أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: يونس محمود يونس

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

تاريخ الميلاد: 1952  صافيتا - سوريا

عضو في اتحاد الكتاب العرب

حصلت على البكالوريا الصناعية ـ قسم سيارات ـ عام 1970ـ من محافظة طرطوس، ثم حصلت على المعهد الصناعي من مدينة حلب، وفي عام 1973 باشرت عملي كمعلم في نفس المدرسة التي تخرجت منها، وما زلت أمارس هذا العمل.

 

بدأت الكتابة في التسعينات، ونشرت أول مجموعة قصصية عام 1996 بعناون (الموت الفاسد).

 

أسماء الكتب التي نشرتها لي وزارة الثقافة السورية:

ـالموت الفاسد (قصص)

ـالمهرج (رواية)

ـالراوي (قصص)

ـمأوى البوم (قصص)

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الشرنقة

الكلب

 الخطاب

 

 

الخطاب

                                                             

في الصباح نسي أبو عادل برنامجه الذي أعدّه في المساء ، فلم يذهب لزيارة المرأة التي كتب لأجلها خطابا ، وحتى لم يتذكر الخطاب إلا بعد أن وجد نفسه عالقا وسط الزحام في بهو المحكمة .

 

أما وقد وجد نفسه عالقا في هوجاء ذلك البهو المخنوق بالزفرات فقد انتابته نوبة من القلق المفاجئ كانت كافية لتطيح بكل الأوهام التي حملها في رأسه ، فراح يبحث بعينيه عن أي شخص يستطيع أن يعينه على تجاوز قلقه هذا قبل أن يضطر لمغادرة المحكمة تاركا خلفه قضيته التي جاء من أجلها .

 

ثم مرت لحظات وهو على تلك الحالة ، داهمته بعدها مفاجآت لم يكن ينتظرها ! أولها شعوره المفاجئ بالحاجة الشديدة إلى التبول ، وثانيها يقظة الهزيمة الكامنة في أعماق نفسه ، إضافة إلى شعوره بالحرج . . ذاك الحرج الذي سبب له إرباكا لم يستطع التخلص منه إلا بعد تذكر المرأة والخطاب الذي كتبه لأجلها .

 

أمّا الخطاب فقد كتبه حين هجع إلى فراشه لينام ، وقد تأخّر إلى ذلك الوقت لأنّ فكرة الخطاب لم تخطر له لولا تلك الأطياف المجنونة التي عبرت مخيلته حين سمع المرأة تدعوه عبر الهاتف لزيارتها ، فلما ذهب لينام وجد نفسه يفكر في أول زيارة له إلى منزلها . .

 

في ذلك اليوم وافق على دعوتها بعد أن جذبه إليها شغفها بتلك العوالم الشفاّفة التي جعلته على الدوام قادرا على الخروج من كثافة هذا الواقع بإحساس مشبع بالحرية ! ومن جهتها رأت فيه رجلا لا يحب الألم ولا يسعى إليه !

 

غير أنها ما لبثت أن غيّرت عالمه بعد أن استأثرت به ـ ليس هذا فقط ـ بل وضعت أمام ناظريه مرآتها التي شوّهها الحقد ! إضافة إلى مخزونها الذي يفيض بألوان المشاكل والقضايا ! وأكثر من ذلك فهي لا تنفك تطالبه بزيارتها ؟!

( يا للتعاسة !! )

 

لقد شعر أبو عادل ، حقّا ، بالتعاسة حين انتهى من كتابة خطابه الذي أراد إعلانه أمامها في الصباح ، وبسبب شعوره هذا اعتقد أنّه لن يكون مضطرا لدخول منزلها ، بل يستطيع أن يبقى خارج الباب ليقول لها عندما تخرج إليه  :

 

     " أؤيد حقدك أيتها المرأة الدميمة إلى أن تعوّضي كلّ خسارتك في الحب ، ويكفيك أنّني أؤيد هذا الحقد الذي سيذيبه المطر ذات يوم . . يكفيك أنّني أؤيده وأحبه ، ولكن ينبغي أن تعلمي أنّني أنتظر هلاكك فيه !!

 

ثم يقول لها قبل أن يغرب عن ناظريها إلى الأبد :

" لا تأملي بغير هذا الحب ! "

 

بعد هذه المواجهة كان عليه أن يذهب إلى مكان آخر ليلتقي شخصا مهمّا يستطيع أن يساعده أمام القاضي المكلف بإصدار الحكم عليه .

 

علما أنّ قضيته هي من نوع لعبة الصيد التي يستخدم فيها الصياد فخا لاصطياد حيوان ينتفع به ، فإذا به يصطاد نفسه في الفخ الذي استخدمه مرة واحدة في حياته !!

لقد وقع أبو عادل ضحية الفخ الذي أعدّه بنفسه ! وإلى ذلك الحين كان ما يزال عالقا فيه ! وإذا كان يريد شيئا من الشخص الذي ينوي مقابلته فإنه كان يريد بعض المساعدة للخروج سالما من هذا الفخ اللعين ؟!

لكن ماذا يفعل الآن ؟ هل يذهب إليه ؟ أم يبحث عن مكان لإفراغ مثانته المملوءة بسائل لا يستطيع احتماله ؟ بالتأكيد ، المرحاض أهمّ مكان يحتاجه الآن ، وفتحته التي سيصب فيها بوله ذا الرائحة النافذة لا يقارن من حيث أهميته بأي مكان آخر !!

" لكن أين يوجد هذا المرحاض اللعين ؟ "

هذا ما تساءل عنه أبو عادل وهو يخرج من الزحام الذي أحاط به ، وعندما وجد نفسه حرا راح يصعد السلالم بحثا عن المراحيض التي لابد وأن تكون موجودة !

لقد تجول في كل الطوابق ، وفتش كل الدهاليز ، ثم عاد وهبط إلى بهو المحكمة من دون فائدة ! الغريب في كل ما قام به هو عجزه عن رؤية مرحاض واحد !

شيء غريب لم يستطع تفسيره على الرغم من وجود المراحيض في أكثر من مكان ! إضافة إلى حاجته الأكيدة لإفراغ بوله في أي زاوية من زوايا ذلك المبنى !

لكن وحتى لا يظل جاهلا بنفسه ! رأى أنّ بحثه عن المراحيض وإضاعة وقته سدا محافظا بذلك على توتره وارتباكه يظل أمرا مقبولا إذا هو استطاع الخروج سالما من المحكمة ؟!

 

فاستكان في البهو حابسا بوله ، ومشاعره ! ثم نسي المراحيض ، ونسي الشخص الذي فكر في مقابلته خاصة بعد أن وجد نفسه في خضم متاهة أخرى ! ذلك لأنه لم يعرف ما إذا كان القاضي قد أخرج ملفه أم لا ؟ ولم يعرف ماذا كتب الكاتب وماذا لم يكتب ؟

ومن أين له أن يعرف شيئا بوجود المراجعين الذين تجمعوا أمام القاضي ؟

 

لقد كان ذلك مؤلما وضاغطا ، ونتيجة لذلك أحس بتعاطف مع حقد تلك المرأة التي أعد لها خطابا في المساء ، وأحس بسعادة كبيرة لأنه لم يقابلها بعد !

( الخطاب ما زال مستورا في ذاكرته )

هذا ما فكر به عبد الله وهو يجوس بناظريه أيّ نأمة ، أو حركة تمكنه من اختصار الوقت ، وفيما هو متنبه لأية مفاجأة ، رأى موظفا أضجره الملل ! كان هذا الموظف يقف تارة في باب غرفته ، وتارة أخرى يعود إلى مقعده ليستريح ؟!

 

فقال عبد الله محدثا نفسه : 

" يمكنني أن أجرب ".

قال ذلك ثم توجه إليه ، وعندما صار أمامه حيّاه بطريقة العارف بالناس جميعا ! فرد الموظف على تحيته وهو لم يزل ينظر في وجهه !

فابتسم أبو عادل وقال :

ـ يبدو أنك لم تعرفني ؟

أجابه الموظّف :

ـ لا تؤاخذني . . فأنا لم أتعرف عليك ! ؟

قال عبد الله :

ـ التقينا ذات يوم في مقهى ( م ) لا أدري إذا  كنت تذكرني ؟ يومها كنت بصحبة الأستاذ حسن ، وأبي محمود ، فتحادثنا بعض الوقت ، وعندما رأيتك الآن ، قلت لنفسي سأغتنم هذه الفرصة وأسلم عليك ، إنني أشعر بالفخر عندما يشاهدني الناس أسلم على رجل محترم مثلك !؟

فسأله الموظف عن سبب وجوده في المحكمة من دون أن يشغل فكره بروايته !

حينذاك شرح له أبو عادل كل ملابسات القضية والمظالم التي واجهها منذ اليوم الذي تبلغ فيه إعلان المحكمة !

من جهته أصغى الموظف إليه بانتباه كامل ، وبعد أن سمع كل ما عنده ، نادى سيدة لعلها كانت تقف أمام غرفته ، فاستجابت المرأة لطلب الموظف حتى عندما همس لها ببعض الكلمات !

 

لقد حدث كل شيء بسرعة عجيبة ! المرأة أشارت لأبي عادل كي يتبعها ، ولم تكلمه إلا بعد أمن دخلت غرفة القاضي

هناك سألته ما إذا كان يحتاج محاميا ، فأعلمها بأنه لا يريد محاميا لهذه القضية ، لكنه سيحتاج هذا المحامي في قضايا أخرى كثيرة ، لأنه متورط كما قال .

 

فطلبت منه السيدة أن ينتظر ، ثم تقدمت من القاضي وتحدثت إليه ! فتحدث القاضي بدوره مع كاتبه ! وكتب هذا الكاتب في دفتره سطرين أو ثلاثة ، ثم تناول هذا الكاتب قصاصة وكتب عليها بعض الكلمات ، وبعد أن أعاد قراءتها أعطاها للسيدة التي كانت تراقبه ! فخرجت السيدة بقصاصة الورق ، ولحق بها أبو عادل إلى أن توقفت في مكان خال من ذلك البهو الواسع

 

عندئذ قالت له وهي تسلمه الورقة :

ـ التاريخ مكتوب على الورقة وجلستك القادمة تأجلت إلى هذا التاريخ ، لكن إذا أردت مساعدتي فلابد لك من رؤيتي قبل أسبوع من هذا التاريخ !

قالت ذلك وهي تقدم له رقم هاتفها ، ثم ودعته من دون أي كلمة أخرى !

فغادر عبد الله المحكمة وهو يفكر في تلك السيدة التي أمسكت بقضيته من دون أن يطلب منها ذلك ! وإذ شعر بشيء من الرضى جرّاء مساعدتها له في تأجيل المحاكمة فإنه لم يكن راضيا من طريقتها في استدراجه لإرضائها وإرضاء القاضي أيضا !

 

غير أنه ما إن أصبح خارج المبنى حتى أحس بشيء من المرح ، وعندما قادته قدماه إلى تلك الحديقة التي يحبها ، توجه من دون إبطاء إلى دورة المياه حيث أفرغ كل البول الذي حبسه في مثانته ، ثم غسل يديه ووجهه ، بعد ذلك غادر دورة المياه ليستريح على أحد المقاعد الخالية .

 

هناك أشعل سيجارة ، وفكر في تلك المرأة التي كتب لأجلها خطابا ، لقد فكر بمأساتها وحقدها الذي جمعته قطرة ، قطرة ، فانطوى على نفسه وهو يحس بتعاطف صادق مع تلك المرأة التي ظلمها مرتين ، وعندما فرغ من سيجارته كان قد أعد خطابا مختلفا عن سابقه ، فنهض على قدميه ، وذهب لزيارتها حتى لا يلوم نفسه إذا هو لم يستطع زيارتها في المستقبل .  

 

 

الكلب

 

 

لم  تفهم أمّ ربيع لماذا أخرج زوجها بندقيته من مخبئها ! بل لم تفهم حاجته إليها في وقت كان يستعد فيه للقيام بنزهته المعتادة ! فتملكها الرعب حين شاهدته يحمل البندقية وقد علت وجهه مسحة من الغضب الممزوج بالحزن ، ثم سألته بصوت يرتعش من الخوف :

ـ لماذا . . ما حاجتك إليها الآن ؟

وقبل أن تسمع جوابه ابتسمت له برجاء وتابعت متسائلة :

ـ ماذا جرى ؟

 

فقال أبو ربيع متباهيا بما عزم عليه :

ـ سأقتل الكلب !

 

حينذاك أصغت زوجته باهتمام إلى ذلك الصوت البدائي الذي يصدر عن حيوان لم تعرف المرأة ماذا يكون !؟ وقد كان الصوت غريبا وهمجيا إلى الحد الذي جعل المرأة تنتقل بفكرها إلى أقدم العصور ! فأحست بالرعب وهي تتخيل تلك الأزمنة الموحشة !

" لكن ما شأن الكلب بهذا الصوت ؟ "

 

فكرت بما قاله زوجها . ثم قالت متسائلة :

ـ كلب من ستقتل  !؟

ـ كلبنا !

ـ يا للفظاعة  . .  ماذا فعل كلبنا لتقتله  ؟ !

 

قال الزوج الغاضب :

ـ ألا تعرفين ؟ أيام ثلاثة مضت وهو يسعى ليفوز بتلك الأنثى التي تعوي طوال الليل ! !

عندئذ فهمت أم ربيع سر ذلك الصوت الغريب ، فقالت مازحة :

ـ يا للعار . . اسجنه إذا أردت ؟

لم تعجبه هذه المزحة . فقال وهو يهم بالخروج متأبطا بندقيته :

 

ـ قد أكون رجلا طيب القلب . . لكنني لا أستطيع تحمل سلوك هذا الكلب !

 

ذاك المساء كان باردا قليلا ، ونسائم الخريف الشاردة كانت تعبث بأوراق الأشجار التي سقطت والتي لم تسقط بعد ، وقمر تشرين الذي اكتملت استدارته لم يقل صراحة أنا أحب الخريف ! لكن أبو ربيع الذي كان يميل إلى تصديق حواسه اعتقد أنه سمع هذا القول ! 

 

باختصار :  كان أبو ربيع يشعر بشيء من الحيرة في داخله ! ومرد ذلك يعود إلى طبيعة هذا الرجل الذي امتزجت فيه بعض الطيبة وبعض الذكاء إضافة إلى بأس الفلاح الذي ورثه من أصله الريفي . . 

 

لكن ماذا عن زوجته التي جاء بها من تلك البلاد التي حولت منزله إلى مزبلة لكل نفاياتها الصناعية ؟ وماذا عن زملائه الذين يتصادم معهم طوال الوقت ؟ سنوات طويلة مضت وكل شيء بينهم يموت  ! !

 

أما زوجته التي لا تنفك تشعره بالحرج فكان يتجنب المواجهة معها ! الأمر هنا ليس عائدا إليها بالتأكيد لأنه أحبها وما يزال . ولكن . . هناك ما ينبغي التركيز عليه !

 

" الكلب . . ؟  قد يكون وفيا . . ؟ لكن صورة الكلاب التي تنبح لتشبع من موائد أصحابها جعلته على الدوام يكره مثل هذا الوفاء  "

 

هنا رأى أبو ربيع ـ رغم ما كان يحس به من تشتت في أفكاره  ـ  رأى إمكانية ما للقيام بعمل ما ! لكنه وقبل أن يترك لنفسه فرصة الاسترسال في مشروعه المضحك ابتسم ساخرا ، ثم تابع سيره مع تلك الابتسامة التي لم تفارق ثغره طوال الدقائق التي قضاها على الطريق .

 

عشرون دقيقة لا تزيد ولا تنقص كانت كافية لوصول أبو ربيع إلى أعلى الجبل حيث  يتربع بيت صديقه عبد الله مشرعا على جهات ثلاث ، الغرب والشمال والجنوب ، وفي أسفل الوادي تمتد بحيرة السد الكبير بخلجانها الخمس ، والقمر الذي بدا متألقا في تلك الليلة العظيمة أضفى على المشهد شيئا من صفاء الأزل وصفاء الروح التي لا تضيع لحظة واحدة للإنسراب فيه !

 

بهذا المزاج ضغط أبو ربيع على مفتاح جرس البيت ، ثم انتظر لحظات إلى أن جاء عبد الله وفتح الباب ، فلما تقابلا تصافحا بمودة ، ثمّ اتجها معا إلى الشرفة .

 

إنّ أبا ربيع الذي سارع للوصول إلى الشرفة كان يظهر استجابة لقضاء ساعة من الزمن بأي صورة أتت ! أما عبد الله فقد نادى أفراد عائلته ليحضروا شرابا ساخنا ، وبعد لحظات أعاد نداءه ثانية ! لكن أحدا لم يستجب لندائه ! فتوجه أبو ربيع بمسمعيه إلى داخل المنزل ، وعندما لم يسمع صوتا ولا حركة . قال :

ـ لا أحد في الدار .

 

فقال عبد الله بشيء من الألم :

ـ هل يعقل أنهم اتفقوا جميعا  ؟ !

 

قال ذلك ثم دخل المنزل ليرى ماذا بإمكانه أن يفعل ؟ فقال أبو ربيع محدثا نفسه :

ـ لا بد أنّ هناك مشكلة ما ؟ ! رغم أنّ عبد الله لا يختلف في شئ عن أولئك الرجال الذين خابت آمالهم باكرا فاعتكفوا في منازلهم لإرضاء زوجاتهم !

 

وقبل أن يلملم حواسه ليحدق في البحيرة التي كانت تتلألأ تحت ضوء القمر عاد عبد الله إلى الشرفة من جديد . فقال أبو ربيع بعد أن خطر له خاطر مضحك :

ـ حميدة تسلّم عليك .

ـ حميدة . . !

ـ في هذه المرة اكتشفت أنها تكنّ لك الكثير من الإعجاب ، وقد شعرت بشيء من الغيرة عندما رأيتها تتقصد الحديث عنك ! يالها من امرأة ماكرة !

 

فرجع عبد الله إلى المطبخ بوجه بشوش ، وبعد قليل عاد إلى الشرفة يحمل معه صينية الشاي ، وضعها على الطاولة ، ثم قال كمن يحدث نفسه :

ـ حميدة إذن . . !

 

فالتفت أبو ربيع ليتأكد أنّ صديقه مستعد للاسترسال في حديث لا علاقة له بمشاكل العائلة ! ومن يدري . . ؟ لعل عبد الله كان فرحا بما حضر في ذاكرته من مغامرات العشق التي لا يريد لها أن تموت ! ؟ ومن فرط سعادته بدا متهيئا لسرد رواية كاملة !

 

ذلك بدا واضحا من خلال حرصه على المقدمة التي ابتدأ بها والتي حضرت إلى ذاكرته في وقتها ، فابتدأ الكلام وهو لم يجلس على كرسيه بعد ! لقد تفجرت مغامرات العشق في ذاكرته ، ثم راحت تنساب بين المنازل والمنعطفات مشدودة إلى جغرافيا الانحدار الذي تحيط به البحيرة من كل جانب .

 

فرأى أبو ربيع بعد أن سمع قصة كان قد سمعها مرات كثيرة . .  رأى أنّ مثل هذه البحيرة الواسعة لا يهمها أن ينسرب إلى مائها أيّ ماء

 

قليل ! وقد استعار هذا التشبيه ليخفف من وطأة الملل الذي إن هو تسرب إليه فسوف يشعر بحزن كبير ! ولأنه هو الملام على جنايته التي اقترفها بإرادته فقد لام نفسه وغاب !

أما ما حدث بعد ذلك ، فإنّ غيابه كان مروعا ! ولم يعرف لماذا كان عليه أن يغيب  وإلى متى يظل غائبا ؟  لقد سعى إلى صديقه عبد الله ليروّح عن نفسه ! لكن ما حدث لم يكن مطابقا لهواه ! والغياب الذي فاجأه كان أشبه بالخيال حيث وجد نفسه في دنيا غريبة . . يلاحق خيالا رغم المخاطر التي تنتظره حتما ! ! والمخاطر التي أحس بوجودها تكمن هناك على الخط الذي لا يمكن تحديده  في الواقع ! وهناك حيث تلتقي البداية بالنهاية ، يتربع طاغوت الحياة ، والقوة ، والبرامج ، والمال ، والإرهاب ! وإلى هناك تهب ريح الفقراء المنكوبين الخائفين رغم أنهم لا يجدون غضاضة في سرد حكاياتهم حتى ولو كانوا

 

جائعين ! ومن هناك كأنه سمع صديقه يسترسل في سرد مغامرات عشقه القديمة ! فعاد إليه لإيقافه عن سرد المزيد ! إلا أنّ عبد الله سأله عما إذا كان يحب سماع مغامرة الشاطئ التي كانت ستودي بحياته !

 

 فنهض أبو ربيع عن مقعده بهدوء ، وبهدوء تأبط بندقيته وغادر المنزل من دون أن يقول كلمة وداع واحدة ! لعله لم يستطيع سماع المزيد ، والصخب الذي كان يملأ رأسه ازداد حدّة ! !

 

إنّ غيابه والمغامرات البليدة التي يتمسك بها عبد الله ، إضافة إلى ذلك الصوت البدائيّ الذي كان يصدر عن تلك الأنثى المتوحشة . .  إنّ كل هذا كان رهيبا ! فانطلق يعدو لملاقاة ذلك الصوت المقيت !

 

عبد الله الذي راقبه وهو يخرج لام نفسه عندما لم يسأله عن البندقية ، لكنه ما إن سمع صوت البارود حتى فهم كل شيء ؟ !

 

" الأنثى المتوحشة عندما تريد اقتناص طيور الفلاحين تعوي لتخرج الكلاب إليها . . هذه عادتها !! "

هكذا مضى بعض الوقت ثم دوى طلق ناري آخر ، فقالت الأنثى المتوحشة :

ـ لقد قتل الفلاح كلبا أو كلبين ! هذا أحسن .

ثم استمرت تعوي .

 

 

الشرنقة 

 

عندما وصلت الحافلة إلى أرض المحطة ، بدت الحركة في تلك الظهيرة المشتعلة بأشعة الشمس على غير ما يشتهي المسافرون الذين طال مكوثهم على مقاعدهم ، فقد تسلل الخدر إلى أطرافهم ، وكان عليهم أن يفكروا كيف سيغادرون الحافلة بذات السرعة التي كانت سائدة في ذلك الوقت .

ما يهمنا هنا هو عبد الله الذي غادر الحافلة بحذر شديد ، خاصة وأنه عندما وضع قدمه على الإسفلت الساخن مطّ عنقه ليحدد وجهة سيره ، فأحس بعنقه وقد تحول إلى عنق دجاجة مذعورة ، وعندما همّ بالسير أحس أنّ ساقيه عاريتان وضعيفتان مثلها ، فهرول مثل الدجاجة إلى رصيف المحطة ، ثم توقف بجانب حائط الاستراحة ، ومن ثم بصق على الأرض لاعنا حظه بكثير من الغيظ .

 

بعد تلك الصدمة أخذ عبد الله ينظر في عيون المارة ليرى كيف ينظرون إليه ، لقد أذهله إحساسه المخادع بتحول عنقه وساقيه ، وبدا عاجزا وخائفا ، فقرفص حيث كان ، ثم أشغل فكره إلى أن أشارت عليه خافيته بصنع شرنقة من نسيج نفسه يغلف أحاسيسه بها ، وبشيء من الصبر والابتهال استطاع أن يحصل على مبتغاه ، إذ سرعان ما أحس بالشرنقة تغلفه من رأسه إلى قدميه ، وإلى أن هدأت خواطره المتكدرة رويدا ، أخرج لفافة وأشعلها ، ثم راح يمج دخانها وهو يتأمل وجه الحياة في تلك المحطة التي أصبحت بالنسبة إليه مجرد لعنة أضيفت إلى لعنة أخرى لا تقل عنها سوءا .

 

في تلك الأثناء حيث كانت الساعة تقترب من الثانية ظهرا ، سأل عبد نفسه قائلا :

" كيف يستطيع هؤلاء الناس الانتظار في هذه المحطة ، فهي تفور بالعربات ، والباعة . . !!! يا لأصواتهم مشبعة برائحة الإسفلت !!

هنا كل شيء يذكر المرء بالضلال ، وأنا عابر يتوق للخلاص ! لكن ماذا أقول عما فعلته بزوجتي وقد شاهدني بعضهم ؟! نعم لقد شاهدتني أم

سلمان ، والتاجر أبو محمود ، وبعض الأولاد !!

هي قالت إنهم ينظرون إلينا ، أما أنا فلم أرى غير جسدها الذي احتضنته بين ذراعي .

 

حينذاك كنت أنتظر السيارة لأقوم برحلة إلى مزاري ، وكانت هي عائدة إلى البيت ، فلما رأيتها داهمني طغيان تمنعها ، وعجبت من نفسي كيف أقبل الهزيمة أمامها .

( شيء غريب )

 

إنّ ما رأيته في داخلي لم يكن أقل من بركان يعلن عن ثورته ، أما هي فكانت تتباهى بانسياب جسدها ، فاختبأت ، وإلى أن مرت بي ، أمسكت بها ، وعندما انتهيت ، تركتها تجري إلى البيت ، أما أنا فقد ركبت سيارة عابرة وابتعدت .

 

نعم لقد قطعت نصف الطريق ، والآن لا أعرف إن كنت سأكمل النصف الباقي ( خاصة بوجود هذه اللعنات التي تلاحقني )

 

قد أكون جاهلا بما استجد في هذا العالم ، ولكن أن أكون ملعونا فهذا ما لا أقبل به " بهذه الكلمات ختم عبد الله حديثه مع نفسه ، ثم نهض ليمشي ، وبعد أن أمضى بعض الوقت متأملا مداخل الشوارع ، سلك الشارع العريض الذي يصل المحطة بمركز المدينة .

 

لقد سلك عبد الله هذا الشارع وهو في غاية الانتباه خوفا على شرنقته من المسرعين المتهورين ، وبعد أن مشى مخترقا فوضى العابرين ، أحس بالفخر لتمكنه من حماية نفسه ، ولعله استمتع برؤية الفتيات الجميلات ، إذ أنّ هذا الرجل كان شهوانيا رغم تقدمه في السن ، وكان كل ما فيه يوحي بذلك ( خاصة ملامحه التي لا تقبل التأويل )

 

فقد كان أنفه مفلطحا بعض الشيء ، وشفتاه غليظتان ، وعيناه

 

نهمتان ، ورائحته واخزة ، أما ثيابه فكانت تختفي في معظمها تحت معطف عتيق لعله حصل عليه من إحدى محلات الألبسة المستعملة ، ومن تحت المعطف المفتوح ظهرت كنزة صوفية خاصة بطلاب المدارس ، وبنطاله كان مشدودا إلى وسطه بخيط من القنب .

 

مع ذلك فقد كان عبد الله يعتقد بيقين مطلق أنه الأفضل بوجود شرنقته التي تحميه ( إنه اليقين الذي يمكن فهمه واستيعابه من خلال إيمانه بقدرة الشرنقة ليس على حمايته فقط بل على حماية الحيقة الكامنة خلف وجوده  )

 

هنا فكر عبد الله كيف عاش حياته ممتلئا بهذا اليقين متفائلا به وساعيا إليه ، أما تلك اللعنات فتبقى مجردامتحان قد ينجح فيه وقد يفشل ، وإذا ما أحس بالفشل فهو لن يجد غير الشرنقة ملاذا يحتمي به .

 

في هذه الأثناء حيث كان يترنح في مشيته مخترقا صفوف اللعنات التي أحاقت به ، كان الشارع قد أصبح أكثر ازدحاما ، والموظفون الذين غادروا أماكن عملهم سلكوا بمعظمهم هذا الشارع بغية الوصول إلى المحطة ، وكان ابنه أحمد واحدا من هؤلاء ، ولولا المصادفة الموجودة دائما لوصل أحمد إلى المحطة من دون مفاجأة تذكر ، إلا أنّ قوة المصادفة هي التي صوبت ناظريه إلى والده ، فرآه كما تعود أن يراه .

 

لقد رآه حالما ويائسا ، ورآه متوترا تتمرغ روحه المعذبة في هياكل

الكلمات ، وفي التراب ، والعرق ، والألم ، ورآه . . . !! ثم رأى نفسه يقول

" إلى متى تطاردني سكرة أبي الممزوجة بكل ألوان البؤس ؟ وإلى متى أظل أقول نعم ؟ إلى أن يموت ، أو أصبح مثله فيرتفع صوتي في مقابل صوته ؟ وما هذا الذي يجمعنا ؟ عبودية أم عادات !؟ ولماذا نحن !؟ إنّ السلام في عائلتنا غريب ومخيف ، بل هو مخيف جدا  "

 

أفرغ أحمد توتره بهذه الكلمات التي حدث نفسه بها ، ثم لحق بأبيه ، وعندما صار خلفه لا تفصله عنه سوى خطوات فقط ، اكتشف كم هو محكوم بتلك المسافة التي تفصل العبد عن سيده .

 

من جهته كان عبد الله مستكينا إلى صلابة الشرنقة التي تحميه رغم أنها لم تقدم له نفعا حين آلمته معدته الخاوية ..

هكذا شعر كل منهما وربما في وقت واحد بأنه يعود إلى تلك البداية البليدة ، بداية الخوف البدئي ، حيث لا الماضي ولا الحاضر يخدمان اللحظة

 

الراهنة ، وأدرك كل منهما بعد المسافة التي تفصله عن مبتغاه ، فتعثرت مشاعرهما المندفعة إلى الأمام في لعبة السباق الأبدية ، لقد تعثرت ووقعت ، ثم ارتدت بهدوء إلى الإسطبلات المعدة لها حيث السكينة بعد التعب ، والاجترار مع الشعور بالامتلاء .

 

حينذاك تقدم أحمد من والده ليقول له شيئا كان قد أمعن فكره فيه ، وعندما وصل إليه قال له منتهزا وجوده في تلك الفسحة من اللامبالاة :

 

ـ إلى أين أنت ذاهب ؟ ولماذا تمشي مثل دجاجة أضاعت حظيرتها ؟

 

فالتفت عبد الله إلى الصوت الذي أثار فيه رعبا وخوفا شديدين ، وخلال لحظات تلاشت شرنقته ليتحول من بعدها إلى دجاجة خائفة لا تعرف ماذا تفعل في شارع مزدحم بالعابرين ! فأمسك أحمد الدجاجة من ساقيها وعاد بها إلى المحطة حيث لا بد من العودة إلى المنزل

 

أضيفت في 11/03/2009/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية