن تتراجع وتقبل. ثم عادت فرفضت مرة أخرى.. ربما بسبب علاقاته مع نساء أخريات، أو لخوفها من الزواج بأجنبي. وسعى جبران بعد ذلك لإغراق خيبة أمله في العمل. وسرعان ما شعر بأن بوسطن مدينة باردة وضيقة وأنها أصغر من طموحاته الفنية، خصوصاً بعد تلك الإقامة في باريس الرحبة والدافئة، عدا الجرح الذي تركته فيه "ميري". وقرر المغادرة إلى نيويورك. حزم حقائبه غير آسف، حاملاً معه مخطوطة "الأجنحة المتكسرة" ونسخة من "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه.

 

نيويورك

قال الشاعر والكاتب الفرنسي "بول كلودل" بعد وصوله إلى نيويورك عام 1838: ".... بالنسبة للغريب الذي يقع هنا، جاهلاً كل شيء ودواعي كل شيء، تكون أيامه الأولى مذهلة..". إلاّ أن جبران فهمها فوراً: "نيويورك ليست مكاناً يمكن أن يجد فيه المرء راحة". بدأ إقامته بزيارة متحف "متروبوليتان ميوزم أف آرت"، الذي خرج منه مندهشاً. تعرف إلى الجالية اللبنانية، وبعض مشاهير نيويورك. في هذه الأثناء، جاءت "ميري" إلى نيويورك ووجدته يرسم لوحة "إيزيس". زارا بعض المتاحف والأوابد. وبعد حين، عادا معاً إلى بوسطن، حيث تهيأت الصديقة لقضاء عطلة في غرب البلاد. وعرضت حينذاك على جبران مبلغ خمسة آلاف دولار دفعة واحدة بدلاً من المبالغ الصغيرة المتقطعة. قبل بالعرض وألح بأن يوصي لها بكل ما يملك، عرفاناً بجميلها. وكتب وصية أدهشت أصدقاءه. أوصى بكل لوحاته ورسومه إلى "ميري" أو، إن كانت متوفاة، إلى "فرد هولاند داي"؛ وبمخطوطاته الأدبية إلى أخته؛ وبكتبه في لبنان إلى مكتبة بشري... .

 

استغل جبران الصيف لإنهاء "الأجنحة المتكسرة" وروتشة لوحة "إيزيس"، وبدأ برسم لوحات جديدة، وزين بالرسوم كتاباً لأمين الريحاني، وكتب مقالتين، إحداهما بعنوان "العبودية"، حيث يندد بالعبودية التي تقود شعباً وفقاً لقوانين شعب آخر، والأخرى بعنوان "أبناء أمي" يتمرد فيها على مواطنيه الذين لا يثورون في وجه المحتل. وحضر محاضرة للشاعر والكاتب المسرحي الإيرلندي "وليم ييتس" (جائزة نوبل 1923)، وتعارفا والتقيا مراراً.

 

في 18 تشرين الأول عاد جبران إلى نيويورك وأقام في مبنى "تنث ستريت ستوديو" المخصص للفنانين. في هذه السنة نشر روايته "الأجنحة المتكسرة"، أكثر أعماله رومانسية، والتي أنبأت بأسلوبه وفكره المستقبليين.

 

في 15 نيسان 1912، هزت العالم حادثة غرق الـ "تيتانيك"، التي كان على متنها مئات الأشخاص، بينهم 85 لبنانياً، غرق 52 منهم. كانت الكارثة صدمة بالنسبة لجبران، الذي عز عليه النوم تلك الليلة. في اليوم نفسه، التقى بعبد البهاء، ابن بهاء الله مؤسس حركة البهائية الروحية في إيران، ودعاه لإلقاء خطاب أمام أعضاء "الحلقة الذهبية" حول وحدة الأديان.

 

في بداية الخريف، التقى جبران بالكاتب والروائي الفرنسي "بيير لوتي"، الذي جاء إلى نيويورك لحضور عرض مسرحية "بنت السماء" التي ألفها مع ابنة الأديب والشاعر الفرنسي "تيوفيل غوتيه". وقد عبر له "لوتي" عن قرفه من صخب أمريكا وقدم له نصيحة: "أنقذ روحك وعد إلى الشرق؛ مكانك ليس هنا‍‍!".

 

كيف يمكننا تصور جبران في هذه الفترة من حياته؟ كانت له ملامح أهل قريته: وجه ملوح بالسمرة، وأنف بارز، وشارب أسود وكثيف، وحاجبان مقوسن كثان، وشعر معقوص قليلاً، وشفتان ممتلئتان؛ وجبين عريض مهيب مثل قبة، وعينان يقظتان تنمان عن ذكاء هذا الشخص قصير القامة ذي الابتسامة المشرقة الموحية ببراءة الأطفال؛ "مكهرِب، ومتحرك كاللهب" (ميري)؛ وطبيعة هي أقرب إلى الحزن؛ محب للانعزال ("الوحدة عاصفة صمت تقتلع كل أغصاننا الميتة")، ويجد لذة في العمل؛ أنوف، وبالغ الحساسية، ولا يتسامح مع أي نقد؛ مستقل وثائر بطبيعته، يأبى الظلم بأي شكل.

 

كان يدخن كثيراً: "اليوم ـ كتب إلى ميري ـ، دخنت أكثر من عشرين سيجارة. التدخين بالنسبة لي هو متعة وليس عادة مستبدة...". وليلاً، كي يبقى متنبهاً ويستمر في عمله، كان يتناول القهوة القوية ويأخذ حماماً بارداً. إلا أن أسلوب الحياة إياه بدأ ينهك جسمه ويضفي عليه ملامح الكبر.

 

في العام 1913، التقى بعدد من مشاهير عالم الفن النيويوركيين، مثل الشاعر "ويتر بوينر". وفي شباط، تخلى لـ "ميري" عن مجموعة من لوحاته وفاء للدين، متمنياً أن يتخلص من هذا الوضع الذي كان يضايقه. وعاد إلى إكمال مجموعة بورتريهاته، مخصصاً إحداهاللمخترع الأمريكي "توماس إديسون" وأخرى لعالم النفس السويسري "كارل غوستاف يونغ" اللذين قبلا الجلوس ليرسمهما جبران. والتقى بالفيلسوف الفرنسي "هنري برجسون" الذي وعده بأن يسمح له برسمه في باريس، معتذراً آنئذ بسبب الإنهاك من السفر، وبالممثلة الفرنسية "ساره برنهاردت": "باختصار، كانت لطيفةـ يؤكد جبران. حدثتني بفرح غامر عن أسفارها إلى سورية ومصر، وأخبرتني أن أمها كانت تتكلم العربية وأن موسيقى هذه اللغة كانت وما تزال حية في نفسها". وقبلت أن تجلس ليرسمها، ولكن عن بعد "كي لا تظهر ملامح وجهها". كانت قد أصبحت في عامها التاسع والستين.

 

في نيسان 1913، ظهرت في نيويورك مجلة "الفنون"، التي أسسها الشاعر المهجري الحمصي "نسيب عريضة". ونشر فيها جبران مقالات متنوعة جداً وقصائد نثرية. ووقع فيها على دراسات أدبية كرسها لاثنين من كبار الصوفيين، الغزالي وابن الفارض، اللذين تأثر بأفكارهما.

 

الأديبة مي

"مي" هو الاسم الذي اختارته تلك المرأة القلقة، التي تبدو، كالبحر، تارة هادئة وشفافة، وأخرى ثائرة. ولدت عام 1886، من أب لبناني وأم فلسطينية. رحلت أسرتها عام 1908 إلى القاهرة. أتقنت لغات عدة، وأظهرت مواهب استثنائية في النقد والأدب والصحافة. حولت دارتها في القاهرة إلى صالون أدبي، وراحت تستقبل فيها كبار الأدباء والمثقفين، كـ "طه حسين" و"عباس محمود العقاد" و"يعقوب صروف". اكتشفت جبران عام 1912، عبر مقالته "يوم مولدي" التي ظهرت في الصحافة. وأسرها أسلوبه. وقرأت "الأجنحة المتكسرة" وأعجبت بآرائه حول المرأة فيه. تراسلا، وتبادلا في رسائلهما الإطراء وتحدثا عن الأدب. روى لها همومه اليومية، وطفولته وأحلامه وأعماله. وانعقدت بينهما علاقة ألفة وحب. وطلب منها عام 1913 تمثيله وقراءة كلمته في حفل تكريم شاعر القطرين "خليل مطران". كانت "مي" حساسة جداً وحالمة. ولما انقطعت رسائل جبران عقب قيام الحرب العالمية الأولى، تعلقت بذكرى مراسلها البعيد ورفضت كل الطامحين إلى الزواج منها. وتمنت في مقالة لها أن تكون بقرب ذلك الوجه الذي يمنع البعاد رؤيته.

 

لم يلتقيا قط، غير أن الكاتبين شعرا أنهما قريبان أحدهما من الآخر، وأحس أن "خيوطاً خفيفة" تربط بين فكرهما وأن روح "مي" ترافقه أينما اتجه.

 

في عام 1921، أرسلت له صورتها، فأعاد رسمها بالفحم. واكتشف بسعادة أنها امرأة مليئة الوجه، ذات شعر بني قصير، وعينين لوزيتي الشكل يعلوهما حاجبان كثان، وشفتين ممتلئتين. وجد في نظرتها البراقة شيئاً معبراً يجتذبه، وفي ملامحها بعضاً من الذكورة، صرامةً كامنة تضفي عليها مزيداً من الجاذبية: "مي" تجسد الأنوثة الشرقية. كان في هذه المرأة كل ما يعجبه، غير أنها بعيدة جداً. ولم يكن يشعر أنه مهيأ بعد لترك أمريكا فيتخلى عن حريته. هذا الحب الروحي، الفكري، أعجبه. ولكن هل فكر بمجرد ما لكماته من وقع على قلب مراسلته؟.

 

في عام 1923، كتب لها يقول دون كلفة: "أنت تعيشين فيّ وأنا أعيش فيك، تعرفين ذلك وأعرفه". كانت "مي"، كلما بدت عبارات مراسلها أكثر جرأة أو شابها بعض سخرية من تعبير اختارته دون قصد منها، تلجأ إلى "مقاطعته" وتلوذ بصمت يستمر أشهراً أحياناً. مشاعرها الحقيقية كانت تبوح بها في مقالاتها. وإن كانت قد خصت أعماله بمقالات نقدية مدحية، فقد نهرته في أخرى. وفي مقالة بعنوان "أنت، الغريب"، عبرت عن كل هواها نحو "ذاك الذي لا يعرف أنها تحبه" و"الذي تبحث عن صوته بين كل الأصوات التي تسمعها".

 

في رسالة له عام 1924، عبرت له "مي" عن خوفها من الحب. ورد عليها جبران: ".. هل تخافين ضوء الشمس؟ هل تخشين مد البحر وجزره؟...". فاجأه موقفها. وبدا أنه اختار التراجع لإنقاذ حريته أو وقته، مفضلاً عدم الانطلاق في علاقة قد تتطلب منه ومنها تضحيات كبيرة. أدركت "مي" حينذاك، بمرارة، سوء التفاهم بين رغبتها وفكرة جبران عن علاقتهما. وأسفت أنها كانت على هذا القدر من الصراحة والمباشرة. وصمتت ثمانية أشهر، رآها جبران "طويلة كأنها أزل".

 

رغم كل شيء، استمرت مراسلاتهما، متباعدة، حتى وفاة جبران، لتبقى واحدة من الأخصب والأجمل في الأدب العربي.

 

الحرب الكبرى

أقلقت الحرب جبران رغم بعده عن ساحات المعارك بآلاف الكيلومترات. وجعله الوضع في لبنان مضطرباً: استولت السلطات العثمانية على كل موارد البلد، وصادرت الماشية، وانتشرت المجاعة، وقمع المعارضون وعلق جمال باشا السفاح مشانق الوطنيين اللبنانيين والعرب في الساحات العامة. وشعر بالذنب لبعده عن "أولئك الذين يموتون بصمت". ولم يتردد في قبول منصب أمين سر لجنة مساعدة المنكوبين في سوريا وجبل لبنان. وساهم بمشاركة الجالية السورية ـ اللبنانية في بوسطن ونيويورك في إرسال باخرة مساعدات غذائية إلى مواطنيه.

 

دفع هذا النشاط بعض الكتاب لأن يجعلوا من جبران أيديولوجياً وصاحب نظرية سياسية، غير أنه لم يكن من ذلك في شيء. وقد رد على من حضه للقيام بدور الزعيم السياسي بالقول: "لست سياسياً، ولا أريد أن أكون كذلك". كان دافعه هو حس المسؤولية وتلبية نداء الواجب. كان همه إنسانياً، تحرير الوضع البشري من كل عبودية.

 

أبطأ هذا النشاط الإنساني والأخبار المأساوية التي توافدت عليه من أوروبا والمشرق نتاجه الأدبي. صحيح أنه نشر عام 1914 مجموعته "دمعة وابتسامة"، غير أنها لم تكن سوى جمع لمقالات بالعربية (56 مقالة) نشرت في "المهاجر"، وكان هو نفسه قد تردد في نشرها. كانت ذات نفحة إنسانية وضمت تأملات حول الحياة، والمحبة، والوضع في لبنان وسورية، وقد اتخذت شكل القصيدة المنثورة، الأسلوب غير المعروف في الأدب العربي، وقد كان رائده.

 

في هذه الفترة تقريباً، شعر بالحاجة للكتابة بالإنكليزية، هذه اللغة التي يمكن أن تفتح له الكثير من الأبواب وتمكنه من ملامسة الجمهور الأمريكي. قرأ "شكسبير" مرة أخرى، وأعاد قراءة الكتاب المقدس مرات عدة بنسخة "كينغ جيمس".. . كانت إنكليزيته محدودة جداً، غير أنه عمل طويلاً وبجد حتى أتقن لغة شكسبير ولكن دون أن يتخلى عن لغته الأم: "بقيت أفكر بالعربية". ".. كان غنى العربية، التي أولع بها، يدفعه دائماً إلى سبر الكلمة التي تتوافق بأفضل شكل مع مثيلتها في الإنكليزية، بأسلوب بسيط دائماً..."، كما ذكرت مساعدته "بربارة يونغ".

 

من أين يبدأ؟ كان أمامه مشروع "النبي"، الذي نما معه منذ الطفولة. سار العمل بطيئاً جداً. أراد أخيراً أن يجد موضوعاً يستقطب أفكاره ولغته الثانية. وفكر جبران: ما الذي يمكن، مع الإفلات من العقاب، أن يكشف حماقة الناس وجبنهم وينتزعه حُجُب المجتمع وأقنعته؟. المجنون. أغرته الفكرة. لم ينس "قزحيّا" في الوادي المقدس وتلك المغارة التي كانوا يقيدون فيها المجانين لإعادتهم إلى صوابهم، كما كانوا يعتقدون. في "يوحنا المجنون"، كان قد كتب يقول إن "المجنون هو من يجرؤ على قول الحقيقة"، ذاك الذي يتخلى عن التقاليد البالية والذي "يصلب" لأنه يطمح إلى التغيير. برأيه، "أن الجنون هو الخطوة الأولى نحو انعدام الأنانية... هدف الحياة هو تقريبنا من أسرارها، والجنون هو الوسيلة الوحيدة لذلك". وهكذا، عنوان كتابه القادم: The Madman . وبقي أن يكتبه

 

في هذه الأثناء، شارك في مجلة جديدة، The Seven Arts¡ التي كان ينشر فيها كتاب مشهورون، مثل "جون دوس باسوس" و"برتراند راسل"، ومن خلالها أضحى مشهوراً في الأوساط الفنية النيويوركية، حيث نشر رسومه ونصوصه الأولى بالإنكليزية.

 

كانت فترة 1914 ـ 1916 غنية باللقاءات: تردد جبران إلى صالونات المجتمع الراقي الذي كانت تديره نساء متنفذات. تعرف إلى الفنانة الشهيرة "روز أونيل"، وعمدة نيويورك، والشاعرة "آمي لويل"، والرسام الرمزي "ألبرت رايدر". ودعي عدة مرات إلى Poetry Society of America¡ التي ألقى فيها مقتطفات من كتاب Madman¡ الذي كان بصدد تأليفه، أمام حضور منتبه.

 

في خريف 1916، التقى مرة أخرى بمخائيل نعيمة، الذي ألف فيه كتاباً، جبران خليل جبران". كان "نعيمة" يدرس في روسيا قبل أن يتوجه إلى الولايات المتحدة، حيث درس أيضاً القانون والآداب. كتب كلاهما في "الفنون"، وكلاهما آمنا بالتقمص، وناضل كلاهما من أجل تحرير بلدهما عبر لجنة المتطوعين، جبران كمسؤول عن المراسلات بالإنكليزية ونعيمة كمسؤول عن المراسلات بالعربية.

 

في كانون الأول 1916، التقى أخيراً بـ "رابندراناته طاغور"، الشاعر الهندي الشهير، المتوج بجائزة نوبل في الآداب لعام 1913. وكتب إلى "ميري" في وصفه قائلاً: "حسن المنظر وجميل المعشر. لكن صوته مخيِّب: يفتقر إلى القوة ولا يتوافق مع إلقاء قصائده...". بعد هذا اللقاء، لم يتردد صحفي نيويوركي في عقد مقارنة بين الرجلين: كلاهما يستخدمان الأمثال في كتاباته ويتقنان الإنكليزية واللغة الأم. وكل منهما فنان في مجالات أخرى غير الشعر".

 

مع اقتراب الحرب من نهايتها، أكب جبران أكثر على الكتابة. ألف مقاطع جديدة من "النبي"، وأنهى كتابه "المجنون"، التي اشتملت على أربعة وثلاثين مثلاً (قصة قصيرة رمزية) وقصيدة. أرسلها إلى عدة ناشرين، لكنهم رفضوها جميعاً بحجة أن هذا الجنس الأدبي "لا يباع". لكنه وجد ناشراً أخيراً، وظهر العمل عام 1918 مزيناً بثلاثة رسوم للمؤلف. وكان جبران قد كتب بعض نصوصه بالعربية أصلاً، ثم ترجمها إلى الإنكليزية. ويروي فيه حكاية شخص حساس ولكن "مختلف"، يبدأ بإخبارنا كيف أصبح مجنوناً. "... في قديم الأيام قبل ميلاد كثيرين من الآلهة نهضت من نوم عميق فوجدت أن جميع براقعي قد سرقت... فركضت سافر الوجه في الشوارع المزدحمة صارخاً بالناس: "اللصوص! اللصوص! اللصوص الملاعين!" فضحك الرجال والنساء مني وهرب بعضهم إلى بيوتهم خائفين مذعورين... هكذا صرت مجنوناً، ولكني قد وجدت بجنوني هذا الحرية والنجاة معاً...". تميز أسلوب جبران في "المجنون" بالبساطة واللهجة الساخرة والمرارة، وشكل هذا العمل منعطفاً في أعمال الكاتب، ليس فقط لأنه أول كتاب له بالإنكليزية، بل لما فيه من تأمل وسمو روحي. وأرسل نسخة منه إلى "مي زيادة"، التي وجدته سوداوياً ومؤلماً. وأرسل نسخة أخرى إلى "جيرترود باري"، حبيبته الخبيئة. ربما أخفى جبران هذه العلاقة كي لا يجرح "ميري" ومن أجل أن لا تمس هذه العلاقة اللاأفلاطونية صورته الروحية. كان لجبران علاقات غير محددة، أفلاطونية وجسدية: "جيرترود شتيرن" التي التقاها عام 1930 واعتبرت نفسها حبه الأخير، و"ماري خواجي" و"ماري خوريط، و"هيلينا غوستين" التي أكدت، كما فعلت "شارلوت" و"ميشلين" بأن جبران "زير نساء"، وقد روت، مازحةً ومداعبة، أنه طلب منها ذات مرة أن تشتري له مظلة ليقدمها إلى شقيقته "ماريانا"، لكنها اكتشفت بعد حين أنه قد أهداها لامرأة أخرى. هذه المغامرات عاشها جبران سراً, إما حفاظاً على سمعة تلك العشيقات أو خوفاً من تشويه الصورة التي كان يريد أن يعطيها حول نفسه: صورة الناسك، صورة الكائن العلوي، عاشق الروح وليس الجسد.

 

في تشرين الثاني 1918، أعلن الهدنة أخيراً. وكتب جبران إلى "ميري" يقول: "هذا أقدس يوم منذ ميلاد اليسوع!".

 

في أيار 1919، نشر جبران كتابه السادس بالعربية، "المواكب". كان قصيدة طويلة من مائتين وثلاثة أبيات فيها دعوة للتأمل، كتبها على شكل حوار فلسفي بصوتين: يسخر أحدهما من القيم المصطنعة للحضارة؛ ويغني الآخر، الأكثر تفاؤلاً، أنشودةً للطبيعة ووحدة الوجود. وقد تميز الكتاب بتعابيره البسيطة والصافية والتلقائية.

 

في نهاية عام 1919، نشر مجموعة من عشرين رسماً تحت عنوان Twenty Drawings. وقد أدخل الناشر إلى مقدمتها نصاً للناقدة الفنية "أليس رافائيل إكستين"، حيث جاء فيها أن جبران "يقف في أعماله الفنية عند الحدود بين الشرق والغرب والرمزية والمثالية". وقد قيل إن "جبران يرسم بالكلمات"، إذ يبدو رسمه في الواقع تعبيراً دقيقاً عن أفكاره.

 

منتدى الشعراء المنفيين

في ليلة 20 نيسان 1920، رأى الكتاب السوريون واللبنانيون في اجتماع لهم في نيويورك أنه يجب التصرف من أجل "إخراج الأدب العربي من الموحل، أي الركود والتقليد الذي غاص فيهما". يجب حقنه بدم جديد. وقرر المشاركون تأسيس تنظيم يتمحور حول الحداثة ويكرس لجمع الكتاب وتوحيد جهودهم لخدمة الأدب العربي. وجد جبران الفكرة ممتازة ودعا الأعضاء للاجتماع عنده بعد أسبوع لاحق.

 

اجتمعوا في 28 التالي وحددوا أهداف التنظيم الذي أسموه "الرابطة القلمية"، التي ضمت جبران، و"إيليا أبو ماضي" و"ميخائيل نعيمة" و"عبد المسيح حداد" صاحب مجلة "السايح" وآخرين، في نشر أعمال أعضائها وأعمال الكتاب العربي الآخرين وتشجيع تعريب أعمال الأدب العالمي، فضلاً عن أهداف أخرى. انتخب جبران رئيساً، وميخائيل نعيمة أميناً للسر.

 

بقيت الرابطة تجتمع دورياً تقريباً حتى وفاة جبران. نشر الأعضاء مقالات في مجلة "السايح" وكرسوا عدداً في العام للمختارات. وأضحت الرابطة بأفكارها المتمردة رمزاً لنهضة الأدب العربي... رأى جبران أنه لن يكون للغته العربية مستقبل إذا لم تتحرر من القوالب القديمة ومن "عبودية الجمل الأدبية السطحية"، وإذا لم تتمكن من إرساء حوار حقيقي مع الغرب وتتمثل تأثير الحضارة الأوروبية دون أن تجعلها تهيمن عليها.

 

في آب 1920، أصدرت منشورات الهلال القاهرية مجموعة تضم 31 مقالة لجبران كانت قد ظهرت في صحف مختلفة ناطقة بالعربية. حملت "العواصف" على عيوب الشرقيين ـ تعلقهم بالماضي بالتقاليد القديمة ـ، رافضة حالة خنوع المضطهدين وضعفهم، داعيةً إياهم إلى الطموح والرفعة.

 

بعد أسابيع لاحقة، نشر جبران كتابه الثاني بالإنكليزية، "السابق"، الذي زينه بخمسة من رسومه. وقد جاء على شكل أمثال وحكايات صغيرة مفعمة بالحكمة والتصوف، وكان بمثابة تهيئة لكتاب جبران الأهم، "النبي".

 

سنة 1923 نشر كتاب جبران باللغة الإنكليزية، وطبع ست مرات قبل نهاية ذلك العام ثم ترجم فورا إلى عدد من اللغات الأجنبية، ويحظى إلى اليوم بشهرة قل نظيرها بين الكتب.

 

في هذه الأثناء، حينما كان يعمل بمثابرة على مخطوطة "النبي"، ساءت صحته، ولم يداوها الفرار إلى الطبيعة برفقة الأصدقاء. آثر البقاء في بوسطن قرب شقيقته "ماريانا"، ولم يعد يطمح إلا إلى إنهاء مخطوطته والعودة إلى مسقط رأسه، غير أن أمنية العودة اصطدمت بمشكلة كبيرة: ملاحقة دائني والده القضائية لاسترجاع ديونهم ممن تبقى من أفراد الأسرة، جبران وماريانا.

 

رائعة جبران الكبيرة .. النبي

سنة 1923 ظهرت إحدى روائع جبران وهي رائعة ( النبي ) ففي عام 1996، بيعت من هذا الكتاب الرائع، في الولايات المتحدة وحدها، تسعة ملايين نسخة. وما فتئ هذا العمل، الذي ترجم إلى أكثر من أربعين لغة، يأخذ بمجامع قلوب شريحة واسعة جداً من الناس. وفي الستينيات، كانت الحركات الطلابية والهيبية قد تبنت هذا المؤلف الذي يعلن بلا مواربة: "أولادكم ليسوا أولاداً لكم، إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها...". وفي خطبة شهرية له، كرر "جون فيتزجرالد كندي" سؤال جبران: "هل أنت سياسي يسال نفسه ماذا يمكن أن يفعله بلده له [...]. أم أنك ذاك السياسي الهمام والمتحمس [...] الذي يسأل نفسه ماذا يمكن أن يفعله من أجل بلده؟".

 

حمل جبران بذور هذا الكتاب في كيانه منذ طفولته. وكان قد غير عنوانه أربع مرات قبل أن يبدأ بكتابته. وفي تشرين الثاني 1918، كتب إلى "مي زيادة" يقول "هذا الكتاب فكرت بكتابته منذ ألف عام..". ومن عام 1919 إلى عام 1923، كرس جبران جل وقته لهذا العمل، الذي اعتبره حياته و"ولادته الثانية". وساعدته "ميري" في التصحيحات، إلى أن وجد عام 1923 أن عمله قد اكتمل، فدفعه إلى النشر، ليظهر في أيلول نفس العام.

 

"النبي" كتاب شبيه بالكتاب المقدس وبالأناجيل من حيث أسلوبه وبنيته ونغمية جمله، وهو غني بالصور التلميحية، والأمثال، والجمل الاستفهامية الحاضة على تأكيد الفكرة نفسها، "من يستطيع أن يفصل إيمانه عن أعماله، وعقيدته عن مهنته؟"، "أو ليس الخوف من الحاجة هو الحاجة بعينها؟".

 

أمكن أيضاً إيجاد تشابه بين "النبي" و"هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه. من المؤكد أن جبران قرأ كتاب المفكر الألماني، وثمّنه. اختار كلاهما حكيماً ليكون لسان حاله. الموضوعات التي تطرقا إليها في كتابيهما متشابهة أحياناً: الزواج، والأبناء، والصداقة، والحرية، والموت... . كما نعثر على بعض الصور نفسها في العملين، كالقوس والسهم، والتائه.... . مع ذلك، ففي حين تتسم الكتابة النيتشوية برمزية شديدة وفصاحة تفخيمية، تمتاز كتابة "النبي" بالبساطة والجلاء وبنفحة شرقية لا يداخلها ضعف. ونيتشه أقرب بكثير إلى التحليل الفلسفي من جبران، الذي يؤثر قول الأشياء ببساطة.

 

"النبي" هو كتاب في التفاؤل والأمل. وبطريقة شاعرية، وأسلوب سلس، يقدم لنا جبران فيه برسالة روحية تدعونا إلى تفتح الذات و"إلى ظمأ أعمق للحياة".

 

ماذا يقول لنا جبران في "النبي" على لسان حكيمه؟. عندما طلبت منه المطرة، المرأة العرافة، خطبة في المحبة، قال: "المحبة لا تعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها. المحبة لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد، لأن المحبة مكتفية بالمحبة". ولما طلبت رأيه في الزواج، أجاب: "قد ولدتم معاً، وستظلون معاً إلى الأبد. وستكونون معاً عندما تبدد أيامكم أجنحة الموت البيضاء.. أحبوا بعضكم بعضاً، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود.. قفوا معاً ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً: لأن عمودي الهيكل يقفان منفصلين، والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها". وفي الأبناء، يقول: أولادكم ليسوا أولاداً لكم. إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم ولكن ليس منكم. ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكاً لكم". وفي العمل: "قد طالما أُخبرتم أن العمل لعنة، والشغل نكبة ومصيبة. أما أنا فأقول لكم إنكم بالعمل تحققون جزءاً من حلم الأرض البعيد، جزءاً خصص لكم عند ميلاد ذلك الحلم. فإذا واظبتم على العمل النافع تفتحون قلوبكم بالحقيقة لمحبة الحياة. لأن من أحب الحياة بالعمل النافع تفتح له الحياة أعماقها، وتدنيه من أبعد أسرارها".......

في عام 1931، كتب جبران بخصوص "النبي": "شغل هذا الكتاب الصغير كل حياتي. كنت أريد أن أتأكد بشكل مطلق من أن كل كلمة كانت حقاً أفضل ما أستطيع تقديمه". لم تذهب جهوده عبثاً: بعد سبعين سنة على وفاته، ما يزال يتداوله ملايين القراء في أنحاء العالم.

 

بقي جبران على علاقة وطيدة مع ماري هاسكال، فيما كان يراسل أيضا الأديبة مي زيادة التي أرسلت له عام 1912 رسالة معربة عن إعجابها بكتابه " الأجنحة المتكسرة". وقد دامت مراسلتهما حتى وفاته رغم انهما لم يلتقيا أبدا.

 

رحيل جبران إلى الآخرة

كانت صحة جبران قد بدأت تزداد سوءاً. وفي 9 نيسان، وجدته البوابة يحتضر فتوفي جبران في 10 نيسان 1931 في إحدى مستشفيات نيويورك وهو في الثامنة والأربعين بعد أصابته بمرض السرطان فنقل بعد ثلاثة أيام إلى مثواه الأخير في مقبرة "مونت بنيديكت"، إلى جوار أمه وشقيقته وأخيه غير الشقيق. ونظمت فوراً مآتم في نيويورك وبيونس آيرس وساوباولو حيث توجد جاليات لبنانية هامة. وبعد موافقة شقيقته "ماريانا"، تقرر نقل جثمان جبران في 23 تموز إلى مسقط رأسه في لبنان. واستقبلته في بيروت جموع كبيرة من الناس يتقدمها وفد رسمي. وبعد احتفال قصير حضره رئيس الدولة، نقل إلى بشري، التي ووري فيها الثرى على أصوات أجراس الكنائس. وإلى جوار قبره، نقشت هذه العبارة: "كلمة أريد رؤيتها مكتوبة على قبري: أنا حي مثلكم وأنا الآن إلى جانبكم. أغمضوا عيونكم، انظروا حولكم، وستروني....".

عملت شقيقته على مفاوضة الراهبات الكرمليات واشترتا منهما دير مار سركيس الذي نقل إليه جثمان جبران، وما يزال إلى الآن متحفا ومقصدا للزائرين.

 

وفضلاً عن الأوابد التي كرست للفنان في وطنه الأم (متحف جبران، وساحة جبران التي دشنت في وسط بيروت عام 2000)، هنالك مواقع، وتماثيل، ولوحات تذكارية تكرم ذكراه: في الولايات المتحدة نصبان تذكاريان لجبران، أحدهما في بوسطن، والآخر في واشنطن. ويضم عدد من أشهر المتاحف الأمريكية العديد من لوحات جبران. وكانت الجالية اللبنانية في البرازيل قد دشنت أيضاً مركزاً ثقافياً سمي "جبران".

 

مؤلفات حبران خليل جبران

بالعربية:

الأرواح المتمردة 1908

الأجنحة المتكسرة 1912

دمعة وابتسامة 1914

المواكب 1918

بالإنكليزية:

المجنون 1918

السابق 1920

النبي 1923

رمل وزبد 1926

يسوع ابن الإنسان 1928

آلهة الأرض 1931

التائه 1932

حديقة النبي 1933

-------------

المراجع المستخدمة : ترجمة: محمد الدنيا "خليل جبران، مؤلف النبي"، بالفرنسية، تأليف ألكسندر نجار، دار نشر "بيغماليون" /باريس ـ فرنسا، أيلول/ سبتمبر 2002 (الكتاب غير معرب)

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

على باب الهيكل

ابتهال للموسيقى

بين الحقيقة والخيال

أمام عرش الجمال 

يوم مولدي

أعطني الناي وغن

الأجنحة المتكسرة

الأرواح المتمردة

دمعة وابتسامة

العواصف

آلهة الأرض

مناجاة أرواح

البدائع والطرائف

السابق

حديقة النبي

النبي

أرباب الأرض

أبن الإنسان

 

أمام عرش الجمال

 

 

هربتُ من الاجتماع وهِمْتُ في ذاك الوادي الواسع... 

 

مصغيًا إلى محاورات العصافير... وجلستُ أسامِرُ وَحْدَتي وأناجي نفسي. 

 

نفس ظامئة رأت كل ما يرى سرابًا وكل ما لا يرى شرابًا. 

 

ولما انطَلَقَتْ عاقِلَتي من محبس المادة إلى فضاء الخيال, 

 

التفتُّ فإذا... حورية لم تتخذ من الحلي والحلل سوى غصن من الكرمة تستر  

 

به بعضَ قامَتِها, وإكليلٍ من الشقيق يجمع شعرها الذهبي... 

 

وإذ عَلمَتْ من نظراتي أنني مسلوب الفجأة والحيرة, قالت: 

 

أنا ابنة الأحراج فلا تجزع. 

 

... أنا رمز الطبيعة. 

 

أنا العذراء التي عبدها آباؤك فبنوا لها مذابح وهياكل في بعلبك وأفقا وجبيل... 

 

أما ألوهيتي فهي مستمدة من جمال تراه كيفما حولت عينيك. 

 

جمال هو الطبيعة بأسرها. 

 

جمال كان بدء سعادة الراعي بين الربى, 

 

والقروي بين الحقول, 

 

والعشائر الرحل بين الجبل والساحل. 

 

جمال كان للحكيم مرقاة إلى عرش حقيقة لا تجرح. 

 

قلتُ ودقاتُ قلبي تقول ما لا يعرفه اللسان: 

 

إن الجمال قوة مخيفة رهيبة. 

 

فقالت وعلى شفتيها ابتسامة الأزهار, 

 

وفي نَظَرِها أسرارُ الحياة: 

 

أنتم البشر تخافون كل شيء حتى ذواتكم. 

 

تخافون السماء وهي منبع الأمن. 

 

تخافون الطبيعة وهي مرقد الراحة... 

 

وبعد سكينة مازَجَتْهَا الأَحلامُ اللَّطيفة سألتها: 

 

ما هذا الجمال...? 

 

قالت: 

 

هو ما كان بنفسك جاذب إليه. 

 

هو ما تراه وتودُّ أن تُعطِي لا أن تأخذ. 

 

هو ما شَعَرْتَ, عند ملقاه, بأيد ممدودةٍ لضمّه إلى أعماقك. 

 

هو ما تحسبه الأجسام محنة والأرواح منحة. 

 

هو ألفة بين الحزن والفرح. 

 

هو ما تراه محجوبًا وتعرفه مجهولاً وتسمعه صامتًا. 

 

هو قوة تبتدئ في قدس أقداس ذاتك وتنتهي فيما وراء تخيلاتك... 

 

واقتَرَبَت ابنَةُ الأحراج منِّي, 

 

ووضعت يدها المُعَطَّرة على عيني, ولما رَفَعَتْهَا رأيْتُنِي وحيدًا في ذلك الوادي. 

 

فرجعت ونفسي مردّدة: 

 

إن الجمال هو ما تراه وتود أن تعطي لا أن تأخذ 

 

 فقرات من مقال في كتاب (دمعة وابتسامة)

 

 

بين الحقيقة والخيال

 

 

تحْملنا الحياة من مكان إلى مكان. 

 

وتنتقل بنا التقادير من محيط إلى آخر... 

 

ونحن لا نرى إِلاَّ ما وَقَفَ عثرة في سبيل سيرنا 

 

ولا نسمع سوى صوتٍ يخيفنا. 

 

يتجلى لنا الجمال على كرسي مجده فنقترب منه. 

 

وباسم الشوق ندنّس أذياله, 

 

ونخلع عنه تاج طهره. 

 

يمرُّ بنا الحبُّ مكتسيًا ثوبَ الوداعة, فنخافه ونختبئ في 

 

مغاور الظلمة, أو نتبعه ونفعل باسمه الشرور. والحكيم 

 

بيننا يحمّله نيرًا ثقيلاً وهو ألطف من أنفاس الأزهار 

 

وأرق من نسيماتِ لبنان. 

 

تقف الحكمة في منعطفات الشوارع, 

 

وتنادينا على رؤوس الأشهاد, 

 

فنحسبها بُطلاً ونحتقر متَّبِعِيها. 

 

تدعونا الحرية إلى مائدتها لنلتذَّ بخمرها وأطعمتها, فنذهب ونشره... 

 

فتصير تلك المائدة مسرحًا للابتذال ومجالاً لاحتقار الذات. 

 

تمدُّ الطبيعَةُ نحونا يد الولاء, 

 

وتطلب منا أن نتمتع بجمالها, فنخشى سكينتها ونلتجئ 

 

إلى المدينة, وهناك نتكاثر بعضُنَا على بعض كقطيع رأى ذئبًا خاطفًا. 

 

تزورنا الحقيقة منقادة بابتسامة طفل, أو قبلة محبوبة, 

 

فنوصد دونها أبواب عواطفنا ونغادرها كمجرم دنس 

 

القلب البشري يستنجد بنا, 

 

والنفس تنادينا... 

 

ونحن أشدُّ صَمَمًا من الجماد لا نعي ولا نفهم. 

 

وإذا ما سمع أحد صراخ قلبه ونداء نفسه, قلنا: 

 

هذا ذو جِنَّة, وتبرَّأنا منه. 

 

هكذا تمر الليالي ونحن غافلون. 

 

وتُصَافِحُنَا الأيَّامُ ونحن خائفون من الليالي والأيام. 

 

نقترب من التراب, 

 

والآلهة تنتمي إلينا. 

 

ونمرُّ على خبز الحياة, والمجاعة تتغذى من قوانا. 

 

فما أحب الحياة إلينا, 

 

وما أبعَدَنَا عن الحياة 

 

 مقال من كتاب (دمعة وابتسامة)

 

 

ابتهال للموسيقى

 

 

أيتها الموسيقى! 

 

يا (أوتربي) المقدسة. 

 

لقد رقصت أَخَوَاتُكِ الفنونُ فيما غبر من الأجيال زمنًا 

 

وَوُضِعْن في معاقل النسيان آخر... 

 

وأنتِ تهزئين بهنّ, 

 

ولم تتنازلي عن مسرح النفس يومًا واحدًا, 

 

كأنَّك صدى القبلة الأولى التي وضعها آدم على شفتيْ حوَّاء. 

 

صدًى له صدًى له صدى تتناقل وتتناسخ وتكتنف الكلّ وتحيا بالكلّ... 

 

يا بْنة النفس والمحبة. 

 

يا إناء مرارة الغرام وحلاوته. 

 

يا أخيِلةَ القلب البشري. 

 

يا ثمرَةَ الحزن وزهرةَ الفرح. 

 

يا رائحةً متصاعدة من طاقة زهور المشاعر المضمومة. 

 

يا لسان المحبين ومذيعة أسرار العاشقين. 

 

يا صائغة الدموع من العواطف المكنونة. 

 

يا موحِيَةَ الشّعر ومنظّمَةَ عقودِ الأوزان. 

 

يا موحّدة الأفكار مع نتف الكلام, 

 

ومؤلّفةَ المشاعر من مؤثِّرات الجمال... 

 

ياأيتها التموّجات الأثيريَّة الحاملة أشباح النفس... 

 

إلى أمواجِكِ نُسَلّم أنفُسَنَا 

 

وفي أعماقك نستودع قلوبنا, 

 

فاحمليها إلى ما وراء المادّة 

 

وأَرِينَا ما تُكِنُّه عوالم الغيب 

 

 فقرات كتاب (الموسيقى)

 

 

يوم مولدي

 

 

في مثلِ هذا اليوم وَلَدَتْنِي أُمّي. 

 

في مثلِ هذا اليوم منذ خمس وعشرين سنة 

 

وَضَعَتْنِي السَّكِينَةُ بين أيدي هذا الوجود المملوء بالصراخِ والنزاعِ والعراك. 

 

... قد سرت خمسًا وعشرين مرة مع الأرض والقمر والشمس والكواكب 

 

حول الناموسِ الكلّي الأعلى، ولكن: 

 

هوذا نفسي تهمس الآن أسماء ذلك الناموس 

 

مثلما ترجّع الكهوفُ صَدَى أمواجِ البحر... 

 

منذ خمسٍ وعشرين سنة خَطَّتْنِي يَدُ الزَّمان كَلِمةً 

 

في كتاب هذا العالم الغريب الهائل. وهاأنذا كلمة مبهمة، 

 

ملتَبِسَةُ المعاني، تَرْمُزُ تارَةً إلى لا شيء وطورًا إلى أشياءَ كثيرة. 

 

... في هذا اليوم تنتصب أمامي معاني حياتي الغابرة، 

 

كأنَّها مرآة ضئيلة أنظر فيها طويلاً فلا أَرَى سِوَى أوجُهِ 

 

السّنينَ الشاحبة، وملامحِ الآمالِ والأحلامِ والأماني 

 

المتجعِّدة كملامِحِ الشيوخ. ثم أغمض عيني وأنظر ثانية 

 

في تلك المرآة فلاَ أرى غيرَ وجهي. ثم أُحدِّق إلى وجهي 

 

فلا أرى فيه غيرَ الكآبة. ثم أستنطِقُ الكآبة فَأَجِدُهَا خرساء 

 

لا تتكلَّم. ولو تكلّمَتِ الكآبة لكانت أكثَرَ حَلاَوَة من الغبطة. 

 

في الخمس والعشرين سنة الغابرة قد أحببت كثيرًا. 

 

وكثيرًا ما أحببتُ ما يكرهُه الناس وكرِهْتُ ما يستحسنونه. 

 

والذي أَحْبَبْتُه عندما كنتُ صَبِيًّا ما زلت أحبُّه الآن. 

 

والذي أحبُّه الآن سأحبُّه إلى نهاية الحياة. 

 

فالمَحَبَّةُ هي كل ما أستطيع أن أحصل عليه 

 

ولا يقدر أَحَدٌ أَنْ يُفْقِدَني إِيَّاه.... 

 

أحببتُ الحرِّيَّة فكانت محبتي تنمو بِنُمُوِّ معرِفَتِي عبودِيَّةَ الناس للمجد 

 

والهوان، وتتَّسِعُ باتِّساعِ إدراكي خُضُوعَهُم 

 

للأصنامِ المخيفة التي نَحَتَتْهَا الأجيالُ المظلمة، 

 

ونَصَبَتْهَا الجَهَالة المستَمِرّة، 

 

ونَعَّمَتْ جَوَانِبَهَا ملامِسُ شِفَاهِ العبيد، 

 

لكنَّني كنتُ أحبُّ هؤلاءِ العبيد بمحَبَّتي الحرية، 

 

وأُشفِقُ عَلَيهم لأنّهم عميان يُقَبِّلونَ أحناك 

 

الضواري الدامية ولا يبصرون، ويمتصُّون 

 

لهاث الأفاعي الخبيثة ولا يشعرون، ويَحْفِرُون 

 

قبورَهُمْ بأظافِرِهِم ولا يعلمون. 

 

أَحْبَبْتُ الحرّيَّة أكثرَ من كلِّ شيء لأنَّني وجدتُهَا فتاة 

 

قد أضناها الانفراد، وأَنْحَلَهَا الاعتزال... حتى صارت 

 

خيالاً شَفَّافًا يَمُرُّ بين المنازِلِ، 

 

ويَقِفُ في منعَطَفَاتِ الشَّوارع، 

 

وينادي عابِرِي الطريق... فلا يسمعون ولا يلتفتون. 

 

في الخمسِ والعشرين سنة أحببتُ السعادة... لكنني 

 

لم أجدها... ولما انفَرَدْتُ بطلبها سمعت نفسي تهمس في أذني قائلة: 

 

السعادة صَبِيَّةٌ تولَدُ وتحيا في أعماق القلب ولن 

 

تجيء إليه من محيطه. ولمَّا فَتَحْتُ قلبي لكي أرى السعادة 

 

وجدت هناك مرآتها وسريرها وملابسها، لكنني لم أجدها. 

 

وقد أحببت الناس. أحببتهم كثيرًا. 

 

والناس في شرعي ثلاثة: 

 

واحد يلعن الحياة، 

 

وواحد يباركها، 

 

وواحد يتأمل بها. 

 

فقد أحببت الأول لتعاسته، والثاني لسماحته، والثالث لمداركه... 

 

واليوم... أقف بجانب نافذتي،... ثم أنظر مُتَأَمِّلاً بما وراءَ المدينة، فأرى 

 

البرِّيَّةَ بكلِّ ما فيها من الجمال الرهيب... 

 

ثم أنظر متأمِّلاً بما وراءَ البحر فأرى الفضاءَ غيرَ المُتَنَاهِي 

 

بكلّ ما فيه من العوالِمِ السَّابِحة، 

 

والكواكبِ اللاَّمِعَة، 

 

والشموسِ والأقمارِ والسيَّاراتِ والثَّوابِتِ وما بينها 

 

من الدوافِعِ والجواذِبِ المتسالمة المتنازعة، المتولَّدة، المتحوِّلة، 

 

المُتَمَاسِكَة بِناموسٍ لا حدَّ له ولا مدى... 

 

أنظُرُ وأتأمَّل بجميعِ هذه الأشياء... فأنسى الخمس 

 

والعشرين... ويظهر لي كِيَانِي ومحيطي بكلِّ ما أخفاه 

 

وأعلَنَهُ كَذَرَّةٍ من تنهُّدَةِ طفلٍ ترتجف في خلاء أَزَليِّ 

 

الأعماق، سرمديِّ العُلُوّ، أبديّ الحدود. لكني أشعر 

 

بكيانِ هذه الذرة، هذه النفس، هذه الذات التي أدعوها 

 

أنا... وبصوتٍ مُتَصَاعِدٍ من قُدْسِ أقْدَاسِهَا تصرخ: 

 

سلام أيتها الحياة. 

 

سلام أيتها اليقظة. 

 

سلام أيتها الرؤيا. 

 

سلام أيها النهار الغامِرُ بنورِكَ ظلمَةَ الأرض. 

 

سلام أيها الليل المظهِّر بظلمتِكَ أنوارَ السماء. 

 

سلام أيتها الفصول. 

 

سلام أيها الربيع المُعِيدُ شَبِيبَةَ الأرض. 

 

سلام أيها الصيف المذيعُ مجدَ الشمس. 

 

سلام أيها الخريف الواهبُ ثمارَ الأتعاب وإلَّةَ الأعمال. 

 

سلام أيها الشتاء المُرجعُ بثوراتك عزمَ الطبيعة. 

 

سلام أيتها الأعوام الناشِرَة ما أخفته الأعوام. 

 

سلام أيتها الأجيال المُصلِحَة ما أفسدته الأجيال. 

 

سلام أيها الزمن السائرُ بنا نحو الكمال. 

 

سلام أيها الروح الضابطُ أعنَّةَ الحياة. 

 

والمحجوبُ عنا بِنِقَابِ الشَّمْس . 

 

باريس، 6 كانون الثاني 1908

من مقال في كتاب (دمعة وابتسامة)

 

 

 

على باب الهيكل

 

 

قد طهَّرتُ شفتيَّ بالنار المقدَّسة لأتكلَّم عن الحب, 

 

ولمَّا فتحت شفتيَّ للكلام وجدتُنِي أخرس. 

 

كنت أترنّم بأغاني الحب قبل أن أعرفه. 

 

ولما عرفتُه تحوَّلتِ الألفاظ في فمي إلى لهاث ضئيل, 

 

والأنغام في صدري إلى سكينة عميقة. 

 

وكنتم أيها الناس, فيما مضى, تسألونني عن غرائب 

 

الحب وعجائبه, فكنت أحدّثكم وأُقنِعُكم. أما الآن, وقد 

 

غمرني الحب بوشاحه, فجئتُ بدوري أسألكم عن 

 

مسالكه ومزاياه فهل بينكم من يجيبني? 

 

... هل بينكم من يستطيع أن يُبَيِّن قلبي 

 

لقلبي ويوضحَ ذاتي لذاتي? 

 

ألا فأخبروني ما هذه الشعلة التي تَتَّقِد في صدري 

 

وتلتهم قواي وتُذيب عواطفي وميولي? 

 

وما هذه الأيدي الخفية الناعمة الخشنة التي تَقِبضُ 

 

على روحي في ساعة الوحدة والانفراد, وتسكب في 

 

كبدي خمرةً ممزوجة بمرارَةِ اللذة وحلاوة الأوجاع? 

 

وما هذه الأجنحة التي ترفرف حول مضجعي 

 

في سكينة 

 

الليل فأسهَرَ مترقّبًا ما لا أعرفه, 

 

مُصغيًا إلى ما لا أسمعه, 

 

مُحدّقًا إلى ما لا أراه, 

 

مفكّرًا بما لا أفهمه, 

 

شاعرًا بما لا أُدركه, 

 

مُتأوِّهًا لأَنَّ في التأوُّهِ غصَّاتٍ أَحبَّ 

 

لديَّ من رنَّةِ الضَّحِك والابتهاج, 

 

مستسلمًا إلى قوة غيرِ منظورةٍ تُميتُني 

 

وتُحييني ثم تُميتُني وتُحييني حتى يطلع الفجر 

 

ويملأ النور 

 

زوايا غرفتي فأنام إذ ذاك... 

 

وبين أجفاني الذابلة ترتعش أشباح اليقظة 

 

وعلى فراشِيَ الحجري تتمايل خيالات الأحلام. 

 

وما هذا الذي ندعوه حبًا? 

 

أخبِروني ما هذا السر الخفيّ 

 

الكامِنُ خلفَ الدهور, 

 

المختبِئ وراءَ المرئيَّات, 

 

السَّاكِنُ في ضمير الوجود? 

 

ما هذه الفكرة المطلقة التي تجيءُ سببًا 

 

لجميع النتائج 

 

وتأتي نتيجةً لجميعِ الأسباب? 

 

ما هذه اليقظَةُ التي تتناول الموتَ والحياة, 

 

وتبتَدِع منهما حلمًا أغرَبَ مِنَ الحياة 

 

وأعمَقَ من الموت? 

 

أخبروني أيها الناس. 

 

أخبروني هل بينكم من لا يستيقظ من رقدة الحياة 

 

إذا ما لمس الحبُّ روحَه بأطرافِ أصابعه? 

 

هل بينكم من لا يترك أباه وأمَّه ومسقط رأسه 

 

عندما تناديه الصَّبِيَّةُ التي أحبَّها قلبُه? 

 

هل فيكم من لا يمخر البحر ويقطع الصحاري, ويجتاز 

 

الجبال والأودية ليلتقي المرأة التي اختارتها روحه? 

 

أيُّ فتًى لا يتبع قلبه إلى أقاصي الأرض إذا 

 

كان له في أقاصي الأرض حبيبة 

 

يستطيب نكهة أنفاسها, 

 

ويستلطف ملامس يديها, 

 

ويستعذب رنَّة صوتها? 

 

أيُّ بشريّ لا يحرق نفسه بخورًا أمام إله 

 

يسمَعُ ابتهاله ويستجيبُ صَلَوَاتِه? 

 

وقفتُ بالأمس على باب الهيكل 

 

أسأل العابرين عن خفايا الحب ومزاياه. 

 

مرَّ أمامي كهل... وقال متأوهًا: 

 

الحبُّ ضعف فطري ورثناه عن الإنسان الأوّل. 

 

ومرَّ فتى... مفتول الساعدين وقال مترنّمًا: 

 

الحبُّ عزم يلازم كياننا 

 

ويصل حاضرنا بماضي الأجيال ومستقبلها. 

 

ومرَّت امرأة كئيبة... وقالت متنهّدة: 

 

الحب سمٌّ قتَّال تتنفسه الأفاعي السَّوداء... 

 

ومرَّت صبيَّة مورّدة الوجنتين وقالت مبتسمة: 

 

الحب كوثر تسكبه عرائس الفجر في الأرواح... 

 

ومرَّ طفلٌ ابنُ خمسٍ وهتف ضاحكًا: 

 

الحبُّ أبي والحبُّ أمّي. 

 

وانقضى النَّهار. 

 

والناس يَمُرُّون أمام الهيكل. 

 

وكلٌّ يصوَّر نفسَه متكلّمًا عن الحب, 

 

ويبوح بأمانيه مُعْلنًا سرَّ الحياة. 

 

ولمَّا جاء المساء, وسكنت حركة العابرين, 

 

سَمِعْتُ صوتًا آتيًا من داخل الهيكل يقول: 

 

الحياة نصفان: نصف متجلّد ونصف ملتهب. 

 

فالحب هو النصف الملتهب. 

 

فدخلت الهيكل إذ ذاك, 

 

وسجدت راكعًا, مبتهلاً, مصليًّا, هاتفًا: 

 

اجعلني يا رب طعامًا للّهيب. 

 

اجعلني أيّها الإله مأكلاً للنارِ المقدَّسة. 

 

آمين 

 

مختارات من مقال في كتاب (العواصف)

 

 

أَعْطِني النَّايَ وَغَنِّ

 

 

أعطنــــي النَّــــايَ وَغَـــنِّ  فالغِنَــــا سِــــرُّ الخــــلود 

وأنيــــنُ النَّــــايِ يبقــــى  بعــــد أن يفنـــى الوجـــود 

هـــل تَخِــذْتَ الغــابَ مِثــلي  مــــــنزلاً دون القُصُـــــور 

فَتَتَبَّعْـــــــتَ الســــــواقي  وتســــــلَّقْتَ الصخـــــور? 

هــــل تحــــمَّمْتَ بعِطـــرٍ  وتَنَشَّـــــــفْتَ بنـــــــور 

وَشَــــرِبْتَ الفَجْـــرَ خَـــمْرًا  فـــي كـــؤوسٍ مِــنْ أثــير? 

هــل جَلَسْــتَ العَصْــرَ مثــلي  بيــــنَ جَفْنَــــاتِ العِنَــــب 

والعنـــــــاقيدُ تــــــدلَّت  كَثُرَيَّــــــاتِ الــــــذَّهَب? 

فَهْــــيَ لِلصَّــــادي عُيُـــونٌ  وَلِمَــــنْ جَــــاعَ الطعــــام 

وهـــي شَـــهْدٌ وَهْــيَ عِطْــرٌ  وَلِمَــــن شَــــاءَ المُــــدَام 

أعطنــــي النَّــــايَ وَغَـــنّ  فالغنــــا عــــزمُ النفـــوس 

وأَنيــــنُ النَّــــايِ يبقــــى  بَعْــــدَ أَن تَفْنَـــى الشـــموس 

أعطنــــي النَّــــايَ وَغَـــنّ  فالغنــــا خــــيرُ العُلُــــوم 

وأنيــــنُ النَّــــايِ يبقــــى  بعــــد أن تُطْفَــــا النجـــوم 

هـــل فَرَشْــتَ العشــبَ ليــلاً  وَتَلَحَّـــــــفْتَ الفَضَــــــا 

زاهِـــدًا فـــي مـــا ســيأتي  ناســـيا مـــا قـــد مضــى 

وســــكون الليــــل بَحْـــرٌ  موجُــــه فــــي مَسْـــمَعك 

وبِصَــــدْرِ اللَّيــــلِ قلـــبٌ  خَــــافِقٌ فـــي مَضْجَـــعك? 

أَعطِنــــي النَّــــايَ وَغَـــنِّ  فالغِنَــــا خَــــيْرُ الصَّـــلاَة 

وأنيــــنُ النَّــــايِ يَبْقَــــى  بَعْــــدَ أَن تَفْنَــــى الحَيَـــاة 

مختارات من لازمة المُطَوَّلة الشعرية: (المواكب)

 

أضيفت في 25/06/2005 / خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية