أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

مجموعات قصصية / الكاتب: محمد محيي الدين مينو

يوم تعرّى النهر

إلى صفحة الكاتب

لقراءة المجموعة القصصية

 

 

المجموعة القصصية

حال أشرف الحدّاد

  حال حمدو الموصليّ

أحوال من السُّكْر المفرط

ما حدث ليوسف 

  الإهداء

حال سلمى السنكري   يحكى أنّ   ظلام دامس كوجه جلاّد  رجل بلا رأس    تقاسيم على كلمة حريّة
شجرة التوت حواشٍ على سيرة بدر كاميرا قناة الحرّة صورة العائلة يوم تعرّى النهر
 قصص قصيرة جدّاً  التيس المستعار  صديقان   رجل وامرأة ليل طويل

 

يوم تعرّى النهر

الإهداء

إلى ذلك الطفل البائس، وهو يقصّ على أولاد الجيران أحلامه المروّعة..

إلى أولئك الأطفال ذوي الوجوه الصفراء، وهم يستمعون إلى قصصه وحكاياته بشغف ولوعة..

لو كنت أعلم أنّ الأيّام ستباعد بيننا إلى هذا الحدّ لجعلت قصصي أطول من يد صديقنا عبدالحكيم الذي كان يسرق الخبز اليابس من أيدينا، ليسدّ جوعه.. 

محمّد دبيّ في 25/ 2/ 2008

 

 

ما حدث ليوسف..

 

كالعنكبوت كان يتدلّى من سقف الغرفة ! 

دخلت أمّه في ذلك المساء الأسود غرفته، وألقت كعادتها نظرةً خاطفةً إلى سريره، فراعتها وسادته التي تناثرت أحشاؤها في أرجاء الغرفة، واصطبغت بلون الدم. كتمت صرخاتها المتدفقة، وتمالكت أعصابها، وحين همّت بالخروج من الباب لاحظت أنّ صورته المعلّقة على الجدار قد تهشّمت شظايا، حتى لم يبدُ من ملامح وجهه سوى عينين غائرتين، تترقرق في محجريهما دموع وحزن مريع. أجهشت بالبكاء، وراحت ترقأ بيديها المرتجفتين دموعه التي كانت تنساب على الجدار كنهر جارف.

            من أعلى سقف الغرفة كان ينظر إليها نظرة حزن وأسى، ولكنّه كان يحاول أن يكتم أنفاسه اللاهثة، ويحاذر أن يقوم بأيّ حركة، حتى لا تراه على هذه الحال الشنيعة. كان يعرف أنها تتقزّز من العناكب، وترجو من أبيه أن يعسِفها من سقف البيت بالمكنسة، وكانت تلعن البيوت القديمة التي لا تجلب لأهلها إلا الفأل السيّئ والعناكب والجرذان.. ولكنّها منذ هوى أبوه من أعلى السلّم يوماً لم ترفع رأسها إلى السقف، ولو نخر مساميكه الدود. كان يظنّ أن أباه جبل فولاذيّ ، لا يهوي، ولا يلين، مهما زلزلته الأيّام، ومهما عصفت برأسه الرياح.    

            حزن على حالها أشدّ الحزن، وراح يراقبها، وهي تبحث عنه، وتلملم ما تناثر من صورته، وما تبعثر من وسادته الدامية.. فكّر أن يطمئنها على وجوده في الغرفة، ولكنّه اكتشف أوّلَ وهلة أنّه فقد صوته، وكأنّ أباه ليلة البارحة قد ألقمه حجراُ، فأخرسه، وشلّ أطرافه، فلم يقوَ على الحركة، لكنّه في منتصف الليل تحامل على نفسه، وزحف كالعنكبوت إلى أعلى الجدار، وهو يجرّ قدميه المشلولتين جرّاً، ويلهث لهاثاً مسموعاً.. تمنّى أن يكون ما رآه وأحسّ به ليس سوى حلم من أحلامه المروّعة، فأبوه ما زال مُقعداً في فراشه، لا يقوى على الحركة ولا على الشِّجار، وصورته ما زالت معلّقةً على الجدار، تحتفظ بوجهها الزجاجيّ. تلمّس جسده، فأحسّ أنّه نحيل وأزغب، وتململ في مكانه، فشعر أنّ أطرافه قد استطالت كأرجل العناكب.

            قال في سرّه مستغرباً:

- " كان أبي يرجو اللّه أن يمسخني قرداً لا عنكبوتاً ! ".

            لم تكن كلمة ( أبي ) تجري على لسانه منذ حرّك قدميه أوّل مرّة، فاكتشف أنهما مشلولتان، لا تقويان على حمله، ولم يكن أمامه إلاّ أن يتّكئ على أمّه أو على أحد أخوته، ولكنّهم سرعان ما أخذوا يتذمّرون منه، ويعيّرونه بعاهته حتّى قرّر أن ينزوي في غرفته، فلا يخرج منها إلاّ إلى القبر. كان أبوه يريده منذ صغره أن يقف على قدميه كالرمح، ولكنّه حين رآه كحشرة زاحفة اتّقد الغضب بين أضلاعه وحشاً ضارياً عليه وعلى أمّه، وكلّما رمقه ببصره انتابه شعور بالذنب والخوف، وإذا سمع صوته الأجشّ ارتجف هلعاً كطائر ذبيح.           

            تناساه أبوه وأخوته الأربعة..

            تناساه النهار وقطّه الهزيل الجائع.. 

            تناساه عكّازه الخشبيّ..

            تناساه معطفه الدافئ..

            تناساه وجهه، وتنكّر له حتّى إذا ما نظر يوماً إلى المرآة حار بصره، وارتاب في ملامحه، وراح يسأل نفسه في بؤس ويأس: " من أنا ؟ "، وحين لم يجد جواباً جمع قبضته، وأهوى بها على المرآة حتّى تحطّمت، وتناثرت شظايا ووجوهاً شوهاء كوجه أبيه وأخوته الأربعة.. ومنذ ذلك اليوم نسي وجهه، ونسي اسمه واسم أبيه وأخوته.. ولكنّه لم ينس وجه أمّه، وهي تقبّل جبينه كلّ صباح، وتمسح رأسه اللاهب بيديها المعروقتين.

            بعد أن خرجت أمّه من الغرفة بهدوء، وهي تنشج نشيجاً متقطّعاً، حاول أن ينزل من أعلى السقف: نظر إلى الأرض، فرآها هُوّةً بلا قرار، تعلوها خيوط لامعة متشابكة.. وما إن حرّك أحد أطرافه حتّى أفزعته أرجله المتعدّدة، وأيقن أنّ حقيقته البائسة ليست حلماً ولا كابوساً.. حرّك أرجله، وراح يجرّ جسده الهزيل نحو النافذة المغلقة منذ زمن طويل، فقد كان يشعر بالاختناق، وكان يخيّل إليه من خوفه الشديد أنّ السماء استجابت حقّاً لدعاء أبيه عليه. 

            تناهى إلى سمعه وقع أقدام كثيرة تقترب من غرفته، فارتجف خوفاً، وكتم أنفاسه اللاهثة، حتى كاد يختنق.. وما إن ركل أحدهم الباب بقدمه حتّى انفتح على مصراعيه، فاندفع أخوته، وأخذوا يتوزّعون أثاثها بينهم، وهو ينظر إليهم في حسرة وأسى حتّى لم يبق من أثاث الغرفة إلاّ صورته المعلّقة على الجدار وعكّازه الخشبيّ المركون في إحدى الزوايا منذ زمن بعيد. ولمّا انتهوا راحوا يسدّدون سهامهم الدامية إلى وجهه في الصورة، فانبجس الدم من أنفه وعينيه، وسال على الجدار حتّى غطّى الأرض.         

            راعه ما فعله أخوته الأعداء به، فتجمّد في مكانه في ذلّ وانكسار، وخيّل إليه أنّهم لو اكتشفوا حقيقته المرّة لأتوا عليه بمِعسفة أبيهم، وداسوه بأقدامهم، فأطبق عينيه المذعورتين، وانزوى خلف خيوطه اللامعة المتشابكة، وهو يرتجف خوفاً وهلعاً.. ومن بعيد سمع أحدهم يقول لآخر في صلف وحقد:

- " لم يبق منه إلا عكّازه ".

            وقال الآخر، وهو يتنهّد بارتياح غامر:

- " سنتّكئ عليه في شيخوختنا ".

            وقال الثالث مستهزئاً:

- " لا نريد شيئاً يذكّرنا به ".

            وقال الرابع ساخراً:

- " احفظوا ذكرى أخيكم الصغير يوسف.. ".     

ولمّا رجعت الأمّ إلى غرفته من جديد، تناهى إلى سمعها لغط، ينبعث منها، فتوقّفت عند الباب هنيهةً، تسترق السمع، ولكنّها لم تفهم ما يدور فيها، فارتدّت إلى الوراء، وتريّثت في الدخول. وحين تعالت الأصوات فتحت الباب، ودلفت إلى الداخل، فراعها أنّ أولادها الأربعة قد مُسخوا قروداً، أخذت تحطّم كلّ ما وقعت عليه. وما إن لمحها أحدهم حتّى هاجمها بلا اكتراث، فانطلقت من أعماقها صرخة حادّة، وسقطت على الأرض جثّةً هامدةً. 

في تلك اللحظة فتح عينيه، فرأى من بعيد شمساً توشك أن تأفل، وهي تغمر وجهه الشاحب بصفرة الموت. لفّ على عنقه خيطاً لامعاً، وراح يتدلّى حثيثاً كالعنكبوت من أعلى السقف.

28/9/2001 

 

 

أحوال من السُّكْر المفرط 

 

( 1 ) حال حمدو الموصلي:

لم يجد حمدو الموصلي في منزله الخاوي ما يبيعه إلاّ أولاده الثلاثة، اصطحبهم يوماً كالخراف إلى سوق النخاسة، وهم يتوسّلون إليه، وراح يعرضهم في سُدّة السوق واحداً واحداً دون أن يرفّ له جفن، أو يرتجف له عرق.. وما هي إلاّ دقائق حتّى باع أكبرهم بثلاثة دنانير، وباع أوسطهم بدينارين، وباع أصغرهم بدينار واحد، ثمّ دسّ دنانيره الستّة في جيبه، واتّجه إلى أقرب حانة، شرب حتّى الثمالة، ثمّ غادر الحانة، وهو يترنّح يمنةً ويسرةً.

كانت الشوارع مظلمةً ومقفرةً إلاّ من رجال متجهّمين ومن كلاب وقطط ضالّة، فأخذ حمدو يتلمّس طريقه بقدمين مرتجفتين حتّى وصل منزله القريب، وألصق وجهه ببابه الخشبيّ، فتناهى إلى مسمعه نشيج ينبعث من داخله، وخيّل إليه أنّ زوجته قد رجعت من الموت، فلم تجد أثراً لأولادها الثلاثة، نظر من ثقب الباب مليّاً، فتراءت له، وهي تعول.

طرق الباب، فلم يجبه أحد، طرقه عدّة مرات، فماءت قطّة من خلف الباب مواءً حزيناً، وتردّد بكاء مرير في أرجاء الحارة حتّى أيقظ رجالها من غفوتهم، وقبل أن يلمحه أحد فتح الباب، ودلف إلى البيت مرتاعاً، فاصطدم وجهه بوجه زوجته المتغضّن:

- " أين الأولاد ؟ ".

أجابها بصوت مرتجف:

- " اشتاقوا إليك، فذهبوا إلى المقبرة ".

قالت له، وهي تمسك بخناقه:

- " أنت منافق، تحايلت عليّ وعليهم، حتّى تخلو بابنة عمّك حميدة ".

قال لها بصوت أجشّ:

- " حميدة ماتت منذ شهر حزناً عليك ".

قالت له، ويداها تضغطان عنقه:

- " حميدة مثلك ومثل القطّ بسبع أرواح ".

خارت قواه، فهوى، لكنّ يداً حانيةً تلقّفته قبل أن يرتطم رأسه بالأرض، وجرّته إلى الفراش، وراحت تمسح جبينه المعفّر، وتهدّئ من روعه، حتّى لا يستيقظ أولادها الثلاثة من النوم، ويروا أباهم على هذه الصورة المريعة من السُّكْر المفرط.

دسّ رأسه في صدرها الدافئ، وراح يغطّ في نوم عميق.

24/ 11/ 2004

 

( 2 ) حال أشرف الحدّاد:

سئم أشرف الحدّاد يوماً مهنته، فرمى المطرقة والسندان جانباً، وقرّر أن يصبح مُخبراً. نظر من بعيد إلى الحارة نظرةً حانقةً، ودلف خلسةً – وهو يدرأ بطنه بيده – إلى أوّل بيت من بيوتها، يسترق السمع، وما إن ألصق أذنه بجداره حتّى سمع رجلاً يقول لامرأته:

- " احكي لي حكايةً ".

فقالت المرأة:

- " يحكى أنّ في قديم الزمان وسالف العصر والأوان حدّاداً، يسمّى أشرف، وكان ذلك الحداد من أشرف المخبرين.. ".

            قاطع الرجل المرأة قائلاً:

- " اسكتي، هذه حكاية لا يصدّقها عقل. احكي لي حكايةً أخرى ".

            قالت المرأة:

- " كان يا ما كان في مملكة من ممالك الزمان مخبر، روّع أهل الحارة، وزجّ بهم في السجون حتّى لم يبق فيها إلاّ العجائز والبهائم.. ".

            قال الرجل، وهو يطبق على فمها بيده المرتجفة:

- " ويحك، يا امرأة، للجدران آذان ".

امتقع وجه أشرف الحدّاد حين عرف أنّ أهل الحارة باتوا يعرفون السرّ الذي جعله يغلق دكّان الحدادة، فقفل – ويده تدرأ بطنه – عائداً إلى دكّانه بخطى متعثرة، وهو عازم على ألاّ يفلت من تقاريره أحد من أهل الحارة.

20/ 1/ 2001

 

 

 ( 3 ) حال سلمى السنكريّ:

لم تكن سعاد تحبّ زوجها، ولكنّها كانت تزيّنه لجارتها المطلّقة سلمى السنكريّ رجلاً فحلاً. وسلمى تتلمّظ لعابها، وتتلمّس بأصابعها النحيلة صدرها المتهدّل، وتتحسّر على أيّامها التي جعلتها خرقةً باليةً بين يدي زوجة أبيها، تمسح بها – متى شاءت - حذاءها ووجهها وعتبة بيتها ومخاط ابنها الصغير.. وما إن أحسّت سعاد أنّ لبوةً راحت تزأر في أعماق سلمى حتّى همست في أذنها، وهي ترفع كفّيها في وجهها المكفهرّ:

- " لولا الحرام لزوّجته عشر نساء ".

فقالت لها سلمى، وهي تشرَق بريقها:

- " ليتني كنت ضرّةً من ضرائرك العشر ".

ابتسمت سعاد ابتسامةً خبيثةً، وقالت لها بصوت ماكر:

- " أنا امرأة غيور، لا أرضى أن تشاركني امرأة في زوجي ".

أغمضت سلمى عينيها، فتراءى لها من بعيد زوج سعاد، وهو يركب حصاناً أبيض، لا يأبه لنساء الحارة اللواتي لحقن به، وتساقطن تحت قدميه لاهثاتٍ، ومن خلفهنّ كان ثمّة رجال كثيرون ذوو شوارب معقوفة، أشهروا سيوفهم اللامعة، ولحقوا بزوجاتهم مهدّدين ومتوعّدين، ولكنّ أيّاً منهنّ لم تكترث لتهديد هؤلاء الرجال الأشدّاء ولا لوعيدهم.

زأرت اللبوة من جديد في أعماق سلمى زئيراً مدوّياً، هزّ أركان الحارة، وشبّت النار في صدرها المتهدّل حتّى أتت على ملاءتها السوداء، وراحت تركض وراء الحصان الأبيض، تركض، والنساء يتساقطن من حوله امرأةً وراء امرأة حتّى لم تبق إلاّ هي، فقد سقطت زوجة المختار خدّوج، وسقطت القوّادة أمّ فريد، وسقطت زوجة أبيها أمّ حمدو وابنتها فطّوم.. وسلمى تركض وراء الحصان لاهثةً، تركض، وتحاول أن تمسك بزمامه، ولكنّه يطرحها أرضاً، ويعدو بعيداً، وهو يصهل صهيلاً عالياً.

وقفت سعاد وحدها في ناصية الحارة، وراحت تقهقه بصوت حانق.

27/ 10/ 2004

 

 

يحكى أنّ..

 

أمر ملك رعيته أن تمشي على أربع، وأرسل عيونه إلى بوادي مملكته وحواضرها، فإذا ما رأت أحداً يسير على اثنتين غرّمته في المرّة الأولى خمسين دولاراً(1)، وساطته في المرّة الثانية خمسين سوطاً، وقبضت عليه في المرّة الثالثة كأيّ مجرم، وألقته في غياهب السجن، لا يدري أحد من أمره شيئاً، وكلّما اتّهم الأعداء الملك بأنّ سجون مملكته مكتظّة بالمعتقلين فتحها على مصراعيها أمام لجان حقوق الإنسان، فإذا هي فنادق من فئة النجوم الخمس، لا سجين فيها ولا سجّان..   

انحنى لأوامر الملك وليُّ عهده الأمين،

وانحنى معه الوزراءُ(1) والأمراء والأجراء.. 

انحنى الرجال، وتهدّلت شواربهم المعقوفة.

انحنت النساء، ورفعن مؤخّراتهنّ في وجوه الرجال.

انحنت طبقة ( البروليتاريا )(2) واتحادات العمّال والنساء والمعلّمين.. 

انحنت الرعية كلّها إلاّ الأشجار والمآذن وأعمدة الكهرباء..

تجرّأ جلالة الملك على رعيّته الصغيرة، فجعلها خرافاً سائمةً، لا أحد منها يجرؤ أن يرفع رأسه إلى أعلى، وجعل مملكته حظيرةً، لا فرق بين رجالها حتّى انحنت ظهورهم، فلم يبق في أرجاء المملكة من يمشي على اثتنين إلاّ الملك الذي وقف على شرفة قصره منتشياً برؤية رعيّته، وهي تمتثل أوامره، وعلى يمينه جلس وزيره الأوّل، وقد أخذته قشعريرة، وهو يحاول أن يصطنع ابتسامةً حمقاء في وجه الملك الذي التفت إليه، وقال له متسائلاً:  

- " من يضمن ولاء هؤلاء الناس، أيّها الوزير ؟ ".

فأجابه الوزير متلعثماً، وهو يطرق بصره:

- " أنا لا أضمن – يا صاحب الجلالة – زوجتي وأولادي ! ". 

قطّب الملك ما بين حاجبيه غضباً، وقال لوزيره بحنق:

- " أنت رجل خائن، زوجتك وأولادك خونة، لا يستحقّون إلاّ الموت ".

نادى الملك عشماوي المملكة، فجاء لاهثاً، يركض على اثنتين، ويداه ملطّختان بالدم، ولكنّه سرعان ما تذكّر أوامر الملك، فانكبّ على وجهه، ومشى على أربع حتى لطّخ أرض الشرفة بالدم، وحين وقف بين يدي الملك أشار إليه بيده إشارةً خاطفةً، سرعان ما فهم الوزير معناها، فتلمّس خصيتيه، وقال للملك مستعطفاً: 

- " أمهلني – يا صاحب الجلالة – ثلاثة أيّام حتى ينعقد مجلس الشورى، وننظر في شأن هؤلاء الناس". 

فقال له الملك بنزق:

- " أمامك أربع وعشرون ساعة، وإلاّ كان مصيرك مثل مصير غلمان القصر، وعندئذ لن تنفع زوجتك في شيء ".

لم يكد النهار ينقضي حتى أتى الوزير الملكَ، والملكُ متجهّم الوجه، وما إن لمحه قادماً على أربع حتى أشار إليه أن يقف، فحاول الوزير أن يقف على قدميه، ولكنّ قدميه لم تحملاه، فسقط على الأرض.

سأل الملك وزيره بحنق:

" ماذا قرّرتم، أيّها الوزير ؟ ".

فردّ الوزير متلعثماً، ورأسه يكاد يسقط بين قدميه:  

- " إنّ اعتياد مليون(1) نسمة الانحناء – يا صاحب الجلالة – يحتاج إلى وقت طويل، يحتاج إلى مدارس وجامعات وصحف وإذاعات وكتّاب ومحطّات فضائيّة، يحتاج إلى هدنة طويلة مع الأعداء، لأنّ حالة اللاحرب واللاسلم تستنزف موارد المملكة جميعها.. ".

            فقاطعه الملك قائلاً، وهو يرسم خطّاً طويلاً أمام عينيه الزائغتين:

- " سأختصر هذا الطريق الطويل عليكم(1)، وأوفّر ثروات المملكة للأجيال القادمة ".

            فقال له الوزير، وهو يتلمّس رأسه بيديه المرتجفتين:

- " ما بيننا وبين الأعداء دم لا ماء، يا صاحب الجلالة ".

            بوغت الملك بجرأة وزيره، فنادى عشماوي من جديد بنزق، وأشار إليه بيده إشارةً خاطفةً. كان عشماوي يفهم معناها، فاقتاده وراءه مثل ذبيحة، ومنذ ذلك اليوم غاب الوزير عن عيون زوجته وأولاده، وكلّما سأل الصغار أمّهم عن أبيهم أشارت إلى صورةٍ كبيرةٍ لجلالة الملك معلّقةٍ على أعلى الجدار(1).

  28/ 2/ 2004

 

 

ظلام دامس كوجه جلاّد

 

قبل أن يُلحد إبراهيم الدرويش رفع رأسه قليلاً، وأنعم النظر في وجوه الرجال الذين حملوه إلى المقبرة، فلمح بينهم سليمان رجل المباحث الذي يتستّر وراء وظيفة ( مختار الحارة )، وهو يهيل عليه التراب بيديه الداميتين، ويبكي بكاءً مرّاً حتّى خيّل إلى هؤلاء الرجال أنّه واحد من أهل القتيل.

            قال إبراهيم في سرّه، وهو ينظر إلى عينيه المذعورتين:

- " دمي لن يذهب هدراً، يا سليمان، وهذا الأنف الأفطس سيلقى من يمرّغه في التراب ".  

            وحين رفع رأسه أكثر، لفتت الناسَ حركته، فولّوا مدبرين، وهم بين مصدّق ومكذّب، والمقبرةُ مقفرة إلاّ من حارسها الشيخ سميح الذي تعالت قهقهاته في أرجائها، وكأنّها نعيب غراب. تململ في كفنه، وأخذ يفكّ وَثاق يديه ورجليه، ليخرج من لحده الضيّق كزنزانة.

            اقترب الشيخ سميح – وهو مازال يقهقه – من القبر المفتوح بخطى متّئدة، وأشرف على جوفه السحيق، ولمّا رأى إبراهيم يخرج من كفنه عارياً، وينفض الغبار عن وجهه، تجمّد الدم في عروقه، ولكنّ إبراهيم هدّأ من روعه، وبادره قائلاً:

- " لا أريد أن أموت قبل أن أثأر لدمي، لا أريد لأولادي أن يلوّثوا أيديهم بدم المختار، ويقضوا عمرهم مثلي وراء القضبان ".

            مدّ الشيخ سميح إليه يديه المرتجفتين، وساعده على الخروج من القبر، ثمّ ستر عورته بكفنه، وهو ما زال يرتعد، ولكنّه تحامل على نفسه، واندفع إلى إبراهيم يعانقه عناقاً حارّاً. كانت جراحه الغائرة ما تزال تنزف حتّى اصطبغ كفنه بالدم، وكانت الشمس تأفل، وتلفّ القبور بأكفان دامية، تراءت للشيخ سميح أنّها تنذر بقيامة أصحابها من أجداثهم.

            قال له الشيخ سميح، وهو يتلمّس جراحه النازفة:

- " ابقَ الليلةَ هنا، فربّما ألقوا القبض عليك من جديد، وزجّوك في السجن ".

            قال إبراهيم:

- " لن يهدأ لي بال حتّى أثأر منه ".

            قال الشيخ سميح، وهو يشير بيده إلى المقبرة التي تعجّ بالقبور:

- " انظر، هؤلاء هم ضحاياه، وأنت لست الأوّل ولا الأخير ".

            أطرق إبراهيم رأسه، وراح يجهش حزناً على أولئك الرجال الذين قضوا مثله تحت التعذيب، لا تهمةَ عليهم إلا الانتساب إلى حزب محظور، قيل يوماً في التحقيق معه: إنّه حزب رجعيّ، وإبراهيم يقسم – والسوطُ يلهب ظهره – إنّه لا يعرف من أمر هذا الحزب إلاّ اسمه، ولكنّ سليمان  كان يواجهه كلّ يوم بتقرير سرّيّ، يؤكّد ضلوعه في مؤامرات الحزب ودسائسه، ثمّ يضع في أذنيه ملاقطَ مكهربةً، تجعل جسده ينتفض قليلاً، ثمّ يسقط في دوار عنيف.

            التفت أحد الجلاّدين إلى سليمان، وقال له متعجّباً:

- " ابن الكلب لم يعترف بعد ! ".

            قال سليمان، وهو يكاد يتميّز من الغيظ:

- " لا تتركه الليلةَ حتّى يعترف، ولو كانت ليلتَه الأخيرة ".

            هزّ الجلاّد رأسه، ثمّ استدار إلى إبراهيم، وهو يصدر أنيناً مكتوماً، وراح يضربه بسوطه ضرباً مبرّحاً حتّى تفسّخ لحمه، وجرى دمه على الأرض غزيراً، وحين أحسّ الجلاّد أنّ حركته سرعان ما هدأت، امتقع وجهه، وأخذت أطرافه ترتعد، ولكنّ سليمان نهض من وراء طاولته، وراح يربّت على كتفه، ثمّ جرّه من يده إلى غرفة تحقيق أخرى، وسوطه الأسود ما زال يقطر دماً.                

تداعى إبراهيم على الأرض، وكاد أن يسقط في قبره من جديد، ولكنّ الشيخ سميح تلقّفه من حافّته بيده، ونفض الغبار عن وجهه وكفنه الدامي، ثمّ أسنده إلى ذراعه، وسار به نحو باب المقبرة التي كانت تلفّها أكفان سوداء. تحامل على نفسه، وراح يجرّ جسده المتهالك صوب الحارة، والشيخ سميح يشيّعه بعينين دامعتين.

كان الظلام دامساً كوجه جلاّد، وكان الطريق يبدو له كأفعوان أسود، يعصب رأس الليل، كما كان سليمان يعصب رأسه بعصابة سوداء، وهو تحت التعذيب، فلا يرى من وجوه جلاّديه إلاّ عيونهم الغائرة. الطريق طويل، وإبراهيم منهك، يكاد يسقط من الإعياء والأسى، ولكنّه كان في شوق عارم إلى الحريّة خارج جدران القبر وقضبان الزنزانة، وكان مصمّماً أن يقضي الليلةَ في بيته، فقد اشتاق إلى زوجته وأولاده الذين لم يرهم منذ عشر سنوات، ظنّها دهراً حتّى أخذ يعتقد أنّه لن يخرج من الزنزانة إلاّ إلى القبر.

حثّ خطاه حتّى وصل ناصية الحارة التي تغيّرت معالمها قليلاً، ولكنّه استطاع أن يميّز بيته من بيوتها الأخرى بعد تلك السنين الطويلة، وقبل أن يدلف إلى بوّابته تناهى إلى مسمعه لغط، ينبعث من إحدى نوافذه المضاءة في هذا الوقت المتأخّر من الليل، فاستند إلى الجدار، وأصاخ للأصوات التي أخذت تتعالى. كان كلّ واحد من أولاده الثلاثة يريد أن يستأثر دون الآخر بأكبر نصيب من الإرث: أحدهم أراد أن يبيع البيت بثمن بخس، والآخر أراد أن يستولي على معاشه التقاعديّ، والثالث أراد أن يطالب بحصّة أبيه من إرث جدّه، وكانت الأمّ تصرخ في وجوه أولادها أنها ستتبرّأ منهم، وستغضب عليهم جميعاً، إن هم حرموها من حصّتها الشرعيّة، وستتزوّج رجلاً من رجال الحارة الأشدّاء، يعرف كيف يوقفهم عند حدودهم، ويضمن لها حياةً سعيدةً، تعوّضها عن شبابها الذي ضيّعته مع أبيهم.

            ارتاع إبراهيم، وكأنّ وحوشاً تحاصره، وتمزّق لحمه أشلاء، وكاد أن يسقط على الأرض جثّةً هامدةً، لكنّه تماسك قليلاً، واستند إلى الجدار، يحاول أن يلتقط أنفاسه اللاهثة، ثمّ قفل عائداً إلى المقبرة، يتلمّس طريقه المظلمة كسوط أسود. وحين رآه الشيخ سميح يدخل المقبرة لاهثاً، ويتّجه من فوره إلى قبره، استوقفه، وسأله:  

- " إلى أين ؟ ".

            أجاب، وهو مطرق الرأس: 

- " إلى القبر ".

            قال الشيخ سميح مستغرباً:

- " لا شيء هنا إلاّ الموت ! ". 

قال إبراهيم بصوت متقطّع حزين: 

- " ربّما كان الموت أرحم من الحياة ".

            قال الشيخ متسائلاً:   

- " لمن ستترك دمك المهدور ؟ لمن ستترك زوجتك الثكلى وأولادك اليتامى ؟ ".

            أجاب، والأسى يعتصر قلبه:

- " ليس لي دم عند أحد ". 

طأطأ إبراهيم رأسه حزناً وأسىً، ونزل قبره المفتوح، وراح يهيل التراب بيديه المرتجفتين على جسده الدامي. وفي الصباح جاء الشيخ سميح القبرَ لاهثاً، فألفى زوجة إبراهيم على قبره تجهش، وهي تشقّ ثيابها السوداء، ووجد أولاده الثلاثة ينتحبون.

4/1/2001

 

 

رجل بلا رأس

 

بلا رأس ألقوا جثّته على قارعة الطريق ! 

            ما إن غادرت سيّارة الجيب الخضراء حارة الميدان حتى تجرّأ أهلها على الاقتراب من الجثة، وكتموا صرخاتهم في نفوسهم، وهم يتلمّسون رؤوسهم المترنّحة، يخشون أن تتدحرج على الأرض. كان للجدران آنذاك عيون وآذان، وكان ثمّة سجون وجلاّدون وأحكام جائرة.. وكان أهل الحارة قد اعتادوا أن تمرّ تلك السيارة الخضراء بأزقّتهم الضيّقة، وتطلق بين الفينة والأخرى صفيرها المروّع، وهي تغصّ برجال متجهّمي الوجوه، لا ملامح لهم ولا أسارير..      

            سأل أحدهم بارتياب:

- " كيف سنعرف صاحب الجثة ؟ أهو فيصل الصابوني المعتقل منذ تسع سنوات أم منصور بن أشرف النحّاس الذي قبض عليه منذ أيّام ؟ ".

            فأجاب آخر، وهو يمسك رأسه بيديه المرتجفتين:

- " الصابوني محكوم بالسجن لا بالإعدام، وابن النحّاس لصّ، لا علاقة له بحزب ولا سياسة ".

            وبينما راح بعض الرجال يقلبون الجثّة على ظهرها كانت زوجة فيصل الصابوني تعول عالياً، وتندفع باتجاهها، فيمسك أحدهم بمُلاءتها، ويدفعها بعنف إلى الوراء، فتقع أرضاً.. وكانت أمّ منصور النحّاس ثكلى، تلطم خدّيها، وكأنّ الجثّة هي جثّة ابنها الوحيد منصور الذي لم يترك بيتاً من بيوت حارة الميدان إلاّ دخله حتّى روّع أهلها، وأقضّ مضجعهم. ومنذ أيّام قلائل نزل دار رئيس مخفر الميدان الملازم صالح الدقّة ليلاً، ولكنه لم يسرق منه شيئاً، فأقسم رئيس المخفر ألاّ يغمض له جفن إلاّ بعد أن يلقي القبض عليه حتّى تبلى عظامه في السجن، ويريح الحارة وأهلها من شروره، فباغته، وهو سكران، وألقى رجاله الأشدّاء القبض عليه.  

            حين قلب الرجال الجّثة على ظهرها وقفوا واجمين حائرين، ولمحوا رقماً، لم يستطيعوا أن يحدّدوه، لأنّ الدم غطّى الجثة، فلم يبد منها إلاّ جورب أسود وقميص مخطّط كقمصان السجناء، ولكنّهم سرعان ما أدركوا أنّ هذا الرقم – مهما كانت قيمته – لن يكشف لهم الوجه الحقيقيّ لصاحب الجثّة الذي لن يكون سوى رجل غريب من حيّ آخر، أخطأت سيّارة الجيب الخضراء برميه في حارتهم المنكوبة، وحارة الميدان وسط المدينة، لا تخفى عن عيون أحد بيوتُها وأزقّتها الضيّقة وأولادها ذوو الوجوه الصفراء.

            صرخت زوجة فيصل الصابوني في وجوه أهل الحارة المتجمهرين حول الجثّة، وهي تندفع نحوها من جديد:

- " المرأة أعرَف النـاس بزوجها، ابتعدوا، ابتعدوا قليلاً ".

            سألها أحدهم بيأس واستغراب، وهو يفسح لها الطريق بيديه:

- " كيف ستعرفين رجلاً بلا رأس ؟! ".

            فقالت بصوت متهدّج:

- " الزوجة أدرى بزوجها ".  

            انكفأ الرجال، ومالوا بوجوههم المتغضّنة عنها، وهي تنحني على الجثة، تقلّب أطرافها برفق، وتقبّل كفّيها، وتمسح عنقها المقطوع وصدرها الدامي بيديها المعروقتين، ثمّ تكشف طرف القميص الممزّق، وكأنّها تبحث عن أثر ما في الكتف، وحين لا تقع على شيء تنهض من مكانها، وترتدّ إلى الوراء ذاهلةً مهيضة الظهر، تنتظر على قارعة الطريق أن يعود زوجها، ولكنّه لم يعد، ولو جثةً هامدةً بلا رأس.  

            حين همّ هؤلاء الرجال بحمل الجثّة التي أخذت تنبعث منها رائحة الموت، اندفعت نحوها أمّ منصور، ترجوهم أن تلقي نظرةً خاطفةً عليها، فدفعها بعضهم إلى الوراء، وأشار عليها أحدهم أن تذهب إلى مخفر الحارة، لترى ابنها هناك قبل أن يرحّل إلى السجن المركزيّ، فاطمأنّت أمّ منصور قليلاً، وتلفّعت بمُلاءتها السوداء جيدّاً، وهي تشيّع بعينين دامعتين الرجال الذين حملوا الجثّة على عارضة خشبيّة باتجاه المقبرة المحيطة ببيوتهم.

عند دخولهم المقبرة رأوا حمامةً بيضاء، راحت تحوم فوق الجثّة المجهولة، وهي تهدل هديلاً حزيناً، انفطرت له قلوبهم الواجفة، فلم يخلعوا عن صاحبها ملابسه الدامية، ولم يصلّوا عليه صلاة الجنازة، ولم يكتبوا على قبره اسماً ولا تاريخاً.. وحين خرجوا من المقبرة رأوا الحمامة ترفرف بجناحيها بعيداً، وتحلّق في سربٍ من الحمائم طويلٍ.

في الصباح..

في صباح اليوم التالي استيقظت حارة الميدان على عويل زوجة مصطفى الصابونيّ وصراخ أولادها، فخرج أهلها من بيوتهم متوجّسين، ولمحوا من بعيد سيّارة جيب خضراء، تنطلق مسرعةً باتجاه مخفر الميدان.  

3/ 2/ 2003 

 

 

تقاسيم على كلمة - الحريّة 

( 1 )

أخذت كلمة ( الحريّة ) تتردّد يوماً على أسماع الملك، فسأل وزيره عن معناها، فقال له، وهو يشرَق بريقه: " هي كلمة يردّدها اللصوص وقطّاع الطرق، إذا ما وقعوا في قبضة العدالة، يا مولاي ".

            فقاطعه الملك مستغرباً: " أنت مغفّل، أيّها الوزير، فالكلمة اليوم تتردّد على ألسنة رجال الأدب والثقافة أيضاً ! ".

            جمع الملك يومئذ هؤلاء الرجال، وأمر السيّاف مسروراً بقطع ألسنتهم الطويلة.

( 2 )

خرجت كلمة ( الحريّة ) يوماً من كتاب ( طبائع الاستبداد ) في غفلة عن عين صاحبه عبد الرحمن الكواكبيّ، وراحت تجول في شوارع المدينة وأسواقها حتّى وصلت سوق النخاسة، فطار العبيد فرحاً برؤيتها، وامتعض التجّار، واكفهرّت وجوههم.

حظرت يومئذ وزارة الثقافة الكتاب، وعبثاً راح رجالها الأشدّاء يبحثون في أنحاء المدينة عن رجل، مات مسموماً منذ عشرات السنين. 

( 3 )

اختلف ملوك العرب يوماً في مصدر كلمة ( الحريّة ) التي أخذت تجري على ألسنة الناس كالنهر الجارف، فمنهم من زعم أنّ مصدر الكلمة هو الثورة الفرنسيّة، ومنهم من وجد أنّه ماركسيّ – لينينيّ، ومنهم من رأى أنّه العدوّ الصهيونيّ، ولكنّ هؤلاء الملوك اتفقوا أنّ ( الحريّة ) كلمة هجينة، لا أصل لها ولا معنى..

أوصت قمّتهم الطارئة يومئذ أن نغلق نوافذنا في وجه الكلمات المبتذلة كالحريّة، وإلاّ اقتلعتنا الرياح من جذورنا، ورمتنا كالجيف المنتنة على قارعة الطريق. ومنذ ذلك اليوم قعدنا في بيوتنا كالنساء، نمسّد لحانا الكثّة حتّى وصلت وجه الأرض.

( 4 )

            أثارت كلمة ( الحريّة ) عاصفةً هوجاء في أرجاء المملكة، اقتلعت قضبان السجون، ورمت بحرّاسها في ذمّة التاريخ، لكنّه سرعان ما تجشّأ بهم، ورماهم في مزبلته.

حين هدأت العاصفة وجد الملك نفسه وحيداً بلا حرّاس، فراح يبكي حظّه العاثر الذي جعله يوماً ملكاً.   

( 5 )

            لم يجد الملك إلاّ كلمة ( الحرية )، يطمئن بها رعيته التي أخذت تتململ من جلاّديه، فطفق يردّدها على أسماعهم في مناسبات شتّى، ولكنّه شرِق بها يوماً، فكاد يختنق.

عرف الملك يومئذ أنّ ( الحريّة ) كلمة خبيثة غير سائغة، لا يردّدها إلاّ العبيد والأعداء. 

( 6 )

            كلّما تردّدت كلمة ( الحريّة ) على أسماع الملك ارتعدت فرائصه، واصفرّ وجهه، فأشار عليه حكيم المملكة أن يحظر هذه الكلمة وأشباهها من الكلمات الخبيثة على وسائل الإعلام، ويوماً بعد آخر لم يبق في قاموس المملكة من الكلمات إلاّ كلمة ( العبوديّة ). 

ومنذ ذلك العهد تحوّلت المملكة إلى مزرعة، وتحوّل رجال الإعلام إلى ثيران.    

( 7 )

            سأل معلّم تلاميذه: " ما ضدّ العبوديّة ؟ "، فوجم التلاميذ، وحاروا في أمر معلّمهم الذي لم يمض سوى شهر واحد على خروجه من السجن، ولكنّ واحداً منهم هبّ من مقعده الأخير، وكتب على السبورة بخطّ جميل: " الحريّة ".  

             لم يكتب التلاميذ يومئذٍ الجواب على دفاترهم، لأنّهم كانوا يعرفون أنّ الكلمة نفسها قادت آباءهم إلى السجن. وفي اليوم التالي دخل المعلّم الصفّ، فألفى تلاميذه واجمين على غير عادتهم، ولاحظ أوّلَ وهلة أنّ المقعد الأخير كان فارغاً.

( 8 )

            أطلق وليد يوماً صرخته الأولى في وجه أمّه، وقال لها متعجّباً: " ما أجمل الحريّة ! ".

            كمّت الأمّ فم وليدها حتّى كاد يختنق، لكنّ صرخته سرعان ما تردّدت في أرجاء المملكة حتّى وصلت أسماع الملك، فهبّ من رقاده مرتعداً، وطلب من رئيس الشرطة أن يتحقّق من مصدر الصوت، فتتبّع رجاله الأشدّاء صداه حتّى وصلوا بيت الوليد في غمضة عين، وأخذوه عنوةً من أحضان أمّه الثكلى، وزجّوه خلف القضبان، لكنّ كلمة ( الحريّة ) ظلّت تتردّد في الآفاق، وتملأ قلب الملك هلعاً وخوفاً..

15/ 11/ 2004

 

 

يوم تعرّى النهر

 

ابني الحبيب حسن..

جارتنا أمّ جواد رأت صورتك البارحة في قناة ( الجزيرة )، رأت مجنّدةً أمريكانيّةً شقراء تجرّك وراءها بالحبل مثل كلب سَلوقيّ عارياً مثلما ولدتك بين يدي خالتي الزهراء التي راحت تزغرد قبل أن تقطع حبل السُّرّة، فاجتمع أهل الكاظميّة كلّهم على زغردتها المعهودة، ورأوك عارياً. أبوك – رحمه الله ورحم أموات المسلمين – سرعان ما كبّر في أذنيك عالياً، وفَرَج بين ساقيك الطريّتين أمام الرجال، وقال لأبي هاشم الختّان:

- " أنا اليوم أبو حسن لا أبو فطّوم، يا أبا هاشم ".

            فقال له بصوت أجشّ، وهو يهدّئ من روعه:

_ " اصبر سبعة أيّام على الأقلّ حتّى يجمُد لحم الولد قليلاً ".

طارت يومئذ حمامتك الصغيرة، طارت في سربٍ من الحمائم طويلٍ، وحلّقت بعيداً، وكلّما لمحتُ حمامةً بيضاء في السماء قلت لأبيك: " هذه هي حمامة حسن "، ولكنّني منذ دخل الأمريكان بغداد لم أر حماماً، ولم أسمع هديلاً.

حين فتح أبو هاشم الختّان حقيبته الجلديّة السوداء رجاه أبوك – رحمه الله – أن يشحذ الموسى جيّداً، ويرأف بحمامتك، وأهل الكاظميّة يتحلّقون حولك رجالاً ونساءً، وهم يكبّرون عالياً، ولكنّ أبا هاشم لم يلتفت إلى دموع أبيك الساخنة إلاّ عندما فَرَج بين ساقيك المرتجفتين، وقال له متحدّياً:

- " امسكْ ساقي ابنك، إن كنت رجلاً ".

أغمض أبوك عينيه، وراح يبكي بكاءً مريراً. لم أر أباك يبكي مثل هذا البكاء إلاّ يوم دخل الأمريكان بغداد، وأحرقوا بيوتها ومساجدها ووزاراتها ومصارفها ومتاحفها وجامعاتها ومكتباتها ومسارحها وأضرحتها وأشجارها وقصائدها ونهرها وقلوب أهلها.. عاد أبوك في ذلك اليوم مهاناً كخريف ذابل مكسوراً كرمح، يسعل سعالاً حادّاً، ويعلو الدم وجهه وثيابه الممزّقة، فلا يكاد يرى طريقه.

نام أبوك – رحمه الله – ليلته، وفي الصباح لم يستيقظ.

ذهبت إلى بيت جارتنا أمّ جواد، وأنا أتلمّس الطريق بعصاي الخشبيّة، ورحت أنتظر أن تعيد ( الجزيرة ) من جديد صورتك، ولكنّني لم أستطع أن أراها جيّداً، لأنّ المياه الزرقاء قد أتت على عينيّ واحدةً تلو الأخرى، ولأنّ تلفزيون أمّ جواد صغير، لا ترى فيه الأمريكان إلاّ مثل الجراد أو مثل النمل الأبيض. قرّبت أمّ جواد التلفزيون الملوّن من وجهي، والدمع يترقرق في عينيّ، فرحت أتلمّس جسمك العاري بأصابعي المرتجفة، وكأنّك ما زلت صغيراً في القماط، لكنّ تلك المجنّدة الأمريكانيّة الفاجرة ليندي إنجلاند نهرتني، وصرخت في وجهي، وكأنّك كلبها الحقيقيّ.

هذه المرأة الشقراء تحسبنا مثل الزنوج أو مثل الهنود الحمر، ويحسبنا سيّدها في البيت الأبيض عبيداً له ولأبيه من قبله، هذه المرأة لو عرفت رجلاً مثلك لعرفت معنى الرجولة، ولكنّها لم تعرف إلاّ الكلاب ولحم الخنزير والهمبرغر والبترول ومايكل جاكسون وصديقها العريف تشارلز جرانر.. أنت لا تعرف هؤلاء النساء، ولا تعرف من ليندي إنجلاند إلاّ اسمها حتّى تنحني لها، ولا تعرف من أمريكا إلاّ كلاي، تصفّق له، وهو ينقضّ على غريمه بقبضته الفولاذيّة التي لن تكون يوماً أقوى من قبضتك، ولكنّك لا ترضى أن تضرب امرأةً مثل ليندي إنجلاند.

يا لطيف، يا حسن، يا لطيف، اُلطفْ ببناتنا وبنات المسلمين.

عادت ليندي إنجلاند إلى أهلها في ولاية فرجيينيا، وهي حامل، لا تعرف لابنها أباً، ولا تحمل من ذكرياتها الكثيرة في بغداد إلاّ الحبل الذي جرّتك به مثل كلب سلوقيّ. وبعد شهور لن تنجب هذه الأمريكانيّة الفاجرة إلاّ كلباً، ربّما ترأف به أكثر ممّا ترأف بك، ولكنّه سيعوي يوماً في وجهها، ويتركها وحيدةً كأيّ أم أمريكانيّة.

لم يغمض البارحةَ لي جفن، وصورتك تتراءى أمام عينيّ عارياً مهاناً ذليلاً مثل كلب، وأنت منذ كنت صغيراً تكره الكلاب والخنازير، تكره أن تتعرّى، وأنت تسبح في دجلة، وأهل بغداد لا يخجلون من دجلة. كان أولاد الكاظميّة جميعهم يخلعون ثيابهم الرثّة، ويرمونها على ضفّة النهر، ويسبحون عراةً، لا يسترهم إلاّ الماء، وكنت تأتي إلى البيت مبلولاً مثل قطط الشتاء، وأنت ترتجف من البرد والخوف. 

كان في أعلى جدار غرفة النوم حمامة تهدل هديلاً حزيناً، فلم أشأ طوال الليل أن أحرّك ساكناً حتّى لا تهرب من مخبئها، وتكون هدفاً للأمريكان الذين لم يتركوا حمامةً في سماء بغداد إلاّ أطلقوا النار عليها. وأنا – كما تعرف – أحبّ الحمام، أحبّ الحمام الأبيض منذ رحت تطلق صرختك الأولى، وأنت بين يدي أبي هاشم الختّان، يفرج بين ساقيك المرتجفتين، فتطير من بينهما في غمضة عين حمامة بيضاء.  

            في الصباح تلفّعت بمُلاءتي السوداء، ورحت أتلمّس الطريق إلى أبو غريب، وأنا أعرف الطريق إليه منذ كان أبوك أحد نزلائه يوماً، لكنّه خرج بعد خمس سنوات، وهو مكسور الظهر، لأنّ تهمة الانتساب إلى الحزب الشيوعيّ لم تثبت عليه، لكنّهم سرعان ما طردوه من وظيفته في وزارة الثقافة، فراح يبيع الكتب المستعملة في شارع المتنبّي. حين وصلت السجن وجدت كثيراً من النساء الثكالى الملفّعات مثلي بالمُلاءات السوداء، وهنّ يبكين أولادهنّ وأزواجهنّ، ويسألن عنهم كلّ من يخرج من بوّابته الكبيرة. 

سامح الله جارتنا أمّ جواد، لم تقل لي: إنّ هناك عراةً آخرين من رجال بغداد، كانت أمهاتهنّ يحملن صورهم، ويلوّحن بها في وجوه الجنود الأمريكان الذين كانوا يرتعدون منها كالجرذان، فيطلقون الرصاص في الهواء كالمطر. ولمّا لم يسمح لنا هؤلاء الجنود الأوغاد بزيارتكم لجأنا إلى جمعية الهلال الأحمر القريبة، وكتبت كلّ امرأة منّا بدموعها الساخنة رسالتها إلى ابنها أو إلى زوجها، فلعلّ رسائلنا تصل إليكم.

في طريقنا إلى الجمعية كان الجنود الأمريكان ما زالوا يطلقون الرصاص، وكان ثمّة سربٌ من الحمائم طويلٌ، يعبر سماء سجن أبو غريب، وما هي إلاّ لحظات حتّى هوت أمام عينيّ حمامة بيضاء، تتضرّج بدمائها، وتهدل هديلاً حزيناً، ينفطر لها – يا بنيّ – قلب الصخر. 

حملت الحمامة بيديّ المرتجفتين، وقلت للنساء الملفّعات مثلي بالمُلاءات السوداء:

- " هذه هي حمامة حسن ". 

10/ 5/ 2004

 

 

صورة العائلة

 

دفعتنا أمّي إلى النوم باكراً مثل الدجاج، لأنّ أبي سيأتي بالمصور آغوب غداً صباحاً، ويلتقط صورة لعائلتنا. وقبل أن أغمض عينيّ رحت أبحث للصورة عن مكان على جدار حتّى غفوت من غير أن أجد لها مكاناً ملائماً، لأنّ ظهور أمّي في الصورة محجّبةً أم غير محجّبة سيجعل أبي يمنعني من تعليق الصورة على أيّ جدار من جدران بيتنا الصغير. وأبي في الواقع لم يكن رجلاً متعصّباً، ولكنّه كان يخشى أن يدخل بيتنا أحد من أهل أمّي، فيرى صورة ابنتهم اليتيمة معلّقةً على الجدار، فيقيم أعمامها الرجاجبة الدنيا على رأسه، لأنّ وجه المرأة عورة، لا يجوز أن يراه رجل غريب مثل المصوّر آغوب.

في الصباح وقفنا بين يدي آغوب واجمين، فأشار إلى أبي وأمّي أن يقفا في الأمام، وأشار إلينا نحن الأربعة أن نقف خلفهما، ثمّ دسّ رأسه في كيس الكاميرا الأسود، وأخذ ينظر إلينا من ورائها، ولكنّه سرعان ما أخرج رأسه من الكيس بعصبيّة، وطلب من أمّي بلهجته الأرمنيّة أن تكشف وجهها، فأسفرت عن عينيها بيد مرتجفة، وانفرجت أساريرها، وهي تنظر في وجه أبي المتجهّم. دسّ آغوب رأسه في الكيس الأسود من جديد، ويده من وراء الكاميرا تشير إلينا أن ننظر إلى عينها السوداء، وما هي إلاّ لحظات حتّى لمع ضوء مبهر، أعمى عيوننا جميعاً، فأخرج رأسه من الكيس، وهو يكاد يتميّز من الغيظ، وراح يفتح عينيه الزرقاوين بأصابعه النحيلة حتّى جحظتا، فعرفنا أنّه سيلتقط لنا صورةً أخرى، لأنّ ضوء الكاميرا المبهر قد جعلنا نغمض أعيننا، ونبدو أمامها كالعميان.

لم أكن قد رأيت آغوب من قبل، ولكنّ اسمه الأرمنيّ كان يتردّد على مسامعي مراراً، كلّما وقفت أمام صورة عبد الناصر التي علّقها عمّي عبد الباسط على أحد جدران بيته، وكان آغوب قد التقطها له في أثناء زيارته إلى حمص أيّام الوحدة، وجعل يبيعها للناصريّين بليرة واحدة، ولكنّ الشيوعيّين كانوا أكثر إقبالاً على شراء الصورة، فإذا ما اصطدموا مع الناصريّين يوماً مزّقوها في وجوههم. 

منذ ذلك اليوم أحببت آغوب، ولكنّ صورته القديمة تغيّرت الآن في مخيّلتي، وأنا أنعم النظر في صورة العائلة، وألعن تلك اللحظة التي وقفت فيها بين يديه واجماً زائغ العينين، لا أجرؤ أن أبتسم ابتسامةً واحدةً في وجهه المتغضّن أو في عين الكاميرا السوداء، ولا أن أمدّ عنقي قليلاً من وراء كتف أبي العريض، لأنّ أيّ حركة تصدر عنّي أو عن أحد أخوتي سترُجّ الصورة، وتغيّر ملامح وجوهنا جميعاً.   

قلت لأمّي:

- " انظري ماذا فعل بي آغوب ! ".

            فقالت لي:

- " أبوك لا تحلو له إلاّ صور هذا الأرمنيّ الأجرب ".

            لا أدري حقّاً ما الذي جمع بين آغوب وأبي، فآغوب ناصريّ من رأسه إلى أخمص قدميه، أحبّ الوحدة، ورفع في صدر دكّانه صور عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر، وأبي شيوعيّ قُحّ، خذله رفاقه الحمر، وتحوّلوا بعد الانفصال إلى فَقْر – وازيّين أو برجوازيّين، ولكنّني اكتشفت متأخّراً أنّ قدحاً وصحناً من الفستق الحلبيّ قد جمعا بينهما. وحين انهارت الوحدة رفع أبي نخب الانفصال في وجه صاحبه آغوب، فدفعه بيده على الأرض بعصبيّة، وراح يبكي بكاءً مريراً. والواقع أنّ أبي ظلّ مخلصاً للحزب الشيوعيّ حتّى أواخر أيّامه، فقد رأيته مراراً يقرأ جريدة ( صوت الشعب ) بنهم، وهو يخفيها عن أعيننا بين صفحات جريدة ( العروبة ) أو جريدة ( تشرين )، فإذا ما انتهى من قراءتها طواها بعناية، وأشعل فيها النار.    

            قلت لأبي يوماً:

- " انظر ماذا فعل بي صاحبك آغوب ! ".

            فقال لي بوجهه المتجهّم:

- " لا تظنّ أنّ آغوب يجعل منك مارلون براندو ".

            خيّب آغوب ظنّي، كما خيّبت صورته ظنّ أخوتي الثلاثة، فراح كلّ واحد منهم يتحيّن الفرصة، ليقصّ وجهه خلسةً من أطراف الصورة حتّى لم يبق فيها إلاّ وجهي ووجه أبي وأمّي، وكلّما أنعمت اليوم النظر في الصورة الممزّقة خيّل إليّ أنّني كنت ابنهم الوحيد.

22/ 3/ 2005

 

 

كاميرا قناة (الحرّة NEWS)

                            

تعال إلى حيث النكهة،

تعال إلى مالبورو. 

إعلان

* اللقطة الأولى - مصطفى في شارع المتنبي:

حين سلّط مصوّر قناة الحرّة NEWS عين الكاميرا على وجه مصطفى، وهو يتصفّح كتاباً على رصيف من أرصفة شارع المتنبّي، بهر عينيه ضوْءُها الحادّ، فأغلق الكتاب، ووضعه تحت إبطه، وراح يدعكهما بيديه المرتجفتين حتّى ارتاح قليلاً. ولمّا فتح عينيه المتعبتين، رأى الكاميرا تجوب الشارع بحريّة، وتسلّط أضواءها المبهرة على قرّاء كتب الرصيف واحداً واحداً، منهم من كان يغضّ نظره عنها غير مبال بها، ومنهم من أخفى وجهه بيده حتّى لا ترى عينها السوداء شيئاً من ملامحه.

عادت الكاميرا من جديد إلى وجه مصطفى المتغضّن، فرفع كفّه في عينها بعصبيّة، لكنّها سرعان ما حادت عنه بهدوء إلى وجه آخر من وجوه روّاد الشارع.

* اللقطة الثانية - كأس من اللومي الساخن في مقهى الشابندر:

انبعثت رائحة اللومي من مقهى الشابندر العجوز، وهي تختلط برائحة المعسّل والسمك المسجوف حتّى ملأت الشارع المفروش بالكتب المستعملة، فذكّرته بصعاليك الأمس الذين تفرّقت بهم السبل منذ أوائل التسعينات: سيزار دمّو ركب زورقاً من زوارق اللاجئين الهنود المتّجهة إلى سيدني، وحسين كاظم لحق بالمطاردين الشيعة إلى مخيّم رفحا، وغيلان ناصر انتهى أسيراً في أحد سجون الأهواز، وخالد الراويّ عروة الصعاليك سرق أموال الحزب الشيوعيّ في بغداد، وراح يصدر في بيروت مجلّة ( الموقف الاشتراكيّ ).      

دلف مصطفى إلى أقرب طاولة، وراح يجول ببصره بين روّاد المقهى، فلم يعرف أحداً منهم، ولكنّ نادلاً من نُدُله القدامى عرفه أوّلَ وهلة، فأعدّ له كأساً من اللومي الساخن، وحمله إليه حثيثاً، وهو يدندن بأغنية محسنة علي ( يا عاقد الحاجبين ) التي كان مصطفى يردّدها على مسمعه، وكلّما جاء إلى المقهى طلب مراراً من معلّمه أبي بدر اللامي نكايةً فيه أن يسمعها من مسجّله الناشيونال، ولكنّه منذ لجأت محسنة إلى إسرائيل كرهها، وكره أغانيها. 

امتعض مصطفى من صوت النادل الأجشّ وأغنيته الكئيبة، وراح يرشف كأس اللومي الساخن بعصبيّة، وما إن لاحظ أنّ النادل ما زال واقفاً إلى جانب طاولته التفت إليه، وسأله مستغرباً:

- " متى كنتم تصنعون اللومي بلا سكّر ؟ ".

فأجابه ضاحكاً: 

- " منذ لجأت محسنة إلى إسرائيل ".

أنعم مصطفى النظر في وجه النادل هنيهةً، ثمّ نهض من مكانه يعانقه عناقاً حارّاً.

* اللقطة الثالثة - سقوط تمثال الرئيس في ساحة الفردوس:

استلقى مصطفى في سريره منهكاً، وراح يتصفّح ما اشتراه من كتب أصدقائه القدامى التي عثر عليها على أرصفة شارع المتنبّي، ولكنّه سرعان ما غفا على غير عادته في مثل هذه الظهيرة اللاهبة، فلم يستيقظ إلاّ على دويّ انفجار جديد، هزّ أركان البيت، فهبّ من سريره، وأطلّ من نافذة غرفته الضيّقة كالقبر على ساحة الفردوس، فرأى أناساً كالنمل يحيطون بتمثال الرئيس وسط الساحة، وهم يكبّرون، ولمح رافعةً، يعلوها جنديّ من جنود الاحتلال، راح يغطّي وجه التمثال بالعلم الأمريكيّ، وما هي إلاّ لحظات حتّى هوى التمثال البرونزيّ على الأرض، وداسته الأرجل، والجنديّ نفسه يلوّح للناس بيديه الداميتين.

نزل مصطفى إلى الساحة لاهثاً، وهو يحمل رأسه الثقيل بين كفّيه، اتّجه كالمجنون إلى تمثال الرئيس، وهو بين الأرجل، فعرف أنّ ما رآه من نافذة غرفته لم يكن إلاّ حلماً من أحلامه الجميلة التي لم يكن يجرؤ يوماً أن يبوح بها لنفسه ولا حتّى لأمّه. فقد علّمته السنوات العشر التي قضاها في أبو غريب ما لم يتعلّمه في الجامعة المستنصريّة..

لَكم تمنّى أن يسقط التمثال بيده أو بيد أحد رفاقه الصعاليك لا بيد ذلك الجنديّ الأرعن ! 

* اللقطة الرابعة - ثأر لمصطفى في عنق دجلة:

منذ جرفت مياه دجلة أباه بلا قلب، لم يكن مصطفى يجرؤ أن ينزل النهر، لكنّه اليوم خلع ملابسه المبلّلة بالعرق، ورماها على ضفّته المعشبة، ثمّ ألقى بنفسه في لجّة الماء، وراح يغوص تحت سطحه مثل سمك الشبّوط، وكلّما شعر بالاختناق أخرج رأسه قليلاً من الأعماق، وتنفّس الصعداء، وأمواج النهر المتدفّقة تجرّه من مكان إلى آخر حتّى صار خارج بغداد، وصوت أمّه يتردّد في الآفاق، وهي تلطم بيديها المعروقتين صدرها الجافّ:

- " لا تنزل دجلةَ، لنا في عنقه دم، يا بنيّ ".

            أخرج رأسه من الماء الجارف، وراح يتلفّت يمنةً ويسرةً، فلم ير من بغداد إلاّ سماءها الملبّدة بالدخان الأسود، لوى برأسه، والأمواج تلعب به، وأخذ يسبح ضدّ التيار. 

* اللقطة الأخيرة - جثة تطفو على وجه شطّ العرب:

            من بعيد..

            لمح صيّادو شطّ العرب جثّةً جديدةً، تطفو على وجه النهر، فركب أحدهم زورقه المطلي بالقار، وهرع إليها قبيل أن تجرفها مياه النهر في الخليج، وحملها إلى الضفّة القريبة، وقبل أن يخرجها من الماء راح كعادة صيّادي الشطّ يغسلها بحنان بالغ، وكأنّها جثّة أخ أو صديق عزيز.. 

لفّها الصيّادون ببساط من الخوص، وصلّوا عليها عند ضفّة النهر، ثمّ حملوها على الأكتاف إلى مقبرة الغرباء على أبواب البصرة، وطيور الغرنوق تتطاير من حولهم. 

19/ 3/ 2005

 

 

حواشٍ على سيرة بدر

 

 ( 1 )

عبثاً كان بدر يسأل عن أمّه !

قالت له جيكور: " أنا أمّك ".

قال له بويب : " أنا أبوك ".

قالت له نخلة: " أنا أمّكم النخلة ".

قال له غراب: " لا أمّ لك ولا أب.. يا بدر".

قال له صديقه محمّد علي إسماعيل: " ماتت أمّك، وهي في المخاض ".

منذ ذلك اليوم بدأ بدر يتساقط كأوراق الأشجار حتّى اتّكأ على عكّاز، وجعل – وهو في الثامنة والثلاثين - يحثّ الخطى نحو مقبرة الحسن البصريّ في الزبير.      

 ( 2 )

غافلت أمّ غيلان زوجها بدراً، ووضعت في حقيبته زجاجة ماء، ولكنّه لمحها، فقال لها مستغرباً: " أتظنّين أنْ لا ماءَ في بغداد ؟ "، فقالت له: " مَن يشربْ من ماء بويب لا يعطشْ أبداً ".

            ولمّا نفد الماء من الزجاجة تضوّر بدر عطشاً وحنيناً إلى بويب وجيكور وأمّ غيلان.. 

 ( 3 )

            وضع ( الحزب ) يوماً مسطرةً بين يدي بدر، وقال له أمينه العام بوجه متجّهم: " بهذه المسطرة السحريّة وزن ناظم حكمت أعظمَ قصائده "، فقال له بدر متهكّماً: " ما تعوّدت إلاّ أن أسطّر ما أكتب بيدي كتلميذ كسول ".

            يومئذ خرج بدر من الحزب ضاحكاً، وهو يتذكّر ذلك الشاعر الذي لم يجد يوماً مسطرةً، فراح يوزن قصائده بأعواد الكبريت.

( 4 )

            لم يسع بدر بالولاء لملك ولا أمير، ولمّا أخذت البيعة لملك ما بين النهرين قسراً طلبه الملك، وسأله: " أين أنت ؟ "، فأجابه بدر: " خرجت من سجن بغداد توّاً ".

قال له الملك بوجه متجّهم: " أنتم الشعراء لا تروق لكم حياة القصور ! "، ثمّ أشار إلى وزيره أن أعدْ بدراً إلى السجن من جديد.  

( 5 )

            لمّا كتب بدر قصيدته ( هل كان حبّاً ؟ ) هاجمته كلاب القبائل المسعورة، وكادت تنهش لحمه، ولكنّ بدراً لم يرعوِ عن كتابة الشعر. وحين قابله الخليل بن أحمد الفراهيديّ يوماً قال له:

- " أنت شاعر مخرّب، لا تصلح أن تدخل بلاط مليك ولا أمير ".

            فقال له بدر:

- " أنا - يا سيّدي - كالعصفور لا أصلح لحياة الأقفاص ".

            طأطأ الخليل رأسه خجلاً، وغادر ( ديوان العرب ) من الباب الخلفيّ، لأنّ أصوات العصافير في الخارج كانت تملأ السماء صخباً.

( 6 )

             ما إن رأى بدر ديوانه في واجهة إحدى المكتبات حتّى اشترى نسخةً منه، وجعل يقلّب أوراقه، ولمّا قرأ في إحدى الصفحات عبارة ( حقوق النشر محفوظة ) شعر بغصّة وألم، وتذكّر أيّام الفاقة والحرمان والمرض.. ولكنّه تناسى هذه الحقوق حين تناهى إلى مسمعه من بعيد صوت يغنّي ( أنشودة المطر ).

( 7 )

            بينما كان بدر ينكبّ على كتابة قصيدة جديدة وقف شيطان الشعر بين يديه كعفريت، وسأله مستغرباً: " أ لم تعرفني، يا بدر ؟! أنا مَن خيّر امرأ القيس أشعاره "(1).

            أنعم بدر النظر في وجه شيطان الشعر، وقال له: " الشعر أسمى من وساوس الجنّ وهمزات الشياطين "، فامتعض شيطان الشعر من بدر، وراح يبحث عمّن يوسوس إليه من الشعراء.

( 8 )

كتب بدر يوماً إلى محمّد الماغوط  متهكّماً: " بدأ الشعر بملك، وانتهى بملك "، ولكنّ الماغوط سرعان ما أعاد الرسالة نفسها إلى بدر مصحّحاً العبارة باللون الأحمر: " بدأ الشعر بصعلوك، وانتهى بصعلوك ".

ضحك بدر حتّى كاد يقلب على قفاه، لأنّه استطاع أن يستفزّ أعصاب الماغوط الباردة كالثلج.

 ( 9 )

            جسّ طبيب جسد بدر بنظرة، وقال له محذّراً: " بينك وبين الموت شعرة ! ".

ضحك بدر في سرّه، لأنّ الطبيب لم يكن يعرف أنّ أمثاله من الشعراء لا يموتون.

 ( 10 )

            صباحاً دخل علي السبتي على بدر الغرفةَ، وهو ما زال نائماً، هزّه برفق، وقال له: " قم، يا أبا غيلان، فإنّ إقبالاً والأولاد قد وصلوا الكويت البارحة ".

ما إن سمع بدر الخبر حتّى تحوّل عصفوراً، وتحوّلت غرفته في ( المستشفى الأميريّ ) عشّاً للعصافير.

 ( 11 )

            سأل رجل متجهّم الوجه بدراً: " لماذا تقف هنا في الساحة العامّة ؟ "، فأجابه بدر قائلاً: " أنتظر أمّ غيلان ".

            لطم الرجل وجه بدر، وقال له: " هذه الساحة ليست للعشّاق "، ولكنّ الرجل سرعان ما لاحظ أنّ وجه بدر تعلوه ابتسامة، لم تفارقه منذ زمن طويل.         

( 12 )

            حطّ عصفور على كتف بدر، وسأله: " من أنت ؟ أراك منذ سنوات تقف هنا ! "، فأجابه: " أنا بدر شاكر السيّاب ".

            قال العصفور مذهولاً: " أنت إذن صديق العصافير ! ".

            صفّق العصفور بجناحيه، وطار بعيداً، ولكنّه سرعان ما عاد، وهو يغرّد في سرب من العصافير طويل. 

 ( 13 )

خرج بدر عن صمته يوماً، وقال لزوجته أمّ غيلان، وهي تنفض الغبار عن وجهه، وتمسح بدموعها جسدَه الهزيل: " سأعود إلى جيكور، فقد مللت الوقوف هنا في الحرّ والقرّ "، فقالت له: " ليتك تعود إلينا، ولو تمثالاً من حجر ".

            ما زالت أمّ غيلان حتّى هذا اليوم تنتظر زوجها الذي يقف منذ عقود في إحدى ساحات البصرة.

10/2/2008

 

 

شجرة التوت

 

عبثاً كنت أهزّ شجرة التوت !

            كان جِذعها ثخيناً، لا تهزه الريح ولا أصابعي النحيلة، فكنتُ أضرب أغصانها الكثيفة بعصا، لتتساقط حبّاتها الملوّنة كالياقوت. استغفلت يوماً عيني أمّ مؤمن، وحفرت على الجذع بقلاّمة الأظافر حرف ( غ )، وكتبت تحته تاريخ ذلك اليوم، ثمّ طوّقت الشجرة بذراعيّ، وقبّلت موضع الحرف قبلةً خاطفةً.

ضحك صفوح، وهمس في أذني: " ستحلو حبّات التوت أكثر، إن لم تكتشف عمّتي اسم غادة على جذعها ".

            تسابقنا في جمع حبّات التوت المتناثرة على الأرض حتّى أتينا عليها، ولكنّنا لم نأكل حبّةً واحدةً منها، فهو لا يحبّ إلاّ التوت الأبيض، وأنا لا أحبّ إلاّ أن أقاسم غادة التوت والأحلام وساندويش الزعتر.. وفي طريق العودة كنّا ندلف إلى مقبرة ظهر المغارة، وكان صفوح ينثر حبّات التوت على قبر أمّه خانم بَكّو، ويقرأ الفاتحة على روحها، وهو يجهش بالبكاء.

            كفكفت دموعه الساخنة، وأخذت بيده، أجرّه إلى الشارع، والموتُ يتربّص بنا قبوراً سوداء، لا نهايةَ لها، ولمّا وصلنا بوّابة المقبرة ضممته إلى صدري، ورحنا نبكي أمّه وأمّي معاً. فخانم بكّو أرضعتني حين انقطع حليب أمّي يوماً، فسَرَت روح التركمان في عروقي، وصرت أخاً لأولادها الخمسة، وحين ماتت في يوم ماطر بكيتها بكاءً مريراً، وأخذت ألعن الموت، وأتخيّله وحشاً شرساً، يفترس الأمهات، ولكنّه مثلي يتهيّب الآباء متجهّمي الوجوه كوجه أبي ووجه أبي صفوح ووجوه رجال الحارة..

            أوقفني في عرض الطريق، وسألني:

- " نسيتَ أنّها تحبّ التوت الشاميّ ؟ ".

            فقلت له:

- " غداً تكبر حبّات التوت، وتصبح أشجاراً ".

            حين وصلنا رأس الحارة كان المساء قد دهم بيوتها وزوابيقها الضيّقة ووجوه أهلها الصفراء، حتّى كأنّها مقبرة ظهر المغارة، أو كأنّها ملاءة جدّتي أمّ محيي الدين، تتلفّع بها، فلا تبدو منها قلامة ظفر. دلفنا إلى بيتنا، وأقعينا في عتبته، نتقاسم حبّات التوت في ضوء المصباح الذي علّقه أبي على الباب، حتّى ترى أمّي طريقها بعد أن عشا بصرها. وما هي إلاّ لحظات حتّى لمحنا سيّارةً، تمخر عباب الظلمة، وسرعان ما تقف أمام بيت صديقي صفوح، نزل منها أبوه، وهو يرتدي بزّةً سوداء، وتبعته امرأة عرجاء ملفّعة بالسواد، جعلت قلب صفوح يرتعد حنقاً وهلعاً..

            همست في أذنه:

- " أبوك لا يغمض له جفن من غير امرأة ".

            فقال لي، وهو ينتفض كطائر ذبيح:

- " لم تمض سوى أيّام على أربعين أمّي ! ".

            قلت له:

- " إذا كان أبوك قد صبر على ثعبانه أربعين يوماً فالرجال الفحول لا يصبرون على فحيح ثعابينهم ليلةً واحدةً. عندما يرفع ثعبانك رأسه قليلاً من بين ساقيك ستقبض عليه بجِماع يدك، وستلتمس العذر لأبيك ".

            فقال لي:

- " أبي رجل بلا قلب ".

            لم يكن أبوه ولا أبي بلا قلب، ولكنّ قلوب آبائنا قدّت من حديد أو حجر، وهم يواجهون الزلزال تلو الزلزال، فأبي الذي تخرّج في ( الميتم الإسلاميّ ) شيوعيّاً ظلّ طوال عمره ملاحقاً من المخابرات والدائنين وإخوته اليتامى، فما كنّا نراه – ونحن صغار – إلاّ جنحاً من الليل، يتسلّل خلسةً إلى سرير أمّي، فلا يكاد صريره يهدأ حتّى أذان الصبح، وأبوه يتيم الأبوين، ربّته أخته الكبيرة أمّ مؤمن، وكأنّما قد ربّته لبوة، ونشأ أجير سمكريّ، تردّد زمناً على ( دار الفقراء ) في جامع الزاوية، ثمّ انصرف عنها أيّام الوحدة حين راح رجال عبد الناصر يلاحقون الأخوان والبعثيّين والشيوعيّين.. حتّى لم يبق في المدينة إلاّ ( الكرى خانه ) ملجأً للرجال الباحثين عن الحريّة والمتعة الرخيصة.. 

            قبض صفوح على حبّات التوت، واعتصرها بعنف دماً لزجاً، صبغ يديه ووجهه وثيابه، وهو يرقأ دموعه الساخنة، وهبّ واقفاً كرمح، وهو يرفع قبضته الدامية في وجهي مهدّداً:

- " لن أدعها تنام في سرير أمّي ".

- " اطمئنْ، فأبوك لن يدعها تنام الليلة ".

            رمى حبّات التوت المهروسة على الأرض، وقال لي:

- " سأعود إلى المقبرة ".

- " ماذا ستفعل في المقبرة، أيّها المجنون ؟ ".

- " سأنام إلى جوار أمّي ".

- " لا يجرؤ على النوم في المقابر إلاّ الموتى ".

            أخذت بتلابيبه، أجرّه إلى باب دارهم، وهو يراوغ، ولمّا تمزّق قميصه المصبوغ بعصارة التوت أفلت من يدي، وهبّ يركض في عتمة الليل، لا يلوي على أحد، وأنا أركض وراءه، ولكنّه حين وصل المقبرة توقّف على بابها لاهثاً، واشرأبّ إلى قبر أمّه البعيد بعينين دامعتين، لا يجرؤ على الدخول إليه خطوةً واحدةً، فالعتمة تملأ أرجاء المقبرة، وتحيل قبورها فزّاعات، تجفل القلوب. وبينما كان يمسك الباب الحديديّ بيد مرتجفة، ويبكي بكاءً مسموعاً، خرج الشيخ سميح حارس المقبرة من غرفته، وهو يسعل سعالاً حادّاً، جعله ينتفض كملسوع، ويلتصق بي مذعوراً خائفاً. تلفّت الشيخ سميح حواليه بعينين مغمضتين، ثمّ قفل عائداً إلى غرفته.

همست في أذني صفوح، وهو ما زال يتشبّث بقميصي:

- " لا يجرؤ على معاشرة الموتى إلاّ الشيخ سميح ".

            فقال لي:

- " عِشْرة الموتى أهون من عشرة الأحياء ".

            حين أطفأ الشيخ سميح مصباح غرفته اطمأنّ صفوح، فعاد إلى باب المقبرة الحديديّ من جديد، وتشبّث بقضبانه، وأنا أشدّه من قميصه الذي أصبح بين يديّ مِزَقاً، وكشف عن بطنه الضامر وجسده الهزيل. راوغني، وعاركني، ولكنّه في النهاية استسلم لي، ومشى معي مطأطئ الرأس، وأنا أطوّق عنقه بيد، وأمسح دموعه بيد أخرى.

- " ماذا ستقول لأبيك، وهو يراك على هذه الحال ؟ ".

- " أنا يوسف، يا أبي، وهذا دم إخوتي الذين أكلهم الذئب ".

- " لن تمرّ مثل هذه الحكاية على أبيك ".

- " أبي لا يرى سوى نفسه ".

            بادلته على باب المقبرة قميصاً بقميص وابتسامةً بابتسامة، وقفلنا عائدين إلى الحارة، يتأبّط كلّ منّا ذراع الآخر، ولكنّه سرعان ما سحب ذراعه من وراء عنقي، وسألني:

- " أين حبّات التوت ؟ ".

            فأجبته ضاحكاً:

- " أكلتها غادة، وكادت تغصّ بها ".

            فقال لي:

- " لو علمت عمّتي أمّ مؤمن أنّها لغادة لرمتها في وجهي ووجهك ".

            طوّق عنقي من جديد بذراعه الباردة، ومسح جبينه المعروق بذراعه الأخرى، ومضينا نحثّ الخطى إلى الحارة، وصورة أمّ مؤمن لا تكاد تفارق خيالنا: هو يراها أَصَلَةً خبيثةً، وأنا أراها لبوةً شرسةً، ما إن ماتت أمّه حتّى راحت تبحث لأخيها عن جُحر لثعبانه، هو ينكر أن تكون أخت أبيه، وأنا أنكر أن تنبت شجرة التوت في دار امرأة لكعاء شمطاء مثل أمّ مؤمن.

            لم يكن الطريق بين مقبرة ظهر المغارة وحارتنا إلاّ شلفة حجر، ولكنّه طريق معبّد بالجنائز، لا يكاد يوم يمرّ من غير أن تعبره جنازة، ولو لم يسمّوه طريق القلعة لسمّيناه طريق الجنائز أو طريق أمّ مؤمن، لأنّ دارها كانت تقع على سفح القلعة، وكثيراً ما كان ابنها مؤمن يغافلها، ويصعد السفح، ليهزّ أغصان الشجرة العالية، فتتساقط حبّات التوت فوق رؤوسنا كالمطر.

كان الطريق ضيّقاً ومظلماً كالقبر، لا يكاد يضيئه سوى قمر شاحب معلّق في آخر المقبرة، سرعان ما أفل وراء غيمة أو وراء نصائب القبور، فازداد الطريق حُلْكةً، ونحن ندخل زابوقة بيت الشيخ شولك التي تحوّلت مبولةً للمارّة، ثمّ ندلف منها إلى شارعنا الذي لم يكن يضيئه إلاّ نور، ينبعث من نافذة غرفة فرحان نصف المفتوحة المطلّة على الشارع، لكنّ النافذة سرعان ما انفتحت على مصراعيها عن امرأة ملفّعة بالسواد، اعتلت عتبتها، وأهوت على الأرض، ثمّ راحت تحثّ الخطى في الظلام. أطلّ فرحان بوجه مرتعد من النافذة، وتلفّت يمنةً ويسرةً، ثمّ أغلق مصراعيها بهدوء بالغ.

            قلت لصفوح:

- " ألا تلتمس العذر لأبيك الآن ؟ ".

            فقال لي:

- " أبي لا عذر له ".

            قلت له:

- " فرحان يكبرنا بسنتين أو ثلاث، وعندما نصبح في الخامسة عشرة سنعذره ونعذر أباك ".

فقال لي بغضب وحنق عارم:

- " احتفظ إذن بأعذارك لنفسك ".

خلع صفوح قميصي، ورماه في وجهي كالمجنون، ووقف عارياً ينتظر أن أخلع له قميصه الممزّق والمصبوغ بعصارة التوت. ولمّا رأى دمعةً تترقرق في عينيّ عانقني باكياً مهمهماً، ثمّ دلف إلى بيتهم، وصفق بابه الخشبيّ وراءه بعنف، يوقظ الموتى في القبور.    

15/1/2008

 

 

قصص قصيرة جدّاً

 

 

 

الجرذان

 

لأمر ما حلق مختار الحارة شاربيه !

ضجّت الحارة بالضحك الخبيث، وأخذ رجالها يفتلون شواربهم الكثّة، ويعقفونها كجناحي عُقاب، والمختار يقسم أمامهم أنْ لا علاقةَ البتّة لزوجته الجديدة ولا القديمة بالأمر.    

قال أحدهم بصوت حانق: " أين نداري وجوهنا من وجوه نساء الحارة ؟ خير لنا أن ندسّ وجوهنا في التراب، ونحلق شواربنا جميعاً ".

وقال آخر بصوت مرتجف: " اقتربت الساعة، وصار الرجال نساءً والنساء رجالاً ".

قرّر يومئذ هؤلاء الرجال أن يواجهوا المختار، فطلبوا منه أن يترك حارتهم وشأنَها، وما إن انصاع لطلبهم حتّى أغارت طائرات الأعداء على الحارة، فولّوا كالجرذان مدبرين، والمختار يضحك ملء شدقيه حتّى كاد ينقلب على قفاه.

18/ 1/ 2001        

 

 

التيس المستعار

 

طلّق يوماً قاسم العدويّ زوجته ثلاثاً، وراح في اليوم التالي يتحسّر على طلاقها، ويسأل الناس عمّن يحِلّ له زوجته، فقيل له: " لا تحلّ لك حتى تنكِح زوجاً غيرك "، وزوجته تقسم أنها لن تكشف وجهها لرجل غريب.

وحين يئس من عودة زوجته إليه قصد صديقه أشرف الحدّاد، ورجاه أن يتزوّج امرأته ليلةً واحدةً، ثمّ يطلّقها في الصباح، وما إن خطبها الزوج الجديد من أهلها حتّى قبلته بلا تردّد، وراحت تتحسّر على أيّامها الماضيّة. ومنذ تلك الليلة لم تعد زوجة قاسم العدويّ تلتقي صديق زوجها خلسةً.

25/ 1/ 2001

 

القرد

 

جاء الوزير إلى الملك، وهو يلهث خوفاً وهلعاً، وقال له: " أطبق – يا صاحب الجلالة – جنود المملكة على القصر حتّى لم يبق لنا من مهرب ! ". 

قال الملك متسائلاً: " ماذا يريد هؤلاء الجنود ؟ ".

قال الوزير: " يدّعون – يا سيّدي – أنّ أسلحتهم قد صدئت، ولن تصلح بعد اليوم لمواجهة الأعداء ".

قال الملك لوزيره ضاحكاً: "قل لهؤلاء الخائبين: الحرب خدعة لا بندقيّة ولا سيف ".

لم يصدّق جنود المملكة ما قاله الوزير، وظلّوا أيّاماً يربضون أمام أبواب القصر الموصدة حتّى خرج الملك إليهم يوماً، ولمّا رأوه أوّلَ وهلة راعهم أنّ صاحب الجلالة الذي ظلّ يحكمهم سنواتٍ ليس إلاّ قرداً قميئاً في ثياب فضفاضة وتاج مذهّب.

30/ 1/ 2001

 

 

قصيدة حبّ

 

يوماً ما كتب شاعر قصيدة حبّ، سرعان ما أصبحت بين يديه حمامةً بيضاء، رفرفت بجناحيها، وطارت بعيداً في أعالي السماء، وما إن رآها صيّاد أرعن حتّى أطلق النار عليها.

عبثاً كان الصيّاد يبحث عن صيده الثمين بين أسطر القصيدة. 

3/ 2/ 2001 

 

صديقان

 

بعد سنوات طويلة التقاه، وشكا إليه ظلم ذوي القربى، وبكى أمامه بكاءً مرّاً.

ماءَ القطّ مواءً شجيّاً، وراح يلعق دموعه الساخنة. 

4/ 2/ 2001

 

 

أمين المستودع

 

لاحظ موظّفو الشركة أنّ أشرف الحدّاد أمين المستودع الجديد قصير القامة، ولكنّهم لم يلاحظوا أنه أعسر أيسر إلاّ بعد أيّام. فإذا ما أراد رفّاً من أرفف المستودع ارتقى سلّماً خشبيّاً، وإذا ما أمسك قلماً كتب بيمناه ويسراه.

يوماً بعد يوم لفت موظّفي الشركة أنّ درجات السلم أخذت تتناقص واحدةً تلو الأخرى حتّى لم يبق للسلّم من أثر، ورأوا أن يدي أمين المستودع صارتا تصلان أعلى رفّ من رفوفه الخاوية.

20/ 1/ 2003

 

 

رجل وامرأة

 

أنجب ثلاثة أولاد: أكبرهم كان طبيباً للعيون، وأوسطهم كان مهندساً، وأصغرهم كان مدرّساً للموسيقى. وحين أسنّ شعر بالوحشة، فقال لزوجته العجوز: " ليتني كنت رجلاً عقيماً "، وقالت له زوجته، وهي تجهش: " ليتني كنت امرأةً عاقراً ".

اتكأ أحدهما على الآخر، وذهبا إلى ملجأٍ للأيتام قريبٍ، وتبنيا ولداً لقيطاً، لا أمّ له ولا أب.

11/ 2/ 2003

 

 

 

النسر

 

على غير هدى ركض باتجاه الساحة العامّة في المدينة، ليلقي نظرةً على موكب جلالة الملك الذي ينتظره أهلها منذ الصباح الباكر، وهم يرفعون أعلام المملكة عالياً، ويهتفون بحياة جلالته وحياة وليّ عهده الأمين.

من بعيد لاح له موكب الملك، فحاول أن يخترق الصفوف، ولكنّ شرطيّاً نهره، فلم يجرؤ على مغادرة مكانه، والموكب يقترب شيئاً فشيئاً من الساحة.  وحين علت الأصوات وقف على رؤوس أصابعه حتّى رأى الملك، وهو يلوّح لأهل المدينة بيدين واهنتين وعينين زائغتين، فراعه أنّ جلالة الملك بلا شاربين، وراح يتلمّس بأصابعه النحيلة شاربيه المعقوفين كجناحي نسر. 

2/ 1/ 2004

 

 

ليل طويل

 

ليلاً نهض من فراشه، وفتح نافذة غرفته الضيّقة كالقبر، فأشرف على ليل بهيم، وقال في سرّه: " ما أطول هذا الليل ! ".

وفي الصباح الباكر أشرع النافذة إلى ريح باردة كالثلج، وراح يترقّب الشمس التي رآها تأفل البارحة بوجه شاحب، وهو في طريقه إلى المقبرة.

8/ 3/ 2004

 

أضيفت في 02/03/2009 / خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية