أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

مجموعات قصصية / الكاتب: غسان كامل ونوس

مفازات

إلى صفحة الكاتب

لقراءة المجموعة القصصية

 

 

المجموعة القصصية

استقامة

الصوت

الثمرة

الخريف 

ملاحقة

الكوة

الجدار

الوليمة

قناعة

الانجاز

المفتاح

تلك الرحلة

مفازات

 

مفازات

 

الإهــــداء

إلى لهفة العبور ومرارته

 

الخريف

 

-1-

 

في الوقت الذي بدأت الشمس تشيح بوجهها، متدثرة بغشاء رمادي يسودّ باطراد، كانت غشاوة مماثلة تنسدل في عيني، فتمعن المشاهد في ارتدادها إلى زمن تنغل فيه الأحداث، وتتردد في أركانه أصداء موقعة لنوبات تتواتر حادة في أوقات مشابهة. وهذا ما يجعل من الليل شركاً، أعيش طوال النهار وسواسه.

الليل والخريف مروعان، فكيف إذا اجتمعا؟!

"ليس ليل الشتاء أقل قسوة. لكن صخب الخصوبة وترقب الخضرة وصدى الانبعاث، على الرغم مما يرافق ذلك من حركة ورعب، تثير إحساساً بالمشاركة، حتى لو كان تخاصماً واصطراعاً، فتشعر أنك لست وحيداً، كما هي حالك الآن!"

ساكناً بانتظار أمر جلل، كما يشي ليل الخريف بتكاثف عتمته، وما يخلفه اصفرار النهار المتقاصر في النفس من إحساس بالمرارة والخسران. ربما يزيد من وقع كل ذلك توجس من أوقات أكثر عصفاً. هل تكفي هذه المبررات لكل هذا القنوط؟!

-2-

ذات أمسية حالكة، قال أبي:

- صرخت أمك بجنون، فاندفعتُ راكضاً إلى المولدة في القرية التالية. لم يكن الوقت يسمح بإحضار إحدى جدتيك، أو أي من نسوة الحارة البعيدة. استطعت البقاء، وأصر توأمك على مرافقة أمه إلى المقبرة.

"لم يكن ذنبك، أو على الأقل، ليس ما يثبت عكس ذلك، ولا ما يريح.

ما زلتَ تقيم النذر الذي أولمه والدك عن روحك. وها أنت تستمر، غير متأكد أيضاً من أن هذا البقاء، بكل ما يحمله من أصداء وزفرات، هو من فضائله."

*

"مصلوب في دوارة التقصي، في أي سمت تروم التوجه، تتعثر بحشرجات النكوص، ونتوءات التحسر. تغربك اللحظات طويلاً، قبل أن تلقيك مثخناً بالقروح. فإلى أية نهاية تلوذ؟! وبأية خاتمة تستعيذ؟! هل المسارات أم الساري؟! وما في الرجوع وعد؟!"

-3-

البدايات الحثيثة المتدافعة لم تتوقف، رغم كل ما كان في مقتبل الحضور من اكتئاب. والخريف فصل البدايات والنهوض المتواثب عبر الدروب المستحيلة، كما بدت في كثير من الأحيان. لم أتردد. وفي كل ابتداء استعداد وأمل، وزوادة من دعاء، ونذور وصلوات.

لم تكن البديلة عن أمي أماً. ولم تكن قارسة. لكنني لم أحس بها رضاً أو اقتناعاً، رغم محاولات أبي الدائبة. وهذا ما كان يتركني بعيداً أطول فترة ممكنة، مع إحساس بالاغتراب، والمسافة تكاد لا تذكر، قبل أن يهيمن كل ذلك البعد في تلك المهمة. كان الإحساس بالفاقة أكثر منها، وشعور بالاضطراب لا ينثني. رغم إشغال الوقت بما تتطلبه الواجبات، وما يستفيض عن ذلك من محاولات الاقتناع بما هو كائن، وتوقع ما يمكن أن يكون أفضل. 

*

حين أستذكر ذلك الخريف، يختلط علي الأمر. فقد تدافعت رزمة من البدايات في وقت قصير، لأحتار في تقديرها، أو حتى توصيفها. فهل كانت متوازية أم متتابعة؟! وأيُّها كانت مقدمة للأخرى؟! أم أن لكل منها سبباً منفرداً؟! فأصل بالتالي إلى الدوامة التي تجعلني أفكر بالطريقة ذاتها: تلك النهايات التي خلص إليها بعضها، والأخرى التي لما تختتم بعد. رغم أن ملامحها بادية، وخلاصتها لا تخفى.

"خطر لك مراراً أن تتحكم بالمسارات جميعاً، وتنهي الأمور كلها دفعة واحدة، بطريقة تختارها. لكن كل ذلك بقي أمنيات تختلف درجة حلاوتها من وقت لآخر."

-4-

لماذا انتهت المهمة بتلك السرعة، وتلك الطريقة؟!

لماذا ابتدأت بتسارع محموم، وطقوس غريبة؟!

أسئلة ما تزال عالقة في ثنايا الفصول بكل ألوانها. لكنها تتكاثف في شفق الخريف، كل خريف. لتنهمر في لياليه حصى أو أشواكاً، أو حدوداً حادة!

*

(كما بدأتَ تنتهي..)

هل كانت تلك المرأة تصدق، تخمن، تلعب؟!

هيكلها يوحي بالغرابة، لباسها، الألوان الكامدة على يديها ووجهها، خواتمها، شعرها المشعث..

هذا ما بدت عليه، حين كان غروب الخريف يرمد.

ماذا تقصد؟! ومن تكون؟! وهل تقول الحقيقة؟!

ليست شحاذة، لم تطلب مالاً، ولم تأخذ سوى كسرة خبز: لو تغمس بالزيت، تكون أطيب.

كان يمكن أن تنام عندنا، كما طلب منها والدي. لولا الأم البديلة:

" خفتَ أن تفعل، ذلك يكفي، لست مؤهلاً للمزيد.."

هل الحقيقة فوضوية إلى هذا الحد؟! هل هي غريبة؟! أم أنها لا تحتاج شكلاً مناسباً أو هيئة محددة؟!

لكن الشكل الذي بدأت به تلك المهمة كان غريباً، مباغتاً، عارضاً. والنتيجة قارسة.

تلك المرأة برزت فجأة، مع بدء الإعلان عن المهمة. لطالما فكرت بامرأة مميزة. ولم يكن مجال للتفكير، ولم تترك العواطف أية فرصة للمحاكمة. ولا الاستعداد للمهمة كان يمكن أن يعين في ذلك. كما لا تترك المحاكمة الآن أية فسحة للعواطف كي تبرر ما كان، أو تسكت عن تبكيت، أو تخفي قنوطاً بعد سنوات من ذلك الختام.

*

كما بدأت أنتهي!

متى؟! كيف؟! أين؟!

هل سيموت أبي معي؟! أبي الذي حزن كثيراً من أجلي، بعد الذي حصل.

ضحك:

- هذا كلام يدعو للسخرية. كلنا سننتهي كما ابتدأنا.

قلت:

- الطريقة الغريبة في قوله، وعرضه، وتأكيده تجعله ليس طبيعياً.

تحولت الضحكة إلى أسى مكتوم:

- أنت من سيجعله كذلك يا بني، أو تتمناه.

-5-

حين أفكر بتلك المهمة، والظروف التي رافقتها، أتمثل حالاً من الذهول المر، والحيرة الشائكة. فما الذي دفعني لإنهاء المهمة؟! والأشياء قد بدأت تأخذ مسارها الطبيعي، والمنغصات التي ترافق حال الغريب عادة بدأت تتحلل؟! ومن أين جاء ذلك الإحساس بالنكوص؟! أو ربما ذلك الشعور بالعظمة؟! فبدت المهمة، بكل ما يمكن أن ينجم عنها، هزيلة ضئيلة لا تستحق الوقت الذي سيهرق من أجلها، والاحتمالات التي ستتلاشى لمجرد الارتهان لفصولها.

وهذا يقود إلى الوسواس الذي دفعني إليها.

لم تكن نكسةٌ تودي إلى الهرب، ولا خيبة مفاجئة تجر إلى الانتحار، ولا طموحٌ يدفع للمغامرة.

إذن؟!

تأخذني الأفكار عميقاً، لتجعل من تلك المهمة اختصاراً رمزياً للرحلة كلها، الرحلة التي يمكن أن تختتم بالطريقة ذاتها. وهذا ما يعيد إلى الواجهة العبارة التي رددتها تلك المرأة بثقة، وربما بأسى محايد، ما تزال ملامحه المتكهنة تستثيرني. فأنقب في البدايات التي تؤدي، أو يمكن أن تؤول إلى تلك النهايات.

وهذا ما يجعلني أقعد طوال الأيام، أفكر في ما كان ويكون. فأصل إلى انكفاء عن الفعل. مما يجعل الفصل التالي مرجأ أو ملغى. فيريحني من نتائج جديدة لا تحمل سوى المزيد من النكسات.

بيد أن هذا الأمر بذاته يجعل الوقت والفصول بلا معنى، والرحلة كلها بلا طعم سوى المرارة.

 

وعلى الرغم من ذلك، فإن الشيء الذي ينخرني في هذه الأمسية الخريفية، والشمس أكملت غيابها القاتم، أن كل الإشارات توحي بوسواس بدأ لكزه الواخز الملح، وترافق ذلك مع ملامح امرأة تبدو مميزة، إن هذا الخريف مختلف.

 

 

الثمرة

 

-1-

 

لا.. لا أظن أن ذلك لأنها في أراضي الجيران!

إذن؟!

لدينا أشجار منها؛ كان لدينا. تهرأت جذوعها، غصونها التي اندفعت من هنا وهناك لم تثمر، ولم تتعلق بها تلك الثمار الصلبة. حتى البرية منها لم تعمر طويلاً؛ نداهمها، دون أن يعفيـها أنها من دون طعم.

*

" … صلبة أيضاً، هذا ما كان يبدو، ولم تكن تهتز إلا قليلاً.. لم يكن باستطاعتي التأكد من نضجها. لم أجرب.. لكنها شهية أيضاً، شهية كثيراً!".

-2-

يقول أبي: نقطفها، ونخمرها في التبن؛ لو كانت لدينا!

ونقول: لا.. لا يمكننا الانتظار. تناولها عن الشجر أطيب، حتى لو كانت غير ناضجة؛ تنضج في أيدينا!

وتقول أمي: حظنا هكذا. انظر إلى ثمرات بيت الحمدان!

ونقول: أمي.. أولادهم لا يعرفون أن يأكلوا، أم أهلهم لا يسمحون؟!

" أنظر إلى ثروات بيت الحمدان وأقول: حظ.. وهل نعرف أن نأكل؟! هل نستطيع؟!"

تضحك أمي: حظ يا ولدي؛ الدنيا حظوظ!

وتنظر صوب أبي الذي أطرق، وفي عينيها ظلال حسرة!

-3-

ليس شجره كثيراً، لم يعد كذلك، ولا موسمه وافراً، لكن طعمه لا يضاهى. هذا ما نستشعره حين تأتي حصتنا من ثمرات شحود في رحلته الحولية إلينا، أواخر المواسم؛ تلك التي ننتظرها بتلمظ. كان أقرب أقربائنا، رغم أنه البعيد، وسواه لا يبعد بعضهم عنا أكثر من سماكات جدران. ولذكره صدى كثيف الحلاوة، لا يخفف منه توالي تردده من فم والدي مفاخراً.

ذاك الطعم لا ينافسه إلا طعم ثمرات آل الحمدان. ننتشي ونحن نتحسسه في سرد الحكايا، ونخطط للحصول على حصتنا منه، وحين نتذاوق ما اقتسمناه بعد مغامرة مضنية.

*

" هي حصتي وحدي. لا أريد اقتسامها مع أحد، ولا حكايتها. وكنت أتضايق من ذكرها، أحاول الهروب بالحديث إلى أية فاكهة أخرى. ولن يصدقوا إن رويت لهم:

(كان دوري في رد الإهانة. ذهبت إلى الحدود؛ دورها أيضاً بدأت أتفُّ صوب الجهة الأخرى، وجاهرتْ بالفعل ذاته نحونا. واقتربنا أكثر. الشجرات المكتنزة بالثمار قريبة، تلك التي نحيك الخطط لاقتناصها. والثمرات الأخرى أقرب. كنت أمني النفس بالنظر إليها ، وانتظار فرصة أصعب للوصول. شهية كانت، وناضجة رغم أن شكلها لا يوحي بذلك. هذا ما اكتشفت بعدما صرت آخذ دور إخوتي. وفرحت أمي لحماستي في رد الضيم في الحرب المتواصلة مع آل الحمدان منذ سنين. لكنها سرعان ما اتهمتني بالخيانة، وسحبت مني المهمة، وصارت ترسل أخي. لست متأكداً أنها رغبته، أو رغبة أخيها في الجهة الأخرى.).

وتعاركنا طويلاً..".

-4-

في أول دخل لي، فكرت بوليمة منها. بحثت عنها في أسواق عديدة. لم تكن كثيرة ولا طيبة. لها طعم التبن، أو الماء. نكهتها شبيهة ثمرة أخرى، لم أكن قد تذوقتها قبل ذلك. أثارني شكلها حين رسمه لي في الهواء صديق آيب من السفر، بشفاه ملمظة، وحركات ذات معنى.

لم يكن شجره معروفاً في منطقتنا، ولا الشكل الشهي لثمره. فلباسهن لا يفصح، ولا كلامهن.

حتى طعمه الذي تلهفت إليه في أول مناسبة، لم يكن على قد الشهية. فارتسمت غصة أخرى، أقل من غصة ثمرتي الخانقة حتى قبل نضجها!

-5-

لم تعد الحدود ميداناً لمعارك حادة؛ كبرتُ على القيام بتلك المهمة، وكبرتْ أيضاً، واقتربنا أكثر في مواجهة مشروعة. لم يعد لتلك التخوم معنى، بعدما تداخلت الحدود وتشابكت حتى لم يعد ممكناً، لو مر سيف بيننا، معرفة أي الدماء تهرق! لكنني عرفت أن شحود مات، وضاعت سلته الشهية..

وقعدت أتلمظ طعماً يغيب.

-6-

حين صار لي متسع من الإمكانية، قدرت أنني أستطيع أن أزرعها، وأهيئ لها كل ما يلزم. جعلتها اختصاصي، قرأت الكتب، وسألت الخبراء، وانتظرت أولى الثمار. قلت: ربما أصابتها العيون التي لا أشك في أنها تتشهاها. كتبت لها عند الأولياء، ونذرت. منعت المرور جوار البيت. حتى الضيوف الذين امتدحوا خضرتها ونضارتها، قاطعتهم حين بدأت تزهر.

*

كان لها طعم الماء.

عطشتها..

بدأت تذبل أمام عيني، وتحت أنفاسي.

يئستُ، أهملتها. وعدت أنظر في الجهات كلها.

سُرقتْ..

 من يمكن أن يقوم بذلك؟! ماذا يجد فيها؟!

أين منها ذاك الطعم؟!

حزنت، لم أحزن..

نظرت في كل اتجاه..

ما تزال الغصة في قلبي!

 

 

الصوت

-1-

 

"- لو كان لي صوت، لصرخت في وجهه !"

قال في سره، وهو يراجع أصداء لقاء انتهى للتو.

"- لو كان…!"

زفر تافاً رذاذاً حاراً؛ تأكد له ذلك من كثافة بوق البخار الذي انطلق من بين شفتيه.

" - لماذا لم يصرخ في وجهه أحد؟!

  - ظننت أن ذلك سيحصل!"

فح بوق آخر:

"-فعلها أحدهم، بل فعلوها جميعاً، ولكن…!"

*

"وحدي بقيت صامتاً؛ أطرقت قليلاً، نقلت ناظري بينهم، يتكلمون بحماسة.

قاطعوه مراراً، بالهتاف والتصفيق؛ لم يُنظر إلي. منهم من نظر عرضاً.. لم يسألني أحد عن رأيي، لم أطالب بحقي في الكلام؛ ليس لدي أبلغ مما قالوا، ومن غير اللائق أن تردد أقوالاً مشابهة، أو أقل حرارة…!"

فكر ثم أضاف مدارياً حال حزن مكتئب :

"هذا فيما إذا كان لي صوت…!"

 

-2-

قال والدي:

-أنا أحب (وديع ) أكثر، لأن صوته من رأسه!

وتابع، بعد أن نفر سؤال في وجهي:

- هناك من يكون صوته من بطنه!

- وصوتي أنا؟!

ضحك :

- أنت.. ليس لديك صوت… بعد !

وأضاف مع أنة مديدة حادة:

 

- لا تزعل! لست وحدك.. أنا أيضاً ليس لدي صوت؛ لا أحد يسألني عنه!

*

سهرت مندهشاً:

صوت أبي واسع حاد، حين ينادينا، أخي وأنا، في الحارة البعيدة كي نعود قبل المغيب.

كان يطلقه معتّباً، وهو يستريح من حفر الأرض، وابتناء المساند الحجرية للسفوح المنحدرة، فتردد أصداءه الوديان..

تباهى أمامنا مرات، بأن لصوته الفضل في استمالة قلب أمي، حين اشترك في منادمة شرسة، جوار البيت الذي صار بيت جدي؛ ومنافسه مقومس ! لكن حماراً لا يلبث أن يطلق نهيقه المديد حين تتعالى نبرة صوته! فبقي صوت والدي وحيداً مؤثراً:

إذن لماذا لم يعد لوالدي صوت؟!

سمعته يقول مرات:

-سبحان المعطي! صوت حمد يصل مسافة يوم، وعتاباه قوية حادة. إنه رزقة حقاً، سبحان الرزاق!

- هل يبيع صوته؟!

ضحك:

- لا.. ليس تماماً؛ يتقاضى بعض النقود عن عذوبته ومعاني أبياته؛ هو لا يطلب، المستمعون يدفعون من خواطرهم.

- ولكن سلوم باع صوته!

- سلوم…

وضحك باسترسال :

( جاؤونا بورقة جريدة، وقالوا: أصواتكم لنا؛ يجب أن تكون لنا. انظروا بياننا/ برنامج عملنا! نحن من نستحق أصوات الكادحين! لن تضيعوا أصواتكم هنا وهناك. يجب أن تعلموا أن لها قيمة، ثمناً…

تناول سلوم الجريدة، وبدأ يصفّر، ويهز رأسه. وصاحب البذلة المكوية، ينتشي:

-أرأيت؟! اقرأ لزملائك.. خبروا أصحابكم! )

وتابع والدي:

( كتمت ضحكة -جلجلت بعدما ذهبوا - حين مد المرشح يده إلى الجريدة، يصحح من وضعيتها، قائلاً: هذا من شدة لهفتك لقراءة البيان!

قال سلوم: كنت أصفّر من منظر السيارة التي في الجريدة؛ ظننته حادثاً، فالدواليب إلى أعلى!!

ثم ضحكنا أكثر حين قلت له:

- حسبتك ستقول: ما أنا بقارئ!

- صل على النبي يا رجل!

وترافق ضحكه مع رنين النقود في جيبه.).

قلت في سري: لو كان لي صوت، لبعته.. ربما!

رددت ذلك مرات، حين كانت تتملكني رغبة أن يكون في جيبي قطعة نقود، كالتي يلعب بها أولاد السعدون في المدرسة ذاتها، أو في احتفالات العيد التي تستمر أياماً؛ كما كانت تحز أعصابي أصوات الأبقار التي أمر بها تحت شجرة التوت حيث تربط ذبيحة العيد.

-3-

ذات مساء صيفي غاص بدخان روث مضاد للناموس، كنا على المصطبة، حين قطع عدي النجوم الأكثر إشعاعاً صراخ أنثوي حاد قادم من البيت الملاصق لدارنا. جفلت واعتدلت؛ تطلعت إلى أمي: كانت عيناها معلقتين بعيني أبي المبتسم. قلت:

أمي؛ إنه يضربها!

ضحكت:

- لا لا تزعل من أجلها! هي ليست…

ربتت على كتفي:

- لماذا لم تنم؟! تأخرت؛ ستفيق لترافق الماعز إلى المرعى!

ضحكت رفيقة الرعي حين أخبرتها، ولم تستغرب، حتى حين حدثتها بما جرى في ليلة تالية: جاءتنا المرأة ذاتها تركض، وكنا على المصطبة عينها، وعصاه تلاحقها، وألوان من النعوت التي تشتهى في أوقات أخرى. بكت أمي من أجلها طويلاً.

لكني لم أرو لها ما سمعت ذات مساء شتوي: كان أنين أمي المكتوم، وضحكها المشتت يتناوبان من الركن المظلم في بيتنا الوسيع. لم أدر إن كان علي أن أحزن من أجلها، أم أفرح! وبقيت عيناي مبعثرتين في ظلام يعجز عن إضاءته سراج شحيح.

*

قالت أمي:

حتى في هذه لا تنفع!

لم تكن المرة الوحيدة: كانت ترسلني، كلما مر حين من الزمن، أقف على طرف الحاكورة المقابلة للحرش، لأرفع صوتي محذراً الثعلب المتربص بدجاجاتنا الوفيرة. فيخرج وشوشة، فتصيح:

-ويلي منك، وويلي عليك! هنيئاً لثعالب الدنيا بحراس من أمثالك!

قعدت، يومئذ، أندب حظي، وقلة حيلتي، وضعف صوتي. حين سمعت أصواتاً متلجلجة غير مفهومة قادمة من طريق الوادي القريب؛ جزعت، وكدت أهرب لولا أن شغلتني اللهجة غير العادية، واللحن الغريب، والمقاطع المتداخلة، دون أن أتبين كلمة واحدة، أو نغمة منسجمة؛ قبل أن يظهر، بعد حين، أخرس القرية المجاورة، عابراً من جوار الحافة التي أختبئ خلفها، منتشياً، منشغلاً، هازاً رأسه، منطرباً…

*

صديقي يطلق من فمه أصواتاً متقطعة، وهو يشد خيط طائرته الورقية المتعالية. كنت أرفع طائرتي، حين سألته:

- ما هذا؟!

- صوت الطائرة.

- ولكن صوت الطائرة يخرج من مؤخرتها.

سخر:

-من قال لك؟!

-أبي قال لي حين مرت طائرة حربية، سمعت صوتها بعد عبورها، فسألته.

-وما الفرق؟!

لم أجب .

وحين عبرتنا ذات أصيل صيفي محمر، مجموعة من الطائرات الشبحية، وترافق دويها مع أصوات انفجارات الخزانات التي تلينا، أحسست برائحة كريهة، اختلطت مع مشاعر الخوف والحيرة والشك! وفتشت عن صوتي طويلاً!

*

لم يكن لصوتي حاجة، حين حاربنا كل الأعداء، وانتصرنا في فترات التدريب الصباحية والمسائية. وكنت أحرك شفتي مع الصوت الهادر الذي يرعب العدو في عمق تحصيناته، ويعيد كل الحقوق بخبطة قدم. لكن المشكلة برزت، حين كان علي أن أقسم. وطلب مني أثناء التحضير لحفل التخرج مرات، أن أعيد الكرة، بعد عقوبات وتهديدات. فقد خلص المشرفون بعدئذ إلى أن نقسم جماعة؛ لست متأكداً إن كنت وحدي السبب في ذلك!

-4-

صرخت في وجهه:

- أنا غير موافق!

حين قال:

- كلكم موافقون، بالتأكيد.

- أنا غير موافق، وما تقوله غير صحيح، وأنت نفسك لا تؤمن به، ولا تمارسه؛ هؤلاء أيضاً لا يؤمنون، ولا…

وقف محتداً، أراد أن يقاطعني، يسكتني. ويذكرني بالنظام والأكثرية، والصوت الوحيد النشاز، وبالشذوذ الذي يؤكد صحة القاعدة، وبالحصاة التي تتوهم أنها ستوقف التيار..

لكنه بدأ يتراجع، أسبل يديه، أطبق فمه. بعد أن وقفت، وقلت كلاماً كثيراً، كلاماً أفكر في قوله منذ زمن، كاد يقتلني، يخنقني، يميتني.

بدأ صراخي يتعالى، ويدي تهتز، وعرقي ينز؛ الكلام يتهاطل بالجملة.. بدأت الكلمات متآكلة متداخلة؛ الصوت متواتر متلجلج..

تصاغر الذي كان قبل لحظات أمامي عملاقاً، تضاءل، تلاشى. لم أعد أحس بمن حولي؛ تهامسوا أول الأمر، وانشددت من قميصي لأسكت:

-مالك أنت؟! هل جننت؟! هل تريد أن تصلح ما أفسد الدهر؟! ولماذا تحمل السلم بالعرض؟! ومن الذي يدفعك؟! أو يحميك؟!

لم أعد أسمع أنفاسهم، زفراتهم، حتى موافقاتهم  التي تلت ذلك، وكلمات التأييد التي كانت خافتة. ثم تعالت، حتى أن صوتي لم يعد بإمكاني تمييزه!

قالت زوجتي منقبضة الملامح:

-مع من تتخاصم؟! كنت تتعذب، وأنينك خافت؛ هل هذا كابوسك الدائم؟!

-5-

في الوادي البعيد، ثمة متسع من الفضاء الخالي من الكائنات: كنا نشرع أصواتنا، نتبارى بالصدى..

هل ما يزال هناك صدى ؟!

كان غروب الشمس قد بدأ بإلقاء نثار العتم على اللوحة الغارقة في الإبهام؛ أطلقت حجراً صوب النهر الذي كان لصهيله نغم الحياة، ذات طفولة. تردد إيقاع ارتطامها بقاعه الصخري. تلاه نداء خرج من بين شفتي المتيبستين، باسم من كانت تشاركني الرعي والصراخ، وأشياء أخرى.. لا أدري كيف حدث ذلك، لكنه كان صوتاً مني، صوتي! أتبعته بآخر، وآخر… تواصل الصدى مديداً، قبل أن تظهر على الضفة المقابلة من الوادي، على الصخرة المواجهة؛  تضرب خديها بكفيها، وتشد شعرها، وتنتحب..!

 

 

استقامة

 

خيول شاردة في برية لا تستطيع الامتداد أبعد، الخطوط المستقيمة تحد اللوحة على الجدار أمامي. لوحات أخرى تتوزع الجدران: أفكار متنوعة، وصور وأحلام وخيالات وألوان، وكلام منثور في بيادر تصلب بين استقامات متعامدة..

أهرب منها للتأمل بما حولي:

فضاء مقطوع باستقامات كثيرة تحشرني في إحدى زوايا هذه الغرفة، أو تخزني في أماكن عديدة، فتسيل الكآبات، وتطوف الخيبات على خلفيات باهتة في اتجاهات الغرفة جميعها. أحاول الهرب في أي منها، فيقيض محاولاتي انتصاب الجدران العنيدة.

أستقصي الثغور، أصطدم بحواف النافذة، وحروف الخشب الحادة. تتكاثر الشروخ، وتنمو الندوب، وتتأهب للحز حروف الباب والأبواب الأخرى، والبيوت القريبة والبعيدة المشرعة استقاماتها وحدودها القاطعة في أي اتجاه أنظر إليه، أو في أية دروب أطلق إليها ساقي. تعتقل نظراتي برهة، وتفكيري لحظة. وتطوف على رقبتي عدداً من المرات التي أكرر النظر فيها.. ثم تلقيني مطعوناً بعدد لا يحصى من الحراب، وتتركني معلقاً من رؤاي وأسئلتي:

أي شر هذا؟! أية قسوة وأية شراسة وعدوانية تمثلها تلك الاستقامات؟! وإلى أين تمتد؟! وكم تتعدد؟! وكيف تنتهي؟!

أتنقل من استقامة إلى أخرى، ومن صدمة الوصول إلى خيبة الابتداء من جديد: استقامات الواجهات المتجاورة، استقامة الشوارع المرسومة المحددة بأسهم موجهة بعناد، وخطوط ملونة، وأرصفة مستقيمة أركض عبرها، أحاول الهرب من هذه المدينة ذات الاستقامات والانعطافات الحادة بلا انتظام. تصطدم عيناي بأشياء تبعث بعض الرضى في النفس المشروخة: تكورات متعددة في هياكل أنثوية تمشي، تتحرك، تتمايل برؤوس لها أشكال مختلفة، لكنها ليست مستقيمة، مزينة بنتوءات وتعرجات في واجهاتها المتمايزة، ليست لها حدود واضحة محددة حادة. ألاحقها، عيناي تنزلقان على محيطاتها المحيرة الغامضة اللذيذة. فتنتقل من سطح إلى سطح، ومن نتوء إلى نتوء، ومن تعرج إلى آخر؛ تدخل في الثنايا، تخرج من الزوايا محملة ببريق جذاب، وشيء يدغدغ الذاكرة والإحساس واللحظة الحاضرة، ويترك في النفس رغبة وأملاً في متابعة الجري، ولذة تبعث على طلب المزيد.

*

لماذا يحدث هذا؟! وما الشيء الذي يجعل من تلك الاستقامات أدوات اغتيال؟! ومن تلك التعرجات والتكورات دروب مشاوير ممتعة؟!!

ولماذا كانت الاستقامة من أصلها؟!

من الذي اخترعها؟! وأي شيطان أمر بها؟! إذا كانت الطبيعة لا تعرف الاستقامة، ولا تقر بها أو تستخدمها؟!

لا الأنهار المدعوة إلى البحر يهمها أن تذهب إلا بالطرق الممكنة الأسهل. ولا الأشجار المنسوب إليها حب الانتصاب العلي يعيبها أن تتفرع وتتشعب، وتختلف ثخاناتها، وتتعرج حواف أوراقها. وليست الغيوم الباكية أو الصامتة مربوطة إلى أبعاد معروفة.

حتى هذه المطية المفلطحة التي تسبح في الفضاء، لا تسير وفق استقامة صارمة. ولا يشينها،  بل ربما يزينها ويحييها تعرج سطوحها، وتناوب النتوءات والتجاويف بشروط غير محددة، ولا معلومة السبب والغاية. ومثيلاتها، تلك التي لا تعد، ليس لزاماً عليها أن تسلك طرقاً مستقيمة، ولا تبدو وفق أي نوع من الاستقامات.. وهل كان ينقص كل هذه الموجودات مثل تلك الاستقامة؟!

ولم كانت؟!

" الخط المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين.."! و" هو أقصر الدروب.." !

هذا ما كرره أستاذ الرياضيات معتزاً بقدرته على الشرح، ومفاخراً بهذه المعلومة التي لا تحتاج إلى طول برهان.

فماذا يعني هذا؟! وما الذي يجعلنا سعداء بمعرفته؟! وما كان الدافع إلى اكتشافه؟! ولم العجلة؟!

لتكن الطريق بعيدة ومتعرجة، هل هذا يحد من جمال الرحلة؟ أو يمنع من إمكانية التفكير في أن الوصول في حد ذاته لعبة مفترضة، وغاية متكهن بضرورتها؟! وغير مؤكدة النتيجة، وغير معلوم من ينتظرنا هناك؟!

أقرب الطرق سوط يجلد باستمرار، وأمر دائم الإلحاح؛ هل هي الرغبة في مماثلة الضوء أو التشبه به؟! هل هو التوق لاستباق الزمن أو مطاردته؛ تلك التي لن تجدي نفعاً؟!

ولماذا أنا ملعون بالاستقامة في كل مكان؟! ومطارد منها ومقتول بسهامها؟!

لو لم أكن مستقيماً، ما كنت متكوراً هنا، في هذا الركن ذي الاستقامات الحادة، ومتهماً بصفات لا ترحم، وبحوادث لا تنتهي فصولها ودعواتها ومرافعاتها، وتكفي كل منها لتعليقي في حبل شاقولــي سيستقيم من أجلي، أو لجعلي دريئة تصوب إلي الرصاصات التي تسير وفق أقرب الطرق، لأستقر في النهاية في حفرة ذات حدود مستقيمة…

"هذا رجل مستقيم"! قالوا..

 كنت كذلك.. لم أقبل أياً من محاولات اللف والدوران، والخروج عن الخطوط المرسومة بإتقان، أو التي تصورت أنها كذلك، وظننت أني أسهر على تسهيل العبور وفقها. لكن أحداً لم يعد يرغب بذلك أو يعجبه، كما يبدو، وبدؤوا يتناقشون حول جدوى اتخاذها سبيلاً، وصحة وجودها إلا في ذاكرتي القاصر.

من الذي ورطني وزرع في خلدي أن الاستقامة طريق الوصول السريع الآمن، وطريق السعادة وراحة الضمير والبال؟!

ها أنا أجتر ماضيّ الذي رسم بطريق الخطأ، حين قالوا مرات: هذا رجل مستقيم.

ثم أعادوها وكرسوها، وامتدحوا ذلك إلى درجة بقيت وحدي على الدرب المستقيمة، وغادر الآخرون إلى دروب أكثر نضارة وبهجة والتواء.

وما تزال اللعنة تطاردني، وتنهال علي من كل الاستقامات التي تجسمت معاقل وأقفاصاً، وخرج الآخرون منها إلى الطرق المتشعبة المتثنية بزهو وانتصار..

هنا في وحدتي وغربتي وبطالتي، تحاصرني أمداء مقطعة باستقامات مرئية وأخرى غامضة، وتخترقني إشعاعات من نوع مختلف، لكنها قادرة على الوصول إلي من كل الاتجاهات، وتتركني خرقة متكومة مثقوبة ومشروخة بعدد لا يحصى من الاستقامات..!!

 

 

ملاحقة

 

- إنه يسأل عنك..!

قال ومضى؛ شيعته حتى غاب عن ناظري.

لم أستفسر منه. ولم أتفوه بكلمة. فليس أول عابر ينقل إليّ هذا الخبر؛ سبقه عشرات ممن أعرف ولا أعرف، بأشكال تشبهني، أو تختلف عن هيكلي بدرجة مهمة.

في البداية، كنت أسأل الرسول عن ذاك الذي يسأل عني؛ شكله أو أية علامات تميزه..

وأدقق في مصدر معلوماته، دون جواب مقنع؛ بل كلام غائم غامض متردد، مع سرعة في التهرب من متابعة الحديث.

ورحت أتساءل بيني وبين نفسي عن معنى هذا اللغز.. ذاك السؤال:

أدائن تأخرت في تسديد دينه؟! لا أذكر أن هذا حدث مع غرباء؛ أما القريبون ففيهم من الجرأة ما يكفيهم عناء ذلك.

أم هو صديق قديم التقيته ذات فرصة، ثم غاب عن الذاكرة، يعود الآن؟!

ولكن.. ما الذي يجعله يتأخر كل هذا الوقت في السؤال عني؟! هل المودة فياضة إلى الحد الذي يجعله يرسل إلي إشارات عن قدومه مع كل هذا العدد من الأحياء؟! أم نجاحه الباهر يقف وراء تذكره لي، وشماتة ظاهرها الحب والإخلاص؟!

هل هو عدو ما برحت معاركنا تتجدد، جاء في مواجهة لست مهيأ لها الآن. هل عرف هذا عن طريق جواسيسه، أم أصدقائي المقربين الذين لا ينامون الليل قلقاً علي، وخوفاً على مصيري؟!

ربما كان معجباً، اطلع على تاريخي الذي لا يخلو من لحظات نشوة وومضات سعادة ونجاح لم تعمر طويلاً؛ جاء حباً في المزيد من إلقاء الضوء على تجربة امتدت سنين.

أم أنه شبيه، وجد في حالتي التي تبالغ وسائل الإعلام في تضخيمها، سمات مشابهة لمعاناته، فأحس أن في إمكانية التقائنا فرصة لتبادل الندب والعويل، وفي مصيبتي تخفيفاً عن آلامه، واستفساراً عن جدوى العلاج؟!

أم تراه حامل بشارة استعصت على الأرض والجبال زمناً طويلاً، ووجد في طيبتي وسذاجتي وصمودي صفات تلزم لحاملها ، وأليق بها؟!

أم أنه شخص أسأت إليه ذات وقت، حاولت إلغاءه، وتماديت في تجاهله والتقليل من شأنه في مناصب كثيرة، ومناسبات عديدة، وأعمار متعددة، يجدني الآن دريئة سهلة للانتقام؟!

أم لاجئ دله الناس علي؟!

*

ضائع حائر ممزق في التخمين والتوهم والتخيل والتساؤل؛ فهل هذا يبرر وجودي هنا؟!

لا أستطيع التذكر، ولا قدرة لي على التفكير المنطقي، ولا إمكانية على الصبر. ولا يمكن الاستنتاج من ملامح المخبرين؛ منهم من يضحك - وربما يقهقه- وهو يقذف الكلام أشلاء. ومنهم من يتعثر بعباراته متردداً متلفتاً منقبضاً. وآخرون يلقون الألفاظ كما لو كانوا يتخلصون منها، دون أية ملامح تنبئ أو تفسر. ويمكن أن تتداخل الكلمات القليلة بأخرى لا علاقة لها بالموضوع.

منهم من يحدق في عيني حين الكلام، وينظر بعضهم إلى أي اتجاه وهم يقذفون تلك العبارة، دون أي اعتبار للجهة التي أظهر فيها، أو أختفي.

*

تنتابني أحياناً لحظات شك في الخبر من أساسه؛ أقول:

ألا يمكن أن يكونوا فاسقين؟! لماذا لا يكون الغرض من وراء كل ذلك ما يحدث لي الآن بالضبط؟!

ثم أنكفئ: هل من المعقول أن كل هذه الأنواع تكذب؟! وهل يمكن أن يجتمعوا على اختلاف أشكالهم وأعمارهم وأحوالهم على أمر ملفق وحكاية لا أصل لها؟!

ولكن.. لماذا لا تكون مصلحة في ما يحصل لي لمن يقف وراءها؟!

وربما تناهى إلى سمع أحد مثل هذا الكلام عرضاً، فجرى يتحدث به، حتى وصل إلى مثل هذا التنوع والغموض؟!

*

مرات كثيرة حسبت أن الوعي قد عاد إلي، فاتهمت نفسي بأن كل ما يحدث، وما سمعت وتسمع، ليس سوى هذيان أو تهيؤات لا أصل خارجياً لها، ولا صدى أو نتيجة. ولا من خبر أو مخبرين، وليس هناك من يسأل عني.. وربما كان محاولة للتسلية أو التشهي للتغلب علــى حالات الوحدة والكآبة واليأس، والعجز عن الفعل أو التواصل، فأحاول الخروج من شرنقتي. وما إن أطل برأسي حتى تصلني الأصوات متداخلة شرسة: أين كنت؟! من يسأل عنك شغل الدنيا بحثاً ورسائل واستفسارات..‍!

*

من يضمن لي أن هذا المكان سيؤمن لي الحماية اللازمة؟! من يطمئنني بأني هنا بعيد عن أنظاره واستشعاراته ورسائل تحذيره وأخباره.

عشرات الأمكنة الأخرى لم تكن لها هذه الأهلية.. فوق سطح الأرض وتحته؛ مواقع حديثة وقديمة.. برية وبحرية.. مصطنعة وطبيعية.. مأهولة ومقفرة.. لم تكن حمايتها كافية، ولا كتامتها قادرة على تغييبي، كما أتمنى..  حتى تلك التي تكاد منافذها أو تجهيزاتها لا تكفي  لأنفاس ضرورية تسمح بالبقاء على الحياة في حدها الأدنى.

كيف تصل إليه أخباري؟! ذلك هو اللغز الذي يعذبني، إضافة إلى العذابات الكثيرة الأخرى التي سببتها مطاردته العنيدة ، وسؤاله اللجوج. حتى أصبحت أشك في أقرب الناس إلي. وأتوجس من أية كائنات أخرى تتواجد في المكان الذي ألتجئ إليه.

واستشرى هذا الشك إلى حد اتهام أنفاسي، فوددت لو أستطيع الدخول في سبات مؤقت أو دائم. ولكني أجهل الطريقة، وأخافها. وحسدت أنواعاً من الأحياء تنعم بهذه الميزة النادرة. وغضبت ممن يدعي أن لنا صفات النوع الأرقى، وأننا مثال الحياة الفضلى. ولكن الشك اندس مرة أخرى ليجعل المسؤول عن هذا اللغز أعضائي بما هي حية، ولا سبيل إلى وقف ما تبثه الخلايا الحية، إلا بحل وحيد ليس الوصول إليه في متناول الإرادة، وإن كان لـه مكان في ساحة الأماني أحياناً كثيرة.

*

يبرز في شتات الحالة التي أعيش، وشريط الأفكار الذي يعبر طوعاً أو كرهاً في لحظاتي المسمومة هذه، أسئلة وتساؤلات وعلامات دهشة واستغراب تكاد تجعل كل ما مضى من عذاب لا معنى له؛ فما الذي يخيفني منه كائناً من يكون؟! وماذا ارتكبت من جرائم، واقترفت من آثام تجعلني غاية سهلة وصيداً قريباً؟! ومن الذي سلطه علي وسلمه المسؤولية عن ذلك؟!

وأعقد العزم على مواجهته، والوقوف في وجهه، وإبراز براءتي وحسن سلوكي وسمعتي..

 

لكن.. سرعان ما تنفتح أبواب الذاكرة، فيتدفق سيل من الأعمال والأقوال والرغبات تكفي كل منها للإدانة. رغم أن بعضها لا يعرفه سواي-أو هكذا أظن- وأكاد أنكر علاقتي بها. لكن الأدلة لا تلبث أن تسكت أي نزوع للدفاع. وأخجل من نفسي، ومن الآخرين الذين يعرفون، والذين لا يعرفون.

وأعجب كيف استطعت الإفلات من الجزاء الذي أستحق. ويكاد يدفعني الندم وتبكيت الضمير ولوم النفس على الاعتراف الذي لا لبس فيه، وتسليم نفسي له ليفعل ما يشاء.

لكن في غموضه وقلقي ما يثير الخوف من جديد في ما يمكن أن يحصل لي لو صرت قبض يديه، أو رهن إرادته.

فهل حقاً يريد القصاص مني على ما ارتكبت من أخطاء؟! أينشد الصلاح والفضيلة فعلاً؟! أم سيكلفني بأعمال أخرى لا تقل فظاعة وعدوانية وخروجاً عن القانون؟! وقد يكون عقابه شديداً إلى درجة يغدو الموت أهون. وقد يجعلني ألهية يسلي بها وقته، فيعيد تشكيلي مرات بما تصبح فيه حالي الجديدة منبتة عن حياتي التي تعودت، وأحب أشياء عديدة فيها.

*

كل العلامات السابقة بدت واهنة أمام الإشارة هذه. الأخبار التي نقلت إلي من قبل تبدو الآن باهتة. فالخبر الأكيد نزل علي كالصاعقة، بحيث لم يترك فسحة للملمة أفكاري ومشاعري وقواي من أجل مواجهة صارت حتمية.

فقد وصل أو يكاد.

كيف عرف أني هنا؟‍‍! من أخبره؟! ما الطريق التي سلكها؟!

كل هذا لم يعد يهم الآن.

كيف سيكون اللقاء؟!

الذاكرة لا تستطيع تقديم ما يلائم، والإمكانيات التي تفاخرت بامتلاكها طويلاً تبدو لعباً خرقاء. النبوءات والحدس والحواس المعروفة والغامضة تغيب الآن؛ فيما الوقت يحز بحدة على الأعصاب.

*

بعد لحظات، وقبل لحظات.. وفي برهة انشرخ عنها الوجود، برز أمامي؛ أحسست به، وتخيلت أني رأيته، وعجزت عن تفسير ما رأيت:

 

شكل، هيئة، هيكل، موجة، شبح، خيال، رغبة، خوف، أمنية، احتمال، إحساس، شعور، فكرة، خاطر، إشراق... أو كل هذا معاً، أو لا شيء منه على الإطلاق.. سوى إشارة تلقيتها بوضوح وقوة وعناد:

- إنه يسأل عنك..!

 

 

الإنجاز

 

 

-1-

اضحك.. يحق لك.

 فقد تحقق أخيراً.

أليس هذا ما تصبو إليه منذ زمن، زمن؟!

*

"تكاد الدنيا تضيق من فرحتي.

الكائنات ترقص من أجلي، الأرض تخضر وتزهر، وتزقزق العصافير كرمى لي!"

-2-

جالساً في أيكة الفوز، منتشياً يتدشأ من كل فتحاته ومساماته. يتقبل المباركات التي ستنتهي بعد حين.

يجب أن تنتهي. فقد تعب؛ لكنه تعب الراحة. أرهق جسده، لم يعد شاباً، رغم إحساسه بذلك بعد الإنجاز الكبير. لكن عليه أن يرتاح. يشعر بالحاجة إلى ذلك أيضاً. سيرتاح قليلاً في حيزه الذي ما يزال فيه، مستعداً للانتقال لما يليق. كي يكون على قدر النجاح الذي تحقق، والمسؤولية التي تفرضها الحال الجديدة.

"ليس مهماً الآن سوى أن الأمر حصل . والحاسدون يموتون في كمدهم، والمحبون سعداء بإنجازي، إنجازهم."

*

متدثراً بالغبطة، متوشحاً بالكبرياء، يحاول أن يتذكر مراحل المسيرة الطويلة الغاصة بالعثرات، الحافلة بالكفاح والنضال:

"كثيرون لم يكونوا معي، انتهوا على الطريق. آخرون تركوني في حمى السباق، وغادروا. عديدون عارضوا. ليس مهماً مصيرهم، وليست حال من بقي منهم تسر."!

-3-

- ماذا بعد؟!

سؤال لم يعره اهتماماً، حين طن في خاطره. لكن إجابته حضرت:

- نحيا الفوز، ونعيش النصر.

- ماذا بعد؟!

سؤال آخر نتأ في خلده مفاجئاً. وخاصة بعد ترافقه مع أقوال بدأت تتردد بكثافة:

- ألن ينتهي برنامج الاحتفال؟! هل تكون الأيام كلها مباركات وبرقيات تهنئة وزهوراً اصطناعية؟!

*

حين كانت تخطر أفكار كهذه خلال الأيام الشاقة، سرعان ما يظهر الجواب:

- لا تهتموا بالتفاصيل. دعوا الغاية الأسمى نصب أعينكم! ومن يلح، عليه أن يتحمل نتائج تشكيكه!

لم يعد من يسأل أو يفكر.

-4-

- لماذا كان كل ذلك؟!

-لا أفهم!

- ما الغاية من كل ما حدث؟!

- الوصول.

- إلى ماذا؟!

- إلى الفوز.

- والغاية الأسمى؟!

- تحصيل حاصل.

- والجدوى؟!

- الجدوى.. الجدوى..!! لماذا تشوهون الفرح ؟!

- والمشروعية؟!

- تحقُّقُهُ دليل على أننا نسير في الاتجاه الصحيح!

- وما الدليل على صحته؟!

- المبادئ، والناس، والتاريخ، والكتب، والأرض المزروعة بالضحايا..

- وماذا بعد؟!

-…

*

ماذا بعد؟!

السؤال الذي بدأ يتسع، ويتمدد.. يشوك الأوقات، ويفرض أسئلة أخرى تتكاثر. 

 

 

قناعة..

 

 

-1-

مسكين هذا الرجل؛ عنيد أم معتوه؟!

يلاحقني من مكان إلى مكان، ومن وقت إلى وقت يسرف في الحديث؛ يناور؛ يشرق ويغرب محاولاً إقناعي. لا يكل ولا يمل أو ييئس، ولا يغضب من ردود أفعالي المختلفة، غير اللطيفة أغلب الأوقات..

في البداية، لم آخذ الأمر على محمل الجد. وحسبت أنه مجرد طرفة. على الرغم من عدم وجود متسع للفكاهة بيننا، وليست علاقتنا وطيدة إلى الحد الذي يتيح مثل هذا، أو يسمح به. ولست ممن يحبون المزاح. وهذا ما يضايق الكثيرين من أصدقائي في بعض مجالس الأنس التي تجمعنا.

ربما كان الدافع إلى اعتقادي ذاك، المفارقة الكبيرة بين ما أفكر فيه من مبادئ ومواقف وتاريخ وأحداث، وبين ما يدعوني إليه، ذاك الذي لم يتجرأ سواه على اقترافه. ربما لأنهم يعرفونني عن قرب.. وحين بدا لي أن الأمر إلى استمرار، تضايقت. وبدرت مني ردود أفعال ناتئة، أخذت تزداد حدة، حتى أصبحت غضباً بادياً.

 لكنه لم يتوقف..

كنت أحسب أن أمر التقائنا عرضي، وتعارفنا مصادفة. وخيل إلي أن سؤاله بلا خلفيات أو أساس. وربما كان داعية لفكرة يقتنع بها، ويود حشد الآخرين في جانبه. وهذا حقه؛ كما أفكر دائماً.

حتى إذا ما أراد أن يكون أتباعه من المثقفين أو المعروفين مثلي، فهذا لا يبتعد عن حدود ما أقره، وأعترف بمشروعيته. وغبطت الزمن الذي ما يزال فيه مثل هذا المخلص..

لكني بعد وقت بدأت أظن أنه يترصدني؛ فمن غير المعقول أن تتكرر المصادفات إلى هذه الدرجة. ومن غير المقبول أن تتقاطع أوقاتنا ونشاطاتنا إلى هذا الحد. وخاصة بعد أن بدأت أغير من بعض جداول أعمالي، بأية حجة أقنع بها نفسي، دون أن أصرح بذلك. لكني فيما بعد صرت أخطط لمثل هذا التعديل. ولم يكن الأمر ليختلف إلا قليلاً؛ إذ لا تلبث المصادفات تترى..

*

-2-

أول الأمر كان يقول:

- ما رأيك في أن..

ثم صار سؤله معطوفاً على ما سبق من لقاءات، فليس من الضروري أن يفصح عما يريد، فيقول:

- إيه.. هل من جديد؟!

فأقول متجاهلاً:

- في أي أمر؟!

-ولو يا رجل.. ماذا نفعل من زمن إذن؟!

وحين بدأت أتجاهله في أي مكان، وأتجنب السلام عليه، لعله يتركني بحالي، ويمضي إلى تبشيره بعيداً. صار يقترب مني، أو يلطمني بكتفه إذا كان قريباً. ويقول:

- العتب على النظر!

وقد يهتف:

   - طبعاً؛ عرف الحبيب مكانه فتدللا!

ويضيف:

    - لا تسلّم؛ لا بأس! ولكن قل لي ما الذي جد في موضوعنا ؟!

يقول أحياناً:

- أنا أعلم أنك تفكر، ولم تصل بعد إلى قرار.. لا مشكلة؛ المهم أني بانتظارك. لا تنس!

كيف عرف أني مشغول بالأمر؟! من سكوتي عن مواجهته؟! تلك التي عييت من متابعتها؟! أعترف أني عاجز؛ يبدو أن في الأمر ما يدفع على التفكير. هو أشار إلى أنني أفعل؛ هل هو متأكد من ذلك؟! وما الذي يجعله متأكداً؟! لم أقل لأي كان، لا في العمل أوالبيت، ولا في لقاءات الأصدقاء.. تلك الجلسات التي ضعفت حماستي لها، ولم يبد غيابي نقصاً، فأنا  في الأصل لا أستسيغها كثيراً؛ ربما يمرحون في غيابي أكثر. هل  يعرف بعدم تواجدي بينهم؟! هذا ممكن. لكن ذلك لا يعني أنني أفكر؛ أقصد: أفكر في موضوعه.

وما هو الموضوع الذي يأخذ منه كل هذا الجهد؟! وكل هذا الإصرار؟! وكل تلك القناعة؟!

لعله مأجور، يقبض ثمن كل رأس يحنيه!!

لو الأمر كذلك، سيخسر. فلا أعتقد أن شيئاً ينتظره من مراودته لي. وعليه أن يستفيد من أتعاب إقناع رؤوس كثيرين غيري.

ولم لا أكون مهماً أكثر؟! ربما كان الأجر المرصود لاصطيادي مجزياً!

أنا لست عادياً؛ لا شك في هذا. الكثيرون يقرونه، ويقولون إنني مدافع صلب عن آرائي، وإن من المستحيل أن أبدلها. هذا ما كان معروفاً عني. في الواقع هم بذلك يبالغون؛ فلا مستحيل في الحياة.. ولعل السبب في آرائهم أنني لا أقول إلا ما أقتنع به، ولا تأتي القناعة إلا بعد مناقشة كل الحالات الممكنة، والأجوبة الأخرى..

قال مرة:

- ولماذا لا يكون لك مثيل من حيث المناقشة والتحليل؟! ولماذا لا تكون الآراء الأخرى المتبناة بقوة تعتمد على معلومات أو احتمالات لا تعرفها. عفواً.. ليس لضعف في تحليلك أو قدرتك على الربط والاستنتاج؛ بل لأنها ليست في متناولك!!

أعترف أنها كانت المرة الأولى التي وجدت فيها نفسي عاجزاً عن الرد. وقد وافقه الحاضرون. وندمت على قبولي البقاء حتى وصل الكلام إلى هذا  المستوى. وقد صار أمر انسحابي هزيمة منكرة. فلم أنسحب، ولم يستكمل الحوار. هو الذي انسحب، وقد أصاب بذلك الهدف، وأحسن التصرف. أحسست بذلك طويلاً.

 

-3-

ومما قاله في وقت آخر، ووصل كلامه إلي:

- الفرصة الآن سانحة، وقد يندم بعد فوات الأوان! وما يريحني أنني قمت بما علي القيام به وأكثر.

أندم؟!على ماذا؟! ومن هذا الناصح المبشر الغيور؟! أنا لست مضطراً، لست قلقاً على أفكاري، ولم أدعه أو أرجوه هو أو سواه. ولست مراهقاً؛ صار عمري مديداً، الناس يعرفون أفكاري، ويقدرون صمودي في وجه كل المحاولات السابقة ترهيباً وترغيباً. ولم أنثن.. فكيف سأطيح بكل ذلك التاريخ، وكل تلك التضحيات والقناعات التي ترسخت في أذهان الذين يعرفونني عياناً، أو سمعوا بي، انشغلوا بآرائي؟!

كيف أرفع رأسي أمامهم؟! كيف أخبئ وجهي منهم؟! أو أترك مجالاً للقاء بين عيني وأعينهم؟! قد يبدلون. نعم؛ منهم من فعل مثل ذلك جهراً، وآخرون قاموا به سراً. ومنهم من ينتظر! أعرف هذا. ولكن لا أعتقد أني سأظل وحدي كما يهمس المغرضون. وربما كانت هذه أفكاره أيضاً، من أين حصل عليها؟! هل يتنبأ أم هو متأكد؟! وما الذي يجعله مقتنعاً؟! ترى هل يكون ذلك السببَ في مجيئه إلي؟! هل هناك قوة خفية تحرسني؟! وقد أيقن الكثيرون بذلك، وما يؤكده اتخاذي قرارات مهمة، وإبداء آراء بدت في كثير من الأحيان نبوءات. إضافة إلى كثير من الإلهام الذي أقر به. وهل تلك القوة هي التي سخرت ذلك النذير وأرسلته إلي؟!

هل من المعقول أن تكون لي مثل تلك الحظوة ولا أحترمها؟!

هل من المقبول أن تكون لي مثل تلك الأهمية.. الرعاية.. الحماية وأتجاوزها أو أنكرها؟! أو أجحد بها؟! من أجل ماذا؟! من أجل أفكار يمكن أن تكون قد صارت قديمة، من أجل مبادئ تجاوزها العصر، أو هو في طريقه إلى ذلك؟! الكثيرون يقولون هذا، ولكني لا أنصت إليهم. هل هذا صواب ؟! وهل يمكن أن أكون الوحيد الذي يفهم؟! سأفكر، نعم؛ هو تفاءل بذلك، وربما علم. ولكن علي أن أخبره. لقد قال إنها محاولته الأخيرة، فهل يعود؟! لأزف إليه أني أفكر؟! بل فكرت، وقررت.. وانتهى الأمر!!

 

 

الوليمة

 

-1-

 

ربما يأتي وقت أكثر ملاءمة، يقف فيه بين يدي الحقيقة..

لن يكون في حاجة للاعتراف، ولا لتقديم ملخص للأعمال، أو مذكرة بالأحداث. ولن يكون –ربما- موعد محدد. لكن الأشياء تبدو كأنما على موعد، والأحداث تجري، كما لو أن دليلاً أعد لتقديمه وثيقة إثبات في مناسبة ما.

ليس في هذا ما يثير، بل العجيب في أنه لم يفاجأ! حتى لكأن الموقف الذي وجد نفسه فيه بعد كل تلك السنين، دوري يتكرر باطراد، أو حلقة تالية في مسلسل منطقي الزمن، أو قدر مكتوب، وقضاء مبرم.

*

في مرحلة سبقت، لم يكن في وسعه التراجع، حتى لو أراد. وليس ما يثبت أنه رغب بذلك. هو لم يصرح. والحركة التي كان يقوم بها بدت مقنعة. والكلام الذي يسيل من شفتيه، لم يكن يعتوره أي تردد أو تباطؤ. ولا ذلك التقديم الذي يسبق السرد المحفوظ، من مد للصوت وتوقيعه، حتى العبارات التي تتناثر عادة هنا وهناك : (في الحقيقة، في الواقع، من المعروف، …..) كانت أقل مما هو متوقع !!

-2-

" أنا لم أبتدع ذلك، وجدت الدرب مرصودة، والوجهة مرسومة فاتجهت، والحكاية مصاغة فحكيت..!

أنا لست المسؤول؛ آه لو تصدقون، لو تقدرون..! " .

الأيام مترعة بالاندفاعات –كانت!- والوقت يكاد لا يتسع للهمم، والأمسيات نشوانة من شراب النصر

المحتم ..!

-3-

قالت بأسى:

- لا أراك !

قال:

- أنانية!

وهز رأسه ومضى!

وفي مرحلة تالية، قالت:

- أشاركك..

أدار ظهره، هز رأسه، ونام..!

-4-

السماء صافية، والرؤية ليست على ما يرام، والأرض تخددت بلا محاريث. وهو في مكانه ما يزال، منذ السنين..

خفت الحركة؛ هناك من يقول: لا يستطيع !

خف النظر؛ ويشاع: لا يرى!

أحجم عن الكلام؛ يقال: لم يعد لديه ما يقنع..!

"لو تعلق الأمر، بي لمشيت. لو اقتصر الوضع علي، لوجدت طريقاً للخلاص، ولو في بئر عميقة، أو صحراء غير محدودة ..

لكن الأشياء متعالقة بما لا يعرفون، والظروف قاتمة، والمنعطف خطير! " .

*

إلى وقت قريب، كانوا يحيون فيرد، يهللون فيبتسم، ويرفعونه على الأكتاف فيضحك. ولا يلمحون علائم الاكتئاب من سقوط بلا (راحات ).

-  لماذا تبتسم؟! تضحك؟!

- رحمة بدموعهم، بأعصابهم..!

- ولكنك بذلك…

- أعرف، أعرف. وهذا سر ما أنا فيه!

-5-

في المأدبة الكبيرة التي أقيمت على شرفه، كان الجميع بانتظار ما سيقول. كيف سيتناول المواضيع الكثيرة التي استجدت منذ آخر وليمة حضرها. وكيف سيكون تعليله للجدب الذي ألم بالكرة التي تكاد تدوخ من دوران بحسبان، ومصير بلا حسبان. وبماذا سيعد شقوق الأرض، وأوراق الذبول؟! وهل سيكون بمقدوره أن يحظى بذاك القدر من الإنصات؟! بتلك القدرة على الإقناع، أو تلك الأصداء المباركة..؟!!

تلك التساؤلات، كانت أولى المفاجآت، بانتظار المفاجأة الكبرى. وراهن الكثيرون على أنه لن يأتي..

- لكنه وافق على الحضور..

- بل لم يرفض..!

-6-

لو كنت حياً، لما ترددت في القبول: من هو الأحمق الذي يرفض أن ينتشي من قصائد الإطراء وأقوال التبجيل؟! ومن العنيد الذي يقاطع الحياة؟! ومن هو الغبي الذي يتعالى عن التكريم، من أية جهة أتى؟! 

لو كنت ميتاً، لما كان الندم ينغل في شراييني، ولم أكن لأحس بهذا القدر من الانكماش، ويهيمن علي هذا الإحساس بالخسران. الموت عجز كامل، صحيح. ولكنه أهون من قصور نسبي. لو أعلنت موتي، لشردت الجموع تبحث عن شماعة أخرى. قد يكون البديل أوضح عجزاً مني، وعناداً. فأحزن كثيراً، وأشفق أكثر. وربما يكون أهمّ حضوراً، فيلغي ما تقدم من إنجاز، وما سيتأخر. ولن يكون الأمر ممكناً أو سهلاً؛ فالشاة ما يزال يؤلمها السلخ، وإن تكن ذبحت مرات..!

لو ذهبت لعمت الفضيحة، وتألموا، ولتبارى المعالجون من شرق الأرض وغربها. أنا لا أثق بأطباء المهمين، ولم يحن الوقت بعد لأنسى!

*

لو كنت قادراً على البوح، لارتحت وخابوا؛ فما معنى وجودي بعدها؟! لو كنت جريئاً على الاعتراف، لما تأجلت الوليمة الكبرى مرات. صحيح أن الولائم الصغيرة تعددت، والأضاحي تكاثرت، والممثلين قاموا بالواجب وأفاضوا.. وهم لن يملوا من ذلك، فلديهم من تاريخي المديد ، ومن آثاري التي ترسخت في وجدانهم، ومبادئي التي بنيت عليها كل إنجازاتهم، وآمالهم، ما يمكنهم من الخوض طويلاً، والشرح أكثر.

أعترف أنه نجاح هام آخر، أن يقوموا هم بما لا أقدر –ربما –على القيام به. خاصة، بعد أن صار ما صار في جهات مختلفة، وما قيل ويقال على مسامع الخلق الذين يسمعون أصواتاً أخرى .

صحيح أن هذا يجري – ما يزال– رغم أني بعيد قريب. ولكن إلام ؟!

هذا ما يشغلني، يؤلمني، يسمم لحظاتي.. وهو

ما لا أستطيع إظهاره.

إلى الآن، أجد من ينوب، من يؤدي الواجب. ولكن في الوليمة الكبرى، لا يليق أن أغيب. هي عظمى لأنها من أجلي. هكذا أردتها فيما مضى، وكانت. وهكذا أرادوها. وأجلت مرات..

لماذا يقيمونها الآن؟! لإحراجي؟! لاكتشاف حقيقتي؟!

أنا من أطلقها، صحيح. أنا من زينها وجعلها ذروة الولائم، وعنوان المناسبات. فكيف أغيب عنها؟! ألغيها؟!

ما يزال من يستطيع- ويتمنى – أن يظهر باسمي، ويتحدث بلساني أكثر مني. ولم يختلفوا على ذلك، بل تسابقواعلى متابعة الطقوس: من سيقدم المطلوب؟! المتبرعون ما زالوا – لحسن الحظ –كثيرين، وليست المشكلة هنا. ولكن…!

-7-

( دخل غريب إلى بيت؛ قيد الزوج، واغتصب الزوجة أمام عينيه. وحين خرج، ألقى الرجل على امرأته الطلاق .

- ألم تر أن ذلك جرى رغماً عني ؟! ولم أستطع المقاومة ؟!

- أفهم أنه اغتصاب، ولكن لماذا الآه والإيه ؟! ) .

كانت تلك آخر ما سمع، في آخر وليمة حضرها..!!

 

 

الجدار

- 1-

 

يغلف الجهات بإحكام.. مدى مقطوع يتململ حولي؛ السماء مختصرة، والهواء آسن.

أشياء عديدة تجاورني، وأحياء كثيرون مشغولون بالأرض والسماء، أو بأنفسهم.  يتصايحون بإيقاعات تتراوح بين الغناء والغضب والنواح..

وأنا مهتم بأمر ذاك الجدار العنيد!

ما يشغلني أكثر أنه لا يثبت في مكان؛ يبتعد حيناً حتى لأحسب أنه تلاشى في جهة ما، فأشعر بارتياح، وأعدو في تلك الجهة علّي أصل إلى ما كان يخفيه.

لكنه لا يلبث أن يعود؛ بل يقترب إلى درجة تضيق معها أنفاسي، وأحس أنه جاثم فوق صدري، فأكاد أختنق. أصرخ بحدة، وتجحظ عيناي، وأفيق بعدئذ في عيادة طبيب ما يزال يتعثر في تشخيصه، أو كوخ حكيم شعبي مكفهر. وربما تطوف فوق رأسي عصا محمومة على وقع تمتمات مستجدية مستعطفة في الدار، أو تحت قبة قرب ضريح عتيق مخضر. ويعود المنشغلون بي إلى اهتماماتهم الأخرى، داعين مشفقين ممتنين شاكرين على ما ينعمون به!!

-2-

- أين ذلك الجدار الذي تتحدث عنه؟! ولماذا لا يراه سواك؟!

أقسم لهم، أشير بيدي، أركض صوبه، وأصيح بهم:

-تعالوا معي لأريكم إياه، ولتتأكدوا بأنفسكم!!

يضحك الكثيرون من هذا الكلام، يمشي قليل منهم. ثم يقنعهم الآخرون بلا جدوى المسير إلى الوهم..

"هذا مضيعة للوقت الثمين، ولا شيء هناك".

والمشكلة فيّ، وليست في وجود جدار أو عدم انتصابه!

*

يخيل إلي أحياناً كثيرة أني أرى أشباحاً تحرس الجدار، وتقوم بترميمه وتزيينه باستمرار، وبهمة عالية ونشاط محموم. حتى لأحسب أن تلك الأشباح بعض من الأحياء التي تجاورني، وتشفق علي؛ وربما هي أشكال لأحياء أخرى ليست معروفة تماماً، قد تكون من صنع الخيال الذي يلح في إبقاء الجدار هماً مهيمناً مستوطناً ساحة الرؤيا والشعور.

ويتهيأ لي أحياناً قليلة أن انشراخات تحدث في حيز من الجدار، ما تزال أسبابها مجهولة وغائمة. فأتساءل:

هل الأساس غير المتين أم الأرض الرخوة التي يقام عليها؟! أم أن ذلك ناجم عن ضغوط يتعرض لها تزيد عن قدرة احتماله؟‍! قد تكون مادية، أو زمانية، شدة تركيز عقلي أو نفسي. ويمكن احتمال أن الجدار المزمن ترهل، وتعرض للاهتراء كأية مادة أخرى. ولماذا لا يكون ما يحدث من صدوع امتحاناً للكائنات التي تحتجز داخله، واختباراً لحالها ودرجة تقوقعها؟! ومعرفة مدى الاندفاعات التي يمكن أن تحدث فيما لو تيسر لها الأمر، والرغبات المكبوتة التي تدفع باتجاه الثغور، أية ثغور ممكنة؟! أم أن هذه التصدعات أصداء حركات أعظم وأوسع تشمل الأرض كلها، أو الكون بمجمله. وهي نذر بتغيرات محتملة تعيد بعثرة الأشياء والأحياء وترتيبها_ ربما _ في قوانين جديدة؛ بجدران متجددة أو بوسائل أكثر حداثة.

مع كل ذلك، فإن تلك الانشراخات تخلف آثاراً هامة في نفسي. وتتيح مدى من الرؤية والاستشعار والتخيلات، أو تتكهن به. لكن الصدع لا يلبث أن يلتحم قبل أن أصل إليه، رغم سرعة الجري باتجاهه؛ السرعة التي تقاس بقوانين أخرى قد لا تتناسب مع ما نعرفه من قوانين الزمان والمكان ربما، فأصاب بإحباط جديد، ونوبة طارئة، وعاصفة إشفاق واستهزاء وشماتة تستولي على كياني!

-3-

قال كائن يشبهني:

- أما آن لك أن ترتاح؟! هل تود الخروج من جلدك يا ولدي؟! أنت تزيد من إرهاق جسدك ونفسك وأهلك. إن هذا جحود.. إنك تحاول منازلة قوة أعظم منك شأناً! انظر إلى العباد الصالحين القانعين. واعمل في هذه الأرض الفسيحة. إنها ميدانك الواسع الذي يليق بك، وليس عاراً عليك أو سجناً.. ودع عنك أوهام الجدار، والمدى المقطوع، والمفازات الضيقة، والمسافات الضائعة. إنه الشيطان الذي يوسوس في صدرك ورأسك. لماذا تفسح له المجال؟! تحرر من سلطانه وإغرائه، وارمه خلفك. وعد إلى سواء السبيل.. كف عن النظر أبعد! وتمتع بما لديك من إمكانيات ونعم، ونم هانئاً قرير العين!

-4-

بقعة لون مغاير بدت في اتجاه ما؛ هل هي ثقب في الجدار أم تصدع أم انهيار ؟! لا يهم ما تكون، ولا سبب تشكلها؛ المهم أنها حدثت، بعد أزمنة خلت معها أن شيئاً من هذا لن يحدث. إذ انتصب الجدار عنيداً قاتماً عالياً، حتى حسبت أنه قدر متمكن، وقضاء قائم سرمدي. وحاولت _ عصوراً_ أن أسير نحوه، لأتحقق من وجوده على الأقل، وأتعرف على مادته وأبعاده إن أمكن.

الفشل المتتالي أعاق مبادرتي، والخيبات المتكررة أوهنت قدرتي على النهوض. لكن الرغبة في الوصول إليه واستكناهه وتجاوزه وحدها بقيت حارة محمومة. وها قد تضاعفت حيويتها مع هذا الوضع الجديد الذي يبدو أنه أكثر حقيقية ووضوحاً من كل الصدوع التي بدت، والثقوب الأخرى التي حدثت، أو ظننت ذلك.

الآن أحس أن قواي متوثبة والحواس مشحونة. واستباق الآتي يترك حالي تنطلق بفوضى، دونما دليل أو استبصار للطرق الأكثر جدوى للوصول، سوى ذلك الذي يلوح في البعيد في اتجاه ما.. يبدو ويلتمع ويشع ويضحك، ويدعو بلهفة وتودد وسرور.

الأعضاء تتحرك بتواتر غريب، دون اعتبار لإمكانية كل منها، وأولويتها في المبادرة. والأحاسيس اضطرام وسباق وإسراع ومسافة تسبق الأعضاء، وتمهد لها الطريق، وتؤمن المشروعية.

الفرصة الآن سانحة؛ لا شيء يحد من الاقتناع بذلك. وإمكانية الوصول متوفرة.. والفرحة بقرب التعرف على ما وراء الجدار وإدراكه مبررة.

-5-

زمن مضى، ومسافات طويت.

 كم بقي للوصول؟! لا يهم؛ فالفرصة يزداد تحسس ملامحها. والحركة المطردة مستمرة. والأنفاس تتواتر، والوصول ممكن وقريب!

-6-

بهمة عالية ونشاط محموم، أحمل الحجارة و التراب وأية مادة متوافرة أو متصورة.. وأتلهف إلى من قد يشاركني في إعادة بناء الجدار الذي ينتصب شيئاً فشيئاً عنيداً جباراً!!

 

 

الكوة

 

قطرات المطر تضرب وجه الأرض بشغب طفولي؛ فهل هذه البداية؟! وهل سيكون هذا الشتاء شتاء؟! هل سيظل مبرراً تسمية الأشياء بأسمائها؟!

ما يهمني؟! وماذا يمكنني أن أفعل؟! أنا الناظر من هذه الكوة، المتحصن خلفها أوزع النظرات في كل الأنحاء، قدر ما يؤمنه لي حيزها المحير!

*

منذ متى أنا هنا؟!

الكوة أمامي مساحة للضوء غير منتظمة الإطار، ولا محددة الأبعاد أو واضحة الحدود.. تتطاول أحياناً في اتجاهات مختلفة، فأستطيع أن أميز عبرها أشكالاً وأشياء وهياكل. وأعبر عن طريقها إلى أمداء فسيحة أضيع في متاهاتها، وأقضي أزمنة في شعابها، مشدوهاً من تمايزها، ومشدوداً إلى ثناياها وتفاصيلها، منتشياً من ملذاتها، غارقاً في أديمها الذي قد يتحرك ليصير كل شيء ممكناً، وتغدو أية خيبة متوقعة..

وحين تضيق الكوة، تنسحب المشاهد، وتختصر الأحداث. تتقاصر الأبعاد، ويختزل الفضاء. ينوس الضوء، حتى لأظن أن العمى في طريقه إلى عيني. فتغدوان بلا معنى حين تنغلق الكوة، ويسود الظلام، كأن شيئاً لم يكن.. ويدور تساؤل عاقر: هل كانت كوة حقاً؟! أم هذيان كائن حائر حالم؟!

*

خيوط المطر تتكاثف إبراً دقيقة طويلة، تنغرز في سطح الأرض..

هل يكفي هذا المشهد المؤثر وهذه اللحظات الأثيرة للإقناع؟! وكم من العواصف يلزم ليتلون الوجه الكالح؟! أو ليتم إرجاء البحث عن مشاريع استمطار تحتاج في أحسن حالاتها غيماً خصيباً؟!

معرضاً أطرافي ووجهي للبلل، أظل مشدوداً إلى الكوة برائحة معتقة غابت منذ زمن بعيد..

يطوف بي إحساس بالغمر.. طوفان يملأ الحفر والثغور؛ الماء يحملني، والماء يدثرني.. وأنا أتحرك دون مشقة.. منذ متى أعرف السباحة؟! وكيف لا أختنق؟!

سعيداً منتشياً أطوي قيعاناً متشعبة، أتجاوز الصخور والجروف.. أنسل عبر الموج الموتور.. أستريح فوق سرير لدن، وأحلم بسماء صافية وبرية واسعة وشاطئ طويل!

*

السماء صافية والمدى مكشوف، والأرض تستعيد حيويتها، بعد أن كادت تلفظ أنفاسها.

نسمات تعبر الكوة، دبيب البرودة يحفز المسام، ويوقظ التوق إلى تجاوز ما ينكشف للنظر:

الزرقة مركب مجنح ينفلت من رتابة اللون، ويغوص في عمق الظلام. فوانيس تضيء، وتختفي، وتنضب. الكوة تتسع باطراد، مدى فسيح وأبعاد تغري؛ ملامح انتصار. غرور وتبجح، تغافل واستهتار.. فوضى وجموح غافل.. عربدة وجنون.. تتكسر أشرعة، وتغور أضواء، وتختفي الجهات: ظلمة وتبدد وحيرة..

تتبخر النشوة، ويعود الكائن إلى حصنه، والمراقب المحموم إلى كوته، والخيال إلى ذاته، والتساؤل إلى نشاطه:

منذ متى أنا هنا؟! وماذا أفعل؟! من أين جئت؟! وما سر ارتباطي بهذا المكان وتلك الكوة؟! وهل أنفذ مهمة أم أمراً ذاتياً أم غاية مجهولة؟!

*

الذاكرة ارتداد قاصر إلى أزمنة ولت، وهيئات تبدلت.. إلى عراء فاضح وامتداد كسيح وغايات مبتورة!

أمداء ومراحل وحالات وأشكال تخطر في البال، فيستنفر أدواته المتهيئة والاحتمالية للربط بينها، واستقراء مواصفاتها، واسستنتاج مدلولاتها وتراتيبها والتكهن بما وراءها. لكن انقطاعات مهمة في الذاكرة التعبة، وعتمة في مقاطع منها، وحشرجات في منعطفاتها، تراكم الأسى والكآبة، وتضاعف العجز والخيبة، والخوف من الظلام الذي يسود. فلا أكاد أحس بما حولي. لكني أشعر بالرطوبة عالية، والأنفاس تتثاقل. ويزيد من حال الانضغاط الكامن إيقاعات تتردد أصداؤها؛ لا أستطيع تمييزها؛ هل هي نتيجة ارتطام نقاط الماء التي تنسرب من سطوح هذا المكان بالأرض؟! أم دبيب حشرات كثيرة في طقوس حيواتها المتنوعة؟! أم وقع خطوات قادمة أو مغادرة لكائنات أخرى في دورة حيــاة مغايرة، وملامح لا يمكن تحديدها في هذا الظلام المهيمن، والعزلة المفروضة، والخوف المقيم!

 

هل هي ريح أم أصداؤها تضرب أطراف هذا المكان؟! أو هي تتأهب لذلك؟!

أم ترددات أنفاسي المتعبة، بل أوهامي المتعاظمة؟! وربما فترة انعطاف حادة أخرى في مسيرة وجودي الغامض؟!

يا إلهي..!

كيف الخروج من هذا الحصار؟!

كيف يمكن التعرف إلى ما يحيط بي؟! والتكهن بما سيحدث لي؟!

أين أنا؟! ومن أين هبط كل هذا الظلام؟!

أين ذهبت الأضواء التي بهرتني؟! وكادت تحرقني؟!

آه.. أين الكوة التي كانت أمامي؟! وكنت أستمتع بالنظر فيها؟! أين ذهبت؟! منذ متى غابت؟!

سأبحث عنها؛ أين كانت؟! في أية جهة؟! لقد ضاعت الجهات..!

إلى أين أتجه؟! كيف أتحرك؟! الحركة صعبة.. الصخور والحفر.. الأخاديد والشروخ والنتوءات.. الجذوع والحجارة كلها تجاورني. والأصوات الغامضة تتضاعف؛ إنها تقترب!

هل ستفتح الكوة ذاتها أم كوات أخرى كثيرة؟!

هل ستبعثر المكان والأشياء والموجودات؟! هل ستحيل هذا المكان إلى أثر وذكرى؟!

وأنا.. ماذا سيحل بي؟! وكيف سألقى حتفي؟! وهل من منقذ؟!

الهلع يتزايد، والأصوات المدوية تجتاح المكان طاحونة هائلة. لم أعد أسمع أنفاسي، أفكاري، تخيلاتي..

الدوي يقترب..

والمكان بمن فيه وما فيه يهتز بقوة..

ويستسلم لأمر هائل!!

 

 

المفتاح

 

الباب موصد، والمفتاح في جيبي..!

الباب مغلق، وهذا الفضاء المقيد منذور لسرمدية تناوب الضوء والظلام. وأنا مرتهن لدبيب الوقت؛ يسلس حيناً حتى يدخلني في خدر لذيذ. ويجلف أحياناً أخرى، فيتحول إلى سياط شوكية. فأحشر في جحيم من التوتر والقلق والاكتئاب، وأفقد الإحساس أو الوعي.

المفتاح في جيبي والباب مرتج.. أستطيع أن أفتحه في أي وقت أريد. لكن، إلى الآن، لم أجد مبرراً كافياً لذلك.

وإذا كانت المبررات التي جعلتني أغلق الباب على نفسي، وأركن إلى هذه الحالة التي تضيع بين الموت والحياة، غير واضحة تماماً. فإن قضية إغلاق الباب بحد ذاتها غير مفهومة. فهل أنا حقاً من قام بهذا؟! وهل لدي ما يثبت ذلك؟!

في لحظات التساؤل المضني، أقول: لا شك في أن المفتاح الذي في جيبي دليل لا يدحض على أن من قام بذلك هو أنا، لأسباب تعيدني إلى نفق السؤال المظلم من جديد.

وإذ أمد يدي لأتحسس جيوبي التي صارت ثقوباً كبيرة، أو فجوات في ثوبي الذي يضج بكثير منها، أخرج إلى نتيجة سهلة التأويل: المفتاح في جيب سترتي المعلقة على الحائط المقابل، تلك التي صار تمييزها عنه أمراً عصياً. لا سيما في ظروف الرؤية الواهنة نهاراً، والمعدومة ليلاً.

لا بد من التأكد من وجوده هناك. سأقوم بذلك، حين أبرح مكاني هذا لأي سبب كان. فالبحث عنه ليس بذي بال، مادمت لم أعقد العزم بعد على فتح الباب، ولم أجد ما يبرر ذلك.

لكن المشكلة ستتفاقم، إذا لم يكن هناك في جيب السترة، أو في جيب أيٍّ من أثوابي الضائعة في بيداء هذا المقر. وتحولت إلى أشياء تضاف إلى البضاعة التي تنام، أو تنتظر تحت ركام من الغبار القاتم.

وإذا لم يكن هناك، كما خطر لي في آخر تكهن مضطرم، فهو لا بد مسروق. ولا بد أن من سرقه أقفل الباب خلفه..!

فالباب موصد، والمفتاح ليس في جيبي. أو يمكن أن يكون كذلك؛ فأنا مسجون إذاً، ولا قدرة لي على الخروج من هذا القبر الواسع.

أمعقول هذا؟! من الذي فعل ذلك؟! متى؟! وكيف؟! وأين كنت ؟! وهل قابلت أحداً أو تخاصمت مع أحد؟!

لا أذكر أية مشكلة من هذا القبيل.. لا أعرف نداً لي؛ لا أحد يستطيع المبارزة للحصول على حق السيادة. فأنا الآمر الناهي. وكل ما عليها من أحياء ما زالوا عاجزين عن التقاط عصا القيادة السحرية التي وهبتها وحدي. ولا شك أن من سيقوم بهذا الفعل سيكون من طينة مغايرة ، أو من مخلوقات أخرى مازال حضورها أو وجودها على مطيتنا هذه رهن التكهن  والتشكيك.

الباب موصد منذ زمن  لا أدري مداه، وقد تحول إلى جزء من حائط مغطى بالإهمال والغبار. ضاعت مفاصله مع الجدار الذي ينتصب متعالياً في أحد جوانب هذه الغرفة. حتى أن ملامح الباب امحت، وغابت ثقوبه ونتوءاته، وضاع في الجهات. وصار يلزم لفتحه عملية بحث مضن،  لإزالة الغبار والصدأ عن مختلف تضاريسه، قبل التنقيب عن ثقبه. أما المفتاح..؟! 

ولكن.. ما الذي يدعو إلى كل هذا التعب والعذاب؟! وما الفائدة من فتح الباب؟! وماذا يمكن أن يخبئ وراءه من مفاجآت؟! وما أدراني أنها ستكون سارة؟!

الزمن الذي مر يجعل من أية مفاجأة محتملة صدى باهتاً لماض مجهول، ونبوءة بليدة لقادم غامض..

*

يخيل إلي أحياناً أن سلسلة من المفاتيح المتنوعة الأشكال والأحجام تتهادى أمامي. وأنني أعرفها. وأنها كانت بحوزتي في يوم من الأيام. ولا بد أنها ما تزال موجودة بين أغراضي القديمة المرمية بفوضى في أرض الغرفة، تلك التي تضيع معالمها مع الأرضية والجدران. أحاول أن أجربها واحداً واحداً. لكن الباب يستعصي، فأقذفها بعيداً في أي اتجاه. وأستغرب وجود مثل هذا العدد من المفاتيح معي، وأحتار في الغاية من تجميعها.

هل كنت حارساً على خزائن العرش؟! أو بواباً على مداخل قصور الملك؟! أم زائراً مفوضاً للبيوت رغب أهلها أم تذمروا؛ حضروا أم غابوا؟! أو قيماً على أمور العباد متدخلاً في شؤونهم مسؤولاً عن رغباتهم، موكلاً في آمالهم وأمانيهم، ومحدداً مقاماتهم؟!

وما الذي أوصلني إلى هنا؟! وكيف دخلت في هذه البوتقة العفنة؟! هل هو الاطلاع الواسع والمعرفة المعمقة لما يجري في السر والعلن؟! أم العجز عن الفهم والتفسير؟! أم الإفلاس من تحقيق الرغبات والأماني؟!

أم هو الخوف من ملاحقة محتملة ممن دخلت ممالكهم السرية؟! أو الخجل من الذين وعدتهم، وعلقوا آثاراً كبيرة على وعودي، دفعني إلى أن أختبئ بين هذي الجدران؟! أم أن أحداً أغراني بمحاسن الوحدة وأمان العزلة والانقطاع عن الحياة وثواب الانكفاء؟! فارتضيت الدخول إلى مخبئي المزمن؛ أوصد الباب، وأخذ المفتاح.

ولماذا أحس الآن بالضيق؟! الآن فحسب أخشى أن الأمر غير مفهوم، والوضع غير آمن. وأخمن أن شيئاً يخصني يدور في مكان ما. وأن قضيتي مدار بحث. وأني لن أستمر على هذا النحو إلى ما لا نهاية.

لا شك في أن سبباً أيقظني.. في رأسي أم في رؤوس الآخرين. في جواري أم في أماكن بعيدة. داخل هذه الغرفة أم خارجها.

لكن .. ما يزال الباب موصداً والمفتاح في جيبي؛ أو في أحد جيوب ثيابي الملقاة في ركن ما.

يخيل إلي أن هذا ما يجب أن يجعلني أطرد الخوف الذي بدأ يدب من كل الجهات. فما دام المفتاح لدي، فما من أحد يمكنه فتح الباب الموصد بالصدأ والغبار إضافة إلى القفل والمفتاح. حتى لو زاد القلق بازدياد الحركة في الخارج.

بيد أن الضجيج يتصاعد في رأسي.. رأسي الذي أصبح شديد الحساسية لاستقبال الأصوات، بل مكبراً لها؛ أم أنها هي إلى ازدياد واقتراب وتضخم؟!

المفتاح في جيبي، في رأسي أو في أي مكان.. لست متأكداً من شيء. والباب موصد.. لا أدري إلى متى يمكن أن يبقى كذلك، وماذا ستكون النتيجة فيما لو فتح؟! هل سيفرج عني؟! أم سيقضى علي؟!

هل سيزفونني زفة النصر، ويرفعونني على الأكتاف عرفاناً بالتضحية والجميل؟! أم سأرمى، أمزق وأجر على الأرض؟!

هل سأسمع عبارات التكريم والاحترام والتقدير؟! أم أن الشتائم والتهم والمساوئ ستلقى في وجهي ومسامعي؟! هل سيوضع التاج على رأسي أم سيدق عنقي؟!

الحركة إلى ازدياد.. الضجيج لم يعد محتملاً. وأصوات معدنية في ثقب الباب!

 

 

تلك الرحلة

 

لم تنفع كل الآمال والتوسلات أن يمتد الليل طويلاً، ويخلف الصباح موعده. فقد بدأ الفجر دبيبه الأبيض من كل الجهات على الكون المحيط، وارتهنت الكائنات والموجودات جميعها إلى انقيادات أخرى في يوم جديد.

صحيح أن في انقضاء الليل خلاصاً من جحيم القلق والتوتر والترقب المر؛ لكن إلى مرتع آخر لا يقل عنه نيراناً. بل هو الجحيم الذي لا مناص من الركون إليه، والانخراط في رمضائه. إنها مواجهة حقيقية:

ماذا سأقول لهم؟!

بعد قليل سيأتون مهنئين، سيسألون بأعينهم بحركاتهم، إن لم يكن بألسنتهم؛ ماذا سأقول لهم؟!

كيف أقاوم جوعهم ولهفتهم؟! كيف أقنعهم؟!

سأصاب بسهام التكذيب، وسياط الشماتة، ونظرات التشفي والأسى المخاتل؟! هل ألومهم؟! أليس معهم الحق؟!

لقد شهدوا فرحتي بالرحلة واعتزازي بها، فور تلقيَّ نبأها. أخبرت كل من أمكنني الوصول إليه، عرجت على كثيرين مضى على انقطاعي عنهم زمن طويل. أعدت الصلة بآخرين لم ألتق بهم منذ سنين.

كنت فرحاً.. تلك هي الحقيقة التي لا أستطيع نكرانها، إن ذكّروني؛ كنت طائراً محلقاً نشوة وسعادة. أيقنت أنها منجاتي وسبيلي إلى ما لا يشك بميزته، ولا يستطيع أمامه أحد ان يتفاخر أو يتطاول.

شهدوا ذلك وعاينوه، فماذا أقول لهم الآن؟! وكيف أقنعهم بما آلت إليه الحال؟! وهل أنا مقتنع أولاً؟!.

*

أتساءل.. ولا وقت طويلاً، ولا معنى للتساؤل أو الإجابة التي لا تحتاج إلى كبير تفكير:

هل أنا ذلك الكائن الذي كان قبل الرحلة؟! أم شخص آخر؟!

هل هذا القابع في ركن عصي على الضوء الذي يزداد انتثاره في الخارج هو ذاته الشخص الذي كان يشع حيوية وفرحاً وانطلاقاً؟! وهل كان ذلك مبرراً؟! وهل ما حدث كاف للتسبب بهذا الانقلاب الهائل؟! أم أن الأمر لا يعدو كونه هروباً أو تقهقراً أو سقوطاً؛ كما سيسميه الكثيرون.

*

وأتساءل:

أعائد حقاً من رحلة موعودة؟! وهل أنا بالفعل من كان ينتظر مهمة مميزة؟! انتهت الرحلة أم ابتدأت؟! نفذت المهمة بنجاح أم أخفقت في ذلك؟! وهل هي معروفة أو مفهومة أو محدودة؟!

وما هي تلك الرحلة؟! إلى أين وجهتها؟! من قررها؟! من أخبرني بها؟! كيف؟! ولماذا فرحت كثيراً أو قبلت؟!

وهل ذهبت حقاً؟! وأي طريق سلكت؟! ومن دلني عليها؟! وأين غابت الطريق والدليل؟!

كيف أعود إلى نقطة البدء؟! هل كنت وحدي أم كان آخرون؟!

أين هم الآن؟! ما الذي حدث هناك؟! لا في البداية، ولا في النهاية؛ بل آناء الرحلة، وعبر الزمن الذي استغرقه غيابي؛ كم دام ذلك؟!

لا أستطيع التذكر؛ لماذا غابت الذاكرة؟! أصدمة أوقعتني من مكان بعيد؟! أو مفاجأة خلخلت أجهزة الوعي؟! أو انبهار عطل أدوات التسجيل؟! أم هروب احترازي ساقتني إليه الحالة؟! ما الذي حدث وأين وكيف؟!

لغز لا أعرف تفسيره، ولا أقدر على حله؛ كيف سأشرح ذلك لهم إذن؟!

آه لو يمهلونني لحظات.. ساعات.. أياماً.. سنيناً.. أعماراً!

ليتهم لم يعلموا بحضوري..! لكن لا.. سيعلمون.

لو كنت فائزاً لتأخر حدوث ذلك، ولادعى الكثيرون منهم عدم معرفتهم بالعودة. لكنهم الآن يعلمون.. كلهم عليمون بها، وسيخبر بعضهم البعض الآخر، ولن يتأخروا بالقدوم. آه لو يتريثون! لكن لن ينفع ذلك، لن ينتظروا.. ولن يفيد انتظارهم في شيء؛ هل ستكون لي القدرة على الحديث عما جرى؟! وكيف؟!

*

أتمنى أحياناً لو أن الرحلة لم تكن؛ لو لم أذهب، لما كان قد حصل ما يخاف من مواجهته، والتحدث عنه.

وسرعان ما يجيش تساؤل مر: هل كانت الرحلة حقاً؟!

أحس أحياناً أنه لم تكن رحلة، ولم أغادر هذا الركن منذ زمن بعيد. وأن الرحلة ليست سوى حلم استولى على تفكيري، أو أمنية راودت مخيلتي زمناً ما. لكن الواقع يستعيد حضوره، وتعود الأسئلة حادة حارّة: هل حدث فعلاً؟!

وإذا صدق هذا، فهل كان استجابة لطلب مني؟! أو تحقيقاً لرغبة أفصحت عنها أو لم أفصح؟! أم كانت قدراً لا راد لسلطانه؟! أم أن ما حدث كله من أول دغدغة الحلم إلى أول النكوص مؤامرة أو حيلة دبرها الكائدون والمتربصون والشامتون؟! أو فخ وقعت فيه واعياً أو منومـاً؟!

كيف أتأكد من أن الرحلة كانت؟! وكيف أحدد حالتي؟!

وكيف سأستفسر عن ذلك؟! ومن سأسأل؟! لا أرى أحداً. ولا أسمع شيئاً. لكن أحس أنهم قادمون بعد قليل. لا بأس! سأسألهم قبل أن تنهمر أسئلتهم فوق رأسي، سأبادرهم  بالسؤال عن حالي، عن الذي أوصلني إلى هنا، ومنذ متى ولماذا؟!

سيعتبرون هذا جنوناً. ستتأكد نظرياتهم، وينتصرون، ويفرحون.

لا.. لن أحقق لهم هذا؛ لن أتعرض إلى شيء من ذلك؟! سأسأل عن حالهم؛ ماذا يفعلون؟! ومنذ متى ولماذا هم هنا؟! وماذا عن رحلاتهم ومهماتهم؟! هل سافروا؟! وما قيمتهم إن لم يفعلوا؟! وما الذي ينتظرهم هنا؟!وإلام الانتظار؟! هل هم راضون عن العفن الذي يغلف أوقاتهم؟! هل يحسون بالسعادة من حال الملل والتكرار في القول والفعل؟! لاتهم النتيجة؛ بل التجربة..! هل يمكنهم أن يعيشوا أعمارهم في حدودهم هذه؟! ومن الذي رسمها لهم؟! ولماذا يقبلون؟! لم لا يطالبون بحقهم في السفر والمهمات؟! هل يستطيعون الإجابة؟! ألن يتوقفوا للتفكير بما سيجيبون؟! وألهيهم عن السؤال عني؟! أم أن الكثيرين منهم جربوا الاحتراق مثلي؟! إذاً لم الشماتـة؟!

أم تراهم قادمون للمواساة؟! لا.. لا أعتقد؛ عاينت مواقفهم السابقة مع سواي؛ هي فرصة للانتقام لن يفوتوها!! أتراني كنت أفعل لو كنت في مواقعهم؟! قمت بمثل ما يفعلون؛ لم أفكر في أني سأكون في مثل هذي الحال!! لو كنت أظن ذلك! لوكنت أخمن! لوكنت!!

*

آه..

الوقت يمر، والبياض يزداد عبر النوافذ والشقوق؛ إنه الصباح؛ الآخرة/ الجحيم؛ إنها المواجهة المرة.

آه لو يتركونني أنام في ركني هذا؛ أحب عزلته وظلمته وكتامته! لو أنام طويلاً.. أسبت ولا أفيق!

آه.. هل أنا نائم أم ميت؟!

لا أقوى على الحراك؛ لا أستطيع المواجهة؛ لا أقدر، لا أستطيع..

خطا وجلبة وأصوات.. طرق متواصل على الباب..!

 

 

مفازات

-1-

 

كل الفصول مرجعها إليها، كل التفاتات الزهور…

حين طوفت نهداتي في الطريق نحوها، وترامحت شرارات الولوع، كانت اللهفة تجتاح الأغصان فتحترق، وكنت أكز على أسناني ولساني من رعب اللحظة وخدرها والتوق إليها…

ليس هناك ما يخيف؛ كنت أقوي من العزيمة. لكنها القصد والمنطلق والغاية. ليس هذا سهلاً ولا يسيراً.

قصياً كان المكان الذي أممته من أجلها؛ أم أنني  جئت من رغبات متأججة ملحاحة، أو بلاد بعيدة؛ تكاد تقنط؟!

حفاوة الشذا، فيض العبير، سيول العواطف لم تأخذ في طريقها كل أشواك الأرق وبقايا الأنين. بعد حين سألقاها، كأنما لم تبرح؛ إنها الفصل الأغلى! لذا أحرقت سفني، ولم أنظر إلى دخانها المتسارع نحو التلاشي..

وحين سألتفت إلى الوراء، لن يكون بإمكاني أن أعرف المكان الذي نزلت فيه، ولن أستطيع التعرف على رفاة وسط السفينة؛ سيتعرف علي بقايا الحطام!

آن سيرتفع أنينها، سأحتار في كون مبعثه ألماً أو لذة. وحين سأتعثر بأوراق الأشجار، سأقع، وربما أتعرى..

قالت: تأخرت أو بكرت..

 لم أعد أذكر؛ ربما لم تقل شيئاً.

لكني سمعت أشياء وأشياء، ورأيت بأم عيني مشاهد ومرائي، حلقت في فضاءات لم تعرف، وطفت مدارات لا تحد.. تمأزرت بأقواس قزح، وتربعت على البروج المشيدة، وانزلقت أسفل سافلين..

كم مرة حدث هذا؟! وكم تواترت الرحلات والمحطات والمواقيت؟! وهي هي، وأنا لست أنا؛ هكذا أخمن بين فصل وفصل، بين رؤيا ورؤيا، بين وجه مشرع ، ورأس مطأطأ. لكنني أتعرف على نفسي حين أدنو لأحترق، وأبتعد لأشقى..

 

كأس النشوة لا تبرح البال، فأجهد كي أعود لتعود. ومرارة الخذلان لا ترحم. فأغص، وأثور، وأحطم كل ملامحها، آثارها.. وألوم المصادفة، الظرف، الرغبة، الحاجة.. والنفس التي لا تستكين!

وأقرر الشكوى…

-2-

حين وصلت، كدت لا أعرف نفسي، حين لمحت صورتي في زجاج الكوة. خلت أن عيني لم تعودا كما ينبغي، جراء التماع الحدود القاطعة في الأسلحة المسلطة والأيدي المتأهبة. الحريق الذي ينهمر من السماء كما يفور من الأرض، أتى على ملمح ما ظهر مني. والشرارات التي تندلع من الداخل تكفي لتغير في خواص المفاصل والأعضاء، وتحد من قدرتها على مقاومة التهدل والانكفاء؛ لولا رذاذات أمل تنبعث مرة من عين، وأخرى من يد، وثالثة من فم، وسواها من حيادية أو تذمر أو إشفاق. كانت الموافقات تشيع الانتظارات، وترفع من قيمة الأشياء التي تبدو صغيرة: كالتوقف عن الاستخفاف، أو التريث في الرد والإبعاد، ومجرد الاستماع إلى ما يمكن أن يحمله هذا الملحاح اللجوج العنيد المغامر. طلبوا مني مرات أن أكتب ما أريد في ورقة ستصل إليه دون ريب.

قلت: أخاف على الورق..

قالوا:

- أتريد وظيفة أو منصباً رفيعاً أو مالاً أو رأساً؟!

قلت: هو سر لو علم به أحد، فقدت الرحلة مغزاها، وفقد رجل مهم جداً شيئاً مهماً جداً.

- هل أنت ساحر أم مجنون؟!

لم أرد، هززت رأسي فحسب.

وفي آخر مكمن، قال كبير الكوة:

- تأخرت، أو بكرت..

- لم أعد أذكر.

لكنني سمعت التالي: إنه في المقر الشتوي.

- وأين ذلك المقر؟!

- من أية أرض جئت؟! ألا تعلم أن لسيدنا مقراً شتوياً وآخر صيفياً ؟! ألا تسمع الأخبار؟!

- كنت مشغولاً في معرفة الطريق إليه؛ متى سيعود؟!

ثار كبيرهم:

- أتسخر منا؟! ومن أين لنا أن نعرف؟!

وتابع آخر جواره بلهجة أقسى:

- حين نعرف سنخبرك؛ اترك لنا رقم هاتفك، عنوانك، أحد معارفك..!

قلت في نفسي: سأشتكيكم إليه؛ لا يقبل بمثلكم في دائرته، لا يمكن لكائنات كهذه أن تمثله، أن تتحدث عنه أو باسمه، أن تراه، تعرف أخباره، أو تستقبل رسله.

في الوصول التالي، قال البدلاء: إنه في المقر الصيفي.

كانت لي رحلتان، منيت النفس بوصولين: في الشتاء والصيف. أما الخريف والربيع فأمضيهما على الطرق، وفي المنعطفات والمفاوز العصية.

و قررت أن أنتظره، كي لا نظل نتبادل أدوار الفصول؛ أصل المشتى في الصيف، وأصل المصيف في عز الشتاء. حتى حسبت في بعض الأحيان أننا نلعب، لو كنا من برجين متقاربين.

كنت أراجع نفسي، وما تريد، وما أود أن أقول لـه، فأخجل من أني سأشغله بأمور لا تليق؛ هو الحامل هموم العباد كل العباد. فماذا تعني رغبة مني في أن أحس سعادة، وعلى حساب من؟! ولماذا؟! أعود شاتماً نفسي على أنانيتي. وما إن أستقر في مقام، حتى أحس بالقلق والأرق . وأشعر أن هذا العمر القصير يستحق أن أشغله، وأتوِّجَه بلقاء سعيد، أو نشوة مقنعة. فأشد الرحال من جديد..! 

-3-

أيتها الأمارة بالسوء، هل كان ضرورياً ذلك؟! هل كان لزاماً أن تتعلق سعادتي برضى امرأة أو مقابلة السلطان؟! أن أطلب النشوة من لدن الغصة؟! أو أستهطل السعادة من غمام لا يفي؟!

منذ أمد بعيد، كنت أعيش بلا آهات؛ آكل من خشاش الأرض، ألبس من رداء الشجر، أنام كما تنام الكائنات التي لا تضحك، ولا تبكي، ولا تتأفف. لا أحب ولا أكره. لا تجتذبني نظرة، ولا تستملكني قضية. كيف حدث الذي حدث؟! أيتها الأمارة بالسوء: كل البلاء منك، كل الشقاء بسببك، وكل هذه التعاسة من أجلك!

كنت آيباً من خيبة أخرى، ولم أكن أحس الضنك من وعورة الطريق؛ بل أريد لتلك المستحكمة بإرادتي أن تتعذب. فأفرح بالعثرات، وأنتشي من شوك يتطاول، حتى ليكاد يغلق الدرب التي تبدو ضيقة قارسة، كأنما لم يمر بها أنسي منذ أمد بعيد..

تمزق الثوب، وشعث الشعر، وصبغت الدماء أعضاء جسدي، رحت ألعق ما يسيل إلى شفتي، حين أمسح جبهتي. أسير الهوينى صاعداً سفحاً، نازلاً ذروة. خطواتي تتثاقل، وهمتي تنوس، والجسد يتوق لكل أشكال العذاب. ورحت أصغي لصوت قريب بعيد:

"ما الذي فعلت لك لأستحق كل هذا العقاب؟! أنت تحسب أنك تعاقبني، تهينني، تذلني.. أنسيت أنك مأواي، وأني رغبتك؟! حررني منك إن كنت صادقاً في قولك. أطلقني  من إسارك لترى إن كنت حقاً سببَ شقائك. ولنر إن كنت ستسعد!

ستقول لي : اتركيني أنت. حرريني!

أنا معك، من أجلك، من أجلي أيضاً؛ أنا لا أستطيع العيش؛ أقصد لا معنى للعيش من دونك، كما هي الحال ذاتها بالنسبة إليك!

كفاك تعذيباً لي ولك. كفاك لوماً وعتاباً! قبل أن صرت ترغب وتأمل وتتمنى، قبل أن صرت تشتهي، وتنتشي، ما معنى أيامك تلك؟! وهل تستذكر منها شيئاً؟!

على أية حال، أنا لا أعارضك في كل ما تبتغي؛ أنا رهن حالك، رغبتك، مشاعرك.. إن تطلقني أنطلق، رغم أني أحبك وأغفر لك أحكامك، لأنني أبررها، كما أرجو أن تبرر لي سيرتي معك..!! الوقت ليس في صالحك، ها هي الأغصان عارية، والأرض تمور بالورق المصفر. وهي فرصتك، قبل أن يأتيك الأمر وأنت في طرف الحكاية الآخر، بعد أن تكون اللحظات غير قابلة للحياة.  وعليك إن أصررت على موقفك الانفعالي، أن تلوم أحداً آخر، ظرفاً آخر، إرادة أخرى لا أملك حيالها حيلة!

-4-

في ذروة مطلة على امتدادات الأرض وانطلاقات السماء، جلس في ظل شجرة مخضرة، تفلتت من بين شفتيه :

- لمــاذذذذا…؟!

طويلة ممطوطة موجهة إلى لا اتجاه. ونظر إلى الأعلى. شغلته الخضرة الدائمة، فكر في الأغصان الملوحة للرياح المشبعة بالرذاذ، من أية جهة هبت.

تساءل عن معنى الاخضرار الذي لا يغني ولا يسمن، وعن تاريخ اليخضور الذي انطلق نسغاً، وتنامى شعوراً ووعياً. وتوقف إحساسه على لفح البرد الذي يستثيره، ولذة أن يأوي إلى ما يدفئ.

 

لم تكن النار التي أشعلها قادرة على ذلك إلا قليلاً، افتقد ديمومة الاتقاد، قد يبحث في الذروة عن حطب آخر؛ هل يجد!

عاد إلى جذع الشجرة، سرح بصره في الغيوم المتراكمة على حافة الأفق، واستشعر مغبة البرد القادم.. فكر في الانطلاق، لكن الوقت بدا قصيراً؛ سيغرق! وفي أية جهة سار، سيحتاج دفئاً في أي معبر يكون !

الرياح تتمطى، وتتطاول أكفها، وتتشارس.. كان عاجزاً عن الرد. وخرج الصوت:

- وأين تنطلقين في هذا الجو العاصف ؟!

- أتخاف علي أم على نفسك ؟!

- وما الفرق ؟!

- ها أنت قلتها!

- أخاف على هذه الرحلة أن تتوقف!

- أية رحلة؟!

- رحلة الشكوى..

- الشكوى لمن ؟! وعلى من ؟!

- الشكوى لمن بيده الأمر، على من بيده الأمر..!

- وما الفائدة من الشكوى إذن؟!

- الفائدة ليست في الشكوى.

- أين هي إذن؟!

- في من سبّب الشكوى!

- تقصد..؟!

- نعم أقصد…

أغمض عينيه. تراءى لـه وجه بشوش وضحكة مشرعة؛ هم إليها. كان الدفء قد بدأ سريانه الشهي في أوصاله.

 وكانت السماء تمطر…

 

أضيفت في 25/11/2007/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية