أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

مجموعات قصصية / الكاتب: معن مصطفى الحسون

عالم غريب

إلى صفحة الكاتب

لقراءة المجموعة القصصية

 

 

المجموعة القصصية

  قصة حب أو الرجل الثاني 

 المصير

  عالم غريب

 وصف معركة أو ألم لا يطاق

  أحلام

 الجريمة والعقاب   الحالة س  جلجامش  مدينة الشحاذين  بين الحقيقة والخيال
  رجل وامرأة     حائر على المسرح الإرث القرف 

 

عالم غريب

الإهداء

إلى الدكتور محمد عبيد شيشمان.

عربون وفاء ومحبة.

 

 

أحــــلام

إلى زوجتي خولة

 

الأنوار تنطفئ كلها. كلها تنطفئ

وفوق كل طيف مرتجف

تنزل ستارة- بساط الموت

عنيفة كهبوب عاصفة هوجاء

فتنهض الملائكة

ترفع أقنعتها وتؤكد

بأن المسرحية. مأساة اسمها -الإنسان-

وأن بطلها هو الدود القاهر

ادغار ألن بو- ليجيا

لما بلغ ع. س سن الرشد قرر الزواج من فتاة كان قد رآها لمرة واحدة فقط. وقد وافقت الفتاة واسمها أحلام فوراً دون أن تكون على معرفة تامة بـ ع. س. لكنها وجدت في الزواج فرصة مناسبة. بل وفرصتها الوحيدة للتخلص من الكبت العائلي في مجتمعها البطريركي.

كانت أحلام شغوفة بمشكلة الحرية. بل أن الحرية كانت همها الوحيد. ديدنها.

كان ع. س يرى أحلام أجمل امرأة في العالم. وكانت تجده شخصاً رقيق المشاعر. جذاباً. وقد تعلق كلاهما بالآخر. كان ثمة رباط سري يربط بين مشاعريهما وقلبيهما. بالنسبة لـ ع. س كانت أحلام هي الدنيا وقد أختزلت في روحها وجسدها. أما بالنسبة لأحلام فقد أتيح لها أن ترى نور الحرية لأول مرة في حياتها. وكان التقاء جسديهما أشبه بسمفونية تعزفها أوركسترا بارعة تحكي -ولا بد- ملحمة من ملاحم الحب الخالدة.

وفي اليوم السابع لزواجهما همست أحلام في أذن ع. س:

- لِمَ لا نذهب في نزهة خارج المدينة. هناك عند أطرافها سمعت عن وجود حدائق غناء ورياض لا مثيل لها. ثم أن حر المدينة قاتل. صخبها لا يطاق.

وقد راقت الفكرة لـ ع. س. أليست هذه رغبة أحلام؟

ولكن ما إن خرجا خارج المدينة حتى وجدا نفسيهما بغتة في المقبرة. وقد وقف كلاهما ذاهلاً مرتاعاً. مرت لحظة صمت. ثم هجم ليل مفاجئ. وكان العراء شاحباً. عندئذٍ قررا العودة إلى منزليهما. لكن الآوان كان قد فات.

فتحت فجأة القبور وخرج منها الموتى. رجالاً ونساء وأطفالاً. التف الجميع حول ع. س وأحلام وجعلوا يحملقون فيهما باستغراب وبلاهة. وكان الهلع والذعر يملأ قلب الزوجين.

دنا أحد الموتى منهما. كان عارياً إلا من بقايا الكفن. ولم يكن جسده قد بلي تماماً لكنه كان أصفر شاحباً. وعلى الجلد أخذ يزحف دود غريب الشكل.

سأل الميت:

- عم تبحثان هنا؟ ولِمَ طرقتما أبواب عالمنا؟

رد ع. س متلعثماً:

- كنا نرغب بالقيام بنزهة خارج المدينة.

قال الرجل:

- إنها فعلاً نزهة.

رد ع. س:

- لا يبدو الأمر كذلك على الاطلاق.

قال الرجل:

- بل هي بالفعل كذلك. إن هذه النزهة معدّة خصيصاً لكما. وقد سمعنا كثيراً أحاديث عن ذلك في عالمنا. أقصد عن أناس يقومون بأمثال هذه النزهات التي قد تبدو للوهلة الأولى غريبة بعض الشيء.

رَدَّتْ أحلام باستغراب:

- عالمكم؟!.. وهل ثمة أحاديث في عالمكم؟!..

أجاب الرجل:

- عالمنا عالم غريب. غريب حتى عنا. لكنه غني في الوقت نفسه.

تساءلت أحلام:

- غني بماذا؟!.

عندها اقترب شيخ طاعن في السن. كان يبدو هو الآخر مهترئاً. وذا جسد مملوء بالدود قال:

- نحن هنا نحتسي الصديد.

ثم تقدم آخر وقال:

- نغتسل بالدماء.

ثم قال آخر:

- يشاركنا الدود حتى في التفكير.

قاطعهم ع. س وقد استبد به شعور غامض بالفضول:

- هل ثمة حساب؟!..

قال رجل:

- سؤال سخيف.

وتابع آخر:

- نلتحف الحجارة والتراب.

وقال آخر:

- ليس ثمة ليل أو نهار. إنه بين بين.

لكن الرجل الأول عاد فأكد:

- لكننا سعداء. ونتمتع بحرية واسعة ولا حدود لها.

تساءلت أحلام:

- كيف ذلك؟

رد الرجل:

- عندنا دولة. عندنا ملوك. عندنا أنبياء. عظماء وفلاسفة. شعراء. أبطال الأساطير القديمة. ثم وهذا أهم ما عندنا. ثمة قبر جماعي لأحد الملوك القدماء. نجلس كل ليلة في حضرته. وتغني الأوركسترا تلك التي دفن موسيقيوها مع الملك أحياء. والمغنيات يعزفن على القيثارة.

- قاطعه ع. س قائلاً:

- لقد نقبت في أور. واكتشفنا فيها هذه المقبرة التي تتحدث عنها.

سأله الميت:

- ولكن ما هو عملك بالضبط.

رد ع. س:

- أنا عالم أركيولوجي.

لم يأبه الرجل لما قاله ع. س. بل تابع يقول:

- ثم إن لدينا كل أدواتنا التي كنا نستعملها في عالم الأحياء. هنا ليس ثمة شعور بالقلق. بل طمأنينة مطلقة. سكينة. لا غثيان. لا يأس. لا خوف من المجهول. ليس لدينا أية عقدة من عقدكم التي تكابدون الشعور بها في عالمكم.

كان ع. س يقف ذاهلاً. وبدا أن أحلام قد أخذت بحديث الرجل واستسلمت لتفكير عميق وطويل. استسلمت لحلم أبدي ومطلق. لكن الليل ازداد حلكة. وازداد عصف الريح.

ثم بغتة قال الرجل:

- لقد انتهى اللقاء بيننا. هل ترغبان في دخول عالمنا.

أصيب ع. س بهلع وصرخ:

- لا.

لكن أحلام ردت بعد تأمل طويل:

- أجل سوف أرافقكم.

وأحس الرجل بغبطة. على حين عقدت الدهشة لسان ع. س. بدا كأنه يزدرد الكلمات. أراد أن يقول شيئاً فلم يفلح. تأبطت أحلام ذراع الرجل ثم غادر الجميع عائدين إلى القبور. ولم يعد يرى منهم أحداً.

عندها صرخ ع. س:

- أحلام. أحلام...

لم يسمع ع. س أي رد. غادرته أحلام برفقة الموتى. خطر له أن أحلام لم تكن أبداً موجودة معه لا في السابق ولا الآن. بدا له كأن أحلام طيف مرّ سريعاً بخاطره ثم اختفى إلى الأبد.

قال ع. س إن هذا الكابوس فظيع. إنه ضياع محض. تدهور في المشاعر والرؤى. فوضى العقل ولا منطقية الوجود. كومة من الطلاسم والألغاز والأسرار. أحس ع. س أنه يسقط في هاوية لا قرارة لها.

قال في سره:

- كان بإمكاني أن أرافق أحلام أينما ذهبت. لكن قوة خفية. لعله الخوف من العدم شدتني إلى عالم الأحياء.

كان ع. س يقف وحيداً. حوله مقابر وشواهد. ثم ليل دامس وريح صرصر.

تمتم في سره:

- إنه بؤس لا حدود له. عار لن يلحق بي وحسب. بل بكل إنسان.

ثم غادر المقبرة وعاد إلى منزله وحيداً دون أحلام. وقد نهشت المرارة كبده وفؤاده.

1998

 

 

 

وصف معركة أو ألم لا يطاق*

 

حينما قفز ع. س هكذا وبضربة واحدة. من سن الطفولة إلى سن الرشد نمى إليه أن أباه كان قد مات. وأنه قد عُهد بتربيته إلى أمه. وأنه لم يبق سواه وإياها في هذا القصر الواسع الممتد. الكبير.

ثم نمى إلى ع. س أن أمه امرأة جبارة وطاغية. وهي فوق ذلك صماء وبكماء. أشبه بصخرة صلدة وقاسية. وأنها تسيطر على كل القصر بخدمه وجنده وحراسه وكلابه وقططه. وأن أمه الكبيرة هذه قد أمرت لحظة تحوله إلى شاب أن يبقى ممدداً في فراش أُعد خصيصاً له. وأن يقضي العمر كله ممدداً على هذا الفراش. أن يأكل في الفراش. أن يشرب. أن يبول ويتغوط في أواني أعدت خصيصاً لذلك تحمل إليه وهو في الفراش. أن يقرأ. أن يكتب أن يقضي العمر كله هكذا.

قال ع. س في سره:

- هذا مستحيل. إنه تعذيب. إنها سادية مطلقة. أنا الآن فتى يافع. لست طفلاً أو مريضاً كما يدعون.

ثم علم ع. س أن جيشاً من الخدم قد أعد خصيصاً لخدمته وهو راقد في فراشه. وأنه يستطيع أن يطلب ما يشاء. وهؤلاء الخدم مكلفون بإحضار كل ما يشتهيه أو يرغب به.

قالت الخادمة:

- هذه تعاليم السيدة الكبيرة.

ثم علم ع. س أن جيشاً آخراً من الأساتذة والمعلمين والفلاسفة والفقهاء قد ندبوا خصيصاً لتعليمه فن الحياة.. أستاذ للرياضيات وأستاذ للتاريخ وآخر للفلسفة وآخر للسيمياء. وآخرون لسائر العلوم الإنسانية والطبيعية.

قال له أستاذ التاريخ:

- هذه تعاليم السيدة الكبيرة.

حتى التغوط والتبول كان يقوم بهما ع. س وهو ممدد في فراشه. وكان ثمة خادمة كهلة.

وإن لم تكن تخلو من وسامة. تقوم بحمل أواني جميلة ومزخرفة له ليقوم بهذه الأعمال.

وحين سئم ع. س من كل هذا قال للخادمة ذات مرة:

- حسناً. أنتِ لا شأن لكِ بهذه الأمور.

ردت بلطف:

- لكنك لا تستطيع القيام بها بمفردك!.

أجاب ع. س بغضب:

- بل أستطيع.

قالت الخادمة ببرود مطلق:

- أنا آسفة. هذه أوامر السيدة الكبيرة. يجب أن تقوم بكل هذا وأنت ممدد في الفراش.

وأسقط في يد ع. س. ثم لاحظ ملاحظة لا تخلو من طرافة. وهي أنه حين يقوم بالتبول مثلاً داخل الإناء لا تستدير الخادمة حياءً. بل تحملق فيه بكل بلاهة وحماقة. بينما يقطر حياءً. لكنه فهم أنهم يعتبرونه طفلاً. طفلاً صغيراً بكل معنى الكلمة.

لم تكن أمه تزوره إلا لماماً. كانت تدخل غرفته بصمت يقطعه حفيف ثوبها الارستقراطي الفضفاض. تدنو منه. ثم تجلس على طرف السرير تحدق نحوه بصمت. وكان هو بدوره يبادلها نظرات صامتة. كانت صماء بكماء. لكن ع. س كان يراها أجمل مخلوقة على وجه الأرض. في عينيها سحر غريب. إنهما عينان مملوءتان بالحياة. ينبض في غوريهما سحر أخاذ. لكن مسحة من كآبة كانت تشوب قسمات وجهها. ولكن من يدري؟ لعل هذا كله من نسج خيال ع. س. أو لعله كان يحس بها كذلك.

ثم نمى إلى ع. س أن أباه الميت كان قد ترك له وصية. وصية له وحسب. وحين سأل ع. س عنها. وكان به شوق شديد لقراءة محتواها. حيث قال في سره لعلي أجد حلاً لكل هذه الألغاز. عندئذٍ حملتها إليه أمه. وكانت أمه لا تعرف القراءة ولا الكتابة. دخلت غرفته بصمت. أعطته الرسالة. ثم خرجت بصمت. ودون جلبة. وقد لاحظ ع. س أن ملامحها لم يشبها أي تغير.

فضّ ع. س الرسالة وقرأ:

ها أنذا في سبيلي إلى الرحيل نحو المجهول. إلى الرحيل أبداً إني أترك كل شيء لك. كل شيء أمانة في عنقك. أنت من صلبي. وأنت خليفتي الوحيد. أتركك مع أم طاغية قاسية وجبارة. وأمامك خياران. إما أن تقتلها وترتاح إلى الأبد من جبروتها وطغيانها. لكنك في هذه الحالة قد تواجه تأنيب ضمير أبدياً. وإما أن تتفق معها. أن تتصالح معها. أن تنسجم معها. وتعيشان في تناغم أبدي لكنك في كلا الحالتين يجب أن تتغلب عليها. يجب أن تسطير عليها لكي تسود العالم كما كنت أنا ذات يوم.

انتهت الوصية

حار ع. س في أمر الوصية. قارن بينها وبين واقعه وما فرض عليه ثم هجس:

- ثلج أسود. صحراء الروح. كابوس ثقيل. حلم منقرض. كون رمادي اللون. أرض بلا سكان وسكان بلا أرض. الأرض لا تدور بل ترقص على رمال ساخنة. تشرد. وهم. خيال. كون بدون إله.. وإله لايجد من يعبده.... هل هذا صراخ أم صمت؟!.. أم بين بين!.

موت سعيد. خلود في جهنم أو خلود على الصراط المستقيم. جدار أو سد أمام العقل والحرية. وجدان فياض يقف بإزاء صخرة صماء ويحاول أن يترك أثراً ما على هذه الصخرة.

ثم هجس:

- أعرف كل الطرق المؤدية إلى مداخل هذا الكون إلا طريقاً واحداً. وأتساءل أين الطريق إلى جهنم. مثوى كل الناس. فأنا أرغب في أن أظل معهم وحتى ولو كان هذا في جهنم.

طوى ع. س الرسالة. حدق قليلاً في الفراغ. ثم تمتم في سره:

- هذا لغز معقد.

ظل ع. س ممدداً في فراشه. غارقاً في تفكير عميق. أحس بأنه مريض فهجس:

- لست مريضاً.

ثم أحس بأنه طفل. ثم هجس:

- لست طفلاً.

ثم تساءل:

- وما هي الحكمة من وراء كل هذا؟ ما سر كل هذا؟

قال له أستاذ التاريخ. وهو أستاذه المفضل:

- أنت تبقى هكذا. لا حول لك ولا قوة.

رد ع. س:

- لكن هذا طغيان. تسلط وجبروت.

أجاب أستاذ التاريخ.

- هذه حكمة السيدة الكبيرة. وهي الطريقة المفضلة لديها. والتي اختارتها من أجل تربيتك وتنشئتك وتعليمك. حتى تكون مؤهلاً لأن ترث كل شيء بعد موتها. ولكن هناك شيء.

أجدني مضطراً لأن أبوح به إليك. وهو قد يثير الحزن في داخلك. ولكن لا مفر من أن أخبرك به:

تساءل ع. س دهشاً.

- وما هو هذا السر؟!..

رد أستاذ التاريخ:

- قيل أن السيدة الكبيرة خالدة لا تموت.

بوغت ع. س أحس بنفسه ينهار فجأة. لكن الأستاذ لم يترك له مجالاً للتفكير في مسألة خطيرة كهذه. فبادره بالقول:

- ثمة شيء آخر قد يكون أشد إيلاماً. وأجدني مضطراً مرة أخرى لأن أخبرك به.

تساءل ع. س وقد أحس بنفسه قطاً جائعاً يموء:

- وما هو؟!..

رد أستاذ التاريخ:

- قيل أنك أنت أيضاً خالد لا تموت.

هذه لعمري قاصمة الظهر. قال ع. س بصوت فيه حشرجة:

- هذا تعذيب أبدي.

ثم سأل ع. س أستاذ التاريخ:

- إني أعتقد بأن هذه تمثيلية. فمن هو المخرج؟

رد أستاذ التاريخ آسفاً:

- لست أدري. قد تكون أمك!.

قال ع. س:

- إذا كان المخرج شخصاً تافهاً. أصمَّ وأبكمَ. فكيف ستكون التمثيلية!

وكيف ستمضي حفلتنا؟!..

لم يجب أستاذ التاريخ. بل أطرق يفكر بصمت. وصمت ع. س أيضاً.

ثم هجس ع. س في سره:

- أموء مثل كلب. وأعوي مثل قطة. المسرحية لم تختلف وإن اختلف الممثلون. وظل المخرج وحده سيفاً مسلطاً على رقاب الجميع. أتساءل وأصرخ. من هو مخرج تمثيلية هذا الكون الواسع الغريب؟!..

ثم هجس ع. س في سره:

- يا امرأة تحرقني ثم تشويني. ثم تأنف مني ومن لذتها. أحترق شوقاً إلى امرأة تمتص رغباتي كما يمتص الإسفنج الماء. اكتوي بجمرة الحب والألم. نيران شهوتك يا امرأة بركان هائج. بحر عاصٍ ويكره القوانين بل ويعشق التمرد أحياناً. البحر طاغية من طغاة الطبيعة أريد امرأة تخفي تحت جلدها أبليس الشهوة وتدخله إلى جنتي القاحلة. الأرض كوكب بيرقه الحرمان.

استسلم أيها الفتى لطغيان أمك. لا. لن أستسلم. سأحمل رسالة أبي وأنفذ وصاياه كما يشتهي العقل والقلب. كما تشتهي الروح. أبي مات. ولكني استمراريته الأبدية. خليفته، وأعتقد أن أمي امرأة حنونة. لكنها طاغية في الوقت نفسه. لقد تحول الحنان في داخلها إلى رغبة في تدمير من يحبها وتحبه. وهدفها من وراء ذلك هو أن تطويه تحت إبطها وتتملكه إلى الأبد. لكن أبي أعظم من أمي. فليست هذه الأخيرة سوى ضلع من أضلاعه. لذا سأنفذ وصاياه. لا كما يفهمها الأغبياء والجهلة. ولكن كما يفهمها عقلي وروحي.

ثم تمتم ع. س في سره:

- هنالك خياران أمامي ولا ثالث لهما. إما أن أقتل أمي الطاغية المتسلطة أو أن...... أتحد معها. ألم أكن في الأصل جزءاً منها!. هي ولدتني. فلا غرو من أن أعود إلى الاتحاد معها مرة أخرى كما كنا نفعل زمن الطفولة والبراءة.

ثم أن ع. س قدّم التماساً إلى أمه يطلب فيه أن تسمح له بالخروج برفقة أستاذ التاريخ للتنزه في حديقة القصر قليلاً. فجاء الرد بالموافقة شرط أن تكون هذه أول وآخر مرة يسمح له فيها بالخروج خارج غرفته أو سريره.

وهكذا أتيح لـ ع. س أن يخرج. وما أن خطا خطوتين حتى أُخذ بجمال الطبيعة. كان صباحاً جميلاً. وقد سلبه جمال حديقة القصر. نسمة هواء باردة وعليلة. شمس حديثة النشأة دافئة.

زقزقة عصافير نقيق ضفادع في البحيرات المنتشرة هنا وهناك. جبال ووديان. هدوء مطلق إنها راحة أبدية لكن جمال الطبيعة هذا ذكّره فجأة بأمه. فأثار هذا استغرابه ودهشته. هذا ما خطر ببال ع. س وهو يتجول في أرجاء الحديقة. لكنه ما إن قطع شوطاً حتى وجد نفسه في مقبرة. فأثار هذا استغرابه. سأل أستاذه المرافق فأجاب:

- هذه مقبرة عائلتكم. ومكانها ركن من أركان الحديقة.

تقدم ع. س بخطاً وجلة من أحد القبور. كان منحوتاً بشكل جميل وأخاذ. قرأ الشاهدة. كانت قد كتبت الفاتحة عليها. ثم هنا يرقد المرحوم. وقرأ ع. س الاسم فبوغت. كان الاسم هو ع. س أيضاً.

نظر إلى أستاذه باستغراب، فابتسم هذا الأخير وقال:

- هذا جدك الأول.

أثار هذا في نفسه شعوراً نسبياً بالارتياح. قال بأن هذا الأمر معقول جداً وطبيعي. ثم ما لبث أن تقدم نحو قبر ثان وقرأ. ثم ثالث وقرأ ورابع وقرأ وخامس. حتى دار في أرجاء المقبرة بأسرها وقد فتت الدهشة نياط قلبه. فقد كانت كلها قبوراً جميلة ومزخرفة بأجمل الزخارف وأحلاها وقد كتبت الفاتحة عليها كلها. لكن الاسم لم يكن يتغير. كان هو نفسه ع. س.

سأل أستاذه المرافق. فأجاب بحزن.

- هذا سر. وقد لا يعنيك فهمه. ثم أن لا أحد يفهمه سوى السيدة الكبيرة.

لكن ع. س رد بغضب:

- بل هذا هو بالضبط ما يعنيني.

ثم خرجا من المقبرة صامتين. تمشيا قليلاً. وقطع ع. س الصمت بقوله:

- نحن من يصنع الحياة وليست الحياة من يصنعنا. هذه هي الحرية. وإلا فإن فكرة الله والإنسان والعلاقة فيما بينهما مغلوطة جداً. وتبقى غامضة للغاية.

ابتسم أستاذ التاريخ. ورد وهو يشعر بالسعادة والحبور:

- ها قد بدأت تتعلم. لقد بدأنا نحصد نتائج الدروس التي يعلمك إياها مختلف الأساتذة.

ثم ما لبث ع. س أن لاحظ أن القصر محاط بأشجار سامقة وطويلة. وبأسوار عالية ومتينة. وكان ثمة أبراج. وقد وقف في كل برج رجل هو أشبه بالجندي وهو مدجج بأحدث الأسلحة قال أستاذ التاريخ موضحاً:

- حراس القصر.

تساءل ع. س:

- ألا يمكنني الخروج خارج القصر؟!..

رد الأستاذ:

- بالطبع لا. وهذا هو بالضبط دور الحرس.

عندها نفذ صبر ع. س وصرخ في وجه أستاذه:

- من ألف هذه الحكاية؟!..

أطرق الأستاذ ولم يجب. فتابع ع. س صراخه:

- هل تستطيع امرأة صماء وبكماء، بل بلهاء وغبية أن تخترع كل هذا؟

لم يجب الأستاذ. فهجم ع. س عليه. طرحه أرضاً ثم أطبق بيديه القويتين محاولاً خنقه وهو يردد:

- سأقتلك إن لم تقل الحقيقة.

تأوه الأستاذ قليلاً. ثم قال وقد بدا أن لا مفر من الكلام.

- حسناً. اتركني وسأخبرك بكل شيء. فأنت آجلاً أم عاجلاً سوف تعرف الحكاية.

عندها تركه ع. س نهض الأستاذ. نظف ثيابه. ثم ابتسم ابتسامة كئيبة. ونظر نحو ع. س نظرة بلهاء وقال:

- إن من اخترع هذه الحكاية. من بنى هذا القصر. من أوصى بتربيتك على هذه الشاكلة. بمعاملتك بهذا الأسلوب. من بنى المقبرة. من عمّر الأسوار ووضع كل هؤلاء الجنود. ليس أمك الصماء البكماء. بل أبوك... أبوك أوصانا بكل هذا. ثم مات إلى الأبد.

شعر ع. س بدهشة عظيمة. خيل إليه أن الأرض تكاد تميد تحت قدميه. وأنه في حالة أشبه بانعدام الوزن. لكن أستاذ التاريخ قطع عليه الطريق وهو يردد:

- عندي انطباع. أو قل هو مجرد إحساس. وأشعر بأني ملزم بنقله إليك.

تساءل ع. س ذاهلاً:

- وما هو؟!..

صمت أستاذ التاريخ برهة يفكر. ثم قال:

- عندي إحساس بأن أباك لم يمت. ونحن حتى الآن لم نعثر له على قبر.

دهش ع. س. وتساءل وهو يزدرد الكلمات. وقد غاصت شفتاه في الزبد:

- هل هذا معقول؟!...

قال أستاذ التاريخ:

- لنفكر قليلاً. إن مخرج التمثيلية التي تتحدث عنها لا يمكن أن يبقى على خشبة المسرح. إنه في العادة يتوارى خلف الستارة. يراقب الأحداث. ثم يحرك الأشياء والممثلين كما يشاء قال ع. س مستفهماً.

- لم أفهم. ولم يفعل ذلك إن كان ما تقوله حقيقياً؟!..

رد أستاذ التاريخ وقد بدا أشبه بالحالم:

- هذا ما لا أستطيع التكهن به. لعله امتحان لك. إنها مشيئته. من الجائز أن ثمة حكمة خالدة وأبدية تكمن وراء كل هذه الألغاز والأسرار.

عندها أطرق ع. س يفكر ملياً . ثم تمتم:

- لعلي بدأت أفهم كل شيء. كل شيء.

ولكن ما إن نطق ع. س بهذه الكلمات حتى أحس بألم فظيع في مفاصله وعظامه. انطرح أرضاً وأخذ يتلوى وهو يصرخ من الألم. ثم بدا أن عظامه بدأت تطقطق. بل بدأت تتحرك وتأخذ في تغيير أشكالها. مفاصله. يداه. قدماه. رجلاه. بطنه وظهره. حتى رأسه. لقد بدا أن ع. س قد أخذ يتحول إلى كائن آخر غريب له شكل آخر. وبغتة نبت شعر في سائر أجزاء جسده. وكان ألمه لا يطاق. ثم تغير شكل الجمجمة. شكل الأنف، شكل الفم برزت الأسنان. ثم هوى يمشي على أربع. لقد تحول ع. س من إنسان إلى قرد. وظل أستاذ التاريخ يحدق فيه ذاهلاً مأخوذاً.

لكن ع. س ظل يفكر ويحس مثل سائر البشر.

همس:

- إنها مؤامرة. المأساة تكمن في أن قوى خفية. لست أدري ما هي. هل هو المخرج؟!..

قد أوحى إلى بقية الممثلين أن يخرجوا خارج خشبة المسرح. من أجل تركي وحيداً أمثل الدور. بل سائر الأدوار. وهذه النقطة الأخيرة هي انتهاك لشرفي وإنسانيتي. إنها خدعة. مجرد خدعة لاصطيادي وتحويلي إلى قرد.

ثم أن ع. س توجه فوراً صوب مخدع أمه. وهناك وجدها جالسة على كرسي. وكان يبدو أنها كانت بانتظاره. ولم يبدُ أنها بوغتت بتحوله المفاجئ. بل خيل إلى ع. س أنها تبتسم ابتسامة رقيقة. لكنه لم يكن يأبه بأي شيء. بل أخذ يصرخ. أخذ يلومها على صمتها عن الحقيقة. ثم يتهمها بأنها شريكة الأب وباقي الحاشية في التآمر عليه وتحويله من إنسان إلى قرد إن صمت الأم ألم لا يطاق. هذا ما نطق به ع. س إنها تمثيلية نسجها أكثر من مخرج.

وكان هو البطل الوحيد فيها. قال بأنه يمثل دوراً إيمائياً على حين كان يعتقد بأنه يشترك مع مجموعة من الممثلين النزيهين والبارعين في أداء هذه المشاهد.

ثم صرخ في ع. س برعب:

- هذه هي قمة المأساة. الوحدة والاستلاب.

ثم لم يعد يحتمل ما جرى فانهار أرضاً وهو يهجس:

- خانتني القصيدة. خانني القراء خانتني الأغنيات. خانني القمر ونجومه. خانني التاريخ. خانتني الأشياء. وخانتني أحاسيسي وحدسي. خانتني الأماني والأحلام. خانني الجسد. ولم يبق مني سوى العقل متيقظاً مثل حية تقاوم حتى نهاية النهاية.

1998

 

 

عالم غريب

 

كنت أسافر في قطار. كان ليلاً. وعربات تهتز وتتأرجح. كنت أشعر بتعب خفيف. لكن رغبة في القراءة داهمتني. كان ثمة ضوء باهت ينبعث -لست أدري- من أين. تناولت كتاباً. كان لإدغار ألن بو قرأت جملتين أو صفحتين أو قصتين لم أعد أذكر بالضبط. ثم هاجمني النعاس فجأة. فغفوت ثوان معدودات ثم صحوت فزعاً. حدقت حولي. كانت العربة خالية إلا مني. نهضت بحركة مفاجئة. ثم طفقت أنتقل من عربة إلى أخرى. القطار خال تماماً. وما زال صوته يهدر وعرباته تتأرجح. عندها قررت التوجه نحو السائق، دخلت مقصورته وسألته وأنفاسي تتهدج:

- إلى أين يذهب هذا القطار؟

رد دون أن يلتفت نحوي:

- لست أدري بالضبط.

يا للفظاعة. أصبت بفزع ورعب. صرخت:

- ولكن من أين يأتي؟!..

رد بهدوء مطلق ودون أن يلتفت نحوي:

لست أدري.

شعرت بأن الليل غدا مثل زنجي ينتزع من قارته ثم يقاد إلى السخرة في عالم غريب ومجهول. وأن الضوء الباهت المنبعث من مكان ما مسلط نحو نقطة معينة تماماً كما يحدث في المسرح. خلت نفسي تغرق في الفوضى. سألت الرجل:

- ولكن ألا يوجد مسافرون غيري؟!..

عندها التفت الرجل نحوي. رسم ابتسامة كئيبة ثم قال:

- هذا القطار مخصص لك أنت بالذات.

لم أفهم شيئا مما يعنيه هذا الرجل. كان يبدو قوياً. مفتول العضلات. وكان وسيماً. بل خلته يشبهني. وقد أثار هذا الشعور ضحكي. لكن الرجل لم يترك لي مجالاً للتفكير أو التأمل فقد التفت مجدداً نحوي وقال:

- هاقد وصلنا. هذه هي نهاية السكة الحديدية. وأنت تعلم أن القطار لا يمشي إلا على سكة حديدية. يجب أن تنزل. إخال أني أرى مدينة.

ترجلت من القطار وأنا حائر القلب والعقل. كنت أحمل حقيبة فيها بعض الكتب وبعض السندويشات. لابد أن أمي قد دستها في الحقيبة. كان الليل ما زال يغطي الأشياء. ولكني خلته أبيض على غير عادته. ثم لاحظت أن القطار عاد أدراجه. مشيت بضع خطوات فإذ بي أرى مدينة. كانت الأضواء تشع منها بابتهاج. شعرت براحة نسبية. لكن القلق سفينة تاهت بين أمواج قلبي. دخلت المدينة بخطو واثق وثابت. لكني أصبت برعب مفاجئ.

المدينة خاوية. هذا ما خيّل إلي. الشوارع كانت خالية ومملوءة بالقمامة. لا صوت ولا نأمة فجأة شاهدت كلباً يعبث بالقمامة. هدأت رؤية الكلب من روعي قليلاً. قلت في سري. لعلي وصلت في ساعة غير مناسبة. اقتربت من الكلب. كان أجرب ومثيراً للقرف. لكنه ما إن أبصرني حتى توقف عن العبث بالقمامة. وحدق نحوي باستفهام ثم قال:

- أنت وصلت هنا؟!..

أجبت:

- نعم.

 ثم سألته:

- ما هذه المدينة؟!..

رد باسماً:

- إنها مدينة. مدينة وحسب.

سألته بإلحاح:

- هل توجد مدن أخرى غيرها في هذا العالم؟

 رد بعد تفكير قصير:

- حسب علمي لا يوجد سوى هذه المدينة.

كررت بلهجة متشكية:

- لكنها تبدو خاوية!..

قال:

- إنها ليست خاوية.

سألت بإلحاح:

- ولكن أين سكانها؟!..

أجاب بأسى:

- إنهم نيام.

كررت:

- كل سكان المدينة نيام؟!..

اعتدل الكلب في جلسته. ثم قال بصوت فيه بحة وحشرجة وأسى:

- منذ قرون طويلة وهم نيام. أدخل كل البيوت. كل المقاهي والخانات. لن تجد إلا بشراً يغطون في نوم عميق. وشخيرهم العالي يدل على أنهم أحياء.

قلت:

- هذا غريب.

رد الكلب:

- لقد عاث سكان هذه المدينة فساداً في الأرض. الظاهر أن الله لعنهم وجعلهم يغطون في هذا السبات العميق. هكذا إلى الأبد.

قلت هذا الكلب كذاب وداهية. وهمت في المدينة فلم أجد في البيوت سوى أناس نيام. هززتهم بيدي فلم يستيقظوا. دخلت المقاهي والمسارح ودور ألعاب الأطفال، وكنت أهز الناس بيدي علهم يستيقظون. ولكن لا أمل. عدت ثانية إلى الكلب. قال:

- هل صدقتني؟

لم أجب ولكني تساءلت:

- وأنت!!..

أجاب بكآبة:

- أنا الوحيد الذي بقي يقظاً من كل سكان المدينة.

سألته:

- وماذا تفعل هنا؟! ثم ما كل هذه القمامة؟!..

قال:

- إني جائع. وأبحث في القمامة عن بقايا الأطعمة. لم يعد ثمة أكل أو شرب في المدينة لقد أكل السكان كل شيء قبل أن يناموا. وكدسوا أكوام القمامة في الشوارع لا يوجد في هذه المدينة سوى القمامة.

قلت:

- أحمل في حقيبتي بعض السندويشات. هل ترغب بمشاركتي العشاء؟!..

رد بابتهاج:

- أجل. أجل.

جلسنا على قارعة الطريق. كان الليل مازال داكناً. وكان الصمت يلف أرجاء العالم. ثم جعلنا نتناول طعامنا بنهم ولذة. قلت للكلب فجأة:

- هل ترغب في أن تصبح صديقي؟!..

رد وهو منهمك في الأكل:

- لا مفر من ذلك.

التهمنا كل السندويشات. ولم يبق شيء منها يؤكل. سألته:

- أين سننام؟!..

قال:

- أعرف داراً مهجورة كانت فيما مضى دار بغاء. وهي مؤثثة بشكل جيد. يمكننا أن نأوي إليها. لا ترهبك منظر العناكب فهي غير مؤذية. أما الغبار فيمكن تنظيفه. هذا بسيط.

ثم مضينا نحو دار البغاء تلك. وهناك تمددنا كل منا على أريكة. وسرعان ما غط الكلب في النوم. أما أنا فظللت ساهراً بعض الوقت أفكر. قلت في سري أني لا أفهم شيئاً مما يحدث أو مما حدث. ثم تساءلت ما هذه التمثيلية ومن هو المخرج؟!... وكيف ستنتهي؟!.. ثم ما لبث أن نال التعب مني فغفوت. نمنا ساعات طويلة. ربما أياماً أو شهوراً بل ربما سنين. وحين صحونا من نومنا كان الوقت ليلاً. تمطى الكلب. أما أنا فقمت ببعض الحركات الرياضية. قال الكلب:

- أنا جائع.

رددت:

- وأنا أيضاً. ماذا نفعل؟ لم يعد ثمة سندويشات!.

ضحك الكلب وهو يردد:

- القمامة. القمامة.

ثم ركض نحو الشارع. وتبعته ذاهلاً.

جعلنا نفتش في القمامة. هذه بقايا خبز. بقايا علب سردين. قشور فواكه وخضار التهمنا كل شيء وجدناه. ولكن كل منا أخبر الآخر بأنه لم يشبع.

عندها سمعنا صوت القطار يدوي عالياً. أرهفنا السمع. ثم جلسنا على قارعة الطريق ننتظر صمت القطار برهة ثم عاد يطلق صفيراً حاداً.

قلت:

- لا بد أن زائراً جديداً جاءنا!..

وبالفعل، ما أن مرت دقائق حتى شاهدنا شاباً يحمل حقيبة ويتجه نحونا. عندما اقترب الشاب لاحظت أنه نحيف وضامر. وجهه ضارب للصفرة. كان يبدو أشبه بالمريض. وكان عمره حوالي الثلاثين. وكان يتعثر في مشيته. ما أن اقترب منا وحيانا. حتى سألناه بلهفة:

- هل تحمل سندويشات في حقيبتك؟

رد ذاهلاً:

- كلا.

شعرنا بأسف ممض. لكني ألححْتُ في السؤال:

- ألم تزودك أمك بشيء يؤكل؟

رد وهو يكابد ذهولاً أكبر وأعظم:

- ماتت أمي وهي تلدني. وأنا لا أعرفها.

سأله الكلب:

- هل أنت جائع؟

رد بلهفة وشوق:

- أجل. أجل.

فأشار كل منا. أنا والكلب إلى القمامة. فانخرط الشاب داساً أنفه في القمامة وغرق فيها لساعات طويلة. ثم نهض وجلس بجانبنا على قارعة الطريق وهو يتمتم:

- لم أشبع.

قال الكلب:

- لم يترك سكان الأرض شيئاً يؤكل حتى ولو بقايا من قمامتهم.

ثم انهارت قوانا. وجلسنا صامتين على قارعة الطريق كل يفكر حسب هواه. ثم فجأة قطع الشاب الضعيف حبل الصمت وقال بنبرة صارمة:

- لن أشارككم بعد اليوم في أكل القمامة.

دهشنا. لكنا سألناه:

- لماذا؟

قال:

- هذه القمامة لا تكفي لنا نحن الثلاثة. إنها تكفي لاثنين فقط.

قلنا:

- وماذا ستفعل إذاً؟!..

رد بثبات وقوة:

- سوف أصوم.

ثم صام الشاب فترة طويلة. لم يذق لقمة واحدة. وكنت والكلب منهمكين في التهام القمامة.

ثم بعد قليل قال الكلب:

- ألا نذهب للنوم قليلاً؟!..

رد الشاب:

- فعلاً فأنا متعب جداً.

ثم توجهنا نحن الثلاثة إلى دارنا. دار البغاء سابقاً. وهناك تمددنا على ثلاث أرائك. بدا وكأنها قد أعدت لنا مسبقاً. غططنا في نوم عميق. نوم استمر ساعات أو أياماً أو شهوراً. بل ربما سنين.

لم أستيقظ من نومي إلا حين أحسست بأن الكلب يشدني من ساعدي محاولاً إيقاظي، نهضت مذعوراً ومتعباً. كان الوقت ليلاً. قال الكلب بصوت متهدج:

- لقد مات الشاب.

أصبت بالفزع. وشلت المأساة لساني وكياني. جلست والكلب حائرين ساعات طويلة وأمامنا جثة الشاب مسجاة على الأريكة. ماذا حدث؟ هل هو الصوم؟ أم لعله لعن....هو الآخر!

ولكن لماذا يجب أن يموت. كان من الممكن أن يظل نائماً إلى الأبد مثل باقي سكان المدينة. قال الكلب:

- أنا حائر في أمره.

قلت:

- لا أعتقد أن كفره هو السبب.

أجاب الكلب:

- يراودني الشعور نفسه.

وظل موت الشاب شيئاً غامضاً. لغزاً عصياً. دفناه بسرعة. ثم توجهنا صوب القمامة. دفنت والكلب رأسينا في القمامة وجعلنا نفتش. وبعد لأي انخرطنا نصلي. لكن الصمت كان مرعباً. لا أمل. لا أحد. المعدة خاوية والمصيبة أننا لا نموت من الجوع. فبقايا القمامة التي نحصل عليها بمشقة وصعوبة كانت كافية لأن نبقى أحياء وجائعين في الوقت نفسه.

كنا جالسين على قارعة الطريق نفكر في مأساة هذا العالم. حين نعق القطار من جديد. لم نأبه للأمر كثيراً. الآن. لقد اعتدنا. ما همّ لو أتى شاب آخر. مات أم نام أم بقي يفتش معنا عما نقتات به في مدينة النائمين هذه.

لكننا بوغتنا بشيء شحذ أبصارنا. كان الزائر الجديد هو سائق القطار نفسه. كان يحمل حقيبته على كتفه. اقترب منا. كنت والكلب مذهولين. لكنه بادرنا بالكلام:

- لم يأت معي أحد هذه المرة. ومن الجائز أنه لم يعد يأت أحد أبداً. فجئت أنا بالذات.

قلنا:

- هل ستعيش معنا في مدينة النائمين هذه وتبدأ بالتهام القمامة مثلنا.

قال:

- كلا. إنما أتيت كي أصحبكم إلى مدينة أخرى.

سألناه بدهشة ولهفة:

- هل ثمة مدينة أخرى؟!...

قال:

- سمعت هكذا. ولست أدري إن كان الخبر حقيقياً أم لا.

قلت:

- إذاً لا يقين.

قال:

- علينا أن نجازف.

قال الكلب متلهفاً:

- هيا لنركب القطار.

رد السائق:

- لا يمكن. فأنت تعلم أن هذه المدينة هي نهاية سكة القطار. والقطار لا يسير دون سكة.

سألناه:

- ما العمل؟!..

قال أسفاً:

- علينا أن نمشي بحثاً عن تلك المدينة.

صمتنا لحظة. إن هذا مثير لليأس. ولكن الأمل يستحق المجازفة. هذه الحياة في هذه المدينة لم تعد تطاق. والخير أن نبحث عن مدينة أخرى حتى ولو كانت تقع في غياهب المجهول. حتى ولو كانت من نسج الخيال. إن هذا يطيل من عمرنا. وهو أقصى ما نسعى إليه. نهضنا نحن الثلاثة. ثم طفقنا نسير وسط الدجى. وطوانا المجهول.

1998

 

 

الـمصير

 

حين عدت إلى البيت من رحلة طويلة. فوجئت بوجود رسالة غريبة في صندوق بريدي كانت تحمل توقيع شخص اسمه -س- قرأت الرسالة. كانت تقول:

-تعرت الأغنيات. الوطن حبيبة فض الغزاة بكارتها، وتركوها تسبح في دمائها المقدسة في قلب صحراء جدباء ويابسة. صحراء لا تعرف الرحمة أبداً. افتضح أمر العقل. وإنجاب الغمام عن عتمة داكنة. وعن بيوت لا عدد لها ولا حصر لعنكبوت ضخم وخرافي. لم يعد التاريخ حلماً مقدساً. إنما كابوس. شحاذ رث الثياب يبحث عن مريدين. ويشحذ الشفقة والإيمان. شحاذ يحاول أن يخدع أمة بأسرها. أمة مملوءة بالعباقرة والساسة والشعراء. أما الحاضر فهو عبارة عن خيمة ثوى في داخلها طفل رضيع يطارح أمه الغرام الأمنيات صعبة وعسيرة تخرج من تراب الروح نكداً مثل نبات خبيث. العقل شجرة لا تنمو صاعدة نحو السماء، وإنما تحولت إلى مجرد جذور ضخمة وهائلة تضرب في أرض التخلف والتيه حول الغزاة العقل إلى صحراء. الروح إلى صحراء، القلب إلى صحراء، الصحراء إلى صحراء موغلة أكثر فأكثر في التصحر والجفاف. وأقاموا سداًمنيعاً أمام الحرية والأحلام والأمنيات. الانتصارات هزائم، والمدن تفتح أبوابها للتردد والفضائح. تفتح أبوابها لمجرمين يعشقون سفك الدماء وفض بكارات العذارى والسكر والسهر والعربدة والتدمير.

على كل افتضحت لعبة الشاعر على حد قول أحد الشعراء. إنها مجرد تمثيلية كتبتها أنا ومثلتها أنا وأخرجها رجل غريب. سري وغامض. لم نعد نحلم إلا بأقل الكوابيس ضغطاً  على الدماغ. والدماغ بدأ يضمر مثل شيخ أصابه الخرف. فهل نستطيع أن نتخيل أمة دماغها يضمر. من سيحرك كوننا إن غفلت عين العقل عنه لحظة.قد تقول القوانين. أقول إن هذا وهم. فنحن من يصنع هذه القوانين. اعلم أن هزيمة العقل هو فقر لهذه القوانين واختلال في ميزانها. فليس هناك فارق بين العقل الذي يحرك كوننا وبين القوانين التي تتحكم في مصيرنا البائس والتعس.

 المدينة مومس تخدع عاشقها. أمي زانية. وأبي سكير وشحاذ. الشارع ذئب. الطريق إلى الحلم يمر عبر صحراء من ثلج أسود. الأفكار تنقسم إلى قسمين. قسم هو عبارة عن ديناصور بائد وقسم آخر هو عبارة عن قطع شطرنج يحركها حاوٍ يتقن اللعب بمهارة. التاريخ فالصو. الفن دعارة، السياسة من اختصاص الآلهة القابعين في جبال الأولمب. الفكر إسفنج رخو ولين.

عليك أن تسبح في هذا الوحل. وأن تجد مخرجاً. الأرض أضيق من تصورنا، ومن أحلامنا الخلاص. الخلاص هو ما يجب أن تنشده روحك السائبة.

إلى هنا انتهت الرسالة.

هامت بي الأحلام والأطياف. حرت قليلاً. ما عساي فاعل؟ ثارت في داخلي الشكوك. قلت أي قدر ساقني إلى هذا أو ساق هذا إليّ. قلت الأوهام تسيطر عليّ. وأنا أعتقد بأني  إنسان مريض ومحطم. قلت سأتمشى قليلاً. المشي رياضة. وهو محرض كبير على التفكير. قلبت الرسالة كياني. فهرعت نحو أسياد البلدة. قالوا:

- ممّ تشكو؟!...

 قلت:

 -أنا مريض بمرض الغربة. الغربة في وطني. غريب عن الكون، غريب عن الناس. غريب عن التاريخ، غريب عن الأفكار، وأنا أشعر بحيرة كبيرة وأتساءل. هل أنا غريب فعلاً عن كل هذا أم أن هذه الأشياء هي الغريبة عني!!...

قالوا:

- هذه تمثيلية ونحن نجهل من هو المخرج.

 قلت:

- أريد خمرة تطيح برأسي دفعة واحدة.

 قالوا:

-الخمرة حرام.

قلت:

- وكرامتي.

قالوا:

- أنت وحدك من يصونها. فإما أن ترضى بالقدر، وإما أن تنهش لحمك غربان الغربة والتيه والقلق والجوع والظمأ والكبت...الخ.

قلت:

- الحرية إذاً!...

قالوا:

- عليك أن تغامر في سبيل الحصول عليها. أن تقتل نفسك. فإن كان ثمة حياة أخرى كان ثمة حرية. وإن لم تكن هناك حياة أخرى فقد تحررت تلقائياً من وهمك ويأسك وقنوطك.

غادرت الأسياد وهرعت نحو العبيد. عبيد البلدة.

قالوا:

- الأسياد واهمون. الضحية أقوى من قاتلها. هذا ديننا. صحيح أن المسيح لم يظهر بعد رغم أنه ظهر أكثر من أعور دجال حتى الآن، ولكن الأمل في أن يحررنا شخص ما مازال في صلب فلسفتنا.

 قلت في سري. الأسياد حكماء. وفلسفتهم واضحة. وسأجرب قتل نفسي.

هرعت نحو السياف. وقلت له مستعجلاً:

- اقطع رأسي.

 هزّ رأسه باسماً. ثم قال بحنو:

- الناس ثلاثة أصناف. صنف هم الحكماء والشعراء والصادقين وهؤلاء نقطع رؤوسهم بدون أي شعور بالإثم. وقسم ليس لهم رؤوس أصلاً كي نقطعها. وقسم يقع بين بين وهؤلاء  نفضل أن تظل رؤوسهم على أكتافهم حتى يتعذبوا أكثر فأكثر وهذا يشفي غليلنا ويرضينا.

تركت السياف وتوجهت صوب دار العاهرات. قالت كبيرة العاهرات:

 - اللذة الناقصة هي الحقيقة الوحيدة في هذا العالم.

قلت:

- العالم لوحة لم يكملها الفنان ومات قبل ذلك.

 قالت:

- تعال وعش معنا.

حانت مني التفاتة. فلاحظت مومساً في مقتبل العمر. كانت تجهش بالبكاء. دنوت منها وسألتها عن علة ذلك.

قالت:

- لا لذة في هذا الوجود تعادل لذة الإيمان بالله. الواحد الأحد. المطلق. القهار.

أصابني قنوط وخيبة أمل. لكن خاطراً باغتني. هجست قليلاً وأنا كالحالم. قلت:

- آه... ماذا يحدث لو استطعت أن ألتقي أبا العلاء المعري!!....

فجأة رن جرس الهاتف. تناولته  بحركة آلية. وقلت:

- الو. من المتكلم؟!...

جاءني صوت ثاقب وصارم:

- أنا أبو العلاء المعري.

قلت يائساً:

تعبت من الركض خلفك. خلف الحقيقة. خلف هذه الحياة الخائبة.

قال:

- اسمع. ليس المهم أن تحقق ما تريد. إنما المهم هو أن تعرف ماذا تريد.

ثم أطبق السماعة. وتركني أسيراً لحيرة نهشت فؤادي. ضاق صدري. وخلت الأنفاس فيه كمياه المجاري القذرة. قلت تلاشت أحلامي بعالم مملوء بالحب والإبداع والذكاء. قلت: الروح أسيرة لقوى خفية ولتاريخ أسود غامض.

دخلت مطعماً. كنت أرغب بتناول فنجان  من القهوة وتدخين سيجارة. اتخذت مقعداً منزوياً وناديت النادل. خفّ إليَّ. ابتسم بعذوبة. ثم قال:

- بماذا يرغب جنابك؟!...

 حرت قليلاً.نسيت نفسي. خلتها تسبح غائصة في لجة التيه. لكني تماسكت وقلت له:

- أريد امرأة تضع يدها في يدي ثم نهيم سوية في الشوارع والطرقات.

قال مدهوشاً:

- طلبك غريب.

قلت:

- إنه ليس غريباً. الواقع هو الغريب في رأيي.

قال:

- النساء كثر.

 قلت:

- إني أشترط أن تكون مدمنة على الهمزة... وأن تشعر بآلام جمة. وأن تفهم قضيتي.

قال باسماً:

- كل النساء مدمنات على الخمرة. وعلى ماهو أعتى من ذلك. وكلهن يشعرن بآلام جمة. قاطعته:

 - وأن تفهمني

قال أسفاً:

- أعتقد أن هذا ليس أمراً مستحيلاً، لكنه صعب للغاية.

غادرت المطعم وأنا أشعر باليأس والضنى. أخالني ذئباً جائعاً يهيم في برية جدباء قاحلة. خلت جسدي أشبه بجسم العنكبوت.حدقت في الشارع الممتد أمامي كان مملوءً بالديناصورات البائدة والمنقرضة. فجأة لسعتني عقرب. فهرعت مذعوراً نحو المستشفى. وهناك قابلت الدكتور، قلت باسماً بعد أن فحصني طويلاً بأناة واهتمام.

- هذه ليست لسعة عقرب.

قلت دهشاً.

- وما عساها تكون؟!...

قال بثقة:

- قبلة أم زانية.

أعطاني دواءً. فالتهمته دفعة واحدة علّي أشفى من وجعي. فانهالت على جسدي اللسعات قلت في سري:

- كبر جرحي. وهذا الكابوس يجثم فوق صدري. الكون غابة بيرقها القوة والقسوة والبطش بغتة تحولت إلى إسفنجة امتصت لعنات الأرض بأسرها. ثم أسلمت نفسي إلى امرأة فهصرتني ……فنزت اللذة عني روحاً مملوءة بالصديد ………

 قلت سأعاقر الخمرة. وأنسى هذا العالم المأفون. جلست في الحانة أحتسي الخمرة. فاجأتني أغنية تقول:

يا ابو الهيل جوز البنات الغرّب

                        عين أمي

 

يا ابو الهيل عيني على الزغيرة

                        ويلي من الله

 

لم أتابع سماع بقية الأغنية بل همست في سري:

- أي والله. هذا حق. يا ويلك من الله.

أوغلت في صلاتي هذه. فزادت آلامي. قالت أمي:

- هذا موسوس. خذوه إلى الشيخ فلان. فهو أملنا ورجاؤنا. وعنده الحل والدواء.

وهكذا اقتادوني في موكب مهيب. وكان الليل أغنية حزينة أو موسيقى جنائزية. وقفت في حضرة الشيخ. تأملني ملياً ثم قال.

- اعلم أني شيخ كبير. وأنا أعرف عنك كل شيء. عندي مريدون يمكن أن تعدهم بالالآف لدرجة أني قادر على تشكيل جيش منهم. واعلم أني أكتب الحجب وهي لا تخيب أبداً. إنها  دواء لكل داء. إنها بعض الألغاز والطلاسم. لا يفهم أحد معناها. حتى أنا لا أعرف شيئاً عنها. لكنها دواء شاف لكل شيء الأمراض والعقم والجنون. وكل شيء. كما أعلم أني وبعد أن درست قضيتك فقد كفرتك.

قاطعته متوسلاً:

- لماذا؟!....

 قال بنبرة صارمة:

- إنك تؤمن بالحرية. وتؤمن بإعادة دراسة التراث. وتؤمن بمحاولة فهم العقلية العربية والإسلامية واختراع أدوات تفكير جديدة وتؤمن وتؤمن وكل هذا كفر في رأيي. إضافة إلى أنك تشرب الخمرة وتحب النساء وهذا كفر على كفر.

غادرت الشيخ وأنا أحس بأن أملي ضاع. وأنه لم يعهد لي ما أرجوه من دنياي وآخرتي. لكن الأمر-بكل أسف- لم يقف عند هذا الحد. فقد سرى حديث في المدينة عني. وأصبحت قضيتي على كل لسان. وبدا كأني أوشكت أن أصبح نجم الحفل. وبأني قد أشكل خطراً على الأمن والسلام. فهاجمني بعض الرجال، واعتقلوني. وهناك وقفت في حضرة ضابط مرعب.

قال الضابط بلهجة صارمة:

- اعترف..

قلت متسائلاً:

- بماذا؟!...

رد بنزق:

- اعترف بجرمك. لن يفيدك إخفاء أي معلومات. نحن نعرف عنك كل شيء.

قلت دهشاً:

- وما هو جرمي؟!...

ضرب الطاولة بقبضته وصرخ:

- أنت لاتسأل. أنت تعترف وحسب.

قلت قانطاً:

- حسناً سأعترف. مادام أمري قد افتضح.

 قال هازئاً:

- كنت واثقاً من حكمتك.

قلت:

- اعترف بأني أحب بلادي واصلي وشرقي العظيم. أحب أمي وأبي وإخوتي. أحب الدولة ومؤسساتها العظيمة رغم أن ثمة بعض الأخطاء ولكن هذا نسبي ويمكن تجاوزه. أحب الحرية. أحب التطور والتقدم. أحب التاريخ والشعر. أحب الخمرة والنساء. أكره الجهل والتخلف والتبعية بمختلف أشكالها. أكره تدهور الحضارة. أحب الله والأنبياء الثلاثة. أحب بناء كوني على طريقتي. أحب الكتب والمجلات والجرائد وأكره التلفزيون والقنوات الفضائية والفيديو كليب... أحب وأكره. هذه هي اعترافاتي.

هز الضابط رأسه.

لم يتم اعتقالي أو شنقي. وحار الجميع في أمري. أخيراً تقرر عرض قضيتي على مختصين فأجمع الجميع على أنه يجب أن يحجر عليّ، حتى لا تسري عدواي إلى المجتمع. وهكذا تم الحجر عليّ في غرفة مربعة لها شباك صغير يطل منه ضوء القمر. وحين خلوت إلى نفسي ناجيت القمر. كان شاحباً وتظلله الظلال. قلت:

- أي سن العظيم أرحم صلاتي وتقواي.

ثم ناجيت البحر. كان هائجاً وساكناً في الوقت نفسه. قلت:

- أي انكي العظيم. غط هذا العالم بظلك الثقيل.

ثم ناجيت الأرض قائلاً:

- ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.

وناجيت السماء:

- يا سيدة الأكوان. كلنا ظل لظلك. صدى لصوتك الجبار. الرحمة. الرحمة هي ما نبغي الخلاص. النجاة. أيتها السماء الخالدة. يا الله. صرختي مكتومة لكنك تسمعها وإن كانت في الخفاء.

ثم قلت في سري وكنت أحس بأني نبي يتنبأ:

- لن يطلع الفجر حتى يخونني عضو من أعضاء جسدي.

ولكن أعضائي بأسرها خانتني. أول من خانتني هي المعدة وهي بيت الداء. بعدها الكبد ثم القلب. وظل الدماغ يقاوم حتى اللحظات الأخيرة محتفظاً بصفاء العقل. ثم لم أعد أعي أي شيء. فطواني المجهول.

1998

  

 

قصــــة حب

أو الرجل الثاني

 

راح ع.س. يضرب بقدميه الصاخبتين شوارع المدينة. سائراً على غير هدى. الحياة صحراء جدباء وقاحلة. وقد أحس بنفسه وسطها نبتة أصابها الجوع والظمأ. النفس تدور في دوامة. دوامة الحب والوله.وسألها بلهفة:

- ما اسمك؟!...

ابتسمت ثم ردت بعذوبة:

-حياة..

قال:

- أحبك.

ضحكت حتى انقلبت على ظهرها ثم تمتمت:

- عشاقي كثيرون. وأنا لا أذهب إلا مع من أشتهيه. ماذا عندك من جديد لتقدمه لي؟!...

 قال:

- الدنيا كابوس مرّ. الأحلام نأت بي نحو الخطيئة. الروح عريانة تنشد الستر. النفس ذئب جائع يهيم في بريّة لا تخوم لها. الليل أبيض شاخت روحه وأرهقته وعثاء السنين. صحراء الروح. التشظي. تتحول الأحلام فجأة إلى سكينة مغروسة في القلب.

 ثم قال:

- سأنتزع كبدي من بين أضلاعي. أشويه ثم أقدمه لكِ.

ابتسمت بعذوبة ثم همست:

- قديمة.

 حار هنيهة. ثم قال:

- سأشنق نفسي بضفائر شعرك.

صمتت قليلاً. بدت كأنها تحلم ثم قالت:

- حسناً. ابق معي. عش معي. وستكون لك غرفة خاصة بك أسوة بسواك.

وهكذا وجد ع.س. مأوى وجسداً. لكن الأحلام سفينة تاهت بين أمواج بحر عملاق وهائج. أصبح له غرفة في القصر الكبير. أسوة بسواه. أصبح مثله مثل غيره. لكل منهم غرفته الخاصة.

تابع ع.س. تخبطه في شوارع المدينة. واصل هيمانه المطلق والأبدي. النفس طائر جريح شاة تكومت حولها مجموعة من الذئاب وقد باشرت  عملية افتراس قاسية وضارية. النفس حائرة. تائهة. ضائعة. لكنها بطبعها لجوجة وتتوق إلى المستحيل.

ثم تساءل:

- كيف تطور الإنسان من البدائيةإلى الألوهية؟..

الدنيا بحر واسع. ضخم وهائل. غول أو سعلاة. وقد شعر ع.س. بأن أنفاسه تتلاطم مثل أمواج هذا البحر. الخواء منارة السفن التائهة. أي أنك بعد أن تعجزك الحيلة وأنت تكابد وعثاء المسير لا تكاد تصل إلى مكان. بل إلى اللامكان.

صاح هاتف يلاحقه كظله. يركض خلفه في الشوارع والطرقات:

- ماذا بشأن الزمان؟!..

أجاب ع.س:

- الزمان معدوم تماماً. إنه فراغ. لا شيء.

قال الهاتف متسائلاً:

- إذاً؟!...

 رد ع.س.:

- إنها حالة انعدام وزن.

تابع ع.س. سيره في شوارع المدينة. هاجم الليل الأشياء. فشعت أنوار مباغتة من كل حدب وصوب. وعجب ع.س. لهذه الظاهرة. قال في سره:

- يحاول الإنسان تقليد الله.

شعر ع.س. بأن الأرض تضيق به.وتساءل عن سر وحدته وغربته. لكنه عاد وأكدّ في سره قائلاً:

- أنا الرجل الثاني.

صاح الهاتف به:

- ومن هو الرجل الأول؟!...

أجاب ع.س. مقطب الجبين بصرامة وحزم:

- أبي آدم.

دخل ع.س. باراً. احتسى فنجاناً من القهوة الساخنة ودخن بشراهة. وهو يفكر بصمت. فكر في حياته. تاريخه. ثم قال في سره:

- أنا إنسان لقيط. ولدت في الشوارع. لا أعرف أمي ولا أبي. كبرت أوكبر سني وأنا أفكر في الماضي. حتى التقطتني امرأة. عطفت علي وأسكنتني في قصرها عديد الغرف. كانت غريبة الأطوار. في البداية عشقتني وعشقتها.  لكنها في الحقيقة الآن مجرد عشيقة. في البداية كانت كل حبي. أملي. أما الآن فقد أصابني الملل والسأم من عشقها وجسدها. حدث هذا بعد أن اكتشفت وبعد فترة وجيزة من إقامتي في قصرها أنها مومس. تمارس الحب في الليل آلاف المرات مع آلاف الرجال. وقد خفف هذا من شدة حماسي ولظى هواي لكنها مع ذلك ما زالت ترعاني وتعطف عليّ. وأنا أعيش في كنفها وتحت ظلها.لكن شعوراً غامضاً بالبرود بدأ ينمو في داخلي.تجمدت عواطفي. انهارّ حماسي لحبها. أوهذا ماخيّل إليّ في بداية الأمر. فقد أخذت أمارس الحب معها كأي رجل آخر من رجالها الكثر.خيّل إليّ أن الحب غدا مثل الأكل والشرب والموت والحياة. غريزة كسائر الغرائز. وقد زاد الطين بلة أن هذه المرأة متسلطة وجبارة.وهي تعامل عشاقها المحبين بسادية مطلقة. على حين تعامل زبائنها العاديين بلا مبالاة ولا اكتراث.

صمت ع.س. لحظة يلتقط أنفاسه. ثم تابع مونولوجه الداخلي:

- عندها قررت التمرد.

صاح الهاتف به:

- كيف؟!...

رد ع.س. وقد اضطربت أنفاسه:

- صرت أخرج في الصباح الباكر. ولا أعود إلا في وقت متأخر. وقت النوم. أذرع الأرصفة والطرقات. أهيم في الشوارع والبارات والخمارات مثل ذئب جائع يبحث عن فريسة.

قال الهاتف:

- حل معقول.

لكن ع.س. أجاب بتشكٍ:

- لكن الجرح ما انفك يكبر. وتكبر المأساة معه.

تساءل الهاتف باستغراب:

- ولكن ما السبب؟!...

أجاب ع.س. بقنوط:

- اكتشفت بعدفترة وجيزة من تمردي أني مازلت عاشقاً.  والهاً. أحبها أعشقها. لكني أغار لأنها تعرف رجالاً غيري.

- رد الهاتف باستغراب:

- لكنها امرأة متسلطةوجبارة!!...

رد ع.س. باكياً:

- لكنها التقطتني أنا اللقيط من الشوارع. وحمتني من الجوع والتشرد.

 ثم أردف:

قال الهاتف:

 - وهل ستقضي بقية حياتك هائماً كالمتسول. تعيش في دوامة كهذه. حائراً. تائهاً.

رد ع.س. وقد عاد يتمالك نفسه:

- بالطبع لا.

 تساءل الهاتف:

- وماذا ستفعل؟!....

أجاب ع.س:

- لقد بدأت ثورتي بهجرةالبيت. القصر. ولسوف أنهيها هذه الليلة.

تساءل الهاتف:

- كيف ستنهي هذه المسرحية؟!..

 قال ع.س. بصراحة:

- سوف أواجهها الليلة بالحقيقة. كل الحقيقة.

عندها كفّ الهاتف عن ملاحقة ع.س. الذي توجه صوب القصر وقد أكل الغيظ والغضب نياط قلبه. وتوجه فوراً للقاء سيدته التي استقبلته بلطف وحنو.

قالت بعذوبة:"

- هاقد عدت أخيراً. كنت بانتظارك. لقد أكثرت في الآونة الأخيرة من غيابك خارج البيت أثناء النهار. وهذا غريب ولا أكاد أفهمه. هلا فسرته لي.

استجمع ع.س. كل قواه المبددة بفعل رؤيته لجمالها الأخاذ. ثم صرخ:

- اسمعي. لن أقبل بعد اليوم بكل مايجري داخل هذا القصر. إما أن تكفي عن استقبال الرجال في الليل والنهار. وتكفي عن التصرف حسب هواكِ كامرأةمتسلطة وجبارة. وأن تكتفي بي وحسب. أنا رجلك الوحيد. عشيقك. أنا لكِ وأنت لي. إما أن تكفّي عن كل هذا وتخضعي لي خضوعاً مطلقاً. أنا رجلك الوحيد. تنصاعين لما يأمر به وما ينهى عنه. إما أن تكوني كذلك. وتجري الأمور حسب هواي ورغبتي.  وأما أن أغادر هذا القصر إلى غير رجعة. ولست بحاجة إلىجسدك وغذائك ومأواك.

ما إن لفظ ع.س. هذه الكلمات حتى أحس بأنه يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة. أحس بأنه يحتضر. لكنه تماسك بانتظار ردة فعلها. كانت تنظر نحوه بهدوء وبرودة مطلقين. وعندما شعرت بأنه أنهى مرافعته التاريخية. نهضت واقفة بثقة وثبات. أشارت بإصبعها نحو الباب قائلة بهدوء وجبروت:

- اذهب إلى غرفتك. وعش كما كنت معي طوال حياتك. هكذا.

عندها طأطأ ع.س. رأسه. أحس بجسده عارياً. وبروحه مثل دخان السجائر تتطاير في  الهواء. أحس بالهباء. بل إنه شعر بأنه يشبه الهواء بلا وزن.

تمتم آنئذٍ في سره:

- لابد أنه ينقصني شيء ما.

غادر مكتب سيدته. وتوجه صوب غرفته منصاعاً لأوامرها. يائساً وقانطاً من ثورته وعاد يمارس حياته كما كان يفعل في السابق.

1998

 

الجريمـــة والعقـــــاب

أو تـاريــــخ الشــــخص

 

كان ع.س. يسير في الشارع بلا اكتراث بأي شيء. أحس بأن الحياة مجرد لهو. لعبة. قال طظ في كل شيء. هذا ما فكر فيه ذلك التعس عندما خطر بباله أن يدخن سيجارة وهو يسير في الشارع. دخن سيجارته بكل شراهة ومتعة. وتابع يتمتم:

- طظ في كل شيء.

 أحس ع.س. بنفسه شجرة تنمو رويداً رويداً. ومع مرور الزمن. هكذا دون سقاية. دون تسميد. دون رعاية. وقد أثار هذا الإحساس استغرابه ودهشته وقال بأنه لا يفهمه.

لكنه كان يشعر بطمأنينة غريبة لم يعتدها في حياته. وقد توجس من ذلك خشية. قال في سره:

- قد تكون هذه لحظة مواجهة!...

 ولكن ما إن انتهى ع.س. من تدخين سيجارته حتى ألقى عقبها بكل إهمال على قارعة الطريق ثم تابع سيره هادئاً مطمئناً:

عندها توقف كل شيء عن أن يكون. توقف الناس عن السير. توقفت حركة مرور السيارات في هذه المدينة العجيبة. توقفت الغيوم عن سيرها الوئيد. توقف النبض في قلب الدنيا. حتى الزمان فإنه توقف. لعله يوم أوشهر أو سنة أو سنين. ولم يكن ع.س. قادراً على معرفة كم توقف الزمان لكنه أحس فجأة كمن قفز من الطفولة إلى الكهولة.

لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد فقد تجمع السابلة حول ع.س. الذي وقف مدهوشاً. تجمع خلق الله حوله. ثم هجم عليه رجال أشداء قيدوه بسلاسل من حديد. واقتادوه إلى مخفر الشرطة. وهناك قابله ضابط قاسي الملامح قائلاً:

- لقد أتيت أمراً فرياً.

تساءل ع.س. وهو دهش:

- وماهو؟

قال الضابط:

- ألقيت عقب سيجارتك في الشارع العام.

تعاظمت دهشة ع.س. فتساءل:

- وماذا في ذلك؟

قال الضابط وهو يخبط الطاولة بيده:

- هذا مخالف للقانون. وهو ضد حملة المحافظة على المدينة.

عندها شعر ع.س. براحة نسبية وقال:

- آه.. إذا كان الأمر كذلك فيمكن تسويته. لعلها مخالفة أوغرامة أو أي شيء من هذا القبيل. حسناً إني مستعد لأيةعقوبة بحقي.

قال الشرطي بصرامة:

لقد أحيلت أوراقك إلى المحكمة.

دهش ع.س وقال:

- أن الأمر لا يستدعي كل هذا التعقيد.

لكن زمام الأمر كان قد أفلت من يد ع.س. والشرطي.وواجه ع.س. المحكمة قائلاً في سره:

- حسناً سجن شهر. معكم حق.

لكن القاضي قال بنبرة صارمة:

- لقد أحيلت أوراقك إلى المفتي العام.

أصيب ع.س. بالرعب. ثم اكتشف بعد لحظة أنه لا يواجه قاضياً واحداً. بل جيشاً من القضاة قال القاضي:

- لقد قضي الأمر. ماتبقى هو الطريقة التي سينفذ فيها الحكم.

قال القاضي الأول:

- الإعدام شنقاً.

وقال القاضي الثاني:

-الإعدام غرقاً.

 وقال القاضي الثالث:

- بل محاكمة عسكرية. محكمة ميدانية. ثم الإعدام رمياً بالرصاص.

 لكن القاضي رقم ألف قال:

- أرجو من عدالة محكمتكم أن تقبل التماس العذر له. وأرجو من عدالتكم أن ترحموه قليلاً. وتقبلوا بحكمي.

 قالوا:

- وبماذا تحكم؟!..

رد بحنو؟!...

- الإعدام على الخازوق.

ثم تشاور القضاة فيما بينهم. واستقر رأيهم على جلده وهو على الخازوق قائلين أن هذا تقليد عندهم.  وهو يناسب جرماً كبيراً كهذا الذي ارتكبه ع.س.

ثم أحيل ع.س إلى المفتي العام. أدخلوه غرفة رطبة وبالية تقع في الدور السفلي. كان الضوء باهتاً ولما اعتادت عليه عينا ع.س. وقع بصره على شيخ طاعن في السن يجلس على أريكة وهو يحملق نحوه:

تساءل ع.س:

- أين أنا؟!...

رد الشيخ:

- أنت على أبواب السفر إلى سقر.

ثم تلا الشيخ بعض الآيات والوصايا. وأخرج الرجال ع.س. إلى الساحة العامة. وهناك فوجئ بأنهم قد أعدوا له الخازوق وبقربه جلاد قاسي الملامح. نادوا باسمه على مرأى من كل البشر قائلين:

- تعال واقعد.

 لم يعد ع.س. يدهش من كل مايرى أو مايحدث. بل تمتم في سره:

- إن هامش الحركة لديك ضيق للغاية. أنت تسير على صراط رفيع. وإن أي غلط مهما كان متناهياً في الصغر في حركة مرورك على هذا الصراط كفيلة بأن يهوي بك إلى أسفل السافلين.

ثم عاد ع.س. يتمتم في سره:

- إن ما يثير فيّ شعوراً بالطمأنينة أن كل الآخرين سوف يقومون شاؤوا أم أبو بنفس ما قمت به. وأنهم سوف يلاقون  المصير نفسه. وهذا إلى حد ما عزاء لا يستهان به.

ثم قعد ع.س. على الخازوق. وانهال السوط لاذعاً.

1998

 

 

الحالــــــة س

 

لقد نقبت في نفسي

هيراقليطس- الشذرات.

-1-

أزحت الستارة بيد مرتجفة. فإذا بي ألمحه يرقب باب داري.

أقلقني منذ أيام شعوري بأنه يراقبني، يلاحقني، يمشي خلفي مثل ظلي من مكان إلى مكان. خلت الأمر مصادفة بادئ الأمر. وقلت لعله أحد هواجسي. وقد تفاقمت حالتي في الآونة الأخيرة.

قال لي الدكتور:

- مم تشكو؟

أجبت بانكسار:

- أنا ضائع منذ ألف ومائتي سنة.

 وقلت:

- إني أبحث عن ذاتي، عن هويتي، عن كينونتي.

 ردّ بلهجة حزينة:

- أخشى أن لا يكون الأمر مجرد  تعب بسيط:

راعني ما أسمع فقلت له:

- ماذا تعني؟

قال:

- علينا أن نرقب الحالة بدقة.

آه... يا نفسي الحائرة، يا جرحاً ما انفك يكبر. قادت الأمواج العاتية بقايا حطام سفينتي إلى جزيرة تقع خلف حدود الخيال. جزيرة التيه والحيرة والضياع. جزيرة القلب المحطم والمعزز بالأماني الحالمة.

وانصرفت هائماً على وجهي. أذرع أرصفة مدينة لاتظلم إلا أهلها.

 المدينة مومس تتسلى وهي ترى عاشقيها وقد شواهم لظى التشوق لرؤيتها. المدينة عاهرة تمقت عاشقيها، كأنها تنتقم منهم. كأنها تجد فيهم سر حرماتها المنتهكة. آه... يا مدينة تقدس غزاتها.

دخلت مطعماً، كان بي جوع شديد، ولكني رغبت في ارتشاف فنجان من القهوة تدخين سيجارة. وكنت أحب الجلوس قرب النافذة أرقب السيارات والمارة. عندها شاهدته. خلته للمرة الأولى أحد العابرين. لكنه توقف غير بعيد عني وجعل يرمقني بنظرات غريبة وذات مغزى. دهشت للوهلة الأولى. لكني سرعان ما أشحت ببصري عنه. أحسست بأنه أشبه بكابوس، وكنت أريد نسيانه. لكنه بغتة دخل المطعم. اختار طاولة بعيدة عني. وكان يستطيع ملاحظتي. طلب فنجاناً من القهوة ثم أشعل لفافة تبغ وجعل يرمقني بفضول.

حاولت اعتبار الأمر عادياً. نقلّت بصري بينه وبين الشارع المقابل وبين جدران المطعم. واستقر نظري على نقطة في السقف. قلت لعل هذا يمضي بسلام. تذكرت في تلك اللحظة قول الدكتور:

- التيه تيه العقل، أما الجسد فإنه لا يهيم أبداً.

عدت بنظري صوبه. فلاحظته يرقبني بفضول وشغف. كأنه كان يهم بمبادرتي بالكلام. أوهذا -على الأقل ما خيل إليّ- طلبت طعاماً، ففعل مثلي. لم أذق لقمة واحدة. فقد راعني ما يحدث. نهضت ففعل مثلي. غادرت المطعم. فغادره في إثري. جعلت أضرب الأرصفة والطرقات. وكان يعدّ خطواتي. الخطوة تلو الأخرى. همت مرة أخرى في شوارع المدينة أحس بنفسي عصفوراً بريئاً يخشى غدراً ما أومكيدة. فجأة هطل المطر. مطر غزير. فالتجأت إلى مقهى. ففعل الرجل ما فعلت تماماً. توقف المطر، وبزغت شمس لطيفة. كان ربيعاً. والربيع في مدينتي نادر وجميل مثل حبيبة في مقتبل العمر. عندها عدت أدراجي ميمماً شطر بيتي. وكنت أقطن في حي فقير ومزرٍ. وها أنذا أجلس قبالة النافذة أرقب الشارع وأستطيع أن أراه يقف عند الناصية يرقب مدخل بيتي.

-2-

اليوم الثاني نهار جميل. غادرت المنزل متوجهاً صوب عملي. كنت قد نسيته ليلة البارحة لكني عدت فتذكرته لحظة شاهدته يقف في نفس المكان.

تبعني فازداد قلقي، بل لقد تحول إلى رعب طاغٍ. الأمر جديّ هذه المرة لابد أن وراء الأكمة ما وراءها، هذه ليست تخيلات. إنه واقع، واقع أعيشه بمرارة. وأكابده بأسى وخوف. هاجمتني الهواجس والأفكار، وتفاقم الصراع في داخلي. الخوف أغنيتي، وهذي الروح أضناها الجوى، هلكت اللذات في بحر الرعب، وسلطت المدينة سيوفاً مثلمة على عنقي. كان السحاب يمر بطيئاً. والشمس أنشودة كئيبة. الشوارع تضج بالصراخ وتعلو خفقات قلبي.

قلت في سري:

- إنها ولابد مكيدة. مكيدة حاكها إبليس حولي.

جعلت أغذ السير، هذه الدنيا قطار يمر مسرعاً، فلا يقف إلا في محطة نائية ليس فيها سكان ولا ناس. هذه الدنيا سيمفونية غريبة تعزفها قوى خفية. بل سرية وغامضة. ليس  الأمر أمر مرض أو هواجس أو تخيلات، إنها عملية مراقبة حقيقية وأنا الهدف هذه المرة.

دخلت مقر عملي عجلاً، فاستقبلني أحد الأصدقاء بقوله:

- لقد تأخرت على غير عادتك اليوم؟!...

تمتمت بكلمات غير مفهومة. لاحظ اضطرابي لكنه قال غير عابئ بذلك:

- على كل حال المدير طلب مقابلتك.

توجهت صوب غرفة المدير. قرعت الباب. ثم دخلت. غرفة أنيقة جداً ولطالما حلمت بمثلها. اقتربت من طاولة المدير وراعني ما رأيت. لم يكن مديري العادي والذي أعرفه  بل كان هو. هو نفسه الرجل الذي يراقبني. اجتاحت كياني قشعريرة باردة. وصرخت خلايا جسدي من ألم دوّى داخل قلبي. أصابني هلع وقلت لعلي أصبت بعته. لم يلحظ الرجل وجودي. كان يبدو منشغلاً في تقليب بعض الأوراق. أصابني دوار لكني تماسكت. وهربت نعم لقد خرجت لا ألوي على شيء. واستقبلني حر الشارع. أحسست بأنه لاهب على غير عادته. قلت هل هجم الصيف بغتة؟!..جعلت أسرع في مشي سرعان ما تحول إلى ركض وركض وكانت نظراته السابلة تلاحقني مستفهمة ولكني لم أكن ألوي على شيء.

توجهت صوب مخفر الشرطة. دخلت لاهثاً. واستقبلني رجل بارد القسمات. لاحظ ارتباكي وهلعي. فبادرني بالقول:

- ماذا هناك. هل أصابك مسّ؟

قلت وأنا ألتقط أنفاسي المتهدجة وقد استندت بساعدي على طرف طاولته العتيقة.

- أريد أن أتشكى.

تساءلت مستغرباً:

 - من مَنْ؟

قلت:

- أنا مراقب. هنالك رجل يراقبني كظلي.

فانفرجت أساريره بغتة. لكنه قطب متفكراً بعض الوقت. ثم قال بعد مرور دقيقة صمت:

- هذه قضية فردية. قضية خاصة. ونحن ننظر فقط في القضايا العامة. لا أستطيع أن أفعل لك شيئاً. عليك أن تراجع المحكمة.

باغتني كلامه وتغير حاله المفاجئ. عاد الرعب يتملكني. تصببت عرقاً وارتجفت مفاصلي إنه هذيان. هذيان مستمر. هذا أشنع كوابيسي. أي محكمة هذه؟ التفت أنشوطة باغية حول عنقي. تقلص قليلاً. خلت أني أحتضر. شعرت بأن الأرض تكاد تميد من تحت قدميّ. يأسرني الذهول. قلت إنها دوامة أو لعلي لعبة بيد أقدار متسلطة وباغية. ازدردت الغصة تلو الغصة. وتكاثف الزبد حول فمي. وانهال سيل الأسئلة على مخيلتي الضعيفة. وحين أوحى إليّ الشرطي بأنه عاجز عن فعل أي شيء غادرت مخفر الشرطة. وحين كنت أهم بالخروج اصطدمت بالرجل. كاد يسقط من هول الصدمة واستطعت آنئذٍ أن أراه عن قرب كان عجوزاً. ماذا كان يروم؟ هل كان يهم بالدخول في إثري؟ هل كان يحاول فعل أي شيء؟ أم عرف بأني سوف ألجأ إلى المحكمة وسوف ينتهي أمره! أجل لقد حزرت هذه المرة. لقد أدرك بأني وضعت يدي على الجرح وكان يحاول منعي. لكن مسعاه خائب هذه المرة. أنا لاأحمل أي شيء ضده البتة. لكن قدره التعس ساقه إليّ. اشتطت غضباً. وحين كنت أهم بفعل شيء ما كان هو يسارع إلى القول بلهجة مؤدبة:

- أنا آسف. آسف جداً يا سيدي. لم أنتبه إليك وأنت خارج على عجل على كل سرتني معرفتك. إنما أنا محارب قديم وأدعى -س-.

ثم دخل المخفر تاركاً إياي غارقاً في ذهول عميق.

-3-

المحكمة... المحكمة.. موطن الغرائب والأسرار. لغز هذا الكون ولغز إنسانه الغريب.  ملجأ الملاجئ. وبلد يحتمي فيه الغرباء الخائفون من طغيان هذا العالم المأفون. عند أعتابها ينكسر تيه القلب ويضيع الضياع. المحكمة غاية الضعفاء. غاية العدالة السامية والخالدة.

عند بابها قال لي الحارس:

- ادخل.

دخلت فإذ بي أجد القاضي. كان شيخاً مهيب الطلعة وقد جعل يبتسم بحنو وهو يقول:

- كنت بانتظارك.

دهشت لكني تماسكت وقلت:

- هل تعرفني؟...

ردّ باسماً:

- هذا اليوم مخصص لاستقبالك أنت بالذات.

قلت بأني حزين وتائه. فقال بأنه يتفهم نبل مقصدي. وحين قلت له بأني أشكو من رجل يراقبني. ابتسم بهدوء ثم مالبث أن ضحك وهو يقول:

- حسناًهدئ من روعك. لست أول من يعرض هذه الظلامة. هذا أمر اعتدنا عليه الآن.

أكلت الدهشة فؤادي. تمتمت:

- هل تعرفون من يراقبني. ولماذا يراقبني وما هي قضيتي؟...

قال:

- نحن نعرف شيئاً واحداً فقط. وهو أن عليك أن تعود إلى بيتك الآن وتبحث في كتبك وأوراقك وأشيائك الشخصية. عليك أن تنقب في تاريخك علّك  تعثر على ضالتك.

-4-

هل هذا قدر أم بلاء من الله. بلاء يقصد منه امتحان قوة إرادتي وعزمي وتصميمي على بلوغ أهدافي. راعني ماقاله القاضي، ولم أفهم منه أي شيء، وقد انسحب تاركاً إياي في حيرة وبؤس كئيبين.

الدوامة تتسع وإخال الأنشوطة تضيق حول عنقي. ولكني تنبهت إلى أنه لا بد من فعل أي شيء. لابد من البحث عن الأسباب والتفتيش عن الحقائق. يبدو الأمر متعلقاً بي، ويخصني بشكل صميمي. هذا ما قاله القاضي إن عليّ أن أجدّ في محاولة تقصي حقيقة الأمر. أن أوغل في التفكير. أن أقاوم سلبيتي وانفعالي بإزاء الأشياء. أن أدور حول نفسي عليّ أعثر على حل لهذا اللغز.

-5-

حين غادرت باب المحكمة. كان الرجل ما يزال يراقبني. توجهت صوب داري. دلفت من الباب واتجهت فوراً نحو النافذة. أزحت الستارة فوجدته يرقب باب بيتي. عندها قررت يجب أن أتمثل كلام القاضي فهو يعي ما يقوله بدقة. جعلت أفتش في دفاتري وكتبي وأوراقي فتشت كل بيتي عليّ أعثر على دليل ما يمكن أن يقودني إلى حل أو يفتح لي نافذة أمل.

عندها باغتني خاطر مفاجئ. بحثت عن بطاقتي الشخصية.أخرجتها من جيب سترتي. حدقت فيها وجعلت أقرأ الاسم. كان حرف -س- كبيراً جداً لدرجة أنه غطى الورقة بكاملها.

1997

 

 

جلجامش

 

أنا جلجامش. ملك الملوك وسيد الرجال أجمعين منذ خروج آدم من جنة الله وحتى دخول الناس بأسرهم إلى جهنم.

أنا جلجامش. بقرت بطون الحبالى. تزوجت العذارى ذبحت الأطفال هتكت الأعراض. هاجمت البلاد. وأحرقت الزرع والضرع. أبدْتُ الأمم وسقت أبطالها أسرى وعلقتهم على مشانق خالدة أمام بوابات بابل. ولم أفعل ذلك رغبة مني في سفك دماء العباد. ولكن الأعداء تألبوا عليّ. أقاموا حلفاً ضدي وضد شعبي وأمتي. فوجدت نفسي مضطراً إلى تسيير الجيوش وسحقهم عن بكرة أبيهم( ).

وهكذا دانت لي الأرض بأسرها. ولكن بالي لم يهدأ البتة. ظللت أغوص في بحيرة القلق والتيه. كل هذا السلطان لي وأنا لا أملك من أمر نفسي شيئاً. وهذا ما أثار الرعب في داخلي الرعب والقلق شيطانان يحومان حول مخدعي. أنا الملك. وجميع جنود الأرض حراس لي ولكن الشياطين قوة باغية وطاغية.

ولما مات البطل أنكيدو. صديقي. تفاقم جزعي. وتنامت قوى القلق والحيرة في داخلي.

واستطعت بفضل تدخل بعض الآلهة أن أطلع على أحوال الموتى. فاقتربت من الجدار الذي يفصل عالم  الأحياء عن عالم الأموات. ولم يكن ميسوراً رؤية أي شيء. ولكني كنت قادراً على سماع كل شيء وعلى تلقي رسائل أنكيدو ووحيه إليّ حيث قال:

- اعلم يا صديقي جلجامش أن الأبطال هنا يسقون صديداً أصفرَ لامعاً. وأن النساء يغتسلن بالدم والمرارة وأن اليأس المطلق يخيم على الأفئدة. وإنهم يأكلون التراب والأعشاب الضارة ويحقنون بالسم الزعاف. وأن ظلاماً بهيماً وحالكاً يخيم على المكان. وأن الدود يخرج من بين الأجساد والخلايا ويبدأ بنهش ما تبقى من بقايا الجسد وأن الروح أسيرة الغربة والأماني ثم ما لبث أن سكت أنكيدو بغتة.

هالني ما سمعت. وثارت في داخلي الشكوى؟. وقُرعت أجراس الخطر والرعب في فؤادي.

وخيم حزن عميق على روحي السائبة. فجهزت سفينتي وانطلقت أبحث عن اوتنا بشتيم الخالد.

إنه الآن في غياهب اليم. العتمة تلف الكون. وها هو ذا يدفع سفينته نحو حتفها المجهول. لا بوصلة سوى قلبه. ولا أنوار في الأفق. يناديه ضوء الحقيقة خافتاً خلف ظل المدى. يحث سفينته. يدفعها. البحر واسع. كأنه فك حيوان خرافي يبتلع الأمواج. والسفينة والقلب ورقة في مهب الريح.

من بعيد. لاح بصيص ضوء. اقترب أكثر. إنها منارة. اقترب أكثر فأكثر. ثمة من يقف بجوارها يشير إليه أن أقبل. كيف تأتى له أن يراه؟!.. الأسرار في داخلك على حين تعجز أنت عن فك طلاسمها.

اقتربت السفينة من الشاطئ الغريب. لاح رجل عجوز. لكنه بدا قوياً وثابتاً. انفجرت الفرحة داخل قلب جلجامش. قال له العجوز:

- عمّ تبحث أيها الملك في صحراء الظلام؟!..

ردّ جلجامش:

- عنك يا عماه.

قال العجوز دهشاً:

- هل تعرفني!؟..

ردّ بلهفة:

- أجل، حق المعرفة. وقد قطعت أرجاء الكون كي أصل إليك.

ارتسمت على شفتي العجوز المجعدتين ابتسامة كئيبة وقال:

- اسمي زيوسودرا.

هاله ما سمع فهتف:

- ألست اوتنا بشتيم! بلى. أنت هو.

دهش العجوز وقال:

- بل أنا زيوسودرا. وأنا رجل خالد.

قال جلجامش:

- أعرف ذلك. ولكن الزمان طوى صفحة سومر. ومحى زيوسودرا معها. ولم يتبق من الكون سوى بابل العظيمة. وقد بدلوا اسمك وجعلوه بابلياً ألا وهو اوتنا بشتيم.

حزن الشيخ حزناً عميقاً. ران صمت رهيب. ثم ما لبث أن قطعه العجوز متسائلاً:

- وماذا تروم؟!..

ردّ جلجامش:

- سر الخلود.

- أجاب الشيخ بلهجة حازمة:

- سوف تجده في المكان الذي تركته.

عاد جلجامش من رحلته الطويلة والغريبة، وقد عقد العزم على قهر الموت. فشرع يبني الأسوار والمدن والأبراج والقلاع. شرع يشق قنوات الري. كتب شرائع بابل العظيمة( ).

أقام العدل. وحكّم القانون فوق رقاب البابليين والشعوب المقهورة التي انضوت تحت لوائها.

وهكذا كرس جلجامش بقية عمره ليخلد اسمه. وليغدو حتى عصرنا هذا أهم ملك في التاريخ هكذا لامس جلجامش الخلود بأطراف أصابعه. لامسه وحسب.

لكن القلق ما انفك يعتمل في داخله. الخوف والرعب توأمان لنومه ويقظته. القلق وحش خرافي ومفترس. الليل دامس. والقلب تائه في بحيرة من اليأس والقنوط والتوجس.

عندها صعد جلجامش فوق برج بابل وصرخ:

-آه.. كم أحبك أيتها الأبدية.

 

 

مدينة الشحاذين

 

آه  كم أحبك أيتها الأبدية

نيتشه

 

أخيراً قررت مغادرة الصحراء والتوجه صوب المدينة. المدينة حلمي الجميل. وقد بت أشعر في الآونة الأخيرة أن صحرائي غدت ضحلة ومملة. وأنا رجل أحب التفكير والإبداع والاختراع. ولم تعد تلبي الصحراء كل حاجاتي الروحية والمادية. كما أن هاجساً للبحث عن المستحيل بدأ يغلي في داخل قلبي الصغير. قلت سأطرق باب المدينة وسأقابل الحاكم الأكبر فيها.

سرت في طرق ملتوية ومتعرجة. كابدت وعثاء البحث المضني. رغم أن النهر كان يجري منساباً بهدوء مطلق وخالد على أرض ممهدة بالحصى.

دخلت أول مدينة صادفتني. وعند بابها التقيت رجلاً رث الثياب. سألته:

- ما هذه المدينة؟!..

نظر إلى هيئتي باستغراب ثم سألني:

- هل أنت غريب؟

تبرمت قليلاً. لكني أجبته على مضض:

- أجل.

- ابتسم ابتسامة ذات مغزى وأجاب وهو يشير إليّ بالدخول:

- هذه مدينة الشحاذين.

هاجني ما سمعت. وثارت في داخلي الشكوى والألم. خلت أن الأمر غريب للغاية. وخطر ببالي أن أعود من حيث أتيت. وأن أتخلى دفعة واحدة عن مشاريعي وأحلامي. لكن الهاجس كان أقوى. الحنين قوة ضارعة. وقلبي تواق لركوب موجة المستحيل. قلت لعل هذا بالضبط ما أبحث عنه.

قلت للحارس:

- أريد مقابلة الحاكم الأكبر

ردّ وقد عاودته ابتسامته الماكرة:

- تعني حاكم الشحاذين؟!..

قلت بتبرم:

- أجل.

قال:

- هذا ليس مستحيلاً وإن كان صعباً قليلاً. عليك بالمحاولة.

دخلت المدينة. وهناك قابلت أهلها. التفت حول منظري الغريب جموع من البشر والسابلة.

وبادرني أحدهم بالقول:

- نحن جميعاً هنا شحاذون.

نهشت قلبي حيرة مريرة. ولكني تماسكت كي لا أتزعزع وسألت:

- وماذا تشحذون؟!..

ردّ الشاب بسخرية:

- كل شيء.

لم أفهم معنى هذا، وتصنعت ذلك علّي أحظى بمزيد من الأجوبة لسيل الأسئلة الذي جعل يتدفق في ذهني.

تقدم مني جندي في ثياب رسمية وقال:

- نحن هنا نشحذ الهمم استعداداً للحرب المقدسة.

- وقال شيخ طاعن في السن:

- بل نشحذ التقوى والإيمان.

وقال آخر وكان رث الثياب هو الآخر:

- أنا أغنى رجل في هذه المدينة، وأنا لا أشحذ إلا النقود.

وقالت امرأة:

- نشحذ اللذة والهوى.

وقال آخر:

- أنا أحب الأكل والطعام والشراب.

وصاح آخر:

- هذا كله كذب وافتراء. هذه المدينة مقدسة. ونحن نشحذ فيها الأفكار السامية، الفلسفة والأدب، الشعر والخطابة. والعلم والمعرفة.

وقال آخر:

- إننا نخترع الشحاذة لنفوز باختراع الحياة وابتكار أحدث الوسائل لممارستها.

وعقّب عليه آخر:

- أي أن الشحاذة ليست غاية بحد ذاتها. إنها وسيلتنا لامتصاص آخر قطرة من دم الحياة.

صاح شاب متمرد:

- نحن وحوش.تديسين

وصرخ آخر:

- بل نحن ..؟..

وثارت ثائرة الجماهير الغفيرة حولي. وأنا أكابد الغوص أكثر فأكثر في بحيرة الحيرة والدهشة.

اقترب مني رجل أنيق الثياب. وقد أثار هذا استغرابي ودهشتي. همس في أذني:

- أنا شاعر وقد اعتزلت الشحاذة منذ زمن.

سألته:

- وما علة ذلك؟!..

قال:

- لقد اكتشفت أخيراً أن الوجدان البشري خائب لا رجاء منه.

قلت متشككاً:

- لعلك تبالغ في يأسك هذا!.

ابتسم بحزن. ربت على كتفي ثم انصرف مبتعداً عني وعن الشحاذين.

ألتفت نحو الجمهور وصحت بصوت عال:

- أريد مقابلة حاكمكم الأكبر.

ردّ الجميع بصوت واحد:

- هذا جد ميسور.

واقتادوني في أزقة وحارات. حتى وصلنا إلى بيت هو أشبه بالخربة. وقد ثوى أمامه رجل في مقتبل العمر. رث الهيئة والثياب. قالوا له:

- هذا الغريب يبغي مقابلتك.

تأوبتني الحيرة والدهشة. قلت هذا مستحيل. إنه جنون مطبق. ولكني حاولت التماسك وعدم الظهور بمظهر من تزعزعت أركان قلبه وعقله. سألته بلهفة:

- من أنت؟!..

أجاب باسماً:

- أنا حاكم مدينة الشحاذين. أي أنا الشحاذ الأكبر هنا. ولقد ولوني عليهم حاكماً مطلقاً. إني أخمن ما يدور في ذهنك وخاطرك. أنتم في الصحراء لا تعيشون على طريقتنا رغم أنها أصبحت الطريقة الوحيدة السائدة في هذا العالم الصغير. في كل أرجاء المعمورة. على حين بدأتم أنتم وصحراؤكم بالانقراض والتلاشي. أليس كذلك؟

قلت ذاهلاً:

- يبدو هذا الكلام أقرب إلى المعقول. ولكن من أين تنحدرون أنتم؟..

ردّ بصرامة:

- من الشمال البارد.

قلت مستغرباً:

- ولكن الشحاذة!!.. هذا غريب!.

قال باسماً:

- لا.. إنما أنت الغريب وحسب. وقد بدأت بالتخلص من حالة الغرابة التي تعيشها منذ اللحظة التي قررت فيها اللجوء إلينا. ذلك أنك أدركت أن حالتنا هي المثالية وأنها الخلاص الذي تنشد. بل إنها الجسر الذي سوف تعبر عليه من حالتك الحيوانية إلى مستوى الرسل والأنبياء.

لم أفه بحرف. وكنت غارقاً في ذهول عميق. نهض الرجل ولاحظت آنذاك أنه أشقر الشعر أبيض السحنة. ربت على كتفي وقال:

- سأشرح لك الأمر باختصار

إن الحرية والألوهية هي غايتنا. ونحن نتفانى منذ أقدم العهود في سبيل بلوغ ذلك. لذا لم نترك وسيلة تفيدنا في الوصول إلى غايتنا هذه إلا وابتكرناها. لم نترك باباً إلا وطرقناه.حلالاً  كان أم حراماً. نحن نركض -وبغض النظر عن الوسيلة- وراء أهدافنا. لكل منا هدفه الذي يسعى من أجله. ولكل شيخ طريقة ولكن الغاية واحدة وإن تعددت الأسباب والوسائل وقد اجتمعنا على بناء هذه المدينة. مدينة الشحاذين. وهي مدينة مجهزة بأحدث الوسائل وبكل المؤسسات الضرورية بما فيها مؤسسة الحكم والجيش والدين. لقد استطعنا وعبر مسيرتنا الطويلة أن نحيل الشحاذة إلى أسلوب في الحياة. ولقد بذلنا في سبيل ذلك جهوداً فضية. واعتقد أننا نستحق التقدير مع ذلك هل بدأت تفهم الآن؟!..

قلت وقد تهالكت على قارعة الطريق:

- لعل الأمر بدأ يهون قليلاً. إن هذا يخفف من حدة قلقي رغم أنه لا يزيله تماماً.

حدجني بنظرة متفحصة وقال:

- لا تستعجل الأمور. عليك أن تبدأ خطوة خطوة. وعليك أن تقرر الآن إما أن تعيش شحاذاً في مدينتنا أو تعود إلى صحرائك القاحلة واليابسة.

قلت:

- إن الأمر ليس هيناً بالنسبة إلى غريب مثلي. ولا يمكن اتخاذ قرار صعب كهذا بكل بساطة وسهولة. ولكني مبدئياً قد أقرر البقاء هنا لبضعة أيام. قل هي نوع من الاستجمام. وسوف أجرب خلال ذلك ممارسة فن الشحاذة علّي أصل إلى مبتغاي ورجائي.

وهكذا دخلت مدينة الشحاذين وأصبحت شحاذاً فيها.

1998

 

 

بـــين الحقيقــــة والخـــيال

 

حدقت في المرآة. فهالني ما رأيت. لقد تحولت من إنسان إلى قرد. دهشت لما حدث للوهلة الأولى، ولكني عدت فأنكرت ما رأته عيناي. وقلت لعله حلم أو كابوس. لعله الوهم مرضي وقد عاودني مرة أخرى. قال لي الدكتور:

- إن كل الاحتمالات ممكنة. قد يتطور مرضك تطوراً خطيراً وقد تشفى منه تماماً وإلى الأبد.

ماذا حدث؟ هل تطور المرض؟ أم لعلي شفيت إلى الأبد! تناثرت الأسئلة والاستفهامات في دماغي كما يتناثر الزبد على فم مريض يحتضر. أو كما يتجمع الذباب على كومة من الزبالة حدقت مرة أخرى في المرآة غير مصدق. تغير شكل جمجمتي. تغير أنفي وفمي. برزت أسناني أكثر وتناثر الشعر من رأسي حتى أخمص قدمي.

راعني ما حدث. حرت قليلاً ما عساي فاعل. قلت سأهرب من هذا الكون الكابوسي الفظيع سوف أنتزع نفسي من نفسي. سأخرج من جلدي. ثارت في داخلي الشكوى وصرخت:

- هذا كذب. لن أصدق الحواس بعد الآن. العقل أحكم. والروح توحي بأني إنسان، وإنسان حقيقي وكامل، والتاريخ والذكريات والتفكير واللغة.. الخ.

لم أعد أدري ما أفعل. فخرجت إلى الشارع لا ألوي على شيء، وطفقت أركض في الطرقات والأزقة والحارات.

بغتة تجمع الناس حولي. طوقوني. ثم أمسكني بعض الرجال بقوة كيما يتمكنوا من السيطرة عليّ وإخماد مقاومتي العنيدة. تعالى الصياح والهتاف. وكثر اللغط وهاج الناس وصاحوا:

- قرد... قرد.

قلت كلا، ولكن صرختي كانت مكتومة. كنت كمن يزدرد الكلمات. ولكن إحساسي بالغربة بلغ ذروته.

تقدم شرطي رزين نحوي. أزاح الناس من حولي. ثم قال برصانة:

- اهدؤوا. اهدؤوا. ماذا يحدث هنا؟

قال أحد العامة:

- امسكنا قرداً يركض في الشارع

حدق الشرطي نحوي مستفهماً. فصحت:

- هذا كذب. لست قرداً. إنما أنا إنسان

قال:

- ما اسمك إذاً؟

حرت لحظة. ترددت في الإجابة. حشدت طاقات فكري وعقلي علّي أتذكر. ثم تمتمت:

- من الجائز أن المفاجأة شلت تفكيري وذاكرتي وعقلي. انتظر لحظة. سوف أتذكره في الحال.

آه... لم أعد أتذكر لعله -س-

قال الشرطي مستنكراً:

- هذا غريب. الناس يقولون أنك قرد وأنت تدعي أنك إنسان. أين الحقيقة؟.

قلت بنبرة فيها توسل ورجاء:

- وأنت؟!... ماذا ترى؟!..

قال وقد أمسك بذراعي:

- أنا ليس لي رأي. هناك رئيس يكبرني. فلنذهب إليه وهو من سيقرر حقيقة أمرك.

وهكذا اقتادني الشرطي إلى المخفر. ولحقت الجماهير الغفيرة بنا. وقف الجميع ينتظرون في الخارج على حين دلفنا نحن نحو الداخل.

كان الضابط الأكبر رجلاً مهيب الطلعة. قال بعد أن استمع إلى الحكاية:

- نحن في بلد ديمقراطي. وقد أجمع الناس على كلمة هي الفصل في رأيي. ولكننا سنلجأ مع ذلك إلى جهات أخرى لنحصل على تقرير نهائي حول وضعك.

تحول الكون إلى رمادي اللون. هذا مثير للسخرية. إنهم يحاولون حشري في موقف غريب. تهاوى قلبي بين قدميّ. وضاقت الفجوة بين الحقيقة والخيال. ونكّست كل بيارقي.

خيم ليل بهيم على روحي. العقل سائب في صحراء قاحلة وموحشة. والروح أسيرة الحيرة والدهشة والتردد. قلت سأقاوم حتى النهاية. لن أتخلى عن إنسانيتي.

عقّدت كلمات الضابط الموقف. وشعرت بأن لساني بدأ يتلعثم. وأن الكلمات تخرج من فمي نكداً. قلت نباتي طيب وبذرتي صالحة. كيف تبدل هذا الكون؟ كيف تغيرت صور الأشياء ومعالم عالمي الذي طالما ألفته؟ لست أدري.. لست أدري.

قالوا الإمام ولي من أولياء الأسرار وهو خير من يقدر هذه الأمور. قال بعد أن تأملني ملياً؛:

- قد يمسخ الله الإنسان الكافر قرداً.

هويت في بئر لا قرارة له. ضاع أملي. خلتني أسير في صحراء مملوءة بالثلج الأسود.

خلت السماء سوداء. البيوت والمدينة والكون. خلت السواد بيرقاً لهذا العالم الغريب. سواد ولا شيء سوى السواد.

صحت بأعلى صوتي:

- إني أنكر كل هذا. وعندي دليل. لتذهب إلى داري وتسأل زوجتي وأولادي وهم سيحدثونكم عني. يبدو أن الدهشة عقدت لساني وأفكاري مبعثرة وروحي حائرة.

وافق الإمام والضابط والشرطي ووافقت الجموع الغفيرة على هذا الاقتراح المثير. قلت قد يضع هذا حداً لهذه المهزلة.

قصدنا داري. قرع الباب. فتح أحد أبنائي وصاح:

- بابا.. بابا.

حدقت فيه فراعني ما أرى. قرد صغير. ثم جاءت زوجتي. سألها الجميع:

- هذا المخلوق ينكر حقيقة أمره ويدعي أنه زوجك وأنه إنسان قالت:

- بل هو قرد. وأنا زوجته. أنا أيضاً من فصيلة القرود. وهؤلاء أبنائي. قرود صغار. حدقت فيها. تغير شكلها كثيراً. إنها تشبه ما رأيت في المرآة هذا الصباح. اسقط في يدي حرت وتهت. تهالكت من التعب ووعثاء المقاومة. كانت المسافة بين الحقيقة والخيال قد بدأت تقصر. وخلت العالم جيشاً من الغزاة يحاصر مدينتي ثم يستبيح أعز ما فيها. خلت سفني بلا صواري تائهة وسط بحر متوحش هائج. فصمت من يأس:

- هذا كذب. أنا إنسان.

ران صمت قصير في أرجاء الوجود. هجم الليل وعصفت الريح. بل اشتد أزيزها حتى تحول إلى صراخ طاغ. كأن الدنيا بركان هائج. وكان القلب ورقة يابسة في مهب العاصفة الروح خائفة ومذعورة. والعقل حيران. خلت الدنيا وقد تحولت إلى سيل يجرف كل شيء.

الأسماء والذكريات والأحلام.

ثم تم عرضي على أطباء ومسؤولين وحتى على مختصين أجانب. فأجمع الجميع على أني قرد. قرد حقيقي وأنتمي إلى هذه الفصيلة. لم يعد ثمة فارق بين الحقيقة والخيال. امتزجا معاً وشكلا أنشوطة التفت حول عنقي وتم شنقي في الساحة العامة على مرأى من كل البشر. الوهم صار حقيقة. والأغنيات تحولت إلى ضوضاء مزعجة. الأحلام تلاشت كدخان السجائر. على حين تحولت الذكريات الجميلة إلى كابوس انضاف إلى جملة الكوابيس التي جعلت تنهش لحمي مثل ذئاب جائعة وضارية. خلت العقل ضحية. وخلت القلب ضحية وخلت الروح ضحية. خلت الأمل ذئباً. وخلت الطريق إلى الحلم ذئباً. وخلت الدنيا مسكونة بالضباع.

تمتمت في سرّي:

- هذا الهم همي. وهذي إرادتي أنا وحدي.

مال رجل من العامة نحوي وهمس في أذني:

- لا تستغرب. نحن جمياً قرود. هكذا مسخنا الله. وأنت وحدك من ينكر ذلك.

قلت:

- قد أكون ...!..

قالوا:

- مضى زمن المعجزات

قلت:

- أريد خمرة تسكر عقلي. فيذهب جفاء كالزبد. أو يتطاير كالهباء.

قالوا:

- الخمرة حرام.

صحت:

- أريد كرامتي

قالوا باسمين:

- كرامتك مصانة. أنت فقط حساس بعض الشيء. إنها مسألة إجراءات شكلية وهذه الأمور تحدث من وقت إلى آخر.

قلت:

- الحرية إذاً.

قالوا:

- القفص هو المكان الطبيعي للقرود. سنجهز واحداً خصيصاً لك. لقد فعلنا ذلك كثيراً قبلك لقرود مثلك ينكرون حالتهم.

وهكذا تم تحضير قفص لي. وعشت فيه بقية عمري قرداً. لكني ما فتئت أتمتم:

- أنا إنسان، وسأظل -ما حييت- أعتقد بذلك

1998.

 

 

 

القــــرف

 

حينما عدت إلى البيت من رحلة طويلة. فوجئت بوجود امرأة غريبة. سألت أمي عنها فأجابت باسمة:

- إنها الخادمة الجديدة.

كانت الخادمة قبيحة للغاية. قلت في سرّي لعلهم اختاروها بالضبط كذلك. إنها ولا شك مؤامرة. مكيدة حاكتها أمي وإخوتي وجيراني وكل الناس. وأنا المقصود هذه المرة.

قلت في سرّي:

- حسناً ليكن الأمر كذلك.

أويت إلى غرفتي. احتسيت فنجان قهوتي. دخنت سيجارة وطفقت أفكر. كان القمر في الخارج أصفر باهتاً. وكان الليل رمادي اللون. وقد جعل الضوء يشعُّ في الغرفة باعثاً مزيداً من الكآبة والبؤس.

عندها خطر لي خاطر. قلت في سرّي:

- حسناً. سوف أغوي هذه الخادمة القبيحة.

بدت لي من بعيد سراً أعجمياً. كانت تغطي شعرها بحجاب أسود، وترتدي لباساً محتشماً طويلاً. وجهها متعب ومن وعثاء الحياة. عيناها غائرتان وشفتاها يابستان. قلت سأجرب. هذه مغامرة جديدة. وهي مغامرتي الأولى بعد عودتي من سفري الطويل. راقبتها من بعيد.

تأملتها ملياً. كان الهدوء والسكون يخيم على حركاتها. بدت لي ميتة أو أشبه بهيكل عظمي يتحرك على أنغام موسيقى جنائزية.

قال أبي:

- الحياة كابوس

وقالت أمي:

- العبرة في التقوى

وقال إخوتي:

- سوف نعيد بناء العالم من جديد.

الكون أشبه بآلة عملاقة تسحق كل شيء. هذه الدنيا سراب. وما الحياة المثالية الأخرى سوى كابوس آخر يجثم على صدر مخيلتنا. أنشوطة تلتف حول أعناقنا. تقيدها بأمراس صارمة ومتينة.

قلت للخادمة ذات مرة:

- حسناً. هل ستساعدينني في اختيار عروس لي.

ابتسمت بهدوء. قهقهت أمي. سعل أبي وصرخ أخوتي بحماس مثير. على حين جعلت النار تهدر داخل المدفأة طاردة حمى البرد والصقيع. وكان الليل يثوي في الخارج مثل ذئب مفترس وضارٍ.

حاولت غواية الخادمة. تأرقت. سهرت أحتسي القهوة وأنفث دخان السجائر. أخطط فيما ينبغي عليّ فعله من أجل جر الخادمة إلى فراشي الدافئ. كانت الخادمة قبيحة جداً ولكن المغامرة استهوتني. قلت أخالني سأمر بتجربة نادرة وجديدة في غياهب هذه الحياة الخائبة.

وكانت سفني ترسو على شواطئ القلق والتيه. قلت سأخلق من ثنايا القبح جمال الوجود وبهاءه. سأفتش في الجسد علّي أعثر على حل لطلسم الكون والنفس التواقة إلى الخلود. هذه الحياة قدَّت من إسفنج رخو وبارد. الخلود. الخلود. تلك أغنيتي وهي أغنية دافئة وحائرة.

قلت سأمارس المستحيل. سأطرق أبواب الجسد البض علّي أصل إلى هدفي ومرماي.

السكينة هي بالضبط ما أروم وأبغي. الطمأنينة في عالم خال من الأحاسيس الدافئة والإنسانية صفو العقل وتوقده. هدوء الروح واستجابتها لنداءات الطبيعة والوجود الآسرة. جمال الجسد ونموه. هذه هي أماني وغاياتي. وهذه هي أفكاري وطموحاتي.

لذا فقد قررت غواية الخادمة القبيحة. وقلت في سرّي:

- علّ التجربة تنجلي عن عالم جديد وغريب. عن حالة إبداعية وأصيلة.

قاومت الخادمة القبيحة رغباتي ومحاولاتي اليائسة. أرقتني ليالٍ طويلة. كأنما كانت تفهم وتدرك وتحس سرّ ولهي وولعي بها. كأنها كانت تعي أن رغباتي هذه حولتها إلى شيء أساسي في حياتي. شيء لم أعد أستطيع فك قيودي منه. أحسست آنئذٍ بأني قيدت نفسي بنفسي.

وحين حالف النجاح خططي المدبرة بذكاء وفطنة رجوليتين استسلمت الخادمة لإغرائي وغوايتي. سقطت في أحابيلي التي نسجتها لها. عندها تعرت أمامي. كنا وحيدين في غرفة باهتة الضوء. وكان الرعد والمطر ينعقان في الخارج والظلام يلف أرجاء المعمورة. على حين يخيم سكون أصفر على الوجود. انخرطت أمارس الحب مع هذا الجسد القبيح. فبردت أطرافي وتجمد الدم في عروقي وتصلبت أوردة جسدي. خلتني كمن جعل ينبش قبر حبيبته. يخرج الهيكل العظمي ثم ينخرط في مضاجعته. تصلبت عروقي وعضلات جسدي وخلت نفسي تغرق في يم لا قرارة له. بحيرة الحب الدافئة استحالت إلى بركة من الدم والصديد الأصفر اللامع وعليك أن تسبح فيها وتمارس الشعور باللذة والنشوة.

هذا ما اعتراني من إحساس فتركت المرأة عارية في فراشي وخرجت من البيت أركض عارياً دون أن ألوي على شيء.

ركضت في الشوارع الموحلة. وكان الليل أسطورة أو أشبه بمطرقة جعلت تنهال على رأسي فتذكرني بأمجاد أجدادي الغابرين. بيأسي المطلق. وخيبتي الأبدية. ظللت أركض وأركض في الشوارع والأزقة والطرقات. ودهش الناس لرؤيتهم إياي أركض عارياً وعلى كتفي أحمل صليبي ورايات الموت واليأس المطلقين.

غادرت المدينة. وتوجهت إلى الصحراء، أمي. قلت سأحظى بحل لكل هذه الأساطير والألغاز والأسرار. هناك وسط الصحراء، شاهدت نهراً يجري منساباً بهدوء مطلق ورزين وقد نصب عليه جسر. دهشت لذلك. ولكني صعدت الجسر ثم انحنيت صوب النهر وتقيأت دماً وصديداً وألماً. تقيأت روحي وكل نبضة في جسدي. تقيأت نفسي. تقيأت تاريخي وأحلامي وأمنياتي. تقيأت الحلو والمر في هذه الدنيا الطويلة والعريضة. كانت السماء مملوءة بالنجوم الزاهية وكانت الصحراء خالية وصامتة. وكان الرمل تحت قدميّ الحافيتين بارداً ورطباً.

بغتة وجدتني محاطاً بأناس لا حصر لهم ولا عدد. أدركت بعدئذٍ أن المدينة غادرت نفسها في إثري. توجهتْ خلف هذا الرجل العاري نحو الصحراء. غادر الناس المدينة وتبعوني إلى الصحراء. وهناك أحاط خلق الله بي. ثم لم أعد أدرك شيئاً. فجأة أغمي عليّ. وتلقفتني الأيادي بحنو. وفي غرفة الإنعاش في مستشفى بعيد وناء بدأت باستعادة وعيي رويداً رويداً.

وكانت أنفاسي متهدجة وروحي مضطربة وجسدي دافئاً ورخواً.

1998

 

 

الإرث

 

حينما قفز ع. س هكذا وبضربة واحدة. من سن الطفولة إلى سن الرشد اكتشف أنه يعيش في غرفة ضيقة للغاية. وأن الضوء الذي يتسرب إليها من نافذة صغيرة جداً هو ضوء باهت وغير كاف أو مناسب لرؤية طبيعية وصحية.

قال ع. س في سره:

-هذا هو عالمي.

ثم تساءل:

-هل العالم في الخارج أوسع من ذلك؟ بل هل ثمة عالم آخر خارج هذا العالم؟!

لكن مأساة ع.س لم تقف عند هذا الحد. بل قل لم تكن هي في الحقيقة مأساته. فقد اكتشف يوماً ما أنه ليس وحيداً في هذه الغرفة. ثمة كائن آخر. غريب نوعاً ما يعيش معه داخل الغرفة. ثم اكتشف ع. س أن هذا الكائن هو عبارة عن حيوان. أو بالأحرى. وبتعبير أدق كان طائراً. طائراً عظيم الجثة. ضخماً. بل أضخم من الغرفة نفسها. حتى أن أجزاء من جسد هذا الطائر كانت تخرج من ثقوب في السقف أو الجدران.

للوهلة الأولى أصاب ع. س رعب من وجود هذا الطائر. أحس تجاهه بنوع من الخشية والإجلال والخوف والتوجس. أحس بغرابة نحوه. قال في سره: سأحاول أن أفهم ما هي الحكاية هذا الطائر. ولماذا يفرض نفسه عليّ ويساكنني.

كان ع. س موظفاً بسيطاً. بل قل أنه كان معلماً يدرس الأطفال فن فهم التاريخ. يخرج صباحاً. يلقي على مسامع الأطفال دروساً في التاريخ ثم يعود عند الظهيرة حاملاً غذاءه بين يديه. يجلس على حصيرة بالية ثم يبدأ بتناول طعامه بنهم. لكن المصيبة ازدادت تفاقماً بعد حين. فقد بدا أن على ع.س أن يقدم الطعام إلى هذا الطائر المرعب الهادئ في الوقت نفسه بل قل إن الطائر تقدم من تلقاء نفسه وتناول كل ما كان قد أحضره ع. س من أجل وجبتي الغداء والعشاء.

قال ع.س في سره:

-هكذا لقد بدأ هذا المخلوق يلتهم كل ما أحصل بالكاد عليه. كظم ع.س غيظه. كتم كل شيء في داخله. وظل جائعاً طوال الوقت. قال بأني بحاجة إلى هذا الغداء كي استمر لكن هذا الطائر يستهلك كل شيء.

في الحقيقة لم يكن ع.س يستطيع أن يفعل أي شيء. فهذا الطائر رغم هدوئه وألفته ضخم ومرعب. لذا استكان ع.س. وخضع للأمر الواقع.

وكان ع.س يقتات فضلات هذا الطائر. يقتات ما يرفض هضمه أو أكله. كان الطائر يلتهم الطيب واللذيذ ويترك لـ ع.س البقايا والفضلات. لكن ع.س أخذ رويداً رويداً يتضور جوعاً.

وزاد من حدة مأساته أن تعبه وكده يذهبان هباءً منثوراً، فقرر الثورة على هذا الواقع. قال في سره سأطرد هذا الطائر خارج غرفتي ولو كلفني ذلك حياتي.

عند هذه اللحظة اكتشف ع.س اكتشافاً مرعباً. فقد أحس بأن هذا الطائر ليس جامداً أو أبكمَ: بل هو قادر على الكلام تماماً مثل سائر البشر:

عندها سأله ع.س:

-من أنت:

رد الطائر ببرود وهدوء:

-أنا العنقاء * .

قال ع.س:

-وماذا تفعل معي هنا في هذه الغرفة الضيقة؟

رد الطائر بصرامة:

-أنا ظل لك.

لكن ع.س قال متشكياً:

-لكنك تستهلك حاضري. تبدد جهدي. وتهدد بتدمير مستقبلي.

رد الطائر:

-هذه هي طبيعة الأشياء.

سكت ع.س حائراً. قلقاً. لكنه قال في سره. طالما أن هذا الطائر يمكنه أن يتكلم. فهذا يعني أنه يمكن قيام حوار معه. وهذا ما أنوي أن أفعله في المستقبل. إن كان ثمة مستقبل.

1998

 

 

حائر على المسرح

 

إثم عظيم، ذلك الذي أتيته على خشبة المسرح كنت نائماً حينما جاءتني نوبة النبوءة. أن تدرك الحقيقة فجأة في إغفاءة خفيفة! ذاك مثير للدهشة. إنه نوم يماثل ما يعد أمام الجمهور على خشبة المسرح هي لحظة تقتنصها الآلهة لتخيط من نسيج الألم دروع الأبطال الساعين إلى الخلود.

هأنذا أقر بحقيقة ما حدث.

نحن اثنان، وقد قتلت الممثل الآخر، فعلتها بصمت وبراءة تامة، مثل عذراء أتت شيئاً بغياً ثم عادت مذهولة من سحر الحب والميتافيزيقيا.

كانت جريمة، ولم تكن -ولا بد- محكمة الإعداد. رفع المقتول رأسه المخضبة بالدماء وقال:

-ذاك هو جرمك الحق.

اعتقدت المسدس فارغاً في يدي، كانت تمثيلية وحسب، لعبة، أو هكذا قرر المخرج. لقد تدربنا على هذا المشهد طويلاً، إنه أحد أهم مشاهد المسرحية، هذا ما أكده المخرج -قبل بدء العرض- أكده لي وهو يشد على كتفي مشجعاً إياي كمدرب ماهر.

كنا نؤدي دورنا المرسوم بدقة، أشهرت المسدس، ثم أطلقت، وكانت الصدمة... لم تكن رصاصة وهمية، بل انطلقت نحو رأس رفيقي.. ثقبته.. فهوى الرجل صريعاً.  وصفق الجمهور من دقة الأداء.

تمتمت:

-لقد عبث الشيطان -ولا بد- بالمسدس.

قالت الجوقة:

-ستكون حياتك كهفاً معتماً من الحسرة، وسيأكل الأسى قلبك، ضلال ولا شيء سوى الضلال.

لم يكن يصغي إليّ أحد. أحسست أن في الأمر مكيدة وأن ثمة تواطؤاً بين الجوقة والقتيل.

هتفت الجوقة بحماس مثير:

-قد حطمت آلهتنا.

الشيطان -صرخت لقد دفعني الشيطان لارتكاب جريمة لم أكن لأعيها البتة. لا بد أنه حبك كل شيء بدقة فائقة.

خلت نفسي ازدرد الرعب والهواجس. القلب بارد والصمت ليل معتكر يسدل ستائره الغامضة على أرض المشاعر والرغبات. بدا وكأنني قد استبحت عوالم ضاربة جذورها في الأرض منذ القدم..

آه، لم أكن ولا شك كُفْئاً للتمييز بدقة، كان التاريخ قصة، وكنت أراني خارج الجمهور، واقفاً على المسرح. الحقيقة أن عيني غشاهما -ولا بد- غشي ما، وارتد جسمي بارداً كالتراب، ثم ارتجفت أناملي برهة..

-آه.. كنت تعرف إذاً!

قال المقتول.

تمتمت:

-لست أدري بالضبط إن كنت محيطاً بالأمر أم لا، تلكم هي مفارقة المسرح.

صاحت الجوقة:

-إِثأر له من نفسك..

أنذاك أحسست بأني مجرم، هارب من عدالة نصب ميزانها الآن، كنت أحدس بكل ما أقدمت عليه، بالموقع الذي سوف تزلّ إليه قدمي، بصدى الكلمات، تقريباً بدا وكأنني لم أكن غافلاً عن كل الاحتمالات التي قد تطرأ، لقد انتابني شعور بالتردد.. إن منظر المسدس مهول.. حتى في المسرح، فالمسرح حي، مليءً بالمفاجآت، بل وقابل لكل شيء. إنك لتجد فيه نفسك بمواجهة الحقيقة.

قلت لنفسي قانطاً:

-سيأتي دوري، سوف أقتل نفسي لأريحها من جريرة الإثم، وكي لا أقع فريسة لشيطان الكفر والكآبة.

قالت الجوقة:

-إنك لا تصلح حتى لقتل نفسك. إنك تكذب، لقد أسلمت نفسك لرغباتك تلهو بك، لقد قتلت بالفعل نفسك.

هجست:

-كنت بالفعل على وشك أن أوقف المشهد حين اعتراني الشك.

ثم هتفت:

-بدلوا المسدس

-لم يتبدل شيء

صرخت كمن يحتضر.

-إنهم يجيدون التمثيل.

-قيل أن اليونان برعوا في التمثيل قديماً، وهو فن الانتقال من رقادة الطقس البدائي إلى يقظة العقل. ماذا فعلت أنت؟ أتحاول ارتداء ثوب غيرك؟

أنشدت وأنا أحسني حصاناً يجمح:

-حاولت بناء مدينة، سككت الجير الأبيض والأصفر والأحمر، ابتدعت الرياضيات وراقبت مسيرة الأًفلاك، ثم صرخت في خلائط الآلهة والناس التي انضوت تحت كلمتي:

"فوق العيشارة التي بنيت /سأمهد مكاناً صالحاً للبناء/ هناك ابني بيتاً لي وهيكلاً/ به قدس الأقداس رمز جلالتي/ وعندما تصعدون من الابسو للاجتماع/ سيكون مفتوحاً لاستقبالكم وبه تبيتون/ سأدعو اسمه بابل، أي بيت الآلهة /وسينهض لبنائه أمهر البنائين*.

-ثم ماذا؟

-لست أدري كان حصار الغزاة يزداد حول عنقي كأنشوطة باغية، خلتني ضائعاً لا محالة خلتني انقرض كحيوان فقد مهارته.

كان المسرح خانقاً، أحسست أني مجرد لعبة، وأن الجمهور جيش من الغرباء يريد افتراس مدينتي. فأطلقت الرصاصة.

-...

حدقت في أغوار نفسي العميقة، دققت ملياً، ثم تمتمت:

-لقد أفلت شمس الوهم.

ثم قلت في سرّي:

-من الجائز أن المخرج هو الذي دس الرصاصة الحقيقية في المسدس خفيةً.

عندئذٍ ظهر المخرج، رسم ابتسامة على شفتيه، ثم أومأ بيده فغرق المسرح في لجة الأضواء ألقى نظرة باردة على المقتول وقال له:

-أيها الوهم، سوف أشتري لك نظارتين وعكازاً، شاخت روحك، وبلى جسدك، لقد نال منك أخيراً تاريخ مليء بالفوضى والغموض. إن حياتك محض تجارب يائسة. أكاد أشتم رائحة الديدان تنبعث من تعبك.. إنه فراغك ذاك الذي يظلك. ها أنت ذا ميت حقاً.

أسدلت الستائر، فاختفى الجمهور. حملت الجوقة القتيل بخفة وغابت، وغادر المخرج بخطوات ثابتة خشبة المسرح تاركاً إياي غارقاً في الذهول، ثم عادت الستائر تفتح ووجدتني أُحَيّي جمهوراً يصفق بحماس شديد لممثل قدير استطاع أن يؤدي دوراً إيمائياً طويلاً بمفرده على خشبة المسرح.

1989

 

 

رجل وامرأة

 

اللقاء

مصادفة التقيا. في أحد المقاهي. كان المقهى خالياً إلا منهما. جلس كل منهما على طاولة بعيداً عن الآخر. تبادلا نظرات حائرة. مرت لحظة صمت. لا أحد -سوى الله- يعلم ما دار بخلد كل منهما. حاول كل منهما للوهلة الأولى اصطناع اللامبالاة. فطلب كل منهما فنجاناً من القهوة. ثم جعلا يحتسيان القهوة بصمت وقد أصابهما حياء من نظرات النادل إليهما. حيث كان هذا الأخير يرمقهما بنظرات ذات مغزى. جعل كلاً منهما يحتسي القهوة الساخنة ويدخن سيجارة ثم يختلس النظرة إلى الآخر. يختلسها اختلاساً. وكان النادل ما زال يرقبهما اختلاساً هو الآخر. أحس كل منهما أنه يكاد يحترق شوقاً للقاء الآخر. لكن نظرات النادل الصامتة كانت شوكة في الحلق. غصت الأنفاس. تهدجت. واستمر الصمت سيداً على كل شيء. وحين فرغا من احتساء القهوة. عاد الصمت والحيرة يطرقان بابيهما. فكر الرجل طويلاً فيما ينبغي فعله. وفكرت المرأة بالموقف المحرج الذي وضعت نفسها فيه. ثم فكرت بنظرات النادل. وبأشياء أخرى غريبة عنها.

خطوة إلى الأمام

عندها. وبعد أن استطال الصمت حتى غدا صراخاً جوانياً طاغياً. نهض الرجل. توجه بخطوات ثابتة نحو المرأة التي جعلت تعد خطواته ودقات قلبها.

وصل الرجل إلى طاولة المرأة. انحنى بكل أدب واحترام وهو يقول:

-هل تسمح سيدتي بمشاركتي في تناول فنجان من القهوة الساخنة.

تلكأت المرأة واضطربت. لكنها تماسكت وردت بخبث.

-لقد سبق لي أن تناولت قهوتي للتو.

لكن الرجل عنيد. وهو فوق ذلك داهية. قال:

-إذاً كأساً من النبيذ الأحمر.

الخمرة!.. قالت المرأة في سرها. أنا سكرانة دون خمرة. ولكن لا بأس.

ثم تساءلت:

-إذاً يرغب السيد في مجالستي.

انحنى الرجل باحترام فروسي وهو يردد:

-هو ذا بالضبط يا سيدتي.

ثم حانت من كل منهما التفاته نحو النادل. كان هذا الأخير يقف غير بعيد عنهما يرقب ما يحدث بصمت مطلق.

وافقت المرأة بعد تردد قصير. واتجها إلى طاولة ثالثة. طاولة جديدة.

قال كل منهما في سره:

-كأن ثمة قوة خفية تسير الأحداث. إن هذه الأرمونية غير طبيعية.

ثم قال كل منهما في سره:

-لعلها الغريزة!

ثم تساءل كل منهما في سره:

-لعله الله.

الصفقة

قال الرجل للمرأة:

-أنت جميلة

ارتبكت المرأة وقالت في سرها:

-لعلها الخمرة!

ثم ردت:

-وأنت أيضاً لا تخلو من وسامة ثم إنك مفتول العضلات.

مرت لحظة صمت. قطعها الرجل بقوله:

-لم لا نعقد صفقة بيننا. ها أنت ذي ترين أن المقهى خالٍ. وليس ثمة أحد سوانا. وهذا النادل صامت. لا تستغربي فهو قد يبقى صامتاً إلى الأبد. إن هذه هي بالضبط مهمته.

ردت المرأة:

-من يدري؟ هل تعتقد حقاً أنه سيبقى صامتاً إلى الأبد؟

ارتبك الرجل. لكنه تماسك وقال:

-آمل ذلك.

قالت المرأة:

-ما هي إذاً هذه الصفقة التي تريد عقدها معي؟!

رد الرجل بخبث:

-ألا تريدين أنت أيضاً أن تعقدي صفقة معي؟!

ارتبكت المرأة. لكنها عادت وأجابت بلا مبالاة:

-هذا جائز.

قال الرجل بصرامة:

إذاً لنبني برجاً.

تساءلت المرأة باستغراب:

-وما نفع البرج؟

قال الرجل:

-يمكننا أن نقطن فيه. وهو سيقينا من الحر والبرد. وسننجب أطفالاً لا حصر لهم ولا عدد ثم نعيد تشكيل الكون حسب رغبتنا.

تساءلت المرأة:

-أرى أنك قد أعددت كل شيء مسبقاً!..

ابتسم الرجل وقال:

-لم يكن تفكيري بصمت عبثاً.

قالت المرأة:

-حسناً أني أوافق

لكن كلاً منهما شعر في داخله أن هذه الإجابة متسرعة بعض الشيء. لذا مرت لحظة صمت فكرت المرأة في تسرعها بحيرة بالغة. وفكر الرجل باستغلال الموقف فقال دون أن يعطيها مهلة إضافية للتفكير.

-ولكن ستكون لكل منا مهامه المنوطة به.

شعرت المرأة أنها تغرق في بحيرة لا قرارة لها. لكن الأوان كان قد فات. إنها مضطرة الآن لمتابعة اللعبة حتى النهاية. وقد شعرت في الوقت نفسه أن ثمة خدراً أصاب قدميها. فتخلصت من حذائها بغية تحرير القدمين. ثم أجابت وهي تكاد لا تعي ما تقول:

-أنا أيضاً أعتقد أن لكل منا مهامه الخاصة به.

شعر الرجل أنه يسيطر على الموقف تماماً. قال:

-المنزل يحتاج إلى تنظيف. إلى إعداد طعام. إلى عناية بالأطفال وهذه كلها سوف تكون من اختصاصاتك.

بردت أطراف المرأة. وشعرت بعجز تام. لكنها تمتمت:

-وأنت؟!

رد الرجل:

-أنا من سيكدح طول النهار. منذ الصباح وحتى المساء ليفوز بلقمة عيش له ولكِ ولأطفالنا إن هذا عمل شاق. والنساء كما هو معروف غير قادرات على بذل الجهد في سبيل كسب القوت اليومي وتأمين مستقبل الأولاد.

عندئذ. أسقط في يد المرأة. وشعرت مرة أخرى أن ثمة قوى خفية تعبث بها. فكرت في كلام الرجل. في تكوينها الجسماني. للأسف لم تفكر المرأة في هذه اللحظة بالذات بأن للعقل طاقات تفوق طاقات الجسد. فانهارت أمامه بغتة وهي تردد:

-إني موافقة.

عندئذٍ تأبط كل منهما ذراع الآخر. وخرجا من المقهى. وكان النادل ما زال يرقبهما بصمت.

في أعلى قمة البرج

كانا مضطجعين على سرير ضيق. متلاصقين. وكانا عاريين.

قالت المرأة:

-لقد أنجبنا الكثير من الأولاد. وقد نالت منا وعثاء السنين.

قال الرجل بثقة:

-ما زلنا شابين. ما زلت جميلة وما زلت قوياً.

ثم قال:

-لنقاوم

وردت المرأة:

-لنقاوم

ثم ما لبثت أن تنبهت إلى أمر شديد الأهمية وقالت:

-أحتاج إلى قليل من المكياج والصباغ لأعود صبية جميلة تسر ناظريك.

قال الرجل وهو أشبه بالحالم:

-إني أفكر في تغيير العالم.

قالت المرأة:

-أحب ممارسة الحب معك كما كنا نفعل أيام زمان.

قال الرجل:

أحب الدخول في حرب مقدسة.

قالت المرأة:

-أريد ثياباً جديدة. يجب أن تشتريها لي.

قال الرجل:

-أحتاج إلى بعض الأسلحة لتجنيد الأولاد من أجل خوض معركة مقدسة تهدف إلى تغيير العالم.

قالت المرأة:

-لقد ملأت التجاعيد وجهي.

وقال الرجل:

-لقد عم الفساد في الأرض ونحن بحاجة إلى دين جديد.

رددت المرأة بإلحاح:

-أحتاج إلى ثياب جديدة. إلى مساحيق جديدة. إلى حب جديد. إلى لذة جديدة وأبدية. إلى عطفك وحنانك. هذه هي جنتي.

قال الرجل:

-أحتاج إلى التفكير في الميتافيزيقيا. إلى ابتكار أخلاق ونظم وقوانين تحدد العلاقة بين الإنسان والإنسان بين الإنسان والطبيعة بين الإنسان والله.

الثورة والفراق

قالت المرأة:

-إننا مختلفان.

رد الرجل:

-لا أعتقد

قالت المرأة:

-لقد خدعتني

قال الرجل:

-هذه هي طبيعة الأشياء.

قالت المرأة:

-كم أكرهك.

وقال الرجل:

-كم أحبك.

قالت المرأة:

-أنت سادي وأناني

وقال الرجل:

-أنت جميلة وساذجة  وغبية

وهكذا افترقا. وكل منهما يحمل بين أضلاعه ألماً ممضاً.

اللقاء الأخير

صدفة التقيا. في نفس المقهى. كانا عجوزين. وكان ثمة نادل. النادل نفسه لكنه تحول إلى عجوز هو الآخر. وكان المقهى خاوياً إلا منهما. دعاها إلى طاولته. فلبت الدعوة وهي تقول:

-هذه المرة ليست كسابقتها.

قال الرجل بمرارة وأسف:

-أعلم ذلك

قالت المرأة العجوز:

-لقد لعبت بي طويلاً. وقد أزهقت كل شبابي وصباي من أجلك.

قال الرجل:

-لست مذنباً.

تساءلت المرأة:

-من هو المذنب؟!

قال الرجل:

-لعله الحظ

ردت المرأة:

-لا أؤمن بالحظ ولم تعد تنطلي عليّ ألاعيبك

قال الرجل: لعل الله قد كتب عليك ذلك

ردت المرأة:

-الله أرحم من أن يفعل ذلك بي وبك

عندها صرخ الرجل بغضب:

-لعله هذا النادل. الخسيس. الواطئ

ضحكت المرأة ضحكة مرعبة ثم تمتمت:

-ما زال النادل صامتاً.

عندئذٍ تقدم النادل نحو الرجل والمرأة. ثم همس بكل لطف وأدب واحترام:

-أرجو منكما دفع الحساب. لأن المحل سيغلق بعد قليل. هذه تعاليم البلدية وأنا آسف لذلك أشد الأسف.

عندها صرخ كل من الرجل والمرأة:

-إنه الكاتب

وهنا كفّ الكاتب عن متابعة الحكاية. وانتهى النص.

1998

 

أضيفت في 07/01/2009/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية