شهرزاد
..
..
تأخرت " شهرزاد "
عن موعدها؛ لم يجدها بجواره – مثل كل ليلة – قام " شهريار " من سريره –
الوثير – يبحث عنها في القصر..
وهو يخرج من
حجرته.. وجدها، تهل عليه.. وجهها شاحب .. احتضن وجنتيها براحتيه ، لثم ثغرها
.. همس في أذنها
:
-
أين أنتِ ؟
!
بصوت واهن:
-
متعبة بعض الشيء
.
مسد على شعرها
الأسود – الناعم – بحنو
:
-
هل أحضر لك طبيباً
؟
ابتسمت بشحوب
:
-
لا .. لا .. سأكون
بخير إن شاء الله
.
بنبرات قلقة:
-
لست مرتاحاً.. ما
بك يا شهرزاد ؟
..
احكي لي؛ عما
يضايقك ..
تنهدت بعمق
:
-
ألم يحن وقت التخلص
مني ؟ !
بنظرات مرتابة
:
-
لا أفهم ما تقولينه
..
-
لم يعد عندي حكايات
.. وجاء وقت
مسرور
؛ كي يقطع رقبتي..
-
شهرزاد؛ أنت زوجتي...
-
ألم تتخلص من
زوجاتك ؛ في ليالي العرس
..
-
هذا زمن قديم .. لا
أحب تذكره
..
-
في كل ليلة ؛ كنت
أخشى من النهاية المباغتة ؛ بعد
أن تنتهي
حكاياتي .. وأجد رقبتي ؛ تحت سيف مسرور
..
بصوت حان
:
-
شهرزاد أنت زوجتي
وحبيبتي ؛ وأم أولادي
..
لا أستطيع التخلص
منك... حتى لو انتهت الحكايات .. أنت
حكايتي التي لا
تنتهي ..
ضحكت شهرزاد ؛
ضحكة عذبة :
-
تصور أنه مازال لدى
حكايات أخرى ..
أضيفت في 05/05/2007/ خاص القصة السورية
/ المصدر الكاتب
عروس البحر
..
تجلس على رمال شاطئ
البحر ...
خيوط الشفق ،
تنساب في صفحة السماء
...
نثار الموج،
يلفح وجهك...
رخات الهواء
البارد ، تنعش خلاياك
...
تولع ، بتموجات
البحر...
البحر... والمدى
اللامتناهي .. يسربلانك
...
..
تمر ساعات .. تسرح
في الأفق ...
البحر..
حصيرة هادئة...
تجفل
عيناك .. تشعر بمن يتحسس ملامحك ، يضغط على كتفك .. تنتبه - على ضوء القمر -
تبصر وجهًا ، مستديرًا ، ينسدل عليه شعر طويل ، يطمس قسماته - تمامًا - يرنو
بأنفاسه نحوك ... تسري رعشة في أوصالك .. تشم رائحة غريبة
..
جسد امرأة، عار،
ممشوق..
تفرك
عينيك .. تقف .. تقترب منها .. ترفع براحتيك : خصلات شعرها .. تطالعك عيناها
الخضراوان تضويان في الظلمة
..
تدهشك ضحكتها،
الناعمة:
-
أيقظتك من حلمك ؟!
-
أتسبحين هكذا ؟!
تزداد ضحكاتها
.. تشير إلى البحر ، بأصابعها
:
-
أنا من هنا
...
-
لا أفهمكِ
...
تطلب منك الجلوس
على رمال الشاطئ .. تأخذ من حقيبتك قميصًا .. تعطيه لها .. تهم بارتدائه ..
تلتفت برأسك ؛ حتى تنتهي
..
تجلسان.. تمسك
براحتيها حفنة من الرمال .. تطيل النظر ، تهمس
:
-
ولدت في مملكة
المرجان ؛ بأعماق بحر ، الوادي السحيق ..
لم
يرزق والدي بسواي .. أفرط في تدليلي.. سئمت القصر، وما فيه..
في يوم ؛ سبحت
أميالاً وأميالاً .. لمحتك ؛ تجلس على الشاطئ .. تابعتك ؛ وأنت تناجي البحر ..
تسرح بنظراتك إلى الأفق البعيد ..
لا أعلم لماذا
شغلت تفكيري ؟..
واليوم
؛ سبحت من أجل أن أراك ؛ وأحدثك ..
بالفعل
وجدتك ؛ تجلس في نفس المكان..
يصيبك
الدوار ؛ تتلعثم . تنطق ، بصعوبة:
-
أكيد أنك تداعبينني
.. هل يوجد في عصر المعلومات .. عروس بحر ؟!
-
أعرف أنك لا
تصدقني؛ ولكن هذه هي الحقيقة.. أتريد أن أثبت لك
!!
أعطني يديك ..
لم تشعر إلا وهي تجذبك إلى البحر
..
تقاوم..
لم تستطع أن تفلت من يديها ؛ اللتين تحولتا إلى زعانف ؛ فور ملامستها الماء..
ضربت بها ماء الأعماق .. أحاطتك غلالة شفيفة ؛ تتنفس من خلالها.. تسبح أمامك
بسرعة؛ وأنت تتبعها
..
ظلمة
شديدة؛ تشعر بأشياء تلامسك؛ لعلها كائنات بحرية..
بعد
لحظات .. تجد الظلمة ؛ تتلاشى تدريجيًا .. ضوء ساطع ، مبهر.. أسماك صغيرة؛
بألوان الطيف .. تكوينات صخرية ؛ لم تر مثلها من قبل.. قصر عالي البناء ، متسع
الأرجاء.. ثريات؛ تدهشك أنوارها.. تنتفض فرائصك .. تشملك رعشة شديدة.. أحست بك
.. أخذت تعود بك مرة أخرى.. دخلت إلى الظلمة .. تشعر أنك تطفو .. تضرب بزعانفها
؛ الغلالة ؛ التي تحوطك.. تكتم أنفاسك.. تصعد برأسك.. تأخذ نفسًا عميقًا ..
تسبح إلى الشاطئ .. تنظر وراءك؛ تبحث عن عروس البحر..
..
ظلمة البحر شديدة ،
و الأمواج متلاطمة
....
..
لم تستطع أن تقف
على ساقيك .. الخدر ، يسري في خلاياك .. العتمة تغشاك
..
..
تفتح عينيك .. وجوه
شائهه ، تطل عليك .. تحاول أن تستنطق الحرف . تأخذك الغفوة
..
..
تشم رائحة اليود ..
تنفض غطاء سريرك .. تمد يدك للأباجورة ؛ تضغط مفتاحها
..
..
تفتح خصاص نافذتك
... تطل على البحر .. تتأمل غبش الفجر.. تملأ رئتيك بالهواء ، الرقراق
...
..
رأسك مشوش ، تحاول
أن يتسق تفكيرك .. ملامحها ، لا تبعد عن خلدك .. تأسرك عيناها ، ولمسة أناملها
، البضة .... تعرج إلى الكورنيش .. تجلس على رمال شاطيء البحر ... تتابع تموجات
البحر ..
نثار الموج ،
يلفح وجهك ...
رخات الهواء
البارد ، تنعش خلاياك
...
البحر ...
والمدى اللامتناهي .. يسربلانك
....
أضيفت في 05/05/2007/ خاص القصة السورية
/ المصدر الكاتب
كاميرا
.. المشهد ، يغيب تشكيله البصري ... سحابة بيضاء – شفيفة – تحجب
رؤيتك ..
.. لم تعد تستطيع ضبط أبعاد الصورة ... البطلة ؛ تتماهى ملامحها ..
العرق – البارد – ينساب على جبينك ..
صراخ المخرج ؛ يأتيك بلغة لم تسمعها من قبل ... رعشة ، تغزو خلاياك
..
.. تسربلك العتمة ...
تفتح جفنيك - المرملين – خيالات تتحرك أمام عينك اليسرى .. عينك
اليمنى ، تبصر بها يداً تفحصك ..
تصيخ سمعك ؛ لنبرات دافئة ، حانية :
-سلامتك .. أقلقتني عليك ..
تهم برأسك من فوق الوسادة ..
يأتيك ، صوت حاد :
-من فضلك .. ممنوع الحركة ..
ما الذي شعرت به في موقع التصوير ..
بصوت واهن :
-زغلله في عيني اليسرى ، لم أدر إلا وأنا هنا ..
-هل حدث لك من قبل ..
-منذ شهرين تقريباً ، شعرت بألم بسيط في عيني اليسرى ..
-هل كشفت على عينك ..
-لم أهتم بالألم... أرجعته إلى إجهاد التصوير ..
-هل قمت بإجراء التحليلات...
-لا أحبها ؛ لقلقي من نتيجتها..
تفرد جسدك على السرير .. أبر تغز جلدك .. رأسك ثقيل ، ثقيل .. عينك
اليسرى ، يعصرها الألم ..
خيوط النهار ، تنسل من خصاص النافذة ..نقرات - منتظمة - على باب
حجرتك ..
تلتفت برأسك نحو نبرات باسمة :
-لعلك اليوم في حال أحسن ..
-الحمد لله ، لكن عيني تؤلمني ..
-في المساء ، ستظهر نتيجة التحاليل والأشعة ..
ستكون بخير إن شاء الله..
شريط الذكريات ، يمر أمام عينيك ... تسلمك الجائزة الأولى عن مشروع
التخرج ... الحصول على جائزة التصوير في مهرجان القاهرة السينمائي ... جائزة
التصوير في مهرجان الإسكندرية السينمائي ... المركز الأول في مسابقة التصوير
الضوئي ...
تطفر دمعة ، تمسحها أنامل - حانية - تهمس لك : لا تحزن ...
تلمحها بعينك اليمنى ، تحاول أن تبتسم لها ، لكنك لا تستطيع ...
تتأمل نصائح الطبيب :
-الابتعاد عن الإجهاد النفسي والبدني ؛ لإنهما العدو - اللدود -
لمرض السكر .. عليك أن تحافظ على عينك ؛ التي لم تتأثر بالآثار الجانبية...
تسمع صوت الممرضة ؛ تحثك على الإفطار ؛ حتى تأخذ علاجك الذي قرره
الطبيب ... تمتعض ؛ لكنك تمتثل مرغماً...
كل صباح ، ألفت الحقن ، أقراص الدواء ؛ التي تبتلعها بالأمر ....في
المساء - بعد العشاء - تأخذ حقنة أخرى ؛ تتألم من كثرة غز الإبر ؛ ولا حيله
سوى التحمل ...
يزورك الأصدقاء والزملاء ؛ يؤازرونك بالكلمات الودودة ، لكن الوحدة
والسأم ، تملآن قلبك...
بعد عودتك إلى منزلك ؛ تجلس ساعات - طويلة - في حجرة المكتب ؛ تسرح
مع ألبومات الصور - حياة كاملة - تمر أمامك كالطيف ...
تقف في الشرفة ؛ تتطلع إلى بدر القمر ؛ ينير صفحة السماء
الداكنة.. تخرج حقيبة التصوير من مكتبك... تفتحها ، تحضن بيدك الكاميرا ....
تعود إلى الشرفة ، تلتقط الصورة ....
قهر..
- 1 -
... ركلات شديدة بباب شقتك . ترتعد . تنفض غطاء سريرك . تبحث عن مقبض بابك في
العتمة . تخرج رأسك . تجابهك أجساد بشرية ، وأعين يتطاير منها الشرر .. أصوات ،
متداخلة النبرات..
تسقط أرضاً . تدهسك الأقدام . تهصر عظامك..
- 2 –
... العتمة ... والعتمة ... والصمت ؛ سمت أيامك الفائتة ...
تسمع فتح باب ، وصوتاً غليظاً ،أجش :
- الطعام أمامك ...
.. الجوع ، ينهش معدتك . تأكل ، ولا تعلم كنه ما تلوكه أسنانك...
عندما ، تشعر بألم معدتك ، وضرورة قضاء حاجتك ؛ عليك ، أن تنقر ثلاث نقرات ،
متتابعة – كما نبه عليك – اللحظات الوحيدة ؛ التي يسمح لك ، أن يرفع عنك غطاء
عينيك ...
... القبر وظلمته ، أهون من العتمة والخرس ، وأنت حي ...
ماذا اقترفت ؟
- 3 -
... بعد أيام ، لا تعلم عددها. وجدت نفسك ، تجلس في حجرة أخرى . هواؤها رطب ...
يخلع عنك ، غطاء عينيك . الضوء يغشي بصرك . تضع يديك على عينيك ...
ترامى إلى مسامعك – صوت – وكم أنك مشتاق إلى أي صوت ، يؤنس عتمة وحدتك ...
: ما اسمك ؟
- ...............
: ندمت على جريمتك ...
قلت ، بشده :
- أي جريمة اقترفت ..
قال ، بفظاظة :
- هل نسيت شارع المطار ؟
قلت :
- شارع المــ..........
- واعتداءك بالضرب المبرح ، على مواطن شريف ...
صرخت :
- مواطن شريف .. كيف ؟ .. يتحرش بفتاة ، ويحاول إجبارها على صعود سيارته ...
يجذبها من شعرها ..كانت تصرخ وتستغيث ...
تكلمت معه بهدوء ، أن يتركها في حالها...
بصق على وجهي وسب أبي وأمي..
بنبرات ، عابثة :
- ما شأنك ..
قلت ، بحدة :
- كيف لا أهتم . أين نحن ؟..
زفر الرجل ، حدجك ، بغيظ :
- للمرة الثانية. ما شأنك يا بن ألـ.......
أختك ، زوجتك ....
إذا لم تعتذر له ، لن تخرج من هنا ... مفهوم ....
قلت ، بانكسار :
- مفهوم ... مفهوم ....
أضيفت في 06/04/2005/ خاص القصة السورية
امتثال
الوظيفة، لم تكن من أحلامك.. تمقت القيود.. تعشق الحرية.. لا تحب الشكليات..
ربت خالك كتفك:
- لا تحتاج إلى التفكير.
ضغطت على شفتك السفلي :
- لا أحب الروتين والرتابة الوظيفية.
قال خالك، بحيرة:
- إن التعيين في بنك من الأمور النادرة، هذه الأيام.
نظرت إلى سقف الحجرة، وقلت بهدوء :
- إ نها فرصة ، ولكن لا أتصور نفسي موظفاً.
لاحت ابتسامة ، على ثغر خالك:
- المهم أنك موافق على الفكرة.
جفاك النوم - في الليلة السابقة لذهابك إلى العمل – أيكــون تعيينك في البنك ،
هو الذي تسعى إليه ؟ . أم هي تجربة ، تتبعها تجارب أخرى ؟ .. هواجس كثيرة
تضاربت في رأسك وتداخلت الدوائر.. وجلست تتأمل الفراغ ، مستنشقاً نسمات
الهـواء – الشتوية - التي تنساب من خصاص نافذة حجرتك، مع ظـلال النور الخافت،
الساقط على الحائط.
قطع السكون السادر رنين " المنبه " . أغلقته ، ونظـرت إلى عقارب ساعتك..
ألفيتها تقترب من السابعة.. هرعت مسرعاً ، ترتدي ملابسك .. نثرت وجهك بالماء
البارد، المندفع من الصنبور ، وخرجت من شقتك .
قفزت في أتوبيس ، متجهًا إلى ميدان التحرير.
لم تكن تعلم، ما هي وظيفة خالك – بالضبط – كل ما تعرفه : أنه في درجة وكيل
وزارة.
سألت عنه: موظف الأمن .. رحب بك ، وقال: الدور الرابع... وقفت أمام المصعد –
الأوسط – المخصص للأدوار الزوجيــة .. وبعد دقائـق دخلـت فيـه ، وطلـبت
الـنزول في الدور الرابع..
خرجت من المصعد تطالعك: لوحة إرشادية ذهبية اللون: "قطـاع التخطيط والتنظيم
والتدريب "، وسهم يتجه إلى الجهة اليمــنى
.. اتجهت خطواتك ، عبر ممر قصير، مفروش بسجادة قانيـــة الحمرة.
ودلفت إلى مكتب ، مدون على بابه:" مكتب رئيس القطـاع" .
قبل أن تسأل عن خالك ، وجدت في انتظارك " عباس " - الذي عرفك بنفسه - أسمر
البشرة ، ذو شارب دقيق ، وأنف حــاد ، نحيف القد.. يرتدي قميص أزرق ، وبنطلون
أسود ، ورباط عنق ، تتداخل ألوان الطيف في نسيجها .. وقال بتودد:
- خال سيادتكم في اجتماع طاريء، ولقد كلفني بأن أنهى إجراءات تعيينك.
وقفت حائراً، ورددت:
- شكراً ..
.. مكثت في إدارة شئون العاملين : تملأ أوراق التعيين ، بعد تقديم مسوغا تها ،
وتوقع على أوراق ، وأوراق ...
تقابلك ابتسامة الموظف المختص ، والمديح في شخص خالك .. وإصراره على الترحيب بك
، بطلبات : الشاي والقهوة.. لكنك لم ترتح لتلميحات بعض الموظفين ، وتحيتهم
الباهتة..
جلست - في مكتب خالك - تتأمل عالماً جديداً ، لم تألفه من قبل ..
وبعد ساعة تقريباً ، فتح باب الحجرة ، ودخل " عباس" وخالك - مبتهجاً - وسلم
عليك ، قائلاً :
- كنت في اجتماع رؤساء القطاعات ، ولعل عباس قام بالمطلوب..
- لقد قمت بالانتهاء من إجراءات التعيين.
قال خالك ، وهو يجلس على مكتبه:
- فوراً ، يتم تخصيص مكتب له في حجرة إدارة القضايا..
ولا تنس أن توصي عبد الخالق سعيد، وأن يعتني بابن شقيقتي.
هز - عباس - رأسه :
- في الحال ، ستنفذ أوامرك ، يا سعادة البك..
أخذك " عباس" إلى الدور السادس ، ودخلتما - آخر حجرة - وكان الباب مفتوحاً ..
وبادر " عباس " بتعريفه بك لـ " عبد الخالق سعيد " .. ألفيته يهم بالوقوف من
وراء مكتبه .. ويشد على يدك بحفاوة ، وقال :
أهلا بك في إدارة القضايا ، وإن شاء الله ، نكون عند حسن ظنك.
قلت ، بارتباك:
- شكراً ..
وجلس على الكرسي ، الملاصق لمكتبه ، وأخذ نفساً عميقاً مـن سيجارته ، وأشار
بيده ، كي تقعد ، وردد:
- سأعرفك بزملائك ، وبعد ذلك نتحدث عن العمل.
والتفت وراءه ، وضغط على مفتاح .. انبعث رنين متصل .. ودخل ساعي المكتب ،
قائلاً:
-أ يوه يا فندم ..
نظر إليه ، وبنبرات حازمة:
- بلغ المحامين إدارة القضايا الحضور لدى فوراً..
قام " عبد الخالق سعيد " ، وأزاح كرسي مكتبه .. قعد عليه ، وسحب أحد الملفات -
المتراصة أمامه - أخذ يقلب في أوراقه يقرأ صفحاته بتركيز .. ينظر إليك سارحاً ،
ثم يعود مرة أخرى
إلى الأوراق..
نقرات ، متتابعة ، ومنتظمة على باب الحجرة ..ودخل ثلاثة من زملائك .. وقفوا
قبالة مكتب " عبد الخالق سعيد " .وضع نظارة القراءة أمامه ، وأخذ رشفة من كوب
الشاي:
- والآن يا خيري ، سأعرفك بزملائك.
وأشار بيده ، قائلاً :
- عماد.. سامي .. نرمين..
هموا بالتسليم عليك ، والبشاشة والترحاب ، تطلان من عيونهم.. نظر إليك " عبد
الخالق سعيد " .. زوى ما بين حاجبيه:
- من قرار تعيينك يتضح ، أنك معين أخصائي شئون قانونية ، ولست فنياً ..
قلت :
- أرجو الإيضاح .
أضاف :
- وفقاً للائحة البنك ، وقانون الإدارات القانونية ، واللائحـة التنفيذية. لا
يكون التعيين في وظيفة محام إلا بإجراء مسابقة ، يعلن عنها في جريدتين رسميتين
.
على العموم .. ستوزع عليك ملفات القضايا المنتهية ، لكي تتعلم من قراءتها .
بإشراف زميلك عماد.. وأي معضلة .. أنا تحت أمرك.
.. لم تنبس بكلمة ، وخرجت مع زملائك من الحجرة ..
جلست على مكتبك – الصغير – لصق الحائط الأوسط لحجرة القضايا ..على يمينك "
عماد" .. أمامك " نرمين" .. وفى الجانب الأيسر " سامي " .. بادرك عماد، قائلاً
:
- أجدك شارداً ..
بنبرات خفيضة:
- حديثي مع مدير الإدارة ، أقلقني .
لا تهتم بكلامه كثيراً..أنت حاصل على ليسانس حقوق مثلنا..
بحزن ، قلت :
- لقد أصابني بالحيرة .
قام " سامي " من مكتبه ، ودنا من مكتبك ، وبصوت جهوري :
- سيادة خالك ، مشرف على قطاع الشئون القانونية .. لا تقلق..
بضيق ، قلت :
- صحيح خالي ، هو الذي عينني في البنك ، لكن لا أحب أن
تكون معاملتي على هذا الأساس ..
ابتسمت نرمين:
- سامي ، لم يقصد ذلك .. المهم لا تتأثر بكلام عبد الخالق سعيد..
فتح " عماد " ، أحد أدراج مكتبه ، سحب ملفاً ، وبنظرات ودودة:
- اطلع عليه ، وسنتناقش فيه ، وأي استفسار . لا حرج في الأمر ..
... رنوت إلى عقارب ساعتك .. الثالثة تماماً .. توقفت عن قراءة الملف ، ووضعته
في أحد أدراج مكتبك ، كي تقوم بالتوقيـع في دفتر الانصراف ..
لم تنتظر المصعد ، وهبطت على السلم .. الزحام خانق .
.. خرجت إلى شارع " قصر العيني " ، تستنشق هواءً ، عابقـاً برائحة الانفلات من
الروتين...
ساعات
...بالضبط شارع أحمد نسيم ، ولكن أين تقع المحكمة التأديبية ؟ .ارتفع صوتك
محدثاً. أول من لمحته . استفسرت . أشار بيـده إلى بقايا سور معلق عليه لوحة
معدنية ' المحكمة التأديبية '. فتحـت حقيبتك ، وتأكدت من توكيل الموكل ،
والدمغة . مسحت حبات العرق ، وصعدت السلم . لفح أنفك دخان السجائر . سحبــه
الكثيفة تحجب إضاءة المصباح المدلى من السقف . تحسســـت خطوك بين الواقفين
والجالسين ، لأخذ ( رول ) المحكمـــة من الحاجب ، الذي لم يعر اهتماماً لسؤالك
:
- هل انعقدت المحكمة أم لا ..؟
جذبت الرول من يده ، وبحثت عن الدعوى ، لم تجدها . جاءك صوته :
- صباحي أم مسائي ؟
استقرت عيناك على اسم الموكل في الرول المسائي ، وتساءلت :
- متى تبدأ الجلسة المسائية ؟
- إن شاء الله الساعة الواحدة ظهراً.
الساعة - الآن - الحادية عشر ، مازالت أمامك ساعتان .
احتواك الطريق ، ها هي مدرستك الابتدائية - مدرسة أسماء فهمي القومية -وبوابتها
الخضراء، الفناء الذي طغت عليه المباني الخرسانية ، النخلة السامقة ، عم مصطفى
بواب المدرسة وبسمته الودود.
دخلت إلى حديقة ' الأورمان ' تأملت الأشجار ، الزهور . جلست على الخضرة ،
متصفحاً ملف الدعوى . وعندما تململت من القراءة عدت إلى المحكمة الساعة الواحدة
ظهراً . اختنق المكان بالموكلين والمحامين .. رحت تدور حول نفسك .
...رفعت الجلسة . أغلق الحاجب غرفة المداولة . تعالت أصوات القضاة : ضحكا
وعصبية . دق جرس متقطع . فز الحاجب من كرسيه ودخل .. خرج مندفعاً إلى ' بوفيه '
المحكمة ، أحضر أكواب الشاي والسحلب . لم تمر ثوان ودق الجرس مرة أخرى . جرى
إلى الأمام ، ولحق به قاض . فتح باب الحمام ، أضاء المصباح وأغلقه . بعد قضاء
حاجته ، تبعه إلى غرفة المداولة.
تكرر دق الجرس ، وملاحقة الحاجب لقاض ، تلو قاض ،النعاس غلبك ، مضغت بضع حبات
من النعناع.
- متى تبدأ الجلسة المسائية ؟
- بعد أن يبرد السحلب .
- بعد القهوة!
- من المحتمل أن يدخل قاض إلى الحمام لقضاء حاجته ..مرة أخرى .
في الساعة الخامسة راح الحاجب ، ينادى : محكمة .
جحظت عيناك ، صداع كسر رأسك . تصفحت ملف الدعوى بسأم . نادى الحاجب . رول (4).
تحركت تسحب سـاقاك..دخلت غرفة المداولة..القضاة ؛ استطالت وجوهم ، أفواههم
اتسعت ، أعينهم تصغر وتصغر...ملف الدعوى ؛ تضخم ، لم تعد تستطيع
حمله...وغسلتك الأمطار... في الطريق ..
الهدية
أمسك بريشته ، يضع اللمسات الأخيرة. بورتريه لفتاة ، عيناها زرقاوان ، أهدابها
طويلة ، شفتاها رقيقتان ، لون شعرها باللون البني .. ثم وضع ريشته على لوحة
الألوان بهدوء ، خلع منظاره الطبي ، واتجه إلى الشرفة ، وقف متطلعاً إلى حديقة
المــنزل ، وانداحت نسمة باردة محملة بأريج الورد والياسمين .
أشاح بوجهه إلى المنضدة المجاورة لسور الشرفة . الدهشة عقدت لسانه. اختفت
الزهرية . ضباب الكآبة ينتشر داخل صدره ، راح يتحرك .. يبحث عنها أسفل المنضدة
، لم يجدها . خطا إلى حجرته ينقب في أركانها ، فوق المكتب ، على أرفف المكتبة
.. لا شيء.
دنا من مكتبه ، وأزاح كرسيه ، وجلس مستنداً برأسه للخلف ، وأسبل عينيه .
**
كان منهمكاً في إعداد الألوان للوحته الجديدة ، سمع خطوات خفيفة تدنو منه ،
وأحس بأنامل رقيقة تداعب خصلات شعره ، رفع رأسه قائلاً:
- حبيبتي ، لقد تأخرت
- زوجي الحبيب ، لا داعي للقلق.
- أنت تعلمين أنى أحب أن تكوني بجواري عندما أبدأ العمل في لوحة جديدة . فوجهك
الصبوح وعيناك الساحرتان تلهمانني..تنساب ريشة الألوان في يسر.
اكتسا وجهها بالحمرة ، قائلة:
- كفاك مدحاً في.. لولا أنك فنان موهوب ما كنت فزت في البينالي.
- ماذا ؟
- لقد حصلت على المركز الأول.
- الحمد لله .
- ولهذه المناسبة اشتريت لك هدية.
- كان يكفى أنك أبلغتني بهذا الخبر .
- أرجو أن تنال إعجابك ، وأكون وفقت في اختيارها.
أعطتها له ، ففتحها بشغف ، وقال:
- يا لها من زهرية رائعة ، نقوشها غاية في الرقة.
إن ذوقك عذب.
- أنت الذي نميت عندي حاسة التذوق بلوحاتك الرقيقة..
قاطعها ، قائلاً:
- حديثكِ عن الجائزة جعلني أنسى أهم شيء .. ماذا فعلت في إجراءات السفر لإعداد
الماجستير ؟
- بإذن الله ، سأسافر إلى فرنسا بعد خمسة عشر يوماً.
- أي أيام وتتركينني أنا و"سهى " .. سنشعر بالوحدة تتغلغل في أفئدتنا.
بصوت يشوبه الشجن:
- لماذا هذا الحزن العميق ؟ إنها شهور قليلة .. وأعود إليكما.
- شهور .. سنفتقدك كثيراً .. كثيراً.
- ما حيلتي ؟ إنها فرصة لن تتكرر …
ألقت برأسها على صدره .. طوقها بذراعيه .. سالت الدموع من عينيها .. وتدفقت على
وجنتيها .. اهتز جسدها بشدة .. هدهد على شعرها.. وبصوت ، متهدج :
- أرجوك.. اهدئي .
رفعت رأسها ، ومسحت الدموع بيديها ، قائلة :
- أنا مثلكما ، لا أستطيع أنت أحيا بدونكما ، فأنتما كل شيء، بغيركما أشعر
بغمامة سوداء تحجب الرؤية أمام عيــني، لكنى تعبت كثيراً حتى أحصل على منحة
إعداد الماجستير.
-في الحقيقة ، لم أكن أتوقع أن تنتهي الإجراءات سريعاً ، وتسافرين بعد أيام
قليلة .
- أين ستضع الزهرية ؟
ابتسم ، وقال :
- طبعاً ، تطمئنين على هديتك الغالية .. سأضعها في عيني .
بدلال :
- هذا أمر واثقة منه .. ولكن ما هو المكان الذي تختاره لوضعها فيه ؟
- أنت التي ستختارين المكان اللائق بها .
نظرت ناحية شرفة حجرة المكتب ، وقالت :
- قترح وضعها هناك على المنضدة المجاورة للسور .. إنه أفضل مكان .. وعندما
أسافر ، لا تنس أن تضع الزهور المفضلة إلى .. عصفور الجنة والبانسيه.
- كيف أنسى ؟ كل يوم سأضع الزهور الأثيرة عندك .. وبالطبع سأتذكرك أنت…
**
- أبي .. أبي ..
فتح عينيه بتثاقل:
- …
- أبي .. أنا بجوارك منذ خمس دقائق .
- لقد غفوت بعض الوقت .. متى حضرت من المدرسة ؟
- من نصف ساعة .
- تصوري ؟ لم أحس بك.
- أبى .. أنني أرى لمحة ضيق على وجهك.
- لا شيء .
- أنا أعلم ما يضايقك.
- تعلمين ؟
قالت ، بأسف :
- الزهرية ..
قال ، بتلهف :
- أين هي ؟
- كسرت .
- كيف ؟
- كنت أقف في الشرفة .. أنتظر أتوبيس المدرسة.. ولمحت الزهرية متربة .. فحملتها
لكي أنظفها.. سقطت من يدي .. أنا آسفة ، لم أقصد ذلك .
حدق إلى ابنته ، بحنو:
- سنتصل بماما الآن..
وأخذ الهاتف " المحمول " من فوق المنضدة ..
نقوش على جبين الأيام
... سقطت سماعة الهاتف من يده . برودة انسابت إلى أطرافه . رعشة تسربله .
تشابكت الرؤى وغامت . وضع رأسه بين راحتيه ..
- متى ستزورني ؟
لم يكن يعلم ، أن جده يستشرف دنو أجله . ابتسامته العذبة ، ووجهه الوضىء ؛ يرنو
أمام عينيه . نثر العطر على جبينه ؛ لشعوره بالدوار . سحب مفاتيح سيارته من فوق
" الكمودينو ". دقت الساعة الرابعة مساء . قفز السلم .... نتف من السحب الداكنة
، تفترش السماء . نسمات الهواء الشتوية الباردة ، تلسع وجهه.
... ما أن وصل بسيارته إلى الطريق الزراعي؛ حتى بدأت قطرات المطر تهطل بغزارة .
الرؤية مشوشة . ضغط مفتاح " المساحات ".. كان ينتظر إجازة الصيف؛ لزيارة جده في
البلدة .. في الصبح ، يأخذه إلى الحقول ، ويركب " الحنطور "، مستنشقا نسماتً
الهواء ، العابقة برائحة زهور البرتقال واليوسفي ؛ تطالعه الخضرة على امتداد
الأفق.
يجلس تحت شجرة الجميز ، يرقب الساقية ؛ وهى تدور . واندفاع الماء في " القناية
"، يصيخ سمعه إلى الخرير ، ويتساءل هل يجد أسماكاً؟
يخرج رواية: " ملحمة الحرافيش " ، من الحقيبة التي تلازمه ، يقرأ مبهوراً
بلغتها الرقراقة ، وبراعة نسج الأحداث ..
تنبه على صوت جده . رفع رأسه ، ألفاه يقف بجواره ،بقامته المبسوطة:
- أخيراً وجدتك هنا .. لقد تأخرنا..
في شهر رمضان . ألف أن يتابع جده ، قبل الغروب ؛ وهو يعد العرقسوس :
- عندما تشربه ، بعد الإفطار .. يريح المعدة.
بعد الإفطار ، يقرأ جده القرآن ، ويقوم بأصطحابه إلى المسجد ؛ لصلاة العشاء ،
والتراويح . عند العودة ، يجد الحجرة الكبيرة في مدخل المنزل ، قد أعدت
لاستقبال الزائرين . يقرأ شيخ جزءاً ًمن القرآن ، ويقدم للحضور القهوة.
في المساء ، يجلس مع جده ، يستمع لإحدى حلقات المسحراتي ، بصوت " سيد مكاوي
"...
رذاذ المطر يلفح وجهه ، أغلق زجاج سيارته . وبدا الطريق معتماً . أضاء المصابيح
. لمح العلامات الإرشادية ، تشي بقرب البلدة .. خفقات قلبه تترى . صداع يقسم
رأسه .. مال بسيارته إلى الطريق الترابي الواصل بين المركز وقريته..
وقف بجوار البيت الكبير .. هرع إلى داخله . درجات السلم مادت به . الوجوه
مألوفة، لكن القسمات متداخلة . رائحة المسك ، تملأ المكان .
اقترب من جسده المسجى ، لثم جبينه ... والدموع تفيض من عينيه.
تحد
الجدران. الشروق. الشباك. الهواء. الغروب… والشرفة. الكرسي الخشبي… أسراب
الطيور الراحلة في المغيب…
البحر، وأمواجه الحالمة. أغوص، وتملؤني الفرحة، وتبتسم الأسماك، وأداعبها. أسبح
وأتوغل في الأعماق. أبحث عن الأصداف، أبحث..
أقفز عالياً، وأحرز هدفاً في الثواني الأخيرة من نهائي الكأس. أسجد لله شكراً.
وتهدر المدرجات بالتصفيق. والتهليل.. أحمل على الأعناق. ألوح بيدي للجماهير
الغفيرة التي ترقص فرحاً…
آخذ ابني محمد وأضعه على كتفي، وألاعبه: حجة حجيجة…
وترتفع ضحكاته، وصرخاته الحميمة إلى نفسي، لا أتوقف عن اللعب معه إلا عندما
يستبد بي التعب..
أستاف عطر زوجتي، فتنتشي خلجاتي، وأرسم بسمة.. يكفى مكابداتها معي والعمل
المضني…
تدخل علىّ - الشرفة - وإشراق وجهها يهدهد الأحزان -دوماً- وتنفرج أساريرها: لقد
وصل ما كنت تنتظره.
ولوحت بظرف أزرق اللون. من فرحتي جذبته، وسارعت بفتحه، هامساً:
- شكراً…
"… فوجئت بحادثة السيارة التي وقعت لك، والحمد لله أنك نجوت منها. لا تجعل
الأحزان تتسرب إلى نفسك، وتضعف إرادتك. تفاءل خيراً. احمد الله على ما ابتلاك
به، وتقرب إليه –سبحانه - بالصلاة والدعاء، حتى تشعر بمظلة الأمان والطمأنينة.
انطلق إلى الحياة، ولا تبعد عن الناس التي أحبتك وآزرتك إلى أن أصبحت لاعباً
مشهوراً.. لا تجعل العجز يصيب نفسك وروحك، واذهب إلى النادي، وتأكد أنك ستجد
أحبابك يحوطونك."
فداء
مكثت، تحدق في الجثث، وبحار الدماء.. أشلاء طفل، وبجانبه دميته. رجل شوهت
معالمه، بترت ساقاه وذراعاه. بقايا حذاء جندي. امرأة حامل، بقرت بطنها. النيران
تمور، وسحب الدخان الكثيف تترامى في المدى.
أصخت السمع إلى صوت يردد:
- الانتقام.. الانتقام.
الحزن، والكدر، يتغلغلان في فؤادها. تجر ساقيها.. دلفت إلى منزلها، والوهن
يكسرها.. لم ترض أن تأكل مع والديها، وأختها الصغرى.. فتحت باب غرفتها، وألقت
بنفسها على السرير، وأجهشت بالبكاء.
لم تستطع النوم، وكلما غفت لحظات قليلة.. تحلم بأجساد بلا رؤوس، ودماء تفيض..
تقوم فزعة، وتجلس في سريرها شاردة البال.
في الصبح، سمعت نفس الصوت:
- الانتقام.. الانتقام.
عزمت على تعلم القتال، واستخدام السلاح. لم تدر إلا وهى تصعد ربوة جبلية، أقيمت
عليها خيام المقاومة.. رأت أحد الأفراد يرتدى الزى الأرجواني، المميز، ويحمل
على كتفه مدفعاً.. مشت بضع خطوات، ودنت منه، قائلة:
- أريد أن أتعلم فنون القتال.
زوى ما بين حاجبيه:
- ماذا ؟
بنبرات واثقة:
- أنا صغيرة.. لكنى أريد أن أقاتل.. وأنتقم ممن احتلوا وطني.. ونشروا الدمار
فيه.
نظر إليها متعجباً:
- حديثك أكبر من سنك كثيراً.. وإذا وافقت على تعليمك القتال.. هل يوافق والداكِ
؟
قطبت جبينها:
- لقد عزمت على الانتقام.. ولن يقف أمامي مستحيل.
تبسم ثغره قائلاً:
-لا أستطيع أن أقول لكِ شيئاً.. إن إصرارك يسعدني.. سأقوم بتعليمك و…
قاطعته فرحة:
- من اليوم.
***
راحت تتعلم فنون القتال المختلفة.. أصغت إلى كل ما يقوله معلمها، برعت فيما
تعلمته، ارتدت ملابس القتال الخشنة، استعدت للانتقام.. مرت الأيام سريعاً..
وهاجمت قوات العدو قريتها بعد أن دمرت معظم القرى المجاورة.
طلقات الرصاص والإنفجارات تعلو أصواتها.. علم العدو يتراءى أمام عينيها، نجمته
تعلق بها الدماء.. يرفرف دون خجل.. عروقها انتفضت.. جرت إلى سيارة، ولغمتها
بالمتفجرات، فتحت بابها، وقعدت بها، ثم اتجهت إلى إحدى قوافل العدو.. لم تشعر
لحظة بالخوف، أو التردد.. زادت من سرعة سيارتها، عندما رأت مجموعة من مدرعات
العدو الآلية مقتربة منها، اصطدمت بإحداها..
انفجرت سيارتها، والمدرعة الآلية، وتناثرت أشلاء جسدها الصغير على ثرى الوطن.
دبيب الروح مرة أخرى
غبش الفجر يتغلغله.. يرنو إلى بنات أفكاره، المنشورة في المجلات والصحف،
المتراكمة عل أرفف المكتبة.. تداخله الرغبة - الملحة - أن يجمع أقاصيصه بين
دفتي كتاب.
أخذ العزم، وبدأ يختار بضع أقاصيص، تتوحد رؤاها.. بعد ثلاث ساعات ، فرغ من
التدوين، وإعادة الصياغة، لضبط اللغة أكثر.. ثم نسخها في مكتب
"كمبيوتر"، وصمم على متابعة النسخ، توخياً للدقة المبتغاة، وقام بتجليدها،
ووضعها في حقيبته بفرحة غامرة.
.. لوح لأتوبيس قادم نحوه، قفز بداخله، ونزل في متصف شارع "قصر العيني"،
لمقابلة مدير تحرير سلسلة "إبداع الشباب".. وسبح بذاكرته في الأحاديث الصحفية،
عن إتاحة الفرصة للمبدعين الشباب، في نشر إبداعاتهم.. صعد إلى الطابق العاشر،
لم يجد سوى ابتسامة باهتة، وبعض الكلمات، تخرج من فيه بفتور: سلم عملك الأدبي
إلى السكرتارية.
وجد - لسان حاله - يردد: وبعد ذلك ؟
فوجئ بوضع نظارة القراءة على المكتب، ورفع حاجبيه ؛ بتعجب:
- بعد فحص لجنة النشر، والموافقة، تنتظر دورك.
قام بتسليم نسخة المجموعة القصصية، وقيدت تحت رقم "451"!!
ومكث شهرين.. ثم مر عام ونصف.. ولم تشكل لجنة فحص الأعمال الإبداعية..
الملالة، والسأم تمتلكاه..
وفى أثناء تصفحه لجريدة "أخبار اليوم"، لمح قراراً بتعيين مدير تحرير جديد
لسلسلة "إبداع الشباب".. بصيص الغبطة اجتاح فؤاده.. وعلى الفور، ذهب إلى مكتب
مدير التحرير الجديد، يتساءل عن مصير مجموعته القصصية، فألفى كلمات هادئة
واثقة: بإذن الله، ستدخل لجنة الفحص، بعد ستة أشهر.
هز رأسه، وأقسم ألا يدخل هذا المبنى -العتيق- مرة ثانية.
وأصر على طباعة قصصه بنفقته الخاصة..
وما أن تسلم النسخ الأولى من - دبيب الروح - بعث بنسخة إلى مدير التحرير
السابق، وأخرى إلى مدير النشر الجديد !!
النجم المسافر
"إلى روح الشاعر المبدع/
عبد الله السيد شرف "
(1)
"..عروس الشعر، زارتني – أمس - وكتبت قصيدة، وهى في الطريق إليك..".
(2)
"آلو.. مر أسبوع، ولم تصلني القصيدة.. لعلك ترسلها مرة أخرى.. شكراً..
سأنتظرها..".
(3)
دخلت إلى حجرتي - في العمل - الساعة الثانية عشرة ظهراً، سلمني زميلي رسالة..
فتحتها بتردد، وقرأت.. انتقل إلى رحمة الله تعالى الشاعر/ عبد الله السيد شرف.
(4)
غصة في حلقي.. دموعي تحجرت.. أخذت أسحب ساقي، وأنا في طريقي إلى مكان العزاء.
.. جلست في المعزى، والأرض مادت بي.. لم أستطع أن ألتفت إلى منزله، ومكانه
خالٍ.. قمت بتعزية أخيه وولديه، أقاربه..
(5)
أغلقت باب شقتي.. لحظت رسالة على الموكيت.. أيعقل.. خط الحبيب -عبد الله شرف-
فضضت الظرف.. رعشت أصابعي، واحتضنت قصيدته:
" لم تبق إلا ومضة.. ويغيب
هذا الندى.. الرائع المحبوب
ملأ الحياة ترنماً.. ورنا له
التائهون.. وعانقته قلوب
فمضى يضمد جرحهم في رقة
وسرى يكفكف دمعهم ويذوب
……………………………"
(6)
..
وفاضت الدمعات.
رائحة الأيام
هبطت من القطار محتضناً نسمات الهواء التي أشتاق إليها، لكي تجدد خلاياي، وحنين
عارم، لهذا السياج، والخضرة المفروشة على مدى الأفق، والوجوه الراضية،
المبتسمة، المستبشرة.
- لا توسخ جلبابك.
دائماً ما كررتها أمي لتبعدني عن الشقاوة واللعب، لكنى أجرى وسط الحقول
منادياً: سعدون وصفية ولدى عمى. نقف أمام الترعة، نقفز متدافعين، سابحين، ونصعد
لنلحق بجمع القطن، ونرقب أولاد جيراننا الأكبر سناً وهم يقومون بالجمع، نلعب
السيجا، نضحك ونضحك، سنون وتباعد الرفاق، تزوجت صفية، وسافر سعدون إلى حلوان،
وتغربت راحلاً للكويت.
في لهفة، أمشى لكوخنا الصغير، عابراً الكوبري الخشبي الواصل بين المركز وقريتنا
الوادعة، وقفت للحظات أتأمل مياه الترعة الضحلة وهى تسرى في مجراها بهدوء.
أكملت المسير سالكاً الممشى الترابي، ثمة شيء ما أحسست به، الملامح تغيرت، مسحة
من الشجن ترتسم على العيون.
أحرك رأسي يمنة ويسرة، لعلى أجد المفقود.
لقاء
دوماً، أقابله مصادفة في "نادى القصة" أو "اتحاد الكتاب".. أباغته بسؤالي عن
قصصي.. لعله يكتب بضعة أسطر عنها.
يبتسم ويهز رأسه – الصلعاء - ويقول:
-
إن شاء الله.. كيف حالك يا سعيد ؟
أنظر إليه ملياً، وأمشى، مندهشاً، لإجابته المقتضبة، ونسيانه لاسمي الأول.
ومن حظي الفرح، قابلته - اليوم - في أثناء خروجي من "نادى القصة".. تهللت
أساريري وسألته:
-
سيادتك قرأت القصص ؟
حك أرنبة أنفه، وخلع نظارته الطبية، ووضعها في جيب قميصه:
-
هل تود الصراحة ؟
قلت له:
- تفضل.
مسح بلورات عرقه المتفصدة من جبينه، بمنديل ورقى، وقال:
- المهم، ألا تضيق.
ضغطت على أسناني:
- صدقني، لا أضيق بالنقد أبداً.
ابتسم ابتسامة أظهرت سِنة مكسورة في الفك العلوي وقال:
- لم أستطع أن أقرأ أعمالك القصصية.. ولكن عليك أن تكتب القصة التقليدية، ثم
تكتب بعد ذلك القصة الحديثة، وقراءة نماذج جيدة من جميع الأجيال.
أضاف، وهو يعيد النظارة إلى موضعها فوق أنفه:
- القصة من أصعب الفنون، ليست سهلة كما يتصور البعض..
لم أعد أسمعه.. وكأنني أشاهد فيلماً صامتاً.
أقاصيص
البيت
.. تقف على عتبات بيتك القديم...
.. تحاول ، تنسم : عبير السنين الفائتة ...
تجابهك : الأبواب الموصدة ..
.. تذرف : دمعة حارة ...
قبلة
.. ها أنت ، تلثم شفتيها .. كم أنت مشوق ؛ للمسها..
ولكن – الآن – ما تتمناه ، أن تنجح قبلة الحياة..
شارع
.. ترنو إلى أشجار – شارعك – المتشابكة أغصانها..
.. تبحث عن السكون المحبب إلى قلبك ..
.. الأصدقاء ... الحبيبة ....
..أضحت سراباً....
ندوة
.. أخذ ، ينفث سيجارته ...
تصفح أوراقه – المبعثرة – بأصابع مرتعشة .. تنحنح .. اقترب من الميكرفون..
لم تفهم – لوغارتم – كلماته : المتكسرة ، المعنى..
..تثاءبت..
الليلة الأخيرة
.. غبش الفجر ، يتلاشى ، وتقترب سكرات الموت من شهريار ..
بنظرات ساهمة ، يردد: شهرزاد .. شهرزاد..
تضم رأسه إلى حضنها . تمسح عرقه .. تلثمه ، فتسقط دمعة..
يومىء بعينيه .. تهمس في أذنه : شهرزاد في طوعك يا مولاى..
بحروف متكسرة : أ..ح..ك..ي
أستاذ
.. جلست – المذيعة – تسأله – بصوتها : الرقيق – عن أصدقائه ؛ ليتحدثوا عن سيرته
، وحياته الأدبية ؛ في الحلقة التليفزيونية ...
تابعتهما – بشغف – لعله يختارك ...
.. شدهت باختيار غيرك !!
ألم...
..رفس بساقيه - اليابستين - بقايا الملاءة الممزقة..
وهَم من نومه - المتقطع - متكئاً برأسه على عكازه الخشبي.. حابساً آلام جسده
- المتداعي - ؛ خشية إزعاج زوجته ، الملتحفة بالجزء المهتريء من الملاءة..
ابنتاه ؛ مدفوستان بينهما تلمساً للدفء...
سخونة ، تسري في قدميه ، تختلج من شدة الألم.. لم يعد يستطيع ، أن يخرس
ألمه......آه...آه......
صوت
- "جـرايـد......مجـــلات....."
.. ترنو إلى عقارب ساعتك : الثامنة والنصف صباحاً...إنه موعد مناداة : " عم عبد
العال ".. اليومية .. تأخذ " صندلك " من تحت "الكمودينو" .. تفتح ضلفة
الشرفة .. تلمحه ، بوجهه الأسمر – المحبب إلى قلبك – يقف بجوار " عجلته "..
يرمي الجرائد إلى شرفات العمارة المجاورة ... عندما يلتفت ؛ ينظر إليك ، وأنت
تطل من الشرفة ؛ تقول له : لا تنس .. سمير ، وتان تان.....
... يلوح بيده لك .. ثوان ، وتجد المجلات ؛ مع الجرائد ؛ تتصفحها بشغف..
............................................
ومازال ؛ يأتيك صدى صوته ؛ رغم مرور السنين....
أيس كريم
امرأة ، تجلس على الرصيف ، تلعق : أيس كريم .. ترقب الشارع...
تزم شفتيها ، وتوميء برأسها ؛ لفتاة يشف ملبسها عن مفاتنها...
... وتعود - مرة أخرى - تلعق : أيس كريم ، منتشية ...
.. ترمق ببصرها شاب ، يطبع قبلة على خد فتاته ؛ في سيارته الفارهة...
.. ومازالت - المرأة - تلعق : أيس كريم ...
شرفة
.. يأتيك ؛ صوت :آذان الفجر ، وأنت بين الغفو والصحو ... تنتبه ؛ تهم من
السرير...
تفتح ضلفة " الشيش " .. تجلس قبالة الشرفة ، تتنسم هواء الصبح ، الندي..
.. تطل - من وراء الأعمدة المعدنية - على شارع خال ؛ لا تؤنسه سوى ظلال
نور ؛ شاحب..
.. تبحث عن ونس ما..
... وبعد...... ، تعود إلى صفحات كتابك...
تداعيات...
طفل ، يأكل شوكولاته بفرحة غامرة....
.......................
طفل ، يقضم كسرة خبز – جاف – ويتأوه من شدة البرد القارس...
.......................
طفل ، يروي الأرض بدمائه الذكية...
.......................
.... وعصفور ، يطير من محبسه ، محلقاً ......... في المدى الوسيع.....
زهرة
بأناملها الرقيقة ، تمسد شعر عروستها ، وتطوقه بشريط وردي..
تضمها إلى صدرها . تهزهزها ، مرددة :
- فلسطين عربية...
.. دوى إنفجار شديد ، وتناثرت أشلاؤهما...
انشطار
ألق الشفق يتلألأ علي صفحة النيل .. غدا بأوراقه الصفراء ، المعجونة بروحه ودمه
.. يفك أضابيرها . يتصفح أفكاره المحبوسة بين السطور..
يدفع بها ورقة تلو الورقة إلى حضن النيل .. ويأخذ شهيقاً عميقاً ؛ ويرحل...
|