أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

الكاتب: جمال زكي القواسمي-فلسطين

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

الاسم جمال زكي القواسمي

العمر: 43 عاماً.

مكان الولادة والسكن: القدس.

المؤهلات: بكالوريوس لغة إنكليزية، جامعة بيت لحم، 1992.

المهنة: معلم لغة إنكليزية.

عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين

عضو برنامج الكتابة العالمي(1995 International Writing Program IWP)

 

لي ثلاث مجموعات قصصية منشورة:

•جاي معك، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، 1990.

•شامة في السماء، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، 1997.

•هزائم صغيرة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1998.

 

لي كتابان ترجمتهما الى العربية من الانكليزية:

•الشاي لا يقول شيئاً ، شعر، تشيانج شيانغ هوا/ تايوان، صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1998.

•برنامج الإثراء المنزلي، (في التربية الخاصة وتعديل السلوك)، صادر عن جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني/رام الله، 2003.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الكوفية

الثور والسيارة

غرفة الجمال

 احلام

هزائم صغيرة

خزانة العطارين

هذا ما حدث

النبي

جدران بلا ملامح

فلم حربي

الرجل الضاحك

الكعكة

 

 

احـــلام

 

 

نظر الى ساعة أبيه، الذي كان يوضِّب ثلاجة المرطبات. كانت الساعة الثانية والثلث. القى نظرة على الشارع البعيد. سمع أباه يصرخ، "فؤاد، احضر صندوق كازوز! هيَّا! اسرع!" هزَّ رأسه وذهب الى المخزن وقدماه تلتهمان المسافة التهاماً. تعثَّرت قدمه اليسرى بحجر فسقط أرضاً، ثم نهض متثاقلاً، وعاد سريعاً الى والده ومعه نصف صندوق من الشراب.

-" ألم اقل لك صندوقاً كاملاً؟" تساءل الوالد حانقاً.

-" نعم، ساُحضر البقية الآن!" قال فؤاد وهو يهزُّ رأسه. كان يفكِّر بشيء ما اقلقه مؤخَّراً، وهو أنَّ كل شيء اصبح ثقيلاً، لسبب لا يعرفه. نسي الفكرة حين شاهد مجموعة من الفتيات وهنَّ في لباسهنَّ المدرسي الموحَّد الجميل. بلع ريقه، واختلس نظرة اخرى الى ساعة أبيه.

 

-" ماذا تنتظر ايُّها الكلب؟ هيَّا، احضر النصف الآخر!" نهره والده لتلكُّئه وخيبة أمله فيه.

     انطلق فؤاد فوراً، وعند المنعطف  اصطدم بطفل لا يتجاوز الثالثة، فوقع فؤاد على ركبته اليسرى وآلمته ألماً شديداً، فبكى، وراح يعتذر للطفل الذي لا يعي، "آسف، واللهِ لا اقصد!!" ثم تركه، واحضر بقية الصندوق وهو يعرج. نظر فؤاد الى ساعة أبيه: الثانية والنصف إلا قليلاً.

     وانسلَّ فؤاد الى حيثُ الاولاد، وقال في نفسه بصوت خفيض، "ما هي إلا بضع دقائق!"

-" اين؟" سأله أبوه بنرفزة.

-" هناك، مع الاولاد.. "

-" اقعد هنا ولا تتحرك! لا وقت للعب! ألا ترى السائحين يحتاجون الخدمة؟ امكث هنا، افهمت؟ "

     بعد دقائق رآها آتيةً من مسافة بعيدة ترتدي المريول الاحمر والكحلي، والضفيرة الشقراء تتدلَّى خلف رأسها، وعيناها الزرقاوان تارةً والخضراوان تارةً اخرى تلمعان بدفء غامض يسري في جسده الفتيّ، ويفتنان عينيه، وبشرتها البيضاء الناصعة كالياسمين رقيقة شهية تحلِّب ريقه. اختلس نظرة اخيرة قبل ان تختفي بين جموع الناس، وانطلقت من فمه "آه! "

     لا بُدَّ ان يتبعها حتى روضة دير الأرمن، حيثُ يلعب الاولاد، وحيثُ تمرُّ احلام من هناك كلَّ يوم في طريقها الى البيت الواقع عند المدرسة العمرية. وجرَّ فؤاد نفسه شيئاً فشيئاً، ووالده مشغول بالبيع، حتى وصل عيادة الدكتور امين. كان شارع الآلام، وهو الشارع الذي تعذَّب فيه سيدنا المسيح عليه السلام، طويلاً، الأمر الذي يستغرق احلام وقتاً ليس قصيراً لتقطعه.

     وشارع الآلام شارع فؤاد وحده حين تمشي عليه احلامه. هكذا يفعل كلَّ يوم: يتسلَّل رغم بطش أبيه ونهيه الى نهاية الشارع ليرى "احلاماً" اطول مدة ممكنة، فينتعش قلبه، ويحسُّ بالبهجة واحاسيس لم يعرفها من قبل. ومرَّت احلام من امامه. كان بين لحظة واخرى ينظر إليها حتى اختفت عن الانظار. واقترب منه ولد جاء يتحرَّش به. كان فؤاد هزيل البُنية ضعيف الجسم، دوناً عن الاولاد جميعاً. وكان الاولاد يضربونه، حتى اولئك الاصغر منه سناً وحجماً، وبين الفينة والاخرى يطعمونه وجبة طازجة، يكيلون له فيها اللكمات والركلات.

-" ابتعد عني يا جابر، انا لا امزح معك!" قال فؤاد لجابر وهو خائف.

فقال جابر وهو يضحك: "لا اُريدك ان تمزح معي، أيُّها الجبان! لكني سامزح معك قليلاً! "

     يدري فؤاد كيف يكون مزاح جابر. سيصفعه جابر صفعةً، ويطلب منه ان يردها ويستردَّ شرفَه. وفؤاد لن يردَّ الصفعة. لن يقوى على ذلك. وآنئذٍ سيقرِّب جابر خدَّه الى فؤاد، ويعقد يديه خلف ظهره، ويقول لفؤاد: "تفضَّل، اصفعني!" لكن فؤاد لا يصفع.

-" لماذا لا تصفعني ايُّها الجبان؟" صرخ جابر، ثم تضرَّع بنبرة مضحكة وقال: "اصفعني! "

فضحك كل الاولاد.

-" ام أنَّك شاطر فقط في المدرسة؟ وتقول للاستاذ انني اُمضي وقتي كلَّه باللعب في الشوارع، ها؟.. "

-" لستُ واشياً.. "

-" كاذب! شايف حالك، على ماذا؟ وضحكتَ عليَّ لمَّا ضربني ذلك الاستاذ البليد، ها؟ لكنك الآن على وشك البكاء! اعرف شيئاً أيُّها الجبان، أيُّها الأول في الصف: انا لا اخاف استاذك! ولا اخاف احداً.. هيَّا اصفعني.. كُن رجلاً.. منشان الله، اصفعني.. اصفعني، ابوس يدك، ابوس رجلك، ابوس طـيـ.. اصفعني!.." صرخ جابر في وجه فؤاد والاولاد يقهقهون بجنون. وفؤاد لم يتزحزح قيد أنملة. وسُرعان ما انهال عليه الاولاد، فصفعوه وضربوه في وجهه وصدره وبطنه، أمَّا جابر فقد اقصاهم عنه، وركله في رجله اليسرى، تماماً تحت الركبة، حيثً احسَّ بالآلام الحادة مؤخَّراً. فبكى، واصابه حزن شديد لأنَّ الاولاد أخذوا ينادونه: "يا جبان! يا جبان!" وجد شيئاً من العزاء حين سمع صوت أبيه. فتفرَّق الصبية عنه، وعاد الى البسطة وهو يمسح آثار الدموع المترقرقة في عينيه.

-" اين انتَ يا خسيس؟ ابحث عنك منذ مدة، وادعوك فلا تلبي ندائي؟!" صرخ والده وطبع صفعة على خدِّه، فلمح بريق دموعه في عينيه، "ما هذا؟ ما بِكَ؟ أنتَ تبكي؟ أجعلتَ احداً يضربك؟ آهٍ منك ايها الجبان؟ اتخاف ان تدافع عن نفسك؟!" صرخ والده فيه، وصفعه صفعة أخرى.

     ذهب فؤاد وجلس على درجات مستشفى الهوسبيس. إنَّه يحب تلك الدرجات كثيراً. الجلوس هناك يعطيه مجالاً افضل ليرى كافة الاتجاهات. نعم، الاجنبيات جميلات يسلبن عقول رجال الحيّ، فيمضون معظم يومهم في الكلام عن هذه وتلك. ولا بُدَّ أنَّ كلَّ مَن رآه كان يستغرب كيف لفتى في الثالثة عشرة، اسمر الملامح، ذي شعر اسود، وشفتين عريضتين منفرجتين، ووجه ينمُّ عن اقبال للحياة، ان يكون هادئاً، صامتاً، ساهم العينين كأنَّه شيخ متزهد هزيل الجسد لا يعيش إلا على الخبز والماء.

     لكن فؤاد لم يكن يرى الاجنبيات حسناوات ولو كُنَّ مزلَّطات او متبرِّجات. كان دوماً يرى "احلامه" ويفكر بها. ثمة شيء غامض يربطه بها. في الوقت ذاته، كان يحِسُّ بشيءٍ آخر ويفكِّر به كثيراً وهو جالس على درجات الهوسبيس: وهو كثرة وقوعه والآلام التي تلسعه من حين لآخر في رجله اليسرى. لم يقُل لأبيه شيئاً ولا لأي شخص آخر. كثيراً ما قال في نفسه: "لماذا اقول له؟ سيضربني ويقول لي: هل تريد ان تذهب الى البيت وتترك البسطة؟ ها؟ "

     في اليوم التالي حدث شيء لم يتصوَّره أبداً. كان آنئذ في المدرسة. طلب من الأستاذ ان يسمح له بأن يبول، فأَذِنَ له. كان يشعر بحاجة جامحة للتبول، فركض الى الحمام، فتعثَّر وسقط أرضاً. كانت رجله اليسرى تؤلمه بشدة. ورغم انَّه نهض واكمل مسيره إِلا أنَّه لم يستطع ان يسيطر على نفسه، فبال في ملابسه رغماً عن إرادته قبل ان يصل الى الحمامات. رآه المدير، فرثى لحاله وأذن له بالرواح. إنَّه من اوائل الطلبة وسيعوِّض دروسه بلا شك، هكذا فكَّر المدير.

     في الصف ضحك عليه جابر والتلاميذ وحتى الاستاذ. خرج فؤاد من غرفة الصف منكِّساً رأسه، عاجزاً، ضعيفاً، يحتقر ذاته. حتى والده عنَّفه وصفعه ونعته بـ "الشَّخَّاخ"، وأمره بأن يذهب الى البيت ويستحم ويعود الى البسطة. عاد إليها، ووجد اباه يشكو سوءَ حظِّه به لأهالي الحارة. ما احزنه اكثر هو تردُّد لقب "الشَّخَّاخ" على السن بعض الكبار والاولاد، فانزوى عند درجات الهوسبيس كئيباً. وأخذ ينتظر صديقه جاسم، الذي يخرج من مدرسته في الساعة الثانية تقريباً. كان كلاهما زميلين في الروضة والمدرسة الابتدائية. ورغم أنَّ ابا جاسم نقل ابنه من مدرسة فؤاد لأنَّه لم يكن راضياً عن مستوى ابنه الدراسي، فقد اشتدت اواصر الصداقة بين فؤاد وجاسم اكثر من ذي قبل.

-" جاسم، مرحباً! "

-" رأيتُكَ من بعيد، فجئتُ لأرى احوالك.. وتحرُّكاتك!" قال جاسم وهو يضحك. كان كلاهما يتبادلان اسرارهما الخاصة عظيمة الشأن، التي تتعلَّق، في نظرهما، بقصص الحب التي تؤرِّقهما. وكانت كلمة "تحرُّكات" مصطلحاً خاصاً بهما لا يفهمه احد. كان جاسم ممتلىء الجسم، ابيض الملامح، وشعره بني خشن. وكعادته كان يقهقه حالما يسأل فؤاد عن "تحرُّكاته" لأنَّ جاسم كان يعرف أنَّ فؤاد فاشل في الحبّ، بل وكان يدعوه بــِ "الخائب! "

 فاجابه فؤاد حالاً: "لماذا لا تقُل انتَ ما تحرُّكاتك؟ "

اقترب جاسم من فؤاد، وقال وهو يضحك: "امس، رميتُ لها قصاصة ورق، وكتبت عليها: سندرس على السطح! انا انتظرك فوق.. ثم انتظرتها.. "

-" وهل جاءت؟" سأل فؤاد باهتمام.

-" طبعاً! هه هه هه... "

-" هل عرفت اسمها؟ "

-" اسمها نجوى. إنَّها جميلة جداً، أتعرف ماذا حصل؟ "

-" ماذا؟ "

 التصق جاسم بفؤاد وقال: "لقد هربت نجوى مني.. هربت.. هربت بعد ان لمستُ يدها وامسكتُ بها.. لكنَّها كانت تضحك! "

 فقال فؤاد بحِدَّة: "لماذا امسكتَ يدها؟ لقد أخفتها وجعلتها تهرب.. يجب ان تصادقها، أن تكونا صديقين! "

-" لكنَّها كانت تضحك! قسماً بربي.. إنَّها تحبُّ ان المسها. كانت تضحك!"

-" انتَ لا تعرف ما هو الحبّ! مَن يُحِبُّ احداً لا يُخيفه ولا يُزعله!" قال فؤاد بهدوء، وهو ينظر الى الشارع البعيد.

-" يكفي أنَّك وحدك تعرف معنى الحبّ، لكن قُل لي ماذا فعلتَ انتَ؟ "

-" لا شيء.. "

-" لا شيء؟" تعجَّب جاسم، "لا شيء على الاطلاق؟ يا لك من خائب.. "

-" لستُ خائباً يا جاسم، لكنني.. انتَ تعرف.." دافع فؤاد عن نفسه.

-" رُبَّما يجدر ان ادعوك "راهب!" خلال يومين رأيتُ نجوى، قابلتُها، وتكلَّمنا ولمستُ يدها. وانتَ منذُ بداية السنة تحكي عن احلام ولا تفعل شيئاً.. "

 لم يقُل فؤاد شيئاً، وراح ينظر نحو الشارع البعيد.

-" ولماذا لم تفعل شيئاً؟ "

-" لا استطيع ان اتكلَّم.. إني استحي.. "

-" هاه، حسناً، وجدتُ الحلَّ: اُكلِّمها عنك وهي في طريقها الى البيت؟ "

فقال فؤاد بانفعال: "جاسم، لا تفعل هذا أبداً، أتفهم؟ لا تفعل هذا أبداً! "

-" طيِّب!" قال جاسم بعنف، ثمَّ لطَّف نبرة صوته وسأله ثانيةً، "هي في طريقها الآن الى هنا، صحيح؟ "

 فقال فؤاد "نعم" بلامبالاة، وبعد دقائق معدودة عانق رأس صديقه، لكي يُريه احلامه، "هناك، ها هي قادمة، تلك.. لا تُحرِّك رأسك.. تلك التي الى يسار المجموعة.. ذات الضفيرة! "

-" إنَّها جميلة جداً!" قال جاسم ليغيظه، ويلهب غيرته التي يعرفها جيداً.

-" ماذا؟ "

-" لكن نجوى اجمل منها! هه هه.." قال جاسم وانفجر ضاحكاً، وجسمه المكتنز يهتزُّ مرحاً.

-" فؤاد! فؤاد!!" دعاه والده، وصفعه، "انا اذهبُ الى مشوار صغير، وانتَ سُرعان ما تترك البسطة، ها؟ "

     لماذا صارت احلام لا تفارق ذهنه وخاطره؟ لماذا كان يفكِّر بها دوماً؟ وما الذي يجعله احياناً لا يسمع نداء والده فيتعرَّض للصفع والإهانة؟ ما السرُّ في هذه المخلوقة الذي يستولي على لبه وقلبه؟ في مساء ذلك اليوم، وبينما هو ووالده يُغلِقان البسطة، أتت احلام نفسها الى البسطة. وقفت امامه، ووقف امامها. تبادلا النظرات. طلبت زجاجتي عصير، فاعطاها.

     لم يقُل شيئاً. حتى أنَّه لم يبتسم، بل ظلَّ مشدوداً اليها. وذهبت. لم يُصَدِّق أنَّها وقفت امامه، وتحدَّثت معه، حتى أنَّها سألته: "يوجد عصير برتقال؟ اريد زجاجتين!" ولو قالت له: "اُريد قلبك!!" لأعطاها. وذهبت. خفق قلبه وهي امامه بايقاع سريع لم يشعر به من قبل. وما اشعره بالخجل من نفسه في اعماقه الدفينة العميقة أنَّه لأول مرة أراد بل اشتهى أن يقبِّلها. وذهبت. كانت قريبة منه، حتى أنَّ اصابعه لامست اصابعها حين ناولها العصير. وذهبت. كانت احلام امامه، قريبة، وحقيقة تنبض بالحياة والحركة والحُسن. لكنَّها ذهبت. حقاً ذهبت. هكذا، وبكلِّ بساطة، كأنَّها حلم اعتراه ذات ليلة؛ وبعد ان استيقظ من النوم، تلاشى الحلم ولم يعُد له وجود. استيقظت امه في الليل على صراخه، ووجدته يهذي: "احلامي! احلام!.." فايقظته وطمأنته قائلة انه مجرد كابوس، لا غير.

     استأنس فؤاد بالليل والهدوء. حاول ان يستعيد ما رآه في الحلم ففشل. تمنَّى ان ينقضي الليل بسرعة، وتنتهي الدراسة، ويلتقي بجاسم ليحكي له ما جرى مع احلام التي اشترت منه عصير البرتقال. لكنه، في اليوم التالي، آلمته ركبته اليسرى ألماً شديداً، حتى أنَّ المدير اعطاه إذناً بالرواح. فذهب الى أبيه وهو لا يستطيع تثبيت قدمه اليسرى على الارض، مما جعله يتكيء على الحائط ويده. فأخذه والده الى عيادة الهوسبيس، وانتظرا الطبيب زمناً طويلاً. وبدأت نوبة الألم تخفُّ، وكادت تتلاشى. ثمَّ دخلا غرفة الفحص.

-" نعم!" تمتم الطبيب، مُبدياً اهتماماً خاصاً، "سنجري بعض الفحوص: اشعة، دم، بول... "

-" هل يوجد شيء يا دكتور؟" استفسر الأب باضطراب.

 فقال الطبيب بتردُّد، "سنجري الفحوص. سنرى. "

     بالصدفة رأى فؤاد ساعة الطبيب تشير الى الثانية والنصف تقريباً، فتساءل مُتلَهِّفاً على الخروج: "هل استطيع ان اعود الى البسطة؟ "

فاجابه الطبيب: "كلا، سنجري بعض الفحوص البسيطة. "

-" لكن لا يوجد ألم، الآن!" أكَّـد فؤاد.

-" اعرف. سنأخذ وقتا قصيراً فقط. "

     تخيَّل فؤاد احلام وهي تأتي من بعيد، ثم تمشي امام البسطة، فالهوسبيس فشارع الآلام حتى المدرسة العمرية، ضفيرتها تتدلَّى خلف رأسها، جبهتها الغراء وخدَّاها المورِّدان. عاد بذاكرته الى مساء أمسه، حين جاءت تتهادى امامه واشترت العصير، وذهبت وهي تركض، وشعرها الاشقر المتموج يدفعه الطوق الى الخلف، وعيناها الزرقاوان تارة والخضراوان تارة اخرى تلمعان بدفء. تخيِّل كيف ستبدو في الغد وهي عائدة من المدرسة، وتخيِّل انهما تلاقيا وتكلَّما.

     بعد اسبوعين حافلين بالتردُّد على المستشفيات والمختبرات الطبية لاجراء فحوص اخرى، قال الطبيب لأبي فؤاد: "ساُعطيك عنوان طبيب عظام مشهور، رغم يقيني أنَّه لن يستطيع أن يدُلَّك على علاج او دواء لأبنك. يؤسفني ان اقول لكَ أنَّ مرضاً خبيثاً يستوطن عظام رجله اليسرى. وتأكَّدنا أنَّ الرجل اليمنى مصابةً أيضاً، لكنَّها في مرحلة تمهيدية. سيكون هذا الصبي معاقاً طيلة حياته! رُبَّما كان من الافضل له ان تُبتَر ساقـاه." قال الطبيب، لكن ثمة صراخاً انفجر فجأةً في العيادة، "يا دكتور، الحق يا دكتور.. حالة طارئة، بسرعة.. "

     ترك الطبيب فؤاد واباه، وخرج من غرفة الفحص. سمع فؤاد كلام الطبيب وفهمه. لأول مرة آلمه شيء ولم يبكِ. حتى أنه رأى اباه ينشج كالاطفال، ولم يفعل مثله. اكتفى فؤاد بأنه استسلم لأبيه، الذي حمله بيديه القويتين، واسنده على صدره وراح يربِّت على ظهره برفقٍ وحب. وحين خرج فؤاد من غرفة الفحص، رأى منظراً مخيفاً جعله ينفجر بالبكاء بلا وعي. رأى "احلاما". كلا، لم تكن احلامه الحقيقية. كانت مُسَجَّاةً على ظهرها وقد اختفى وجهها، ولُطِّخ شعرها الاشقر وجبهتها الغراء بالدماء والقبح والرعب، وتمزَّق زيُّ مدرستها الاحمر والكحلي واظهر جسداً مبعوجاً محطَّماً. وكان الطبيب والممرضات قربها وهم يائسون.

-" يا له من سائق طائش!" قال شخص ما.

-" ما زالت طفلة!" قال آخر.

-" إنَّها ميتة!" قال الطبيب بأسى.

وأخذ فؤاد يبكي، يبكي بحرقة وألم ومرارة، ويقول بصوت خفيض غير مفهوم، وعيناه مُسمرتان على جثة الصبية، "احلامي! احلامي! قتلوا احلامي! قتلوا احلامي! "

12 آب 1985

 

 

غرفة جمال

 

 

 

في ذروة احتفال كبير، يتراكض الاطفال في كل مكان، ما عدا تلك المنطقة، هناك، على سطح البيت، حيثُ يتحدث الشيوخ، وحولهم يجلس بقية الرجال، ومنهم شبان كثيرون نسبياً، وهم صامتون، يسمعون ويحاولون جاهدين ان يبدو عليهم الاستغراق في السمع.

     في اثناء ذلك يتسرب غناء النساء آتياً من مكان منخفض قصي عبر طيات الليل المظلمة. ينسلُّ الصوت الأنثوي في كل روح. يحاول الرجال، خاصةً الشبان والعزَّاب ذوي الاكثرية، جاهدين ان يتجاهلوه، ويرهفون سمعهم اكثر فاكثر لحديث شيخ عجوز امامهم.

     يتسلَّل الغناء الأنثوي، منادياً العريس ليأتي الى عروسه. يخترق الغناء العذب الجميل الظلمات، يصعد الى السطح، يرقص حول الآذان، التي تبدو جميعها صمَّاء. يتهيَّـأ للمرء في الوهلة الاولى أن الصوت الأنثوي يغرق ويتلاشى في الظلام، لكن بالامكان بين الفينة والاخرى أن يرى المرء دليلاً على وجود انغامه السريِّة، رغم الآذان الصماء والعيون المُتَّسعة : فبين الاقدام كانت قدمان تطقطقان، تردِّدان لحن الأنوثة الخالد، الآتي من الطابق السفلي.

     يصعد الاطفال الدرج الى السطح. ولأنَّهم احرار، احرار تماماً، ينزلون الى الطابق السفلي ثانية. الجو بارد، والريح قارسة. لا تزال قدما الشاب تردِّدان اللحن الأنثوي الراقص، عيناه تُحدِّقان في الوجوه، بينما تملؤ ذهنَه لوحاتٌ خالدة تتشكَّل في طيات الليل المظلمة.

     يتنحنح شيخ عجوز. يرتدي قمبازاً وعباءة، ويلتفع بكوفية بيضاء وعلى رأسه عقال اسود. ملامح وجهه هزيلة وصلبة، ذقنه صغيرة تتدلَّى منها لحية رفيعة لكنها غزيرة ومشذبة، عيناه فأران صغيران، سريعا الحركة، وساحران. "اح.. اح.. الآن، اُنظر اليهم!" يصرخ وفي صوته بحَّة شوكية، "إنهم اطفال! كلما ترى احدهم، تسمعه يقول: "انا متعلم، مثقف.." لكنهم ليسوا إلا عاجزين جنسياً! "

     تُدوي الضحكات هنا وهناك، تنطلق من افواه بعض الرجال، ثم يشارك في الضحك اولئك الذين فشلوا في الاصغاء للشيخ وكانوا ذائبين في الغناء الأنثوي. تتوقف القدمان المُطقطقتان عن الحركة، كأنَّ الشاب ذا القدمين المُطقطقتين يُدرك - إذْ يشعر بنشوة ذلك اللحن الغامض الخفي - انه لم يسمع ما قيلَ قبل قليل. يأتي الاطفال الى السطح، وينزلون بسرعة. يقوى في كيان الشاب، ويلحُّ عليه احساس غامر بحاجة ماسة للنزول الى الطابق السفلي.

-" إنهم لا يريدون ان يتزوجوا. لا يريدون ان ينضموا الى الشيوخ في مساعيهم العشائرية الحميدة. إنهم يريدون ان يكونوا مستقلين، خارج أي حكم عشائري. اذكر أن أبي قال لي ذات يوم، وكنتُ آنئذ في الثالثة عشرة، "ستتزوج الجمعة القادمة!" والآن انظروا الى ذُريتي. أما اليوم، فالمتعلمون سيقولون لك، "لستُ مستعداً للزواج بعد!" رغم انه في الثلاثين من عمره او يزيد. وإذا حدث وتزوج، فلن ينجب اكثر من طفل او اثنين. جيل خرع فارط! ليس فيهم شيء من الرجولة! "

     تدوي الضحكات. تزداد برودة الريح. لا تزال القدمان تطقطقان، والعينان تحدقان في مجموعة الرجال والشبان، التي تنتشر كحلقة دائرية مغلقة، عند طرف السطح البعيد عن "رأس الدرج". وتنغلق حلقة الرجال ذاتها، التي تواجه الريح القارسة الباردة، وتنطوي على نفسها اكثر فاكثر، رُبما لتقاوم البرد وتولد نوعاً من الدفء، او رُبما لتتحدَ ضد الغناء الأنثوي الرقيق وتصدَّه باسوار اجسادهم الذكوريِّة.

-" سيقولون لك، "لا تُطِعْ أيَّ اعراف عشائرية! ما يقوله وجهاء الناس رجعي! يجب ان يقودنا المتعلمون!" لكن ماذا يفعلون بِقِلَّـةِ همَّتِهم وميوعة رجولتهم سوى انقاص ذريتنا؟؟!" يقول الشيخ العجوز، تصبح ملامح وجهه اصرم واقبح من ذي قبل، تصبح تجعيدات وجهه وجبينه احدَّ برزواً، بينما تصبح عيون الرجال والشبان متلالئة باسمة، رُبَّما لنبرة الشيخ الحماسية، ورُبما لنبرة اخرى غير مُعْـتَرَفٍ بها.

     حينما يسكت العجوز، يصل الاطفال الى السطح، يقفون لبرهة على الدرجة العليا، بعيداً عن دائرة الرجال المُنكمشة. يشعر الاطفال ان في السطح برودة لادغة، فيهبطون الى الطابق الارضي فوراً.

-" جمال، الى اين؟" يسأل رجلٌ في الستين من عمره الشاب ذا القدمين المُطقطقتين.

-" لأفرغ الغرفة من اشيائي." يقول الشاب الذي يبلغ العشرينات من عمره. يبدو أن اجابة الشاب القصيرة افحمت الرجل المسنَّ. يتجه الشاب الى الطابق الأرضي، وقدماه تطقطقان طق! طق! ق! ق...

     لكن في قاع الدرج، في الطابق الارضي، تذوب طقطقة قدميه ثمَّ تنعدم نهائياً في غناء الاصوات الأنثوية المتلاحمة. بل إِنَّ البرودة لم يعد لها وجود. حالما يدنو من الغرفة الارضية، المضاءة باضواء باهرة والتي تتواجد فيها النساء والفتيات والصبايا اللاتي يغنين ويرقصن، يجتاح كلَّ كيانه، للحظاتٍ عدة، شعورٌ بالدفء اضاعه منذُ زمن بعيد، ويملؤه لحنٌ خالد، خفي، غير مُعتَرف بوجوده، فيتوق الشاب الى جماله، جماله الأبدي، يتوق للتخلِّي عن ذاته، ويودُّ لو جعل من نفسه الواناً ليرسم اللوحة السرمدية للكون، للأنوثة، للجمال. آه، الجمال! الجمال دافىء وكاشف للحقيقة!

     ولأنَّ من العيب ان يبقى الشاب قريباً من النغم الأنثوي المرئي، يسلك طريقه الى غرفته ويدخلها. الغرفة مظلمة، موحشة. يضيء جمال مصباحه الذي صنعه بنفسه من الطين على شكل قلب. خلال الضوء الخافت الضعيف، تبدو الغرفة مليئة باللوحات.

     حلمه ان يكون رساماً، يرسم اصدق حقائق الحياة واكملها واجملها، وهي الحقائق التي لا يُعتَرَف بوجودها وتُنكَر، رغم وجودها. لهذا التحق بمعهد للفنون الجميلة. لكنه يدرك أن شيئاً صغيراً بقي له: ان يموت بعد ان ينجز اللوحة الاجمل، والاصدق والاكمل في الحياة كلها، ان يموت في الجمال الخالص والنقي، ان يموت بعد ان يسبر اغوار الجمال العميقة وابعاده، ان يموت من اجل الجمال.

     ينظر الى لوحاته. إنَّها تصور اجساماً انثوية عارية. كلما يسقط ضوء المصباح الخافت، تومض احدى الاشكال الانثوية في تلك اللوحة ثم يبتلعها الظلام. وحين يتجه الشاب نحو الباب ليغلقه، فجأةً تندفع من طيات الظُلمة فتاةٌ وتقف عند العتبة. يضيءُ وجهها بابتسامة حلوة، وسرعان ما تنسلُّ بخفة الى الغرفة المظلمة. وتصبح الغرفة، بوجودها، مضاءةً بضوء مُبهر.

     يقف جمال متحجِّراً في حالة نشوة غامرة، مسحوراً بجمال الفتاة ووجودها. لا يحاول ان يغلق الباب، رُبما لأن غرفته لا تستطيع ان تستوعب جمالاً جارفاً كجمال الفتاة. يتكىء على جدار مشقوق، يحدق فيها. اما ابتسامتها التي في عينيها فتمنحه شعوراً دافئاً لذيذاً بخلوده هو نفسه، لأنه يصبح عندئذ - كما يعتقد - لوناً في قوس قزح سرمدي.

     رغم زميلاته الكثيرات اللواتي تشاطرنه الاهتمام بالفنون الجميلة، لكنه يرى أن هذه الفتاة تبزُّهُنَّ جميعهن بجمالها. تضحك الفتاة الغريبة امامه، وهو يبتسم لسبب مجهول لا يعرفه. تنظر بعين متفحصة متمعنة الى بعض لوحاته، وهو لا يزال متكئاً بكتفه الى الجدار المشقوق.

-" مَن اعطاك الإذنَ لترسمني وانا عارية، يا جمال؟!" تسأله الفتاة، وهي تدير وجهها اليه، ضاحكة برقة.

     ينظر اليها الشاب، جمال، ويعتقد انها فتاة غير عادية، لأن مكانها - هكذا يعتقد - من المفترض ان يكون الظلمات.

-" كيف ارسمك وانا لا اعرفك؟" يتساءل جمال بصوت خافت. يتأملها. يخامره شك بأنه رآها من قبل. "لم يسبق ان رأيتُك. "

-" "لم يسبق!"؟ .. هه!" تقول الفتاة هازئة مُستنكِرَةً بصوتها الناعم. "على أية حال، فانا اعرفك!" تهمس له، وهي تؤكد كلَّ كلمة بتشديدها.

     يشعر بجاذبية كبيرة تشدُّه ليحادثها. يجلس على كرسيه ذي الاقدام الطويلة، يغطِّي لوحة غير مكتملة بقطعة من القماش. ورغم انه يشعر برغبة عارمة في رسم اللوحات التي داعبت ذهنه على سطح البيت حين كان مع الرجال فوق سطح البيت إلا انه يتجاهلها كلَّها، وينظر الى الجمال المُجسَّد امامه.

-" لا عجب انك تعرفينني! انتن، الفتيات والنساء عامة، تعرفن كلَّ شيء! لديكن توجد الحقائق المطلقة!" يقول جمال بصوت خفيض، ويبتعد عن الكرسي الطويل، ويجلس في مقعد وثير خفيض.

-" ماذا تعني "تعرفن كل شيء".. و "لديكن الحقائق المطلقة؟".. " تسأله الفتاة ضاحكة، وتجثم على ركبتيها، قريبة جداً من مقعده.

     يغرق جمال في كرسية الوثير اكثر فاكثر، ويقول، "اعتقد انَّكِ تدرين تماماً ما اعني. المهم انني اريد ان اؤكِّد انني لم يسبق لي ان رأيتُك من قبل! "

-" إني مُصرَّة على أمرين.. أولا، يجب ان تقولَ لي ما عنيته بالضبط قبل ثوان.. وثانياً،" تقول الفتاة وهي ذاهبة لترى لوحةً في الزاوية المظلمة البعيدة، "ثانياً، لا بُدَّ أنك رأيتني من قبل، فلا تنكر واعترفْ بالحقيقة!" ثم تختفي خلف ركام من اللوحات الموضوعة فوق بعض الصناديق.

-" مستحيل.. " يقول جمال ببساطة وهدوء "اين يمكن ان أراكِ؟!" ويلقي السؤال بنبرة تعجب قوية يجعلها ترفع رأسها فوق الصناديق واللوحات. يشعر جمال بشيء من الندم والأسف، ويخشى أن تزعل الفتاة وتخرج من الغرفة. يجد نفسه يضحك ضحكة مجلجلة. ترفع الفتاة رأسها اعلى من قبل، وتتكىء برأسها على ساعديها المستلقيين على الصندوق الخشبي، وتبرق عيناها بوميض غامض.

     يعمُّ المكانَ صمتُهما. ينسلُّ اليهما الغناء الأنثوي الرقيق، الذي لم يعُد غير مُعتَرَف به، ولم يعُد وجوده قابلاً للشك او الانكار. بل ان جمال الآن، اكثر من أي وقت مضى، يؤمن بسرمديته. يقول لها، وهو يحاول ان يطيل محادثتهما معاً، "كما قلتُ لكِ، لم أركِ حقاً من قبل! لكن، على أية حال، كيف تعرفينني؟ "

-" هه! هه! نحن ندرس الفنون الجميلة معاً، وفي السنة ذاتها!" تصرخ في وجهه، بنبرة لوم. "احقاً لا تعرفني؟ "

     ينفجر جمال ضاحكاً، ولا يعود قادراً على السيطرة على انفعالاته. "وما الذي أتى بك الى هنا؟ "

-" هىء، لقد دعوتنا، بعض الزملاء وانا معهم، لحضور حفلة زواج اخيك، انسيت؟" تقول مبتسمةً، وتدنو منه. "احقاً لا تعرفني؟ لا؟.. اوه، انتَ حالة ميؤوس منها! "

     تبتعد عنه، تتجه نحو لوحته غير المكتملة، التي غطَّاها قبل قليل بقطعة قماش، تزيح اللوحة من مكانها وتقف محلها في حركة تهريجية مرحة، فتنفرط ضحكة جمال كانفراط المسبحة ذات التسع وتسعين خرزة.

-" هكذا، ها انا ذا قطعة تمثال حية!" تقول الفتاة وتقف متحجِّرة مثل تمثال، وتحبس ضحكة مجلجلة في صدرها. ورغم ان ضحكتها مخنوقة في صدرها فصداها يضجُّ في حنجرتها وصدرها.

-" إذن، كنتُ مصدر الهامك، وانتَ - ايها الناكر - تنكر معرفتك بي!" تتعجب الفتاة وفي صوتها نبرة الاستنكار والاتهام.

     اما جمال فيضحك ضحكة هيستيرية. وكأنَّه في حالة من التأمل الفكري، يشرع جمال في محاولة جادة ليدرك ما قالته الفتاة لتوها: لحن الأنوثة الخالد، الآتي عبر الظلام، لم يُعتَرَف به او بوجوده؛ وكانت هي الهامه، وانكر ذلك! يدرك جمال الحقيقة التي كشفتها الفتاة. وفي محاولة لتصحيح خطئه، يقول لها، "أولاً، أنتِ فعلاً تُحفة فنية فريدة.. "

لكنها تقاطعه بـِ "اشكرك!" سريعة، وينحني رأسها له بحركة استعراضية ساخرة.

-" ثانياً، اُريد ان اعترف بأن من المحتمل انني رأيتُـكِ من قبل.. "

-" "من المحتمل"؟!" تصرخ في وجهه، وتلكمه على صدره برقة ولهو مرح، "اُنظر في جميع لوحاتك، اُنظر في نموذجك النسائي، لن ترى سواي!!!"

-" نعم، محتمل!" يصرخ باصرار. ولأنها تكاد تقاطعه، فينفجر بحدَّة وعصبية في وجهها، "دعيني اكمل! "

-" "دعيني اكمل!" هىء!" تهزؤ به وهي تحاكي نبرة صوته وتكشيرة وجهه وتقول، "هذه هي طبيعة الرجل دائماً، خاصة التكشيرة. قبضاي، ابو علي، ابو زيد الهلالي، ما شاء الله!" تقف خلف اللوحة المغطاة، ثم ترفع رأسها فوق اللوحة، وتعابثه ساخرةً بأن تمدَّ لسانها امامه، وتقبِّح وجهها بتكشيرة جمالية.

     ينظر اليها جمال وتذوب التكشيرة عن وجهه. "يُحتَمَل انني رأيتُك من قبل، يُحتَمَل انَّ شكلك انطبع في اللاوعي لديَّ. رُبما عشتِ في داخلي كحلم، ثم... ثم رسمتُكِ! "

-" "يُحتَمَل" مرةً اخرى. هه، الكبرياء الذكورية التي لا تجدي. وذلك الاصرار العنيد!!" تقول الفتاة بصوت ناعم خافت، وهي تدير ظهرها له، لكي تمعن نظرها في احدى اللوحات.

-" اصبري.. يا الهي! هل تكلمتُ معك من قبل؟ او دعيني اسألك : هل كلمتِـني أنتِ من قبل؟" يسألها ويقف امامها مُتَحدِّياً.

-" لا.. " تقول بصوت ناعم.

-" هىء!" يطلق جمال تعبير استهزاء. "إذا كنتِ تعرفينني، ولم تقولي لي كلمة واحدة، فهذا يعني انك تشعرين بنوع من الميل نحوي!" يستنتج وهو يشعر بالكبرياء، لأنه اكتشف هذا الأمر الخفي.

-" على الاقل، انا لا انكره!" تقول الفتاة بحزم.

-" لكنك في الوقت نفسه لم تبادليني كلمة واحدة.. لم تحاولي ان تتعرَّفي علي.." يقول مرة اخرى، وهو يعتقد انه اكتشف ما اقترفته الفتاة بحقه : انكار وجوده، مثلما فعل هو نفسه حين انكر انه يعرفها من قبل وانكر انه رآها. يكتشف ذلك وينفجر ضاحكاً مرة اخرى حتى يقع على الارض.

     تبتسم الفتاة وهي تعتقد انها وجدت الحُجَّة التي تعارضه بها. لكن قبل ان تقول شيئاً، يجثم جمال على ركبتيه عند قدميها راكعاً، رافعاً يديه نحوها، "آآه يا الهامي، آآه يا رؤياي!" يصرخ مُتَضرعاً ويسعل من الضحك.

-" لكن ليس من المفروض ان آتي اليك واكلمك.. أنتَ الرجل.. انتَ مَن يجب ان يتقدم نحوي ويعرفني!" تُبرِّر الفتاة حُجَّتها.

-" انا؟ لماذا انا، إذا كنتِ أنتِ رأيتني في البداية؟ "

-" حسب التقاليد، المفروض ان الرجل هو الذي يبادر ... و.. "

-" لستِ انتِ مَن يتكلم عن التقاليد.. اعتقدتُ انك مختلفة.." يقول جمال في دهشة وخيبة أمل بكلامها. "كيف استطيع ان اُفسِّر مجيئك الى هنا.. انا فعلاً مندهش!" يلتقط قطعة من القماش ناصعة البياض، ويُثبِّتها على لوح من خشب، ويستعد للرسم. بعد فترة من الصمت وفي محاولة لتغيير الموضوع يقول وهو يؤكِّد على جديِّة كلامه بحركة حاجبيه الكثيفين، "بعد ثلاثة ايام سيتمُّ حدث كبير. عاشقان، نجمتان في السماء سيلتقيان. فكِّـري بنقطتين تتجهان الى المكان نفسه، مثل فكرتين تومضان في نفس الوقت وتتجهان الى الغاية ذاتها. واين سيحدث ذلك؟ هنا، في هذه الغرفة المظلمة!"

-" أتدري اننا مثل الزوجين اللذين سيُزَفَّان قريباً!!؟ "

-" لكنهما سيكونان في ثياب بيضاء وامام الناس وبينهم. اما كلانا فلصَّان، لا يعيشان إلا في الليل. لكن عليَّ ان اضيف أنك تختلفين عن أية فتاة اخرى!" يقول ضاحكاً، وهو يحاول ان يجد فرشاة ملائمة.

-" "أية فتاة اخرى؟!" .. أتعرف انك تخطئ بحقي؟" تسأله وتنظر في عينيه. "انا فريدة من نوعي!! انا وحي الهامك، اليس كذلك؟ هىء، قال "كأية فتاة اخرى!" قال.. "

-" الحقيقة انك لا تجيدين ان تفعلي شيئاً سوى التقليد والمحاكاة!" يقول ضاحكاً مرة اخرى. تكاد تشرع الفتاة بالصراخ تعارضه، لكنه يصيح بصوت اعلى، "كما قُلتِ انتِ، رُبما ان امتيازنا بالكبرياء الذكوري الذي لا جدوى منه، وبالاصرار، وبالشخصية المُـتَقَـلِّبة بشكل عام هو الأمر الذي يجعلنا نُقدِّم الابداع والاختراع!!" يقول جمال في ضحكة رقيقة تملؤها العاطفة، بعد ان ذاب صراخه شيئاً فشيئاً. وتندفع نحوه الفتاة تضربه برفق على صدره. فيستسلم اليها كلياً ويدعها تؤدِّبه وتُهذِّبه. بعد لحظات يغرقان في ضحك طويل، ثم يجلسان على اقرب كرسيين اليهما.

-" بالمناسبة، ما اسمك؟" يسأل جمال، بعد صمت.

-" اسمي؟ لا بُدَّ انك تعرفه لأنه مألوف جداً لديك. اما إذا اصررتَ على انَّكَ لا تعرفني، فلا اعتقد انك ستحزره أبداً!" تقول وتشرع في امعان نظرها في لوحة، باهتمام بالغ.

-" اهو لُغز؟ مألوف جداً ولن احزره؟ حسناً. ليلى؟ لا! أمل؟ لا! غادة؟ لا! دعيني افكِّرُ! سلمى. عائشة. لا؟" يقول في توقعات يائسة. في ضحكة مجلجلة تملؤها الخيبة، "لا تقولي ان اسمك جمال؟!! "

-" نعم! اسمي جمال، جمال الظلامي! اعتقدتُ انك لن تحزره أبداً.. "

وينفجران كلاهما في الضحك، وينظر احدهما الى الآخر في آن واحد.

-" نحن زوجان كاملان!" يقولان معاً في آن واحد، ثم يتبادلان نظرة ويطغى عليهما ارتياح هادىء.

-" التقاليد لا تقول لك ان تدخلي غرفة رجل اعزب، حتى لو كان زميلك في الدراسة، ولو كان اسمه مثل اسمك! هه هه هه.. " يسخر جمال الشاب، ويغرق كلياً في الكرسي الوثير.

-" هل تقول لك التقاليد ان ترسمني عارية؟" تستهزيء به جمال الشابة. "لكن الحقيقة انني رأيتُكَ وحدك، ولم ارغب في ان يراني احدٌ حينما جئتَ.. هل ارتكبتُ خطأً؟! "

-" بالطبع لا، يا الهامي! آآه يا رؤيايَ، أتعرفين؟ انتِ مثل الوحي الذي يهبط - في نوبة غريبة - على شعراء العرب القدماء.. او رُبما انتِ جـِنِّيتي التي تلهمني الرسم.. رُبما انا الآن في احدى النوبات، رُبما انا احلم الآن!" يقول في دهشة شديدة.  "أأنا احلم؟!؟ "

     تلمس جمال الشابة يده بيدها. فيغلق عينيه في نشوة جارفة.

-" من اين أتيتِ لي؟" يسألها بنبرة هادئة.

-" انا دائماً معك، وانتَ دائماً معي!" تقول جمال الشابة بصوت ناعم. "الدليل انني كنتُ في ذهنك، وانَّك لم ترسم لوحة دون ان اكون فيها.. "

-" لا انكر انني افكر بـِ "الجمال" كثيراً، فهذا في طينة الفنان، ولا انكر ان طبيعة المرأة لا تستحوذ عليَّ وحسب، بل ان فكرة الأنوثة، مُذ كنتُ صبياً، استولت على عقلي وعشعشتْ فيَّ!" يقول مُتَلَعثِماً.

-" أتقصد ان تقول انك وقعتَ في الحب من قبل؟" تسأله باهتمام.

-" لا، لا.. في مجتمعنا لا يحدث ذلك، طبعاً.. "

-" ولِمَ لا، إذا وضعنا المجتمع والتقاليد جانباً؟ "

-" ببساطة، ان تعرف شخصاً ما يعني ان تتحمَّل المسؤولية، ان تتخلى عن نفسك الى الشخص الذي تُحبه.. وهذا ما لستُ - ولن اكون - مُستعداً له! إن البحث عن المُطلَق في مجتمعنا سيكون نتيجته الفشل، في كل الاحوال!" يقول جمال الشاب وعلى وجهه سمة من الاسودادية. " وأنتِ؟ "

-" انا وقعت في حبك انتَ! هل من المفروض ان اشعر بالخجل وان اقول، "انا اشعر بالخجل! ياي!!" " تقول جمال الشابة في ضحكة مخنوقة في حنجرتها، ويتردد صدى ضحكتها في جسدها كله، وتجتاحه ضحكتها كالعاصفة.

     يود لو عانقها او قبَّـلها او امسك يديها، لكنه يتجاهل مشاعره، ويخاطبها بقسوة، "وفقاً للتقاليد، فمن المفروض ان تشعري بالخجل!"

-" طبعاً، لأنك حريص على التقاليد، فإِن لوحاتك مخفية هنا، في هذه الغرفة المظلمة، لوحاتك المليئة بالحُرُمات المُـنْتَهَـكَة، كأنَّها مخفيةٌ في اللاوعي، في ذهنك، اليس كذلك؟!" تقول وتنظر اليه تطلب منه ان يوافقها على كلامها؛ يهزُّ رأسه موافقاً. "لهذا فنحن نتشابه تشابهاً كاملاً.. جمال وجمال.. الأمر الذي يبعث على السخرية هو اننا نبحث عن "الجمال" فقط في الظلام، كما لو كنا فكرتين غارقتين في ذهن انسان!" تقول جمال الشابة وتومض عيناها برعشة عذبة.

-" أنتِ على حق! لاحظي كيف تقودينني لكي اُؤمن بما تريدين ان اؤمن به!" يقول ضاحكاً، ويمسك يدها بيده. "آآه، آآه يا وحي الهامي!! "

-" وانتَ الرسام الذي سيعرض جمالي ويُخلِّده، بالطبع!؟؟ "

-" جمال!" يناديها، لكنه بعد لحظة ينفجر ضاحكاً حين يدرك انه قد لفظ اسمه ذاته. "اعني، جمال الشابة!" ثم يجد نفسه يضحك لأنه نسيَ ما كان سيقوله، فيفكر قليلاً، "الا تعتقدين أن احداً سيعتقد انني مجنون إذا سمعني الآن وانا انادي اسمي؟؟! "

-" الا يقولون انك مجنون حين يرون لوحاتك؟ "

-" لا احد يرى لوحاتي.. إنها خارجة عن التقاليد.." يقول ويؤكد كلامه بهزة من رأسه.

-" هه هه هه.. وفي نفس الوقت تبحث عن فتاة استثنائية، يتجسَّد فيها المطلق.. هه هه.. " تقول جمال الشابة، ضاحكة.

-" صحيح! نحن نمتلئ بالتناقضات، لدرجةٍ انها جزء منا. ومن الصعب على الانسان منا ان يفهم او يعرف نفسه في ظل تناقضاته! "

-" غريب كيف اننا، انا وانتَ، الآن، ادركنا تناقضاتنا معاً، كأنَّنا فكَّرنا بعقل واحد! "

-" نعم، غريب، وجميل ايضاً.. "

-" ماذا قصدتَ حين قلتَ عنا، نحن النساء، اننا نعرف كل شيء؟" تسأله وهي تميل اليه.

-" اقصد.. انتِ تعرفين ما اقصد! اقصد ان المرأة لا تدخل في معركة إلا وتعرف نتيجتها مسبقاً، مثلكِ أنتِ.. أنتِ كنتِ تعرفينني وتحبينني، وانا كنتُ.. ضريراً.. هه هه هه! فـ .. فـ.. فجئتِ إليَّ عبر الظلمات - لاحظي انكِ لم تأتي في النهار! - واوحيتِ إليَّ في الظلام بأن احبكِ فاحببتُكِ!! "

-" انا اتمتع بهذه العبقرية وهذه القدرة على التخطيط؟!" تسأله وهي تمسح عرقه المُتَصبب من جبينه.

-" نعم، بالتاكيد.. بل يجب ن تتذكري انني لا اعنيك انتِ فقط، بل النساء عامة. والمثال على ذلك هو غناء النساء الآتي عبر الظلام. اسمعي، اسمعي جيداً! إنه يأتي عبر الظُلمات، لكني اسمعه واعرف كم هو جميل وخالد، ولديَّ الشجاعة لأن اعترف بوجوده وجماله وخلوده، فادعُ جسدي يرقص على  لحنه، هبوطاً وصعوداً، لكن غيري، مثل معظم الرجال الذين فوق السطح، ينكرون وجوده.. والمهم.. "

-" ما تريد ان تقوله بكلمة واحدة هو انك تحبني!" تقول ضاحكة، لكنها واثقة من كلامها.

-" ألم اقُل لكِ انكن تعرفن كل شيء؟ "

-" لو سمحت، خاطبني بضمير المخاطب المفرد! "

-" اقصد انك تعرفين كل شيء!! "

     يضحكان. ولوهلة يشعران بانهما سبرا غوري روحيهما المُظلمتين. ثم يشعران براحة وهدوء شديدين. وحين يميل نحوها ويحاول ان يقبِّلها، تنسلُّ من بين ذراعيه، تلتقط بيدها علبة طلاء على الارض، تبتعد عنه، وتختفي في الظلام خلف الصناديق التي تكوَّمت عليها لوحات كثيرة. بعد دقيقة او نحوها، ومن خلف جدار الصناديق، حيثُ تكمن جمال الشابة، تطير نحوه لوحتان من لوحاته وهما مطليتان بالدهان الابيض. وينظر الى اللوحتين المشوِّهتين ويرتعب رعباً شديداً.

     فجأةً، تخرج من الظلام جمال الشابة عارية تماماً، وفي يدها علبة الطلاء الابيض الكبيرة، وفرشاة طراشة كبيرة. يطقُّ قلبه، رُبما لانبهاره الشديد بجمالها الأنثوي العاري او رُبما لخوفه على لوحاته. تنتقل جمال الشابة من لوحة لاخرى، وتضرب كلَّ لوحةٍ ضربةَ دهان. فتتحوَّل اللوحة الى بياض تام، نقي، ناصع. وكلَّما تمحو جمال الشابة صورة جسدها العاري المرسوم في اللوحة، تقف في الوضع ذاته الذي في اللوحة، ثم تمضي الى لوحة اخرى لتمحوها.

-" لا! لا! يا جمال! لا تفعلي هذا!" يصرخ بها ويتَّجه نحوها. ينجح في انتزاع بعض اللوحات من بين يديها. يتشبَّث كلاهما باللوحات بقوة واصرار، ثم تتمزق جميعها. فجأةً، وهما يشعران بالاثارة والاهتياج يقعان على الارض، ثم بعد لحظات قليلة يجدان نفسيهما يقرقران ضاحكين كالمجانين.

-" انا الاصل، ولوحاتك زبالة!" تقول جمال الشابة، وترتمي قربه بعد ان افسدت كلَّ لوحاته.

     دون وعي، يعانق جمال الشاب جمال الشابة. ليس ثمة احد في الجوار. لم يسمعهم احد. يشعران بضرورة مُلحَّة لينتمي كلٌّ منهما الى الآخر. تتمنى جمال الشابة ان يكون جمال الشاب جزءاً منها، كما تتوق أنوثة الطبيعة ان تنتمي البشرية اليها. تطمح جمال الشابة في ان تعكس جماله عبر الولادة، ان تُحاكي جماله العاري المطلق في اطفالهما. اما جمال الشاب فينسى طموحه بأن يعكس جمالها العاري المطلق في لوحات جافة، ويتوق الآن الى ان ينعدم انعداماً تاماً، وان يكون لاشيئاً في جمالها المُطلق.

-" دعني افتح النافذة!" تقول وتتملَّص من بين ساعديه.

-" لا تتركيني. لا استطيع فِراقك! لا تفتحي النافذة. سيدخل الضوء!! "

-" سافتحها قليلاً ليدخل بعض الهواء المنعش." تقول وتتجه نحو النافذة.

-" لا، لا تفعلي يا جمال! جمال!!" يصرخ فيها.

     على حين غرة، ينفتح الباب بعنف شديد، ويقف عند الباب شبح انسان.

-" جمال، تنادي احداً؟" يقول الشبح، ثم يدخل، فإِذْ هو الشيخ العجوز الذي يقارب الستين من العمر، وعلى إماراته دهشة واستنكار. يقف جمال في زاوية مظلمة بعيدة، وهو مُتحير ومشدوه. ينظر الى النافذة البعيدة. يراها مفتوحة على مصراعيها، والهواء يهزُّ ستائرها.

-" ماذا كنت تفعل هنا؟" يسأله الشيخ. "يا ربي، ألم تخرج اشياءك عديمة الفائدة من هنا؟!" يقول الشيخ مُشيراً الى الصناديق، وقطع القماش، واللوحات المُلَطَّخة بالبياض الناصع، والفراشي. "ألم ترمِها الى الشارع بعد؟ تعال. تحرَّك. هيا! ارمِ هذه الزبالة الى الخارج! ماذا كنتَ تفعل؟ قُل لي، اكنتَ تتحسَّر عليها طوال هذه المدة؟ هيا.. بعد ايام، سيتم العرس! هيا، اتحتاج الى مساعدة شبان آخرين؟ سارسلهم اليك، لكن القِ هذه الزبالة الى الخارج أولاً. هيا، الظلام ما زال حالكاً. اسرع، لن يراك احدٌ وانتَ ترمي هذه الزبالة في الشارع!!! "

17 شباط 1988

 

 

الـثـور والسـيـارة

 

     نهض من السرير. مسح عن عينيه الصغيرتين الحادتين ما تبقى من احلام ليلة أمسه المقززة. كانت ذاكرته لزجة كبزاقة حلزونية بطيئة. نظر في المرآة فرأى وجهاً طرياً غبياً وملامح تخلو من الرجولة. شعره ناعم قصير، أنفه صغير، فمه مُسمسم، ما زال زبد ريالته الناشف عند زاويتيه، فبدا كأنَّه رضيع أنهى للتو وجبته من ثدي أمه. أما شاربه فكان زغباً  اشقر يكاد لا يُرى بالعين المجردة. وحين بدا له عُريه الهزيل، تدفقت في عينيه صور سريعة الحركة قلبت معدته فشعر بالقرف والخوف والألم. رزحت فوق ظهره صخرة كبيرة. أن تكون في السادسة عشرة هو أن تكون... لكن أن تكون ماذا؟

    قبل ايام قليلة التقاه أبو فارس، حماه، فقال له، "صدِّقني يا نوح، والدك أب لا مثيل له! أنظرْ ماذا فعل لك: زوَّجك قبيل وفاته، سترك مع امرأة محبة، وكتب لك املاكه! لو كنتَ بحاجة لعينين لأعطاك عينيه. ولا تنسَ أنك كنتَ ماضيه وحاضره!!         "

     طأطأ نوح رأسه مُقرَّاً بالحقيقة، وقال والمرارة والعجز يقطعان قلبه، "وكنتُ مستقبلَهُ الذي سيأتيه بالخلف الذي سيحمل اسمه! "

-" هذا حقه! لا اقول هذا لأنك زوج ابنتي. أتعرف؟ كان يدعك تُصلِّي لتكون له شفيعاً في الآخرة. "

     هز نوح رأسه. " قال لي هذا مراراً! "

‏-"‏ ابوك، رحمه الله، لم يسمع نذيري. كنتُ اقول له أن شفيعه الوحيد هو العمل الصالح، وأنه لن ينفعه مال او ولد! "

 برطم نوح بأسى امام حميه كأنَّه يخاطب نفسه، "نعم، لن ينفعه ولد! "

‏-"‏ لكنه لم يُصغِ لي أبداً. أما أنتَ يا نوح فيجب أن تُصغي إليَّ جيداً، هداك الله! اعمل العمل الصالح يا نوح. لا تنسَ نصائحي، ضعْها حلقاً في أذنك! اجتنبْ تبذير تركة أبيك. هذه السيارة التي تود شراءها - كما سمعت - لن تنفعك! لماذا تريد ان تهدم ما بناه والدك وما سيكون لابنك، صُلبك، لحمك ودمك!؟ وإن بذَّرت ثروة أبيك، واورثتَ ابنك الفقرَ، فلن يغفر لك ابنك أبداً، مثلما لن تنفع شفاعتُكَ والدَك! "

    ارتدى ثيابه وهو يتمتم، "نعم، لن ينفعه ولد!" وإذْ بزوجته تستيقظ في السرير، فتجبَّدت. حالما أدركت أنه سيخرج من البيت، فزَّت على قدميها وسألته وهي تتناول فستانها الاحمر، "أنتَ خارج؟ هل اعد وجبة الافطار؟ شاي؟ ألا تريد أن تستحم؟ "

     فغضَّ بصره عن جسدها العاري وقال، "لا!" وسارع خطواته. وفي غمرة شعور بالضعف، شعور بالعجز، شعور بالهرم، شعور بطفولة لم تكتمل، خرج من غرفة النوم.

‏-"‏ نوح! أين ستذهب؟" سألته زوجته، دُنيا. لم يُجبها، واتجه الى الباب الخارجي. "أجبني! أنظر إلي! "

     وقف نوح، استدار، نظر اليها بعينين غائرتين مُطفأتين. أخذت دُنيا تُزرِّر الفستان من السُّرَّة الى العنق. تموَّج كشكش الفستان الأحمر. انتابته حُمى ساخنة أشعرته بالذوبان، فكَّر، "سنعود الى لعبة الذوبان الحقيرة ذاتها؟" لكنه صمَّم على شيء واحد: أن يرفض! اعتقد أنه لن يبني بهذا الرفض مستقبلَه فحسب، وإنما سيُعيد تشكيل حاضره وماضيه بالشكل الصحيح. قرر ألا يعيش بعد ذلك اليوم في حلقة مفرغة أبداً، مثل البغل الذي يحرث الأرض جيئة وذهاباً. كلا! فتح الباب وخرج!

‏-"‏ لا تنسَ ما قاله لك أبي!" صاحت دنيا وهي تقف عند الباب، "لا تنسَ وصايا أبيك! لا تشترِ السيارة، أتفهم؟ "

     أراد ان يبني حاضره ومستقبله بالشكل الصحيح. أراد ألا يكون لعبة لإرادة أبيه الميت. ألم يمُت؟ نعم. إنَّه حُر، الآن. وجد مصطفى ينتظره فصافحه. مصطفى رجل مسكين، يقول عنه الجميع: "طوله طول النخلة وعقله عقل السخلة!" يحرث والده على ظهره، ويُذيقه الأمرَّين. جثته ضخمة، وعلى ظهره حدبة منتصبة كجبل قرنطل. طوال حياته لم يحظَ بشيء تمَّناه، لا عروس ولا بيت ولا مال، وليس له صديق وفيٌّ إلا نوح. يتندَّر عليهما أهل البلدة بأنَّهما يشكِّلان معاً رقم 10، وذلك لأن نوحاً قصير ضئيل كالصفر ومصطفى طويل كالمئذنة. حين يسخر منهما احد ما يقول، "طيزين في باس واحد!" أما المحزن في أمر مصطفى فهو أن أباه يعده دوماً بتزويجه، لكن يتضح في نهاية الأمر أن والده خطب العروس لنفسه، فاصبح لديه اربع نساء. ومَن يعيلهن واولادهن إلا مصطفى العامل النشيط؟ رغم ذلك فهو متفائل، فوالده لا يحق له الاقتران بخامسة، إلا إذا ماتت احدى زوجاته. ولهذا يدعو مصطفى لزوجات ابيه بطول العمر ودوام العافية.

-" اين تذهبان؟" سألهما شخص ما.

فقال مصطفى، "لنحضر العروس. إنها جميلة وجديدة لنغ! "

     غضب نوح وصرخ بنزق، "لا تقُل "عروس!" لا تجعلني اتقيأ؟!"  وادار وجهه ليركب سيارة أبي مصطفى العتيقة، فارتطم بجسد حميه، أبي فارس. تطيَّر من خلقته، من عينيه السوداوين الجاحظتين، وأنفه الكبير الذي تحرس فتحتيه بزاقتان خضراوان من المخاط، وشاربيه اللذين يربط بهما عشرة رجال ويعشعش فيهما البرغوث والفئران، ولسانه الطويل مثل السجادة المهرية القذرة في ديوان القرية، حتى جسده القصير المبعج والمطعج ككيس القمامة.

-" أصحيح أنك بعتَ الحانوت؟" سأله أبو فارس صارخاً.

" نعم. "

-" وستشتري بالمال سيارة؟ "

-" نعم. "

-" أجننتَ؟ سيارة؟ اعقلْ يا نوح، السيارة لا تُدِرُّ عليك مالاً. اتكلم مع طفل انا؟ أنتَ رجل ويجب أن تتصرف مثل الرجال.. تصرفاتك صبيانية!! "

-" لماذا قَبلتَ زواجي من ابنتك، إذن؟" قال له نوح ووضع يديه على خاصرته تعجباً.

 -" أنتَ طائش! فقدتَ رشدك! "

-" انا حُر! "

-" ماذا عن ابنتي، زوجتك؟ "

فأصدر نوح آهة لامبالاة وقال، " ستعيش!" ولوى رأسه تاركاً حماه واتجه نحو سيارة أبي مصطفى.

-" ستعيش؟ سأذكِّرك بشيء يا نوح. لن تعيش ابنتي مع ابن من دمك ولحمك، حسناً فليكن! لكن لماذا لا تعيش عيشة كريمة وتوفِّر لها كل اسباب الراحة؟ وأنتَ.. أنتَ تبذَّر تركة أبيك؟!! "

     اقشعرَّ جسد نوح، اصطكَّت اسنانه، قرقعت عظامه. تجمَّد مكانه. مَن قال لحميه، أبي فارس، أن نوحاً عا.. عاجز عن الخلفة؟

 "ذلك الخبيث الداعر! كان يعرف أنني لا أخلف، ورغم ذلك قَبلَ أن يُزوِّجني من ابنته! ويقول لي: "اعمل العمل الصالح!" وينهاني عن تبذير ثروة أبي، ويدعوني للحفاظ عليها لتبقى لابني! .. " صُلبك، لحمك.." مُنتهى السخرية والاحتقار، منتهى القسوة والوحشية! "

     لكن كيف ومتى عرف أبو فارس بأن نوحاً عاجز؟ حين ذهب نوح مع والده الى الحكيم، لم يعلم الأمر سوى نوح ووالده. ها هو فضحه فضيحة وعليها شهود! سمع معظم اهالي البلده ابا فارس وهو يقول، "لن تعيش ابنتي مع ابن من دمك ولحمك!" اخترقت اصداء كلمات أبي فارس آذان الجدران حتى وصلت الى مَن في البيوت. أخذت العيون اللزجة تلتصق بالرجل، نوح، الذي يقف امامهم. أصحيح أنه رَجُل؟

     في السادسة عشرة يكون الشاب رجُلاً، هكذا سمع الناس يقولون. أما الشاب الذي يتزوج فلا بُدَّ ان يكون رجلاً! ونظر اليهم والعيون تتقاذفه وتفحصه بنظرات طويلة شامتة. عيون مُتَّهمة صارخة، واللامبالاة مرسومة على الوجوه. سمع العيون وهي تقول: "لن تعيش زوجته مع ابن من دمه ولحمه.. إنه ليس رجلاً!" أحسَّ بألم في ظهره يوخزه. كان الألم ثقيلاً كصخرة لا يمكن ازاحتها. وجد نفسه يصعد بسرعة الى سيارة أبي مصطفى الكركوبة بجانب صديقه، وانطلقا ليحضرا "العروس،" وتركا ابا فارس يشتم ويشكو ويزعبر مثل الزعران.

    كانت البلدة تقع اسفل واد عميق، تخنقها الجبال بظلال كئيبة من جميع الجهات. كان الطريق الوحيد اليها متعرِّجاً كأنَّه زنبرك حلزوني. كانت البلدة صغيرة وتبدو كحلزونة مقلوبة على ظهرها، كأنَّ القدر "قلب عاليها واطيها." ورغم أن البلدة غائرة تحت مستوى البحر بمئات الامتار، فأهلها بُسطاء وعاطفيون لدرجة لا تُصوَّر. كانت السيارة تدور وتدور، ترتقي خارج البلدة، ترتفع، تسمو براكبيها الى فوق، فوق، فوق..

-" أتعرف يا نوح؟ كُلَّما أصل الى قمة طريق البلدة، يغمرني الضياء ويملؤني السمو! اشعر - أتعرف؟ - اشعر كأنَّني ملاك اطير فوق الغيوم والشمس، ولا اشعر أنني صرصور ازحف في الظلام على التراب.. هه هه! نكتة ولا تضحك؟ واضح أنك خائف من السرعة؟ "

-" لا. "

فقال مصطفى بنبرة العالم الخبير بامور السيارات، "كما قلتُ لك: لن تشعر بلذة ركوب السيارة ما لم تتذوق السرعة. السرعة هي وحدها التي تعطيك فعلاً الشعور باللذة!! "

اشاح نوح وجهه عن مصطفى، وقال، "كلام فارغ! السُرعة تُشعرك وتؤكد شعورك بالموت الآتي!"

-" نوح، لماذا أنتَ سوداوي؟ "

-" اعتقد أنها البلدة. إنها خاوية. ما فيها ميت: الوجوه، النظرات، البيوت!"

-" نعم، هكذا والدي. إنه طبل اجوف، مثل البلدة! هه هه هه! نكتة اخرى ولا تضحك؟ قُلْ شيئاً، أيَّ شيء! مثلاً ، ما الذي بينك وبين حميك؟ "

    ماذا جرى بينه وبين حميه؟ فكَّر نوح. حاول ان يفسر بعض النتائج عساه يصل الى نتيجة ما. لكن أن يكون المرء في السادسة عشرة وأن يصل الى تفسيرات صحيحة يُعَد أسطورة بل معجزة!! يبقى الحل الممكن هو أن يبني المرء حياةً جديدة، إذا كان عاقلاً، او أن ينتظر نبياً يهديه الى الخلاص إذا كان يافعاً جاهلاً . رُبَّما يساعده النبي المُنتَظر او الحياةُ الجديدة على نسيان الماضي، لكن الماضي عدَّاء سريع يطاردك دوماً، ولا يجعلك تلتقط انفاسك التي تبذِّرها هنا وهناك على طول الطريق ما بين ميلادك ووفاتك، أما ابن السادسة عشرة فيقف عاجزاً، لا حول له، تماماً كما حوقل الشيخ أبو نوح حين خرج وابنه من عيادة الحكيم.

-" ربك حكيم يا نوح! نصف الألف خمسمائة. لا تفكر كثيراً، وقُلْ لي كيف بدأت المشكلة؟" سأله مصطفى مرة أخرى.

 قال نوح وهو شارد الذهن، "لا بد أنه حكيم جاهل بعلمه، حكيم قاسٍ باختباراته وآلامه التي يقنعنا بأننا سببها! "

     فصاح مصطفى بحمية المؤمن الصادق، "جاهل؟ تكفر بالله؟ ويلك، ماذا تقول؟ "

-" عندما ذهبنا اليه... ؟ تمتم نوح.

-" ذهبتم اليه؟ الى مَن؟" صاح مصطفى متعجباً.

-" عند الحكيم.. الدكتور.." قال نوح. هل كانت عند الدكتور بداية المشكلة؟

-" لماذا تهذي؟ حكيم.. دكتور.. قُلْ لي كيف بدأت المشكلة معه؟ مع حميك، يعني؟ وماذا قصد حين قال إِن زوجتك لن .. هه هه هه!..." وانطلقت من شفتيه ضحكة ساخرة مُدوية، "لا بُد أن حماك مجنون؟!! "

   ضحكة مصطفى شبيهة بضحكة أخرى ما زال صداها ينخر في كيانه كالمنشار الصدىء، فيثير آلامه ويُنزف دمه وقيحه. كانت تلك الضحكة قد اطلقها الحكيم حالما خرج نوح وابوه من العيادة. كان الدكتور بشير النوراني صغير السن، أشعث الشعر، سيء الهيئة وزري الثياب. كان معطفه الأبيض غير المُزرَّر يكشف عن قميص مُتَّسخ ممزَّق. ولم ينسَ نوح أبداً كلمات الحكيم التي اتعست حياتَه وكوبستها : "لن يكون في قدرة ابنك أن يخلف بعد مدة لا تزيد عن الشهرين!! "

    لكن نوحاً في السادسة عشرة، ووالده العجوز دنا من حافة القبر، تكاد قدمه أن تنزلق. فقال لابنه، "ما رأيك؟ دُنيا جميلة، ستليق بك. سأزوجها إِياك! "

-" لكنني لا أريد الزواج يا ابتي! "

-" ألستَ رجلاً؟ والرجل يا شاطر مَن يُثبت رجولته. أتفهمني؟ أريد ولداً، أتفهمني؟ ولداً يحمل اسمي! "

قال الشيخ العجوز وضحك وضم ابنه الى صدره كعادته، وأخذ يقبله.

-" لكنني لا أريد أن أتزوج يا أبي! "

-" ألا تُحبني؟ "

-" بلى، أحبك! "

-" أطلبتُ منك يوماً أن تفعل شيئاً لأجلي؟ "

-" لا. "

-" ها انا اطلب منك معروفاً صغيراً، ستفشلني؟ أنتَ سمعتَ ما قاله الحكيم. لقد قدَّر مدة قدرتك الجنسية بشهرين فقط. ولن تخلِّف بعد ذلك! "

-" ما بك لا تُجيبني يا نوح؟ ما مشكلتك مع حميك، يا رجل؟ أم أن مصدر مشكلتك مع الزوجة؟" عاد مصطفى يسأله ثانية.

 "مع زوجتي، دنيا؟ الفستان الاحمر. السرير. لعبة الذوبان! غريب ذاك الشعور، يهدُّ حيلي، يُذيبني، يميتني ببطء، وانا لا اعرف لماذا اكرره وانجرف فيه؟ لماذا انساق اليه رغماً عن إرادتي؟ ابن السادسة عشرة! كثيراً ما اشعر بالقرف، اشمئز من لساني، ورائحة جسدي، وعُريي، وعيني الخابيتين. انساق اليه كلَّ ليلة وحتى اثناء النهار، مُنذ زواجي. "هيا!" تصيح عينا دُنيا في الظلام واذوب. دُنيا دائماً تُرحِّب بي، تسعى لراحتي: "هل تريد أن تأكل؟ تشرب؟ تنام؟ تستحم؟ هل..؟" ويهتز الفستان الأحمر، ويجذبني زمامُ سكونها مثل الثــور.. "

-" الثور.. هل شاهدته الليلة الماضية كيف يصارعه المصارع الاسباني؟ تورو.. تورو.. تورو!!" سأله مصطفى ليُغير موضوع مشكلة نوح مع حميه.

-" الثور؟" تساءل نوح.

-" نعم، الثور.. والقماشة الحمراء.. والمصارع!! قال المعلِّق أمس.. اسمعني! لا تريد أن تخبرني عن مشاكلك، حسناً، على خاطرك، لكن اسمعني! قال المعلق أمس إن الثور، ثور المصارعة، يجب أن يكون يافعاً وغير خبير بحلبات المصارعة من قبل. وما على المصارع إلا أن يهزَّ القماشة الحمراء، ثم ينتظر باستسلام، ويبقى الباقي على عاتق الثور، فيكون التحفز، والوثب والانقضاض، ثم الموت، أتُصدق؟ "

-" ولماذا يكون الثور يافعاً وصغيراً؟ "

-" ليكون غريراً وجاهلاً ويَسهُـل قتله! "

-" أيجب أن يصارع؟ "

-" ليس له خيار. "

-" ألا يوجد عدل في الدنيا؟ "

-" لديه قرنه، يمكنه أن يغرزه في جسم المصارع!! "

-" هذا مؤلم وربما مميت!!؟ "

-" في النهاية، على الثور ان يموت، لِيُؤتى بثور آخر!! "

  "نعم، هو ذلك الشعور، شعور بالموت والذوبان! والخوف ظلام يغشى عينيَّ ويُضعفني حتى اصبح كالبطانية سهل الالتواء والتكسُّر! "

-" لكن، يا أبي، دُنيا.." قال وهو يتخيَّل دنيا فاقشعرَّ بدنه. "دُنيا؟" ذات الخدود الناشفة، والعينين المعمصتين كخرم الإبرة؟ دُنيا، "أم جالوق"، الفائزة بلقب "عانس البلدة" عن اقدمية وجدارة؟ دُنيا، تكبره بعشـ.

-" دُنيا؟" تساءل والده ونظر نحو نوح نظرة حانية ما زالت حيةً في عينيه، تقرأ افكاره، "دُنيا؟ أتريد يا نوح أن تقول انها تكبرك بخمسة عشر عاماً او اكثر قليلاً؟ "

     هزَّ نوح الصغير رأسه. ابتسم الشيخ العجوز، وضع راحته على رأس ابنه يطمئنه، "إنها امرأة! لا تريد هذا؟ سترعاك بعد وفاتي! "

     هزَّ نوح رأسه، وقال، " شيء عجيب وسخيف وليس له معنى، ألا توافقني؟ يأتون بالثور ليموت! "

-" نعم، عجيب! "

  "عجيب! كيف تمَّتْ موافقتي على الاقتران بدُنيا؟ هل كانت الموافقة على الزواج مصدر المشكلة؟ رُبما نبعت المشكلة من تأثير حبي الكبير نحو والدي العجوز؟ نعم، هو ذاك! كلُّ شيء واضح! السبب هو حب أبي نحوي، حب الوالد المسن لابن وحيد يتيم الأم أتاه في خواتيم عمره، فكان له أباً وأماً! إذن، المشكلة موجودة قبل زواجي بدنيا، وبالتحديد حين قرَّر أبي أن يتم الزواج. لا، بل حين أصرَّ والدي على أن يأخذني الى الحكيم إثر ألم بسيط في المعدة. لا، بل إِن المشكلة موجودة منذ زمن طويل: مُنذُ المدرسة! كان يخاف عليَّ من أذى الاطفال والاصحاب. دوماً كنتُ صبياً متميِّزاً عن الآخرين. لم يحرمني والدي من شيء. لكن لماذا؟ أكان يخاف علي حقاً أم يخاف أن يفقدني؟ ثمة شيء آخر اقلقني دوماً : فارق السن بيني وبين والدي كان خمسة وخمسين عاماً. ما معنى ذلك؟ أمظهرٌ آخر لغربتي؟ إذن، المشكلة مصدرها قديم ومتأصِّل. آه، يا للألم الفظيع في ظهري!! لماذا أريد أن اشتري سيارة؟ "

-" أراك شارد الذهن.." همس مصطفى، ثم فجأةً صرخ، "يلعن هيك دنيا! "الرادياتر" سخن!! "

     توقفت السيارة، وخرجا منها. كان البخار ينطلق بقوة من تحت        غطاء المحرك. لم يجرؤ أن يلمس غطاء "الرادياتر" الساخن، فصاح في نوح ساخطاً، "نريد ماءً! يجب أن نبحث عن الماء! "

فصرخ نوح متذمراً حانقاً، "هذا حدث من السرعة اللذيذة.. "السرعة هي وحدها التي تُشعرك باللذة!".. هه؟ كيف طاوعتك لاشتري سيارة! "

-" لا تشاجرني الآن. لماذا لا تذهب وتبحث عن جدول ماء او نبع ؟"

-" قلتُ لك سابقاً، "السيارات مقززة!" لكنك... يا ربي! "

     فجأةً هلَّتْ سيارة بيضاء من فوق جبل بعيد، بدا فوق الغيوم. كانت السيارة تسير بسرعة بطيئة، بلامبالاة. في النهاية توقفت عند مصطفى ونوح. كان ظهور السيارة في تلك الأزمة أمراً غير متوقع أبداً او حلماً رائعاً، بل نبوة مستحيلة تهدي مَن يضل سبيله الى الصراط المستقيم، وتمنحه دُنيا الاحلام والعجائب. خرج من السيارة رجلٌ في الخمسين من عمره، ابيض الشعر، مهيب الطلعة، ذو لحية بيضاء، في عينيه سُخرية العقلاء، وفي نظراته الثاقبة حكمة وفراسة بنفوس البشر.

-" آه، يا شبان، يبدو انكما افسدتما كلَّ شيء! أترغبان بالمساعدة؟" سألهما ساخراً.

-" نعم، "الرادياتر" ساخن. نريد ماءً. نجد ماءً معك، من فضلك؟ "

 فقال العجوز، "نعم، لكن لا ترفع الغطاء بيدك. خُذ هذا الشاش. "

-" شاش؟ ربَّما تحتاج اليه؟ "

-" لا، انني حكيم. لديَّ الكثير منه. "

" حكيم؟ اللعنة عليك أيها الحكيم، الكريم، العظيم، يا ابن الكلاب! "

-" نسيتما ان تتفقدا الماء، ها؟" سأل الحكيم نوح، "ام انكما تتلذَّذان بالسرعة؟ هه هه هه! بالمناسبة قبل ان تسكب الماء في الرادياتر، شغِّلْ المحرك اولاً. "

     لكن نوحاً تجاهل اسئلة الحكيم ونصائحه. صعَّر خده له وهو يشعر بالقرف، بل وادار له ظهره.

-" هل فحصتما الزيت قبل السفر؟ "

 تدارك مصطفى الموقف، وتذلَّل امام الحكيم شاكراً، وقال، "كلا، لم افحصه! "

     وصرخ نوح مشمئزاً وهو يكاد يتقيأ، "هذا كله قرف! أن تُزيِّتها، أن تُشحمَّها، أن تضع السيخ الملطَّخ بالصدأ المقزِّز. لماذا طاوعتُك لأشتري سيارة؟ يا ربي!! "

قال الحكيم مخاطباً نوح، "ما بك يا صغيري؟ للسيارة فوائد كثيرة. "

فقاطعه مصطفى صارخاً، "مثل لذة السرعة! "

قهقه الحكيم وقال، "آه من طيش الشباب! طيب، تستطيعان أن تتدبَّرا أمركما. سلام! "

فسأله مصطفى، " يا حكيم، لم اتعرف عليك، ولا مؤاخذة. اتسمح؟ "

-" طبعاً، انا الدكتور بشير النوراني. "

-" وانا مصطفى الخفيف، وصديقي نوح العبد. "

     نظر الطبيب الى نوح كأنَّه يعرفه. وبينما ذهب مصطفى ليُجرِّب السيارة اقترب الدكتور بشير من نوح، وسأله، "أنتَ ابن نوح العبد، تاجر الأراضي؟ سمعتُ عنه الكثير. "

-" نعم، لكن هل أنتَ متأكدٌ أنك الدكتور، الحكيم بشير؟ "

     قهقه الطبيب ضحكة هازئة أخافت نوح، "هه هه هه! أتريد أن تشكِّكني بنفسي؟ الشك لا يُناسب عقل شاب مثلك! لكن، قل لي، قبل شهر ونصف كان من المفروض أن تأتي أنتَ ووالدك، ولم تحضرا؟ "

-" بلى، حضرنا. وكان في العيادة دكتور بشير آخر.. "

-" هه هه هه! تلك عيادتي الخاصة، وانا الحكيم الوحيد! ماذا تقول يا رجل؟ "

فقال نوح متلعثماً، "قابلناه هناك، مجعد الشعر، منفوش.. قا.. قال إِنني عا.. عاجز.. ولن اخلف! "

     هزَّت الأرض ضحكة ساخرة مُدوية كأنَّها انبعثت من فوق الجبل الشاهق عند الغيوم، وتردَّد صداها من شفتي الحكيم العاقل، "هه هه هه! لم يكن ذلك الحكيم إلا سُلطان الأهبل.. هه هه.. آويتُه ليساعدني.. هه هه هه.. واعيله.. وهو.. وهو اتقن تمثيله عليكما.. أنتَ وأبيك.. وهل، هل صدقتماه؟" سأله الطبيب، فلم يقُل شيئاً من وقع المفاجأة الرهيبة. "اين كان الألم؟ عند المعدة؟ هنا؟ لا بُدَّ أنه مغص إثر وجبة كبيرة تناولتها.. لا تقلق. أنتَ سليم الصحة، وما زلتَ شاباً. حياتك حُلوة. العب، اعبث، ونصيحتي أن تتزوج! نهار سعيد.." ودَّعهما، وتردَّدت في الدنيا ضحكات ساخرة متتالية، لأول مرة بدت جميلة ومنبئة بالخير.

-" لو لم يُعطنا ماءً، لبقينا حتى أتى الظلام ونهشنا ببرده! قُل لي، ماذا قال لك الحكيم؟" سأل مصطفى.

-" لا شيء.. ما.. ما هذا؟ "

-" ألا تعرف أن تقرأ؟ إنها آية كريمة.. "ولا تنسَ نصيبك من الدنيا" صدق الله العظيم! "

-" لم أرها من قبل. "

-" لأنك كنتَ شارد الذهن!!" قال مصطفى بنبرة اتهام.

   "وفجأة اكتشف أنني رجل. انبثق حياً من جديد. يا له من شعور! يقول حماي، "لن تعيش ابنتي مع إبن من لحمك ودمك!" لكنه كلب حقير. رجولتي ستقلع عينه! ستخرس كل العيون المتهمة! انا رجل. احسُّ بالرغبة تفور في جوانحي. آه كم أحس بالرغبة الآن! "أنتَ سليم.. ما زلتَ شاباً.. العب، اعبث، تزوج!" وإذا كان المرء متزوجاً، فماذا عليه أن يفعل؟ "إنها امرأة، ألا تريد ذلك يا بُني؟" .. نعم، أريد. ألستُ رجلاً؟ "

-" لا بُـدَّ يا نوح أنك سعيد بزواجك رغم مشاكلك!" قال مصطفى بحسرة وهو يسوق.

-" زواجي؟" تساءل نوح.

-" اعني، انتَ تعرف ما اعني. أي النوم مع امرأة! "

-" لا تهذِ، احسن لك! "

-" لا تتهرب من سؤالي. لا بُدَّ أنك سعيد. أنتَ لا تدري كم اتمنى أن يُزوِّجني أبي، لكنه يرفض، وحين يوافق يتزوجها هو، ويقول لي دوماً، "عليك بالشغل! حوِّشْ!" أتعرف يا نوح؟ اشعر كأنني مثل ذلك الحمار الذي يغريه صاحبه بخسة لذيذة يضعها امام رأسه، ويقول له، "هيا، تحرك، ساعطيك الخسة إذا قدرتَ أن تمسكها!" يبدو لي يا نوح أنني ساظل اشتغل حتى يذوي شبابي. لكن أبي يرفض أن يناولني أية خسة! وانا.. انا في الخامسة والثلاثين من عمري وتراودني افكار لا تتصورها!!! "

-" اعتقد أنني عشتُ هذه الافكار، ولم اشبع منها بعد!" قال نوح وهو مغمض العينين.

-" اعتقد أنك اسعد شاب في الدنيا. لا تضحك. اعني ما اقوله! "

 قهقه نوح بهيستيريا، "وانا لا اعني أن اضحك.. هه هه.. "

 فسأله مصطفى بحيرة، "ماذا تعني؟ "

-" إنني اسخر من قدري : اسعد شاب في دُنياي! "

  "يغلي جسدي بحركات، تبدو عبثية، لكن آلامها لذيذة! تُنمنمني احاسيس حلوة تُخدِّر كلَّ خلية في جسدي. احسُّ أنني حقاً في صاروخ ينطلق بمحرك من الـتأوُّهات والأنين المتواصل، اصل الى فضاء اللانهاية. كلُّ شيء حولي اسود، مهتزٌّ، لذيذٌ. غباشة، غشاوة. ورغم أنني بين الفينة والاخرى انطلق فجأةً في اللانهاية لمئات الاميال خلال بضع ثوانٍ، تعتريني النغمة ذاتها، الغشاوة ذاتها، اللذة الحزينة النبوية ذاتها. قد اصل الى السماء السابعة، لكني ابقى على الارض، على تراب العاطفة الدافىء حيثُ انتمي! "

-" السيارة!" صرخ مصطفى فجأةً، "انظر، هناك سيارتك يا نوح!"

-" اين؟ "

-" تلك السيارة بُنية اللون!" قال مصطفى، اوقف سيارة أبيه، ترجل منها، وجذب نوحاً ووقفا امامها. "إنها فعلاً عروس!" قال مصطفى مندهشاً ومأخوذاً بجمالها. "أليست عروساً يا نوح؟ "

صاح فيهما رجل متأنق الهيئة، "عروس جميلة تستحق الاقتناء! هيا، لنكتب العقد! "

     كتبوا العقد. عاد نوح ووقف امام السيارة الجديدة. إنها حديثة الطراز، لونها بني، وملمسها ناعم. آه من رشاقتها الجميلة! زجاجها الامامي روح شفافة، واسفل روحها الزجاجية نافورتان صغيرتان سمراوان، تعبث بهما يدان شهوانيتان وتتحركان يمنة ويساراً، فتنبعث منهما عطور وطيب. فتح نوح ابوابها، آه! آه من مقعدها المريح وفرشها الاحمر! وقف مشدوهاً. امتلكته الرغبة. ذلك الجلد الاحمر الناعم!! امسك دفة القيادة. شعر قبل ان يسوقها بلذة الركوب. يا للقلب الاحمر الدافىء!!

  اقترب منه مصطفى وتنهَّد متحسِّراً، وقال، "هيا يا نوح، مفتاحك معك وليس صدئاً، هيا استعمله وتلذذ! "

  سأله نوح وهو يشعر بالإثارة والاهتياج، "ما رأيك أن نتسابق حتى البلدة؟ أريد أن اتذوق طعم السرعة! "

-" تسابقني بعروس شابة تحلق في الغيوم، وانا بعجوز شمطاء لا تصعد فوق رصيف الشارع؟ "

-" حسناً، انطلق قبلي، وسأتبعك بعد دقائق! "

-" بعد نصف ساعة، حسناً؟ انا موافق!" وانطلق عائداً الى البلدة.

  "اضع المفتاح في العروة الصغيرة. ترتعش "العروس" تحتي، تتلوَّى كغصن داعبه نسيم الليل. الوسيلة الوحيدة للشعور بلذة الركوب هي السرعة. وها انا قادم اليك يا دنياي! دُنياي! دُنياي انا وحدي!! اُسرعُ، اُسرعُ اكثر فاكثر، افقد الوعي. اصبح في عالم غريب حالم. تمضي على جانبي الاحلام بسرعة الضوء. أرى اضواءً والواناً باهتة، ممتزجة، ناراً، اشجاراً، تلالاً، سهولاً. امضي بلامبالاة. بين الحين والآخر ينقلب الأفق امامي الى اسوداد تام، الى هزَّات متتالية تُبعدني ملايين السنوات الضوئية في اللانهاية. و"العروس" ساكنة ساخنة بلا مبالاة. أن تكون في السادسة عشرة هو أن تكون، تكون ماذا؟ نعم، تكون رجلاً، فحلاً، نصلاً، تضجُّ بالحيوية، ليس كما قال مصطفى عن أبيه ذات مرة، "أرى أبي طبلاً كأنَّ الدنيا افرغته من محتواه، ويريدني أن اكون مثله!" أحسُّ بأنني اطير، واشعر بنشوة الفوز والرغبة.. "

     عند الباب، باب بيته، تناهى الى سمعه صوت أبي فارس الأجشّ، ثم رآه وهو يمخط في محرمته، وقف امام نوح وقال، "ابنتي ساخنة! لديها حُمى مرتفعة منذ الظهيرة، وأنتَ السبب. الأفضل أن تتركها ترتاح! "

     فصرخ نوح في حميه، "اُخرج من بيتي! إنها امرأتي، ولا ارغب بحم مثلك!" طرده من بيته، اغلق الباب، ودخل حالاً الى غرفة النوم. على السرير كانت "دُنياه" متمدِّدة. كانت النافذة مفتوحة، وريح العصر تُداعب الفستان الاحمر، فيهتز. نظر اليها. تأمَّلها. رأى علبة سجائر "PANADORA"، لا بُدَّ أنها لحميه. اشعل سيجارة، أخذ ينفث الدخان. جلس عند طرف السرير. اتكأ براحته على قدمها، ثم فجأةً أخذ الدخان ينتشر في ارجاء الغرفة على غير هُدى كشياطين انطلقت حُرةً من صندوق مغلق. كان الدخان الماردي يندفع من فمه كأنَّه نيران تنين أسطوري. عبقت الغرفة بغيمات الضباب الدخانية. أطلت النافذة على دُنيا واسعة الأرجاء. اهتز الفستان الاحمر. لم يستطع الدخان ان يبقى ساكناً، فاندفع. القى نظرة على السيارة. كانت ساكنة ساخنة. اندفع نحوها. "إِنَّها ساخنة منذ الظهيرة!" وضع المفتاح غير الصَديء في العُروة. لم تشتغل. اهتز الفستان الاحمر. اهتاج الثور. دفع المفتاح اكثر. ثم.. ثم اشتغلت، اشتعلت. مضى بها كالصاروخ الى الآفاق الخيالية بسرعة اهتزازات الضوء. اختفى مع الدخان في الاسوداد، رامياً عن كاهله عبء الصخرة التي كانت ترزح فوق ظهره، او على الأقل مستمتعاً بثقلها اللذيذ.

  "كنتُ في السادسة عشرة من عمري. أردتُ أن اعبث. تهتُ في اللهو في دُنى كثيرة. جرَّبتُ انواعاً كثيرة من السيارات. لم أدرِ في يوم من الأيام ماذا يخبئ الدهر لي. أما أملي الضعيف فأتى لي، انا النوح الكبير، كما أتى لأبي، بعد خمس وخمسين سنة‍‍‍! "

30 تموز 1987

 

 

حياة، العرَّافة

 

1- ما قبل الرؤية

 

غريب هو في هذا المكان. لماذا هو هناك؟ كل شيء غامض وضبابي. لا يرى. ام أنه لا يعي؟ الشعور بالغربة طاغٍ وشديد الوطأة. يشعر الغريب بدوار شديد، بالحاجة الى التقيُّؤ، الى التنفس، الى الرؤية، رؤية أي شيء ما عدا الظلام.

     يشتدُّ الصُداع. يتصاعد الخوف من المجهول، الخوف مما قبل الرؤية. فجأةً يحسُّ بشعور كأنَّه تشكَّل لتوه: تعتريه رغبة بالغة القوة ليعرف من يكون، ما يكون. عندئذٍ ينفتح امامه شقٌّ طولي من الظلام، تخرج منه اسرارٌ دافئة من النسيان، وتتسلَّل عبرَه اشعةٌ ضبابية ضعيفة الى عينيه الضريرتين. ثمة اشباح مشوهة الوجوه والاجسام تتكلَّف الابتسامات والقرقرات والتهاني.

-" دعوني! دعوني!" يصرخ بصوت عال، لكن الاشباح تستمرُّ في الضحك كأنَّها لا تسمعه. "لا اُريد ان ادخل الغرفة المظلمة الكبرى! لا تدفعوني اليها!" يعلو اللغط. يتصاعد أزيز الدوار. يشعر بالغثيان. يغشاهالوجل. يشعر بالوحدة. يبكي، يبكي. يدوخ كأنَّه في بحر لا تتوقف امواجه عن التلاطم والهيجان.

-" دعوني!" لكن أحداً لا يأبه به.

     يشعر بالوحدة في ذلك المكان المظلم الموحش. تتسلَّل الرطوبة الى لحمه وعظمه. يَسكُن في مكانه. يسكت. وطأة وحدته شديدة. الظلام والبرودة موحشان. يضمُّ رجليه الى صدره؛ يهمهم مواسياً نفسه ليبعث فيها بعضاً من الطمأنينة.

-" إنه يقاوم!" يُطرشُه صوتُ جسم مشوه، "إنه لا يريد العلاج الذي ستعطيه له حياته! "

-" كأنَّه لا يريد الحياة! كأنَّه لا يريد حياته!" قال صوت آخر.

-" يا ساكن رحمي، لا تخف.. سنلتقي حتماً ونلعب في "الفردوس،" فلا تقاوم!" يأتيه صوت آخر يشوبه القلق. وتطمئنه اصوات اخرى: "لا تخف!" .. "سوف نلتقي حتماً ذات مرة، حينما تشفى! "

-" لستُ مشوهاً مثلكم. انا كامل! أتسمعون؟ انا كامل!" يصرخ فيهم وهو يتخبَّط ويضرب جدران الظلمة بيديه وقدميه الخائرتين. ورغم ان صوته غارق في العتمة والرطوبة، فإِن حركاته المتخبطة محسوسة.

-" إنه لا يريد الحياة!" يأتيه صوت جسم مشوه. "لن يكون قادراً على أن يحيا! "

-" اتركوني، لستُ مريضاً! لا اريد ان اصبح مشوهاً مثلكم! اتركوني!" يبكي. الصُداع يشتدُّ أزيزه.

     فجأةً يأتيه صوت أنثوي رقيق وهادىء، "لن يسمعوك! وإذا سمعوك فلن يفهموك!" الصوت الأنثوي قريب منه جداً. يبدو له أن الصوت عند أذنه او أنه جزء منه. حالما يسمعه تخور كلُّ قواه كأنَّ الطمأنينة سرتْ فيه او الخوف شلَّه كلياً.

-" لماذا يريدون أن ادخل الى ما بعد الشقِّ؟" يسأل الغريبُ الصوتَ الأنثوي الرقيق بصوت خفيض يشوبه الحذر.

-" ستدخل غرفة الرؤى، وتحيا الحياة، حياتك، وتشفى من مرضك. "

-" اين نحن؟ "

-" في مرحلة ما قبل الرؤية.. أترى شيئاً؟ "

-" كلا.. "

-" أترى؟ أنتَ ضرير. لهذا تحتاج الى علاجي!" يقول الصوت الأنثوي بهدوء.

     يمضي صمت طويل. ثم يحسُّ بأن قلبه يخفق بشدة إذ يُراوده ذلك الشعور الملحاح بضرورة معرفة من يكون، ما يكون.

-" من أكون؟ ما اكون؟" يسأل الغريبُ الصوتَ الأنثوي بصوت مرتعش.

-" أنتَ ميت ينتظر مولده! "

     تتيه الأسئلة في ذهنه، يصمت. لم يَعُد يدري عما يسأل، ولم يَعُد يتذكر عما يتوجب عليه أن يسأل. وأخيراً يطفو سؤال الى ذاكرته، "وأين انا الآن؟ "

-" فيما قبل الرؤية، في موطن الاسرار، وهو المكان الذي سيُوصِلك - إذا كنتَ محظوظاً - الى ارقى موطن لتحقيق الوجود." يأتيه الصوت الأنثوي بعد سكون جليل.

     دون توقُّع، ينفتح الشقُّ الطولي للحظة واحدة، ويحسُّ الغريب بأنه سيقع على رأسه، وأنه مُنجذبٌ الى مكان منخفض. يتشبَّث بجدار العتمة تشبثاً قوياً. ثم يصبح سَلامياً للقوة التي تجذبه نحو الاسفل، رغم خوفه من سقوطه على رأسه.

-" أي موطن هذا؟ "

-" الحياة، حياتك! "

-" ومن تكونين أنتِ؟ "

-" انا حياة، انا العرَّافة! أنَسَيتني مرة اُخرى؟ "

      ماذا يقصد الصوت الأنثوي؟ ولِمَن الصوت؟ أي موطن لتحقيق الوجود هذا؟ وأي وجود؟ تخيفه الكلمات الغامضة، رغم أنها تُلفَظ برقة وخفوت. يحسُّ بأنه مهدَّد. دونما أي سبب يشرع ينتحب نحيباً هادئاً سرعان ما يتحول الى بكاء هادر. كان لظلمة المكان الضيق أثرٌ كبير في احساسه بالفزع.

-" أريد ان أخرج!!!" يصيح ويدفع الظلام بيديه الضعيفتين. ينشج. يقفز على قدميه. يرتطم رأسه بسقف الغرفة. ثم يحسُّ بهزَّات زلزال وشيك. تتصدَّع جدران الظلام. يحسُّ كأنَّه انقلب رأساً على عقب، ويشعر أنه على وشك السقوط على رأسه. "أريد أن أخرج! أريد الخرووووووج! "

 

-" عليك أن تعلم أنك لن تعود الى هنا بسهولة،" يأتيه الصوت الأنثوي هادئاً كعادته.

-" أريد الخرووووج!" يصرخ فزعاً، ثم يحسُّ بأنه يسقط، يسقط، يسقط في المجهول، ورأسه متجهة نحو الاسفل. لكنه في نهاية سقوطه، يسكن جسده. لا يزال الظلام احلك مما قبل. الرؤية، الآن، منعدمة. دوار. غثيان. يسعل، يتقيأ، يبكي، يبكي، يبكي. والدوار يُعَمِّر ردحاً طويلاً.

 

 

2- الرؤية الاولى

 

-" لقد دخل الى الغرفة المظلمة الكبرى،" يرنُّ صوت جسم مشوه.

     بلحظة واحدة يفقد الغريبُ الدفءَ الذي كان يُحيط به، والذي كان يجده بارداً. تقتحم الاصوات النشاز كيانه الذي أخذ ينكمش. يشعر بخوف كبير. لا يسعه إلا ان يبكي. فيبكي طويلاً. لا يرى شيئاً. أما الغرفة المظلمة الكبرى فتُشبه الغرفة التي غادرها من ناحية الحلوكة والغموض والجهل والخوف والبرد. لا يعرف كم مضى عليه من الزمن وهو في ظلام مُصْـمَتٍ.

-" ستراني بعد قليل،" يأتيه الصوت الأنثوي، "ستغشاك الرؤية الاولى! "

     يحسُّ برهبة شديدة، يحسُّ ببرودة شديدة تُخدِّر كلَّ خلية في جسده وتُنيمه في حلم غريب. "أريد أن اعود!" يصيح بعنفٍ شديد. "أريد أن اعود حيثُ كنتُ. "

-" اسرعوا، قد يموت!" يأتي صوت جسم مشوه.

-" يجب ألا يموت، حياته في انتظاره!" يأتي صوت مشوه آخر.

-" لا، لن يموت. إِنها مجرد غيبوبة أخرى تُصيبه!" يقول مشوه آخر.

-" أريد أن اعووووود! "

-" قلتُ لك ليس من السهل أن تعود الى الغرفة المظلمة الصُغرى إذا عبرتَ الى ما بعد الشقِّ الطولي!" يأتيه الصوت الأنثوي هادئاً كعهده به، لكنه حازم، "أنتَ لم تشفَ بعد! "

-" هل انا مريض؟" يسأل الصوتَ الأنثوي بخوف.

-" طبعاً! لا يأتي الى هذه الغرفة المظلمة الكُبرى إِلا مَن فيهم مرض،" تقول حياة، العرَّافة، "ولن تخرج من هنا إلا مُعافى، ومُصفَّى من الارواح الشريرة. "

-" لكنني كامل! "

-" كنتَ كاملاً،" يأتيه الصوت الأنثوي، "ليس من أحد كامل هنا سواي! انا وحدي مَن يستطيع أن يجعلك كاملاً، إذا قبلتَ علاجي برضى وولاء! "

     يحسُّ بشيء من الاطمئنان، لكنه لا يقول شيئاً.

-" ماذا تقول؟" يسأله الصوت الأنثوي الرقيق، "إِنني الوحيدة التي يمكن أن تشفيك، وأن تُعيدك الى "الفردوس."  "

-" وما "الفردوس"؟ "

-" بلدتك التي نشأتَ فيها.. "

-" أصحيح أنني "ميت ينتظر مولده؟"  "

-" لكنك لم تَعُد تنتظر مولدك. إنَّكَ الآن ميتٌ صحا من غيبوبته." تقول العرَّافة بصوتها الناعم. يشعر بأن الصوت الأنثوي لفَّه بشبكة متاهية من الكلمات. يحسُّ بصداع شديد. يحسُّ بأن ذاته الضبابية تحترق بخوراً داخل جدران العتمة الكبرى. أيَّةُ غيبوبة، وأيُّ ظلام؟ أينما يكُن، يوجد ظلام.. ظلام. ظلام. ظلام. يبكي طويلاً.

-" لا تخف! ثِـقْ بي! انا حياتك، أنَسيتَ؟ لا بُدَّ أنَّك نسيتَ من انا؟" يأتيه الصوت الأنثوي رقيقاً هادئاً.

-" مَن أنتِ؟ "

-" انا حياة، مَـنْ ستُعيدك الى حيثُ كنتَ.. ستعود بعد أن اُعلِّمك كيف تستعمل الفانوس السحري، فانوسك! "

-" أي فانوس؟ ومن اين آتي به؟ "

-" إنه جزء منك، من جسدك وكيانك. أما الفانوس فمملوءٌ بالاحلام والاشباح والقوى الهائلة، التي يمكنك أن تستهلكها فيَّ انا، "حياتك!!"  "

-" أيتها العرَّافة،" يناديها، " يا حياة... "

-" اُدعُـني بـ "حياتي!" "

-" يا "حياتي!" "

-" بُشرى! بُشرى! إنه يُريد الحياة! إنه يريد حياته!".. "سيعيش!".. "سيحيا!".. "ابقَ في الغرفة المظلمة الكبرى. ستشفى من مرضك!".. "لا تخف، نحن في انتظارك!" هتف مشوهون كثيرون.

-" يا حياتي!" يناديها مرة اُخرى، ويُجيبه الصوت الأنثوي الرقيق بـ "نعم" رقيقة ناعمة. "أصحيح أنني سأحيا واشفى إذا بقيتُ في الغرفة المظلمة الكبرى، هذه؟ "

-" نعم، ستحيا. أنتَ محظوظ! قلَّةٌ هم الذين يصحون من الغيبوبة التي تعيش فيها معظمُ الاشياء الميتة. أنتَ كنتَ منهم. كنتَ ميتاً. كنتَ غائباً عن الوعي والوجود في غيبوبة طويلة، ثم صحوتَ! أنتَ نجحتَ في الوصول الى الغرفة المظلمة الكبرى.. "

-" وما هي هذه الغرفة المظلمة الكبرى؟" يسأل والحيرة والفضول والخوف تملؤه.

-" إنها اعلى وارقى موطن لتحقيق الوجود. إنها الحياة! أما زلتَ لا تذكر ما قلتُه لك؟ "

-" لا أذكر شيئاً! لا اعرف شيئاً! لا أرى شيـ .. "

     فجأةً، الرؤية الاولى! تزول امامه عن الوجود بقعتان صغيرتان من الظلام. يُمعن النظر. إنهما عيناها، عينا العرَّافة. يحدق فيهما وفي جمالهما. تبقى الرؤية الاولى اجمل رؤية واحلاها! أن يرى لأول مرة تلكما العينين السوداوين هو شيءٌ لا يمكنه أن ينساه. أن يرى لأول مرة شيئاً يبعث فيه الفضول والمزيد المزيد من الاسئلة!! يظلُّ متحجراً وساكناً امام ما تشعُّه العينان الباسمتان من حيرة وتساؤل، ومن انشداه وافتتان. يظلُّ اخرس.

     من خلال العينين الساحرتين اللتين يراهما بين حين وآخر، يرى كثيراً من الاحلام والرؤى، ويرى الجمال، ويرى - فيما يعتقد أنه - اللانهائي والمطلق. تُصبح "حياته" المطلق واللانهائي والأبد، والآلهة. تصبح كلَّ شيء.

-" يا "حياتي!"، " يدعوها ذات مرة، "إنني لا أراكِ! "

-" ستراني في حينه! "

-" أأنتِ جميلة؟ "

-" عندما تراني، سأترك لك الحكم! "

-" كيف سأقيِّم الشيء، إذا كان جميلاً ام غيرَ جميل؟ "

-" سأعلِّمك! "

     عبر الظلمات التي تُغلفها، تُعلِّمه. تعلِّمه مَن هي، ومَن هو. كثيراً ما يشعر أنه بليد، خاصة حين يصحو من غيبوبته التي تُطيح بوعيه وتُنيمه نوماً عميقاً طويلاً. يعميه الظلام، فيبكي كثيراً، ويخبط الظلام باطرافه من اجل حريته. كثيراً ما تبدو حياته يقيناً سرابياً وحلماً غارقاً في ظلمات اللاوجود. يعميه الشك والخوف. يشعر أنه جاهل ونهم للمعرفة، لمعرفة عالمه الذي يعيش فيه، لمعرفة ما بعد الظلمات التي تحيط به، لمعرفة ما يكون، من يكون. ثم لا يجد مفراً - وهو في عماه في الغرفة المظلمة الكبرى - مِن أن يؤمن بالعرافة حياة، "حياته"، ويؤمن بما تعلمه ايماناً لا يقبل الشك.

-" يا "حياتي!" " يناديها ذات مرة، بعد ان افاق من غيبوبته، "ما الجمال؟ "

-" "الجمال"،" تقول حياة بنبرة تدلُّ على سعادة كبيرة، رُبما لأنه يسألها، "الجمال شكل لحظي يُشعرنا بالدفء والكمال والحياة. إِنَّه الشكل الأرقى للحياة. "

     رغم أن حياته تبدو يقيناً سرابياً، فإِنَّ وجود "حياته" العرَّافة الغامضة مطلقٌ. بل أنَّ وجوده يصبح ظلاً لـ "حياته" التي يسمع صوتها الدافىء ولا يرى إلا عينيها. يقترن وجوده بوجود صوت العرَّافة التي لا يراها. احياناً عندما لا يصله صوتُها او لا تومض عيناها بذلك الدفء الأنثوي، يُخالجه ثمة شعور بأنه كاللاشيء، كالفراغ، تائه في الفضاء، او نائم في سبات طويل، يجترُّ ما تعلَّمه من العرَّافة او يبحث عن الذاكرة التي اضاعها في مكان وزمان لا يتذكرهما. في احيانٍ أخرى يفيق من نومه الثقيل او من غيبوبته، فلا يجد إلا الظلام والاحلام، الاحلام التي لا ترفرف من عينيه او من ذاكرته بل من عيني "حياته" اللتين يراهما احياناً.

 

 

3- الحلم الأول

 

-" يا "حياتي!" " يناديها الغريبُ. "لقد رأيتُ حلماً! "

-" رأيتَ؟ ماذا حلمتَ؟" يسأله الصوت الأنثوي الرقيق باهتمام.

-" حلمتُ حلماً طويلاً. أحسستُ بذاتي وهي مجسَّدة في جسم، وأحسستُ بأنني امشي بين مجموعة من الناس، وكلهم مشوهون.

سألتُهم: "أين نذهب؟ "

قالوا، "الى مقام العرَّافة. "

قلتُ، "أية عرافة؟ "

قالوا، "إنَّ اسمها حياة، أتذكر هذا الاسم؟"..." يصمت قليلاً ليأخذ نفساً من شدة الاثارة التي تغمره. وحينما تفتح العرَّافة عينيها الجميلتين ويراهما، يُتابع كلامه: "فسألتُ احدهم: "لماذا نذهب اليها؟ "

فقال، "أنتَ سقطتَ على رأسك. وأصابك مرضٌ. "

وقال آخر، " بل اصابكَ مسٌّ من الشيطان. لولاه لما اقترفت الخطيئة وسقطتَ على رأسك، وما ذهبنا بك الى العرَّافة. "

وقال ثالث: "المهم أنك مريض بداءٍ يُصيبك بغيبوبة طويلة. "

وقال رابع: "المهم أن العرَّافة، واسمها".. " ثم يسكت للحظات ويلقي نظرة نحو العينين الواثقتين امامه، "اسمها حياة، وهي الوحيدة التي يمكنها أن تستأصل مرضك وتشفيك!".. ثم.. ثم.. "

-" ثم ماذا؟" يساله الصوت الأنثوي برقة ودفء.

-" سألتُ.. سألـ .. تُ.. مَن.. تكو .. تكون .. العرَّافة.. حياة.. "

-" ماذا قالوا؟ "

-" قالوا: "ستعرف بعد قليل. " لكنني الحَحْتُ. فقال احدهم: "لا احد يعرف مَن تكون او مِن اين أتت. "

وقال آخر: "من المرجح أن موطنها قرب الشمس! "

وقال ثالث: "إن لديها قدرة خارقة على التشكُّل الجسماني، فيراها الناس احياناً عجوزاً شمطاء، واحياناً حوراء من الحور العين! "

وقال رابع: "بل أن أحداً لا يراها لأنها فوق طاقة الرؤية، ولأنها تبقى دوماً في الظلام، تُوحي لمرضاها بما يفعلون دون أن يراها أحدٌ منهم.." اختلطت اصواتهم في أذني، ولم اعُد استطيع أن اُحدِّد - في خضم المعلومات الهائلة عنها - مَن تكون حياة سوى أنها عرافة..." ثم يسكت فجأةً ليرتاح ويلتقط انفاسه.

-" ماذا أيضاً؟" يسأله الصوت الأنثوي.

-" مضيتُ في ذلك الجسم وانا بين الناس، وتوجهنا الى مقام العرَّافة. كان المقام بعيداً جداً. وكان المكان الذي سرنا فيه جميلاً وخلاباً، لم أرَ مثيلاً له من قبل.. اشجار، تلال، وعشب اخضر، وجداول، وطيور، وموسيقى حلوة تعزفها كل الكائنات. يا له من مكان جميل!  تمنيتُ لو بقيتُ فيها. سألتُ احدهم، "ما هذه البلدة؟ "

قال: "أنَسِيتَ اسم بلدتك أيضاً؟ إنها الفردوس! "

وقال آخر: "لم تعُد الفردوس تصلح سكناً لك لأنك مريض! لا تقلق، ستعود الى الفردوس حين تشفى من مرضك! "

-" لن يشفيك أحدٌ إلا حياة، العرَّافة!" قال ثالث.

     ثم وصلنا الى المقام. كان بناءً قديماً مُتَصدعاً في سهل تملؤه الحشائش الناشفة الميتة. هناك وقف الجميع، وانا بينهم. أخذنا نتأمَّل المقام. وقرأتُ ما كُتِبَ على باب المقام :

"الرحمُ والظـلام في قلب الدُّنى     بيتٌ من الاحلام سوف ينضـبُ "

"والليل موجـود لكي نرنو خلا     لـه الـرؤى التي بنـا لا تَرسـبُ "

"والأرض كـلُّـها دُجـى ودربُنـا     فيـها ضريـر والنـوى مُـضَبَّـبُ "

"غـيـبوبـةٌ هـيَ الـحـيـاة كـلُّـهـا     ايـامُـنـا فـيـهـا رؤى تَـحْـتَـجِــبُ "

"أمـا حـياتي فهـي اجـزاء لـلـو     حــةٍ مِـن الـزُّجــاج لا تُـسكَّـــبُ "

"تُـغـنِـي الـحـيـاة الأبديِّـة الـتي     اشكالهـا ليـس لـهـا أن تُـحـسَـبُ "

  "عندما انهيتُ قراءة الابيات الغريبة لاحظتُ أن جميع الاجسام المشوهة الذين كنتُ بينهم ومعهم يتأمَّلونني على نحو اشعرني بالوجل والتوتر. فجأة احاط بي جميعهم، قبضوا علي، والبسوني رداءً ابيض، صرخوا ورتَّلوا وهلَّلوا وضحكوا وبكوا. رأيتُ الرعب على وجوههم؛ توقعتُ أمراً جللاً يوشك ان يحدث. ثم أخذوا يدفعونني الى المقام، فقاومتهم بجسمي المتخشب، ورفضتُ ان ادخل، لكنهم ادخلوني بالقوة واغلقوا الباب ورائي.

  "كانت الغرفة التي ادخلوني اليها صغيرة جداً، تكاد لا تسعني. لكن شقاً طولياً انفتح امامي، وشعرتُ انني اسقط، اسقط، اسقط في غرفة مظلمة كبيرة. مضى بعض الوقت، ثم رأيتُ وجه العرَّافة. كان وجهها جميلاً جداً. فُتِنْتُ بها، ونسيتُ نفسي. وكأنني صحوتُ من غفوة طويلة، سمعتُها تسألني: "مَن، في اعتقادك، انا؟ "

قلتُ لها: "أنتِ حياة، العرَّافة. "

فسألتني: "فمَن أنتَ؟ "

قلتُ: "لا أدري.. لا اذكر! "

"فنظرتُ اليَّ مليَّاً وابتسمت، "لا تخف! مِنَ المتوقَّع منك ألا تتذكَّر أحياناً! "

سألتُها وانا خائف: "لماذا؟ "

قالت: "لأنك مريض.. تعتريك غيبوبة لم يعرف الأطباء سببها حتى أنك احياناً تبقى غائباً عن الوعي مدة طويلة. أنتَ لا تدري مَن تكون، فتذكر ذلك! وعلى فكرة، لا تنسَ أن احد اعراض مرضك الغامض هو فقدان الذاكرة. "

-" إذن، فمن انا؟ من اكون؟ ما أصلي؟" سألتُها وانا نهم للمعرفة.

-" أنتَ مجهول الأصل. لا احد يعرف مَن أنتَ. وجدوك في احدى البراري يوماً ما، وكنتَ توشك أن تلفظ روحك وحياتك. وحين احتضنتك البلدة ومَن فيها واتخذوك ابناً من ابنائها، دبَّت فيك الحياة. احبوك رغم أن آراءهم في أصلك تباينت. قال بعضهم أنك ابن حرام ومجبول بالشر والخطيئة. وقال آخرون إنك ابن الطبيعة، وقال آخرون أنَّ فيك روحاً إلهية. المهم أنهم احبُّوك وربُّوك حتى ظهرت اعراض مرضك، وحار الأطباء، فأتوا بك اليَّ لأشفيك. "

فسألتها: "ما مرضي؟ "

فصمتت قليلاً، ثم قالت: "مرضك مرض خبيث شيطاني. إِنَّ فانوسك مليءٌ بالاحلام والاشباح والمردة. ما الغيبوبة وفقدان الذاكرة إلا عرضان من اعراض مرضك. ولا تعتريك هذه الاعراض إلا بسبب الصراع الحاد بين المردة والاحلام والارواح الشريرة التي توجد فيك، في فانوسك، فيفقدك ذاكرتَك حيناً، وصحوك حيناً آخر. وإذا أردتَ أن تشفى فما عليك إلا أن تُطلِقَ هذه الاحلام والمردة والاشباح الشريرة. هذا ما سافعله انا، فهل تثق بي؟ "

قلتُ: "نعم! "

" فقالت لي: "إن من الضروري جداً - لأنك نسَّاءٌ - أن تذكر جيداً ما ساقوله لك بعد قليل.." وسكتت للحظات، فارهفتُ السمع، ثم قالت: "أنتَ لي. كلُّ ما فيك لي. لن تُحقق وجودك إلا من خلالي. لن تُحقِّقه دون أن تحيا حياتك في حياتي، في اسراري، في احشائي. أريدُك قوياً قادراً على قبول حبي، وتقديم قربان المعرفة المطلقة التي ستستحوذ عليها، وتحطيم الظلمات وتبديدها، وإنارة العالم بدمائك، بلحمك، بجوانحك، بفانوسك السحري! صحوتَ من غيبوباتك الأبدية، وأُتيَ بك الى هنا لتُعلِّمك حياتُك، ولترى حياتَك وتحبها، وتصبح لحناً أبدياً في سيمفونية الحياة التي تنتمي اليها، وتحقِّق استمرارية الحياة. لا تقلق، سوف اشفيك من مرضك!" وعندئذٍ انتهى حلمي، وصحوتُ من النوم. "

-" فقط؟" يتساءل الصوت الأنثوي.

-" فقط." يقول محتاراً من الرؤيا التي تؤرقه، "ما معنى هذا الحلم؟ "

-" معناه أنك بَلَغْتَ مسافة يسيرة، لكن لا بأس بها، في سبيل الوصول الى شفائك. فقد بدأت الاحلام والرؤى والاشباح الشريرة تتجمَّع في فانوسك السحري! "

     احلام، رؤى.. واين يراها؟ في الظلام الأبدي الذي يحيط به، في الغيبوبة التي تنتابه طويلاً، في عينيه الضريرتين او بالأحرى في عينيِّ عرَّافته اللتين لا تنفتحان إلا نادراً، وتظلان في حجاب ظلامي.

 

4- الاحــلام

 

يظلُّ يتعلَّم. الحقائق التي يتعلمها اجزاء اجوبة وكِسرات حقائق. وحدة، جهل، مرض وايمان مطلق. والظلام يُعمي! الغيبوبة؟ آه، إنها تصرعه بصمتها الكثيف ورؤاها المكدَّسة. الذاكرة؟ ضائعة! الاسئلة تلحُّ عليه سعياً وراء اجوبة تشبع ظمأه للمعرفة. "أين المعرفة؟" يصرخ كلما يفيق من احدى غيبوباته، فيجد أنه لا يزال في الظلام.

-" لماذا الظلام؟ لماذا الصمت؟ لماذا المرض؟ لماذا الوحدة؟ لماذا انا؟" يصرخ، ويسأل عبثاً دون أن يجيبه الصوتُ الأنثوي. تعتريه الغيبوبة، يصحو، ثم تصيبه غيبوبة اخرى يلبث فيها دهراً. حينما يصحو ثانية لا تواجهه إلا الاسئلة الأبدية التي تظلُّ مُعلَّقةً في حبال الظلام المتشابكة المعقَّدة، "اين الحقيقة؟ اين المعرفة؟ اين الاجوبة؟ متى يتلاشى هذا الظلام؟"

-" هل صحوتَ؟" يسأله الصوت الأنثوي الدافىء الناعم.

-" ماذا.. ماذا حصل؟" يتلعثم.

-" كنتَ في احدى غيبوباتك الطويلة!" يُجيبه الصوتُ الأنثوي.

-" لقد حلمتُ احلاماً غريبة وجميلة. حلمتُ أنني في مقام العرَّافة مرة اُخرى،" يقول ويمضي الوقت مليئاً بومضات من السعادة. لا يُجيبه الصوتُ الأنثوي بشيء، ولا حتى بتعبير موافقة. "لكنني لم أرَ العرَّافة، حياة، التي رأيتُها في رؤيايَ الاولى، إنما رأيتُ امرأة شابة اخرى، عيناها جميلتان مثل عيني العرَّافة بالضبط سألتُها: "مَن أنتِ؟ "

فقالت: "إنني زوجتك! "

فسألتُها: " ما معنى "زوجة"؟ "

قالت: "لا بُـدَّ أنك فقدتَ الذاكرة مرة اُخرى. انا زوجتك! قبل قليل تزوَّجنا، ألا تذكر؟! "

"ثم أتت الى جانبي، وهمست بأذني: "تخلَّى الجميع عنك. قالوا إن مرضك ميؤوس منه، لكنني سأشفيك بحبي! "

فقلتُ لها: "إنني لا اذكر أنني رأيتُك من قبل! "

قالت لي: "حينما كنتَ على اكتاف الذين حملوك وزفُّوك في موكب عرسنا، سقطتَ على رأسك عن اكتافهم، واصابتكَ غيبوبة. "

" وآنذاك، وهي تسرد عليَّ ما حدث، اعترتني رؤيا جديدة، لكنني في الرؤيا الجديدة رأيتُ تفاصيل دقيقة كثيرة لا بُدَّ أنني نسيتُها في الرؤيا الاولى، او لم استطع في السابق أن أعي اهميتها، رُبما لأنني لم اكن مُلـِمَّـاً بتلك المعرفة، معرفتي بذاتي.." يسكتُ فجأةً، وهو يشعر باثارة غامرة لا تجعله يقف عن الكلام. ما يُقلقه أنه يشعر بأن كلامه نفسه يجعله يتذكر ما جرى، لا أن كلامه ينبع من ذاكرته.

-" نعم،" يُشجعه الصوت الأنثوي بدفء، "ثم؟ "

-" ثم قالت لي مَن تدَّعي أنها "زوجتي": "لقد أتوا بك في زفَّةٍ وهم يحملونك على اكتافهم،" وآنئذ انبعثت الرؤيا من الظلمات، وانطبعت الذاكرة حيَّةً في مخيلتي. وبينما كانت "زوجتي" تسرد لي ما جرى، رأيتُ نفسي على اكتاف الناس المشوهين وانا اسألهم: "اين نتَّجه؟" قالوا: "الى حياة! "

"فسألتُهم: "مَن حياة؟" ولأرضائي وتسكين حركات اطرافي العنيفة، كانوا يرمون إليَّ بفتافيت من المعلومات عنها، لكنني لاحظتُ مدى جزعهم الكبير لأنهم سيتخلُّون عني، فقاومتُ وقاومت. أخيراً، نعم، اذكر أنني سقطتُ على رأسي، ولم أعُد اعي. مضى زمن - لا اعرف او اذكر كم كان - وانا في غيبوبة.

  "قبل أن اصل مع المشوَّهين الى مقام حياة، صحوتُ من الغيبوبة. لم اعرف، وانا في وسط اصواتهم المختلطة، فيما إذا كانت حركاتهم ولولةً وحزناً، ام تهللاً واستبشاراً. كنتُ ارتدي بذلةً بيضاء. كان المكان يضجُّ بالعجيج والصراخ. حاولتُ أن أحرِّر نفسي من بين ايديهم، وفشلت وضاع صوتي في اللغط الصاخب. تناهى اليَّ من بين الافواه صوت: "إِنَّ أمك سعيدة بزواجك! "

فصرختُ بهم: "لكن ليس لي أم!! ألم تتخلَّ عني؟ ألم تجدوني في البراري طفلاً لقيطاً؟ "

-" ما زالت ذاكرته مفقودة! "

-" لعله جُنَّ؟ "

فصحتُ بهم: "إنني لستُ مجنوناً! وليس لي أم! "

وقال احدهم: "أمك، حياة، لا تزال على قيد الحياة! "

-" على أية حال، لا تخف.. ستشفى حتماً، وتعود الينا ونلعب في الفردوس!" تردَّد صوت يشوبه القلق. وسار الموكب، وازداد اللغط. تصاعد اهتياجي واضطرابي. صرختُ فيهم: "حرِّروني! اتركوني!" فقال احدهم: "ستعود لنا يوماً! أما الآن فإِنَّ عروسك في انتظارك! "

قلتُ لهم: "ليس لي عروس! "

فقال آخر: "بل انها الحياة، حياتك! ستنتظرك حياتك لتحياها وتملأها بالاحداث! "

  "وسار الموكب حتى مقام العرَّافة، وادخلوني بالقوة، وهم يهزجون. اغلقوا الباب ورائي، وتركوني وحيداً في الظلمات. وبعد أن رأيتُ رؤيايَ او تذكَّرتُها - لا أدري أيهما أصح - عادت الفتاة التي ادَّعتْ انها "زوجتي" واخبرتني كيف حملتني من الغرفة المظلمة الصغرى، التي وضعني فيها اولئك المشوهون، وادخلتني الغرفة المظلمة الكبرى، وانا في غيبوبة تامة. وحين احيت ذاكرتي المرأةُ الشابةُ - "زوجتي" - تذكرتُ كل شيء...

"سألتُها: "ما معنى "زوجتي؟ "

فقالت: "أن تحيا حياتك في حياتي، في اسراري، في احشائي.. أن نعيش معاً!! ألا تُريد أن تحيا معي ؟"

قلتُ: "بلى، اريد. "

آنذاك كانت الظلمات لا تزال حاجزاً بيني وبينها. فقلتُ لها: "إنني اخاف الظلمات واشعر بالبرد! "

-" إذن، دعني اُضيءُ فانوسك السحري!" قالت لي واقتربت العينان من الفانوس السحري. حينما لمستْهُ شعرتُ أنها لمستني او لمستْ جزءاً مني. وحالاً انبعث الضوء والدفء في الغرفة، ورأيتُ المكان على نحو اوضح. كانت الغرفة مظلمة، رغم الضوء الشحيح الدافىء الذي تشوبه رائحة جسدي العارق.

  "كانت الغرفة صغيرة، رغم أنني تخيَّلتُها اكبر بكثير. لكنها كانت اكبر من الغرفة المظلمة الصُغرى، حيثُ لم استطع أن اُمدِّد جسدي. بدا لي أنه لا يوجد منفذ يُفضي الى خارج الغرفة. ثم، وفي الضوء الخافت المُشبع برائحة العرق، رأيتُ جسداً يغطيه الأسوداد ويرقد في ناموسية شفافة. وظننتُ أنها "زوجتي." كانت هي فعلاً.

"فسألتُها: "أأنتِ "زوجتي؟ "

قالت: "أجل. "

قلتُ: "لماذا يُحجِّبك الظلام؟ "

فقالت: "من المفروض أن تكشف طرحتي عن وجهي بنفسك! "

-"لكنك كنتِ قربي قبل قليل. شعرتُ بوجودك بجانبي في الظلام حين اضئتِ الفانوس. "

-"كان من واجبي أن أعيد إليك ذاكرتك، وأن اُعلِّمك كيف تستخدم فانوسك السحري! "

-"لكنك ابتعدتِ! "

-"لكي تقترب مني! "

-" إنني خائف!" قلتُ وانا اشعر بدوار يغشى ذهني، واسوداد يُهدِّد وعيي.

-" إنك ترتجف. الغيبوبة تعتريك!" قالت وقفزت نحوي. رأيتُها، لكن نُعاساً شديداً اجتاحني. حالما لمستني براحتها اعترتني رؤيا غريبة حملتني الى الضياء. شعرتُ بفانوسي السحري يُضيء اكثر. أحسستُ بأنني احترق، احترق، احترق حتى عَبقَت الغرفة برائحة البخور البشري. سمعتُ زوجتي - او تهيأ لي أنني سمعتُها - تقول: "إن ما تشعر به الآن يُعزى الى مرضك، فاطمئن ولا تخف، ساحاول أن اشفيك! "

  "رأيتُها تنهض وتحضر طاسة الرجفة من زاوية شديدة الحُلوكة. حين اقتربت مني زوجتي ومعها الطاسة، فقدتُ وعيي وغشيتني رؤيا اُخرى. احسستُ بشيء غريب يحدث حولي. الغرابة هي انني رأيتُ نفسي. نعم، رأيتُ نفسي وجسدي حقاً. كانت ذاتي مجسَّدة في جسم ذي شكل قائم. كان جسدي جميلاً.

  "في الرؤيا ذاتها رأيتُ الشابة الجميلة، زوجتي، تمدِّد جسدي على امتداده. ثم أخذت تدهن جسدي العاري بسائل قالت انَّه "زيت." وبعد أن دلَّكت زوجتي جسمي كلَّه براحتيها وهي تُردِّد تعاويذها: "لا تخف! ساشفيك! ساشفيك!" شعَّ جسدي بوهج قوي، وغدا فانوسي مضيئاً بشدة قوية حتى انتشر ضياء كاد يُعمي بصري.

   "بدا لي وانا مغمض العينين أنني أرى حلماً آخر، وفيه رأيتُ جسمي يشتعل ويتصاعد منه بخور ضبابي ملأ الغرفة، مما عمَّق شعوري بالغيبوبة او تذكيري بها. كان البخور المتصاعد من جسدي ذا رائحة مميزة، كرائحة عرقي، بل رائحته نفسه. تهيَّأ لي أنني كنتُ احترق، كأنَّني كنتُ فانوساً سحرياً، او كأن الفانوس ليس إلا ايايَ نفسي.

  "كلما اضاء الفانوس بقوة أشد وتصاعد البخور من لحمي العارق المشتعل، إثرَ ملامسة زوجتي لجسدي، غرقتُ في احلام الغيبوبة ورؤاها الغريبة اكثر فاكثر. ويا للأحساس الذي كان ينتابني آنذاك!! كنتُ اشعر بأنني اتحرَّر من جسمي، وأنني اطير حُرَّاً، احلِّق عالياً، امشي في بلدتي "الفردوس" الجميلة والعجيبة، في جنائنها اليانعة، بين اشجارها الريَّانة وازهارها الطريِّة النديِّة.

  "لا أدري كم مرة كنتُ اصحو من نومي او غيبوبتي واجد نفسي في الغرفة خافتة الإضاءة! كلَّما استعدتُ وعيي وصحوتُ من رؤياي واحلامي كنتُ أرى زوجتي الشابة الجميلة وهي تلمس جسدي وتدلِّكه. كنتُ اسألها: "ماذا تفعلين؟ "

فتقول: "إنني اشفيك من مرضك، واُفرغ فانوسك من الاشباح والاحلام والمردة!" ذاتَ مرة صحوتُ من نومي او غيبوبتي او حلمي - لا أدري! - ورأيتُ زوجتي وهي متمدِّدة بجانبي. كان جسدها العاري جميلاً، رشيق القوام، ناعم الملمس، وفي منتصفه شقٌّ طولي عميق الغور من الظلام. احسستُ أن أرضية الغرفة اسفلي قد انشقَّت انشقاقاً طولياً، وأخذ الشقُّ الطوليُ اسفلي ينفتح مُـتَّسعاً اكثر فاكثر، وانسللتُ عبره شيئاً فشيئا، وأخذتُ اغرق فيه، اغرق، اغرق حتى اختنق ضوء فانوسي وانطفأ، واحسستُ بأنني اسقط، اسقط، اسقط، واتكسَّر، اتكسَّر، اتكسَّر فتافيت.

  "حلَّ الظلام حولي في الغرفة الكبرى، وامتلأَ الظلام بازواج من العيون. احسستُ أنني مشوَّه. أما زوجتي الشابة الجميلة العارية فما عُدتُ أراها، لأنني غرقتُ في الغيبوبة او الظلمات مرة اُخرى." يقول مُنهيا احلامه، وينتظر جواباً من الصوت الأنثوي الرقيق باهتمام.

-" أقلتَ أنك احسستَ بأنَّك، في حلمك الاخير، تسقط وتتكسَّر وتصبح مشوها؟" يسأله الصوت الأنثوي الناعم بفضول.

-" نعم!" يقول خائفاً مرتعشاً.

-" وماذا عن ازواج العيون؟ "

-" بعد أن غرقتُ في الظلمات، وكان ضوء فانوسي قد انطفأ، وانتهت احلامي، شعرتُ أنني لستُ قادراً أن أرى أي شيء حولي بوضوح، كأنَّ لي عدة ازواج من العيون او أنني اعاني من تشتُّت بصري. لم أكُن استطيع أن اُركِّـز نظري في شيء محدد! "

-" هل انطفأ فانوسك كُلياً ام أنَّه نُوِّسَ ضوؤُه؟" يسأله الصوتُ الأنثوي الرقيق ببرود ولامبالاة كأنَّه توصَّل لحقيقة ما.

-" ضوؤُه انطفأ كلياً، ولم يعُد وجود للبخور المتصاعد من جسدي والمشبع برائحة عرقي. ماذا يعني كلُّ هذا يا "حياتي"؟ "

-" يعني أنك ستشفى قريباً من مرضك، ورُبما تعود الى "الفردوس" أيضاً."

-" ماذا عن هذا الظلام البغيض؟ ألا يمكن أن ينقشع؟ "

-" كيف ينقشع وقد انطفأ فانوسك وخرجت منه احلام الحياة واشباحها؟ لن ينقشع ما لم تتخلَّص من جسدك المشوَّه." يقول الصوت الأنثوي الرقيق بهدوء ودفء.

 

 

5- ما بعد الرؤى

 

-" هل جسدي مشوَّه فعلاً؟" يسأل الغريبُ الصوتَ الأنثوي بوجل "ألم أكُن مشوَّهاً في الرؤى وحسب؟ "

     لكن ليس من وجود إلا للصمت المُطبق. الصمت غيبوبة بلا رؤى او احلام. ازواج العيون مُعَلَّقةٌ في الظلام؛ والرؤية مفتَّتة، كشظايا لوحة من الزجاج. مئة عين او نحوها تنظر اليه، تحدِّق فيه، تتحسَّر عليه، وبعض العيون تنتحب وتولول.

-" سيغادر الى "الفردوس" ويتركنا! من يُصدق هذه الفاجعة؟" يولول صوت لعينين معلقتين في الظلام.

-" يا "حياتي!" يا "حياتي"!! "

-" ماذا تقول؟ "حياتي"؟ أنتَ على بُعد قليل من موتك وتدعو حياتك؟ آه، يا ليتني كنتُ بدلا منك!! "

-" رُبما تقصد أمُنا "حياة"؟ لقد ماتت زوجتك يا والدي منذُ زمن بعيد! آه، آه!" ينتحب صوت آخر بلوعة. "مَن كان يصدِّق أن ابي يحتضر؟ آه! "

-" ابي، ابي! "

     بصعوبة بالغة تعتريه حُشاشةُ رؤيا غريبة ومشوَّشة، وفيها يظهر المكان ضبابياً. يرى ازواجاً من العيون حوله، ويرى نفسه ملفوفاً بقماش ابيض ناصع.

-" يا "حياتي"!" ينادي الصوتَ الأنثوي عبثاً. "مَن هؤلاء يا "حياتي"؟ "

 يتعالى النواح والعويل. "أنَسيتنا؟ إنه فاقد الذاكرة. آه يا والدي! "

-" ألا تذكُرني؟ انا ابنك. وهؤلاء ابناؤك وبناتك واحفادك!" يقول صوت آخر.

-" حياتي، أين يحملونني ويأخذونني؟" يصرخ ويتخبَّط جسده في ظلماته.

-" انظروا! إنه يحتضر!" يتحسَّر صوتٌ مُشْبع بالألم.

-" يا حياتي! يا حـيـاتـي!!! " يصرخ هائجاً حتى تصيبه حُمَّى خوف شديدة. "اتركوني! اتركوني! "

 فجأةً : "لا تصرخ! إذا صرخت فلن يفهموك!" يأتيه الصوت الأنثوي الرقيق.

-" يا حياتي، إنني مُسجَّى ها هُنا. يقولون إِنني احتضر. واناديك فيقولون انك توفيتِ. "

-" ما زال يهذي! "

-" اموت؟ أنسيتَ؟ إنني لا اموت. انا سرمدية الوجود. انا مَن تعيش منذ الأزل حتى الأبد! "

-" انظروا كيف يُحدِّق في الجدار!" صرخ صوت ما.

-" انقذيني من ازواج العيون، يا حياتي!! "

-" حياتك لم تعُد لك. انتهت كلُّ احلامك ورؤاك. ها انا شفيتُك من مرضك. كلُّ شيء انتهى. فرغ فانوسك السحري من الاشباح والمردة الشريرة. أنتَ معافى. بعد قليل ستعود الى موطنك الأصلي. كما أن لديَّ مرضى آخرين، كلُّ واحد منهم يعيش في غرفته الخاصة به. أتعتقد أنني "حياتك" وحدك؟!" يعاتبه الصوت الأنثوي برقَّة.

-" لكنَّني سأموت يا "حياتي"!" يقول وجلاً.

-" ما زال ينادي "حياته!" كيف لي أن احتمل هذا؟ آه!" ينوح صوت ما.

-" لا، لن تموت!" يُطمئنه الصوت الأنثوي هادئاً كعادته. "بل ستغشاك ظُلمةُ الصمت الأبدية. ستكون كاملاً، كما كنتَ قبل أن تدخل الغرفة المظلمة الكبرى، قبل أن تعيش حياتك، قبل أن تعيشني! ستكون كاملاً. ستكون لاشيئاً. لن تحتاج شيئاً. فلا تجزع أيها اللاشيء، سوف تكون في احشائي - وستكون بي - شيئاً!!" يقول له الصوت الأنثوي برقة ودفء.

-" مَن ازواج العيون هؤلاء الذين تُخيفني اصواتهم؟ "

-" إِنهم بعض مرضاي، مرضاي الجُدد، الذين ستُخلِّفهم وراءك بعد أن تُغادر الغرفة المظلمة الكبرى. "

-" الى اين يحملونني ويذهبون بي؟ "

-" الى ما بعد هذه الغرفة، الى ما بعدي، الى ما بعد حياتك العرَّافة. سيعيدونك الى الغرفة المظلمة الصُغرى، ثم تخرج الى موطنك الأصلي، الى عالم الكمال، الى عالم السكون، الى اللاشيء، الى ما بعد الرؤى، الى الضياء، الى بلدتك "الفردوس"، ألا تُريد ذلك؟ "

-" بلى، أريد. "

-" حرارته تنخفض! آه!" يصرخ صوت ما. "اصبح لونه ازرقَ! "

-" أقُلتَ أنك تُريد أن تعود الى "الفردوس"؟" يسأله الصوت الأنثوي، ثانيةً.

-" بلى، أريد! "

-" لقد اصبح لونه أشدَّ أزرقاقاً! "

     فجأةً، وهو ينظر الى الظلام الذي يُحيط به، تزول عن الوجود بقعتان من الظلام، فإِذ بهما تلكما العينان اللتان كان احياناً يراهما حين يسمع الصوت الأنثوي الرقيق. "أنتِ ما زلتِ موجودة يا حياتي!؟ "

     لا يُجيبه شيءٌ إلا الصمت وصمت العينين. ثم يتلاشى امام عينيه حجاب غير مرئي، فإِذ -ويا للعجب! أية صُدفة! كلا، ليست صدفة!- فإِذ يرى، يرى -ويا للعجب! غير معقول!- يرى، يرى ...

-" أنتِ، أنتِ تشبهين .. وجهك، ملامحك، عيناك.. كلا، كلا، بل أنتِ مَن رأيتُ في حلمي الاول! نعم، أنتِ الصوت الأنثوي الرقيق، وأنتِ العرَّافة التي رأيتُ وجهها وقالت إِنها تُدعى حياة.. أنتِ كلاهما! أنتِ كلاهما! "

-" إنه يهذي، يهذي! أي مصير حقير نسعى اليه! آه! آه!" يبكي صوت ما.

-" ها هم جفناه قد اُسدلا الى الأبد!" ينوح صوت آخر ويشتدُّ بكاؤه.

-" أنتِ كلاهما!" ثم، امامه، يرى، يرى الظلامَ كلَّه ينحسر ويتلاشى نهائياً، ويغمر عينيه ضياءٌ ساطع قوي.

-" لا! لا يمكن أن يكون هذا! لا استطيع أن احتمل وجودك المطلق يا "حياتي!!" لا احتمل الحقيقة المطلقة العارية، حقيقة الموت، حقيقة الحياة، حقيقة حياتي، حقيقة عرَّافتي، حقيقة وجودي!! لماذا أنتِ عارية؟ لماذا كشفتِ لي عن نفسك؟ لماذا لم تجعليني اعرفك وأراك من قبل؟ آه، الخوف يُزلزل كياني، يدمِّرُني!" يصرخ وجسده يرتعش.

-" كيف تقول إِنك لم ترني عارية من قبل؟ ألا تذكرني؟ ام أن ذاكرتك على حالها؟ "

-" لا، بل رأيتُك! نعم، أنتِ، آه، أنتِ، نعم أنتِ الفتاة العارية التي قالت إِنها "زوجتي".. وأنتِ أيضاً العرَّافة.. نعم، نعم، أنتِ زوجتي والعرافة حياة والصوت الأنثوي الرقيق والمرأة ذات الوجه الجميل.. آه، أنتِ، أنتِ كنتِ معي دوماً، وانا كنتُ اجهل ذلك! ماذا، ماذا تفعلين؟" يسألها إذ يراها تُعرِّيه وتتحسَّس جسده المشوَّه.

-" أحمِّمك الحمام الأخير لتكون طاهراً وتخرج الى ’الفردوس.‘  "

-" والى أين يحملونني الآن؟" يسألها. " يـا ’حـيـ ..‘  "

-" إِنَّه يلفظُ حياته!" يصرخ صوت ما في الظلام.

     يحملونه في الظلام، كما حُمِلَ وأتِيَ به الى عرَّافته، حياة. يُسجُّونه في الشِّقِّ اللحدي. يغطُّونه بالظلام والعتمة. المكان موحش وبارد. يشعر بالبروده، يشعر بالوحدة، يشعر بالغربة. فجأةً ينفتح شقٌّ طوليٌّ يتَّسع ويستطيل. يتَّجه اليه، حاملاً جسده البارد الرطب. يزحف عبر الشق. ويجدهم جميعهم هناك، خارج الشق، ينتظرونه ليلعبوا في "الفردوس." 

21 حزيران 1988

 

 

 

الكوفية

 

 

كان صبيان يجلسان على جدار من الحجارة، على هامش احد الممرات الفرعية، يحدِّقان في الشارع العام المؤدي الى البلدة. كان دخان ابيض شيطاني ينتشر في الشارع البعيد. وكانت جمهرة كبيرة من الشبان ذوي الرؤوس الملتفعة بالكوفيات يظهرون للحظات بين الحين والآخر، ثم يتلاحمون مع الدخان حيناً، ثُم سرعان ما يبتعدون عن النفث الشيطاني الخانق.

     كلَّما بدا أن المواجهة خفَّت حدَّتها، عادت الرؤوس الملثمة تنطلق كالمردة من طيات الدخان، وتقذف الحجارة. كانت اصوات القنابل الغازية تلعلع من جديد في انحاء البلدة بوحشية اشد من ذي قبل. أما العلم فقد ارتفع خافقاً منذُ الصباح، وما زال يرفرف. نظر الصبيان الى العلم. قال احدهما، وهو لا يتجاوز ثمانية اعوام، أن ليس ثمة فرق بين علم البارحة الكبير والعلم الجديد لأن قيمته بنفسه والوانه.

-" ولو كان مرقَّع؟" سأل الآخر.

-" ايوة، حتى لو كان مرقَّع.. برضة بظل علم.. " قال الصبي الآخر وهو واثق من كلامه، "هذا اللي قاله نضال، اخوي.. "

     كان العلم يرفرف. أخذا يراقبان ما يجري وهما فوق السلسلة الحجرية. من جانب الممر الفرعي، كان اهالي البلدة يمرُّون مسرعين جيئة وذهاباً. كان الاولاد والبنات من جيلهما يأتون باخبار المعركة، وبعضهم غلبتهم الحماسة فأخذوا يركضون نحو الدخان الابيض بجرأة وتحدٍّ. كانت الامهات والعجائز يصرخن ويتشاورن، وبعضهن ينقل المياه بالأوعية. كانت الفتيات يدخلن البيوت المجاورة، ويخرجن بسرعة وهن يصحنَ، "بدنا بصل.. جيبوا بصل!" اما كبار البلدة وشيوخها فكانوا يُتعتعون الصخور الكبيرة على الممرات لكي تكون حاجزاً خلفياً في حالة أن يخترق الجنود الحواجز الامامية. وكان بعض الشيوخ ينقل الحجارة الى ميدان المعركة في الشارع العام، كلٌّ حسبَ مقدرته.

-" بحِّر! هناك سعيد الحداد بضرب حجارة عَ الجيش!" قال احد الصبيين.

-" لأ، هذا اخوي!" قال الصبي الآخر، الذي كان يمرِّن يديه بمقلاع، بنبرة تنمُّ عن ثقة كبيرة بالنفس.

 احتج الآخر واصرَّ، "لأ، هذاك سعيد الحداد.. "

-" بحِّرْ في الكوفية!" صاح الصبي الواثق، وهو ينظر فيما بين الدخان، "هذيك الكوفية كوفية ابوي! بس نضال، اخوي، لابسها.. "

  نظر اليه الصبي الآخر باستهتار، "كيف عرفت انها كوفية ابوك؟ "

-" بعرفها من بين ألف كوفية، وعلى بُعد مية متر.." قال الصبي الواثق بنفسه، وأخذ يحدق بالدخان والرؤوس الملثمة حتى اهتدت عيناه الى كوفية أبيه التي التفعها اخوه، "مثل ما بعرف انو هذه امينة. "

    مرَّتْ امينة قربهما بسرعة، متجهة نحو الشارع العام. لكنها لمحت الصبيين، فالتفتت اليهما للحظة، "ما تعمل ايشي، انتَ واياه! "

صاحت بصوت مرتعش، وذهبت. كان الصبي الواثق بنفسه ما زال يتابع الكوفية بعينيه، ولم يحرك ساكناً لنداء امينة. أما الصبي الآخر فتململ، كأنَّه احسَّ بذنب اقترفه، وقال مقترحاً، "يللا نعمل ايشي! ليش ما ننقل حجارة للشباب؟ "

-" انا بنقلش.. انا بس بضربها عَ الجيش.." قال الصبي الواثق بنفسه، واسقط عينيه الى الارض.

-" طيب، يللا.." قال الاخر، نهض واقفاً، وتهيأ ليحمل حجراً كبيراً. "انا بنقل حجارة، وانتَ تضربها! "

-" انا مش رايح!" قال الصبي الواثق بنفسه، وما زال المقلاع في يده. والقى نظرة سريعة على الشارع البعيد. في لحظة واحدة لمح كوفية أبيه من بين كوفيات عديدة.

-" أنتَ جبان!" قال الصبي الذي شعر بالذنب، وحمل حجراً كبيراً، واتجه الى الشارع العام.

-" ( وَلَـكْ) انا بضرب بالمقليعة!" صرخ فيه الصبي الواثق بنفسه، "(ولك) انا مش جبان.. بضرب بالمقليعة.. علَّمني نضال.. سامعني؟ "

تناهى اليه صوت زميله الخافت الساخر به، "طبْ، ليش ما بدَّك تعمل ايشي؟ "

-" انا معيش كوفية.. " قال بصوت خافت، وعاد يجلس على الحجارة، حيثما كان. من المؤكد أن الصبي الآخر لم يسمعه، لأنه كان آنئذ خلف الاشجار التي تغطي جانب الطريق القريب. أخذ الصبي يحدق في راشقي الحجارة حتى رأى الكوفية، فطأطأ رأسه.

    عادت امينة ووقفت امامه. نظرت اليه. لم يُطِق ان ينظر اليها.

اخفض راسه للاسفل، وترقرقت في عينيه دمعة حزينة.

-" ما تقولي ايشي!" بادرها بالكلام، كأنه قرأ ما يدور بخلدها.

    امينة خطيبة اخيه نضال. كانت كأخته، رغم انه ليس لديه اخوات. امينة في العشرين من عمرها، جميلة الوجه وصافية العينين، وطيبة القلب.

اقتربت منه. "ليش ما تعمل ايشي؟" سألته. لم يقل شيئاً، وظلَّ رأسه مطأطأ. "ليش؟ انتَ مش صغير؟" لامته، ورفعت رأسه بيدها. فنظر اليها.

-" يعني لازم تغطي راسك؟ بتخاف عَ حالك؟" قالت واقتربت منه، "بحِّر، في شباب كثير مش لابسين كوفيات! "

-" بس.. بس نضال حكى لي انو اللي بغطي راسه ببطل يشعر بخوف، وبصير يحسُّ كأنَّه كل القرية!" قال بصوت مرتعش، كله اثارة، "واللي بكشف راسه يمكن يشعر بفخر قدام الناس... "

-"يا ربي!" قالت امينة في نفسها، "قديش بيكبروا الصغار بسرعة!" ونظرت اليه، وسألته، "بس؟ ما في سبب ثاني؟ "

    تململ، وازاح نظره عنها، وأخذ ينظر نحو الافق، حيث يتلاحم الشبان والمتظاهرون مع الدخان الشيطاني الذي أخذ يتلوى كحية عملاقة، بينما تردَّدت في الاجواء طلقات نارية. كانت امينة تعرف بأنه يوجد سبب آخر لعدم مشاركة الصبي في ما يجري؛ أراد الصبي ان يأخذ الكوفية التي التفعها اخوه، نضال، وهي الكوفية ذاتها التي التفعها والدهما يوم استشهد قبل سنوات في عملية ضد الاحتلال. لكن نضالاً احتفظ بالكوفية لنفسه، ولم يسمح لاخيه الصغير بأن يأخذها.

-" لهذا السبب برضة.." قال الصبي بصوت خفيض، مسلِّماً بالحقيقة.

نظرت اليه امينة، وملأها الفخر. "انت مش ممكن تكون جبان! "

-" انا قلت هيك لايمن!" قال وضحك مسروراً.

-" يعني؟ "

-" يعني راح اقوم ع الشارع.." قال ونهض، وفي يده مقلاعه. لكن امينة اوقفته. نزعت عن رأسها شالها المطرز باعشاب وازهار زاهية الالوان، وكان له اطار مطرز بالطيور والحمام.

    رأى الصبي شعر امينة، الجميل، المُحَـنَّى بلون الارض الصهباء.

استسلم لها وهي تلف الشال على رأسه الصغير. لم يظهر من رأسه إلا عيناه. القى نظرة خاطفة على الشارع. كان الرصاص يزأر بوحشية، ونفثت الآلات الحديدية الشيطانية لهبها الابيض الخانق.

-" هالحين، انتَ فدائي وضارب حجارة مثل ابوك واخوك.." قالت له، وضمَّته الى صدرها. ركض متَّجهاً نحو الشارع العام. "إن مسكوك الجنود وسألوك عن المنديل، قول انه في مثله كثير بالقرية. وإذا بدهم صاحبته، قول لهم يعتقلوا كل النسوان او يعتقلوا القرية كلها!" صرخت بصوت عال.

    نظر اليها، هزَّ رأسه، ثم استدار نحو الشارع العام. في لحظة ما، وقف لينظر الى الكوفيات. في تلك اللحظة الابدية لمح كوفية أبيه تهوي ببطء على الارض، ولمح الشبان والاهالي يندفعون من كل اتجاه نحو نضال، الذي خرَّ على الارض، وهم ينبثقون من بين الدخان الابيض. نظرة هلع قفزت الى عينيه.

-" نضال!!! انا جاي! صرخ وجرى نحو المعركة في الشارع العام، حاملاً بيده مقلاعاً وحجراً.

18 حزيران 1988

 

 

هزائم صغيرة

 

حالما عتَّب الشارع، داهمته مدينته، الرام. للمرة المليون يرى مدينته تقيُّحاً يسري متشظِّياً في بدنه. بنايات خرسانية متورَّمة تنفث في الجو رائحة الفوضى. شوارع تبتلع حفرُها الناس والسيارات، وفي الشتاء تصبح مستنقعات يتكاثر فيها نكد موحل. وأرصفتها غير الموجودة تحفُّها اشجار وارفة من النسيان واللامبالاة. مرةً أخرى شعر بأنَّ مدينته حالة من صمت لا يمكن أن يفسرها أحد.

     قبل اسبوعين استقال من الشارع. اعتكف في البيت لعلَّه ينسى هذه المدينة، الرام، المنسية عند حافة القدس، القدس القصية عن عينه والمُحرَّمة عليه. كان قبل إجازته يشعر كلَّ يومٍ بأنَّه يرى الرام للمرة الأولى، يفغر وجعَه على مصراعيه بصمت لا يمكن تفسيره، ويلعن اللحظة التي خرج فيها من القدس واستأجر بيتاً منذ تسع سنين في هذه الرام.

     كان كلَّ يوم يقع في احدى الحفر المبثوثة في شوارعها، ويستغيث بالناس لكن لا أحد ينجده. وكثيراً ما ظنَّ أن كلَّ شخص في الرام يقع في حفرة خاصة به ويستغيث من ذلك الصمت المُصمِّ الذي لا يمكن أن يفسره أحد. ولحقت به زوجته وهي ترجوه، "أرجوك يا سالم، لا تذهب! ادرك الآن اننا في وضع مختلف وجديد، لكنني زوجتك وأنت زوجي!"

-" ايناس، افهمي موقفي، ارجوك! أنا شخص آخر الآن، الرام ليست الرام، وأنتِ لستِ أنتِ!"

     كان ثمة صمت طويل لا يمكن أن يفسره أحد يمتدُّ بينهما كأنَّه مسافة لانهائية من ثكل وحسرة. حاولت أن تخطف مُغلَّفاً كان بيده، لكنه انسلَّ بعيداً عنها، والناس تحملق فيه بضجر وشماتة. حاولت أن تتبعه، فوقف فجأةً وارتطمت به، "أرجوك، اتركيني! لا استطيع أن احتمل نفسي! منذُ عشر سنوات وأنا مخدوع بكِ وبأمي وبيتي والأهم من ذلك بنفسي!! لماذا لا تصدقينني!؟ يجب أن استقيل!"

     تركته يذهب. القم جسده اقرب سيارة مُتجهة إلى رام الله. إنَّه لا يطيق الرام. وهو محروم من دخول القدس. إذن، سيمضي اليوم بطوله في رام الله. وصل إلى الصحيفة مُبكِّراً قبل موظفة الاستقبال والمحاسب والمدير الإداري. منذُ أن وصل ارتمى على أحد الكراسي جثةً هامدةً تلوك صمتاً لا يمكن أن يفسِّره أحد.

     كان الجميع يحملقون فيه وهم رائحون وغادون. كان يرى مدير الصحيفة الإداري يصرخ بالسكرتيرات تارة وفي الهاتف طوراً آخر قائلاً، "نريد مزيداً من الإعلانات.. هاكم، انظروا إلى الصحف المنافسة، وأنتَ يا وكيل الإعلانات المحترم، أُريدك الآن أن تحضر هذه الإعلانات إلى صحيفتنا! كم مرة عليَّ أن أقول إن الصحافة هي الإعلان!؟"

     رأى السكرتيرات ينقرن أزرار لوحات الحواسيب ويحملقن فيه بارتياب دونما سبب حملقةً جعلته اشدَّ وجوماً وتحفُّزاً للتحجُّر. صحا على صوت أجش ووجه أجرب، "ماذا تفعل وأنت جالس هنا!؟" من المؤكد انه المحرر المسؤول أو صاحب الصحيفة. لكنه لم يقل شيئاً. لم يكن بوسعه أن يفعل شيئاً. نظر ذو الوجه الأجرب نحو جميع الموظفين نظرات تحمل السؤال نفسه، فاجابته موظفة الهاتف والاستقبال، "إنه هنا منذ الصباح، هكذا ومعه مغلَّف غريب."

     حملق فيه المسؤول وسُرعان ما استظرفه. تساءل وهو يضحك، "ماذا يريد، إذن؟" فقال له المحاسب، "يريد أن يراك!"

-" ادخلوه!"

     أراحه مكتب المحرِّر المسؤول. ثمة صورة كبيرة لمدينة نيويورك في الظلام، بنايات سامقة، تشعُّ فيها شبابيك كثيرة. امعن النظر ببعض النوافذ ولم يرَ ظلاً انسانياً واحداً. احسَّ بتربيتة المحرر على ظهره، فخرج حالاً من نيويورك الغارقة في مستنقع متألق من الظلام وعاد إلى رام الله.

-" أنا كلُّ شيء هنا، المحرر المسؤول، رئيس التحرير، صاحب الصحيفة، وما شئت، لكن قبل كلِّ شيء، تريد قهوة أو شاياً؟" سأله.

-" لا داعي. الوضع لا يحتمل!" قال وهو يكاد ينفجر من الغضب، ووضع مغلَّفه على طاولة المحرر الكبيرة.

-" على الأقل اجلس!"

-" لا وقت لدي. إنني انتظرك منذ الصباح. وأنا متعب أيضاً من الجلوس!"

-" ما بك اصبحت غاضباً؟" سأله المحرر وتناول المغلف، فتحه وقرأه مراراً بامعان، "أنا المدعو سالم عبد الرحمن اطلب أن تعفوني من... ما هذا الكلام؟"

-" كتاب استقالتي!"

-" استقالة من ماذا؟"

-" اوف، من ماذا يعني؟ من جسدي؟ من الرام؟ من حمولتي؟ من العمل طبعاً!"

-" لا داعي للصراخ، ارجوك! لا تُعطني انطباعاً بأنني ظالم وأنتَ المظلوم الذي هضمت حقَّه. إنني حقاً في صفِّك، وأريد أن اكون صديقك، والله! لا اعرف لماذا استلطفك، لكن على كل حال اشعر بأننا على الأقل يمكن أن نكون اصدقاء، صدِّقني!"

-" لكنني لن اتراجع عن استقالتي. لم يعُد بوسعي أن اعمل هنا!"

-" لكنك لا تعمل هنا!"

     حملق كلٌّ منهما في الآخر. مسح سالم عرقه عن جبينه، وارجع خصلات شعره الأسود الناعم إلى الوراء. ثمة نشيج صامت دوَّى في عينيه. كم أراد أن يبكي.

-" رغم ذلك أريد أن اقدِّم استقالتي!!"

-" افعل ما شئت، لكنني لن اقبل استقالتك!"

-" لماذا لا تقبلها، اللعنة؟ لا أريد أن اعبِّيء فراغات وحسب. انني اكتب بدمي، باعصابي، بعذاباتي. كلُّ ما اترجمه واكتبه لكم من مقالات ومراجعات كتب ودراسات لا تعدو كونها مادة تملأُ الفراغ وحسب. إنَّ هذه الصحيفة تمضغ نسغي وتلفظه غائطاً على صفحاتها كلَّ يوم. كلُّ ما اكتبه كذبٌ ودجل، إننا نغسل أدمغة الناس، نبيع لهم اوهاماً، نضلِّلهم. لا استطيع أن احتمل هذا النزيف. آخ، رأسي يدور، قدماي تؤلمانني.." ثم أخذ ينتحب، وهمد على الكرسي جثةً بلهاء تلوك صمتاً لا يمكن أن يفسِّره احد.

-" لماذا لا تشرب شيئاً، ها؟ شاي؟" سأله المحرِّر، فهزَّ رأسه دلالة الموافقة. "هل أكلتَ منذ الصباح؟" هزَّ رأسه نافياً. "سنأكل معاً بعد قليل، لكن يبدو لي انك بحاجة امسٍّ إلى شيء واحد اكثر من الشراب والطعام، تعرف ما هو؟"

-" الحذاء!"

-" هه هه هه.. نعم، كلا، كلا.. أنتَ حقاً تحتاج إلى حذاء، الآن فقط لاحظتُ انك لا تنتعل حذاءً.. هه هه.. منظر فريد، رائع.. لكنني قصدتُ.. هه هه.. شيئاً آخر.. وهو العمل. اسمعني، اسمعني جيداً، اسحبْ استقالتك اولاً، ثمَّ قدِّمْ طلباً جديداً وسوف تحصل على عمل جديد لا تكتب فيه شيئاً لكي لا تمضغه الجريدة وتلفظه كالغائط.. هه هه.. آ، واللهِ!.. اكتب فراغاً، اكتب بياضاً، اكتب سواداً، وبالاشكال التي لا معنى لها، والاحجام التي تريد، اكتب ما شئتَ.. أنت طاقة ابداعية، من المؤكد انك تحب كرة القدم.."

-" بل العدو!"

-" لذلك قدماك داميتان؟"

-" كلا، قدماي داميتان لأنني لم اجد حذائي في البيت هذا الصباح."

-" وكيف ضاع؟"

-" ارجوك، لا تحرجني!"

-" قُل لي؟"

-" إِنه سر مزعج!"

-" هيا، قله!"

-" لا استطيع!"

-" ارجوكّ!" كانت السكرتيرة قد احضرت صينية عليها سُكَّرية، وملعقة وكأسي ماء وشاي فيه شريحة ليمون، فشكرها وارتشف بضع رشفات متلاحقة. قال له المحرِّر، "من أجلي، قلْ لي ما هو السر!"

 فقال، "استيقظت صباح اليوم وشعور غريب ينتابني. بدأت القصة من الحذاء. منذُ اسبوعين وأنا في اجازة من الصحيفة. في الاجازات احبُّ قضاء كلَّ الوقت في البيت. استيقظتُ على لمسات زوجتي وقبلاتها كأنَّها تودعني الوداع الأخير. قلتُ لها: سوف اتأخر عنكِ ثماني ساعات واعود اليك والاولاد. ومع ذلك امضينا وقتاً ممتعاً واستحممنا معاً، ثم حلقتُ لحيتي، قصصتُ  اظافري، غسلتُ ملابسي التحتية -هذه عادة تعلَّمتُها وأنا ادرس في الخارج- ثم ارتديتُ بذلةً كانت بمقاسي، لا اعرف من اين أتت، لم أرَها من قبل، لم اشترها، لم تشترها زوجتي، اعجبتني فارتديتُها، ثمَّ بحثتُ عن حذائي ولم اجده، تصوَّر؟! لم اجد حذائي!"

     كان المحرِّر المسؤول مأخوذاً بكلام سالم عبد الرحمن. ومنذ أن ذكر قصة البذلة، أخذ ينظر اليها وهو لا يصدِّق. كان المكتب قد تكدَّس فيه المحرِّرون، والفتيات الطابعات، والحرَّاس، والمحاسب، وموظفة الاستقبال، والموزعون، وسكرتير التحرير، والسائقون، والسكرتيرة، والمدير الإداري، وهم يُصغون اصغاءً تاماً.

-" لم تجد حذاءك؟"

-" كلا، بل وجدتُ هذه البذلة،" قال سالم عبد الرحمن وعبَّ ما بقي من الشاي دفعةً واحدة.

-" ثم ماذا حدث؟"

-" ادركتُ عندئذٍ انني لم اكن في بيتي، وان تلك المرأة التي احبُّها واتشاجر معها منذ عشر سنوات ليست زوجتي، واولئك الاولاد ليسوا أولادي، وانني لستُ ايايَ، وانني فوق كلِّ هذا استمتع بقضاء اجازة ليست اجازتي!"

     ازدرد ذو الوجه الاجرب جرعةً من الصمت لاكها بكسل. امتقع هدوؤه. وبعد برهة مشحونة بنظرات الموظفين، قال، "الغريب انني ايضاً شعرتُ بهذا الشعور ذاته هذا الصباح، لكنني كابرت ثم ضحكت على نفسي. الحقيقة انني شعرتُ انني لستُ أنا نفسي، لستُ المحرِّر المسؤول، ولا رئيس التحرير، ولا مالك الصحيفة، وكنتُ اليوم في بيت لا اعرف مَنْ كان فيه."

-" وما الذي جعلك متأكِّداً من ذلك؟" سألته السكرتيرة.

-" الحذاء.. لقد وجدتُ في بيتي حذاءً ليس لي. قلتُ لزوجتي: هذا ليس لي! ضحكت وعانقتني وقبلتني وقالت: يا عيب الشوم، لمن يكون إذن يا بايخ!

- واللهِ ليس لي!

- هيا انتعله! لا تكن ثقيل دم!

     قلتُ لها مئة مرة أن الحذاء ليس لي وأنا احاول أن اكظم غيظي وهي تقول: بل لكَ! هيَّا انتعله، يا سمج! قلتُ لأمي وبناتي: أتذكرن حين اشتريتُ حذائي معكن.. هذا ليس حذائي! لم يقلنَ شيئاً، فأدركتُ انَّ من رافقني لشراء حذاءٍ لي لم يكونوا امي وبناتي، وانني كنتُ مخدوعاً بالجميع منذ أمد طويل، وذهب كلُّ واحد منهم ليبحث عن حذائه، وأدرك الجميع انهم ليسوا هم انفسهم. إنَّ الأمر غريب. زوجتي لم تكن زوجتي، وامي لم تكن امي، وبناتي لم يكنَّ بناتي. لكن احداً لم يجرؤ على أن يقول شيئاً. كانت ثمة جبال صلداء من سكوت متواطئ يفصل ما بيننا جميعاً. لكنَّك علَّمتني أن انطق بالحقيقة.. كلا، لستُ محرِّرا ولا بطيخاً. لأخلع حذائي. اتركوني، ارجوكم.."

     كان سالم عبد الرحمن شارد الذهن منذ وهلة وهو يتأمل بامعان صورة نيويورك مرة أخرى. يبدو انه لم يسمع المحرر المسؤول وهو يناجي نفسه، ولم يره وهو يخلع حذاءه ويشقُّ اجساد الموظفين ويخرج من بناية الصحيفة. وحالاً أخذ الموظفون في آنٍ واحد يخلعون أحذيتهم ويدركون حقيقة انهم ليسوا هم انفسهم، وخرج الجميع إلى الشارع، وتركوا سالماً وحيداً يناجي حيادية نيويورك الغارقة في ظلمة متألِّقة. حاول أن يبحث في الصورة عن انسان، ظلِّ انسانٍ، شيءٍ ما يرمز لانسان، وفعلاً رأى ظلاً انسانياً في نافذة في احدى الطوابق العليا من ناطحة سحاب. قال له، "هالو، هالو، كيف الحال؟"

-" لا بأس!" ردَّت علية امرأة لم يرَ إلا ظلَّها.

-" اكتشفتُ اليوم انني لستُ اياي!"

-" هذه مصيبة! كيف حدث ذلك؟"

-" لم اجد حذائي في البيت. عندئذٍ أدركتُ انني منذ عشر سنوات اعيش في بيت ليس لي، واعاشر زوجة ليست زوجتي، واعيش في مدينة متقيِّحة.. أنا انسان آخر.."

-" لا اسمعك!"

-" اقولُ لكِ انني اعيش في مدينة متقيحة.. وانني انسان آخر لستُ اياي.."

-" لا اسمعك، ارفع صوتك!"

-" طظ!" وبصق على الظل الانساني الصغير، فزوبعت في سماء نيويورك عاصفة شتائية شطفت وحدتها وحياديتها وظلمتها، ولم تعد متألقة كما كانت في عينيه من قبل. ترك بناية الصحيفة. أخذ يمشي في شوارع رام الله. كانت رام الله هي ذاتها التي يراها كلَّ يوم قبل قضائه اجازته من العمل، لكنَّ ثمة حركة غريبة وامارات غريبة تحترف اجساد الناس ووجوهم. ودنا من سالم شرطيُّ خلع حذاءه وشكا إليه اكتشافه المذهل، "وجدتُ اليوم انني لست شرطياً.. وانني انسان لست انا.."

     لكن سالماً شعر باعياء شديد وملل قاتل، فترك الشرطي وحيداً يخاطب نفسه، ولم يعُد يهتم بكلِّ الناس الذين كانوا يقفون على الارصفة والشوارع، يخلعون احذيتهم، ويقولون تفاهات. وقال راكب صعد إلى سيارة السرفيس المتجهة إلى الرام من ساحة المنارة، "اعرف انَّ حذائي ليس حذائي، وأنا لستُ نفسي، وفرحي غير العادي اليوم ليس فرحي، ربما كان من المفروض أن اكون حزيناً اليوم؟ ربما نهبتُ فرح شخصٍ آخر؟"

     ثم اوقف السائق السيارة في مكان ما. وحين استفسر الركاب ما عدا سالم عن سبب التوقف، قال السائق وهو يبكي، "اكتشفتُ الآن انني لستُ اياي، وانني اسوق منذ عشرين عاماً سيارة ليست سيارتي، واتحدث مع ركاب ليس من المفروض أن يكونوا ركابي، تصوَّروا؟ والأدهى من ذلك، ماذا يضمن لي انني اتجه إلى المكان الذي يُفترض أن اتجه اليه؟ اليس من الممكن أن نتجه إلى المكان الخاطئ؟"

     نزل الركاب من السيارة، ونزل معهم سالم. كانت سيارات كثيرة قد توقفت في عرض الشارع العام واعاقت حركة المرور. لم تكن ثمة صفارات مزعجة، ولا شتائم نابية، ولا عراكات. وأخذ سالم يمشي في شارع رام الله-القدس العام وهو يشعر بملل شديد من كلام الناس التافه واسئلتهم الممجوجة. آلمته قدماه الحافيتان، وشتم حذاءيه، والصحيفة، والمحرر المسؤول، والناس، والسيارات والطريق العام.

     كان الطريق العام حاوياً حاذقاً يعرف تماماً كيف يجرجره إلى اعتاب الرام بشعوذته وسحره. كان مفرق الرام على غير العادة خالياً من السيارات والناس. كانت ثمة هالة غريبة من غموض وصمت لا يمكن أن يفسرها أحد تخيم على الرام كلها. وقف. اصاخ السمع. وجد قدميه تسوقانه إلى الحاجز العسكري الذي يمنعه جنوده من دخول القدس. شيئاً فشيئاً أخذ يرى جيبات عسكرية، وسيارات شرطة عسكرية، وقوات مشاة. لم يرَ سيارة واحدة يسوقها عربيٌّ تتجه إلى القدس. كان يعلم أن الجنود لن يسمحوا له بعبور الحاجز العسكري ودخول القدس لأنهم كانوا قد سحبوا هويته منه، فلم يعد يحق له أن يدخلها.

     رأى سيارة جيب تمرق من الحاجز، وقفت وترجَّل منها ختيار، دفشه الجنود وقالوا له، "إذا عدتَ إلى القدس، سنشلع أذنيك، هل تفهم؟"

 اقترب سالم من الختيار، وسأله، "ما الأمر؟"

-" قبل ساعات حدثت هنا أمور غريبة، وفاضت القدس بفلسطينيين تدفَّقوا اليها. ثمة حملة كبيرة الآن تشنها السلطات لاخراجهم منها.."

-" ماذا حدث؟"

-" لا نعرف كيف حدث ذلك. الأمر ببساطة إن جنود الاحتلال عند الحاجز خلعوا بساطيرهم، وصحوا فجأة على حقيقة انهم ليسوا هم انفسهم، وانهم يحملون اسلحة نارية لا تخصُّهم، ويرتدون بزات عسكرية ليست لهم، ويتحدَّثون لغةً منذ طفولتهم ليست لغتهم، ويربضون في مكان لا يعرفونه، ويشعرون بأنَّ ثمة مشاعر بغض اثمرتها في قلوبهم وفي قلوب كثير من الفلسطينيين حروب صغيرة لا يعرفون حتى الآن لماذا شاركوا فيها وقتلوا فيها اشخاصاً لم يؤذوهم، وقُتِلَ فيها اصدقاء لهم لم يؤذوا احداً أبداً، ثم تركوا الحاجز، وتدفَّق أهل الرام إلى القدس.." قال الختيار لسالم، الذي اعتراه وجوم لا يمكن أن يفسِّره احد. "ما بِكَ يا بُني؟"

     لكن سالماً لم يستطع أن يقول شيئاً. ودَّ لو يقتحم بجسده الحاجز ويذهب إلى القدس. عاد ادراجه إلى الرام الخالية من الناس. شتم الاستقالة التي قدمها. شتم نفسه. لو بقي في الرام اليوم، لتسلَّل إلى القدس مع من تسلَّلوا اليها. بصق. تفاجأ انه يتجه إلى البيت الذي ادرك هذا الصباح انه ليس بيته. وقع في حفرة عميقة في وسط أحد شوارع الرام. استنجد بأحد ما، أيِّ أحد. وفعلاً أتت زوجته وابناؤه وانقذوه. سألهم، "ماذا تفعلين هنا يا ايناس؟ الم تذهبوا إلى القدس؟"

     قالت زوجته بحنو وأسى، "امُّك وابنك البكر، اللذان اتضح انهما ليسا أمك وإبنك، ذهبا إلى القدس، فالقى الجيش القبض عليهما واعادهما. انهما في البيت، صامتين صمت الحجر. اما أنا، فلم ارغب أن اترك البيت واجعل رجلاً -عشتُ معه منذ عشر سنوات واتضح انه ليس زوجي- ينتظر عودتي بفارغ الصبر!!"

     ذهب معهم إلى البيت. تناولوا الطعام معاً، شربوا الشاي معاً، تابعوا آخر الاخبار معاً، وتفرَّقوا بعد السهرة كلٌّ إلى غرفته لينام. مرةً أخرى تمدَّد سالم إلى جانب ايناس في لسرير. ورغم ان ايناس شعرت بأنَّ هذا الرجل الذي تعاشره منذ عشر سنوات ليس زوجها، وانها ليست هي نفسها، ثمة دافع صامت داخلها لا يمكن أن يفسره أحد جعلها تحاول أن تجسر الهوة التي بينهما. لاطفته، وضمَّته إلى صدرها، فأخذت روحاهما تنشجان بصمت لا يمكن أن يفسره احد، وناما في احضان احدهما الآخر وهما يدركان بأنهما في بيت ليس لهما، ويشعران بلذة وألمٍ ليسا لهما، وانهما ليسا نفسيهما، وانَّ هذا الصمت البلقع الذي لا يمكن أن يفسره أحد ليس صمتهما.

15 آب 1996

 

 

خزانة العطَّارين

 

لم يُطِقْ عائلة زوجته أبداً. كم تمنَّى لو أنَّ زوجته تيَّتمت من أهلها وهي صغيرة وأصبحت فرعاً مقطوعاً من الأهل لا لشيء إلا لترثَ خزانة والديها. إنَّه لا يطيق فتوحاتهم لبيته ليلاً ونهاراً. طلب من زوجته مراراً عدم استضافة أهلها في بيته، ولم تفعل. حرِد عن العودة إلى بيته احياناً بحجة انه نسي اين يقع، فلم يكسب إلا البهدلة وشماتة الناس؛ صار ذكره فضيحة بين الجيران. لم يُطِقْ الناسَ يوماً، لم يُطِق جيرانه.

     منذ أن تزوج وسكن في بيته، لم يُطِق العيش فيه. كان يحلم بالعيش في بيت حميه، حيث تعيش حبيبته الحقيقية، وهي خزانة انسبائه. بلغت غيرة زوجته عليه من الخزانة انها حردت إلى بيت والديها. طلبوا منه أن يردَّ زوجته إلى بيته، لكنَّه لم يذهب، الأمر الذي استغربه الجميع؛ توقَّعوا انه سيذهب على الأقل لرؤية الخزانة. لكنَّه لم يَعُد يطيق زوجته. حاول أن ينساها. وهذا ما حصل.

     افضل نعمة حباه الله بها هي النسيان. أدرك منذ طفولته المبكرة انه ينسى كلَّ ما لا يطيقه. لم يخبر احداً بسره ولا اقرب اصدقائه حتى زوجته. لقد استطاع بهذه القدرة السحرية الفائقة (أيّ النسيان)، أن يمحو عن الوجود عوالم كثيرة لا يطيقها. بل طوَّر هذه الموهبة الإلهية فحذف عن وجه الأرض امبراطوريات الفلسفة والفكر والسياسة والأدب والتعرصة التي لا يطيقها. وفعلاً نسي زوجته المسكينة.

     تفاجأ ذات يوم حين سمع صوتاً في الهاتف يرجوه، "الن تعيدني؟ أكلُّ زعلك من اجل خزانة؟ أنا تحبُّ عليَّ خزانة مُهَكَّعة؟! سامحك الله! ارجوك، تعال بسيارتك، وخذني من بيت أهلي." سمعها تُضيف بعد بُرهة من الصمت الناحب، "هكذا تقول لك أمي. ها هي معك!" وحماته مخلوق نسي آدم اسمها حين تعلَّم كلَّ الاسماء امام الله والملائكة، فلم يحفظ اسمها أحد. لم يُطِق حماته أبداً، ولا حماه، النكرة في البيت والنكرة في الشارع. لم يُطِق شارعهم وبيتهم؛ كان دوماً ينسى اين يقع بيت حميه.

قالت له حماته، "تعال وخُذْ البنت، وإلا معصتُ رقبتك!"

قال لها، "لقد نسيتُ بيتكم مرة اخرى. إذا أرادت، فلتعد وحدها!"

قالت له، "لتعُدْ عليك المصائب التي نسيتك منذ أن خلقتك امك يا ابن القحبة!! كان عليَّ أن ازوجها من طبيب أو مهندس، لا موظف كحيان ينسى اسمه احياناً! بنتُ الكلب تحبُّك. لو لم تكن تحبُّك، لما رأيتها أبداً. تعال وخذها.."

 قال مُداعباً، "كيف ساعرف بيتكم؟"

 قالت باستهزاء مُرٍّ، "سانتظرك على قارعة الطريق والوح بيدي، ما رأيك؟"

-" الحقيقة نسيتُ كيف تبدين."

-" قليل أدب وذوق! صحيح أنك سافل!" والقت السماعة أرضاً. سمعها تصرخ بأنَّها ستنتظره قرب الدار وتمزقه باظافرها واسنانها. وسمع حماه يتنحنح وهو يُمسك بالسماعة. قال له، "حماي، أنا آسف، نسيتُ وجهكَ أنتَ أيضاً!" فقال له حموه، "معليش يا ابني، لكن المهم لا  تنسَ وجه زوجتك!"

-" طيبْ، هل تراهن يا عمي انني نسيته!"

     القى والد زوجته السماعة على الارض، وبعد لحظة سمع زوجته تقول، "والحل؟ قلت لن اعود وحدي إلى البيت يعني لن اعود!"

 قال لها وقد وجد الحل، "أتعرفين خزانة والديك؟ اخرجوها من البيت، وضعوها عند الشارع. هكذا ساذكر اين يقع بيتكم."

     حالاً تذكَّرت حماته نقطة ضعفه، أي حبَّه للخزانة، فقالت لتغيظه وتبطَّ دمَّـل صلتهم به، "ألم تدرِ؟ لقد صرعت حماك امس نوبة غضب فحرق الخزانة؟"

-" الخزانة؟ خزانة العطارين؟ حرقها؟ لماذا حرقها؟" لم يُدرك المسكين أن حماته قالت ذلك كي يبتعد كلياً عن ابنتها، لكن النبأ صدمه حقاً. معقول أن تحترق الخزانة؟ كانت الخزانة كبيرة جداً، وجميلة جداً. كانت من خشب البلوط؛ وصمَّمها آخر النجارين التقليديين في البلد، رحمه الله. وقد احبَّ الخزانة من النظرة الأولى. أمَّا ما سحره فيها فهي جرَّاراتها الصغيرة والكثيرة المُزينة بنقوشات يدوية رائعة التصميم.

     لطالما احبَّ أن يدعوها بـِ "خزانة العطَّارين". احبَّ دوماً أن يتصور أن كلَّ جارورٍ يحتوي على صنف غريب فريد من العطارة. عشقها وقرَّر منذ أن رآها أن يمضي حياته قربها مهما كلَّفه الأمر.

     رآها ذات يوم وهو مُتجه إلى عمله قبيل الظهيرة. اتَّصلوا به آنئذ وذكَّروه بأنَّ العمل في مكتب المحاسبة ينتظره. كان وما زال لا يطيق عمله. فاضطرَّ أن يستقلَّ تاكسياً خصوصياً. في الطريق إلى عمله رأى شاحنة مكشوفة وعليها الخزانة الحبيبة. طلب من السائق أن يتبع الشاحنة، حتى وصل إلى أحد البيوت. عرض على اصحاب الخزانة أن يشتريها، فضحكوا منه ساخرين. طلب منهم أن يراها بين الفينة والاخرى، فوافقوا على مضض. أتى لزيارتها تقريباً كلَّ يوم. بعد فترة لم يعُد وجوده مُحتملاً، فصار يتذرَّع بالمجيء لتصليح الابواب أو المواسير أو الاجهزة الكهربائية، وعلَّم صغارهم، حتى انتهت كل الحجج ولم يبق امامه إلا الزواج من احدى بنات العائلة لكي يكون بوسعه أن يرى خزانته الحبيبة.

     لاحظت حماته حبَّه الغريب للخزانة. لم تحبه اطلاقاً، لم توافق على زواجه من ابنتها. كثيراً ما قالت لها: "يا ابنتي، هداكِ الله. إنه لا ولن يحبك. إنه يعشق الخزانة! إنَّه يتزوج منك لكي يكون قريباً من عشيقته، الخزانة! لا أحد في الدنيا اعلم مني بجنون الرجال حين يعشقون الخزائن! اسمعي كلمتي واطيعيني! لا تلوي شفتيك تبرُّماً.. لا تتجاهلي نصائحي.. الله يغضب عليك وعليه وعلى الخزانة! روحي.."

      راحت ابنتها وخطبته ثم تزوجت. وقد وقع عليها غضب امها، وغضب الأم إنْ وقع فلا مردَّ له بإِذن الله. باتت زياراته لبيت حميه اقامة دائمة. كثيراً ما ضبطوه وهو مختبئٌ في الخزانة أو نائمٌ فيها أو يتأمَّـلها أو يقبِّلها. اخيراً اضطرَّ أهل زوجته إلى أن يشنوا هجوماً مُضاداً، فاعتادوا على فتوحات بيته. اصبحت زوجته تغار من الخزانة، امتنعت عن زيارة بيت والديها كي لا يرى زوجها الخزانة الحبيبة. اصبح لا يُطيق زوجته. آه، كم أراد أن ينسى زوجته!! " لماذا حرقها؟ خزانة العطارين؟ معقول؟ يا الله..."

     قالت له زوجته لتطمئنه، "كلا، والله لم يحرقها. امي قالت هذا كي تغيظك، ليس إلاَّ.. ارجوك، تعال وخذني.."

-" إذن، اخرجوا الخزانة إلى الشارع لكي اعرف بيتكم. إنني آتٍ في الحال!"

     منذُ ثلاثة اشهر تعاني المدينة من أزمة مواصلات شديدة. اصبح الشارع بيتاً لعائلة حميه، هناك يخلعون ملابسهم ويرتدونها، يأكلون ويشربون، يلعبون الورق و"الزقطة" و"دي دي بربر" و"السبع جلود"*، حتى اهتدت العائلة إلى الوسيلة التي ستحرق قلب صهرهم: بدؤوا في ذلك الشتاء القارس والماطر بتكسير "خزانة العطَّارين" وحرقوا جرَّاراتها ودرفاتها ومنمنماتها وهيكلها بحجة التدفئة، وهم في انتظار الموظف الكحيان النسَّاء الذي سيأتي ويعيد زوجته إلى بيته.

     لم يعرف احد من عائلة زوجته أنَّ صهرهم رأى، وهو يستقل تاكسياً خصوصياً ويبحث في شوارع المدينة عن خزانته الحبيبة لعلَّه يهتدي إلى بيت حميه، شاحنةً عليها كرسي حمام انيق وجميل، فأمر السائق أن يتبعه إلى بيت صاحبه، وقد وقع في حبه من النظرة الأولى. نجح هذه المرة واشترى كرسي الحمام. اصبحا لا يفترقان، ينامان معاً في غرفة النوم، ويحمله على ظهره إلى مكتب المحاسبة حيث يعمل، والى مناسبات الافراح والاتراح، حتى دُفِنا معاً.

2 نيسان 1996

* "الزقطة"، "دي دي بربر "، و "السبع جلود" العاب يمارسها اطفال وشبان كثير من المدن والقرى في انحاء فلسطين.

 

 

هذا ما حدث

 

 

في تلك الظهيرة، القائظة المُضجرة، تركتُ البيت، حيثُ تتمدَّد زوجتي، تجنَّبتُ المقهى، حيثُ يتسلَّى رفاقي بالورق، وخاصمت كلَّ دوحة تبترد في ظلها العصافير والطيور. أخذت امشي في شوارع مدينتي التي لا تحتمل. كنتُ امشي وحدي في الشوارع المُقفرة، ومن بعيد لمحتهم، فغذذْتُ خُطاي خلفهم. كانوا ثُـلة  من الناس يحملون نعشاً يمشون برتابة متوحشة، رؤوسهم منكسرة، عيونهم ممحوَّة الامارات كأنَّهم موتى. بل رأيتُهم موتى. فجأةً انفتح التابوت من الخلف وسقطت الجثة أرضاً؛ نهض الميت واقفاً على قدميه، وهو يصيح، "رأسي! رأسي! اوجعتوا لي رأسي!" لاحظتُ وعيناي جاحظتان انَّ كفنه تمزَّق عند كاحليه وعند الكتف، فبدا حاجاً في زي الاحرام.

     لم يأبه أحد به. بدؤوا يهرولون والتابوت على اكتافهم. بقي الميت يهرول وراءهم وهو يتبعهم، حتى قطعوا نفسه. بقيتُ اهرول وراء الميت حتى نشَّف ريقي. ثم وقف الميت على حين غرة، فارتطمتُ به. وقع أرضاً ووقعتُ فوقه. نظر نحوي واسناني تصطك، وسألني، "شوب فظيع.. معك سجائر؟" وحين رأى علبة سجائري المحلية "الأمبريال"، قال مثل الردَّاحة، "امبريال؟! يقطعها من عيشة! لماذا لا تدخن مارلبورو يا كلب؟!" ثم نهض وتابع ركضه وراء الجنازة، وأنا تابعتُ ركضي وراءه، وسمعتُه يقول، "تعالوا خذوني.. خذوني! أنا الميت. أنا الميت. احملوني. ضعوني في النعش."

     اذكر انني بقيتُ اتبع الميت الذي يتبع جنازته حتى وصل الناس إلى المقبرة، وفتحوا التابوت، وافرغوا الفراغ الذي بداخل التابوت في حفرة كانت قبراً للميت الذي لم يُدفَن.

 سألهم الميت وهو يعاتبهم، "لماذا لم تدفنوني في القبر؟"

 قالوا، "هذا ما حدث." فزعق فيهم، "لكنني ميت!"

-" هذا ما حدث."

-" لم تدفنوني!"

-" هذا ما حدث،" قالوا واهالوا التراب على القبر، رشُّوا عليه الماء، وقرؤوا الفاتحة على الميت. وقرأ الميت الفاتحة على روحه. وقرأتُ الفاتحة على روحه. وهمَّ الناس بالعودة إلى المدينة، وحملوا التابوت الفارغ. وحين سمعوا الميت يؤبِّن شبابه ويُعدِّد على روحه الطاهرة ويشقُّ بقايا كفنه كمداً وحزناً، رقَّت قلوبهم له. قال لهم، "ألا احد منكم يسفح على روحي دمعة واحدة؟ يا عيب الشؤم عليكم!"

-" هذا ما حدث!" قالوا له وكادوا يمرُّون من امامه عائدين إلى المدينة. فرفع ابهامه، وهو يهزُّ رأسه: "انا مُتعبٌ جداً. ركضتُ وراءكم طوال المشوار. أتأخذونني طريمب* إلى المدينة؟"

 قالوا، "ولو!" ورأيته يركب التابوت وهو على اكتاف الناس. قلتُ لهم، "لماذا لا تأخذونني طريمب أنا الآخر؟" فقال الميت، "ما دُمْتَ تدخن، فلماذا لا تدخن مارلبورو ايها الكلب!" وعادت الجنازة إلى المدينة تزفُّ الميت والرجال يهرولون، واذكر انني بقيت اهرول وراءهم مُعفَّراً برائحة الموت.

2 نيسان 1996

*طريمب: ( ويقال له اوتوستوب، ايضاً) أي أن يركب المرء وسيلة نقل دون مقابل.

 

 

النبي

 

 

سمع وديع طرقاتٍ خافتةً على باب بيته. اهو مالك البيت يطلب اجرة الشهر؟ ام "قبضاي" الحارة الذي يريد أن يقتله ليستردَّ شرفه بعد أن بات أمس في قسم الشرطة لأنَّ وديعاً قدم شكوى ضده امس الأول؟ ام انهم اطفالُ الحيِّ الذين احالوا حياته جحيماً؟ فتح الباب ورأى زميله في المدرسة، الذي اعلمه بأنَّ مؤسسة "الغيب" للسياحة والسفر اتَّصلت به وقالت انَّها وظَّفتْ وديعاً دليلاً سياحياً لزبائنها، وعليه أن يبدأ العمل غداً. بلا أي داعٍ بكى زميله وكأنَّ بينهما علاقة صداقة حميمة ولن يراه أبداً. اصرَّت والدة وديع على أن تعدَّ الشراب، لكن زميله طلب فنجاناً من القهوة السادة، غبَّها ورحل.

شعرت الأم انها ستفقد ابنها. لكنها فقدته منذ زمن طويل. إنه لا يحبُّ مدينته، ولا أهله، ولا بيته أو جيرانه، حتى انه منذُ أن توظَّف يحتفظ بنصف راتبه لنفسه، رغم أن البيت وإخوته في امسِّ الحاجة إلى المال. طبعاً لم تفاتحه بالأمر. اعتادت هي وأخته ميساء أن "تغرشا،" مع العلم انهما لم توافقا على تقديمه طلباً للعمل كدليل سياحي في "مؤسسة الغيب للسياحة والسفر" لأنه سيبتعد عنهم، وسيفقدونه في نهاية المطاف.

     فجأةً سمعوا طرقاتٍ على الباب مرة أخرى. فتح الباب، فإذْ هي فتاة لطيفة ترتدي "افرهولاً" ابيض ذا صدر محفور وبلا اكمام، سألته، "أنتَ وديع؟" ولم تنتظر "نعمَه"، اعطته ظرفاً وقالت، "برقية!" ذهبت واختفت.

قرأ البرقية: "مؤسسة الغيب تريدك الآن.. تعال!"

     لم تستطع أخته ميساء أن تراه بهذه الأنانية المفرطة، فتركت البيت وهي تبكي ووجهها مدفون في راحتيها. حتى إخوته الصغار أخذوا يحملقون فيه كأنَّه جثةٌ لم يتعرَّفوا عليها بفعل تشوُّهٍ طارئ اصابها. اما أمه فاغرورقت عيناها بدموع ثم سحَّت رغماً عنها. لم يكن بوسعه إلا أن يقول لأمِّه، "يجب أن ارحل يا أمي. لم اعد اطيق هذه المدينة أو ناسها أو الفقر. ساعود، لا تقلقي!" عانقها وودَّعهم. شعر بِوخزةِ ظرفٍ مُقوَّى في جيب قميصه فاخرجه واعطاه لأمه. لم يستطع أن يقول لها انَّ في الظرف شهادة تأمين على حياته، كان يدفع اقساطها الشهرية بنصف راتبه. أحسَّ وهو يخرج من البيت انَّها المرَّة الأخيرة التي يرى فيها الظرف والبيت معاً.

     خرج من البيت، مشى في حارته. إذن، هذه هي المرة الأخيرة التي يمشي في حارته. لم يدرِ لماذا يمعن النظر في وجوه الناس، ويمعنون انظارهم فيه بدورهم، كأنَّهم يشيِّعونه قبل سفره. بل لحق به مالك البيت الذي يسكنه وقال له، "سامحك الله بكل قرش تدين لي به!" وعانقه "قبضاي" الحيِّ الذي اطعمه "قتلة" قبل أيام لأنَّه لم يُمسِّ عليه، وقال له، "اتوسَّل اليك، ارحمني، اغفر لي خطاياي بحقك!" وتبعه اطفال الحارة، الذين كانوا يلقون الحجارة والخضروات "المخمِّجة" على شبابيك بيته وعتبته، وقالوا له وهم يعرضون عليه الازهار والورود، "يا معلِّم، سنحبُّك منذ الآن فصاعداً. ابقَ معنا. لا تتركنا وحدنا. ارحمنا. سنكون لك تلاميذ مطيعين، وسندرس جيداً! نرجوك!"

     لكنَّه صرخ فيهم جميعاً، "تنحُّوا عني يا اولاد الحرام! تنحوا عني!" ظنَّ انهم يتزلَّفون اليه لأنَّهم ادركوا انه سيصبح غنياً. الغريب انهم قالوا له، "سامحك الله! سامحك الله!" وتركوه يغادر الحارة وهم يبكون جميعاً. إذن، هذه هي المرة الأخيرة التي يمشي فيها في شوارع مدينته المملة، التي عيَّرهُ أهلُها بفقره، وصدَّت فتياتُها حبه، وضاقت بيوتُها ومبانيها بروحه السخية.

     اتجه إلى محطة سيارات السرفيس التي تذهب إلى الجانب الغربي من المدينة، حيثُ يوجد مقرُّ المؤسسة. ظنَّ وهو يهرول خارجاً من حارته انه لمح الفتاة الحسناء ذات الافرهول الابيض، فضحك من خياله الجامح. بل رآها ثانية تركب احدى سيارات السرفيس؛ اتجه نحو السيارة ولم يجدها. فأخذ ينتظر امتلاء السيارة بالركاب. يا إلهي، أحقاً يتجه إلى عمله الجديد؟ أهو يحلم؟ سيتخلص من الفقر بسرعة؟ والماضي؟ والملل؟ كلا، الفقراء لا يعرفون الملل، بل التعب والضنك. لقد احسَّ دوماً بأنَّ الملل ترف وفن لا يجيده إلا الاغنياء.

     إذن، هذه هي المرة الأخيرة التي يستقلُّ فيها سيارة السرفيس ويستنشق رائحة الركاب النتنة، غداً بل اليوم يضعون تحت تصرفه سيارةً خاصةً تحلق به في ازقة السموات الرحبة، ومنذُ الآن سيتعرف كلَّ يوم على حور عين ينتقيهنَّ كما يشاء من بين سبعين حورية يركبن معه في الحافلة التي يرافقها. سيغمس نفسه في الملذات حتى الملل. سيأتي الزمن الذي سيستمتع فيه بنعمة الملل. أما الآن فلينفض عن باله كلَّ احلامه وليصعدْ إلى الطابق السابع حيثُ توجد "مؤسسة الغيب للسياحة والسفر."

     كان ثمة اناس كثيرون ينتظرون المصعد. سبعة طوابق  تفصل بينه وبين حياة أخرى. هذا المصعد اللعين لا يتَّسع إلا لسبعة اشخاص. أيصعد الدرج؟ لمَ لا؟ سمع احداً يخاطبه، "اين تذهب؟ المصعد الآخر مُعطَّل!" وقالت له امرأة بدينة خفيفة الظل، "لم يصلحوه بعد!" لكنَّه لم يفكِّر باستعمال المصعد الآخر. أراد أن يصعد الدرج. فعلاً مرَّ بالمصعد المعطِّل، ورأى امامه كرتونة مقواة مكتوباً عليها "الحذر! المصعد لا يعمل!"

     فجأةً وقفت إلى جانبه الفتاة ذات الافرهول الابيض، قالت وهي تلهث: "لقد سبقتني! ما اسرعك!" لم يقل شيئاً. لم يستطع. دوَّت عيناه بدهشة ناخرة. لم يستوعب ما يحدث. رآها تضغط زرَّ المصعد. لم يستطع حتى أن يشير باصبعه إلى اشارة "الحذر! المصعد لا يعمل!" انفتح مصراعا المصعد. التفتت اليه الصبية وسألته ، "ألا تريد أن تصعد؟" فحملق فيها.

-" تفضَّلوا! ثمة متَّسع كبير ها هنا!" رحَّب بهما صوت لشخص لم يره. قال لها وقد تسمَّرت قدماه عند العتبة، "لكن المصعد لا يعمل!"

 قالت، "بلى، إنه يعمل! لا تخف!" امسكت براحته، دخلا، وانطبقت شفتا المصعد. في الزاوية البعيدة من المصعد كان ثمة بار يمتليء بزجاجات ملوَّنة. كان اناس كثيرون يغنون ويتمازحون ويشربون. دنت منه الفتاة وفضَّلت عليه كأساً من الشراب.

 قال لها، "لا اشرب!"

-" إنه شراب كحولي لا يُسكِر!" قالت له.

     انفجر ضاحكاً، والتفت فجأةً إلى الفتاة وقال، "حسب علمي، ففي الجنة وحدها يوجد شراب كحولي لا يُسكر، اليس كذلك؟" رآها تتأمَّل عينيه وتباريح الوجد في نظراتها المتلهِّفة، هزَّت رأسها موافِقَةً، واسقته رشفة من الشراب، فسرت في جسده قشعريرة نحاسية غريبة. اعتراه حالاً قلق على أهله، وحقد على مؤسسة الغيب وأراد أن يخرج من المصعد.

 قالت له، "لماذا أنت عابس هكذا؟ إنِّي احبُّك، ولو أردتني، سابقى معك إلى الأبد!"

-" يجب أن اخرج من هذه البناية! أريد العودة إلى أمي واخواتي!"

-" ألا تعلم أنَّهم ها هنا؟"

-" هنا؟"

-" نعم! انتظر لحظة.." قالت له. ثم توقف المصعد بعد بُرهة، وانفتح مصراعاه، ورأى مدناً بهية تتناثر على مرمى البصر. شدَّت الفتاة يده، "هيَّا! أهلك في انتظارك!" نادته أمَّه واخته واخوته الصغار، ومالك بيتهم، وقبضاي الحارة، وجميع اطفال حارتهم، وكلُّ اقربائه، واعضاء التنظيم السري الذي ينتمي اليه، وكلُّ زملاء عمله، وكتَّاب المقالات الصحفية، وساسة البلاد وشعبه بأسره. لكنَّه لم يجرؤ على أن يتخطَّى عتبة المصعد. شجَّعته الفتاة الحسناء ذات الافرهول الابيض وقالت له، "هيَّا، تعال!"

 قال، "ليس هذا ما اُريد!"

-" وأهلك؟"

-" هؤلاء ليسوا أهلي. أهلي هناك، في الأسفل، في مدينتي التي لا تعرفها الملائكة ولا الشياطين. اهلي فقراء، بسطاء، ويحتاجون إليَّ. يجب أن اعود.."

-" ستعيش غريباً هناك مثل نبيٍّ بين قوم من الكفرة!"

-" على الأقل، ساعيش!" قال لها وضغط على زرِّ الطابق الأرضي. احسَّ المصعد يرتطم بالارض، فقد توازنه وسقط أرضاً. لحظات قليلة واحسَّ بايادٍ تتسلَّل من بين الانقاض لتخرجه من المصعد. سمع لغطاً مزعجاً ثم سمع بوضوح احداً يقول، "ثمة ناجٍ آخر! سبحان الله!" انتشلوه من بين الانقاض، وقف بينهم وقال، "هيَّا لندفن الموتى، اكرام الموتى دفنهم!" خرجوا من البناية. كانت المدينة تعمر بالخراب وتفوح برائحة الدماء المسفوكة ونتن الجثث والجيف. لم يسترح إلا حين دفن أمه واخته واخوته وأهل حارته وزملاء عمله وابناء شعبه. وحين انتهوا من دفن الجثث، ضربوا في الأرض ليبشِّروا الجميع بمدينة جديدة، وحُبٍّ جديد، ومصاعد جديدة.

16 حزيران 1996

 

 

 

جدران بلا ملامح

 

(اهداء: إلى يحيى النابلسي، الرجل الذي يحب النجوم.)

 

نهض من النوم. اجال نظره في غرفته الصغيرة المظلمة. اشعل الضوء. ادار زر الراديو ليعرف الساعة بالضبط. السابعة والربع صباحاً. بحث عن ساعته. كانت متأخرة عن الوقت. صحَّحها. وضعها في معصمه. سمعها وهي تتكتك. ذهب إلى الحمام. سمع احدهم يقول له، "لماذا لا تصبِّح؟ الصباح لله يا سيد كريم!" ابتسم في وجه اخته أماني ابتسامة متعبة. حاول أن يقبِّلها على جبينها، لكنَّها لم تسمح له وهي غاضبة، "لماذا لا تصبِّح؟"

جلس على الكرسي الافرنجي وبال. منذ شهور طويلة اعتاد أن يجلس على كرسي الحمام حين يبول. هكذا لن يرى بوله الغريب. وهو كلَّما يراه تصيبه قشعريرة غريبة تغرس في روحه خوراً معمِّراً. فكَّر مراراً بأنْ يستشير صديقه الطبيب، د. خالد، الذي يلعب معه الورق كلَّ يوم في مقهى منسي في شارع صلاح الدين، لكنَّه كثيراً ما شعر بأنَّ كلُّ ما سيقوله له الدكتور خالد هو ما يقوله دائماً كوصفة لعلاج كل مرض وكل وعكة وكل شعور بالاحباط يشعر به كريم، "كريم، أنتَ تحتاج إلى امرأة تؤنسك!"

-" لم اجد المرأة التي ابحثُ عنها!"

-" أيةُ امرأة بوسعها أن تحبُّك!"

-" لا أريد اسفنجة تمتص عرقي ووسخ جسدي آخر الليل!"

-" إذن، ماذا تريد؟"

-" اللعنة، اريدك أن تصمت، وتدعني وشأني!"

-" كريم، كلُّنا نحلم، هذا طبيعي، ولكن أنت مثالي جداً، وحالم جداً، هنا!" قال د. خالد وهو يطرق على رأس صديقه كريم منصور، "توجد احلام كثيرة لا يتَّسع لها هذا العالم الكبير!"

-" خالد، دعني وشأني، ارجوك!"

-" كريم، أنت في الحادية والثلاثين من عمرك، ألا تريد أن ترتاح وترسي مرساتك على شاطئ امرأة تحبك؟"

-" أريد أمرأة تحتلُّني، تحتلُّ وعيي وجسدي، تأتي عاصفة تقتلع جذوري، تنفض عني كلَّ اوراقي واغصاني، تعرِّيني من كلِّ ادعاءاتي وزيفي، تذيب نسغي، ترحل بي إلى مكان آخر، إلى زمن آخر، إلى نَفْسٍ أخرى تلبسني، وجسد آخر البسه، أريد امرأة مستحيلاً، أريد امرأة أفقاً، أريد امرأة مطلقاً، أريد أن اكون إلهاً!"

-" كريم، ساعتك متأخِّرة!"

     من المؤكد انَّه سيحدث الحوار ذاته إذا ما اعلمه عن بوله. وماذا عساه يقول للمرأة التي سيتزوج منها؟ هل يقول لها انَّه يبول بولاً غريباً لا مثيل له؟ كم أراد أن يأخذ عينة من بوله ليفحصها في المختبر. أترى، سيرتاح حين يجيء في التقرير المختبري أنَّه من فصيلة بشرية أخرى أو أنه تمَّ اكتشاف حالة مرضية جديدة. سمع امَّه وهي تقول، "نسيتَ نفسك في الحمام ام ماذا؟"

     شمَّ رائحة بوله الطيِّبة. حين فرغ، حاول أن يغلق غطاء كرسي الحمام ويضغط "السيفون" باسرع ما يمكن، لكنَّ الغطاء انخبط بقوة وارتدَّ واقفاً، فرأى بوله. لم يكن بولاً، وإِنَّما مادة زهرية لزجة معطَّرة كانت تعجُّ فيها مخلوقات لطيفة صغيرة بحجم حبَّة الأرز: اطفال عراة من البنات والاولاد، وفراشات ملونة، وازهار خلابة وملائكة ضاحكة ونجوم متلألئة.

     اصبح وجهه عضلة مشدودة واحدة. شعر برغبة ملحة في البـكاء. اغلق غطاء الحمام وضغط "السيفون." احسَّ بأنَّه مرتاح حين سمع رعشة الماء تشطف كلَّ شيء. جلس إلى كرسي الحمام دقائق وهو يلهث. ماذا لو يرى احدهم بوله؟ وقف. تمنَّى أن يلقي نظرة في كرسي الحمام، رفع الغطاء، وحالاً وجد يده تضغط على السيفون. لقد رأى ملاكاً وفراشةً يعومان في مياه زهريه خفيفة. ضغط "السيفون" مرة أخرى بعد برهة.

     بصعوبة وقف امام المغسلة. غسل وجهه. مخط. كعكش بسبَّابته في منخاريه، نفَّ، مسح وجهه بالبشكير. وإذْ به يرى في البشكير طفلاً عارياً لزجاً بحجم حبة العدس، فاوقعه في المغسلة، فتح الحنفية، ولم يسترح حتى رأى الماء يجرف الطفل العجيب في انبوبة المجاري. وغسل البشكير تحت الحنفية وتأكَّد من خلوه من المخلوقات اللطيفة الغريبة. من أين أتى ذاك المخلوق الطفل؟! نظر إلى ساعته. الساعة السابعة والدقيقة السادسة عشرة صباحاً. "الساعة اللعينة، إِنَّها تؤخِّر دائماً."

     حين خرج من الحمام، شعر بأخته تسنده. سمع الساعة تتكتك. نظرت أخته إلى عينيه برعب. لم يستطع أن ينظر اليها. شعر بأنه عارٍ امامها. اغمض عينيه. سألته وهي تتحسَّس معصمه، "تبدو اصفر، ما بِكَ؟ نبضك سريع. سآتي بجهاز ضغط الدم لأفحصك." لم يقُل شيئاً، اجلسته على الاريكة في الصالة، وذهبت لتحضر الجهاز. فحصته. "نبضك سريع جداً. ضغط دمك منخفض. ساعدُّ لك محلول الماء والملح، لا تقلق." ثم رافقته إلى غرفته، حتى تهاوى على سريره، وقالت له، "كل هذا لأنَّك لم تصبِّح! تستاهلْ!"

     تهاوى على سريره كلفظة حوشية لم يعُد احدٌ يتفوَّه بها. كان السرير شاحباً يثير التعب في جوانحه. للمرَّة المليون احتلَّه فراغ جدران غرفته الصغيرة، بلا لوحات، بلا صور، بلا تحف، ولا حتى مسامير تؤنس وحدته. لم تحاوره الغرفة الصغيرة التي يعيش فيها. كم أراد أن يتَّهمها بالعجز لأنَّها لم تستطع أن تحتفظ بجاذبيَّتها. كم أراد أن يطرشها ببصاقه ليهينها! ضمَّ ساعديه إلى صدره، اغمض عينيه.

     دخلت أمُّه وهي تحمل فنجان القهوة، قهوة بلا رائحة، بلا سفر إلى مجاهل الكيف واللذة. سألته فيما إذا كان يعاني من وعكة ما. ماذا يقول لها؟ طمأنها أنَّ كلَّ شيء على ما يُرام، وتركته. غبَّ القهوة دفعة واحدة. تساقطت الطراشة على رأسه بفعل الرطوبة. في الماضي كثيراً ما احبَّ امعان النظر في الاشكال الغريبة التي كان يراها في طراشة الغرفة، رؤوس بشرية وحيوانات وعوالم غريبة كانت تحلِّق به إلى جوانب مظلمة من روحه التعبى، لكنَّها الآن جدران بلا ملامح.

     جلبت له أخته الممرضة محلول الماء والملح. جلست قربه. شربه. سمعها تضحك على ساعته، "ساعتك مؤخِّرة. لماذا لا ترميها، لا تنسَ أن تحطِّمها قبل أن ترميها، ها؟ ساجلب لك ساعة جديدة هدية مني!" وخرجت. خلع الساعة، رماها على الارض بقوة، وأخذ ينظر اليها بشماتة فائرة. انتعل حذاءه وهو يطمرها بنظرات الاحتقار. وكاد يهشِّمها تحت كعبه، لكنَّه لم يستطع أن يخدشها. شعر بأنَّها تحادثه وهي مجعية كالجثة بصمت وهدوء. فالتقط الساعة عن الأرض. امعن النظر فيها. مسح قطرة ماء كانت عليها. كان يعرف انها مقاومة للماء. فما علَّتها، يا ترى؟

     لا يذكر متى اشتراها وارتداها اول مرة. ربَّما تحتاج إلى بطارية. لكنَّه كثيراً ما أخذها إلى اكثر من ساعاتي، وقيل له دوماً إنَّ ساعته لا يوجد فيها بطارية، بل تعمل على النبض. احبَّ أن يسمع تكتكتها. وحين قرَّبها من أذنه، فجأةً خطرت له فكرةٌ غريبة لا يعرف كيف آمن بها، هكذا ببساطة. فقد احسَّ بأنَّه لا توجد علَّةٌ في الساعة أبداً وإِنَّما العلة فيه هو نفسه. فقد شعر بأنَّ من المؤكَّد بل لا بُـدَّ انَّه احياناً يتلاشى عن الوجود أو يكون في عالم آخر لا يعرف اين يكون فيه رغم انَّه يكون مع الآخرين يحاكيهم ويلعب معهم ويأكل معهم ويشاجرهم ويتعرَّض للاهانات، لكنَّه في الوقت ذاته يعيش لحظات وربما ساعات اكثر مما يعيشون، أيّ انه يعيش اكثر من اربع وعشرين ساعة في اليوم الواحد. لكن اين يكون فعلاً؟ اين حدود ذلك المكان الغريب الذي يتلاشى فيه؟ كلُّ ما أدركه عندئذ هو أنَّ ساعته تؤخِّر. أي أن ضغط دمه يكون منخفضاً آنئذ، ونبضه سريعاً جداً بحيث تتعطَّل ساعتة وتؤخِّر.

     شعر بضعف اشدُّ بأساً حين أكتشف تلك الحقيقة. قهقه حتى شعر بأنَّ وجهه اصبح عضلة مشدودة واحدة مرة أخرى، فدفن وجهه في راحتيه، واتكأ بكوعيه على ركبتيه. اقشعرَّ بدنه. اين تراه يكون؟ اللعنة اين يكون؟ وما ذلك السائل الزهري والمخلوقات اللطيفة التي ينزفها منذ شهور طويلة؟ ومن هو؟ من هو؟ إِنَّه مختلف، هذا هو كلُّ ما في الأمر. امعن النظر في الساعة، صحَّحها، ارجعها إلى معصمه ثانيةً. نظر إلى جدران غرفته العارية من كل شيء، ثم وجد نفسه يغادر البيت.

     مشى في الشوارع بين الناس. حيَّاه بعض الناس، وحيَّا بعضهم. التحية هي ذاتها. كلمة سرٍّ مملة، مستهلكة، كالحة. ضحك حين تصور الناس يؤدُّون كلَّ يوم تحيات مبتكرة، كأنْ يبادروا بالتحية قائلين، "هيلا هوب! هيلا هوب!!" فيردُّ الآخرون قائلين، "شيكا بيكا! شيكا بيكا!!" أو يشلع المرء أذنه امام الآخرين، أو ينزل سحاب سرواله ويرفعه، مثلاً. نظر اليه البعض باستهجان وخشية وهو يقهقه ويلطم كفَّاً بكف.

     عند باب العمود صعد إلى السيارة المتَّجهة إلى بيت حنينا، حيث يقع عمله في الصحيفة. احـسَّ بعينيه تدمـعان بلا سبب. لم يشعر بوخزة في عينه إثر دخول شيء ما فيها، مثلاً. ربَّما كان مجرد رمش كبير؟ اقترب من المرآة. لم يرَ شيئاً. دنا اكثر، وسَّع جفنيه، حدَّق، فإِذا به يقشعرُّ بدنه. لم يرعبه أنَّه رأى داخل حدقتي عينيه عالماً رحيباً تعيش فيه مخلوقات لطيفة لانهائية من الاطفال العراة والاسماك والازهار والطيور والفراشات والملائكة والنجوم، بل ارعبه أنَّه حين رأى ذلك العالم المسحور توقَّفت حركة المخلوقات اللطيفة ونظروا اليه جميعاً كأنَّهم أدركوا انَّ ثمة كائناً غريباً يراقبهم بفضول وحشي. وحالاً ابعد عينيه عن المرآة، ووجد نفسه ينزل من السيارة، ويبحث عن ساعاتي ليشتري نظارة سوداء. كلا، لن يسمح لأحد بان ينظر إلى عينيه. لن يسمح لأحد أبداً. لكنَّه لم يعثر على نظارة ذات عدسات سوداء ولا قاتمة. ومع ذلك، لن يسمح لأحد بأن يدنو منه أبداً، أبداً.

     في اللحظة التي سمع ساعته تُتكتك رأى امامه زميله في قسم المحاسبة والى جانبه فتاة. قال له زميله، "رنا، موظفة الاستقبال الجديدة! كريم منصور، مترجم!" سمعها تقول بصوتها الرقيق، "تشرَّفنا!" ومدَّت يدها وتصافحا. احسَّ يده تذوب في راحتها الطرية العارقة. بذل جهده لئلا يرفع عينيه وينظر اليها. ثمة عاصفة فظيعة تلولبت في أرجاء الغرفة فتطايرت الاوراق وارتطمت الكراسي بالخزانات وحافظات الملفات.

     اطارت العاصفة جاكيته الشتوي وبقي معلَّقا به من الكتفين فبدا طائراً يخفق بجناحيه. قوَّس رأسه للأسفل. حاولت العاصفة أن تفتح جفنيه على مصراعيهما، صرخ، "كلا! لن افتح عيني لأحد. لن ادع احداً ينظر في عيني!" وجد نفسه يحني ظهره كي يقي نفسه من الاقتلاع، يكحُّ، يضربُ الطاولة بقبضتيه. ترنَّح ووقع على كرسيه. ثمَّ رأى نجمةً تسقط من عينيه كالمذنب، وما كادت تهبط على الارض، حتى تحولت إلى فتاة قالت له، "أنا رنا، سارتِّب الغرفة، لا تقلق!" وحالاً، عادت الغرفة إلى حالها. وسمع النجمة تقول له، "واخيراً، سنلتقي! إنَّها أنا."

     فجأة سمع ساعته تتكتك. رأى زميله يُسنده بيديه. "أنتَ بخير؟ ما رأيك بكأس من الشاي؟" سأله زميله. كحَّ بعنف. ارتاح حين بصق البلغم الاخضر في محرمته. مسح بها شواربه وذقنه. تعمَّد ألا ينظر إلى المدعوة رنا، التي كان ينتظرها منذُ أمد طويل. لكنَّه شعر بأنَّ هذه المخلوقة التي صافحها للتو هي الانسانة التي سترافقه طيلة عمره. لماذا شعر بأنَّ النجوم لا تكذب؟

-" اهلاً وسهلاً!" قال لها وجلس ليواصل عمله. كلا، لم ينظر في عينيها مباشرة. لم يشعر بأنَّ الوقت قد حان بعد. اللعنة، لماذا لم يشترِ نظارات سوداء. لماذا يحب أن يحرج نفسه؟

-" كان بإِمكانك أن تبتسم!" قال له زميله وهو يضع كأس الشاي على طاولته. "على الأقل كان بإمكانك أن تنظر اليها!"

     كان يرتشف الشاي. اصطكَّت اسنانه بحافة الكأس. أراد أن يراها. سيخرج اليها بحجة أنَّ عليه أن يقضي حاجته. مرَّ بمكتب الاستقبال ونظر حيثُ تقف رنا. اقترب منها. رآها تبتسم امامه ابتسامة عذبة تقطر ألفة غريبة، ثم اطرقت رأسها خجلاً، وارتدت نظارة قاتمة.

قال لها، "نظارة جميلة، ساشتري مثلها."

قالت له، "إنني أؤمن بأنَّ النجوم لا تكذب!"

قال لها، "وانا أرى جدران غرفتي عارية كلَّ يوم!"

قالت له، "قلتُ لصديقتي أمس: لا أريد أيَّ زوجٍ كي يكون حائطاً اتكأُ عليه!"

قال لها، "رنا، اسم جميل جداً."

قالت له، "الجميع غرباء!"

قال لها، "لماذا تضعين نظارة سوداء؟"

قالت له، " اشتريتُها لِمَنْ بوسعه أن يحتلَّني!"

قال لها، "ساعتك متأخِّرة!"

قالت له، "لماذا لم تسمح لي بان انظر في عينيك؟"

قال لها، "منْ انتِ؟"

قالت له، "استيقظتُ صباح اليوم وأنا احسُّ بنشوة غريبة."

قال لها، "انا انسان غريب الاطوار!"

قالت له، "هل تحبُّ النجوم كثيراً، مثلي؟"

قال لها، "إِياكِ أن تكسري ساعتكِ! أنا لم اكسرها صباح اليوم."

قالت له، "هذا العالم الصغير لا يتَّسع للاسرار التي ساُفضي اليك بها."

قال لها، "هل تحبين الاطفال العراة والملائكة والفراشات؟"

قالت له، "فيروز هي ملكة النجوم والاقمار والأغنيات الشجيِّة."

قال لها، "أنتِ لا تعرفين من اكون! لا أحد في الدُّنيا يعرفني!"

قالت له، "كلُّ الدُّنيا رأتني منذُ آلاف السنين، فمن يا تُرى عرفني؟"

قال لها، "لماذا لا تخلعي نظارتك؟"

قالت له، "وأنا أيضاً أريد أن اخرج من هنا!"

قال لها، "أنتِ كثيرة جداً!"

قالت له، "وأنا لم يعُد بوسعي أن اطيق هذا التجلي!"

قال لها، " لا بُدَّ إذن من الرحيل!"

قالت له، "إِنَّهم في انتظارنا الآن!"

     صمتا. كانت ساعتاهما تتكتكان. والله كانتا تتكتكان. مدَّ يده نحوها. تعانقت الاصابع. تشبَّثت بيده. خرجا من الصحيفة. كانت حشود هائلة من البشر في انتظارهما خارج البناية وهم ينوحون ويولولون ويتدافعون كالقطعان في كلِّ اتجاه لينجوا بحياتهم من فيضان زهري كان يطفح من المجاري ويغمر كلَّ شيء امامه، وكانت ساعاتهم جميعاً تتكتك. كانت النجوم تقع من السماء، والاطفال يموتون حالاً بين أيادي آبائهم، والملائكة تلاحقهم الشياطين وتضلِّلهم، والازهار تذبل وتذوي، والفراشات تتساقط صرعى بلا الوان.

قال، "كلُّ ما اريده هو بيت صغير نزيِّن جدرانه باللوحات والصور والمسامير!" قالت، "ونطرشه بالسائل الذي يعجُّ بالنجوم والفراشات والاطفال العراة والملائكة والطيور!"

     حالاً وقف كريم ورنا امام احدهما الآخر، نزعت النظارة عن عينيها. اقتربا دون عناق، دون قُـبَـل، دون لمسات اصابع، هكذا كمحاربين على وشك النزال. كانت ساعتاهما آنئذٍ تتكتكان، واللهِ كانتا تتكتكان. اقتربا اكثر فاكثر حتى رأى داخل عينيها عالماً مسحوراً لا نهاية له، ورأت داخل عينيه عالماً خلاباً لا حدود له. نادتهما المخلوقات اللطيفة في اعينهما، فولجت رنا في حدقتي عينيه بينما ولج كريم داخل حدقتي عينيها. ولم يلتقيا بعد ذلك طوال حياتهما أبداً، أبداً.

14 تشرين ثانٍ 1996

 

 

فيلم حربي

 

هو لم يصدِّق انها وافقت على أن تخرج معه إلى السينما في حفلة الساعة العاشرة ليلاً في سيارة قديمة استعارها من صديق له. هي لم تصدق انه حقاً تغلَّب على خجله وتردُّده ودعاها إلى مشاهدة فيلم حربي في دار سينما لم يحضر الفيلم فيها أحد سواهما. ولم تصدِّق هي ولا هو انَّ الفيلم انتهى بسرعة خرافية هكذا.

     هو لم يصدِّق انه سمعها تقول بعد الفيلم، "الفيلم رومانسي وحالم. رائع، رائع! لكن لماذا يلتقي العاشقان في النهاية وقد فقد البطل نعمة البصر لأنَّه شرب عصير الجزر والبطلة اصبحت صمَّاء لانَّها تستخدم الوكمان؟ ربما سيكون الفيلم اجمل لو انتهى بانهما صادفا رئيس الدولة وانعم عليهما بمكرمة رئاسية مثل بيت، سيارة أو راتب حكومي حتى وفاتيهما!" وأرادت أن تقول له انه رغم كلَّ شيء فقد التأم شمل بطلي الفيلم، ولم تقل شيئاً.

     وهي لم تصدِّق انها سمعته يقول وهو ينظر إلى الارض، "رائع حقاً! تغلَّبا على معارضة الأهل، وفارق السن، والمرض. تصوير رائع، تمثيل رائع، ولكن لماذا لا يزال الفقر يعيش معهم رفيقاً ثالثاً؟ ربما سيكون الفيلم اجمل لو انتهى بانهما وجدا بئر نفط واصبحا على الأقل -مع عماه وصممها- غنيين!" وأراد أن يلمِّح لها بأنَّ الحب وحده يكفي، لكنَّه لم يقل شيئاً.

     الساعة تجاوزت منتصف الليل. ومع ذلك احبَّ كلٌّ منهما أن يبقى بصحبة الآخر. ولكنَّه شعر بأنَّ عيه أن يبدو امامها حريصاً على عودتها إلى سكن الطالبات باسرع ما يمكن، وهي أرادت - رغم رغبتها الشديدة بالبقاء معه - أن يشعر هو على الأقل بذلك الحرص. وهي أيضاً شعرت بأنَّ عليها أن تبدو قلقةً مما قد يحدث له في هذه المدينة الظالمة، فإِنَّ وجود شاب يمشي وحده في آخر الليل تهمة تستحق السجن، وهو أراد - رغم رغبته الشديدة بالبقاء معها- أن تشعر على الأقل بذلك القلق.

     لم يصدِّق انه سمعها تقول وهي تودِّع دار السينما بنظرة حسرة، "مكان جميل يشرح الصدر!" ورآها عندئذٍ تُمرِّر برفقٍ راحتها على صدرها النافر، فاشتعلت رغائبه واشواقه، وحين دنا منها ليوافقها الرأي ويمرِّر راحته على صدره، لم يصدِّق كذلك بأنَّها أدارت ظهرها له، وفتحت باب السيارة وجلست، وتركته خارج السيارة يطارد انفاسه اللاهثة. كم ودَّ أن يشنقها لأنَّها أثارته وقطعت "لانسه."

     وهي لم تصدِّق انَّه حين صعد إلى السيارة، قال كأنَّه يقرِّر حقيقةً علمية جافة وهو ينظر امامه ليتجاهلها، "نعم، مكان جميل، لكنَّه لا اذكر انَّه كان جميلاً حينما كنتُ آتي هنا وحدي!" وشعرت بالخجل يورِّد خديها، وأخذت تداعب خصلات شعرها لتداري رغائبها واشواقها، لكنَّها لم تصدِّق انه لم ينظر اليها ولم يرَ نشوتها بغزله. وكم أرادت حقاً أن تخنقه لأنَّه تجاهلها هكذا.

     وهكذا كان عليه أن يوصل فتاته إلى الشقة التي تشترك باستئجارها مع زميلتين آخريين في الكلية. الشوارع مقفرة، المطر ينهمر بجنون، الشوارع تتلوَّى، اضواء الطرق تتكسَّر وتسيح على الاسفلت، والدنيا تبكي من اجل البطل الذي اصبح ضريراً لأنَّه شرب عصير الجزر والبطلة التي اصبحت صمَّاء لأنها تسمع بالوكمان كثيراً. لكنَّ الفتاة لاحظت شيئاً غريباً فسألته، "لماذا تبدو الطرق بعيدة؟"

فقال، "لا احبُّ السير في الطرق التي فيها اضواء المرور! كلما اقف في تقاطع طرق عند اضواء المرور تحدث لي مصيبة! ولذلك افضِّل الطرق البعيدة والطويلة!"

-" غير معقول!" قالت. "هه هه.. مصائب مثل ماذا؟"

-" مخالفات سير، احتجاز في السجن، ضرب مبرِّح.. الخ!"

-" لكنني معك. يمكن أن تحدث معجزة!"

     فاوقف السيارة وعاد ادراجه إلى الطرق القصيرة. وفي اول تقاطع طرق نُصِبَت عليه اضواء المرور، توقف على الضوء الاحمر. بدا خوفه عليه. نظر اليها ليطمئنها. ثم اشتعل الضوء الاصفر، وانطفأ الاحمر والاصفر وكاد الاخضر يضوي، فنظرت اليه تطمئنه وقد أرادت أن تقول له، "ألم أقُلْ لك؟" لكن عينيها جحظتا على نحو مرعب، فقد كانت ثمة يد ضخمة تطرق نافذة السيارة قرب صاحبها. كان شرطياً. يعلم الله وحده من اين أتى. كان الشارع مقفراً. والمطر لا يزال منهمراً، حتى أنَّ الشُّرطي لا يرتدي معطفاً واقياً من المطر، وليس معه مظلة.

-" اسعد الله صباحكما!" قال لهما الشرطي.

-" وصباحك."

-" اين كنتما وما هي وجهتكما؟"

-" كنا في السينما.." قالت الفتاة.

-" وماذا شاهدتما؟"

-" فيلماً حربياً."

-" ها، حربياً! يا عيني! وعمَّ كان يتحدَّث؟"

-" عن بطل صار ضريراً لأنَّه شرب عصير الجزر.." قال الفتى. وقالت الفتاة، "وبطلة اصبحت صمَّاء لأنَّها تسمع بالوكمان كثيراً!"

 قال الشرطي، "يبدو أنَّه فيلم مؤثِّر حقاً، لكن مع ذلك لماذا لا تضعان حزام الأمان؟ ألا تعرفان انها مخالفة خطيرة جداً ايُّها الاحمقان؟! من المؤكَّد انكما كنتما تتعانقان، ها!؟ هيَّا، اطفئ المحرك، وضعا ايديكما على رأسيكما، هيَّا!" صرخ فيهما وهو يعبث بجهاز اللاسلكي، "آلو، آلو، قيادة؟.. قيادة؟ يتحدث الشرطي مرجان. لقد قبضتُ على اثنين منهم. إنني في شارع المصائب، مفترق الرعب. إنني وحدي معهما. ارجو ارسال تعزيزات عسكرية.. تعزيزات.. تعزيزات.."

     وفي غضون دقائق معدودات حاصرت المفترق سيارات الشرطة ودبابات مدرَّعة وسيارات الاسعاف والاطفائية وجيبات عسكرية يقودها ضباط المخابرات العامة الذي يضعون النظارات السوداء ويرتدون الزيَّ المدني، وطواقم التلفزيون الوطني التي كانت تبثُّ الحدث المؤسف على الهواء مباشرة.

-" أهذان هما؟" قال جنرال مهيب الطلعة مشيراً إلى الشابين. "ارجو من مصوِّري التلفزيون التصوير من بعيد.. هيَّا، هيَّا.. لا بُدَّ من استجواب المتَّهم.." وحالاً نفَّذ الجميع الأوامر العسكرية.

-" ماذا تفعلان هنا؟" سألهما الجنرال.

-" نركب.. السيارة!" قال الشاب.

-" بوسعي أن أرى ذلك، ولكن اعني ماذا تفعلان في هذا الجو اللعين خارج البيت؟"

-" ذهبنا إلى السينما؟" قالت الفتاة.

-" وايَّ فيلم شاهدتما؟ لا تقولا "LOVE STORY،" إنَّه فيلم حزين. لقد أثَّر فيَّ هذا الفيلم كثيراً!"

-" بل فيلماً حربياً!"

-" حربياً؟ وما هو؟" صرخ فيهما الجنرال وقد شعر بجدية الموقف.

-" لا اذكر اسمه. لكنَّ البطل يصبح ضريراً لأنَّه شرب عصير الجزر.. " قالت الفتاة. فقاطعها الفتى، "والبطلة تصبح صمَّاء لأنَّها تسمع بالوكمان كثيراً!"

فقال الجنرال وهو يضرب باب السيارة بقبضته، "اللعنة، يبدو فيلماً حزيناً أيضاً. إنني لا احبُّ النهايات الحزينة، ولا الافلام الحزينة!!" ثم دنا من ضابط الشرطة وهمس في أذنه قائلاً، "أيَّة مخالفة فعلا؟"

فهمس الشرطي في أذن الجنرال، "لم يضعا حزام الأمان!"

- يا للهول! هذه مخالفة خطيرة جداً. ولماذا لم تضعاه؟ ربما لكي يكون من السهل عليكما أن تتعانقا، ها؟!" ثمَّ أدار لهما ظهره وقال للجيش الذي كان تحت إمرته، "جرُّوهما إلى قيادة الشرطة القطرية.. إنَّ الجميع في انتظارهما هناك. إِنني غير مستعد الآن لأي سؤال من الصحافة. ارجوكم لا تحرجوني.. إلى القيادة! هيَّا.."

     لم يكن بوسع المسكينين أن يصدِّقا ما يحدث. ودَّ أن يقول لها، "ألم اقُل لكِ أن مصيبة ستحدث؟" وودت أن تقول له، "آسفة!" لكنَّهما لم يقولا شيئاً.

     وحين وصلا إلى قيادة الشرطة القطرية، لم يصدِّقا ما رأيا. فقد نُصِبَتْ هناك منصَّة كبيرة عليها مظلة، والى جانبها صفوف طويلة من حرس الشرف، والوزراء ونواب مجلس الاعيان ووجهاء الوطن والبعثات الدبلوماسية، كانوا جميعاً يجلسون على كراسٍ قصيرة من القش يحتسون القهوة والشاي والبيرة والكحول ويشربون الارغيلة ويفصِّصون بزر البطيخ.

     ومن المنصَّة وحتى القاعة الكبيرة في بناية القيادة فُرِشَتْ سجادة حمراء ذات رائحة زكية. وقد وقف الجميع حين انطفأ محرِّك السيارة التي جرجرت الشابين إلى ساحة القيادة القطرية للشرطة. وبدأت الفرقة الموسيقية للقوات الوطنية المسلحة بعزف مقطوعات موسيقية جنائزية وحربية.

     وكان كلُّ واحد من المستقبلين الرسميين يصافح الشابين بحرارة شديدة تنمُّ عن الاحترام البالغ وكان الشابان غير مصدِّقين ما يحدث أبداً، حتى انَّ بعضهم كان يلكمهما أو يصفعهما تودُّداً وتقرُّباً، ومنهم من كان يأخذهما في الاحضان ويقبِّلهما ما شاء الله من التقبيل واللحس. ثم قادهما ضابط حرس الشرف في أُبهة فخرية إلى المنصة وعزفت الفرقة الموسيقية للقوات الوطنية المسلَّحة النشيد الوطني مراراً حتى وقع اعضاء الفرقة الموسيقية أرضاً من فرط الارهاق. ثم لمح الشابان شاحنة عسكرية تنبثق من الظلمات بضوءيها الاماميين الثاقبين حتى وقفت على بعد امتار منهما، وترجَّل منها ستة جنود مقنَّعمين وهم يحملون بنادقهم التي نُصِبَتْ عليها نواظير قنَّاصة. احاط بهما الجنود المقنَّعون وجرُّوهما جانباً وكأنَّهم يحرسونهما وقال لهما قائد الكتيبة المقنَّعة، "نحن نعرفكما تماماً. سوف ترفضان، اليس كذلك؟ إِياكما أن ترفضا، إِياكما! إنَّه في انتظاركما في الداخل، ونحن في انتظار أوامره هنا.. احسنا التصرف، ها؟ سنهتمُّ بأمركما بعد قليل! اما الآن فاتبعا رئيس حرس الشرف!"

     ولم يستطع الشابان أن يقولا شيئاً. لم يصدِّقا كلَّ ما يحدث. ولم يفهما شيئاً ممَّا سمعاه. قادهما رئيس حرس الشرف إلى بوابة قيادة الشرطة القطرية، وهناك استلمهما حاجب الرئيس، وقادهما إلى المقصورة الرئاسية. كان المسكينان صامتين. لعنت الشابة اللحظة التي خرجت فيها معه إلى السينما، ولعن الشاب اللحظة التي اطاع فيها رغبتها بالسير في الطرق القصيرة. ولم يصدِّقا حقاً ما يحدث. وكانا في اعماقهما يتساءلان، "أكلُّ هذا حقَّاً من اجل مخالفة حزام الأمان؟"

     وفجأة صحوا على صوت جهوري يعلن اقترابهما من فخامة الرئيس، رئيس الدولة، القائد العام للقوات المسلَّحة، والامين العام لحزب الشعب الوحيد في البلاد، ورئيس نقابات الحلاقين والقصَّابين ومستعملي الخناجر والشفرات اليابانية.

وهمس الشاب، "إِننا في حضرة الرئيس!"

وهمست الفتاة، "نعم، في حضرة الرئيس!"

وتحشرج صوت الرئيس الذي كان يرتدي بذلة عسكرية مزدانة بالاوسمة والنياشين والوان واشياء كثيرة اخرى، وهمس سائلاً، "اين كانا؟"

-" كانا في سيارة، يا سيادة الرئيس "

-" لماذا كنتما في السيارة؟"

-" كنا عائدين من السينما، يا مولاي." قالت الفتاة.

-" حقَّـاً؟ وهل في بلادنا دور سينما؟" تساءل الرئيس.

-" الدولة المجاورة يا سيدي،" قال حاجب الرئيس، "فتحت مركزاً ثقافياً وفيه سينما صغيرة، وذلك وفقَ اتفاقية التطبيع الاقتصادي والتربوي والزراعي ما بين دولتينا، وهي الاتفاقية ذاتها التي وقعتها بنفسك يا سيدي!"

-" ها، جيد، جيد! وماذا شاهدتما يا كتاكيت؟"

-" فيلماً حربياً، يا سيدي!" قال الشاب.

-" حربياً؟ ما الذي تقوله؟ عما يتحدَّث الفيلم؟"

-" عن بطل يصبح ضريراً لأنَّه شرب عصير الجزر وبطلة تصبح صمَّاء لأنَّها تسمع بالوكمان كثيراً!"

-" لا بُدَّ انه فيلم حزين. أنا لا احبُّ النهايات الحزينة. يجب أن تنتهي الافلام بالسعادة، والحرب بالنصر، وتعاستكما بالفرح.."

-" شكراً يا صاحب الفخامة!" قال الشابان معاً.

-" أية جناية اقترفا؟"

-" حسب التحقيقات الأولية فإِنَّهما اعترفا بعدم وضع حزام الأمان يا فخامة الرئيس!"

-" معقول؟ يا إلهي، هذه جريمة! ولكنني سوف اسامحهما!" قال الرئيس للحاجب، "إِنهما لطيفان، اليس كذلك؟ حسناً، هاتِ مكرمتنا الرئاسية!"

-" نعم، مولاي! كلَّ عام وانتم بألف ألف خير!" قال الحاجب للرئيس، ثم خرج من المقصورة وكان الذهول قد شلَّ الشابين تماماً. وبعد لحظات دخل ثلاثة شبان اشدَّاء يعتلون على ظهورهم ثلاثة اكياس كبيرة مبعجة الشكل، وخلفهم عاد الحاجب الرئاسي يحمل علبتين صغيرتين مغلَّفتين بورق زاهٍ صقيل. وضع الشبان الاكياس على الأرض ثم خرجوا.

     ودنا الحاجب من الشابين المحظوظين بحضرة الرئيس، وقال لهما، "كعادة فخامة رئيسنا المحنَّك والرؤوم، جرت العادة الرئاسية في عيد ميلاد معاليه أن ينعم بمكرمته على احد افراد الشعب، وقد قرَّر فخامة الرئيس هذا العام أن ينعم عليكما بثلاثة اكياس من الجزر وجهازي "وكمان" من نوع فاخر، فهنيئاً لكما بهذا الشرف!" وتقدَّم منهما وحيَّاهما بحرارة شديدة، وهمس لهما، قائلاً، "هيَّا، احنيا رأسيكما امام فخامة الرئيس، وقبِّلا يديه شاكرين!"

-" لماذا تم اختيارنا نحن بالذات؟" تساءلت الفتاة.

-" لم نجد في كلِّ طرق البلاد وشوارعها سواكما. الجميع يخاف من العسس، والشرطة، والجيش، والقوات الخاصة، والحرس الوطني، وشرطة الآداب، والمخابرات.. كلُّ هذا الأمن المُستتب بفضل الرئيس، حفظه الله وابقاه لنا!"

-" لكنني لا احبُّ الجزر!" قال الفتى.

-" وأنا لا احبُّ أن اسمع بالوكمان!" قالت الفتاة.

-" هل تجرؤان على رفض هدية فخامة الرئيس؟! يا ويلكما!" حذَّرهما الحاجب بصوت هامس.

     وتشاور الشابان لبرهة ثم قال الفتى، "يا فخامة الرئيس، إِننا لا نحبُّ الجزر ولا السماع بالوكمان!"

-" إنْ لم تقبلا هديتي، فسوف اخالفكما بنفسي لأنَّكما لم تضعا حزام الأمان! ولماذا لم تضعا حزام الأمان يا قليلي الأدب والذوق؟ من المؤكَّد انكما كنتما تتعانقان! همل! يا عيب الشؤم عليكما! تفو على مكبركما العاطلين وتفو على شكلكما المقرفين! ادعُ القوات الخاصة!!"

 

     وحالاً دخل الجنود المقنَّعون الستة المقصورة الرئاسية وهم يحملون ست علب خضراء. كان ثمة جدار مغطَّى بستارة مخملية سوداء كشفها احدهم بحبل متدلٍ فبان جدار يشبه حائطاً مُعدَّاً للاعدام رمياً بالرصاص. وعندئذٍ ركب الرعبُ الشابين غير المحظوظين، فانشبَ كلٌّ من الشابين اظافرَه في رقبة الآخر، واخذا يتبادلان الصفعات والركلات والصراخ والاتهامات.

-" أنا لا اصدِّق كيف وافقتُ على الخروج مع شابٍ مهزوز وغير واثق من نفسه، مثلك!"

-" أنا لا اصدِّق حتى الآن كيف تذلَّلت لصديقي واستعرتُ سيارته لأخرج معكِ.."

-"  حتى انَّك لم تقبِّلني في السينما، مع اننا كنا وحدنا!"

-" من في هذه الدنيا يذهب إلى السينما ليشاهد فيلماً حربياً؟ فيلما حربياً، يا ربي!"

-" مشكلتك انك لم تفهم مغزى حضور فيلم حربي! أنتَ غبي جداً!"

-" لا اصدِّق انني اطعتكِ وذهبتُ في الطرق القصيرة!!"

-"  بل وتخشى من إشارات المرور.. من في هذه الدنيا يخاف من إشارات المرور!"

     كان يزعقان ويتشاجران حين هجم عليهما جنود الكتيبة الخاصة المقنَّعون واوثقوهما إلى الجدار واغمضوا عيونهما ووضعوا سماعات "هيدفونز" على آذانهما، وربطوا السمَّاعات بجهازي الوكمان الجديدين. ورفع الجنود - والرئيس يشاهد ما يجري وهو يتثاءب بملل قاتل - صوتي جهازي الوكمان، فلم يعُد بوسع الشابين أن يسمعا شيئاً ولا حتى اتهاماتهما المتبادلة.

قال الفتى، "هذه هي النهاية، إِذن. سنموت دون أن نسمع طلقات الرصاص التي ستخترق جسدينا!"

قالت الفتاة، "يبدو انهم يُسمعوننا هذه الموسيقى العالية كي لا نسمع الرصاص وهو يخردق جسدينا!"

     وفتح الجنود المقنَّعون الاكياس المبعَّجة الكبيرة، التي كانت تمتلئ بالجزر. ثم فتحوا العلب الخضراء التي جلبوها معهم، واخرج كلُّ جندي منهم خلاطة جديدة وأخذوا يعصرون الجزر ويصبُّون العصير في كؤوس كبيرة. وكلَّما امتلأت الكؤوس هجم جنود القوات الخاصة المقنَّعون على الشابين واجبروهما على شرب الجزر حتى اصابهما العمى. وقد دخل مدير عام وزارة الحربية المقصورة الرئاسية دون إذن ولا دستور وجثا امام الرئيس ووجهه ملوَّح بصفرة الاموات. لحظات عدة لم يستطع أن يقول شيئا من هول أمر جلل.

-" ماذا دهاك يا رجل؟" سأله الرئيس.

-" ثمة.. ثمة.. "

-" ثمة تسمِّم رأسك إن شاء الله، ما وراءك؟"

-" سيدي، لقد اعلنت الدولة المجاورة الحرب علينا، وجيشها العرمرم يدكُّ حدود البلاد وطائراته تقصف كلَّ شيء. "

-" ماذا تقول؟ ويحكم، ماذا فعلتم؟ هل فتح رجال اطفائيتنا برابيج المياه ورشُّوا رجال اطفائيتهم مرة اخرى؟"

-" كلا يا سيدي، بل تقول الدولة المجاورة، عدونا اللدود، اننا عذَّبنا مواطنة من مواطنيها!"

-" لكنني لا اذكر انني اصدرتُ أمراً بسجن امرأة مؤخراً!"

-" إِنها هذه الفتاة، يا سيدي!"

-" وماذا تفعل في بلادنا هذه العدوة؟ "

-" إِنَّها تدرس في احدى جامعاتنا، يا سيدي. "

-" إِذن،" قال الرئيس، "فهي جاسوسة وقد جنَّدت هذا المواطن واوقعته في احابيل التجسُّس ومستنقع الخيانة! الآن أدركت لماذا تم انشاء مركز ثقافي للدولة العدوة في بلادنا. خيانة، خيانة! اعلنوا الحرب، استعدُّوا للحرب، استعدوا!!"

-" هل نشنقهما، سيادتك؟" سأله الحاجب.

-" لا وقت لذلك. هيا إلى التعبئة العامة! التعبئة العامة!!" اصدر الرئيس أوامره. واشتعلت الحرب. سالت انهار الدم، وهُدِمت المدن والقرى، وامتلأت السماء بالطائرات المزمجرة القاصفة، والارض بالدبابات والمجنزرات الطاحنة، ورحل مئات الألوف من مواطني الدولتين ولجؤوا إلى بلاد اخرى. ولكنَّ الشابين لم يريا شيئاً لأنَّهما اصبحا ضريرين من شرب عصير الجزر، ولم يسمعا شيئاً لأنَّ جهازي الوكمان اصمَّاهما. وهما لا يزالان حتى الآن يتبادلان الاتِّهامات التي لا يسمعانها.

23 تشرين ثانٍ 1996

 

 

الرجل الضاحك

 

 

كنتُ سعيداً، على غير العادة، لأنني اهتديتُ في هذه المدينة الجميلة إلى هذا المقهى-المطعم-الجاليري، زرياب. كنت وحدي كالعادة حين عثرتُ عليه. اسمه وحده، زرياب، زرَّب ريقي وجعل مزاريب الفضول والفن تشطف، عن سحنتي واعماقي الكابية، كآبتي وخيبتي وافلاسي الثقافي والحضاري القادم شبه المؤكد؛ وأخذت اقنع نفسي بأنَّ زرياب بحد ذاته كإِرث ثقافي عربي هو الملجأ الملائم لي بعيداً عن هذه الزرائب الدخيلة التي يحاول البعض أن نتدجَّن فيها.

     وهكذا وجدتني اقف فجأةً عند "بوظة بلدنا" قرب مدخل جاليري زرياب، وافتح الروشتة التي في جيبي، القي عليها نظرة عجلة، واكركر ضاحكاً، ثم اعود فاطويها ثانية، وتعود التكشيرة الأصلية إلى سحنتي الناشفة، واصعد إلى زرياب. إنَّ اكتشافي لهذا المكان بحدِّ ذاته أمر يستحق أن ادلِّل نفسي وامنحها جائزة من اجله، وكانت تلك الضحكة جائزة قيمة استحقيتُها.

     ورغم انني شعرت بالراحة حين دخلتُ اليه ورأيت اللوحات والانوار واستكانات القهوة والشاي التي من المؤكد أن الفنانين صنعوها بانفسهم، فقد ضايقني انني لمحت وجوهاً عابسة، وعيوناً مطفئة، بلا ضحكات ولا ابتسامات. حتى ازواج العشاق كانوا جميعاً ذوي سحن رزينة لا تتقن إلا الجدية. وطبعاً كنتُ مثلهم، عبوساً، جاداً، اتمنى كالعادة أن اضحك من اعماق قلبي، فافشل.

     أردتُ أن اجلس قرب احدى النوافذ المطلة على شارع رام الله الرئيسي، حيث بامكاني أن اراقب الناس الذين لم يجذبهم زرياب ولا حتى موسيقاه الميتة ولا صوته الفاني. وكنتُ امعن النظر في اللوحات المعلقة على الجدران والتماثيل والاعمال الفنية المنثورة هنا وهناك، بين الطاولات.

     جلستُ على طاولة حولها مقعدان فقط، فشعرت أنذاك بوطأة الوحدة وأنا أرى امامي المقعد الخالي. وكانت امامي فرصة لا تعوَّض لكي اُضلِّل نفسي واجعلها تتخيَّل أن ثمة شخصاً سوف يأتي بعد قليل ويسامرني. والحقيقة انني لم ارغب بأن انضمَّ إلى طاولة اي اشخاص اعرفهم. فقد  لمحتُ حسين جميل البرغوثي يتكلَّم كالعادة بلا انقطاع وحوله ثلاثة اصدقاء يبدون الاهتمام له، ورأيتُ غادة الشافعي تجلس في احدى الزاويا البعيدة قرب احدى النوافذ، ووليد ابو بكر الذي كان ينتظر على ما يبدو اشخاصاً لا اعرفهم، وكان فنانون كثار مثل تيسير بركات يجول هنا وهناك، بينما كان بضعة فنانون يدوزنون آلاتهم لكي يعزفوا ضمن مهرجان رام الله للثقافة والفنون، وكان ثمة مطرب أخذ ينقر عوده ويغني أغنية حزينة بانغام عربية تناجي روحي النائية، كأنَّه زرياب:

                        أنتَ والايام عليَّ،

                        أنتَ والايام

                        عليَّ.

                        ليش؟ ليش؟

                        أنتَ.. أنتَ.. عليَّ.

                        ليش؟

                        (ما) أنا طيِّب.

                        كنت معاك طيِّب،

                        آه،

                        يا طيِّب!

                        آخ، يا طيِّب، ليش؟

                        ليش؟

                        أنتَ والايام،

                        أنتَ والايام،

                        عليَّ

                        ليش؟

     كانت الأغنية حزينة جداً؛ ولأنني لم اكُن قد هيَّأتُ نفسي أن احزن في "زرياب،" فقد حاولتُ جهدي أن اسرِّي عن نفسي قليلاً، وهكذا، وكالعادة، اخرجتُ من جيب قميصي الروشتة، والقيتُ عليها نظرة خاطفة، واطلقتُ ضحكة مدوية ثم حالاً طويتُ الورقة واعدتُها إلى جيبي. والغريب أن احداً لم يلتفت اليَّ ما عدا نادل لمحني بالصدفة وهو يحمل الطلبات، فأتى يسألني عما اريد.

     طلبتُ ينسوناً، وبعد فترة وصلت الي استكانة من الينسون، أخذت اداعبها بيدي وشفتي. وفي اثناء ذلك لاحظتُ أن طاولتي تجاور طاولة كان يجلس عليها كوكبة من الحطامات البشرية الجميلة. اعتراني حدس بأنني اعرفهم من قبل، ولكن ذاكرتي لم تسعفني.  كانوا ستة اشخاص يحتسون العصير والاشربة الساخنة.

     أولهم كان يبتسم ببلاهة مريبة، هكذا، ويهزُّ رأسه موافقاً على كل شيء يقوله اصدقاؤه، شاب يافع، اشقر، اصلع يرتدي بذلة عسكرية. ثانيهم كان مكشِّراً، وله سحنةٌ مخيفة، يا لطيف! وبين الحين والآخر يعانق احدهم ويهرسه بساعديه المفتولين، يضع على رقبته عصبة حمراء، ويرتدي بلوزة عليها جمجمة وعظمتان متصالبتان، وعلى عينه اليسرى عصبة سوداء، وثمة وشم على ساعده الايسر يقول: "نعم، أنا ارهابي!" وثالثهم كان يقرأ صحيفته بلا توقف ولا مقاطعة من الآخرين، واتضح لي لاحقاً انه يسمع بصعوبة، وكان احياناً يضع راحته فوق أذنه ويدنو من احدهم ظانَّـاً انه يتكلم معه، وكنتُ أرى الآخر يلوي شفتيه أو يهزُّ رأسه لينفي انه تكلَّم أصلاً.

     ورابعهم كان برتدي بذلة أنيقة، ويدخن سيجاراً فاخراً. وكان مشغولاً طوال الوقت بعدِّ رزم من النقود في جيبه، وكان بوسعي أن أراه احياناً يبلِّل سبابته وينقر بها اوراقه النقديه ويحرِّك شفتيه دونما يصدر عنه صوت، تماماً كأنَّه سمكة يلاحقها حوت. خامسهم بدا لي مثقفاً. لا بدَّ انه كان مثقفاً؛ فقد كان يرتدي اسوأ الملابس التي يرتدونها، بنطلون جينز وتي شيرت احمر كالح اللون، وعلى عينيه نظارة نظر ذات عدسات مجرَّحة. وكان متشككاً من كل شخص يدخل إلى المقهى، وخاصة أنا لأنني كنتُ الاقرب اليهم، وكان يتلفَّت حواليه بين الحين والآخر ويقول لأصدقائه كلَّما دنا منهم زبون أو نادل، "اشششش!" اما سادسهم فكان اغرب شخص في المجموعة، فقد كان بين الفترة والاخرى يقفز إلى اقرب نافذة ويلقي نظرة إلى الشارع العام، وينظر في ساعته، ويعود إلى الطاولة كأنَّه على موعد مع القدر.

     وهكذا اقتربت من جليس المقعد السادس في الطاولة المجاوره، وقلتُ له، "مرحباً." فنظر إلى وجهي نظرة ضائعة، وخلال لحظة واحدة زمَّ شفتيه متودِّداً مشجِّعاً، ثم عاد الحياد الغريب -بلا ادنى ملامح- إلى وجهه وقال، "مرحبتين!"

قلتُ له، "شلة جميلة!"

هزَّ رأسه وقال دون أن ينظر الي كأنَّه يخاطب نفسه أو شخصاً آخر غير مرئي، "مثل مدينتنا الجميلة، اليست كذلك؟ نعم، إنهم اعز اصدقائي. أنتَ اصبحتَ الآن من اعز اصدقائي، وبوسعك متى تريد أن تتخلص من صداقتنا المملة. اسمي محمد."

-" وأنا محمد!"

-" طبعاً. طبعاً."

 سألته، "لماذا طبعاً؟"

-" لأنَّ كلَّ واحد من اصدقائي اسمه محمد!"

-" شلة جميلة. شلة المحمدات! لكنكم لا تتحدَّثون منذ جلستم معاً."

-" وما الفائدة؟ كان جميلاً أن نلتقي اليوم. وهكذا بعد قليل سنفترق جميعاً، وستمضي فترة طويلة قبل أن نحظى بلقاء جديد. اصدقاء جميلون، اليسوا كذلك؟ كنا اكثر من ستة. ولكنَّ المشكلة في هذا النوع من الشلل أن اصدقاءك الاعزاء جداً جداً جداً كثيرون جداً جداً جداً لدرجة انك تنسى من هم اصدقاءك، وطبعاً يدخل في شلتنا من يريد ويتركنا من يريد. ورغم التحاق اعداد هائلة في شلتنا ونيل العضوية فيها، ورغم الاعداد الهائلة التي انسحبت منها، فها نحن نلتقي. بوسعك أن تقدم طلب عضوية لشلتنا. لا يوجد رسوم اشتراك؟"

وقلتُ له وقد استظرفته، "وماذا افعل لكي اكون صديقاً عزيزاً لكم وعضواً فاعلاً في شلتكم."

-" لا تفعل شيئاً. لا تقل شيئاً. افعل ما شئت. بوسعك أن تترك الشلة متى تريد."

-" ولماذا يا ترى تلتقون اليوم؟"

-" ليساعدونني. أنا امرُّ بفترة اكتئاب."

     ولكنْ ما اذهلني انهم لم يكونوا يقولون له حرفاً واحداً. وحين سألت الشخص السادس عن سبب صمتهم الدائم، قال، "اعتقد انه لا فائدة من الكلام اصلاً."

 وسألته، "هل رأيتَ طبيباً نفسياً؟ يجب أن ترى احدهم؟"

-" رأيته. قال لي: لا فائدة، الاكتئاب مرض القرن العشرين. وقال لي الطبيب: لماذا لا تلتقي باصدقائك؟ وهكذا اتصلت بهم جميعاً، وقلتُ لهم أن علينا أن نلتقي لأن الطبيب النفسي نصحني برؤيتهم. آه، بقي خمس عشرة دقيقة على اجتماعنا، اشعر الآن انني.."

 وقاطعته متحزِّراً، "غير مكتئب؟ احسن؟"

-" كلا، اشعر بحاجة إلى التبول!" ونهض وأخذ يمشي إلى الحمامات وكأنَّه نائم. والغريب انه سرعان ما عاد. وكنتُ قلقاً من نظرات الشخص الذي بدا لي مثقفاً. ولذلك قلتُ للشخص السادس، "الحمامات عادة مزدحمة هنا. اللعنة، عليهم أن يزيدوها. مذلٌّ أن تنتظر دورك مع عشر اشخاص."

     لكنه نظر نحوي وعلى وجهه تجهُّمٍ غريب، بلا ملامح. فشعرتُ بالغيظ، وقال لي، "لم تكن الحمامات مزدحمة. أنا لم اكن بحاجة للتبول. تصور، فتحت السحاب، واسترخيتُ لاتبول، ولم ابل نقطة واحدة."

-" والآن؟"

-" ربما في المرة القدمة سابول. من المؤكَّد انني سابول، المرة القادمة. المسألة تحتاج إلى قليل من الصبر!" وسألني فجأة، "لماذا لا تضحك؟"

فقلتُ له، "ولماذا اضحك؟"

وسألني، "اعتقد لأنني اقول اشياءً مضحكة."

فقلتُ له، "اعتقد انك ممثل فاشل."

فقال لي، "اليس هذا امراً مضحكاً؟"

-" كلا. لماذا تنظر إلى الساعة؟"

-" لا شيء. بقي خمس دقائق لافتراقنا. لماذا لا تضحك؟"

-" ولماذا اضحك؟"

-" تصوَّر، شلة من الاصدقاء يجتمعون لكي يساعدونني على اتخلَّص من اكتئابي، ونجلس معاً دون أن نقول كلمة واحدة، واقول لك: بقي ربع ساعة لافتراقنا، بقيت خمس دقائق لافتراقنا، انتهى الوقت، مع السلامة شباب.. اليس هذا أمراً مضحكا؟"

-" كلا، إنَّه امر كئيب!"

-" يبدو أن اكتئابك اشدُّ من اكتئابي. ما رأيك أن اعرفك إلى اصدقائي في الشلة؟"

-" فكرة رائعة."

     فنهض الشاب الذي يعاني من الاكتئاب، وقال، "هذه أمور تحدث يا شباب. يحدث أن نلتقي في مكان عام كهذا المقهى، واليوم تلتقون من اجلي لتعينونني على الاكتئاب الذي امرُّ به، وأنا على فكرة شاكر جداً لحضراتكم، ثم فجأة ينضمُّ الينا صديق جديد. ارجو منكم أن تحيوا محمد، محمد الصديق الذي انضم إلى شلتنا الآن!"

فوقف الأول، وصافحني وقال، "مرحبا يا محمد الصديق الذي انضم إلى شلتنا الآن. تشرفنا. أنا محمد، محمد الذي يحبُّ أن يوافق على كل ما يطلبه منه اصدقاؤه والناس. اخوتي طلبوا مني أن اتنازل عن الارث، وزوجتي طلبت مني الطلاق، ورئيسي في العمل طلب مني اليوم أن استقيل لافسح الفرصة لاحد اقاربه أن يعمل بدلا عني."

-" لكن عليك يا محمد، محمد الذي يحب أن يوافق على كل شيء، أن ترفض الموافقة على كل شيء يطلبه منك الناس، وخاصة الرزق. حسن، وافق على التنازل عن الإرث، ووافق على طلاق زوجتك، ولكن العمل؟ العمل هو الرزق. والرزق هو سبيل الحياة. يقول المثل: قطع الاعناق ولا قطع الارزاق. عليك أن ترفض الاستقالة التي فرضها عليك ذلك الرئيس الخرا!"

 ووافقني محمد، "نعم، أنت على صواب."

-" يجب أن تكون قوياً يا محمد الذي يوافق على وكل شيء. بل يجب أن ترفض الآن كلَّ شيء!"

-" نعم، يجب أن ارفض كلَّ شيء!"

-" افرض، انني طلبتُ منكَ أن تتخلَّى عن الشلة،" ولم اكدْ اقول الجملة بعد إلاَّ وكان محمد، الذي يوافق على كل طلب، قد نهض واقفاً وودَّعنا بنظرة سريعة وغادرنا نحو بوابة المقهى، فلحقتُ به، "وافرض انك وافقت، فهل ستوافق يا محمد الذي يوافق على كل طلب، أن تنتحر، لو طلبت منك ذلك؟"

     فجأة نظر نحوي وكأنَّه اكتشف أمراً جديداً وادرك سرَّ ضعفه. آه كم كنتُ سعيداً لأنني حرَّضته على مواجهة ضعفه وعلى التمرد، فعاد ادراجه إلى الطاولة حيث الشلة، التي كان اعضاؤها ينظرون نحوي نظرات اعجاب، فعدتُ اليهم وعانقونني لأنني اعدتُ عضواً إلى الشلة بعد أن اوشك أن يتركها، ولكننا بعد لحظات لم نجد محمد الذي يوافق على كل شيء بيننا، فقد كان يقف على حافة الشباك، وعندئذ نظرنا نحوه نظرة هلع، وقفز.

 وصافحني الثاني، وقال، "انا محمد، الارهابي، الذي تتملكه المشاعر المفاجئة. هل رأيت محمد الذي يوافق على كل شيء؟ انتحر. رحمه الله. هئ هئ هئ!" قال وهو ينفجر بالبكاء وأخذ يعانقني بقوة، "كم أريد أن اعرف من الذي تسبَّب بموته. ساشرب دمه!"

     لم استطع أن امنع اسناني من الاصطكاك. لقد جعلته أنا حقاً ينتحر. وهكذا قلتُ لمحمد، ذي المشاعر المفاجئة، "قال لي، رحمه الله، أن رئيسه اجبره على الاستقالة. انسان بلا عمل انسان بلا كرامة. مسكين!"

-" اللعنة، ولماذا لم يقل لنا منذ أن جلسنا معاً؟"

 فقلتُ له، "اعتقد انه كان مكتئباً."

-"يا ويله مني!"قال ثم فجأة استلَّ سكيناً من المائدة المجاورة المفروشة بصحون الكباب والحمص والسلطات، وهجم على شخص اكرش يرتدي بذلة انيقة وأخذ يبعطه حتى تقيَّأ دمه من فمه.

-" مرحباً أنا محمد، قارئ الصحف، والشخص الوحيد الذي لا يسمع جيداً!" وقف ثالثهم وصافحني، لكنني كنتُ قلقاً على محمد الذي تتملكه المشاعر المفاجئة، الذي كنتُ أرى شرطيَّان يجرجرانه خارج المقهى لأنه قتل شخصاً دون سبب بعيد تعارفنا. وحاولتُ أن اقول لمحمد قارئ الصحف الذي لا يسمع جيداً أن علينا أن نقف إلى جانب محمد الذي تتملكه المشاعر المفاجئة.

فقال، "أنا احبُّ صفحتي الاجتماعيات والاموات الجدد في الصحف. هل رأيتَ هذا الرثاء الجميل؟ دعني اقرأه لك؟"

-" اللعنة، نحن بماذا وأنت بماذا؟"

-" ساكتب افضل واصدق منها من اجل محمد الذي يوافق على كل شيء! يجب أن نختار له صورة جميلة في صفحة الاموات."

-" وماذا بشأن محمد الذي تتملكه مشاعر مفاجئة؟"

-" آسف، لا تهمني صفحة الاخبار المحلية. لن اقرأها يعني لن اقرأها. أنا هكذا. وانصحك بألا تجادلني لأنني مريض. يجب أن تقدِّر ذلك. وإلا كيف تكون صديقي؟ صديقي يعني ألاَّ تماحكني وتجادلني جدالات ومماحكات بيزنطية يا غبي. عليك أن تتفهم وضعي. وضعي الصحي، بالتحديد. أنا معي مرض القلب."

ولم اكد اصرخ في وجهه، "أنا لا تهمني صحيفتك ولا صفحتاك ولا رثاؤك الجميل، ولا شيء على الاطلاق؟!" إِلاَّ وقال محمد، قارئ الصحف، "قلبي! قلبي!! آآآآآخ!!" وسُرعان ما حمله بعض رواد الجاليري واخرجوه من الجاليري.

     شعرتُ أنذاك بأنَّ قلبي يخفق على نحو شقيٍّ. آه، كم شعرتُ أن عليَّ أن ابتلع جرعة فورية من الضحك؛ وهكذا اخرجتُ من جيب قميصي الورقة المطوية، وبسطتُها بعناية ورفق، ثم القيتُ عليها نظرة واحدة في لحظة واحدة، وفرقعتُ ضحكة جبارة، ثم عدتُ وعبستُ وجهي وطويتُ الورقة واعدتُها إلى جيب قميصي.

     وفجأةً هاجمني احدهم، "وما الذي يهمُّك؟" سألني محمد، الذي بدا مثقفاً، وهو يرتجف، بل نهض ولفَّ ووقف امامي، بينما كنتُ أرى محمد، الذي يعدُّ رزم النقود، يقف، يستدير ثم يغادر المكان دون أن يقول شيئاً. "ما الذي يهمُّك؟ يهمُّك أن تعرف بماذا نفكر وماذا نقول، اليس كذلك؟ لكننا لا نقول شيئاً. لا نريد أن نتكلَّم، هل هذا يعجبك؟ اعلم اننا نؤمن بأنَّ كلَّ شيء على ما يرام، ونحن نرى رام الله جميلة، والأمن مستتب، والحمد لله لا ينقصنا شيء، ونحن لا نعارض احداً، ولا ننتقد السلطة، وكلُّ من في السلطة مستقيم وامين، وانه لا توجد تجاوزات ولا اختلاسات ولا تحايل، واعلم اننا ندعو لرعاتنا طول البقاء، وكامل العافية، وبُعد النظر! أمين. اما نحن فلسنا سوى مجموعة اصدقاء نشرب الشاي والقهوة ولا نتحدث في أمور لا تعنينا ولا تغنينا. اكتب، اكتب كلَّ ما قلته لك، اكتبه بالحرف الواحد، أنا لا تهمني تقاريرك، ولا اخاف منك ومن امثالك، وإذا شئتَ أن تحقِّق معي فلن اعارض بالمجيء معك إلى الشرطة أو المقاطعة أو اريحا أو اي مكان آخر!!"

     وكان محمد الرابع ما يزال يصرخ، غاضباً، أليفاً، وأنا انظر اليهم فلا المح فيهم اية ردة فعل، اللهم كنتُ أرى محمد السادس، متجهم الوجه، الذي اجتمع اصدقاؤه لكي يقفوا إلى جانبه في فترة اكتئابه، يقفز كل دقيقة إلى اقرب نافذة ويلقي عليها نظرة سريعة ويعود إلى الطاولة لا يلوي على شيء.

     والغريب أن جميع من في "زرياب" كانوا مقطِّبي الوجوه، ينظرون ببلاهة وبلادة اليَّ والى شلة المحمدات، غير عابئين بما يجري؛ وكانوا كأنَّهم جمهور خامل في احدى مسارح السامر، فاغري الافواه، مكمَّمي الضحكات، فاقدي القدرة على الابتسام والضحك، وعاجزين عن فهم المقروء والمسموع. ثم رأيتُ تيسير بركات واحد النادلين يصفقان لمحمد الذي بدا لي مثقفاً، وخُيِّلَ لي انني سمعتُ صفيراً متقطِّعاً خجلاً يدلُّ على الاستحسان، تلاه بضع تصفيقات كسولة تردَّدت بين الطاولات سرعان ما ماتت، وكأننا في عرض فني.

     ثم لاحظتُ أن محمد الذي بدا لي مثقفاً يصرخ في رواد زرياب ويلفُّهم بتكشيرة متجهمة، قائلاً، "لا تصفقوا مثله. هذا ليس تيسير بركات، بل من المخابرات، إنَّه أمن وقائي. كلَّما اقول شيئاً، يتَّهمونني بأنني اشتم واسب. إنَّه يلاحقني في كل مكان. لا تصفقوا لي لئلا يعتقلكم، مثلي. لكنني لم اقل شيئاً سيئاً بحق احد. واللهِ! دعوني اهرب، دعوني وحدي!" وغادر مقهى زرياب راكضاً، وسمعتُ وقوعه عن الدرج.

     ودنوتُ من محمد السادس، المكتئب ذاته، وهو يوشك أن يقفز إلى النافذة. لقد تصورته انئذ انه سينتحر مثل محمد الذي يوافق على كل شيء، أو ربما كان يلقي نظراته عبر النافذة إلى الشارع ليرى جثة محمد الذي يوافق على كل شيء، أو ليرى فيما إذا ازالوا جثته ام لا، وربما كان ينظر عبر النافذة قبل قفزة محمد، محمد الذي يوافق على كل شيء، ليرى البقعة التي سيقفز عليها محمد الذي يوافق على كل شيء. وسألته، "لماذا تقفز كل برهة نحو النافذة وتنظر اليها!؟"

-" إنني انتظر مرور سيارات القمامة؟"

-" ماذا؟"

-" لن اجعلهم يخدعونني هذه المرة. ساجد كوب محمود المكسور يعني ساجد كوب محمود المكسور! انظر، ها هم افراد الشرطة والجيش ينتشرون في الشوارع. انظر. سيوقفون حركة السير هنا، الآن، لأنَّ قافلة سيارات القمامة سوف تسير من هنا. منذ شهر وأنا انتظر الشاحنات في هذا الشارع. من المؤكد انها ستمرُّ من هنا، اليوم."

-" عمَّاذا تتكلَّم؟"

-" إنني اتكلَّم عن التاريخ يا هذا. التاريخ سيمرُّ من هنا!"

-" لا افهمك."

-" محمد، محمد الذي انضمَّ الينا، لا تزعجني. ارجوك، تذكَّر انني اعاني من اكتئاب، ها."

-" آسف. لكن عليك أن تفهمني الوضع."

-" هل سمعت بـِ فلامنجو؟ فلامنجو؟ المطعم والبار المجاور هنا؟ نعم، حسن. محمود يشرب في فلامنجو. ويُقال انه يكسر الكأس الذي يشرب منه. هذا أمر مفهوم، اليس كذلك؟ الحمد لله. هنا يتدخل التاريخ. أنا ابحث عن تلك الكوب المكسورة. من المؤكَّد انها ستصبح تحفة أثرية نادرة ذات يوم في المستقبل. ولكنَّ المؤسسة السياسية هنا تخشى من تأليه محمود، فتبذل قصارى جهدها أن تضلِّل الناس وتموِّههم، ولذلك توقف حركة السير في عدة طرق وتبثُّ افراد الشرطة والجيش في الطرقات وعلى المفترقات، وتسيِّر بضع قافلات من سيارات القمامة في انحاء مدينتنا الجميلة في آن واحد، لكي لا يهتدي الناس إلى شاحنة القمامة التي توجد فيها قمامة مطعم فلامنجو، وفيها كوب محمود المكسور."

-" محمود؟ محمود من؟"

-" إنه الـ محمود الوحيد في البلد يا غبي!"

-" محمود من؟"

-" محمود الذي يثمل في فلامنجو!"

-" محمود من؟"

-" محمود درويش!"

-" محمود من؟"

-" محمود درويش."

-" ومن هو محمود درويش؟"

-" من هو محمود درويش!؟ بيَّاع بليلة!! ها، اني اشم رائحة محمود. لن يخدعوني هذه المرة. الشاحنة، الشاحنة! التاريخ! الكوب المكسور، محمود!!!" ثم فجأةً رأيتُه يقف بجانب الدكتور عبد الكريم خشان الذي كان يقرأ على الشرفة الخارجية لجاليري زرياب، ولم اكن قد رأيتُه من قبل.

     لم استطع أن الحق بمحمد المكتئب أو ادنو من الشرفة المطلة على الشارع العام نظراً لالتصاق الطاولات بعضها ببعض. لكنني رأيتُ محمد المكتئب يقف مع الدكتور خشان اجلالاً واحتراماً كأنَّهما يحييان موكباً مهيباً، ثم أخذا يصفقان للموكب بكل حفاوة وترحاب، ووجهاهما عابسان، ملبَّدان بالحزن. لا اعرف لماذل افترضتُ انهما كانا يحييان ويصفقان لموكب شاحنات القمامة التي توجد فيها كوب محمود المكسور. ثم رأيتُ محمد، المكتئب، يقفز من نافذة "زرياب،" ومن المؤكد انه قفز إلى احدى شاحنات القمامة ذوات اللونين الأخضر والأصفر الجميلين.

 

     وتفاجأت من حقيقة أن كل رواد زرياب كانوا مقطبي الوجوه، وإماراتهم متحجِّرة، وعيونهم بلا روح، وأجسادهم خاملة، مخشَّبة، وأفواههم مكمَّمة، لا أحاديث ولا ابتسامات ولا ضحكات. وهكذا دفعتُ ثمن استكانة الينسون على طاولتي، وهممتُ بالخروج. لكنَّ تيسير يركات اعترض طريقي، وقال، "لنصفق لهم جميعاً." وامسك بيدي ولوَّح بها. ثم يا للمفاجأة، رأيتُ شلة المحمَّدات تدخل من الباب إلى قاعة الجاليري، فاستقبلهم الرواد بتصفيق حار يسوده الوجوم والعبوس.

وقال تيسر بركات، "نشكركم على حُسن اصغائكم إلى السكيتش المسرحي الذي قدمه لكم كلٌّ من الممثلين الكوميديين: رامي مسلَّم، بدور محمد الشرطي، الذي يوافق على كل شيء. ناصر مطر، بدور محمد الإرهابي الذي تعتريه مشاعر مفاجئة. عدنان ابو سنينة، بدور محمد قارئ الصحف، الذي يقرأ صفحتي الأموات والاجتماعيات. عادل الترتير، بدور محمد رجل الأعمال الذي لا يني عن عد النقود. إسماعيل الدباغ، بدور المثقف المتشكك الذي يقول، "اششششش!" واحمد ابو سلعوم، بدور محمد المكتئب الذي يبحث عن كوب محمود المكسور. والممثل الكوميدي.."

 قلتُ له، "أنا.. أنا.. أنا لستُ ممثلاً.. "

 نظر إلى تيسير بركات وقال، "ماذا؟ أنتَ لستَ معهم؟ كنتَ مقنعة جداً في تمثيلك؟"

-" لكنني لم اكن امثِّل. بل لم أظن أبداً أن هؤلاء ممثلون كوميديون. لم يكونوا كوميديين أصلا. لم يضحكوني. لم يضحكوا أحدا في القاعة. بل كدتُ أحيانا أموت حزناً. ومرة كدتُ ابكي."

-" لكننا رأيناك تضحك أحيانا، على نحو غريب. ودعني أكون دقيقاً في وصفي: فقد كانت ضحكاتك مثل فسوات بلا ميعاد، اعذرني على عبارتي."

-" نعم، ضحكتُ من هذه الورقة."

-" وما هي هذه الورقة؟"

-" إنَّها روشتة. وصفة. دواء. كلَّما اشعر بالضيق والحزن والقهر، وكثيراً ما اشعر بذلك، أتناول هذه الورقة، افتحها، انظر إليها، فاضحك. هذه وسيلة علاجية ناجعة."

-" وماذا فيها؟"

-" نكات."

-" ها، نكات. نكات مضحكة. هل هي نكات جنسية أم سياسية أم اجتماعية؟"

-" الحقيقة أن في الأمر سوء فهم. في أجسادنا توجد طاقة. تلك الأنواع من النكات تنفِّس تلك الطاقة. لذلك من الأفضل ألاَّ تكون النكات نكات جنسية، سياسية أو اجتماعية. من الأفضل أن تكون نكات بايخة، لا معنى لها."

-" هه هه هه. في الورقة نكات بايخة ولا معنى. هه هه هه.."

-" نعم."

-" وأنت تقرأها وتضحك عليها؟ هه هه هه!"

-" نعم، اضحك. ولكني لا اقرأها."

-" لا أفهمك."

-" سأريكَ فنَّ الضحك. أرجوكم جميعاً، اخرجوا ورقة بيضاء وقلماً. حسن. اكتبوا في رأس الصفحة النكات التالية، ذات مرة واحد طلع على السحسيلة، تشحشل! النكتة الثانية، ذات مرة واحد شرب سفن-أب، مشي خمس خطوات وقفز. النكتة الثالثة، مرة واحد ذهب إلى مهرجان فرأى هناك مُهرِّجان.. حسن الآن تكفي ثلاث نكات.." وقاطعني تيسير بركات، "لكنني ألاحظ انك مكشر، لم تضحك أبداً على النكات؟"

 فقلتُ له، "الآن، سأُريك السر. أرجوكم اطووا الورقة. ضعوها في جيوبكم. منذ الآن وصاعداً، بوسعكم حينما تشعروا بالضيق، أن تخرجوا الورقة المطوية، تفتحوها، تلقوا نظرة عليها، وتضحكوا ملء أشداقكم. اضحكوا. اضحكوا. ثم اطووها وأعيدوها إلى جيوبكم." وسخسخ الجميع من الضحك. فطسوا. كثير منهم ارتمى على ظهورهم. وتبعني بضعة من الرواد وهم بين الفينة والأخرى يخرجون أوراقهم، التي نسخوا عليها النكات البايخة، يلقون نظرة عليها وسرعان ما يطووها ويهزُّون شوارع رام الله بضحكاتهم.

     وأصبح كل الناس، كباراً وصغاراً في رام الله يخرجون اوراقاً مطوية من جيوبهم، يفتحونها ثم سرعان ما يطوونها ويكركرون ضاحكين بكل حرية، بكل تلقائية، ما عدا محمود الذي كان يشرب في "فلامنجو،" ولا يجالس احداً، ويكتب قصيدته الجديدة، ويكسر كوباً آخر، بينما كانت شاحنات القمامة تمخر عباب الشوارع المكتظة بالناس الضاحكين، وهي تزعق بصافراتها المحذِّرة المزعجة.

     وفجأة اعتراني خوف على هذه المدينة، رام الله، الفاجرة بقهقهاتها وأضوائها، التي كانت تثمل من ضحك متواصل كأنَّه جني خرج من قارورة حُـبِـسَ فيها منذ آلاف الأعوام. ولا اعرف لماذا صرتُ لا استطيع أن اضحك كلَّما أخرجت الورقة ونظرتُ إليها. هل كان ثمة خوف اعتراني من احتمال اقتحام الجيش الإسرائيلي لرام الله لينقذها من حمى الضحك؟ مزَّقتُ ’’الروشتة‘‘، وأمعنت في تقطيعها، ونثرتها في سماء رام الله، وأنا انظر إلى الناس الأغبياء، الضاحكين بلا سبب، وأقول، "كفانا الله شرَّ هذا الضحك!" وتركتُ الشوارع وعدتُ إلى البيت، في وجهي كشرة مزمنة، وفي يدي لاشيء، وفي قلبي قلق من أن شيئاً لن يضحكني بعد اليوم.

19 آب 1997

 

 

الكعكة

 

 

في هذا البيت الغائر في عمق الأرض، بلا منافذ أو تهوية، بلا منظر اطلُّ عليه من الباب، بلا سطح أقف عليه ذات صباح لأرى فتيات خجلات ونساءً شهيَّات ينشرن الملابس المغسولة تحت سياط الشمس، وجدتُ إنني اسكن، اسكن، اسكن. لا اعرف لماذا آل سكني إلى ذلك القبو الحقير الذي يتكوَّن من غرفة واحدة! ربما الفقر؟ نعم، ربما الفقر جعلني أعيش وحدي، في الظلمة، في الرطوبة، في الهواء الفاسد الراكد.

 

ذات فجرٍ ما، أيقظتني من النوم خرفشة في غرفتي. أشعلت الضوء. لا احد. صمت. أطفأته. الخرفشة حتَّـت أعصابي وجعلت عظامي تسرك مرة أخرى، كأنني صخر جيري سهل التفتُّت. أشعلت الضوء. لا شيء. أطفأته ثم أشعلته بسرعة فـلمحتُ عندئذٍ صرصوراً بني اللون يزحف ثم حالاً توقف عند إحدى الزوايا كأنَّه يتظاهر بأنَّه ميت ليضلَّلني.

إذن، أنا أعيش مع الصراصير. نهضتُ من الفراش، وانتعلتُ حذائي العتيق المهترئ، وهرستُ الصرصور تحت قدمي. ثمة صرصور آخر مرق كالبرق الخاطف من جانب قدمي؛ حاولتُ أن الحق به، وفشلت. ولاحظتُ إن الصرصور الذي هرسته قد انتصب على أقدامه الشعيرية وخبَّ بعيداً عني، وسرعان ما تبعه صرصور آخر، فآخر. بل أن كلَّ صرصور كنت اهرسه تحت قدميَّ كان ينتصب واقفاً ويزحف في طريقه دون أن يعيرني أدنى اهتمام.

     كلُّ المبيدات الحشرية لم تنفع. لا بُدَّ أن الصراصير لديها مناعة من كل هذه المبيدات التي تُباع بثمن زهيد في الحارة التي أعيش فيها. ثم اهتديتُ إلى إبقاء المصابيح مضاءَةً أربع وعشرين ساعة متواصلة، لكي اضلِّل الصراصير وأبقيها في جحورها.

     بعد ثمانية أيام كانت عيناي قد تورَّمتا على نحو مخيف أشعرني وأنا انظر إلى وجهي في المرآة بأنني ميت. ثم عدتُ وأطفأت المصابيح الكهربائية طمعاً في النوم والراحة، وخوفاً من ارتفاع فاتورة الكهرباء. لاعترف بالحقيقة، حربي مع الصراصير لم تُجدِني شيئاً. حتى إنني صرتُ أعاني من أرق مزمن.

     اللعنة، أريد أن أنام، أرجوكم، دعوني أنام، هكذا كنتُ اصرخ في الصراصير طوال الليل، وأنا، كالجثمان المتورِّم الذي لم يُدفن منذ عدة أيام، منهمد على سريري المتهدل، لا استطيع أن ارفع رأسي أو يدي، ثم لم يعد بوسعي أن اصرخ، فصرتُ اهمس، بينما كانت الصراصير مشغولةً ببناء مدينة لها، وكلها تمرق أو تمشي على مهل على أرضية الغرفة وجدرانها. بل وشنَّت الصراصير حرباً مضادة عليَّ. فقد لاحظتُ لاحقاً إنها بَـنَـتْ، من كثرة عددها وتقاطع اتجاهات سيرها، إشارات ضوئية في أرجاء بيتي. العمى، ما الذي يحدث؟ ثمة آلاف النوَّاسات الخضراء الصغيرة كانت منثورة في أرجاء البيت، كأنَّ البيت كله كان كعكة تعجُّ عليها شموع لا حصر لها بمناسبة عيد ميلاد شخص عمره ألف سنة.

     أهو أنا؟ لكن البيت كان حقَّـاً كعكة طرية. وكان أمراً جميلاً أن أتخيل بأنَّ ثمة كائناً خرافياً كان يهدم بيتي بسكين خفي ويقسِّمه ويلتهمه قطعةً قطعة، حجارةً جيرية، وتراباً مخلوطاً بالقشِّ والرمل، ومواسير مياه صدئة، ومجرى قميئاً متآكلاً للحفرة الامتصاصية، وبلاطاً ملوناً مرقَّشاً بأشكال هندسية بهتت ألوانها وغاب رونقها، وانا؟ اللعنة، ماذا أكون أنا في هذا البيت الكعكة؟! أتراني حبة كمثرى أو كرز حلوة المذاق ذبلى تغطِّيها التجاعيد؟ هه هه هه.

     كان كثيراً ما يحلو لي أن ارتمي على السرير وأفكر كثيراً جداً على نحو جاد، هكذا. وكم تمنيتُ أن أحادث الصراصير. اسألها ماذا تفعل في الليل في بيتي العتيق؟ وماذا تبني؟ ولماذا إشاراتها الضوئية (التي أصبحت بمثابة نوَّاسات بالنسبة لي) خضراء فقط؟ وهل أشادت إشاراتها الضوئية الخضراء لتمعن في إطالة أرقي وحرماني من النوم؟ لكنني لاحظتُ ذات ليلة ما أن الإشارات الضوئية المبثوثة هنا وهناك على أرضية بيتي وجدرانه كانت حمراء اللون، حمراء كأنَّها جروح صغيرة أو بثور برصية دامية، وكانت الصراصير كلها بلا استثناء واقفةً بلا حِراك.

     آنذاك لم يكن بوسعي أن أتحرك على سريري، كأنني كنتُ احلم. شعرتُ أن كل شيء كان حلماً واحداً طويلاً. فهل كان بيتي ذو الطراز الهندسي العتيق حلماً؟ هل كانت الصراصير حلماً؟ هل كانت إشاراتها الضوئية حلماً؟ وأنا أيضا، هل كنتُ حلماً؟

     ورغم ذلك، كان بوسعي أن أرى الصراصير لا تزال واقفة؛ أتراها أعلنت الحداد دقيقة واحدة على شخص ميت. كانت تلك الدقيقة طويلة كالأبد. الصراصير تماثيل. إشارتها الضوئية، (نوَّاساتي الحمراء،) تتقد كالجمرات لتحرق من يجرؤ على الاقتراب. أهي تقف عن الحركة متظاهرةً بالموت لأنَّ ثمة كائناً اكبر مني يحاول أن يسحقها جميعاً ويسحقني معها تحت قدمه؟! أهو، إذن، ذلك الكائن الخرافي الذي يقطِّع بيتي-الكعكة بسكينه الخفي ويتلذَّذ بطعم الشيد المتساقط والتراب الجيري العطن والرطوبة المُشبعة برائحة العناكب؟

     ها هي دقيقة الحداد تتمطى ألف عام. ها أنا مرتمٍ على سريري الصدئ انتظر نهضتي من غفوتي الطويلة وتعبي المزمن. ها هي ثمة ذراع فولاذية صفراء كالمغرفة تقتلع إحدى جدران قبوي. اللعنة، لماذا أصبحت الإشارات الضوئية التي بنتها الصراصير تبثُّ ضوءً اصفر؟ كلُّ شيء أصبح عصفريَّاً. وأين رفاقي الصراصير؟ أين قبوي؟ اينني عني؟ وأين أكون؟ وأين يكون قبري؟

     ‏إخوتي الصراصير، أهيلوا عليَّ التراب الممزوج بالرمل والقش. احملوني. تعالوا معي، ‏‏لا تقفوا هكذا دون حراك، امشوا. هل احشد، في عضلات جسدي، ‏‏حشرجات قوتي كي أقف على قدمي للمرة الأخيرة وأكون شرطي‏ ‏سير لأنظِّم حركتكم؟ أتراكم توفيتم؟ ‏تعالوا معي؛ لا بُدَّ أن ثمة حديقة فيها متسع لي ولكم. أنا متعب. دعوني أنام بينكم. دعوني ارتاح قليلاً. اللعنة، متى سأفيق من نومي العميق وتعبي المزمن وأصبح كرزةً حمراء، حلوةَ المذاق، ذبلى، مكتملةَ التجاعيد، مغروزةً في كعكة "بايتة،" مهزومةً إلى درجة الانعتاق؟

وداعاً، وداعاً يا إخوتي الصراصير. ها هو الفجر قد بزغ وأنا استيقظ مرة أخرى؛ ها هي الشموع الصفراء الباهتة ذابت وانطفأت نيرانها الكهرمانية، ها هي كعكة عيد ميلادي الألفي أُكِلت، ها أنا أبدأ وحدي نهاراً جديداً. سأترككم وحدكم، فاعتنوا ببيتي جيداً، واعتنوا بسريري المتهدل. وداعاً، وداعاً يا إخوتي الصراصير.

11/9/1997

 

أضيفت في 16/01/2008/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية