أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

الكاتب: نافل العتيبي-السعودية

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

السعودية – الرياض

مهندس إتصالات، مهتم بالأدب العربي، بكافّة أطيافه. 

يكتب القصة القصيرة. 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

إنسان محترم

عريس

 غربة

 

غربة

 

اكتملت الاستعدادات .. لمغادرة الرياض .. فهذا صالح وزوجه .. وأبنائهم الثلاثة، يخرجون إلى فناء بيتهم الواسع، حيث تقف سيارتهم الحديثة، بجوار الملحق المخصص للجدين .. (والديّ صالح)، مسحة من الأسى .. تجلل سكن الجدين .. الذين فرّقهم الموت .. قبل عشرة أيام، عصفت وفاة الجدّة بمشاعر الزوجين الشابين .. والأحفاد .. فأصبح المكان موحشاً .. وقد كان كذلك، فحتى الجد الذي بقي .. كان كئيباً .. دائم الشرود، يتقطّع حسرات .. على فراق رفيقته.

تقدّم صالح .. إلى حيث يقبع والده التسعيني .. بلا حراك، فقبّل جبينه بحرارة .. أخذ بيده .. ليساعده على النهوض، وخاطبه .. بنبرة الابن البار .. قائلاً:

-تفضل .. الله يطول عمرك.

وقف العجوز بتضعضع .. وغمغم:

-ياولدي .. ما كان فيه داعي تكلف على نفسك.

بصوت يفيض رحمه .. يكمل صالح:

-مافيه كلافه .. حنّا وما نملك تحت خدمتك.

يستوي الشيخ في المقعد الأمامي .. وهو يدعو لإبنه البار .. وزوجته الطيبة، بأن يقر الله أعينهما .. بصلاح أبنائهم. بعد صلاة الظهر.. تنطلق السيارة باتجاه الشرق .. الهدف من الرحلة .. محاولة إخراج الجد .. من دوامة الحزن .. التي خيّمت علية، ساد الصمت .. حتى الأطفال .. لم يمارسوا شقاوتهم المعهودة. وهنا .. قالت زوجة صالح بحنو:

-عمي .. تبيني أصب لك قهوة.

يجيبها بهدوء:

-صبي .. يا بنتي.

كان يعرف أنها تريد طرد الصمت .. لا أكثر .. فرحمها، تناول الفنجان .. وبدأ يتحدث ببطء .. عن تربية الأبناء .. نصح الزوجين .. بالحرص على الاستمتاع بأولادهم .. ماداموا يعيشون بين ظهرانيهم .. ووصف بيت الزوجية .. بالعش .. يبقى الأبناء فيه ..  حتى يكتمل ريشهم .. فإذا آنسوا من أنفسهم قوّة .. طاروا .. وابتنوا لهم أعشاشاً .. وفي خضم الحياة .. وكفاحها .. يفاجأ الوالدان .. بأن عشهم قد أصبح خالياً .. بعد أن كان الأبناء يملاوؤنه ضجيجاً.

توقف عن الكلام .. برهه .. فقالت تستحثه:

-ممكن ما يطيرون .. ياعمي .. يعيشون مع والدينهم.

ثم تردف:

-مثلنا.

يكمل الشيخ .. بعرفان:

-ليس كل الأبناء .. مثل صالح .. ولا زوجاتهم مثلك.

-أنت تحرجنا بمجاملاتك .. يا عم.

-بل .. أقول الحق، ولكن .. تذكروا نصيحتي، أرجوكم .. استمتعوا بما أنتم فيه الآن .. البنون زينة الحياة الدنيا .. البنون وليس الكبار.

وصلوا .. إلى الشاليه البحري .. على شاطئ نصف القمر الشهير .. قبل المغرب بنصف ساعة، ترجل الشيخ .. وأخذ يدب في اتجاه الشاطئ .. في حين إنهمك البقية .. في تنزيل الأمتعة .. وترتيبها.

جلس متربعاً .. يتأمل قرص الشمس الآيل للغروب، ويحدث نفسه .. إنها تناضل من أجل البقاء، ياليتني أهبها قناعتي .. مع ذلك .. لن تنجح محاولاتها المستميتة .. للتشبث بالحياة، فتغير لونها إلى البرتقالي .. يؤكد .. بأنها تفقد المقاومة بالتدريج، في سكون رهيب .. تلفظ أنفاسها .. خلف مياه الخليج، ويرخي الليل سدوله .. ليزداد البدر تألقاً .. كأنه يسخر من المصير الذي آلت إليه الشمس.

ملأ أبو صالح رئتيه من هواء البحر العليل .. وهو يعبث برمال الشاطئ، ففي مثل هذا الوقت من شهر أكتوبر .. يكون جو المنطقة الشرقية في أفضل حالاته، الماضي يتحرش بذاكرته .. وهو يدفعه برفق، الذكريات .. فيها لذة .. وتثير أشجاناً .. ولكن .. ماذا بقي له من أسباب المتعة؟ يتمنع قليلاً .. ثم .. يجيب داعي اللذة، فيطلق لخياله العنان .. وهو يتمدد على ظهره .. واضعاً كفيه خلف رأسه.

قبل شهر .. في حفل زواج أحد أحفاده .. انتابه شعور مؤلم بالغربة .. لا الدار دار .. ولا الجيران جيران، أكبر الحضور سناً .. يصغره بعقدين .. الجميع يقبلونه .. ثم يسرعون الخطى .. إلى حيث يجدون أقرانهم، نظرات الشفقة .. تمزق نياط قلبه .. لقد أيقن بهوانه على الناس .. حتى وان جاملوه، فأصدقهم حديثاً .. أثقلهم ظلاً .. الذي لا يفتأ يردد:( الله يحسن خاتمتك )، كأنه يستعجل رحيله، لقد وهن عظمه .. وخبا توقده .. وأصبح يضيق ذرعاً بالحياة.

تذكر .. حينما قدم إلى الرياض، من قريته الغافية في أعماق الصحراء .. بداية الأربعينات الميلادية .. كان مملؤاً صحةً ونشاطاً، يتذكر جيداً كيف أن أصدقاؤه كانوا يعترفون بتفوقه عليهم .. سبحان الله .. ردت تلك القوة ضعفاً، تمر أطيافهم .. في ذهنه .. ببطء .. كشريط سينمائي.

أبو علي .. بابتسامته الهادئة .. واتزانه المعهود، كان من أقربهم إلى نفسه .. وأكثرهم زهداً في حطام الدنيا الفانية، وأخذ يتمتم: رحمة الله عليه، عندما تذكر .. أنه توفي .. بسبب حادث .. اثنا عودته من أداء العمرة في أواخر رمضان .. خاتمة خير لذلك الوجه السمح.

أبو زيد .. بطوله الفارع .. ووجهه الجامد .. الذي لا يحمل أي تعبير، حاد الطباع .. سريع الغضب، يحمل هموم الدنيا منذ أن فتح عينيه عليها، وبصوت مسموع: رحمه الله، فقد غادر هذه الدنيا .. بعد أن قضى ما يقارب السبعين عاماً .. بسبب جلطة.

أصبحت صور أقرانه تترى .. مصيرهم واحد .. وان تعددت الأسباب، بغتة .. قفزت صورة زوجته إلى الواجهة .. دعا لها بصمت .. وإلحاح .. تنهّد بعمق .. ولسان حاله يقول: سئمت الحياة، وفاضت عيناه.

 

 

عريس

 

يقود رشيد السيارة بسرعة منخفضة، ويتمعّن في مباني الحي، فهو بعيد عهد بمدينة الرياض وأحيائها، هذا الشاب صاحب القدرات الذهنية المتواضعة، والأنف الغليظ ذو الشامة السوداء الناتئة، تلك الشامة التي يحلف الناظر من بعيد بأنها ذبابة، والى جانبه يجلس بهدوء الأولياء والده، وهو شيخ سبعيني، دمث الأخلاق، قلما غادر القرية إلا لسبب وجيه. يحظى باحترام واسع بين أقربائه، وقد ساعده على ذلك سمعة طيبة تركها آبائه الأولين، وفصاحة في اللسان قل أن تجد لها نظيراً بين أقرانه. فاجأ الأب أبنه بينما كان الأخير يبحلق في المباني ويعبث بأنفه:

-ترى بيته ما هو ببعيد.

-ما أدري هذا شارعه وإلا لا؟

-شف أي واحد ننشده .. ما أنت بدالّه.

فجاءه يوقف رشيد عربته أمام أحدى الفلل القديمة ويطرق الباب

-مرحبا تفضلوا.

-أبوك موجود؟

-نعم نعم .. الله يحييكم.

يدلف أبو رشيد من الباب الخارجي .. وهو يتنحنح ويتبعه ابنه، في حين قفز مسعد بخفة .. إلى داخل المنزل .. ليخبر والده بوصول الضيوف، يتململ صاحب الدار .. وهو يستمع لأبنه .. الذي لا يزال يتحدث عن القادمين .. وما عليهما من مظاهر الأناقة الغير معهودة. يتجه أبو مسعد الى المجلس .. ويلتفت لزوجته قائلاً:

-بسرعة جهزوا لنا القهوة.

بعد تبادل التحايا والترحاب .. وتناول القهوة والشاي، أبدى صاحب الدار رغبته في عمل وليمة على شرف الضيوف، وقد وافق أبو رشيد على الدعوة بلا تردد. دلف أبو مسعد إلى داخل المنزل .. ليؤكد على أخذ الاستعدادات للعشاء، ولكن زوجته فاجأته:

-وش عند أبو رشيد؟

-والله ما أدري؟ ما قال أي شي.

استرسلت أم مسعد .. وهي تتلفت .. كي لا يراها أحد، وقالت بحماس:

-يمكن يبي وحده من البنات لرشيد.

يرد أبو مسعد وهو يبتسم:

-هذا سبب وجيه .. لكن على العموم .. الله يحييهم.

-الله يحييهم .. مع أني ما أطيق خشّة رشيد .. لكن الشكوى لله.

-يا بنت الحلال .. رشيد ولا الخلا .. على الأقل الولد سالم من المخدرات.

-صدقت يا بومسعد.

أكبر البنات عهود .. تزحف ببطء باتجاه الثلاثين عاماً .. مع أنها حادة الذكاء .. ومتوسطة الجمال .. وقد حصلت على شهادة البكالوريوس .. من كلية إعداد المعلمات .. قبل ثمان سنوات، ومنذ ذلك الحين .. وهي تقبع في بيت والدها .. حتى خيل إليها .. أن الزمن قد توقّف، فلم يتقدم إليها خلال هذه المدة الطويلة أحد .. و لم توفق في الحصول على وظيفة .. فبقيت في انتظار أقدار الله، كانت هي وأخواتها الثلاث .. يشاهدن التلفاز .. حين دخلت عليهن أمهن .. وهي تبتسم وتقول:

-عندنا عشا الليلة

لم يكترثن للخبر واستقبلنه ببرود تام، الصغرى فقط سألتها:

-لمن؟

-لواحد من أهل قريتنا يقال له أبو رشيد.

سكتت برهة .. لكنها .. لم تطق صبراً .. فأردفت:

-الظاهر انه جاي هو وولده رشيد .. يخطبون.

نزل الخبر على البنات الأربع كنزول الغيث .. فارتسمت على وجوههن ابتسامات .. لم ترها والدتهن منذ زمن بعيد، كانت الكبرى مشدوهة من هول المفاجأة .. كانت أشبه بالوردة التي ذبلت من العطش .. ثم فوجئت بالماء البارد، وسرحت مع خيالها (أخيراً .. أخيراً، هاهو الحظ يبتسم .. بعد لأي .. وهاهو الغائب المنتظر .. يتربع في مجلس والدي .. سأتزوج .. وسأصبح أماً .. وسيكون للحياة طعماً آخر، اللهم لك الحمد، من هو رشيد ؟ وماذا يعمل؟  كل هذا لا يهمني .. المهم أنه يعلم عاداتنا .. الخاطب ليس له عن أكبر البنات .. محيصاً) 

هبّت عواصف النشاط والهمة على كافّة أرجاء المنزل، وتكاثرت الاقتراحات التي تجعل المائدة كأفضل ما يمكن أن تكون، وتلقى أبو مسعد سيلاً من الاتصالات، جميعها تطلب إضافات لعمل المزيد من الأطباق المختلفة، وكان يتلقاها بصدر رحب، فهو الآخر يحس بأهمية الحدث ويقدّر هذه المشاعر،  وقبيل صلاة العشاء كانت مهامه قد أنجزت تقريباً، وعاود الجلوس إلى ضيفيه، في حين أن المطبخ أشبه بخلية النحل، فالبنات الأربع وأمهن منهمكات في أعمالهن، ويتبادلن النكات التي تدور حول الزواج المرتقب بحبور.

-وش أخبارك طول هالسنين يابو مسعد.  قالها أبو رشيد وهو يرتشف فنجان القهوة.

-أبشرك الأمور طيبه ولاعندنا خلاف.

-هالحين وش عندك من العيال غير مسعد؟

وهنا يحدث أبو مسعد نفسه يبدو أن أبو رشيد يحاول التمهيد للخطبة.

-أبد يابو رشيد ماعندي من الأولاد غير مسعد.

-الله يخليه إلك. خواته وش كثرهن؟

-أربع الله يصلح لنا ولك الذريّة.

فجأة يصيح جرس المنزل مؤذناً بقدوم أحد المدعوّين، وينهض أبو مسعد للترحيب بالقادم، ثم يأخذ الصينية لتجديد القهوة والشاي وبعد خروجه من المطبخ، تلحق به أم مسعد لتسأله

-هاه قال لك شي؟

-مهّد للموضوع ولكن قاطعنا سعد بمجيّه.

-الله يجعلها تجيه، هالابله ماقعد لين يصلي العشا في بيته.

-لاتدعين على الرجال، الدعوى سهلة.

يتوافد أقرباء أبو مسعد حتى أكتظ بهم المجلس، ويخوضون في أحاديث عامة، كان لأبو رشيد نصيب الأسد من الحديث فيها، وأهل الدار في شغل مع الأفكار السعيدة التي طغت على قسمات وجوههم بدءً بمسعد الذي لايعلم سبباً لسعادته إلا كون أخواته البنات يبادلنه النكات بعد أن ألبسنه أزهى الثياب وأكثرها أناقة، وانتهاءً بأبي مسعد الذي تأكدت عنده شكوك زوجته بعد أسئلة أبو رشيد الأخيرة.

بعد أربع ساعات من العمل المتواصل، هاهي المائدة قد أخذت زخرفها وأزيّنت بما لذ وطاب من صنوف الطعام. اطمأن أبو مسعد على حسن الترتيب ثم دعا الحضور إلى صالة الطعام وهو يكرر عبارات الترحاب. أثناء تواجدهم حول المائدة أبدى الجميع إعجابهم بجودة الطعام وحسن ترتيبه، وقد كانت الأم وبناتها الأربع يسترقن السمع وينظر بعضهن إلى بعض في سعادة غامرة.

يأخذ الحضور أماكنهم في المجلس بعد العشاء الطيب، ويتبادلون الأحاديث الجانبية، وهنا يقاطعهم أبو رشيد ليقول: بأنه تقدم بطلب مدرسة ثانوية للبنات في القرية ويحتاج أكبر عدد من أسماء بنات الأقارب ليدعم بها طلبه.

  

 

 إنسان محترم

 

كأس نصف ممتلئ، وضع على طاوله خشبية مستديرة،  بإطار فضي نحيل، بجانبه، شنطة يدوية مخملية، أبرز محتوياتها: باكت دخان، هاتف محمول لايفتأ يرن بين الفينة والأخرى، وعبوة صغيرة .. تحوي مواد بلاستيكية. مومس، لاترى أبعد من أرنبة أنفها، تظن بأنها تعلم عن الحياة كل شئ، وتختصر معرفتها بالمقولة الشهيرة .. الحياة مادة.

العذارى يغرهن الثناء، فليكن حديثي إليها بدءً من نقطة ضعفها:

-أنت أحلى بنت شفتها في باريس.

ابتسامه باهته، تحكي خبره طويلة في عالم الرذيلة .. وترد:

-شكراً.

يبحث أبو فيصل عن موضوع جديد، يدفع هذه الثقيلة إلى الحديث .. وأخيراً.. وجدتها:

-وش رايك بالجو الليلة؟

ردت ببرود:

-حلو.

يواصل بلهفة:

-حلو بوجودك.

-شكراً.

اللعنة .. شكراً مرةً أخرى، لابد من إرغامها على الحديث .. النساء يستمتعن بمعرفة خصوصيات الآخرين، ثم يهتف:

-تصدقين أول مره أزور باريس!

تحاول أن تبدو جادة:

-بالله عليك.

لابأس، سأتحملها حتى النهاية .. ويواصل:

-من حسن حظي أنك أول وحدة أقابلها منذ وصولي.

-شكراً.

ياإلهي، ماذا افعل؟ كلما أوقدت للحديث ناراً ..ً أطفأتها بالشكر .. لم أكره الشكر يوماً ككرهي له الآن، يمر النادل، فتطلب منه كأساً أخرى وتتمطى بثقل، قبل أن يسألها بأدب التلاميذ:

-مقيمه في باريس وإلا جايه زيارة؟

ترد بلا اكتراث:

-مقيمه.

فيواصل مستغلاً:

-من متى؟

-من عشرين سنه.

يبتسم مأخوذاً بنشوة النجاح، ويواصل:

-ماشاء الله أجل تتكلمين فرنسي كويس.

-فواااااالا (كلمه فرنسيه تعني أجل).

يكمل متحفزاً:

-تصدقين ودي أتعلم الفرنسية.

تنظر له باحتقار .. وتجيب:

-حاجه كويسه أنك تتعلم الفرنسية.

يضيف بابتسامه خبيثة:

-طيب وش رايك تدرسينني فرنسي؟

 ترد وهي تعتدل في جلستها:

-ماعندي مانع.

يحاول التمويه بسذاجة:

-طيب كم التكلفة خلال شهر؟

-شهر! شهر كثير .. يكفي لتعليم الفرنسي عشر دقائق.

وتطلق ضحكة قبيحة بصوت عال، جعلت مرتادي المقهى يلتفتون إلى مصدرها، يجتازه إحساس ثقيل بالخجل، بسبب نظرات الناس، ثم يستعيد تركيزه، فيحاول أن يبدو مندهشاً وهو يكمل:

-لم أفهم؟

تركز نظرها في وجهه وهي تسكب ما بقي من الكأس في جوفها وتقول:

- حبيبي .. عشان ما أضيع وقتي ولا وقتك، خلينا نتكلم بصراحة.

-تفضلي.

تواصل بنبرة جادة:

-أروح معك للفندق، وأقعد معك حتى الصباح، بـ500 يورو.

يتحول مركز التفكير إلى آلة حاسبة، 500*5=2500 ريال،  مبلغ كبير في ليلة واحده، ومع ذلك سأوافق:

-حسناً، ولكن .. أنا لا استمتع مع امرأة تذهب معي من أجل المادة فقط.

ترد بابتسامة بلهاء:

-ومن قال لك أني أبيك تستمتع؟

يستمر .. بملامح تثير الشفقة:

-أرجو أن تسمعيني حتى النهاية.

فترد عليه آمره:

-اختصر .. الوقت متأخر.

يتأوه بسذاجة، ثم يقول بصوت الموجوع:

-أريد إنسانه ذات مشاعر رقيقة .. تنسيني سنوات الحرمان .. وتقدر شخصي.

ويواصل بنبرة جادة:

-إذا تهيأ ذلك، فلا مانع لدي من دفع أي مقابل مادي.

ضحكه ممطوطة تثير الاشمئزاز، ثم تردف بازدراء:

-وأنا أريد 500 يورو .. وبعد ذلك، أعطيك مشاعر رقيقة، وحاجات أخرى.

يتصارع العقل مع الشهوة في داخله .. شهوه ناقصة مع هذه العاهرة، خسارة مادية كبيرة، و تأنيب ضمير في النهاية. ولكن، لماذا لا أجرب؟ وما معنى السفر في الصيف .. بدون هذه الممارسات، المال لايهمني، فلدي منه الكثير، و على كل حال، أنا لست الأول ولن أكون الأخير في هذا الميدان، علية القوم، الذين يشار لهم بالبنان، يفعلون ذلك بلا خجل من الناس، ولا رادع من الدين، فمالي أنا ومال عذاب الضمير، سأدوسه بقدمي هذه الليلة، وليحدث ما يحدث، ثم يجيب بهدوء:

-اتفقنا.

ينادي النادل، ويدفع الحساب ( مائة يورو)، كانت عقارب الساعة تتهادى نحو الثانية صباحا، حينما اجتازا جادة الشانزلزيه، باتجاه  الفندق .. وهو يربّت على مؤخرتها بيمينه.

 

بعد شهر، التلفاز يعرض أخبار الساعة .. أبريق الشاي ودلة القهوة العربية يتهامسان على سطح الصينية الفاخرة .. صحن صغير من السكري الملكي .. وآخر من الكليجا الفاخرة .. الهاتف الجوال بجوار المركى، رائحة البخور الزكية تفوح من جنبات صالة الجلوس، يتكي مادا ساقيه، ويعبث بفتات قشرة رأسه بيده اليسرى، وهو يفكر كيف سيقضي الليلة .. يذهب للاستراحة حيث الشباب، أو إلى إحدى المقاهي، كلها خيارات مملة، كررها حتى أصبحت بلا طعم، منذ رحلته الأخيرة إلى باريس، وهو يمر بحالة نفسية سيئة، لا يعرف لها سبباً، إلا شكوك داخلية بأنه إنسان وضيع. يخرجه من هذه الأفكار صوتها العذب وهي تنظر إليه بشوق:

-انشالله أعجبتك القهوة يابو فيصل؟

دون أن ينظر إليها، يرد ببرود:

-الحمد لله .. طيبه.

برقه و عذوبة، تذكّره قائلة:

-تذكر يوم زواجنا؟

يرد بلامبالاة:

-اذكر .. كان يوم عادي.

تبلع هذا الاستدراج الرخيص ( للنزاع ) بطيبة نفس، ثم تقول بعتاب وديع:

-تصدق .. احياناً .. أحس انك ماعاد تحبني؟

يجيب بضجر:

-إحساس خاطئ.

تضيف بتودد:

-تمنيت لو أكملت، وقلت: أحبك.

يتأفف ثم يقول بعد أن صمت برهه:

-بسيطة .. أحبك.

نسي أنه كان يبحث عن المشاعر الرقيقة، لدى بائعات الهوى في باريس، أمّا هي فتداري غضبة .. مُطْرِقه:

-آسفة ياحبيبي .. إذا كنت ضايقتك.

بنبرة إصدار العفو عن خطأ فاحش، يهمهم:

-أبد ما ضايقتيني .. ولا شي.

يسود الصمت لدقائق، ثم تبتسم قائله:

-طيب حبيبي .. لنا أسبوع ما طلعنا من البيت .. وانت اليوم فاضي .. وش رايك نروح نتمشى شوي ونتعشى برا؟

ينظر إليها بحنق، ويسأل:

-من قال لك إني فاضي ؟

تجيبه مرتبكة:

-قبل شوي تكلم صديقك أحمد .. وتقول انك الليلة فاضي.

يرفع صوته قائلاً:

-ما شاء الله .. أنتي قاعدة تسجلين علي كل كلمة أقولها؟

يضطرب صوتها:

- أبد والله يا حبيبي .. أنا آسفة.

تحمرّ عيناه، وهو يصيح بغضب:

-اووه .. كل شوي تغلطين وتقولين آسفة .. البيت هذا ماعاد يطاق.

قالها وهو ينهض .. التقط الشماغ وملحقاته .. ثم أسرع الخطى خارجاً من المنزل، إلى حيث لا يدري. تبعته حتى الباب الخارجي، ثم عادت كسيرة القلب، وهي تردد:

-الله يهديك .. يابو فيصل.

 

أضيفت في 03/12/2008/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية