أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتبة: ليلى مقدسي

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

مواليد 1946صافيتا ـ سوريا، عملت في التدريس مدة 28 عاما

 

صدر لها العديد من المجموعات الشعرية

ثالوث الحب.. غمامة ورد..عرس قانا.. وردة أخيرة للعشق

لغة الجمر.. نص القلب

وكذلك روايتي؛ لأننا لم نفترق .. ذاكرة البحر تقرأ وهناك القصة ومنها؛ قطوف وأوراق ،عنود، رسائل وصلت

لديها الكثير من المخطوطات ما بين شعر وقصة ودراسة

 

من خصل الإهداء

" يا رب … لا تعلّمني الحكمة بل علّمني المحبة "

حين رحلت طفولة الحب مني ، وجدتها في دروب الإنسانية المتألمة وبقي الحب

 يهرب من دائرة الزمن العكرة … وبقي الحب، وحدة التلاحم بين الكائنات

نخرج منه … ونعود إليه

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

ومضات إنسانية

دموع الشموع

ولهي

رؤى 

طـوفان الزمـن

عرس ليلة

 

رؤى

 

 

كل خلايا الغرفة مشبعة بصمت البياض ، تنكمش خطواتها المترددة ، تنزع نفسها من عيون الآخرين . فاجأها صوته المضطرب .. رؤى – وتردد في وديان قلبها العائمة بالقلق ، جسد سامح مسجى مذهولة تنظر إليه . ولا مجال لإقفال نزف الذاكرة ، فكل الحب انطفأ بعد رحيل سامح ، وانتظاره لها كان يترنح بين دهاليز الغربة رغم زحف السنين التي تنزلق بين أحلام فتاة ريفية مغروسة في تربة العادات والتقاليد .. وبقيت عين الماء تحكي بخريرها لرعشات الأرض حكاياتهما ، وما زالت أعراس القرية ، ودبكة عذارى الفرح تشدو أغانيهما . سامح لرؤى ، ورؤى لسامح ، إلا صرخة الأهل . فالعداوة المتوارثة بين العائلتين تتشعّب وتكبر ، وعليهما أن يدفعا ثمن أحقاد لا ذنب لهما فيها .

رفضت رؤى كل شباب القرية .. – هربت إلى ذاتي المغلقة وبقيت أحبك في سريّة الشفق ليلة عرس ابنة خالتي ، لمحته من .. المرآة من النافذة متسللاً إلى السطح بين ضجيج الأفراح . وقرع الطبول ، تملّكني رعب مفاجئ ، وأضاء وجهه كوجه قديس ، انسحبت من بين الصبايا وكنَّ يزيّـنَّ العروس . اتجهت نحوك رفعت وجهي إلى عينيك بوداعة طفل ، ونظراتك الغامضة تحنو على اضطرابي وخوفي - .

شدني من يدي إلى حيث حلقات الدبكة ، وشعرت أني عاجزة عن الرفض ، وتكوّرت معه في حلقة الشجاعة ، ونتلاشى بين زحمة الرامقين ، وأمام نظرات أبي الحادّة أنفرط من بين يديك وأتوارى ، ولن أساهم بطلقة بندقية من أحقادهم سوف أحميك بهروبي منك، وهذا التحدّي أوقعنا في متاعب طويلة وأرغم سامح على الهجرة خلف أسوار البحر ، وبقيت عارية من الوعد وحرقة البعد تزحف فوق عظامي المتعبة ، وأحلامي المرعبة والعقل يبدي مقاومة شرسة ، وبقي كلانا يزداد عناداً في الإخلاص ، والسنوات تقطر انتظاراً - .

عشرون عاماً وكبرت رؤى ، عشرون عاماً قاومت ضغط الأهل وانتظرت سامح ، وحياته تتبعثر بين الدروب والمنعطفات ، وقد شدّ حبل المرض عنقه ، فنصحه الطبيب بالعودة إلى وطنه ، وقد استعصى عليه نسيان رؤى بغربته المضنية .

جسده مسجى في غرفة المشفى ، ينظر إلى السقف الضائع في بياض مغلق ، وتتدحرج قطرات الذكرى مغسولة بالعرق البارد على جبهته الواسعة ، تتراءى لعينيه صور من أشباح الماضي .

- ابتعد عن قريته تحت إلحاح الأهل وقسوة مفاهيمهم ، ظناً منهم أن الغربة تبدد الحب ، وتصفر ألوانه في خريف البعد . لكن رؤى قوة خفية تتمدد حوله ومعه ، تلك التي صمدت وقاومت في شراسة غابة القرية سنوات طويلة بين السهر والمرارة والرفض لكل راغب فيها . أصبح إخلاصهما جنوناً ضمن عقلية الأهل والقرية وامتدّ هذا الإخلاص وطوّق مدن غربته .

الزمن ، والبعد . جمد خطوات الثأر بين العائلتين ، وحين انفرج الصبر كان لون مرض سامح قد طفح على كل تضاريس القرية ، والجسد يذبل ، والعيون تنظر إليه الآن بشفقةوالطبيب يمزق خيط الأمل لأن أنفاس الخيبة تعم الأرجاء .

- أريد رؤى .. رؤى .. ر .. ؤ .. ى .

في سريره ينتظرها ، والوجع الصامت يغطي الوجه المنتظر الشاحب – رؤى – أمامه والعشرون عاماًَ غامت غير مرئية .. فراشة الروح العابرة غطت يؤججها التذكر والحنين ، ، وليس هناك أمل ثابت يخفف عنه نار الوهن المقهورة . وكل النساء ، وكل الوجوه انطفأت – رؤى – وحدها تفيض في روحه إلى منتهاها

- رؤى .. ر .. ؤ .. ى .. أريد كأس ماء

الرشفة الأخيرة تبلل الشفاه من كأس نضب ، تجمد بين أصابع مرتعشة ثم هوى إلى الأرض فائضاً بمائه ، لم يتحطم فهو باقٍ وجعاً وأنيناً بين أصابع رؤى المذبوحة ، للرشفة الأخيرة يرتسم الرقم العشرون على جبهة الانتظار ، وتبرق شرارة الموت وينهار الجسد..

 

تجمدت – رؤى – والكلمات مخنوقة في حلق جفّ فيه الصراخ ، وتلظى الفقدان في تل العدم .. وبقيت – رؤى – حكاية لشوارع القرية ملتاعة .. ملسوعة ..

 

أكانا يلهثان وراء السراب عشرين عاما ؟!.

 

 

 

ولهى

 

 

يدور من مكان إلى آخر على غير هدى ، ثم ترقد هذه الشوارع تحت عجلات السيارة التي تقلّه إلى ريفه الجميل . يصل والليل الصامت يحدّق بوجهه، سوف يصرخ طويلاً ولن يسمعه أحد، يخاف صوتها الذي يلاحقه ـ لن يستقرّ أبداً ...

ما دام بقي وحيداً أيّة روابط تشدّه إلى أهله ، إلى ريفه ، ودفء ولهى اللذيذ يسري في عروقه . وجهه أشبه بلوحة تجريدية فيها أثلام الحزن ، وعينان غرق فيهما سواد الألم . صوتها يلاحقه وهو واثق أنها ستعود .. يرنّ الهاتف ، ينتفض ويحسّ إحساساً أكيداً أنها هي ، لقد اعتادت أن تتصل به إلى بيت الصديقة الذي يتردد عليه بين فترة وأخرى . وأيضاً ، تتصل به من البلد البعيد الذي رحلت إليه مع أسرتها ووعدته أنها ستعود . ويقف أمام حالة قلق يائسة .. اليوم الاثنين ، الساعة الثانية عشرة ظهراً ، يرنّ الهاتف ، يقفز صوتها يقرع ذاكرته ، بحزن يهمس : - ولهى – ويخيّل إليه أن وجهها ذابلٌ من البعد كنجم انطفأ – مجد .. أأنت بخير ؟..

هذيان أفكاره يغوص في دوامات الأوهــام ... لِمَ تعذّب نفسك؟.. الأجدر أن تكون أكثر قوّة – أطفأ السيجارة في منفضة تأوّه التهابها حريقاً ، إنه لا يصدّق أن أشهراً طويلة تمرّ وروحه تسترخي على ضفاف الغياب . ضيق في صدره ، كم هو بحاجة إلى دفن وجهه المرهق في حنايا صدرها .. – ولهى – قارّة بعيدة في آفاق الغياب . لقد كتب لها قصيدة " حورية الموت الأخضر " . وتهدر كلمات قصيدته في بحار شاسعة . وتتشابك أحاسيسه مع خيطان الحزن .

يجب ألا يضيّعك الحب ، هل تضيع في – ولهى – وحدها ؟ لا أحد في الغرفة سوى أنفاس الذكرى اللاهثة ، ويغرق أفكاره في كؤوس . أليست الخمرة وسيلة للنسيان ؟.. وولهى تتأوّه في أعماقه ، وتلوّح من جديد شاحبة متعبة من المدن الأخرى .. دقائق وينتقل زمن الانتظار ، ويدفق صوتها في حنايا غرفته المعتمة الفارغة .

يلذّ لي جوعي إليك ، أنتظرك .. والقرية سقطت في حضن الليل الصامت . تعالي انسكبي فيَّ ، فأنا أنسكب في غوغاء ضياعي، سوف أكرهك يا أميرة الندى والحب . وسأتلذذ بعذابي لأني سأكرهك.. أين أنت ؟.. مباهجي المرعبة انطفأت .. وسأبقى أبحث عنك ..

في اليوم التالي رنّ الهاتف .. صوتها يشعّ بالفرح .. ولهى .. رجعت .

 

 

 

دموع الشموع

 

ما زلت في أعماقي كما كنت منذ عشرين عاماً ، رغم انزلاق الزمن فوق ظلمة فراقنا التقت نظراتنا بصورة غير اعتيادية يوم جئت لزيارة أخيك صديقي ، تتابعت الزيارات . لا أدري لماذا يرتعش صوتي حين أتحدث معك في جلساتنا ، وحيث يجتمع الزملاء والزميلات من أصدقائنا ، ونتبادل الحوارات ، وقراءة الأشعار . تعلو الأصوات وتنخفض ، ويخيّم على الجلسات جوّ من الألفة والمودّة والضحكات الرنانة ويترسب صوتك في كياني والشعر والموسيقا. وكنت أحمل قصائدك ، أنثر حروفها بين " آلة الكاتبة " أنمّقها ، أرتّبها بدقّة متناهية ، وأنا شبه حالم في رومانسية حروفك ، وأحسّ أن أناملك تسطّر الكلمات لتخزن في ذاكرتي وكأنّ كل حرف يهتف باسمي ملهوفاً .

كنت منهمكاً ببعض الأعمال ، وفوجئت بزيارتك لمكتبي . قلت لك ضاحكاً :

- أجمل ما فيك جرأتك التي اخترقت وحدتي . أزيارة أم تجسس سرّي ؟..

ابتسمت وفوح الفرحة فوق الصفحات التي تضمّ قصائدك . أقترب منك وأنا شبه حالم. تتجاهلين التصاق وجهي بوجهك، ويطلّ سؤالك حاجزاً تماس وجهينا :

- هل أنهيت نسخ القصائد ؟..

سؤالك تبرير ذكي لسبب زيارتك ، فأشرب من ملامح وجهك ، وأعبّ من ورد خديك ، وترتعش شفاهنا ..

مازلت في أعماقي ، رغم دورة الزمن العكسية ، ومازالت الشوارع مزروعة بخطواتنا ، ترعبني الأفكار لأني لم أكن أتصوّر أني سأفقدك لأي سبب كان في العالم . أرتعب حين أسطّر تاريخ ابتعادك ، لم أحسب عمق حساسيتك ولم أتوغّل في طغيان عنادك ، يوم زيارتك لنا . وقد لمّحت والدتي معلنة عن عدم رغبتها في زواجنا ، فاتفضت مذعورة وكأنّ مسّاً لدغ كرامتك. تشاجرنا واتهمتني بأني ضعيف أمام جبروت والدتي ، وإني راضخ لآرائها ، و.. و.. وأهنت رجولتي ، وجروح اتهاماتك تنغرس في صدري ، في تكويني . حاولت أن أثبت لك مدى قوّة تمسّكي بك ، ولكن فوران عصبيتك حرق كل شيء ، وحين عثرت عليك بعد زمن ، تألّق في بنصر يدك اليسرى خاتمك الذهبي ..

- متى تزوجت ؟..

- .. منذ عام ..

- إذن حين كنت مسافراً لخارج الوطن .

لم تنصتي لبقية الكلام ، مضيت غير مبالية.وبقيت رائحة المفاجأة تسيح من جدراني المرعبة .. عاودني أخوك حين خرجت من المشفى إثر عملية جراحية أُجريت لي ، وفوجئت بمجيئك معه لزيارتي ، نظرت في وجهك ، واستيقظت في أعماقي ببساطة وقوّة ، ومزّقت الذكريات المؤلمة ، وتذكرت أنه الأسبوع الثاني من آذار. ذكرى ما نسيتها قط – ذكرى عيد ميلادك – وتزامنت مع يوم زيارتك لي للاطمئنان على صحتي، وتقلب الفرح والحزن، وانتفضت سعادة مبهمة بداخلي لمرآك بعد عشرين عاماً، وتبادلنا الأحاديث بعفوية كصديقين قديمين. خرجت للحظات وعدت أحمل زهوراً ، وأشعل حولها شموع ميلادك ، ونظرات زوجتي تنتقل بالبحث منقّبة عن سرّ نشوتي ومعنى فرحتي. ركّزت نظراتك الخافتة بين توهّج ضوء شموعك ، وقطرات دمع صامتة تتكاثف في مقلتيك وتحاول أن تصدق أن ذكرى ميلادك ما زالت عالقة بأهدابي . منحني الزمن غيبنا يا لمى عشرين عاماً ، وعدت ألملم بقايا الحنين التي تهوي بين انطفاء الشموع في عناق خفي وديع من نظراتنا ، والشموع تسكب دموعها البيضاء بمسحة حزن مستكين ..

 

لماذا أستعيد هذا كلّه الليلة ما دامت قد مضت حلماً عابراً ، وبقي صوتك يأتيني ، مبحوحاً متعباً ، ووجهك حزيناً صامتاً ، ورفرفة جفنيك تضغط من جديد على جدران غرفتي .

 

 

 

 ومضات إنسانية

 

ما زالت مغروسة في قعر وحدتها ، وقد ألصقت وجهها بزجاج نافذتها الباردة منتظرة مجيء أختها البعيدة ، والتي أبرقت إليها منذ أيام أن تأتي . فالمرض ينسل من عروقها المرهقة ، وروحها تئن تحت أسياج الظلام في أزقّة ضيّقة والسنوات سلخت كل آثار قرابتها ، حتى الشمس من خلال نافذتها تراها مجعّدة في أشعتها، وقد تكدّست فوق ظلالها الباهتة في برك النور المتجمّدة ، ظل زوجها الراحل ينتزعها من وحدة الزمن ، وعائلتها الصغيرة اندثرت ، لم يبقَ لها سوى الأخت الوحيدة المتزوجة في بلد آخر . يتراءى الظل ، يقترب منها ، ووهج حنانه يلفحها ، وذراعاه تسكبان الدفء على صدرها ، لقد استطاع زوجها أن يغني لها كل أغاني الطيور ، وأن يلملم غربة روحها ، لأنها حُرِمَت من الإنجاب وعوّضها عن كل حنان الأرض والأهل والأبناء .

بعد ربع قرن وأكثر ، لحظة مشحونة ابتلعت لها الحنان . عاصفة غبار نتن هبّت على حياتها ، واقتلعت الجذر الحامي . ولقد بعثرت على قبره آخر زهورها ، ومنذ ذلك اليوم ونحيب الذكريات المؤلمة يلاحقها ، تقفز لتنهش الهدوء من حولها .. دوائر الزمن حولها تتسع وتضيق ، وذكريات تنفرط وتتجمّع . كم تسللت منتظرة مروره ، أحبّته وهماً نائياً ، وجذبتها أبخرة الوهم . وتفيض الخواطر المؤلمة والفرحة من جوارحها تمزّق صمتها ، في أمسية هاربة من دوائر الزمن التقيا . تأمّلته بفضول . كان عميق الحزن ، وابتسامته غلالات كبرياء هادئة ، ووجهه كروض تعبث به زهور الربيع . تعددت اللقاءات ، وانبثق الحب شلال صفاء ، حدثها بتعرٍ حقيقي عن ذاته ، كان صوته مقنعاً وساحراً.. يسقط الصدق تحت وطأة كثافته والدوامة الرهيبة لفحولة الرجولة تؤلمه ، تشده ، تجعله يحسّ بأسف عميق لأنه لا يستطيع الإنجاب لنقص ما في تركيبه الفيزيولوجي

 

كنت أتأمّل عينيه ، ولم أكن بحاجة إلى سماع بقية القصّة ، ولم أهرب بيدي من أتون يده ، وتعجز الكلمات أحياناً عن استيعاب انفعالاتنا ، ألا يمكن العيش بلا أولاد ؟.. ألا يمكن أن نتجرّد من أنانيتنا ؟.. الوجوه ، الأشياء أبخرة تتطاير في فضاء الطائرة ، وهي عروس له بثوبها الأبيض ، وعيناه لا ترحمان لحظة الانجذاب الخفية

 

كان شتاءً مدهشاً ، وكنا نطير فراشتين بين ضحكات مطر الأرض . تتراكض السنون ، تبتعد ، بصعوبة تفتح عينيها ، تنهض بتثاقل من غيبوبتها . الباب يقرع ، هذا وجه أختها يطلّ من البعد ، وفرحة اللقاء تشعّ تسير إلى جانبها تتحسس الأرض بعصاها ، تغرف الحنان من وجه أختها ، تحدّثها تجلس معها ويغمرها ارتياح مبهم . أنياب الوحدة تشتد على الجسد المسترخي تحت لسعات المرض والقهر .. لن تكون وحيدة بعد الآن .

 

السيارة الضخمة تترنّح في الدرب الطويل ، تمدّ يدها إلى حقيبتها التي بقيت لها ، تتحسس الأوراق المالية ثمن منزلها ، بعد أن أقنعتها أختها ببيعه والسفر معها . وسوف تزدهر أموالها في مشروع تجاري تقاسمها به . تشتدّ كآبتها كلّما أسرع السائق . لقد اقتلعت من جذورها وتزداد التصاقاً بأختها . لقد وصلتا ، وضمّها دفء منزل أختها شهوراً ، ثم وجدت نفسها من جديد تنحدر تحت الأرض ، وتنزلق الأحداث ، وتتفجر الحروف وغربان الغدر تنهش أعماقها المحزنة وتترسب ليالي عذابها السوداء ، وتتابع بصوت متهدج : عادت الغربة تضغط على عنقي ، بتّ عارية من كلّ شيء حتى من صلة القربى ، لقد رمتني أختي هنا في /دار العجزة/ .. وجوع أختي الجشع إلى ثروتي من منزلي الصغير المباع جعلها تقبض على كل شيء ، وتقذفني إلى هذا المصير ..

 

لماذا ترتعد ؟ ربما يحزنها إعادة الأحداث الأليمة ، فالحرب نفثت غضبها الأهوج على لبنان واقتلعت منزل أختها ، عرفت ذلك في مساء اليوم التالي بعد أن توقف القصف . ومن زوايا غرفتها يتراءى لها شقوق منزل أختها المخرّب وآلاف آلاف الليرات . تهذي باكية خائفة .. أصوات غامضة أشباح تطاردها ، وصوتها ينوح في نهاية الأشياء .. رحمك الله يا أختي ويغرورق دعاء الكلمات من شفتيها بالدمع .. لكن هل تموت الومضات الإنسانية ؟!..

 

 

 

طـوفان الزمـن

 

 

تنزوي بين شحوب الزمن الذي يسدل اصفراره، وتتساوى عندها الأيام والشهور ، والسنون . ترزح تحت ثقل أوجاعها التي تمنعها من مغادرة المنزل . هكذا هي عاجزة منذ خمس سنوات خلت..

 يارا ) ابنتها المدللة سافرت إلى بيتها الزوجي في أبعاد الغربة لتبدأ ) حياتها الجديدة ، سنتان ولم تأتِ – يارا – وصوتها على الهاتف قد يبعث الدفء في أرجاء وحدتها . الحياة جامدة حولها . لا تشعر بدهشة الفرح ، ترتمي على

السرير مخدرة بسموم الأدوية ، وظلال الدمع تراقص خيوط الذكريات تمسحها عن وجهها المغضن

- فراس لِمَ تأخرت ؟.

- زحمة المواصلات يا أمي !

- الطعام على المائدة ، هيا – يارا

المشاركة ممتعة ، والأنانية شريان العالم ، يظل ذكراهما ، صوتهما صورة لحلم عتيق باهت في نخيلة امرأة وحيدة مثلها، تبكي في مرارة ، تتجاوب الجدران مع أحزانها ، لم يعد يشاركها أحد في هذه الأيام ، حتى خبزها . ترى المنزل

صومعة مهجورة تسبح في الفراغ الرمادي . بالأمس البعيد – فراس – سافر بعثة إلى الخارج ، تأتي يارا لتطبع قبلة على

الوجه المحروق من تعب العمر . تأخرت يارا. يارا لن تعود . يوقظها صوت قاسٍ من خيالها السارح ، كيف نسيت أن يارا مع زوجها وقد سكنت غربتها . يتمدد الخيال ترقص الصور أمامها ، تضم – فراساً – الصغير إلى صدرها ، جسدها الحار

يعلو ويهبط يفيض بعذوبة طفولته ، - يارا – تركض أيضاً إلى حضنها ، يدها على وجهها تربّت عليه بحنان ، تنهض متثاقلة من السرير وقرع جرس الباب يوقظها من أحلام يقظتها تعبر أمام رؤاها ، تطل أختها الطيبة ومنابع الحنان تجري

بين نبض لهفتها ترى آثار الدمع على خديها المحروقتين :

- إلى متى يستمر عذابك هذا ؟..

تفقد القدرة على التركيز ، تنظر إلى وجه أختها الوحيدة ..

- داري التي كانت تفور بالحركة والحيوية والمرح ، تنبت فيها الآن تشعبات

الظلمة وتطمر بالصمت ، ويقبع لسع البرد في أرجائها..

- إلى متى ستبقين وحيدة ؟ لِمَ ترفضين العيش معنا ؟

- لن أغادر بيتي ، لا أستطيع إنه الجزء المتبقي من حياة جميلة عشتها ..

تصمت أختها لأنها تدرك معنى تمسكها بمنزلها ، ومدى عنادها في مواقفها تثرثر

معها لتدخل بعض البهجة إلى روحها القلقة . ثم تعود إلى أسرتها .. تستلقي

على السرير . يضم جسدها المنتفض المحموم ، وتعاودها الذكريات كالقطيع

الشارد على الأرصفة وتتمشى في زوايا الغرفة ، وترسم على الجدران الأشباح حولها

.. وتطل صورة زوجها تبتسم :

- لماذا لم تبقَ معي يا فادي ؟..

أنت الوحيد الذي تستطيع أن تحميني من خوفي واغترابي أن تحميني من نفسي ، لو لم تذهب أنت لكنت أكثر اطمئناناً لأني أجد الأمان في صدرك العريض. هذيانها يتكوم على وجهه . إنه واقف أمامها ، تعاتبه لأنه تركها وحيدة ينظر في

وجهها ، يسألها بشوق الغائب عن الأولاد تنفرج أساريرها :

- تبقى معي الليلة ؟..

تهطل دمعة جافة ، يضحك صباها الذي أثقلته السنون بابتسامة ساخرة تضغط على رأسها بقسوة، تشعل النور في الغرفة ، تريد أن تهرب إلى صدر – فادي – كم تفتقده ..

- هل أحضر لك الطعام ؟..

ترسل تنهيدة حزينة ، فادي لا يجيب ، لم تسطع في وجهه ملامحه المألوفة وتشتعل نيران ترابه حولها .. وتبدأ غيبوبتها فتموت وتحيا بين تنهدات الليل الطويل ، وتفكيرها يشدها إلى – فادي – والأيام تمتص ما بقي من شيخوختها ،

تتلمس ساقيها تشعر بتعب ألم المفاصل ..

كان لي قامة رائعة ، وصباي الآن جفّ على جدران الزمان. لذا فادي لم يعد يحبني ، والأولاد رحلوا ، والمنزل يضيق ويشيخ معي .. فادي .. هل ضجر الأولاد مني ؟. تأخرت رسائلهم . مشتاقة لك .. مشتاقة لهم ..

تهرب وتعود إلى أفكارها المرعبة ، وترتسم في ذاكرتها وجوه الأحبة – رحمك الله يا فادي ، سامح هذياني المحموم .. صورة الأحبة محفورة لا تمحى . تمسح دمعة على حافتي الوجه وهي تسمع هدهدة جارتها لطفلتها الصغيرة ، أغنيتها

تتسرب إليها كل مساء . كم غنت هي – ليارا .. وترندحت بصوتها لفراس .. – هذه الأغاني البريئة ثقيلة بحزنها هذه الليلة .. ما الذي يشدها إلى مرايا طفولة أولادها ؟.. وما الذي يغمس أصابعها في تراب فادي ؟.. المرض يشتد ،

والأسابيع تركض ، والأخيلة تتابع ، وترتجف الرسائل فهما بين يديها ، تهوي قربها على السرير تتأملها أختها برعب ، والأحبّة تأخروا في الحضور ، هي أبرقت لهم وسوف يأتون . تشدها أختها إلى صدرها تحاول أن تحميها من حشرجة الاحتضار

 تلمس وجهها الذابل وصفرة شرر الموت تتطاير ، الرعب يضج بالصراخ . ويتجمد الجسد في صقيع برودته . يحشد المنزل بالجيران، والأولاد لم يأتوا بعد .. وتدفن كل الأشياء في مركبة الموت معها .. تأخروا ورحلت بلا وداع .. طوفان

الزمن أخفاها في واديه وحيدة .. ورائحة التراب تجدد في مدار الكون والقسوة تتطاير مع اصفرار الأوراق الباقية ..

 

 

 

عرس ليلة

 

 

جروح ألحان خافتة تتسلل إلى غرفتنا ، تنزلق نظراتي عبر زجاج النافذة ، ألتفت إلىسريري ، الليلة ليلة فتاة فقيرة مذعورة خائفة ، أحسّ برغبة في الهرب ، والنظرات النهمة تهدر في كياني ، وغابت يداه في بيادر شعري . أزيح شفتي قليلاً ورائحة خمرته

تحسسني بالاختناق . وأبقى تمثالاً بلا انفعال ، وظلال الخوف تغمرني ، أتلفّت باحثة عنك يا أمي

يرجمني الحبيب النائي لأني قتلته ، وأخفتني أمي بين أعشاب موحلة . أبحث عن وجه

الحبيب في وجهه ، ويسخر هذا الرجل الغريب من اضطرابي دون أن يفهم ما أعاني وصوته

يخور ويهدأ ، تنتحب الأمواج لأن زرقتها قد اغتصبت وابتلع الرمل كل قطرات دمائها

بصمت أخرس .

بعد أسبوع تركنا الفندق لأجوب معه مسالك مجهولة ، أنكمش في مقعدي ، وحديثه المطمئن

يتغلغل إلى أعوامي الخمسة والعشرين، تراءى لي وجه أمي ، ما بالها الآن صامتة ؟ وقد

كانت طول الشهر الماضي تنبت لي أحلام المستقبل في الغربة التي قررتها لمصيري ،

أحدّق في وجهها ، لماذا يلتفّ اليوم بكآبة مبهمة ، أهي قد عزّ عليها فراقي ؟

وأخيراً وصلت إلى هذه المدينة الغريبة ، اللغة غير لغتي والشعب غير البشر الذين

ألفتهم ، أنزوي في منزله ببطء ذليل والأسى مرتسم على وجهي . لن تري وجهي أبداً يا

أمي ، لن أغفر لك استغلالك لجمالي وما زلت أسمع صرختك :

- هل تتركين أخوتك يموتون جوعاً ؟ وفرحة إنقاذهم بين يديك، وهذا الرجل يقدّم ثروته

أمام كلمة منك ...

أنظر إليك بعينين دامعتين ، هذا الرجل منافق يا أمي ، في عينيه يطوي خداعاً أحسّ به

يعود صوتك القاسي :

- أنت تنفرين منه ، فكيف تطلقين أحكامك دون معرفته ؟

- لا فائدة من الجدل معك يا أمي ..

- إذن تحمّلي إن مات أخوتك ، كما مات والدك من فقره ومرضه .

لم أكن أتصوّر أني سأدفع الثمن غالياً يا أمي لأنني طيّبة وحنونة، أغمض عيني ،

أحدّق في النور الأصفر الذي يبدو متعباً ، سأرفض ، تسع سنوات وأنا أعمل وأعطي وأقوم

بدور الأب الذي مات . تسع سنوات ، ألا تكفي يا أمي ؟ لن أُباع كسلعة على يديك يا

أمي ، أنت لا تسمعين نزّ الجرح في أعماقي ، بينما تصفعك موجة حنان عاصفة تجاه أي

دمعة من أخوتي الذكور .. خطوات زوجتي تتجه نحو غرفة أطفاله في الجناح الآخر من

منزله الفخم .. أصحو من تشتت أفكاري ، تتركز نظراتي على النافذة ، ثم يتوارى

للعربدة مع ضيوفه في صالونه ، ونقاط الدمع ترقص في سجن غرفتي .. يأتي إليّ وعيونه

الماكرة تسخر مني ، أحسّ أن أقدام ضيوفه تتحرّك فوق رأسي بقسوة ، أرفض أرفض وتشتعل

النيران في أعماقي مذعورة. يغمغم بأسى مصطنع : - لا فائدة من عنادك وإصرارك الرافض

سخريته لن تلوّثني ، لن أكون السلعة الجديدة التي يجرّدها من إنسانيتها وعواطفها

ويقدمها لضيوفه .. وعينا أمجد تنظران إليّ بيأس خلال الظلمة هكذا خيّل إليّ.. أمجد

مراهقتي وحبي . أمجد رمز الوفاء لي .. أنتفض مذعورة ويهرب وجه – أمجد – من ذاكرتي ينفث دخانه في وجهي المعربد ، وتفوح خمرته وهو يمارس نزوة غروره كرجل ويقهقه ـ أنا أقوم بواجبي معك ـ تهوي سخريته

 ويخور في القفار حولي، ثم يهدأ كل شيء . إلاوجهك يا أمي ، ويدك التي تسترخي عليها أوراقه

 النقدية. كانت سلعة رابحة أليس كذلك يا أمي ؟.. لماذا أنكَرَ أنه متزوج وله ثلاثة أطفال ؟ ألم أقل لك أنه يخدعُنا يا

أمي ؟.. لقد أرادني تجارة جديدة ، وسلعة عزيزة الثمن، سماعة الهاتف تهتز في يده وهويطمئنك عني فرحاً ، وصوت ضحكاتك تضج في فراغي ، أنا لا أبكي يا أمي ، بل أرسم الذل الصامت على وجهي ، ومع ذلك أرفض

 بإصرار عنيد دور المومس لضيوفه ، ولكن لا أستطيع رفضه كزوج صفقة جعل الليرات تتدفق بين يديك ، أنسلّ من ظلام حقدي متمردة ، أرسم علىجدراني ذكراك يا أمجد ، بحار النبل في عينيك ، لا تنظر إلى رعبي ، إني متعبة يا

أمجد لا تتأملني بوجه جمّدت الصدمة ملامحه!.. أهتف لوجهك

 قل أي شيء .. قل إنني خدعتك-

لقد علمتني يا أمجد أن الشجاعة والإخلاص تتجسدان في مواجهة المواقف ، لذلك ما زلت قوية

يتأملني أمجد والعرق البارد يتصبب منه ، يداه تحيطان وجهي بحنان حقيقي

- لقد جعلتني أمي سلعة وقبضت الثمن .. ورفضتك أنت لأنك عامل فقير ، والحب بمفهومها

لا ينتعش بثوب عامل ملطخ بالتعب . خمس سنوات يا أمجد .. وأنا في ذلك المنزل

المحموم. ولأني تشبثت بالرفض طردت كحشرة ، وتنقلني سيارته إلى المطار مع ورقة حريتي إلى مدينتي

 

 إلى أين يا أمجد تنطلق بي ؟ -

:يرمقني صامتاً ، أرفع عينيّ الواكفتين بالدمع ولا أقوى على النظر إلى براءةوجهه صوته ينبت الفرح

 إني أحترم تضحيتك .. وكنت أنتظرك دائماً أخاف أن أغمض عيني ولا أراه ثانية لقد زرعته دائماً بين أنفاس-

زهر البرتقال ، وموج الحب لا يهدأ .. طالما أن البحر وليمة الخلود

 

أضيفت في 25/11/2004/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية