أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 02/09/2022

دراسات أدبية للكاتب: د. أحمد جاسم الحسين

القصة القصيرة السورية ونقدها في القرن العشرين

إلى صفحة الكاتب

لقراءة الدراسات

 

 

الدراسات

الايدولوجيا والادب

قراءة في نقد القصة

مقدمات تأسيسية

مقدمة 

 النتوءات الواقعية

إرهاصات القص الفني

القسم الثاني

نقد القصة القصيرة

استواء الفن

التنوع المثمر

الفن بين مد وجزر

نتائج الدراسة

 

القصة القصيرة السورية ونقدها في القرن العشرين

 

الإهـداء:

إليكِ...يا من…سأكتُبك بالياسمين...أعجنُ جبالَ خوفِك...بفرات محبَّتي...وأقول لك:...أولُ الغيث...أهيلُ عليك الحبَّ!...أهيلُ عليك الماء!

أحمد

مقدِّمــــة

 

يطمح الباحث في ميدان ما إلى تحقيق ثلّة من المقاصد التي يضعها نصب عينيه، وهو يقارب موضوعه، وتنهض طائفة من المساءلات لا بدّ من الإجابة عنها إن أراد لمبتغاه أن يحقق أهدافه وفق ما ينبغي أن تكون.

 

وتتقاسم هذه المساءلات أفكارٌ عديدة تتعلق بأسباب اختيار البحث، والجهود السابقة في الميدان المبحوث فيه، والخطة التي قرّ بها لمعالجة مادته، والمنهج الذي مكَّنه من مقاربة موضوعاته، والإجراءات النقدية وسوى ذلك.

 

وليس من قبيل المبالغة قولنا: إنَّ كلمات مختصرات حول كل مسألة من المسائل السابقة ضرورة ملحة ذات ثمرات بيِّنات على كل من الباحث والمتلقي والبحث إذ ستكشف رؤى الباحث، ومقاصده، ووعيه ومدى معرفته مبحثّه.

 

إن اتخاذ القصة القصيرة السورية ميداناً للقراءة والبحث يعود إلى أن هذا الفن أحد الأجناس التي برزت في سورية بخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، وإن كانت البذور الفنية تعود إلى مطلع الثلاثينات؛ وتأكيد كلمة السورية يقصد به عدم تناول مجموعات صدرت لعرب يعيشون في سورية، في الوقت الذي تم فيه تناول مجموعات القاصين السوريين حتى إن طبعوها خارج سورية أو عاشوا بعيداً عن بلادهم.

 

ويعود مثل هذا الحضور لفن القصة القصيرة إلى أسباب وافرة منها ما يتعلق بطبيعة هذا الفن، والوظائف التي اضطلع بها؛ نظراً لخصوصيته السردية ومقدرته على رصد المتغيرات التي تحدث والتقلّبات، وتجسيد الهموم الحياتية للإنسان المعاصر الذي يعاني كثيراً، والقصة القصيرة في أحد تعريفاتها فنّ اللحظة المأزومة.

وقد استجابت طبيعة القصة القصيرة لإحداثات حركة المجتمع العربي السوري، فواكبت مجمل التغييرات الوطنية، والاجتماعية والذاتية وعايشت سيرورة حياته ولا سيّما أن مرحلة نضوجها وازدهارها تواشجت مع أحداث كثيرة ومتنوعة جرت في سورية، كانت خلالها القصة خير سفير للتعبير عما يحدث.

 

وهنا ينبغي تأكيد أن القصة القصيرة يقصد بها القصة الفنية القصيرة بعيداً عن قصص الأطفال وقصص الفتيان والقصص المترجمة والقصص الوعظية، لأن هذه الأنماط لا تدخل في مقصدنا، ولها ميادينها الخاصة التي درست في ضوئها، دون أن يعني ذلك أننا جُرْنا في بحثنا على مفهوم القصة الوعظية أو سواها، بل كنا مرنين بما فيه الكفاية لقناعتنا بأنَّ التاريخ لا بدَّ سينخل الكثير من القصص، وكيلا نسمح للمزاجية أن تفعل فعلها، محاولين أن نرصد معظم التيارات القصصية حتى لو لم نكن راضين عنها فنياً الرضى الذي يجب أن يكون، وهو ما عبَّرنا عنه إبان تحليلنا النصوص ورصدنا إيّاها.

 

ويبدو أن عام 1948 بداية طبيعية لموضوع الدراسة نتيجة أسباب متعددة منها ما يخص فن القصة القصيرة السورية، ومنها ما يتعلق بالظروف المحيطة به، إذ كان الاستعمار قد رحل من البلاد التي راحت تهيئ نفسها لمواجهة هموم الاستقلال، والانتقال إلى إدارة نفسها بنفسها، وتواشج هذا مع حدوث تغيرات اجتماعية بدأت تفصح عن ذاتها بعد رحيل المستعمر الذي ولّد فراغاً لم تكن البلاد قد هُيِّئت لتحمل أوزاره، وترافق هذا مع ظهور علني للأحزاب، والانتباه لدور جديد يريد الجيش أن يأخذه، دون أن ننسى حدوث نكبة فلسطين التي انعكست بصورة جليّة على المجتمع السوري، سواء أكان ذلك بالإسهام والمشاركة في مقاومة ما حدث، أم لجوء آلاف الفلسطينيين إلى سورية.

 

وقد تواشج كل ما سبق مع صدور مجموعات قصصية عديدة عدّ ثلة من النقاد أن إحداها كانت تحمل تجليات قصصية فنية تختلف عما سبقها، ولا مانع من عدّها البداية الفنية للقصة القصيرة السورية، وهي مجموعة بنت الساحرة للقاص عبد السلام العجيلي، بالرغم مما يمكن أن يقال حول اختلافات طبيعية تحدث بين الدارسين والنقاد والمؤرخين في نشأة كل جنس أدبي بحسب المفهوم والموقف والرؤية، وقد أكد القاص أن قصص المجموعة مكتوبة قبل هذا العام بمدة، وبغض النظر عن كل ما سبق، وكيلا يكون مرجع الأمر ظنياً فإننا قدمنا نبذة إلى وضع القصة القصيرة فيما سبق ذلك العام ابتداء من أول مجموعة حملت بذوراً فنية وهي ربيع وخريف لعلي خلقي الصادرة عام 1931، وقد وجدنا أن هذه المرحلة تشكل إرهاصات قصصية حملت شيئاً من بذور القصّ الفني مما يسمح لنا بتشكيل رؤية أقرب إلى الصحة فيما يخص تاريخ القصة القصيرة السورية منذ البذور الأولى والإرهاصات المبكرة.

 

أما وقوفنا عند عام 1990 نهاية لهذا القسم فيعود هو الآخر لطائفة من الأسباب منها ضرورة أن يكون هناك فاصل بين المرحلة المدروسة ووقت الدراسة؛ لأن مثل هذا الفاصل يعطي الدارس فرصة لنظرة موضوعية بعيدة عن إشكاليات المعايشة، وضرورة الابتعاد عن الانغماس بالظاهرة المراد دراستها، ولم يكن تحديد هذا العام من خارج ظروف المرحلة ومعطياتها، بل اخترناه لأنه كان بداية الإعلان عن نهاية الحرب الباردة، وبدء تشكل ما يدعى بالنظام الدولي الجديد ذي القطب الواحد والعولمة واتفاقية الغات، وسوى ذلك من أحداث تمثلت على الصعيد العربي في حرب الخليج الثانية ومؤتمر مدريد ومسيرة السلام والتسويات العديدة، وقد أدَّت كل هذه الأحداث وأحداث أخرى إلى تهشّم كثير من آمال الإنسان العربي على صخرة الواقع مما خلق أمداء موضوعات متنوعة للقص؛ بخاصة أن اختلافات قد طرأت على الأجواء النفسية والاجتماعية والفكرية للإنسان العربي؛ مما أسهم في خلق حساسية قصصية تجلَّت عبر مئات المجموعات التي ظهرت بعد عام 1990 وحملت معها عدداً من الظواهر الفنية والفكرية والدلالية، سيتم تناولها بشكل مفصل في القسم الثاني الذي نتمنى الانتهاء منه في فترة ليست بعيدة.

 

ولا يجد المرء حرجاً إن قال: إن النقد الذي كتب عن هذه المرحلة لم يلبِّ طموح القاصين أو القصص بالرغم من بروز تيارات وأنماط وتجارب، وبالرغم من خصوصية فن القصة القصيرة في مواكبة المجتمع، وهذا لا يعود إلى إهمال مقصود من معشر النقاد، بل يعود أيضاً إلى أن الحركة النقدية في سورية لم تأخذ أمداءها واتساعها بعد. لكن المرء لا يستطيع إلا أن ينظر بعين الاحترام لكلّ الجهود المبذولة للاهتمام بالقصة القصيرة السورية وتاريخها، هذه الجهود التي بدأت منذ نهاية الخمسينات وبلغت ذروتها في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات.

ومما يسجِّل على كثير مما كتب حول هذا الفن أنه اهتم ببعض التجارب وغيَّب تجارب أخرى، وانتبه لتيارات على حساب تيارات أخرى، وكان في كثير من تجلياته مقالات صحفية جمعت لاحقاً في كتب، في حين كان بعضه قد حدَّد نفسه بأطر مسبقة مما أوقعه في كثير من التعميم واللا موضوعية، وهو مثلما يعطي فكرة عن القصة القصيرة السورية فإنه يعطي فكرة أيضاً عن حال النقد في سورية آنئذ.

 

إنَّ معظم الذين اشتغلوا بنقد القصة هجروا هذا الميدان بعد فترة، ولا نعرف الدافع أهو صعوبة تقصّي الظاهرة بما أن كل مجموعة تحتوي عدداً من القصص يمكن أن تنتمي كل قصة إلى أسلوب ورؤية مختلفة مما يجعل التقويم أمراً متعباً إذا ما قيس بالرواية التي تشكل وحدة، أم أن السبب يعود إلى تنوع اهتماماتهم أساساً وهم جاؤوا إلى نقد القصة لأنها كانت تنال اهتماماً وتثير جدلاً لم تعد تثيره في ظل الاهتمام بالرواية، أم يعود لاعتقاد بعضهم أنه استنفد مجال الحديث عن القصة القصيرة..؟

لا نعرف السبب تماماً وإن كانت الأسباب السابقة مقترحات قد لا يوافق عليها كثيرون، لكن لا بدّ من الإشارة إلى حضور الآراء الانطباعية فيما سبق من نقد وإلى افتقادنا لكتاب يتناول الجنس الأدبي تاريخاً ونقداً ومتابعة مع أن ما يتجاوز ثلث المجموعات مما أنتج حتى عام 1990 لم يتناوله النقد بعد، إضافة إلى أن معظم الذين تناولوا القصة السورية تحدثوا عن ظواهر وأعلام في فترات مختلفة دون أن يبدو التكامل واضحاً في سيرورة المنتوج النقدي المكتوب.

 

وأمام كل هذه الأسباب وجدنا أنه من المجدي أنْ يُخَصَّص هذا الكتاب لتناول فن القصة القصيرة السورية منذ بواكيره الفنية، محاولين أن نشمل مختلف التجارب وتبين علاقتها بحاملها الاجتماعي دون أن نشْغف بهذه التجربة أو تلك، وبهذا التيار أو ذاك على حساب إهمال تجارب وتيارات أخرى أو تغييبها.

 

وأمام هذه المطامح وبعد الإمعان في قراءة الجهود السابقة، وإدراك إشكالية طول الفترة الزمنية وعدد المجموعات الصادرة، ومحاولة الشمولية، ومعرفة أنّ الدراسة يمكن أن تكون تأسيسية تحاول تغطية مختلف التيارات والظواهر والأنماط والتجارب فإنها قد وضعتْ غير خطة إلى أن تمّ الاستقرار على الخطة التي سعت لتكون مرنة بحيث تستوعب معطيات الظاهرة المدروسة؛ بخاصة أنه قد سبقتها وواكبتها ثلة من الإجراءات تمثلت بقراءة المجموعات القصصية الصادرة إبان المرحلة ومحاولة تقويمها، وصنع استمارة لكل مجموعة دُوِّن عليها معلومات خاصة بالمجموعات، وموضوعات القصص، وتقنياتها، وجمالياتها مع محاولة تحديد موقعها في سيرورة القاص والمرحلة والقصة، وقد أتاح هذا لنا توفر مادة أولية بين أيدينا يمكن أن تكون مدخلاً لقراءات مستقبلية عديدة في فن القصة القصيرة السورية.

 

وقبل أن نقوم بعملية تصنيف وتبويب للمراحل والمجاميع والموضوعات أعدنا قراءة ثلة من الكتب التي تتعلق بنظرية القصة القصيرة تأريخاً ونظرية وقراءات تطبيقية، وكان الهاجس الذي بقي يؤرقني ويلحّ عليّ دوماً هو ما الذي يجعل قصةً ما متميزة وأخرى غير ذلك؟ محاولاً تعليل ذلك، وتحليله.

 

وقد حاولت أنْ أعرف موقع القصة القصيرة قياساً على أجناس الأدب في سورية من الكتب المتعلقة بهذا الميدان مثلما حاولت أن أقرأ كتباً تخصّ القصة العربية، مطلعاً على مجموعة من التجارب الإبداعية العربية لمعرفة منجزات القصة القصيرة السورية قياساً عليها وبعد ذلك تمّ وضع خطة نهائية للبحث خضعت لبعض التعديلات في ضوء الممارسة والحوار مع المهتمين، ثم تم الانتقال إلى الكتابة وكان أن ظهر العمل كما يلي:

تم تقسيمه إلى قسمين رئيسيين، الأول منهما مقدمات تأسيسية ومنطلقات رئيسية تتواشج مع القسم الثاني الذي يقدم قراءة أفقية-عمودية في سيرورة القصة القصيرة السورية، إذ تمّ الحديث في القسم الأول عن ثلة من القضايا التي تخصّ نظرية القصة ووظيفتها ومكوناتها وأركانها. ثم كان القول حول نقد القصة القصيرة السوية وظروفه المعيشة، إذ تحدثنا عن أنماطه وتاريخه، ثم انتقلنا إلى تناول الكتب التي تحدثت عن القصة القصيرة السورية بصفتها جزءاً من القصة العربية وجزءاً من الأدب في سورية، ثم الكتب التي خصَّت نفسها بالقصة القصيرة السورية، لنصل بعد ذلك إلى الكتب التي تناولت بعض أعلامها ليكون الختام عند نقد النقد الذي كتب حول نقد القصة السورية.

وبعد أن وضعنا عدداً من النتائج في ختام هذا القسم تم الانتقال إلى القسم الثاني وهو قراءة أفقية-عمودية للقصة القصيرة السورية التي تم تقسيمها إلى خمس مراحل، كان الحديث في كل مرحلة عمودياً تناول الظاهرة في تجلياتها المختلفة حيث كانت المراحل وفق ما يلي:

المرحلة الأولى:إرهاصات القص الفني 1931-1947.

المرحلة الثانية: نتوءات الواقعية1948-1958.

المرحلة الثالثة: استواء الفن: 1959-1968.

المرحلة الرابعة: التنوع المثمر:  1969-1979.

المرحلة الخامسة: الفن بين مد وجزر 1980-1990.

وكان هذا التقسيم ضرورة منهجية فرضت نفسها في محاولة لتلمّس خصائص القصة القصيرة السورية ومكوناتها وظروفها، وقد حاولنا اتباع منهجية بحثية متقاربة في كل مرحلة من المراحل وإن خضعت للكثير من المرونة كي نبقى قابضين على جديد كل مرحلة وتطوراته، حيث تحدثنا عن وضع نشر المجموعات والظروف المحيطة بالقصة من سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وأثرها في القصص المكتوبة، إضافة إلى تناول موضوعات كل مرحلة بتجلياتها القومية والوطنية والاجتماعية والذاتية وأثر المرجعية فيها مع سعي للحديث عن الملامح الجمالية والتقنية والظواهر الفنية وجديد كل مرحلة ليكون الختام عن أبرز خصائصها وسماتها، مع الانتباه لتكامل المراحل وتداخلها وتواشجها، وإنّ الفصل بينها ذو هدف درسي تقتضيه طبيعة الدراسات لرصد النصوص وتحليلها، والتنبه إلى أن عدداً هائلاً من القصص التي تكتب في مرحلة وتنشر في صحفها غالباً ما تنشر في مجاميع قصصية صادرة في المرحلة التالية، وقد كان الحرص شديداً على رصد متميز التجارب وتطوره، ولا بدّ من تأكيد محاولة الوقوف عند الجديد في كل مرحلة وتطور القديم فيها.

 

وبعد ما سبق كله كان من الطبيعي أن تأتي الخاتمة لترصد نتائج البحث وكشوفاته وأهم النقاط التي لفتت الانتباه في سيرورة القصة القصيرة السورية، ليأتي بعد ذلك ثبت المراجع الذي حرصنا على تقسيمه إلى قسمين: الأول هو ثبت للقصة القصيرة السورية الصادرة من عام 1931 إلى عام 1990 مستفيدين من الجهود السابقة وما أضفناه إليها من تصحيحات؛ ومجاميع لم يتم رصدها من قبل، والثاني خاص بمراجع الدراسة.

ولتحقيق ما سبق كان لا بدّ من منهجية نقدية تكون مفتاحاً لتناول هذا التاريخ الطويل وتلك المجموعات القصصية، وعمدنا لمحاولة الاستفادة من ثلة من الإجراءات النقدية التي تمكننا من تحقيق المراد.

 

إن سؤال المنهج النقدي من أخطر الأسئلة التي تواجه الباحث وأكثرها ضرورة وأهمية؛ لأنه يتعلق بالأدوات المعرفية والرؤيا والإجراءات لذا كان لا بدّ من اختيار منهجية تمكننا من تناول هذه الفترة الطويلة بإصداراتها، وتنوعاتها، ومضامينها، ومقولاتها، وجمالياتها وتقنياتها.

وبالرغم من أن سؤال المنهج بقي يقض مضجع الباحث فترة طويلة إلا أنه كان لا بدّ من حزم الأمر للغوص في أعماق الظاهرة التي وجدنا أنه لن يحقق لنا ما نريده من مقاصد وطموحات درسية إلا المنهج التكاملي الذي يتيح الاستفادة من معطيات ثلة من المناهج لتحقيق الخطة المتوخّاة، ضمن رؤيا كلية عارفة ما تصبو إليه، مدركين أن الاتكاء على منهجية ما لا يعني إغلاق الكوى أمام المعطيات التي تخدم البحث وإن كانت تهبّ من مناهج أخرى.

 

وأمام تنوع الظاهرة وامتدادها، ومقصد الشمولية كان لا بد من التنوع في المنهج ضمن رؤية متقاربة تحاول تناول النصوص من مختلف الجوانب، معتمدين التركيب المنبثق من إدراك خصوصيات كل قراءة، محاولين نقل معطيات المنهج عبر الإجراءات النقدية من مستوى التنظير إلى مستوى الممارسة، بخاصة أن كل منهج في حقل التطبيق يأخذ الكثير من شخصية الباحث وطبيعة الظاهرة بحيث تمكن معالجة جوانب الظاهرة عبر رؤى يغلب عليها أحياناً الوصفية وفي بعض الأطوار التاريخية، دون أن نفصل الإجراءات التحليلية التي تسعى للقبض على مداليل الظاهرة وبناها الجمالية إذ انتبهنا إلى أنه ليس المطلوب من الباحث أن يلاحق أحدث المناهج فقط، فهذا ليس هو المهم، بل الأهم منه أن نختار المعطيات المنهجية الملائمة لتحليل الظاهرة بغضّ النظر عن إغراءات الركض وراء أحدث التسميات، ودون أن ننسى أنَّ الهدف من المنهج أساساً هو كشف أكبر قدر ممكن من معطيات النص ومقولاته وجوانبه الفنية، عبر رؤية تحاول أن تكون منضبطة موضوعية تستثمر معطيات المنهج في أعلى درجة، ولا بدّ من التأكيد أن المنهج ليس مجموعة أدوات جامدة أو ثابتة، بل إن كل منهج فيه من الاتساع والمرونة بحيث يقبل عدداً من القراءات والتأويلات والممارسات نظرياً وتطبيقياً، ويدل على ذلك النظر إلى كل منهج نقدي في ضوء كيفية تطبيقه حيث سنجد تنوعاً في فهمه، والاستفادة من مكوّناته، والتعدّد في إجراءاته النقدية دون أن يعني ذلك حدوث تداخلات في الأمور، ولا ننسى أن لكل منهج منطلقاته ومفاهيمه ومصطلحاته وأدواته المعرفية وإجراءاته النقدية.

 

ومما لا شك فيه أن عدداً من المعيقات قد واجهت البحث في مراحله المختلفة، وهذا طبيعي في سيرورة كل بحث، وقد تمّ تذليل هذه المصاعب بالمثابرة والمشورة والمرونة، ومن هذه العوامل ما يعود إلى طول مدة الدراسة، وعدد المجموعات، وتنوع القصص داخل كل مجموعة، وعدم توفر بعض المجموعات، ومحاولة الشمولية، والحرص على خلق شيء من التوازن بين فصول البحث المتنوعة، وإشكالية الاضطرار لتطويل بعض المقبوسات القصصية التي تدلل على الفكرة المرادة فنياً وموضوعاتياً، إضافة إلى رفض كثير من القاصين تزويدي بمجاميعهم التي لا تتوفر في المكتبات العامة، مع ما رافق ذلك من مفهوم الكثيرين للنقد واعتقادهم انضواءه تحت لواء ثنائية القدح والمدح، بخاصة أن الدراسة حاولت الابتعاد عن تكريس بعض الأسماء على حساب الأسماء الأخرى، وهو ما اعتاد عليه كثيرون اعتقدوا أن القصة السورية تنحصر بعدد قليل من الأصوات، ومما كان يحرجني أن معظم المدروسين هم من الأحياء، وبعضهم أعطي هالة لا تعبر عن المستوى الفني لقصصه.

 

ولعلّ الاعتماد على منهجية نقدية تصبو إلى الموضوعية قد خلَّصنا من إشكاليات كثيرة، إذ حاولنا أن نكون بعيدين عن المبالغة قريبين من الإنصاف.

وتبقى الدراسة مثلها مثل كل دراسة لن تبرأ من الإشكاليات والعثرات التي هي قدر إنساني يحاول الباحث أن يتخلص منه بالعمل والمثابرة والإخلاص، وهو ما سعينا إليه في كل أرجاء البحث، مستعينين بالله تعالى وملاحظات الأصدقاء والأساتذة الذين أقدم لهم طاقة شكر لا حدود لها وكل من اطلع على البحث لهم جميعاً الشكر الذي لا يُحدُّ والامتنان الذي لا ينفدُ.

أخيراً، أرجو أن يكون هذا البحث لبنة صالحة في الجهود النقدية التي تبذل لتناول الأدب العربي الحديث على أمل أن أضع لبنة أخرى عبر القسم الثاني الذي سيتم تخصيصه للحديث عن قصة التسعينات في سورية.

المؤلف

 

 

القسم الأول: مقدِّمات تأسيسيَّة

 

يسعى هذا القسم لمناقشة قضيتان تشكلان تأسيساً ضرورياً لكثير مما سيتمّ تناوله في القسم الثاني، هذه القضايا تكشف جوانب متنوعة تخصّ بفن القصة القصيرة فتهدف إلى وضع عدد من الأمور على طاولة المساءلة التي لها ثمراتها حين يتم تناول القصة القصيرة.

أما الفصل الخاص بنقد القصة القصيرة السورية، ونقد النقد فيسعى إلى محاولة رصد هذه الجهود، والإشارة إلى عدد من سماتها خلال الاستعانة بنقد النقد الذي لم يسلم من محاولة التقييم.

إنَّ مناقشة كل قضية مما سبق تكشف الكثير من الغنى في كل موضوع، إضافة إلى أنها تحاول قول كلمات معدودات تصبو لإيضاح بعض المسائل التي قد تعنّ على ذهن المرء فيما يخصّ مجموع الرسالة، ويبدو أن هذا الباب يحتوي مواد مختلفة الانتماء ظاهرياً، إلا أنّها جميعاً تصب في بوتقة البحث وجدواه، وهي متلازمة بحيث إن كلاً منها يكمل الآخر ويوضح أبعاد العمل.

 

 

 

 

تساؤلات حول فن القصة القصيرة

 

 

يثير مصطلح القصة القصيرة جملة من الأسئلة التي لا بدّ من قول كلمات محددات حولها بما أن المصطلح يحيل إلى جنس أدبي له إشكاليات وهموم متنوعة.

لقد حار المنظرون والمهتمون بالنظرية الأدبية في الإجابة عن عدد من التساؤلات التي يبعثها البحث في تاريخ هذا الجنس الأدبي أو قراءة واقعه ومحاولة التنبؤ بمستقبله، واستطاع فن القصة القصيرة أن يخلق حوله ثلة من البؤر المعرفية التي تجبر القارئ على محاولة اقتراح مشاريع أجوبة لأسئلة الفن، وبما أن هذا الجنس تتجاذبه تيارات عديدة، وتتناوشه منازع مختلفة فقد كثرت تعريفاته التي تبارى عديدون في صوغها، كل منهم وفق المفهوم الذي وضعه في حسبانه، مثلما حاول بعضهم الهروب من محاولة تعريفه لأنهم وجدوا أن لا سبيل إلى الإحاطة به( ).

 

ولا نبتغي من الكلام السابق إعطاء القصة القصيرة قيمة ليست هي بأهل لها، وإنما هذا ما استخلصناه من قراءتنا لكثير مما قيل حول هذا الفن.

إذ لا يخفى على امرئ أن محاولة تعريف جنس أدبي –أي جنس- أمر له إشكالياته ومنزلقاته نظراً لخصوصية الفن، وكون الفن دائم التحول والتجدّد ويسعى كل كاتب متميز أن يضيف جديداً في سيرورة الفن الذي يمارسه( ) ، من هنا فإن الفن حقل متجدّد الخصوبة، متنوّع المشارب، وهذا ما أكده فن القصة القصيرة الذي بدا أنه قابل للتجريب، وساعٍ دائماً لكسر الأطر والقواعد النظرية.

 

ويمكن للمرء أن يحاول تصنيف بعض خصوصيات هذا الفن من موازنته بأجناس أدبية وفنون أخرى من جهة( )، ومن خلال البحث في مكوناته وأركانه وعناصره من جهة أخرى، وفي الحالتين معاً تكون النتيجة مجموعة اقتراحات للتأطير، وليست حدوداً ثابتة أو عناصر لا يخرج من دائرتها شيء.

إضافة إلى ما سبق فإن مصطلح القصة القصيرة بات يحمل في أثنائه عدداً من المفاهيم التي قد تختلف من دارس لآخر مما يفرض على الباحث ضرورة تحديد مراده حين يستعمل هذا المصطلح ليكون ذلك أكثر دقة وعلمية( ).

 

ويبدو أن وجهات النظر مهما تعدّدت في هذا الجنس الأدبي وتعريفه فإن رابطاً ما يشدّها بقوة وهو انتماؤه إلى السرد- النثر( )، وإن بات على المرء أن يكون متحفظاً قليلاً لو حاول البحث بعمق في أركان هذا الجنس بخاصة أن ملامح غنائية يمكن أن تظهر فيه وصفات انفعالية أحياناً( ). يمكن أن نجدها أيضاً، ولعل بحث علاقته في بعض الأجناس الأدبية يسهم في تحديد بعض معالمه، ومثل هذا البحث في علائقه كان الطريق الأرحب الذي حاول من خلاله عدد من النقاد تحديد سماته وخصوصياته.

عن علاقته مع الرواية يمكن القول: إن هذه العلاقة قد شغلت النقاد زمناً، ولجؤوا إلى هذه الموازنة في سعيهم إلى تحديد خصائص القصة القصيرة، وخرجوا بفوارق شتى نصَّت عليها أفكارهم( )، ويبدو أن مبعث مثل هذه المقارنة شعورهم بأنهما ينتميان إلى النثر، لكن بقليل من الانتباه نجد أن الفوارق هائلة في آلية المعالجة وفي النظر إلى الأشياء، ويبدو أن ذلك شارك فيه مسألة القصر والطول وهي قضية متسعة حاول المهتمون الوقوف عليها( )، متخذين منها أحد الصوى الرئيسية للتفريق بين هذين النمطين اللذين تجمعهما أشياء عديدة مثلما تفرقهما أشياء أخرى، وليست عوامل التشابه هذه بين القصة والرواية الوحيدة من حيث علاقة القصة بالأجناس الأخرى لأنها أيضاً تتشابه في محاور عديدة مع فن الشعر بخاصة في تطوراتها اللاحقة، وتحاول الإفادة من بعض خصائصه، ويبدو هذا أكثر ما يبدو على صعيد التعامل مع اللغة، واللجوء للمفارقة وأشياء أخرى، إلا أن هذا التشابه أو التعاون لا يعني وجود عنصر آخذ وآخر معطٍ بل إن الشعر أيضاً استفاد من بعض خصائصها( )ومثل هذا التداخل ليس جديداً وإن كان قد أخذ أمداء أوسع في ظل الرؤى النقدية الحديثة الدعوة إلى (النص المفتوح) وكسر الحواجز بين الأجناس الأدبية، وتبدو الحرارة التي يمكن أن تكتب في ضوئها بعض أنماط القصة القصيرة أكثر قرباً من الشعر بخاصة الاستفادة من تجربة انفعالية متكئة على لحظة زمنية خاصة ووعي حاد في بعض القضايا، وتنطلق مثل هذه الوشائج لتصل إلى أجناس أخرى مثل المقالة من حيث الوظيفة الملقاة على عاتقها ومباشرة غاياتها في بعض النماذج( )، مثلما تستفيد بعض أنماط المقالة من فن القصة القصيرة.

 

أما عن علاقة القصة مع الدراما فهي علاقة تدخل في صلب فن القصة القصيرة لأن أحد مكوناتها الإحساس الدرامي الذي يولد إيقاعاً سريعاً تتطلبه( )هي وإيجازاً وتكثيفاً من أخص خصائصها، وإن علاقتها مع الدراما لا تشكل علاقة طارئة يمكن أن يستفاد منها طوراً وتلغى تارةً، بل العلاقة وجودية وإن اختلفت درجة الاستفادة وانعكاسها على نوعية التوتر المتولد في النص القصصي بحسب النمط الذي يكتبه الكاتب والآليات الأخرى، إلا أن هذه الدراما ضرورة ملحة تكسب فن القصة الكثير من الخصوصية الضرورية لأن لها ثمرات على بناه تخص الإيقاع والتشويق مع الاحترام لأنماط القصة القصيرة التي تتأسس على عناصر أخرى من مثل (القصة اللوحة). ويمكن أن تستفيد القصة القصيرة من أجناس أدبية أخرى وفنون عديدة، وهذا ما بدا جلياً من خلال سيرورتها وفي تجلياتها الأخيرة إذ سعى المجددون والمجربون إلى محاولات استفادة من الفن التشكيلي والسيناريو والمسرح والسينما وسوى ذلك( ). وقدمت تجارب عديدة كانت واضحة المعالم في سيرورتها وفي جرها إلى آفاق جديدة، ويمكن لها أيضاً أن تستفيد من بعض معطيات الأدب الشعبي وخصوصياته، وهي التي يمكن أن تنقل لنا عدداً من التفصيلات الحميمة التي تجعلها أكثر قرباً منا( ).

 

إن مجموع العلائق التي تحدثنا عنها بين فن القصة القصيرة والفنون والأجناس الأخرى لا يعني أنها هجينة( ) وتتكون من مجموعة عناصر من مختلف الأجناس، بل يعني قابلية هذا الجنس للتعاون مع الأجناس وإمكانية التجديد والتجريب، ويمكن أن يكون بآن واحد ملحمياً وغنائياً مع بعض السمات الرومانسية والواقعية وسوى ذلك( ).

وهذا يتيح لنا الحديث قليلاً عن تاريخه وبداياته، والعوامل التي أثَّرت في سيرورته، وبما أن الميدان هنا ليس ميدان تفصيل، بل ميدان اختصار نقول: إن معظم المؤرخين ومتابعي هذا الجنس الأدبي قد عدّوا ثلاثة من أعلامه هم الذين تركوا بصماتهم على تبلوره الفني الأولي هم (أدغار آلان بو- وغي دي موباسان- وأنطون تشيخوف( )). وإنَّ الأثر الذي تركه كل واحد منهم يكمل أثر الآخر وقد شاركوا جميعاً في ترسيخه وتحديد صياغة له وإن كانوا ينتمون إلى ثقافات متعددة لكنهم عاشوا في فترة متقاربة متتالية.

ولا شك أنه مثل أي جنس أدبي آخر ارتهن بمجموعة من الأمور التي تخص دوره، وكيفية انتقاله من أطوار التسلية إلى الوظيفة الواضحة، وإلى تأثره بمجموع الحركات الاجتماعية التي ساهمت في إخصابه وتفعيله( )، وإن كان مفهومه اليوم يختلف عن مفهوم التشكل في نقاط رئيسية، وهذا طبيعي في سيرورة كل جنس أدبي، يتطور ويتنوع تبعاً للعصر، وكي يبقى محافظاً على حياته لا بد له من مرونة تكسبه المزيد من الغنى والخصب.

 

ويمكن لنا أن نقف عند وشائجه مع المجتمع والواقع الذي يمتح منه، وهي وشائج إشكالية توقف عندها الدارسون طويلاً، إذ مما لا شك فيه أنه في تجلياته الكتابية المختلفة قد كان استجابة لمعطيات اجتماعية فرضته، وأسهمت في نهضته وهذا طبيعي في تاريخ الفنون الأدبية والإبداعية إذ لا بد لكل فن من ظرف اجتماعي ينهض في كنفه، ويستمد كثيراً من نسغه من أجواء هذا الظرف، وكل تطور بارز في سيرورته لا بد له من تواشج ظرف اجتماعي مع ظرف فكري مع مجموعة من المبدعين الذين يستطيعون فتح كوى جديدة للفن والتعبير عن معطيات الواقع الذي يعيشونه، وقد كانت وشيجة هذا الفن بالواقع محوراً من المحاور التي تُنُوِلَتْ عبر سيرورته، وهذا لم يكن يخصه وحده وإنما طال الرواية أيضاً، ومما لا يختلف عليه اثنان هو دور الواقع في صياغة الفن( )لكن يختلف هذان الاثنان وغيرهما في آلية الصياغة والانتقال من المحاكاة إلى الانعكاس ومن ثمة إلى المخالفة في ظل معطيات عديدة ذات جوانب فكرية واجتماعية وذاتية تفرزها مجموعة الظروف المحيطة والأحوال المرافقة لتاريخ الفن، إضافة إلى الوظيفة التي يسعى إلى تحقيقها والوعي الذي يريد أن يوصله، فالفن يحاول اختزال كثير من التجارب الواقعية عبر رؤى واعية ويحدد الموقف منها والسبيل إلى تنميتها أو تجاوزها مثلما يكتفي في حالات عديدة بالإشارة إليها ولفت الأنظار، وهذا يفرز بدوره نصوصاً ليست بسوية واحدة، لها علاقة بالموهبة والمدركات والوقائع وفهم دور الفن، لكن لا بد من تأكيد أمرين يخصان علاقة فن القصة القصيرة بالواقع فهو ليس محاكاة وتطابقاً مع هذا الواقع، وهو أيضاً لا يمكن أن يتخلى عن علاقته مع الواقع، هذه العلاقة التي تمدّه بالكثير من الخصوصية، فالفن هو "صيغة متميزة لمعرفة العالم جمالياً"( ) وللفن أيضاً مرجع يصدر عنه ويحيل إليه لذلك فإن له دلالة يضمرها أو يظهرها( ).

 

أما صلاته بالمتلقي وآليات هذه الصلات ووظيفته ومقولاته التي يريد أن يقولها وعلاقته بالفرد أساساً والشفاهية والكتابية فهي قضايا تستحق بعض النقاش فقد تحدّدت كثير من سمات القصة القصيرة ووظائفها في ضوء وشائجها بالمتلقي، الذي حرصت على إبقاء مجموعة من العلائق معه لأن للأدب غايات لا تتحقق إن فقدت هذه الصلات معه، ولئن كان الحرص على هذه العلائق يقود أحياناً بعض القاصين إلى شيء من المباشرة، لكن يمكن أن يحافظ على الفني إلى جانب الإيصال( ).

 

إن القصة القصيرة منذ بداياتها كانت تضع في حسبانها مجموعة من المقولات التي تريد إيصالها إلى القارئ، وذلك بعد أن تخلت عن أسسها الترفيهية والبوليسية والوعظية لكن هذه الأهداف لا تعني أنها تخلت عن تلك الأسس، بل يعني أنها يمكن أن توصل ما تريده خلالها، ويلحظ في نصوص عديدة أن الأيديولوجية تزيد على حدّها مما يهدّد جوانبها الفنية، فهي لا تهدف إلى إشباع القارئ بقدر ما تريد أن تحرِّض بعض الجوانب في نفسيته وآليات تفكيره، لقد تغيرت آليات علاقتها مع المتلقي تبعاً لسيرورتها التاريخية إلى أن وصلت في نصوص محدثة إلى التوجه إليه مباشرة وبصراحة وكأنها تعود في ذلك إلى الاستفادة من جذورها الشفوية، وقد تنازعتها عبر تاريخها الرغبتان الشفوية والكتابية( )، وقد نجح معظم كتابها بإجراء شيء من التوازن بين هاتين الغايتين اللتين باتتا تسهمان في بنائها وتكوينها من حيث الحكاية والتشويق والوسائل الفنية الأخرى، ومع أنه وجدت حالات تجديدية حاولت تخليصها من شفاهيتها وجرّها إلى عالم الكتابة فقط وإلغاء الحكاية والتتابع وسوى ذلك، إلا أن الأيام أثبتت أن هذا الفن مرتبط بكتابيته مثلما هو مرتبط بشفاهيته مع كل محاولات التجديد التي لا تفسد للود قضية!

وقد نجحت القصة القصيرة بما أنها تحاول التعبير عن المغمورين والمأزومين( ) محاولة التنبيه على الوعي الحاد لاستيحاش الإنسان( ) فيما صبت إليه وكتبت قصص عديدة عن شخصيات لا يتاح لها التعبير عن نفسها محاولة التركيز على المصير الفردي وهو في خضم الجماعة، وهي في كل تجلياتها ومحاولات التجديد فيها لم تخفف من علاقتها مع المتلقي لإدراك كتابها أن إنهاء العلاقة مع المتلقي سيؤدي إلى وأد الفن، وأنّ أيّ تجديد لا يضع في حسبانه طبيعة الفن وخصوصيته وعلائقه مع المتلقي هو تجديد لا يفيد ولن يسهم في فتح مدارك جديدة أمام الفن.

 

أما مكوّناتها وتقنياتها وعناصرها التي تنوعت بتنوع سيرورتها ومفهومها والعوامل المؤثرة فيها فهي تدل على أن العناصر المكونة لكل جنس أدبي غير قارّة ولا ثابتة، قد يطالها التطوير وقد يُهمَّش دور بعضها تبعاً لأشياء كثيرة لها علاقة في تكوين كل جنس أدبي من مثل المعطيات الاجتماعية، والوظيفة التي يضعها في حسبانه، إضافة إلى محاولات التجديد التي يقوم بها بعض كتابه( ).

 

وعلى الرغم من الكلام السابق إلا أن ثمة مجموعة من العوامل عرفت بها القصة القصيرة في سيرورتها وإن طال بعضها الكثير من الاحتجاج، وقد ولَّد التنوع في الرؤية وفهم الفن ودوره، وكيفية الاستفادة من عناصره، ولَّد كل هذا عدداً من الأنماط القصصية إضافة إلى أنه خلَّف أيضاً عدداً من التيارات الكتابية( )التي وُجدتْ في سيرورة هذا الفن، على أنه من الضروري تأكيد أن هذه التيارات والأنماط لم تكن متلاحقة بحيث إن من الضروري أن يكون نص اليوم أجود من نص الماضي، بل إن كل فترة من الفترات عرفت هذا النمط أو ذاك.

 

ولا بدّ للمرء من أن يشير إلى أن ثلة من العناصر قد غلبت على النصوص القصصية، لكن لا نستطيع تعميمها على جميع النصوص وفحصها في ضوء تلك العناصر، لأنّ كل تجربة قصصية تحاول التجديد تخلق عناصرها الخاصة، وإن كانت تتكئ على بعض العناصر المعروفة، لذا فإنه من الأجدى الإشارة إلى العناصر ليس بصفتها عناصر ثابتة في كل قصة، بل بصفة إمكانية ورودها إذ لكل قاص ما يشاء أن يختار من العناصر وفق رؤيته، ووفق ما يستدعيه نصه، وفي كل مرحلة قصصية يوجد بعض القاصين الذين اختاروا طريق التجديد والتجريب، مثلما يحاول قاصون آخرون المحافظة على التقاليد القصصية المعروفة.

وقد بدأت محاولات تحديد مكونات القصة القصيرة مع إدغار آلان بو من خلال تركيزه على وحدات ثلاث( ).

 

في حين ركز فرانك أوكونور على ثلاث وحدات أخرى هي العرض –النمو- العنصر المسرحي( )، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن بعض عناصر القصة القصيرة تحدّد في ضوء العلاقة مع التخييل والواقع والشخصية والحدث، ولا بدّ من تأكيد أن هذه الوحدات لم تنل اهتمام الجميع ولا سيّما من ساروا في طريق التجريب.

لا يمكن للباحث في نظرية القصة القصيرة أن يتجاهل بعض العناصر التي تخصّ وجودها من مثل الإيجاز والتكثيف وكونها تقدم لحظة مهمة –مأزومة في حياة الشخصية، إضافة إلى الإحساس الدرامي الذي يجب أن يبقى حاضراً في أنحاء القصة القصيرة، وهذا يولد إيقاعاً سريعاً تحتاجه القصة، إضافة إلى التنامي والمعمار القصصي، ومطلوب التأكيد على نقطة تخصّ التحفيز والإدهاش( ).

 

إلا أن الإشارة إلى هذه العناصر تحضر معها عدداً من النصوص التي خالفت هذه المكوّنات فخلفت تشظياً في الحدث، ونهاية غير مدهشة، لأن القصة في بعض تجلياتها كلها مدهشة، ولم تلتزم قصص أخرى في القصر تجاوزت ثلاثين صفحة إلى مئة فيما بالغت بعض النماذج في القصر كأن لا تتجاوز عشر كلمات( )..

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أهمية الضبط التكنيكي، وكما أشرنا من قبل فإن كل نص متميز يضيف إلى نظرية القصة القصيرة وتاريخها الكثير، ولئن دعا كثيرون إلى التخلي عن التفاصيل إلا إن بعض النماذج القصصية تركز عليها، ويمكننا الإشارة إلى أهمية الإحساس والذاتية في القصة القصيرة على ألا يطغى على العناصر الأخرى، أما الموقف من اللغة فيتطلب حساباً لكل كلمة وجملة بحيث تكون موظفة التوظيف اللازم، ويمكن استعمال جمل وعبارات تحمل غير دلالة، إضافة إلى أن ذلك يتطلب الإشارة إلى أهمية أن تكون اللغة لغة الشخوص وليست لغة القاص وحده، مع الإشارة إلى أهمية الإقناع في كل جزئيات النصّ القصصي وكلياته، وأهمية الانزياحات والصور والإيحاء والإمتاع والإدهاش لكنَّ مطلوب منها أن تبقى لغة سرديّة تعبر عن الأصوات الموجودة في القصة، وأن يتم الاستفادة من العناصر في المواضيع المطلوبة بعيداً عن الاستعراضات التي لن تخلق فناً، ويمكن للقاصين الاستفادة من تقنيات عديدة تخص المفارقة والاستباق والاسترجاع والسخرية والتناص والترميز وسوى ذلك، والمهم أن تبقى القصة قصة موحية مؤثرة( ).

إن الإشارة السابقة إلى العناصر والمكونات والتقنيات تدل على أهمية الضبط التكنيكي وأن تتمّ الاستفادة في توظيف النصّ مع تأكيد أنَّ الفن، أي فن، وإن كان يستعصي على التقييد إلا أنه ليس من الضروري ألا يحاول الدارسون بين مدّة وأخرى من مراجعة مقولاته ومكوّناته في ضوء الواقع العملي.

 

 

قراءة في نقد القصة القصيرة السورية

ونقد النقد حول أوضاع النقد الأدبي في سورية:

 

الحديث عن النقد الأدبي الذي انصرف لمواكبة فن القصة السورية يعني متابعة ما كتب في هذا الميدان منذ بداياتها الفنية، إضافة إلى إطلالة عامة على حركة الفكر العربي الذي ترعرع في كنفه، والوقوف على آلياته وتقنياته والعوامل المؤثرة فيه، مع محاولة رصد التحولات من الانطباعية التأثرية إلى المنهجية العلمية، ومن الاكتفاء بالنقد الصحفي إلى بداية الانطلاق نحو نقد الكتب لاحقاً.

 

وحال نقد القصة القصيرة السورية قبل الخمسينات ليس ببعيد عن حال هذه القصة من وجهة فنية، إذ لم تكن أمور النقد قد تبلورت، فحالة التحرر الفكري لم تأخذ أمداءها بعد، والصراع مع المستعمر كان في أواره، وقد تعاضد هذا مع حركة نشرية لا تبشر بالكثير.

هذا إن لم ننسَ الفهم المتواضع للنقد ووظيفته، والتركيز على نقد العيوب اللغوية، والركون والاطمئنان إلى الانطباعات التأثرية، وربما كان لعدم وصول النقد الأدبي الحديث ومناهجه آنئذٍ دور كبير في ذلك، إذ لم تكن الحركة الأدبية يومذاك قد أخذت شكلاً واضحاً أو تلامحت، مع ما رافق ذلك من نظرة إلى القصة القصيرة بوصفها فناً وافداً لم تسمح له الظروف بالتلامح والتشكل، أو توضيح دوره وأثره.

 

قد نجد إبان تلك المرحلة بضعاً من الإشارات أو التلميحات التي تومئ ببدء الوعي نحو النظرة الصحيحة إلى دور القصة القصيرة، وتحولاً من عدّها متعة ومكاناً للمغامرة وسواها إلى عدها فناً أدبياً لـه سماته وأركانه ورؤاه وفضاءاته.

 

طبع في هذه المرحلة كتابان هما فن القصة والمقامة( ). والقصة والقصصي( )، الأول (فن القصة والمقامة) لم يتجاوز فهمه للقصة من أنها امتداد للمقامة، وأنه كان يبشر بقصة قادمة لا تتجاوز فلك تراثنا العربي بعيداً عن اختلافات المصطلح والمفهوم والرؤية، أما كتاب (القصة والقصصي)( )فهو كتاب تخصص في القصة محاولاً أن يحيط بتجلياتها منذ القديم إلى يومنا هذا، ولئن بدا أن المؤلف تسيطر على بعض رؤاه أفكار مسبقة فإن الكتاب يعد سابقاً لزمانه.

 

أما فترة الخمسينات الصاخبة بالأفكار، الضاجة بالتيارات، فإنها تقدم لنا صورة أكثر خصوبة سواء أكان ذلك في حركة نشر القصة، أم في عدد الصحف، وحجم الاهتمام بالقصة وبدء الوعي بخصوصيتها.

 

لقد صار بإمكان المرء المتابع العثور على عدد من الاتجاهات المغذاة من الحركة الفكرية والسياسية التي رسمت فترة الخمسينات خلال تنامي المد الاشتراكي، والفكر القومي والوجودي سواء في تنافرها أو تواشجها، وقد واكب هذا اهتمام أسهم بإذكاء روح نار عدد من المعارك، التي تخص الفكر السياسي والأدبي والنقدي، وبات بإمكاننا القبض على ملامح رؤى واقعية نقدية، ووجودية قومية، وشكلية، وتاريخية( ).

 

ولا نعدم وجود شذرات من بقايا النقد اللغوي والتأثري اللذين راحا ينسحبان بحياء ويخفت بريقهما أمام وجود طوارئ فكرية راحت تشرئب وتتبرعم( ).

ولا يمكن للباحث أن تفوته رؤى ملفّعة بالحماس أو الانحياز أحياناً لهذا التيار أو ذاك، ولعل هذا طبيعي في ظل كون هذه الاتجاهات الأدبية تخفي في أثنائها انعكاسات تيارات سياسية وفكرية.

 

ولم تكن الفترة الزمنية الطويلة، والفسحة الكبيرة بين وقت وفود تلك الاتجاهات الفكرية، وتلامح ذاك النقد الأدبي، وربما من يومها بدأت مشكلة عويصة تتعلق بالتحزب الشللي الذي لم تستطع الساحة الثقافية السورية أن تتخلى عنه إلى يومنا هذا، وإن أخذت المشكلة في السنوات الأخيرة بعداً منفعياً مصلحياً بحيث تغير مفهوم الشلة من شلة الفكر المتقارب إلى شلة المصالح المتبادلة، ولعل هذا يتوضح أكثر في ضوء النظر إليه بصفته عاملاً اجتماعياً وفكرياً يخص المجتمعات التي لم تأخذ قسطاً كافياً من التطور والتعددية.

 

إن أهم ما قدمه نقد الخمسينات، وقد شهد تطوراً في ميدان الصحافة، هو ترسيخ فن القصة القصيرة بقوة، والبحث في تاريخها وجذورها ومحاولة تأصيلها، ولم يعد بعد الخمسينات ممكناً تجاهل هذا الفن الذي أبدى تميزاً راح يتنامى يوماً بعد يوم، بخاصة في مرحلة الستينات إذ فتح النقد كواه باتساع شديد نحو الحديث عن الوظيفة الاجتماعية للقصة وموضوعاتها ومضامينها، وإشكالية المضمون والشكل، والفن للفن والبطل والالتزام، وقد اتخذت هذه الكتابات سمة الحماسة أحياناً لأن معظمها كان يكتبه القاصون أنفسهم.

 

وصار ممكناً أن نعثر على أحاديث عن مفاهيم نقدية جديدة راحت تفصح عن نفسها في ظل بدء انكماش المد الأيديولوجي الخمسيني، وبتنا لا نعدم وجود مصطلحات لم تكن من قبل واضحة الاستعمال أو الدلالة من مثل القديم والجديد، التقليدي والمحافظ، الحداثة والمعاصرة، الرمزية…

وبات تسرب الآثار النفسية( ) فيما يكتب لافتاً مع نهاية الستينات ومطلع السبعينات، وقد برزت في هذه المرحلة وما سبقتها أسماء بقيت بصماتها لافتة في سيرورة القصة السورية إلى يومنا هذا( ).

 

وفي فترة السبعينات والثمانينات اختلفت الأمور كلياً، إذ عشنا مرحلة نشر واسعة، ونشرت ثلة من الكتب النقدية حول الظواهر والأعلام، وكان قد نشر عدد منها بصورة مجزأة في الصحف والدوريات( ).

 

وغدا النقد أميل إلى المنهجية العلمية التي تستفيد من علوم عديدة، وجدت أسماء اختصت إلى حد ما بدراسة الفن القصصي، وقدم عدد منها غير كتاب في هذا المجال، وبات المرء يشعر أنه إزاء نقد أدبي يمتلك غالبية مصطلحاته ومنهجياته وأدواته الإجرائية، وأصبح من المألوف وجود نقد لهذا النقد، ووجود قراءة في تاريخ القصة القصيرة السورية التي أثمرت مجموعات كثيرة باتت تشكل حيزاً مهماً في ساحة الأدب العربي السوري، وغدا الباحث لا يشعر بحرج إن أراد تصنيف النقد الخاص بالقصة القصيرة السورية، إذ صارت بين يديه مجموعة من الكتب( )المتنوعة تمثل أنماط النقد المختلفة، وأعدّت أطروحات حول جوانب من القصة السورية، إضافة إلى أطروحة حول نقد القصة القصيرة السورية.

 

وقد كنا نتمنى أن تستمر حركة الاهتمام هذه إلا أنها كادت أن تتوقف، وربما هذا يعكس حال القصة القصيرة السورية التي بدأت مكانتها تخفت قياساً على أجناس أدبية أخرى من مثل الرواية.

 

وانصرف نقاد عديدون إلى أجناس أخرى، أو ميادين أكثر انتشاراً، إضافة إلى الانشغال بنظرية الأدب والنقد وسوى ذلك( ).

ولم يتح لمرحلة الثمانينات أو التسعينات أن ينخلها ناقد ويحللها ويقوِّم الإصدارات إضافة إلى أن المرء وجد افتقاد الساحة لكتب تتابع سيرورة القصة القصيرة السورية على الرغم من حركة النشر الواسعة.

 

وعلى الرغم من صدور غير كتاب في عقد التسعينات إلا أنها انشغلت بقضايا جزئية تمسّ نظرية القصة أكثر مما تمسّ الظاهرة القصصية السورية بعامة، إضافة إلى غلبة الانطباعية على معظمها في إشارة إلى ثلة من أصحاب النوايا الحسنة حاولوا الاشتغال في النقد الأدبي( )بخاصة أن الساحة قد غدت فارغة ممن تنطعوا لهذا الفن في مراحل سابقة.

 

أما عن أثر الدوريات في القصة القصيرة السورية:

فهو أثر مهم لعبته في سيرورة هذا الفن، إذ يبدو أن ما قدمته ضرورة ليس لأن مئات النصوص نشرت في هذه الدوريات فقط بل لأنها واكبت هذا الفن نقداً وتحريضاً ومتابعة دؤوبة، ولا يمكن للمرء إلا أن يتوقف عند الاهتمام الخاص الذي ظهر في عقد الخمسينات حول مفهوم القصة ودورها وسوى ذلك، ويمكن للمرء أن يتوقف عند دوريات( ) صرفت الكثير من اهتمامها لهذا الفن، وساعدت على تأصيله وتحريض كتابته وبعد ذلك جاءت دوريات عديدة على مدار تاريخ هذا الفن كانت توليه الكثير من الرعاية والاهتمام سواء تمثل ذلك بإصدار الأعداد الخاصة والملفات أم بنشر النماذج القصصية، وقد كانت بعض هذه الدوريات محلية، وأخرى عربية خصت هذا الفن بملفات عنه أو عن بعض أعلامه( )، ولا يخفى على متابع أهمية الدور الذي يمكن أن تقوم به الدورية بسبب انتشارها، وكونها يمكن أن تحرك الراكد من الأجواء، بخاصة كما أشرنا من قبل أن قاصين ونقاداً مهتمين بالقصة أتيح لهم أن يشرفوا على بعض هذه الدوريات( ).

 

إضافة إلى أن أجزاء عديدة من كتب صدرت حول فن القصة القصيرة السورية نشرت أول ما نشرت في هذه الدوريات، ولم يقتصر التشجيع الذي نالته القصة القصيرة السورية على الدوريات والكتب، بل كان لأشكال النقد الأخرى التي قدمت في الندوات والمحاضرات والملتقيات مكانة ضرورية في سيرورة القصة القصيرة السورية قد لا يمكن القبض على هذه الآثار مادياً إلا أنها لا شك فعّلت الاهتمام بالقصة، وجعلتها أحد المحاور الرئيسية في دائرة المهتمين بالأدب في سورية، وتبقى كل هذه الأنماط من النقد والاهتمام بالفن ضرورية ومهمة في سيرورة كل فن أدبي، ولا يلغي عدم ظهور دورها بصورته المباشرة فاعليتها وأهميتها التي يعيها المتابعون جيداً.

 

الكتب ونقد القصة القصيرة

بغية إيفاء ما بذل من جهود في مضمار نقد القصة القصيرة السورية وتأريخها( ) لا بد لنا أن نتوقف ثلاث وقفات متآزرات:

الأولى: عند الكتب التي تناولت القصة القصيرة بوصفها جزءاً من القصة العربية، أو بصفتها جزءاً من حركة الأدب في سورية.

والثانية: عند الكتب التي تناولت فن القصة القصيرة السورية بخاصة.

والثالثة: عند الكتب التي انصرفت للحديث عن بعض أعلام فن القصة السورية.

 

الكتب العامة:

إن الكتب التي تناولت القصة القصيرة السورية لكونها جزءاً من القصة العربية أو الأدب العربي السوري( ) تبدو في كثير من تجلياتها أميل إلى التأريخ منها إلى النقد( )، على الرغم من أننا لا نعدم بعض الرؤى النقدية في عدد منها، ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا يبدو في بعض تجلياته طبيعياً لأن تاريخ الآداب( ) لا يخلو من النقد، بل إن أحد أهم أسسه نقدي…

إن الكتب التي تناولت القصة العربية بعامة تعرض بعضها للقصة السورية، لكن ليس بصفتها جزءاً من القصة العربية، ومن هنا فإن التناول تركّز على العموميات، ولم يدخل في تفاصيل القصة السورية، وغالباً ما قدمت مثل هذه الكتب الشائع من الأفكار والمقولات ولم تأتِ بجديد، أما الكتب التي تناولت بعض القضايا التي تخص القصة العربية من مثل الجنس أو فلسطين أو سوى ذلك من الموضوعات ذات الأبعاد الكبيرة في النفس العربية فإنها تتناول مجموعة أو قصة أو سوى ذلك.

على أية حال لا بد من تأكيد أن التوقف ها هنا عند بعض الكتب التي هي أولاً معروفة مشهورة حاولت أن تؤدي مقولاتها، وثانياً أن شيئاً من الشمولية قد توافر فيها، إضافة إلى أن مثل هذا النوع من الكتب يفتح باب الموازنة مع أوضاع القصة في البلاد العربية.

 

أما الكتب التي تناولت القصة في سورية بصفتها جنساً أدبياً رئيسياً من أجناس الأدب في سورية، أو بصفتها جنساً نثرياً، أو بصفتها جنساً تأثر بمعطيات أجنبية، أو سوى ذلك من الاعتبارات فقد انتبهت إلى أن القصة في كل هذه الأحوال أخذت مكانة خاصة تعكس مكانتها في الواقع ولدن القراء.

 

وفي الحقيقة فإن عدداً من هذه الكتب قدم إنارات تاريخية ولدت لدى القارئ إمكانية معرفة أوضاع القصة القصيرة ووظائفها ومواقعها، إضافة إلى ما قدمته من قراءات في تجارب عديدة دون أن ينسى المرء أموراً تخص تاريخ هذا الجنس الأدبي ضمن سياقه العام موازنة بالأجناس الأخرى مع إنارات هامة في تاريخه والأوضاع والأحوال التي مر بها والمآلات التي يصبو إليها.

 

إلا أن المرء في كل ما سبق يجب أن يؤكد أهمية هذه الإنارات سواء ببعدها العربي قياساً على أحوال هذا الجنس الأدبي بين سورية والأقطار العربية الأخرى، أم ببعده المحلي خلال قياسه على أجناس الأدب الأخرى، لأن الرؤية المقيسة غالباً ما تجعل الأمور أكثر وضوحاً وأكثر معرفة بجدواها، وحسبُ هذه الكتب أن تقدم ذلك.

 

فن الرجل الصغير في القصة العربية القصيرة:

مجموعة بحوث منفصلة ضمها هذا الكتاب لمؤلفه أحمد محمد عطية، وتحدثت عن تجارب عربية، بعضها من سورية، والجامع بين البحوث أنها تتحدث عن القصة القصيرة التي يرى المؤلف فيها رؤى تحتاج لشيء من المناقشة، إذ يصدم المؤلف قارئه منذ الصفحات الأولى من الكتاب حين يعلن أن "القصة القصيرة تكرس فنها للتعبير عن هموم الرجل الصغير، الرجل البسيط العادي، حتى صارت بحق فن الرجل الصغير"( ).

 

وحين يتقدم خطوة محاولاً تعريفها، يبعث الحيرة في نفس متلقيه إذ يقول "القصة القصيرة فن أدبي حديث مرتبط بظهور وانتشار الطباعة والصحافة، وتطوير عصري لفن أدبي قديم، هو فن الحكاية، مصاحب للتطوير العلمي الذي قدمته المطبعة والصحيفة لأدوات النشر والاتصالات الجماهيرية"( ).

ولا يمكن التسليم بهذه الآراء التي تحتاج إلى مناقشة طويلة بغية إقرار بعضها، ومشكلة الباحث مع كثيرين من البحاثة العرب أنه يستعمل لغة جازمة تقطع على نفسها أي طريق للاحتمال والتخلص من التعميم.

 

ولا ينم منتوج الكاتب في هذا الكتاب عن ناقد بقدر ما يشير إلى باحث كتب مقالات صحفية، ومراجعات لمجاميع حيث استفاد من مجموع انطباعاته إبان القراءة وما يعرفه عن سيرة بعض القاصين، ووصل إلى قناعات عديدة هي أقرب إلى الانطباع منها إلى النقد، ويكثر الرجل من أحكام القيمة التي تستند إلى انفعالاته وانطباعاته وقد توقف عند قصص لكل من (العجيلي- حورانية- تامر- بعض قصص تشرين- بعض قصص الالتزام).

 

ومما قاله عن تجربة العجيلي نأخذ مقبوساً يوضح بعض معالم الكتاب "وتتميز قصص العجيلي- بسمات ثابتة، كالتفرد في الرؤية بعيداً عن المذاهب السياسية والفنية مع اهتمام خاص بالقضية الفلسطينية، والعناية باللغة الفصحى، وإدخال المفردات والمعلومات العلمية، والحرص على صفة الغرابة والشذوذ في القصة، بمعنى أنها لا تقدم الرجل العادي أو الرجل الصغير ولكن الشخصيات الشاذة غير العادية.

 

مع سيطرة الخرافة والقدر الغيبي، وتأكيد انتصارها على العلم، وذلك إلى جانب البناء التقليدي (الكلاسيكي) للقصة وخلفية التراث الأدبي والحكايات الشعبية القديمة، وتأثير تجارب البادية والسياسة والرحلات التي تغذي أدبه بعنصري الغرابة والتشويق"( ).

ولا شك أن رأياً بكل هذا التعميم يحتاج إلى إعادة نظر، ولمناقشة أوسع إضافة إلى أن المسلمات في حقل الأدب والنقد لا تبدو ذات فائدة كبيرة بخاصة أن تجربة غنية مثل تجربة العجيلي لا يمكن تحديد (وصفة) خاصة بها من خلال مجموعة واحدة.

 

التطور الفني لشكل القصة القصيرة في الأدب الشامي الحديث:

مثلما هو واضح من عنوان هذا الكتاب فإنه ينصرف للحديث عن القصة القصيرة في بلاد الشام، ويقسم المؤلف كتابه إلى أربعة أبواب، أولها يتمّ تخصيصه لتناول ما سماه بالفترة البدائية (قصة الرواية المكثفة)، وثانيها عن الفترة الانتقالية (قصة الرواية الرومانسية)، وثالثها فترة المحاولة (قصة الصورة)، ورابعها فترة الريادة والتكوين (القصة الفنية).

 

وقد تحدث مؤلفه د. نعيم اليافي عن تجارب قصصية سورية عديدة. منها تجارب ليان ديراني، علي خلقي، محمد النجار، علي الطنطاوي، وداد سكاكيني، فؤاد الشايب، ميشيل عفلق، عبد السلام العجيلي، وهؤلاء جميعاً لهم دور في بدايات تشكل القصة القصيرة السورية.

 

ومن الواضح أن المؤلف يفصل بين كل مرحلة ومرحلة، إضافة إلى تركيزه على البعد الاجتماعي، ولتشكيل صورة أوضح عن الكتاب سنأخذ مقبوسات تحدث من خلالها المؤلف نفسه عن كتابه في سياق تقويمه لنقد القصة القصيرة السورية: "وأول ما يلفت النظر في هذا العنوان الامتدادان المكاني والزماني لميدان البحث، فهو يضم أربعة أقطار وقرابة قرن، ولئن دلت وحدة المكان على وحدة الأدب والثقافة فإن امتداد الزمان منع إلى حد كبير من تعميق دراسة الظاهرة الأدبية خاصة في خمسينات القرن وستيناته، ويظهر أن معظم التقسيمات أو التصنيفات التي لجأ إليها الدارس هي أقرب إلى التصور الذاتي منها إلى التصور الموضوعي "وتابع د. اليافي حديثه عن دراسته.. واصفاً بأنها متأخرة من أربع جهات:

1-من ناحية التصور المصطلحي وعدم التفريق بين البناء والشكل –2- ومن ناحية الأسلوب القصصي وعدم التفريق بين طبيعة السرد الحكائي وتركيبه واللغة المستعملة للتعبير –3- ومن ناحية ميكانيكية الدراسة أو طريقتها وكأن التقنيات قوالب جاهزة تطبق سلباً أو إيجاباً على هذا الكاتب أو ذاك –4- ومن ناحية لم الشتات وصولاً إلى العام فلا يكفي أن نلاحظ التفرد بل يجب أن يسعى النقد نحو الشمول، أو بناء نظرية" ويختم د. اليافي حديثه قائلاً.. ولو قدر للباحث أن يعيد النظر في جملة الأحكام والنتائج التي توصل إليها وكذلك وسائل المعالجة والتحليل لما قصر"( )إن مثل هذا النقد الصادر من المؤلف لمؤلَّفه لا يكتبه إلا كل جريء شجاع، صاحب فكر شمولي يرى أن نقد النقد والنقد الذاتي أول مداخل التطور.. وبعيداً عن كلام المؤلف عن مؤلفه فإن مما يسجل للكاتب الوعي النقدي والرؤية الشمولية والمقدرة التحليلية، وحسبه أن يعطينا رؤى نقدية في بواكير القصة القصيرة في بلاد الشام.

 

دراسات نقدية في الرواية والقصة:

يتجه المؤلف د. عبد الرزاق عيد كما هو واضح من العنوان إلى الحديث عن فنين نثريين، وعن عدد من الروائيين والقاصين العرب، منهم السوريون الذين تناول أعمال أربعة منهم (حيدر حيدر – جورج سالم- عبد الله عبد- حسن م. يوسف) بالرغم من تباين تجاربهم واختلاف نضجها. فمنهم من كانت تجربته قد تبلورت، ومنهم من كان طري العود آنئذ، وواضح من اختيار الأسماء الخلفية الأيديولوجية القابعة وراء هذا الاختيار.

وفي لغة الكتاب وآلية مناقشته للأمور ما يدل على خلفية أيديولوجية استطاعت أن تسم الكتاب بميسمها، وكثيراً ما تغلبت على الجانب الفني الذي كان المؤلف ينساه في أجزاء كثيرة من الكتاب، مركزاً على حركة التاريخ والمجتمع والحياة، فاتحاً بعض الكوى في مسارب التاريخ للحديث عن نشأة القصة السورية والعوامل المؤثرة في ذاك النشوء.

 

ولا يبدو أن الباحث حريص جداً على التفرغ للجوانب الفنية، بل يلاحق شخوصه وانتماءاتهم، مركزاً على النقد الفكري أكثر من تركيزه على النقد الفني.

ولا يحتاج المتلقي إلى كبير عناء كي يلحظ الفكر الماركسي ومصطلحاته إذ يشيع بين دفتي الكتاب بخاصة حين يكثر من تأكيده (الفرد والجماعة، الذاتي والجماعي، محركات الواقع- تبلور القوى الاجتماعية).

 

ولا نعدم في الكتاب وجود أحكام قيمة متتالية لأفكار أرادها المؤلف، وفي هذا الكتاب نعثر على نموذج فذ للنقد الذي يسيِّر النصوص كما يريد الباحث مع مقدرة واضحة في القبض على تمفصلات التجربة القصصية، إلا أنه لا يترك رؤاه تتعمق ولا أفكاره تنمو.

 

ولعلّ مما يسجل للكتاب أنه دراسات تطبيقية لو هيّئ لها مرجعية فنية إلى جانب مرجعيتها الفكرية لكان الأمر أكثر جدوى وأعمق أثراً.

ويلحظ في الكتاب وجود أبعاد نفسية، واجتماعية بحسب ما تقتضي الفكرة التي يريد الوصول إليها، وأحياناً تتطلب طبيعة النصوص ذلك، وقد زُنِّر الكتاب بشيء من الإنشائية، إضافة إلى مقبوسات نفسية وفلسفية عديدة أحضرت لتخدم فكرة ما دون أن يعني إحضارها الاستفادة منها تماماً، ومما يسجل للمؤلف مقدرته على التقاط أهم ملامح التجربة التي يتناولها، مثلاً حين يتحدث عن تجربة عبد الله عبد قبض على أهم تمفصلاتها (تصوير البؤس والانبهار المتألق والاندهاش الطفولي).

 

وقد شغل المؤلف نفسه كثيراً بمسألة الطبقية، واستحالت بعض نصوصه إلى نصوص فكرية محض، ومن النقاط المضيئة في هذا الكتاب تلك الموازنة المتميزة بين تجربتي عبد الله عبد وجورج سالم على الرغم من القسر الذي يبدو في بعض فقراتها.

 

ولا يشير استعمال المصطلحات إلى اهتمام كبير بها بقدر حضورها حضوراً غير موظف التوظيف اللازم في بعض المواضع، ويمكن أن نقبس من الكتاب المقبوس التالي الذي يتحدث عن تجربة حيدر حيدر قائلاً:

"إن حيدر الذي يدافع عن نقاء المشاعر الإنسانية من خلال الفرد، يقع في مطبات لا مسوغ لها حتى ضمن إطار رؤيته ذاتها. حيث نقاء الفرد يدخل في صراع مع تشوه الجماعة مما قد يوحي بافتقار المجموعة، في الوقت الذي يوجه صدامه مع الأنا الأعلى، الأنتربولوجي غير أنه يخلط بين الطرفين إلى درجة إيهامنا بأنه يحمل نزوع الصفوة تجاه كل قطيعي عاجز عن رفع رأسه بكبرياء التحدي والرفض"( ).

 

وقد التقط كثيراً من الأمور التي تخصّ بعض التجارب حيث تشير هذه الالتقاطات إلى موهبة قادرة على الإمساك بأهم الملامح، ومن جميل التقاطاته قوله عن تجربة جورج سالم:

"ولا بد من الإشارة إلى أن فكرة الموت تأخذ مستويين في قصص سالم، مستوى مادياً ومستوى معنوياً، وخلاصة الثاني تندرج في الأول وتضمحل فيه، فالموت الفيزيولوجي الذي عانى منه جورج ولّد هذا الإحساس المتوتر بالموت في الحياة، الموت قد يقبع في داخل الذات يمنعها من نشدان السعادة، فلا نجد أمام هذا القدر الداخلي إلا أن نتوجه إلى جهد عابث يكون بمثابة مبضع للألم من أجل التطّهر"( ).

 

محاضرات عن القصة في سورية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية:

بداية من الضروري توضيح ما قصده د. شاكر مصطفى بالقصة في هذا الكتاب وتعني ها هنا المسرح والرواية والقصة الطويلة والقصيرة( ).

وقد مهد المؤلف لكتابه بالحديث عن وضع سورية قبل الحرب العالمية الأولى، في القسم الأول تحدث عن القصة في سورية قبل الحرب العالمية الأولى وتناول تكون الجو القصصي، وفي القسم الثاني تحدث عن القصة في سورية بين الحربين وقد اشتمل حديثه على أنماط عديدة قصصية وغير قصصية، وتحدث عن القصة الرومانتيكية ممثلة بسامي الكيالي ومنير العجلاني، وعن كتاب القصة الصورة وهما علي خلقي ومحمد النجار، وتحدث عن القصة من خلال تجارب ميشيل عفلق وفؤاد الشايب ونسيب الاختيار وليان ديراني وخليل هنداوي ومظفر سلطان.

وكان هذا الكتاب قد ألقي بصورة محاضرات على الطلبة، لذا فإن الصيغة الشفاهية بقيت غالبة على أسلوبه وآلية كتابته، وهو يحتوي على منوعات كثيرة تخص القصة والفكر والسياسة والتاريخ.

 

وقد عد شاكر مصطفى أول قصة فنية سورية لميشيل عفلق نشرت عام 1930 واصفاً إياه بـ (السمفونية التي لم تتم في الأدب العربي الحديث)( ).

وقد استفاد المؤلف من سير المؤلفين وأسئلته لهم، وتوصل إلى مجموعة من التحليلات التي تقبل غير رأي، ومعروف لدى المشتغلين في هذا الميدان أهمية الكتاب التاريخية إذ اتكأ عليه كل من ألّف بعده في هذا المضمار.

 

وبالرغم من كل شيء فقد بذل المؤلف جهداً تاريخياً رائداً، والكتاب لم يخلُ من إشكاليات التاريخ والكتابة عن الأحياء.. "ويتضح الأمر جلياً في ثنائه الكثير الصادر عن احترامه لوجهة نظر بعض أصحابه السياسية أكثر من اقترابه منهم كناقد وباحث، ولعل رأيه فيهم وليد مجاملة من كاتب تلخيصات، ومصنف أقوال ومفهرس ترجمان لزملاء له أو رصفاء أكثر من أن يكون رأي باحث جاد أو ناقد لأعمال أدبية"( ). وبالرغم من هذه الملاحيظ للدكتور نعيم اليافي التي تبدو في بعض ألفاظها قاسية. وبغض النظر عما يمكن أن يقال حول الكتاب منهجاً ومعلومة ونقداً، إلا أن فضلاً كبيراً يبقى له تمثل في حفظه لنا أشياء ما كان لنا أن نطلع عليها أو نتعرّف إليها لولا هذا الكتاب المنتمي إلى التأريخ، أكثر من انتمائه إلى النقد.

 

فنون الأدب المعاصر في سورية:

تاريخ الأدب الحديث في سورية:

خصص د. عمر الدقاق في كتابيه عدداً من الصفحات للقصة القصيرة السورية فتناولها من وجهة نظر تاريخية، مقسماً إياها إلى عدة مراحل (البواكير- ما بين الحربين- القصة المعاصرة) وقد ركز حديثه على الجانب القومي والوطني، متوقفاً عند معلومات كثيرة منها ما يخص القصة ومنها ما لا يخصها.

 

ومن الواضح في الكتاب/ الكتابين أننا أمام مؤرخ يحاول الابتعاد عن الرؤى النقدية التي تطمح للنفاذ إلى أعماق النصوص، واكتفى بالعرض مستفيداً من جهود د. شاكر مصطفى!

وينشغل المؤلف بالعموميات، ويتبع المنهج الأفقي بتجلياته غير الموفقة إلى حد كبير، بل يركز المؤلف على القاصين الحلبيين والدمشقيين بخاصة ويعرض للتجارب بعين تاريخية صرف وهو ما يبتغيه منذ العنوان.

 

ويمكن للمتابع أن يعد الكتابين كتاباً واحداً نظراً للتكرار الحرفي في مجمل الكتاب( )وله فضل تغيير العناوين في الكتاب الثاني، وهو بذلك يعطي فكرة عن حال بعض أنماط الكتاب الجامعي، والآليات التي أُلف وفقاً لها، ومفهوم التراكم في التأليف بخاصة أن المؤلف لم يشر في متنه ولا هوامشه إلى ذلك.

 

ومما زاد الطين بلة أن المؤلف تناول مراحل تحدث عنها غيره بجدية واهتمام أوضح مما يفتقده المرء في هذا الكتاب، الذي يمكن أن نتعرف فيه التطور الذي وصلت إليه القصة القصيرة السورية.

 

ولعل اقتباس أحد آراء الكتاب يعطي فكرة ما عن آلية مناقشة المؤلف قضاياه، يقول محللاً اهتمام القصة القصيرة السورية بالموضوع القومي "ومع كل ما ذكرنا فإن ما يسترعي الانتباه أن المضمون القومي في مقاومة الاحتلال لم يكن له حيز كبير في القصة السورية، خلافاً لما كان عليه حال الشعر خلال الفترة نفسها من الوجود الفرنسي، ومرد ذلك في رأينا إلى أمرين، أولهما أن الجذور الاجتماعية في امتدادها البعيد منذ فجر القصة الحديثة في سورية أتاحت للمضمون الاجتماعي الغلبة على سائر الألوان أمداً طويلاً، والأمر الثاني أنه لم يكن ينتظر في ظل الاحتلال صدور نتاج قصصي يندد بالاستعمار تحت سمع المستعمرين وبصرهم، وبخاصة إذا عرفنا أن معظم النتاج القصصي كانت تحتضنه الصحافة، والصحافة نفسها كانت في قبضة زبانية الاحتلال، ومن هنا كانت إحدى البواكير القصصية لفؤاد الشايب واسمها (محمد العربي) التي انطوت على التفتح القومي والتحرر الفكري أشبه بتقية يرمي من ورائها أن يشير إلى واقع شعبه عسى أن يستطيع بذلك اتقاء غضب الفرنسيين، ومع ذلك لم ينج من أذاهم، ومن هنا يمكننا أيضاً تقسيم ظهور القصة التاريخية خلال فترة الاحتلال ثم اضمحلالها في وقت التحرر"( ).

 

إن جزءاً من الكتاب/ الكتابين يعطي نبذة تاريخية عن القصة القصيرة السورية من بواكيرها إلى نهاية الستينات، وربما لم يهدف المؤلف إلى أبعد من ذلك بخاصة أن رؤاه وآليات مناقشته حاولت الاستناد إلى أفكار مقنعة؛ ربما قصَّر معها سطحية القراءة أحياناً وعدم المقدرة على النفاذ في أعماق الأشياء.

 

سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية الحديثة- دراسة تطبيقية في الأدب المقارن:

اعتنى د. حسام الخطيب في هذا الكتاب بفني الرواية والقصة القصيرة فانشغل بالبحث عن المؤثرات الأجنبية في الفنين، وقد تحدث المؤلف في كتابه عن نشأة القصة السورية وتطورها في إطارها الرحب (القصة العربية)، ومراحل تطورها إضافة إلى رصد التطورات الثقافية والمؤثرات الأجنبية.

 

وقام بمَرْحلتها إلى ثلاث مراحل (37-1949) – (50-1958) و (59-1967)، وحاول الوقوف عند الملامح الخاصة بها، ومظاهر التيار الوجودي عبر عدد من النماذج التطبيقية، وتناول أدب الضياع في القصة السورية والمؤثرات الأجنبية من خلال مثالين روائيين.

 

وتبدو في الكتاب سمات عديدة علمية ومنهجية عرفت بها كتابات د. الخطيب إلا أن الباحث لا يعدم وجود رؤى يبدو بعضها غريباً وغير منسجم مع أكاديميته ومنهجيته وأسلوبه النقدي المعروف، من ذلك قوله حول الفروق بين القصة والرواية "يخيل للمرء أن الفصل بينهما ينطوي على نوع من التصنيفية المصطنعة، وعلى المرء أن لا ينسى في هذا الصدد أن هناك مبالغة واضحة عند كثير من النقاد في تطبيق مفهومات الأنواع الأدبية"( ).

ولا نعتقد أن المؤلف عنى ما قال، إذ من غير المعقول أن يبرر في هذه الطريقة، وربما أراد أن يوجد مسوغات لدمجه الرواية والقصة في كتاب واحد، وكان بإمكانه أن يبحث عن مسوغات أكثر إقناعاً ومعقولية، هذا إن لم نقل إنه لم يكن بحاجة لمثل هذه التسويغات.

 

ولا شك أنه مما يسجل للمؤلف مقدرته على الضبط والاستفادة من روح المناهج النقدية الحديثة، وثقافته الواسعة ومقدرته على رؤية ما هو قادم من خارج القصة في القصة، مع إجراء شيء من التوازن بين جملة رؤاه وإجراءاته النقدية، وتخليصه الأكاديمية من جفافها الذي يشتكي منه كثيرون عبر ذوقه السليم ومقدرته التي لا تخفى على متابع.

 

 

الأيديولوجيا والأدب في سورية: 1967-1973:

 

يصرف هذا الكتاب( ) صفحاته للحديث عن فترة زمانية معينة وفق رؤية محددة تتضح من عنوان الكتاب.

وقد توقف مؤلفاه بوعلي ياسين ونبيل سليمان عند تجارب قصصية عديدة شوهدت، وعوملت من منظور أيديولوجي صرف، ولعل هذا يتضح من تقسيمات الكتاب وعنواناته.

(شواهد المجتمع القديم: عبد السلام العجيلي وألفة الأدلبي) – (الليبرالية والنيات الحسنة- كوليت الخوري- غادة السمان)- (من الوجودية إلى الماركسية جورج سالم- هاني الراهب- وليد إخلاصي) (احتضار البرجوازية الصغيرة وفوضويتها وعمقها- صدقي إسماعيل-حسيب كيالي- زكريا تامر)- (البرجوازية الصغيرة تتلمس الطريق- حيدر حيدر)- (البطل الشعبي في الأدب السوري)- (شواهد المستقبل الاشتراكي والمجتمع الجديد-فارس زرزور- حنا مينة).

 

وكان الكاتبان مدركين ما يريدانه جيداً، وحريصين عليه ويجاهران به، إنه دراسة الأدب خلال الأيديولوجية.

وقد تنبه المؤلفان لما في الكتاب من هنات أثبتاها في مقدمة الطبعة الثانية، ورصدا مع محمد كامل الخطيب مجموع الآراء التي قيلت فيه( )، ومن مثالبه كما قال مؤلفاه (لهجته كانت حادة- التركيز على الفكر والطبقة- المنهج النقدي) وتساءلا (أهو كتاب في النقد أم في السياسة أو في كليهما)( ).

والكتاب وفق رؤية ما لا يخلو من الطرافة النابعة من قراءة لما تصنعه الرؤية الأحادية المسبقة، الرؤية التي تعد أدلجتها عيناً وحيدة ترى من خلالها العالم، وقد ربط النقد والأدب بالحركة الفكرية والاجتماعية، وتم الاتكاء على مضمون الأعمال مع محاولة قراءة النصوص قراءة مغايرة!

والكتاب بات يُنْظر إليه اليوم كمعبر عن معايير لم تعد تستعمل، ومنهجية تخلى عنها صاحباها والوسط الثقافي.. لكنه يبقى شهادة على كيف يمكن أن تفعل الظروف التاريخية والفكرية والأيديولوجية فعلها في رؤية العالم الأدبي، وربما يعطي الكتاب مثالاً واضحاً عن ضرورة التنبه إلى الجوانب الفنية في العمل الأدبي.

 

اتجاهات القصة في سورية بعد الحرب العالمية الثانية:

ينشغل المؤلف محمود الأطرش في هذا الكتاب بالحديث عن القصة والرواية معاً على الرغم من أنه يحاول إيهامنا أنه يتحدث عن القصة فقط( ). ويتحدث عن القصة خلال مدخل واتجاهات يحصر خلالها القصة السورية محاولاً تأطيرها، متوقفاً عند تجربة تمثل كل مذهب.. ويقف عند بداياتها خلال عناوين عديدة تخص الترجمة والمحاولات والتكوين.

 

في الفصل الأول يتحدث عن المتغيرات المؤثرة وهوية القصة السورية، ويبحث في شجون الأدب الواقعي والواقعية الفنية متوقفاً عند تجربة العجيلي خلال مكوناته الفكرية والفنية، وبعد ذلك ينطلق إلى الحديث عما دعاه بالواقعية الاشتراكية الماركسية، والعوامل المؤثرة، والمبادئ العامة ممهلاً الخطا عند تجربة سعيد حورانية، ويتحدث عن الاتجاه القومي ومفهوم القصة القومية ومبادئها وقيمها الجمالية، متمهلاً عند الوحدة العربية وقضية فلسطين بخاصة من خلال أديب نحوي ومطاع صفدي.

 

وتحت عنوان واقع اليوم وتباشير الغد يتحدث في الفصل الخامس عن العوامل المؤثرة، والتيار الفردي الذاتي، والنزعة الفردية الذاتية ثم يقف عند قصة السبعينات ومستقبل القصة السورية وفق ما يراه.

 

ويلحظ في الكتاب كثرة أخطائه( )، إضافة إلى حالة التخبط في إجراءاته البحثية، وعدم وضوح الرؤية وعدم الإقناع، والمصطلح المرتبك والاتكاء على جهود الآخرين دون الإشارة إليها، وهناك الكثير من الملاحيظ التي يمكن أن يسجلها المرء، "ثمة خمس ملاحظات هي أقرب إلى المنزلقات منها إلى الخصائص يمكن أن نعقب بها على هذه الدراسة، على منهجها التاريخي وطريقتها في النقد. تعميم الأحكام بدلاً من تخصيصها ووصف النص بدلاً من تحليله، وتصنيف العمل عوضاً عن تقويمه، واللهاث وراء الإحصاء عوضاً عن فحص العينة المنتقاة أو الأنموذج وتفضي هذه الملاحظات وتؤكد في آن -الملاحظة الخامسة- وهي أن الدارس لم يقل شيئاً ينسب إليه( ).

والكتاب جهد تصنيفي في مجمله قد لا يتجاوز حسن النوايا في مواضع عديدة على الرغم من الجهود المبذولة فيه، ويحتاج إلى الكثير من الضبط والدقة، وقد أخذ أشياء حرفية من جهود سابقة دون أي إشارة( ).

 

الكتب الخاصة بالقصة السورية

انشغلت ثلة من الكتب بتناول القصة القصيرة في سورية محاولة تسليط الأضواء على هذه الظاهرة، مركزة على ما تم إنتاجه في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات.

ولئن بدا على عدد منها أنها انشغلت كثيراً بالتأريخ( )، فإن قسماً منها حاول تقديم دراسات تطبيقية في ثلة من التجارب، وكان كثير منها قد نشر في دوريات وخضع لشروط النشر فيها( )، وانقاد قسم آخر تحت لواء رؤى أيديولوجية معينة( ) لم تكن مثمرة كثيراً في ميدان النقد الأدبي.

 

ولو حاول المرء استعراض هذه الكتب لوجد أنها غطت موضوعات كثيرة تتعلق بالبداية الفنية وبعض الموضوعات الأخرى من مثل الموضوع القومي في عقد الخمسينات( )، إضافة إلى أن قسماً آخر حاول تنمطيها في اتجاهات محددة قرئت من خلالها تجارب كثيرة( )، وقد غلبت طريقة التناول الفردية على كثير منها أو بحسب صدور هذه المجموعة أو تلك مع محاولات لوضع أطر عامة فيها الكثير من الاتساع وانتمى بعضها إلى منهجية خاصة به لا تقوم على أسس سليمة( ) إلا أن ما يمكن تسجيله أيضاً هو أن عدداً كبيراً ممن تنولوا هجروا القصة القصيرة( ) على الرغم من أن النقد الذي كتب لقال إنه حاول أن يشمل معظم التجارب بغض النظر عن منزلتها الفنية لما ابتعد عن الحقيقة كثيراً على الرغم من الظلم الذي عوملت في ضوئه تجارب عديدة نظراً لكون منطلقات القراءة تحتاج إلى إعادة نظر.

 

وقبل كل ما سبق أو بعده لا يمكن للمرء إلا أن يثني على هذه الحركة النقدية التي حاولت أن تتناول مجمل الكتابات القصصية في نحو أربعة عقود وهذا شيء جيد.

 

أدب القصة في سورية:

يقدم المؤلف عدنان بن ذريل هذا الكتاب نموذجاً للنقد الانطباعي الذي حاول الاستفادة من المناهج النقدية لكنه لم ينجح، وعلى الرغم من أنه سعى إلى أن يكون كتابه شمولياً لكنه لم يوفق، وتحدث عن القصة السورية في ظل العثمانيين، وما بين الحربين، إضافة إلى محاولته الحديث عما بعد الحرب العالمية الثانية ورصد (كما يقول) بعض المذاهب النقدية.

وتبدو استفادة الكاتب من شاكر مصطفى واضحة على الرغم مما يزعمه، بخاصة أنه يناقش الكثير من مقولات مصطفى ويكثر من التهجم عليها جزافاً، ويتخذ من شيوع موضة الاهتمام بفن ما ليركبها وهذا ديدنه في معظم مؤلفاته( ).

ومن وجهة مصطلحاتية نجد أن المؤلف يستعمل مصطلحات غريبة عجيبة خاصة به، إضافة إلى حالة تفلت من الضبط، من ذلك حديثه عن (القصة التحليلية السردية) وهو مفهوم لا يوافقه عليه أحد..

وتلفت الانتباه مقدرته الإنشائية الواضحة، والخلل المنهجي ومحاولته أسْطرة بعض الشخوص( )، ولعل حديثه عن فؤاد الشايب مثال صارخ عن آلية مناقشته الأمور، ونظرته إليها ومما قال عنه: "لقد أوجد القصة العربية السورية على غير مثال لها من قديمنا أو حديثنا"( ).

 

وليس افتقاد المؤلف للمنهج العلمي الوحيد من سلسلة افتقاداته، بل إن ذائقة سليمة يفتقدها أيضاً، فيلجأ إلى لغة خطابية صارخة أقرب إلى المهرجاناتية منها إلى النقد أو التأريخ يقول: "أيها الأخوان القصاصون! إن المستقبل للشباب! إن المستقبل لكم!"( ).

 

ويجب ألاّ ننسى استطراداته وانشغاله أحياناً بشجرة عائلة الكاتب كما فعل مع الكيالي، ويبدو الكتاب من نوع النقد المعيق لظاهرة لم تتلامح بعد، ولا يعدم المتابع قراءة أسئلة مفيدة أحياناً إلا أن المؤلف سرعان ما يهجرها إلى طريقته في تكرار الأمور وفقدان المنهجية، واللغة الإنشائية، من ذلك قوله عن القصة السورية: "وستظل تسبي بإبداعاتها القلوب، وستظل تبهر ببساطتها الأبصار، وستظل تفتق ببراءتها النفوس، تحكي قصة الدفقة المبدعة، الدفقة الواعية لفنها.. لأدبها"( ).

صفحات مجهولة في تاريخ القصة السورية (دراسة ونماذج)

يدلّ عنوان الكتاب لمؤلفه عادل أبو شنب على ما يصبو إليه مؤلفه، لكن السؤال الضروري: هل قدم المؤلف صفحات مجهولة حقاً؟

الحق أنها ليست مجهولة تماماً، سواء القاصون أم المجموعات فقد توقف عندها د. شاكر مصطفى كثيراً. الكتاب يتحدث عن البواكير والواقعية في قصص علي خلقي، والتعرية الاجتماعية عند النجار، ويتوقف عند المسابقات ويناقش بيان الرابطة ويذكر نماذج قصصية تستهلك ستين صفحة من الكتاب (نصفه).

 

وللكتاب شيء من الأهمية التاريخية، وقد قصر المؤلف جهوده كما قال في المقدمة على ما قبل الخمسينات ومطلعها "إذا كنا وقفنا في التأريخ للقصة السورية عند مطلع الخمسينات فلأن هذا التاريخ هو الحد الفاصل بين القصة المحاولة والقصة الناضجة، إن قصة الخمسينات في سورية تحتاج إلى تاريخ مستقل في أكثر من كتاب، تقيّم فيه لا على أساس أنها بواكير أو تجارب أو بدايات، وإنما على أسس أنها غدت واحدة من وسائل التعبير ذات الوظيفة الواضحة"( ).

 

ويحرص المؤلف على الانتقائية وتحديد بعض خصوصيات القص، وتأكيد دوره الاجتماعي، وتلفت الأنظار مقدرته في القبض على عدد من الأمور والوصول إلى آراء عديدة، أما مقدرته في التحليل والرؤى التي يصل إليها فإنها متميزة، ويشير إلى جهد سابقيه باحترام، ولا يقع المؤلف في استطالات أواستطرادات بل إنه يعرف ما يريده.

 

على الرغم مما سبق فإن المرء لا يعدم وجود آراء لا تخلو من غرابة، وتشير إلى تناقض، من ذلك حين يعلق على النصوص التي أوردها تعمدت أن أترك النص كما جاء في الأصل من حيث لغته، فإذا ظهرت بعض الأخطاء النحوية فظهورها لا يعني إهمالاً في التنقيح، إنما يعني أمانة في النقل، لأن هذه القصص وثائق أدبية لا يصح التلاعب بها"( )، ثم يقول في فقرة لاحقة "أبحت لنفسي أن أتصرف في إعادة ترتيب الجمل.. استخدمت الفواصل والنقاط وإشارات الاستفهام والتعجب في المواضع التي يجب استخدامها فيها على الرغم من عدم وجودها في الأصل رغبة في وضع شكل للنص يلائم روح الكتابة في هذا العصر( ) إن تناقض هذين الرأيين يلمح بصورة ما إلى ذاتية المؤلف أحياناً التي يعلل الأمور بها حسبما يريد في مواضع عديدة.

 

السهم والدائرة:

صرف هذا الكتاب لمؤلفه محمد كامل الخطيب مجموع صفحاته للحديث عن القصة القصيرة السورية، إذ يحاول مؤلفه عبر أيديولوجية محددة، واضحة المعالم والآثار، معالجة بعض شؤون القصة القصيرة في سورية وشجونها خلال مقدمة عامة يوضح فيها رؤيته لطبيعة النقد، وطبيعة الموقف، والخاص والعام، والعكس والتمثل، مركزاً على عقدي الخمسينات والستينات، وبعد ذلك يقدم مدخلاً للحديث عن القصة السورية، ويتوقف عند عدد من التجارب القصصية (عبد السلام العجيلي) – مجموعة درب إلى القمة- سعيد حورانية- عادل أبو شنب- نصر الدين البحرة- مطاع صفدي- محمد حيدر- زكريا تامر- وليد إخلاصي- جورج سالم).

 

يقدم المؤلف لدراسته قائلاً: "تحاول هذه الدراسة السهم والدائرة متابعة القصة القصيرة تحديداً، وخلال مرحلة معينة في سورية هي مرحلة سيطرة البرجوازية المحلية الكولونيالية"( ).

 

ويدعي المؤلف أن هذه الدراسة بعد أن تأسست على جهود شاكر مصطفى تعدّ نفسها إكمالاً لهذه الجهود، لكن من وجهة نظرها ومنطلقها الأيديولوجي والنقدي الخاص بها، والعلاقة بين هذه الدراسة وكتاب شاكر مصطفى هي علاقة التتابع في الزمان لموضوع هو نفسه متطور في الزمان، لكن في مكان ومجتمع واحد.

ويظهر أن المؤلف يمتلك مقدرة واضحة في الولوج في أعماق التجارب القصصية إلا أن أحكام القيمة، وأصداء الأيديولوجية تذهب بخيرات كثير من رؤاه وأفكاره، إذ يركز المؤلف على الأرضية الماركسية وفهم الواقع الاجتماعي والتنبيه على ما وراء النص، وما يخص رؤية الكتاب لا على مكوناته القصصية، ويبدي تحمساً للكتاب الماركسيين أو المحسوبين عليهم، في حين أن الرؤية تختلف في الحديث عن سواهم.

 

وقد تنبه نبيل سليمان( ) لمعظم الملاحيظ التي يمكن أن تسجل على الكتاب من مثل عدم تقيده بالفترة الزمنية التي حددها لنفسه والتي أعلن أنه لم يدرس هذا القاص أو ذاك لأنه خارج الفترة، في حين امتدت دراساته لدى آخرين إلى فترات أخرى، مع ما يمكن أن يسجل من عدم توازن في دراسة بعض المجموعات إذا اكتفى بأسطر قليلة( ).

ويتساءل أيضاً مختتماً حديثه بعد أن يشرح الكتاب: "هل يحق لنا أن نقول بعد هذه الدراسة لكتاب السهم والدائرة إن الجهد التحليلي والاصطلاحي والتنظيري فيه جاء موسوماً بفقر التحليل ومحدوديته، وبالتسرع في سوق الأحكام وإطلاقها، وباستسهال التنظير، وبعدم مرافقة صلة ذلك بالتطبيق فضلاً عن النزعة الطبقوية الميكانيكية"( ).

وقد يكون رأي نبيل سليمان ها هنا مؤطراً بشيء من العجلة، إذ مهما كانت الملاحيظ التي يمكن قولها عن هذا الكتاب فإنه يبقى جهداً معقولاً لا يمكن أن نقابله بكل هذا التقزيم.

 

قصة السبعينات:

أصدر د. رياض عصمت كتابين عن القصة السورية ثم هجر هذا الميدان إلى ميادين أخرى، وقد أثار في كتابه هذا عدداً من القضايا التي تخص الإبداع والواقعية من مثل (جوهر الإبداع وعناصر الرؤية الإبداعية والفن في أنابيب الاختبار، والواقعية المحنطة والواقعية الجديدة وملامح القصة الحديثة) ليعرج بعد ذلك على التجارب التي سماها ما قبل السبعينات وأواخر السبعينات وهي لكل من زكريا شريقي، سحبان سواح، رياض خليل، وليد معماري، محمد خالد رمضان".

 

وتحت عنوان: على ضفاف الواقعية تحدث عن الواقعية الريبورتاجية لكل من وليد نجم وعبد الإله الرحيل، وبين الاشتراكية الواقعية والرومانسية الثورية عن حسن م. يوسف، ومحسن يوسف وبعد ذلك يتوقف تحت عنوان من الفانتازيا إلى الواقعية التسجيلية عند كل من محمد كامل الخطيب وتوفيق الأسدي، وتحت عنوانات أخرى يتناول تجارب كل من: نبيل جديد- سميرة بريك- نيروز مالك- إبراهيم الخليل- محمود عبد الواحد- خليل الجاسم الحميدي- عادل محمود- وديع اسمندر- عبد الله أبو هيف- هدى الفيل.. ويختم ذلك كله بحديث عن قصة الخيال العلمي لدى طالب عمران وقصة الأطفال لدى ليلى صايا سالم.

 

ومما يلفت النظر أن الكاتب إضافة إلى موهبته يمتلك ثقافة واسعة استطاع أن يوظفها حسبما أراد، ولم يكن يعدم الوسيلة لإيصال ما يهدف وقول ما يسعى إليه.

ولعل ذلك تجلى أكثر ما تجلى في حديثه عن سميرة بريك مثلاً، وما يلفت أكثر أيضاً مقدرته على الإقناع عبر أسلوبية تسويغية ناجحة، وكان يسهب في الحديث عن بعض التجارب، ويقصر عند بعضها حتى يبدو الحديث شبيهاً برفع العتب.

 

ومما لا شك فيه أن المنهجية التي تجلت في هذا الكتاب هي انطباعيته وتذوقه المطعمان بثقافة واسعة في علم النفس والأيديولوجيات والقراءات المتوسعة التي استطاع توظيفها حين أراد

ويبدو المؤلف في هذا الكتاب كأخيه اللاحق مشغول بإطلاق كثير من الآراء العامة وأحكام القيمة، إلا أن الواضح أيضاً مقدرة المؤلف الفائقة في القبض على تمفصلات كثيرة تخص كل تجربة تحدث عنها، وكثير مما يخص نظرية القصة، وحسبُ المؤلف ذلك.

 

الصوت والصدى:

يتناول د. رياض عصمت في هذا الكتاب أصول فن القصة القصيرة، ومواضيع القصة القصيرة السورية ومضامينها، ويصل إلى بعض الملامح النقدية، ويناقش في كون القصة شكلاً، وبعد ذلك يحط الرحال عند بعض التجارب الإبداعية عبر ثنائيات فيها شيء من الإنصاف وسواه، فيتحدث تحت عنوان "الواقعية والواقعية الاشتراكية عن العجيلي وحورانية"، وفي الفوتوغرافية يتحدث عن صميم الشريف وألفة الإدلبي وحسيب كيالي، ليتوقف بعد ذلك عند كل من غادة السمان وزكريا تامر تحت عنوان من الانطباعية إلى التعبيرية!

ويمهل الخطا عند جورج سالم، ووليد إخلاصي، وحيدر حيدر وغادة السمان، وعبد الله عبد، وعادل أبو شنب، وزكريا تامر، وحنا مينه، وأديب نحوي، وهاني الراهب، وناديا خوست.

 

ويلتقط الكاتب أموراً مهمة تخص نظرية القصة، لكن أحكام القيمة، وبلبلة المصطلح أحياناً، ورؤيته التي تحضر بحسب ما يريد إثباته لهذه التجربة أو تلك تعطي انطباعات غير حسنة أحياناً، وقد أخذ هذا الكتاب كثيراً من سمات سابقة إضافة إلى لغة خطابية طوراً، وآراء مسبقة تارة مع أثر واضح للأسلوب الصحفي.

ولعلّ إشكالية الأحكام تظهر في غير موضع، من ذلك ما تحدث به، عن تجربة أديب نحوي خلال عرس فلسطيني، ويبدو أن مجموعة الأفكار المسبقة التي يؤمن بها الكاتب أسهمت بصياغة الكتاب أكثر مما أسهمت النصوص، ويبدو أن المؤلف عارف ما يريده من مؤلفه إذ يقول: "ليس الهدف من هذا البحث، تأريخ القصة القصيرة في سورية ولا الإحاطة بجميع مراحل تطورها الجزئية، وتحليل نتاج كل من ساهم بقلمه في إغنائها واستمرارها.. إنّ الهدف الحقيقي لهذه الدراسة إذن ليس التأريخ بل التحليل، وليس التعداد بل النقد"( ).

 

وكان قد قال في كتابه السابق "منذ أن بدأتُ مهنة النقد لم أسمح لنفسي بالكتابة عن عمل يقل تقديري له عن خمسين بالمئة، وأعتقد أن أي متابع لعملي يعرف ميزتي الأساسية وآمل ألا تكون الوحيدة، وهي الموضوعية!"( ).

 

ومن أقوال الكاتب حول إحدى التجارب" ولكي لا نظلم هذه القصة الجيدة، علينا أن ننظر إليها كقصيدة نثرية وملحمية، فهي فعلاً أقرب للقصيدة بصورها وتداخلها وجوِّها وإيقاعها"( ). ومثل هذا التفسير لتميز عمل قصصي ما، وإحالته إلى أجناس أخرى وجدناه في كتابه الأول.

على أية حال إن قراءة الكتابين معاً تكشف عن همة عالية في التحليل ومقدرة إنشائية لدى الكاتب، وإن أسبغ صفات على نصوص بعض من يحب قد لا تطيق حملها النصوص، وبغض النظر عن ذلك فإن كتابي د. عصمت قد حاولا الوقوف عند القصة القصيرة السورية معايشة دون ترك فترة بين التجارب والحديث عنها وهذا يعطي صورة عن وضع بعض النقد الذي كتب في سيرورة القصة القصيرة السورية.

 

 

فكرة القصة: نقد القصة القصيرة في سورية

 

انشغل هذا الكتاب لمؤلفه د. عبد الله أبو هيف بالحديث عن قصة السبعينات وما قبلها غير أن ما يميزه هو اهتمامه بالفن أكثر من سواه، إذ قدم المؤلف كتابه بمقدمة نظرية استغرقت تسعاً وثلاثين صفحة أثار فيها معظم ما يدور حول نظرية القصة القصيرة آنئذ من مثل وظيفة القصة، الأركان المؤسسة، العلاقة مع المتلقي والتوصيل، وأجاب عنها أجوبة فيها الكثير من الإقناع والإحاطة.

ولعل مناقشته لكثير منها عبر طريقة منهجية علمية، مع إشارة في هوامشه إلى إطلاعه على معظم ما كتب في هذا الميدان من نقد عالمي وعربي يشكل جهداً محموداً للمؤلف.

ولو حاولنا التنقيب عن مجموع الرؤى النظرية التي بثها المؤلف إبان دراساته التطبيقية للمجاميع لعثرنا على الكثير منها( ).

وقد توقف المؤلف عند مجموعات كثيرة لكتاب كان بعضهم في بداياته، وبعضهم قد ترسخت تجربته من مثل (عادل حديدي- محمد خالد رمضان- محسن يوسف- عبد الإله الرحيل- حسن م. يوسف- وليد نجم- زهير جبور- وليد معماري- اعتدال رافع- ضياء قصبجي – عبد الله عبد- ناديا خوست) وتعطي بعض عناوينه صورة ما عن وضع الكتاب (القصة الاتباعية ومعنى المأساة- بلاغة القصة القصيرة- كامل الخداع وكامل الفن- القصة القصيرة ومباشرة القصد- عبء الخيال القلق وتواضعه) والكتاب أساساً مجموعة مقالات كان قد نشرها المؤلف في بعض الصحف، فكل مقالة كتبت منفصلة عن الأخرى( )، أثار فيها بعض الأفكار.. ونجد بعض التسويغ والاختلاف في المصطلح مع كثير من التحفظ تجاه التجريب غير المحسوب، والدعوة لضبطه.

 

ويلحظ أن المؤلف كان يأخذ بعض آراء الآخرين مسلماً بها دون أن يحاول مناقشتها، لكنه ينجح بإثارة أهم الأسئلة التي تواجه متلقي القصة القصيرة، ويحاول أن يثير آراءه بشيء من الحرص على التوازن وعدم الانفعال والشطح

ومن آرائه في هذا الميدان: "إن التداخل بين وظيفة القصة القصيرة واتجاه كاتبها من جهة، والموضوع من جهة أخرى قد انعكس سلبياً على تطور القصة القصيرة( ).

على أية حال يبقى الكتاب من تلك الكتب التي تعطي تصورات سريعة عن حال القصة القصيرة في فترة معينة عبر تناول عدد من المجموعات كل منها على انفراد دون محاولة الموازنة بينها أو إعطاء نبذة عن مرحلة ما.

القصة القصيرة في سورية- تضاريس وانطباعات( ):

يعلن د. حسام الخطيب منذ البداية أنه لا يريد أن يكون كتابه تأريخاً وإنما "تلمس لتضاريس الحياة القصصية وتطوراتها.. كما أنه لا يتطور وفقاً لتسلسل زمني منظم، أو وفقاً لمنهجية في الموضوعات أو في المعالجات الفنية بل يتداخل ويتقاطع"( ).

 

وقد قسم المؤلف كتابه إلى أربعة فصول توقف في الفصل الأول عند مجموعة بنت الساحرة للعجيلي، وفي الفصل الثاني عند نهوض القصة القصيرة في الخمسينات، وفي الفصل الثالث عند تبعات المعالجة القومية في القصة القصيرة، وفي الفصل الرابع عند قصة القصة في ثلاثة أعوام وهو حديث عن مسابقات وسواها.

ومن الواضح أن د. الخطيب لم يكن همه تأريخياً ولا متابعة نقدية زمانية، بل اكتفى بانتقاء بعض القضايا الموجعة في تاريخ القصة السورية، إحداها تخص البداية الفنية، والثانية ظاهرة مهمة من ظواهرها والثالثة عند الموضوع القومي الذي طالما تجلى في القصة السورية، والرابعة عند دور المسابقات وآليات الاختيار وعناصر التميز ومن ثمة حديث عما آلت إليه أمور القصة القصيرة.

 

وقد استطاع المؤلف الجمع بين هذه الموضوعات عبر منهجيته البحثية وذائقته النقدية اللافتة، إذ ترك فسحة من الحرية للمتلقي في الحكم على الأشياء مع مقدرة على الإحاطة والشمولية. وأثار عدداً من الأمور التي تخص النظرية بشيء من الخفر، مع مقدرة على الإقناع وكياسة في توجيه الملاحيظ، وساعده عليها وضوح رؤية ودقة مصطلحات.

 

وقد ضجّ مثل غيره من النقاد العرب شاكياً من بعض الإشكاليات المنهجية والاجتماعية التي يعاني منها النقد الأدبي.

ونظر المؤلف إلى القصة السورية نظرة حركية تطورية، مركزاً على الجانب الفني، مستفيداً من روح المناهج النقدية، مرتكزاً على مقدرة ذاتية واضحة إذ يذيبها لمصلحة قراءة النص العربي.

 

وقد طبع المؤلف كتابه مرة أخرى، وأضاف إليه فصولاً حول الظروف التاريخية في الثلاثينات والأربعينات، ومقالات حول مجموعة تاريخ جرح وتجارب كل من ألفة الأدلبي وحسيب كيالي وصلاح دهني وسوى ذلك، ومن طريف ما أشار إليه المؤلف في طبعته الجديدة قوله عن الطبعة الأولى "وقد نفدت نسخ الكتاب في أقل من سنة( ) ربما لأنه كان الكتاب الوحيد حول موضوع القصة القصيرة في سورية( ).

 

كتب عن الأعلام

تطمح الكتب المؤلفة عن الأعلام( ) إلى التعرض لجوانب العالم الإبداعي للقاص، ومناقشته بشيء من الاستفاضة الساعية إلى كشف ملامح التجربة.

وقد يحتاج انتشار هذا النمط من الدراسة إلى تشجيع مؤسسة إذ مثلما من الضروري أن نتناول الجنس الأدبي بعموميته فإنه من الضروري أن نتوقف عند التجارب التي تركت بصمات في هذا الجنس أو ذاك، وفي سيرورة القصة السورية لم تتح الدراسات المفصلة إلا لقلائل، وربما أسهم كون معظم أعلام القصة السورية على قيد الحياة في عدم إشاعة مثل هذا النوع من الدراسات بخاصة أن غير جامعة في قطرنا لا تنصح بدراسة الأدباء الأحياء، إضافة إلى أن مثل هذه الدراسات لن تتاح إلا لقلة قليلة حصلت على الشهرة لأسباب فنية، وغير فنية أحياناً.

ولعل قراءة في قائمة المؤلفات التي كتبت عن الأعلام توضح لنا الصورة إذ انحصرت المؤلفات بأسماء قليلة لها أهميتها إلا أنه ليس من المستحسن أن تدور حولها الدراسات فقط ويهمل سواها.

 

ومما يلفت النظر أن عدداً كبيراً من قاصّينا أحياء وغير أحياء تستحق تجاربهم القراءة والتحليل، وأن يؤلف عنهم وأن تنشر دراسات عن أدبهم، دراسات تكشف أبعاد هذا الأدب وقضاياه وخصوصياته.

وقد خصت بعض الكتب تجربة العلم المتحدث عنه بمختلف جوانبها الإبداعية، نظراً لأن عدداً من القاصّين لديهم إنتاجات إبداعية أخرى.

 

-حول عبد السلام العجيلي:

ألفّت حول تجربة العجيلي كتب عدة، وقدمت أطروحات جامعية، بعض ما نشر في كتب كان قد قدم أساساً بصفة أطروحة جامعية.

الكتب التي سنتناولها ثلاثة هي:

عبد السلام العجيلي دراسة في الفن القصصي والروائي.

جدلية الإبداع الأدبي( )

دراسات في أدب العجيلي( ).

ولئن كان الأول والثالث قد انشغلا بعالم العجيلي الإبداعي ككل، فإن الثاني تفرغ للحديث عن تجربة العجيلي القصصية من خلال منهجية واضحة، وهو ما افتقدناه في الكتاب الأول الذي ألفه عدنان بن ذريل إذ يبدو أنه ينتمي إلى علم النفس أكثر من انتمائه إلى النقد.

 

ولعل اقتطاف كلمات منه يكشف أسلوب المؤلف وآلية نظره إلى الأمور يقول "آثرنا في البحث النفسي في أدب (عبد السلام العجيلي) دراسة الوصف النفسي عند هذا الأديب القاص، والروائي الألمعي، الذي تميز أدبه بمسحة نفسية أصيلة صبغت فنه القصصي والروائي كافة، سرده، وتحليلاته وأوصافه جميعاً"( ).

ويبدي المؤلف اهتماماً كبيراً بسيرة العجيلي وما قاله، وقد خص علم النفس بفصول عديدة من الكتاب، ويدخل نفسه في أنفاق عديدة إذ يستطرد، وينسب إلى نفسه الذوق والعلم لكشف عالم العجيلي.

 

ولا يتضح من الكتاب أننا أمام باحث يريد استنتاج أشياء محددة من النصوص أو اتباع منهجية ما، بل يجد الباحث في الكتاب أنه أمام كاتب حمل مجموعة من الأدوات النفسية المختلطة، وأقبل إلى عالم العجيلي هادفاً إلى إعطاء أدواته مصداقية، وجدوى علمية( ).

 

ويبدو أن الكتاب محاولة غير ناجحة للاستفادة من علم النفس لدراسة الأدب لأنه بقي ذاتياً في الإجراء والمصطلح والرؤية، هذا إن وازناه بدراسات نفسية أخرى للأدب.

أما كتاب دراسات في أدب عبد السلام العجيلي فكما هو واضح من عنوانه فإنه مجموعة دراسات في أدب العجيلي (رواية – قصة- شعر- رحلات- مسرح) قام بتنسيقها الشاعر إبراهيم الجرادي وقد أسهم في الكتاب خمسة عشر دارساً ومبدعاً (عرباً وأجانب) تناول كل منهم جانباً من جوانب نشاطات العجيلي، وقد اختصت بضع مقالات بالقصة القصيرةوهي لكل من (يوسف سامي اليوسف / العجيلي قاصاً) و(جورج طرابيشي / العجيلي بين الرؤية والرؤيا) و(سليمان فياض/ فارس مدينة القنيطرة وأدب النكسة) و(د. نعيم اليافي / الغرابة والمصادفة في أدب العجيلي) و(سامي عطفة / صورة الغرب في أدب العجيلي).

 

إن تنوع المقالات وتعدد أسماء مؤلفيها، واختلاف المقدرة والتجربة جعل منها باقة من الآراء المتواشجة طوراً، المختلفة تارة، وإن كان الاختلاف هنا لا يفسد للود قضية. فيوسف سامي اليوسف مثلاً ينطلق من صراع المادة والروح، وأن عصرنا عصر ربوي، مؤكداً أن الإنسان مهما جرى إليه لا بدّ عائد إلى طبيعته، مستعرضاً عدداً من القصص، ولافتاً الانتباه بشيء من الحماس الانفعالي، الانطباعي التأثري لفرادة تجربة العجيلي الإبداعية وتميز عالمه القصصي.

 

أما جورج طرابيشي فإنه يريد الخلوص إلى تمكن العجيلي من بث رؤيا ما في مجموع قصصه، بل أدبه، ويصل إلى مجموعة من الآراء والقناعات التي تحتمل مزيداً من الحوار والنقاش والمعالجة.

 

سليمان فياض من جهته يتحدث عن فارس مدينة القنيطرة محاولة الوصول إلى سمات لأدب النكسة، مقدماً لقراءته بحديث عن (فروق) بين أدب النكسة وأدب الحرب، مؤكداً مكانة العجيلي، عارضاً صورة الصراع عبر استعادة الوجوه المشرقة، وتأكيد كرامة الإنسان متأنياً عند الحرب الفلسطينية والمواقف الرخيصة للكثيرين، ويلاحظ أن المؤلف جهد في لوي أعناق النصوص لجرها نحو فكرته التي يؤمن بها.

 

أما د. نعيم اليافي فتمكن  عبر رؤيته ومنهجيته وأسلوبه النقدي المعروف من التعمق في نُسُج تجربة العجيلي والحديث عن عدد من سمات قصصه عبر شغله بموضوعة قيل حولها الكثير، واختلف حولها دارسون، ووصل إلى نتائج مهمة، تتعلق أول ما تتعلق بالفرق بين الإيمان بالغيبيات والخرافة والعلمية، ومحدودية معرفة الإنسان وأثر ذلك كله في تجربة العجيلي.

 

أما سامي عطفة فقد تفرغ للحديث عن موضوعة واحدة هي (صورة الغرب من خلال مجموعة فارس مدينة القنيطرة ليخلص إلى عدد من الأمور الاحتمالية..).

ولا يمكن لمتلقي الكتاب أن يغفل كونه تكريمياً، وأن بعض مباحثه مكتوبة مسبقاً دون أن تكون مخصصة للنشر في الكتاب، لذلك هو مجموعة مقالات ضمت إلى بعض، ولعل أهم ميزة في مثل هذا النوع من الكتب أننا نجد فيها نسيم التعددية إذ تفسح المجال لمجموعة من وجهات النظر، مما يدل على حاجتنا لها نقدياً وإنسانياً.

أما الكتاب الذي تفرغ للحديث عن قصة العجيلي فهو جدلية الإبداع الأدبي: دراسة بنيوية في قصص عبد السلام العجيلي.

 

ويعد هذا الكتاب في أنصع الكتب التي ألفت عن قاصينا، ليس لأن المؤلف يظهر مقدرة تحليلية واضحة، ولا لشموليته، ولا لتخصصه بالقصص فقط، بل لأنه إضافة إلى ما سبق من الكتب التي يمكن أن يشار إليها بالبنان حين الحديث عن تحويل النقد من الانطباعية التأثرية إلى المنهجية العلمية، لكنه ليس العلم الجاف، بل العلم المرن الذي لا ينفي روح الأدب، ويحاول أن يستفيد من لب المنهج البنيوي لتحليل قصص العجيلي، ومع أن العنوان يشير إلى البنيوية منهجاً نقدياً إلا أننا نلمح أن الكاتب استفاد من معطيات غير منهج /التاريخي – الدلالي وهذا شيء مفيد على أية حال.

 

وقد تضمن الكتاب مقدمة للعجيلي ناقش من خلالها بعض آراء المؤلف وأكد الاختلاف معه حول عدد منها، ولم ينس أن يشير في النهاية إلى جهود الباحث( )!

والكتاب في الأساس أطروحة جامعية، وقد قدم المؤلف لكتابه بصفحات مهمة حول أسئلة الناقد والباحث على نفسه، وهو يراود المادة فيما يخص المنهج والرؤيا وطريقة المقاربة وسوى ذلك، وخلص إلى نتائج مهمة قد نتفق حولها أو نختلف، ولعل إثارة هذه الأسئلة يعطي نبذة عن تقنيات المؤلف ورؤيته ووعيه أدواته، و من ثمّة استفادته منها في عموم البحث.

 

وقد انقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول (العجيلي ومكوناته الثقافية- الاتجاهات الفكرية في قصته القصيرة- دلالات الأسلوب).

والكتاب ينشغل بقراءة تسع مجموعات قصصية للعجيلي( ) يجري حولها قراءاته التطبيقية التي أصابها الكثير من التوفيق وسواه!

وعلى الرغم من حديث المؤلف عن سيرة العجيلي الذاتية إلا أنها لم تشغله عن الحديث الفني!

وقد استطاع المؤلف إلى حد كبير عبر مقدراته وآلياته ومنهجيته الغوص عميقاً في عالم قصص العجيلي، وطرح تساؤلات مهمة ما كان لها أن تثار ربما لو تغيرت آلية المقاربة، أو لو نظر المؤلف إلى المنهج بعيداً عن المرونة.

 

إن أول ما يسجل للمؤلف في هذا الكتاب هو منهجيته الواضحة بحثاً ونقداً، إضافة إلى معرفته ما الذي يريده من بحثه، مما جعله ينتبذ مكاناً قصياً عن الإطالة والحشو مع وضوح في مصطلحه ولغته وآلية كتابته ورؤيته أضفت على الكتاب خصوصية ميزّته من سواه.

 

- حول زكريا تامر:

نال زكريا تامر اهتماماً كبيراً من النقاد في مختلف أرجاء الوطن العربي سواء في الكتب التي تحدثت عن القصة السورية أو العربية، ونتيجة لذلك فقد ألف عنه غير كتاب وأصدرت غير مجلة ملفاً خاصاً عنه( )، وربما أهم ما يميز تجربة زكريا تامر كونها مثيرة للجدل لا تزال الآراء تختلف حولها إلى حد التناقض أحياناً( )؟

ففي كتاب العالم القصصي لزكريا تامر( ) أول ما يلحظ فيه أن مؤلفه كان مدركاً الأسئلة التي يمكن أن تطرح عليه حول أسس الاختيار وأسبابه إذ يقول مجيباً منذ الأسطر الأولى.. لماذا زكريا تامر؟

"الإجماع العام على زكريا هو أهم كتاب الستينات ليس في سورية فحسب بل في العالم العربي" أما أسباب ذلك فتعود إلى "فرادة البناء القصصي القائم على دمج العقلاني باللاعقلاني، والشعور باللاشعور، اليقظة بالحلم، المعاش بالمتخيل "إضافة إلى "هيمنة عنصر التخييل البلاغي القائم على الصورة والمجاز والانتهاك المنظم للغة والعناصر المادية البنائية وعناصر الواقع الذي يؤدي إلى هيمنة الانفعال على حساب صرامة المنطلق العقلاني"( ).

 

ومن ثمة يتحدث عن محاذير اختياره، بخاصة التحليل التوصيفي والابتعاد عن الأحكام الذاتية، وضرورة التنبيه على الوظيفة التواصلية للبحث النقدي والمناقشات مع الآخر، وإلى أهمية الإيمان بالتواصل مع العمل عبر عدد من البنى، إضافة إلى رفضه التشريحية الوصفية بحجة إفقاد العمل الأدبي حياته، ورفض الدلالة الواحدة للعمل، ونبذ القطيعة بين الدال والمدلول والتركيز على الوظيفة.

 

وفي معرض تعليقه حول المناهج يقول عن البنيوية "إن الكثير من الدراسات البنيوية تضيع في دراسة العناصر كمكونات للبنية، وتقع في مطب الوصفية التشريحية، مستعيضة عن وظيفة البنية بوظيفة أجزائها فيحل الجزء محل الكل، ويتحول الجسد إلى جثة عندما لا نبحث عن الوظيفة الجوهرية له وهي الحياة( ). مؤكداً أهمية دراسة الأجزاء لكن بمقدار تفاعلها في نظام البنية، فالعنصر المستقل- كمايرى د. عيد – لا يحصل على وظيفة إلا داخل البنية( ).

 

ويبدو من الكتاب أن المؤلف مطلع على الجهود السابقة وعارف بحسناتها وسوءاتها، ويبدي مقدرة على الإقناع بصوغ آرائه بأسلوب متين، مشيراً إلى أن منطلقاته واضحة، وما يريده يعرفه تماماً، من أجل ما سبق فإنه يقدم نبذة عن حياة زكريا، ولماذا زكريا؟ ولماذا طريقة المقاربة؟

ومن ثمة يبحر قليلاً في تحليل قصة (الأغنية الزرقاء الخشنة) ممهلاً الخطا عند البنية السردية والدلالية في مجموعة صهيل الجواد الأبيض.. ويقف وقفة أخرى عند مجموعة ربيع في الرماد ومجموعة الرعد.

 

ويتوقف بتأن ضروري عند التعبيرية في قصص زكريا تامر، إضافة إلى وقفة عند دمشق الحرائق، والبعد التعبيري والشخصية الشعبية والسرد والمجاز والتخييل والبناء والدلالة.

 

صحيح أن عدداً من الرؤى التي تخص البعد الأيديولوجي للباحث( ) هي التي تستعبد أجزاء كبيرة من البحث، لكن المؤلف أبدى مقدرة فائقة على الولوج في أعماق النص، إضافة إلى منهجية واضحة وخبرة في معالجة النصوص والقبض على مفيدها وتمييز غثها من سمينها!

أما كتاب زكريا تامر والقصة القصيرة( ) فهو لباحثة قدمت دراسة مثل كثير من الدراسات التقليدية في تناولها لموضوعها، وقد تبدت الدراسة عبر تمهيد وثلاثة فصول، في التمهيد تناولت القصة القصيرة في سورية تناولاً لا يخلو من تعميمات فيها بعض الشطحات( ) مع محاولة لتلمس موقع زكريا تامر ويبدو أنها لم توفق في هذا القسم.

أما الفصل الأول: فقد سعت فيه إلى إلقاء الضوء على حياة القاص ورؤيته الفكرية عبر منهج تاريخي اجتماعي خلال مقالاته وكتبه.

وفي الفصل الثاني: تناولت مضامين مجموعاته القصصية الخمس التي دارت حول موقف أبطاله من المجتمع والمرأة والمدينة والتراث في ضوء الحياة السياسية، وأثر التيارات الأجنبية فيه بخاصة كافكا.

 

وتوقفت عند بنائه الفني في الفصل الثالث منطلقة من التحليل الجمالي لبنية القصة، مركزة على الحالة النفسية واللغة والوضع الاجتماعي.

وكما هو واضح من البحث فإن الكاتبة قد بذلت جهوداً موسعة لمعرفة ما حول القاص على أمل أن يكشف لها شيئاً من عوالمه، ولم تقصر أبداً في أن تستفيد من جهود الآخرين في تناوله من خلال تقليدية التناول ومدرسية التحليل.

وقد حاولت الباحثة أن تتناول عالم زكريا تامر بشمولية، وللشمولية إن لم يواكبها عمق في الرؤية ثمنها كما هو معروف، وقد توقفت عند كثير من مقالاته التي كتبها واشتكت من عدم استجابته لرسائلها (مع أن هدفها التعامل مع النصوص كما تقول)( ).

وأبدت اهتماماً استثنائياً بسيرورة حياته وأطالت النظر في الجوانب الموضوعاتية والفكرية والشخصيات و(الشرطي والقبو والغرفة والمقهى والاستلاب والغربة..)( ) وقادتها شموليتها إلى شيء من العجلة والمعالجة الأفقية المتسرعة بدلاً من التعمق..

والكتاب بصورة عامة يقدم إلماعة شاملة لعالم زكريا تامر القصصي بخاصة موضوعاته ومضامينه، وفيه الكثير من النوايا الطيبة لتحليل العديد من سمات تجربة زكريا تامر تبديها المؤلفة، ويكفيها أنها حاولت ذلك.

 

نقد نقد القصة القصيرة السورية

يُعَدّ نقد النقد ضرورة ملحة إن أردنا تطوراً في مجال النقد، إذ يقوم نقد النقد بمحاولة تقويم الكتب النقدية والأبحاث، إضافة إلى تصنيفها والتعرف إلى آلياتها وإجراءاتها، وهذا يعني من جملة ما يعني ضبط عالم النقد الأدبي وكشف أساليبه ومناهجه، وهذه خطوات ضرورية لأي تطوير يصبو إليه ذلك النقد، ويمكن لنقد النقد أن يكشف للمتلقي غثّ النقد من سمينه، ويفرق بين أنماط نقدية تتخذ من المناهج النقدية تكأة لتحليل النصوص، إضافة إلى الحديث عن دور الذاتية في التعامل مع النص.

وفي واقعنا النقدي العربي لا تبدو أمور نقد النقد بخير ليس لعدم وجوده، بل لأنه غير واضح المعالم، ويمارسه من له علاقة، ومن ليس له علاقة، ولا يزال واقع النقد الأدبي العربي لا يبشر بكثير من الخير، وإن لوحظ في السنوات الأخيرة تراجع النقد التأثري إلى جانب شيء من التطور والتقدم في ميدان النقد المتكئ على المنهجية.

ولو حاولنا إلقاء نظرة ولو كانت سريعة على نقد النقد الذي كتب عما يخص القصة القصيرة السورية لوجدناه معقولاً إذ خصصت له أطروحة ماجستير بتجلياته المختلفة( )، وخصص ناقد معروف له صفحات عديدة من أحد كتبه( )، وتناول هذا النقد بالتقويم من ضمن الحديث عن وضع النقد الأدبي في سورية( ).

إضافة إلى ما نشر في الدوريات من تعليقات وآراء ومباحث تناولت الكتب الصادرة بالنقد وسوى ذلك( ).

 

على أية حال لا يمكن لامرئ طماح إلى الموضوعية إلا أن يشير إلى نقد النقد دون أن ينسى أن نقد النقد ذاته قد يقع في بعض الذاتية واللاعلمية إن كان ما يوجهه من خارج النص النقدي المراد نقده، ومثلما تحدث هذه الإشكاليات في النقد فهي من الوارد أن تحدث في نقد النقد، وإن كان الأمر مختلفاً، والنسبة أقل، نظراً لطبيعة العاملين في هذا الميدان.

ومن الكتب التي سنتوقف عندها كتابان لنبيل سليمان وجزء من كتاب للدكتور نعيم اليافي وأطروحة ماجستير.

فيما يخص كتابي "نبيل سليمان وهما: النقد الأدبي في سورية ومساهمة في نقد النقد الأدبي.

 

نقول: لقد تناول نبيل سليمان في كتابه الأول هذا بواكير النقد الأدبي في سورية حتى بداية الوحدة مع مصر، وقد توقف عند النقد خلال تياراته الرئيسية، ولعل ذلك واضح من بعض عناوينه (الفعالية النقدية لرابطة الكتاب السوريين والعرب – معالم مختلفة على طريق النقد الأيديولوجي اليساري – تدرجات يسارية للتيار القومي في النقد الأدبي- التيار القومي الوجودي – تدرجات أخرى للتيار القومي – معالم مختلفة على طريق النقد الشكلاني".

 

وفي الكتاب وقفة مع النقد الأدبي السوري بعامة، ومحاولة للبحث في خلفياته ومناقشة لفكر النقد، وقد وعد المؤلف بمتابعة حديثه في جزء ثان لم يرَ النور بعد.

ويبدو أنه ظهر وإن كان بصورة مختلفة عبر كتاب (مساهمة في نقد النقد الأدبي) وقد قال: "ولقد سبق لي أن قدمت مساهمة في نقد النقد الأدبي في سورية، وكان في خطة تلك المساهمة التي غطت الأربعينات والخمسينات أن تفرد المرحلة التالية الستينات والسبعينات، بجزء خاص، بيد أن ما تهيأ لي من صلة بحركة النقد الأدبي العربية خلال تلك الفترة قد أكد أن التنويعات التي شهدها النقد في سورية، سواء على الشكلانية أم الماركسية أم الانتقائية، تجد حقيقتها الكبرى في المشهد النقدي العربي، ومن هنا كان النقد الأدبي في سورية، كما كان من جهة ثانية الجزء الثاني المأمول للكتاب السابق المعاصر، وبعبارة أخرى بمثابة مدخل لتاريخ جديد لهذا النقد"( ).

وقد تناول المؤلف في كتابه هذا الحركة النقدية عبر أربعة فصول هي (تنويعات على الشكلانية- تنويعات على الانتقائية- تنويعات على الماركسية- النقد والجامعة).

وتوقف عند بعض النقاد القاصين من مثل (رياض عصمت- عدنان بن ذريل- محمد كامل الخطيب).

 

ويبدو أن المؤلف كان حاداً في بعض أحكامه على جهود الآخرين التي بذلوها طوال سنوات، لكن مما يسجل له مقدرته التحليلية والتقويمية والحرص على الشمولية، وكانت جرأته ضرورية وإن خالطها بعض الجور أحياناً.

ويبقى الكتاب محاولة مهمة يشار إليها بالبنان بصفتها شاهداً على محاولة تقويم النقد الأدبي.

 

أما جهود د. نعيم اليافي فقد بدت في كتابه المغامرة النقدية، وأول ما يلاحظ فيه المنهجية العلمية، والصراحة والوضوح والإحاطة، مما جعل المادة التي بين يديه مرنة تتقبل ما يراه فيه، إذ قام بفرز المادة وتصنيفها التصنيف الذي تستحقه، ولعل الخبرة ووضوح الأدوات الإجرائية كانت عوامل مهمة في صنيعه الذي اتضح فيه إيقاعه.

وقد أعلن د. اليافي منذ البداية ما الذي سيبقيه وما الذي سيستبعده( )؟ فالمراجعات في الصحف والدوريات مهمتها ملاحقة الإنتاج الجديد، والمقالات والدراسات والأعداد الخاصة والدراسات الجامعية خارج إطار اهتمامه، وقد صرف جهوده على الكتب التي تفرغت للقصة أو خصصت حيزاً واسعاً من اهتمامها لها.

ورأى د. اليافي أن إهمال الكتب الضعيفة أمر طبيعي، وقد قسم الناقد أنماط النقد الذي تناول القصة السورية إلى أربعة هي (التاريخي) و(الأيديولوجي) و(الفني) والمقارن).

ويمكن أن يقال الكثير حول هذه التقسيمات، لكن كما هو واضح أن د. اليافي قصد الموضوع الرئيسي لاهتمام المؤلف، وقد وقفنا من قبل عند جرأته وموضوعيته حتى في حديثه عن كتابه تطور الشكل الفني للقصة في الأدب الشامي الحديث، وهو درس في نقد النقد يمكن أن يتخذ قدوة تحتذى في التعرف إلى الأخطاء وضرورة موضوعية النقد ونقده وعلميته.

 

ويمكن للباحث أن يشير إلى أن الناقد قد حرص على تقديم رؤية عامة في صفحات محدودات قادته إلى بعض أحكام القيمة التي تحتمل المزيد من النقاش وإعادة النظر( )، ومما يمكن أن يتنبه له هو ابتعاده عن الحكم على كتابي د. حسام الخطيب، إضافة إلى ضمّه كتابه الثاني المعنون (القصة القصيرة في سورية: تضاريس وانعطافات) إلى النقد المقارن مع أن لا علاقة له بالنقد المقارن نهائياً، وشتان شتان بين كتاب يصرف نفسه لنقد مقارن وكتاب يستفيد من إجراءات ورؤى نقد ما( ).

ويبقى من الواضح في بحث د. اليافي منهجيته ومرونة أدواته ضمن رؤية نقدية تعرف جيداً ما تريده وما تهدف إليه.

 

أما أطروحة نقد القصة القصيرة في سورية منذ نشوئه إلى عام 1985 للباحثة سهام ناصر:

فهي رسالة ماجستير لا تزال مخطوطة، ندبت نفسها للوقوف عند وضع نقد القصة القصيرة السورية من بذورها الأولى إلى منتصف العقد الماضي، وأول ما يلاحظ في الرسالة شموليتها واتساعها، مما تطلب جهوداً واسعة قامت بها الباحثة، وقد اتضح هذا من مرجعياتها أيضاً حيث عادت إلى مظانها من الكتب والدوريات وقد احتوت على تمهيد، ومجموعة من الفصول، حيث تم الحديث عن : تطور القصة القصيرة في سورية في الخمسينات- محاور النقد الأدبي في سورية، ملامح نقد القصة القصيرة في سورية – تطور القصة القصيرة في سورية في الستينات- نقدها في الستينات- الطروحات الجديدة في السبعينات ومطلع الثمانينات ثم توقفت عند معالم نقد القصة القصيرة واتجاهاته وبعد ذلك كانت الخاتمة.

 

وقد حاولت الباحثة المزج بين سمات المنهج العمودي والأفقي لتصل إلى مقولاتها التي تريد، وبذلت جهداً واسعاً كما هو واضح بكثير من الصبر والتأني غير أن الباحث لا يعدم وجود بعض ملاحظات لا يقصد منها تقويض ما في الرسالة، بل الإشارة إلى بعض الأمور كان بإمكانها تجنبها بشيء من التأني، من ذلك افتقادها إلى الجرأة في مواضع عديدة إذ غالباً ما اكتفت بالعرض والوصف، ولم تلجأ للتحليل كثيراً أو وضع النقاط على الحروف في عدد من القضايا، ولئن كان الوصف والتحليل مجدياً مع نقد الأدب إلى حد ما، فإن نقد النقد يحتاج إلى جرأة أوسع ومقدرة أكثر عمقاً في التحليل.

 

ومما يلحظ أن الباحثة استفادت من بعض الآراء دون إشارة( )، أو أن تأتي الإشارة متأخرة، وأحياناً تسهب في الحديث عن أحد الكتب، في حين تختصر ذلك وتهرب ومن تقويم بعض الكتب، إضافة لطول المقبوسات.. غير أن ما سبق لا يعني أنها دائماً لا تفلح في القبض على أهم ما طرحته كثير من الكتب، ويلحظ التكرار أحياناً فيما نحس أحياناً أنها بحاجة إلى التكثيف.. ولا تحرص على الاستخلاص بل تختم بخلاصة وليس باستنتاجات!

إن قراءة شمولية لمجموع ما كتب في القصة القصيرة السورية ونقدها تقود المرء إلى وضع مجموعة من الملاحيظ منها:

1- افتقاد كثير مما كتب الدقة في الحكم، وعدم قيامه على أسس منهجية، بل غالباً ما كتب في ضوء رؤى معينة قادت الكتاب إلى نتائج معدة مسبقاً.

2- عدم التركيز على الجانب الفني الذي يوضح كيف وصلت وإلى أين وصلت؟ على الرغم من أن المرء لا يعدم وجود ثلة من الآراء النقدية في الجوانب الفنية إلا أنها غير كافية.

3- الحاجة إلى تأريخ دقيق تقوده رؤية نقدية واضحة المعالم يعطي صورة واضحة عن أحوال القصة في سورية.

4- انشغال النقد إلى حد كبير بعدد من التجارب والتركيز عليها وإهمال تجارب مهمة وعدم إعطائها حقها في النقد.

5- ضرورة إعادة النظر بما قدمته جهود القاصين دون الوقوع بإشكاليات التمجيد أو التبخيس ومثل هذه الإعادة تحتاج إلى جهود منهجية.

6- الحاجة إلى قراءات في تجارب أعلام عديدين أفرزت خصوصيتها على مدار سيرورتها الكتابية.

7- ضرورة قراءة تجارب الثمانينات التي طاولها الإهمال ولم يتم تناولها نقدياً.

8- إعادة النظر في الحديث عن تجارب عديدة أعطيت فوق حقها، أو حسبت على نهج فني ما دون أن يكون لها كبير علاقة به.

9- إمكانية قراءة عشرات التجارب وفق مناهج نقدية حديثة يلحظ عدم حضورها أمام وجود مد لانطباعات اجتماعية وتأثرية.

 

 

 

القسم الثاني

 

قراءة أفقية - عمودية في القصة القصيرة السورية

  

 

اللجوء للقراءة الأفقية – العمودية في دراستنا هذه يبدو ضرورة ليمكننا من كشف مآل الفن، أين كان، وأين أصبح؟

وما هي المراحل التي مرّ بها؟

وما أبرز التحولات التي مرّ بها؟

وما أبرز التحوّلات التي ألقت بعقابيلها عليه؟

وعلى الرغم من أن الكثير يمكن أن يقال حول هذه القراءة، إلا أنها ضرورة ملحة لأسباب عديدة كنا قد توقفنا عندها في مقدمة البحث.

إنّ الإفادة من الجوانب التاريخية ليست ترفاً بل ضرورة، ولعلّ المعضلة تبدو أكثر صعوبة حين نكتفي بالقراءة التاريخية وتغيب معطيات القراءات الأخرى التي يمكن أن تتكامل معها في ظل رؤية منهجية تكاملية نسعى إليها تبدّت عبر القراءة العمودية داخل كل مرحلة.

ولا يعني التعامل مع هذه القراءة الأفقية – العمودية أن يصبح الباحث مؤرخاً، وينشغل بأمور التاريخ وينسى شاغله الرئيسي (الفن)، إذ ثمة بون شاسع بين قارئ التاريخ وناقده. وهنا نحاول أن نوضح أثر الظروف في الفن الذي هو ابن شرعي لواقعه.

سنحاول أن نرصد في هذا القسم الأمور التاريخية وعلائقها بالتطورات الفنية، والقبض على ملامح كل مرحلة، والتنبه إلى تكامل المراحل وتواشجها وتأثيرها في بعضها، وكشف نقاط الالتقاء والاختلاف بين الفن ومرحلته التاريخية.

إن مرونة القراءة تسهم في أن يتوج الحديث عن كل مرحلة بالوقوف عند جديدها والآفاق التي تسعى إليها، ومع أن التناول بدا أفقياً في السمات العامة إلا أن الغوص العمودي كان السبيل الأنجع لمعرفة سمات كل مرحلة وخصوصياتها وموضوعاتها ومقولاتها وفنياتها.

وقد لجأنا لتقسيم الدراسة إلى خمس مراحل محاولين أن يكون التقسيم بحسب مجموعة من الأسباب النصيّة والواقعية، لتغدو الأمور أكثر وضوحاً.

أما الصوى الرئيسية التي وضعت لتكون محور الحديث فهي:

"الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية المؤثرة.

"دور الصحافة والإعلام والتعليم والترجمة

"حركة النشر والظواهر والأعلام والموضوعات

"المرجعيات والمقولات والموضوعات.

"الظواهر الفنية وأسئلة الفن والتيارات القصصية والتقنيات.

وقد حاولنا أن تكون الأمثلة التطبيقية مجلى الحديث دائماً، ليتم التعرف عملياً، إلى سمات كل مرحلة، ساعين إلى أن تكون الأمثلة تعطي صورة متنوعة عن مختلف الأنماط القصصية فناً وفكراً وموضوعات.. دون محاولة تقديم أحد الأنماط على حساب الأنماط الأخرى.

وما لا شك فيه أنّ بعض المقولات العامة قد حضرت هنا أو هناك، وهذا طبيعي لخصوصية الدراسة من حيث طول زمانها وكمّ قصصها..

وبالرغم من وجود مجموعة من الضوابط العامة لقراءة كل مرحلة إلا أننا تركنا الباب مفتوحاً لاستيعاب أهم سمات كل مرحلة وخصائصها ومجموعة ظروفها العامة والخاصة، محاولين تقديم جديدها وآثارها على سيرورة فن القصة القصيرة، مقصدنا أن نتمكن من تقديم قراءة شاملة لسيرورة القصة القصيرة السورية من حيث المقولات والموضوعات والتقنيات والخصائص والسمات وهو ما يشكل المرتكز الرئيس للبحث.

 

 

المرحلة الأولى: إرهاصات القصّ الفنّي

1931-1947

لا يمتري امرؤ ساعٍ إلى تشكيل صورة أقرب للموضوعية في بذور القصة الفنية في القول: إنّ لمرحلة البذور هذه دورها المهم في ما جاء بعدها. إذ ليس المعول في تلك المرحلة على نشر هذه المجموعة أو تلك، بقدر الدور المهم الذي أفرزته معطياتها بعامة أو بكلمة أدق، أسهمت في إفرازه، والمعني به ترسيخ جملة من المفاهيم والرؤى حول مفهوم الأدب ودوره ووظيفته، إضافة إلى خلق تقاليد ثقافية، يُعوّل عليها كثيراً في مسألة التلقي.

لم يكن فن القصة القصيرة بالفن الراسخ الجذور آنئذ، ولا الفن المتأصل في نفوس الناس، فهو فن جديد، غالباً ما حاول المؤصلون تأصيله بإعادته إلى بعض أنماط الحكاية العربية القديمة( ). وإن لم يخلُ الأمر من انتباه بعضهم إلى أهمية المثاقفة مع الغرب( ).

وربما لم يكن الذنب ذنب شخص بعينه، أو ذنب واقع اجتماعي، إنه إفراز تاريخي وتحول ضروري لا يمكن أن يولد عبثاً، فالمجتمع كان يحتاج لجملة من التحولات ليغدو متآلفاً مع هذا الفن ومشجعاً له، ومثل هذا الأمر ليس ابن يوم وليلة، بل يحتاج لسنوات طويلات كي يتجذر( ).

 

ظروف المرحلة:

كانت البلاد تمر بمجموعة من الظروف الخاصة منذ بداية الاحتلال الفرنسي 1920، وما إن انقشعت الصدمة، صدمة الثقة بالغربي، حتى أدرك الناس ضرورة التعامل مع واقع جديد فرض عليهم، ليس بصفته واقعاً لا حيد عنه، بل لأن التعامل معه وفهمه ضرورة لتجاوزه والتخلص من تركاته.

 

وكان لا بد من مقاومة خطط الدولة المستعمرة التي سعت إلى تجزيء البلاد وتقسيمها ليسهل التحكم بها، وفك لحمتها الوطنية، بعد أن نجحت إلى حد ما في عزلها عن محيطها العربي. ولم تقف الأمور عند ذلك بل سعت لفرنسة البلاد عبر التعليم والنقود واللغة والعادات والتقاليد( ) وتقديم الآخر الغربي على أنه القدوة والمثل المحتذى. وجاهدت في سبيل زرع بذور الطائفية بأساليب عديدة.

 

إلا أن ما سبق لم يجد مع الشعب العربي السوري الذي أشعل الثورة تلو الثورة في مختلف أصقاع البلاد، وكان أن عُلّقت أعواد المشانق، وقتل الشيوخ والأطفال والنساء، ولم يلن الشعب ولم يستسلم وأبدى مقاومة متميزة، فحاولت آنئذ فرنسا امتصاص نقمته عبر منحه ثلة من التنازلات الظاهرية من مثل وضع الدستور (1928) وإعلان الجمهورية العربية السورية (1931) وتوقيع المعاهدة 1936، لكنها دست السم وكشرت عن أنيابها بوضوح عبر سلخ لواء الاسكندرون من غرب الوطن( ). غير أنها وجدت أخيراً أن منح البلاد استقلالها مخرج لا بد منه وهذا ما كان.

 

وكانت كثير من هذه التغيرات تجد أصداء لها في بنى المجتمع ونسجه، هذا المجتمع الذي تجاذبته تحولات عديدة، وكان يسائل نفسه موازناً بين التجربتين العثمانية والفرنسية.. ولعل تساؤلات عدداً من الأمور الفكرية والاجتماعية، إذ كما هو معروف فقد اتكأت فرنسة ومن قبلها العثمانيون على عدد كبير من الملاكين الإقطاعيين وأبناء العائلات وبعض شيوخ العشائر، وثلة من رجال الدين، في الوقت الذي صار بإمكان المرء أن يجد مجموعة من صغار الكسبة والملاك الصغار والمتنورين.

وفي حال مثل حال مجتمعنا هذا تنبثق أسئلة عديدة حول الموقع وكيفية التطور، وهل اتباع النموذج الغربي هو الحل؟ ومن ثمة هل من المعقول أن يتم اتباع النموذج الذي يحتل البلاد؟

وهل يمكن التخلص مما نحن فيه دون اتباعه؟

كيف يكون نموذجاً ومحتلاً بآنٍ واحد( )؟

إن جملة العوامل الخارجية والداخلية قد خلقت عدداً من القضايا الاجتماعية والتحررية والدينية في حركة المجتمع، وكانت حدة التناقضات فرصة لإحداث فروقات اجتماعية واضحة بخاصة أن القضايا المطروحة لم تكن لتتحمل الحياد. فكان أن أعلنت ثنائية الحجاب والسفور نفسها وهي تخفي في أثنائها نهجين فكريين كل منهما يحمل أدواته ويدافع عن رؤاه.

 

وفي الوقت نفسه كانت الحركة التعليمية الأهلية تنشط، والمدارس تزداد على الرغم من عدم حرص فرنسا على ذلك. بل الأمر تجاوز ذلك إلى إنشاء مجموعة من الحركات الأدبية آنئذ، وراح الكثير من المتنورين يعدون العدة لتأسيس الأحزاب ويجاهرون بضرورة التخلص من الأمية بوصفه مدخلاً آمناً لطريق الحرية. وانعكست هذه التجاذبات على آليات علائق اجتماعية عديدة وصلت إلى حد ما يخص الزواج والأسرة.

 

لكن لا بد للمرء من تأكيد أن غالبية هذه التغيرات كانت تختلف من بيئة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى، بل داخل المدينة الواحدة نفسها، بخاصة أنها لم تكن هينة إذ أفرزت في أطوار عديدة فريقين، أحدهما وجد أن التعلق بالنموذج الغربي هو الحل الأمثل للتخلص من المشاكل، فيما علّق الكثيرون آمالهم على مشجب التراث.

 

أما من الوجهة الاقتصادية:

فقد حاولت فرنسا أن تجعل سورية مزرعة تورد المواد الأولية للصناعات الفرنسية، وسعت إلى ربط اقتصاد البلاد باقتصادها خلال توحيد القيمة بين العملة الفرنسية والسورية الأمر الذي جعل العملة السورية انعكاساً لأزمات الفرنك الفرنسي آنئذ الذي عانى من تحولات عالمية في حين أن الفائدة كانت وحيدة الجانب. وأتيح لفرنسا تطويع جماعة الملاك لمصلحتها فقد كانوا خدماً لفرنسا من أجل مصالحهم، وازدادوا ظلماً على ظلم، وراحوا ينكلون بالشعب..

ولم تلق الزراعة تشجيعاً من الفرنسيين، أو محاولة لإدخال الطرق الحديثة لتطويرها، ولم يك شأن الصناعة أفضل منها..

وأورثت العوامل السابقة اقتصاد البلاد مراوحة في المكان إن لم يكن تراجعاً نتيجة لعوامل داخلية وخارجية( ).

 

ورافقت ما سبق أتاوات وضرائب وعقوبات كانت تفرض على المواطن بحجج متنوعة، وفي ظروف مثل هذه الظروف لا بد أن يثري فريق على حساب فريق آخر، وكانت الأغلبية تزداد فقراً في ظل أزمات اقتصادية مريرة رافقها تأثر بالنظام الاشتراكي الذي بات يعلن عن نفسه مستفيداً من بدء تشكل برجوازية صغيرة أبدت تعاطفها مع الطبقات الشعبية الصغيرة حيث راحت تجهز نفسها لأخذ دور ما بُعيد الاستقلال.

 

وكان لا بد أن تنعكس آثار الظروف التي فرضها الاحتلال على وضع الصحافة أيضاً، إذ كانت سلطات الاحتلال تسمح لها فترة ثم تمنعها، وعلى الرغم من كل هذا فإن عدد المجلات والجرائد كان كبيراً بحيث تركت بصماتها على فنون الأدب بخاصة القصة إذ شجعتها وأسهمت بانتشارها، والإذاعة قامت بدور جليل أيضاً، ونشأت على صفحات الجرائد يومذاك عدد من المعارك النقدية حول أمور مختلفة، فكرية وثقافية، وكانت تلك الصحف تدار من قبل مثقفين متعددي الاتجاهات والرؤى.

وفي الجامعة كانت تيارات عديدة متجاذبة تنتشر، غلب عليها اتجاه محافظ، تمكن في أفيائه المد القومي من الامتداد، وبرز الاعتزاز بالتراث بوضوح نظراً لوجود ظروف مشجعة من مثل الغرب وطروحاته، وارتباط البرجوازية به، وكونه هو المستعمر.. ومع كل ذلك فإن المد الثقافي الأوربي كان واسع الأصداء بخاصة الثقافة الفرنسية والروسية، وبدأت جذور الماركسية بالتغلغل( )..

واتجه عديدون إلى التراث محاولين ربط الحاضر به عبر جر الحاضر إليه طوراً وجرّ الماضي للحاضر تارةً.. وكانت القضايا تتنوع وتزداد، قضايا اجتماعية وفكرية وثقافية تتعلق بالنظرة لدور الأدب وجدوى بذور القصّ، والاختلاط، وحاجات الفرد والحرية والإيمان بإمكانات الفرد وتفتح الوعي.. وكل ذلك فعلّ الذوق الأدبي وفتح الميدان واسعاً للتحول نحو الفنية والتعددية والنزوع نحو العصرنة والتحرر..

وراح الأدب يأخذ دوره المطلوب إذ بدأ يواكب الوعي الفكري ويتواشج مع الحركات الفكرية والأدبية، وأسهمت ظروف عديدة في نمو هذا التيار أو ذاك، بخاصة بعد خيبة الأمل المريرة بوعود الانتداب( )!

ها هنا لا بد من إيضاح نقطة مهمة تتعلق بمفهوم الأدب وفاعليته ودوره في ظل ظروف مثل هذه الظروف، فالناس يومذاك كانوا معتادين على نمط معين من الأدب، محوره الرئيسي الشعر، لذا فليس من السهولة بمكان أن يتقبلوا فن القصة قبولاً حسناً منذ البداية، خاصة أن القص راح يجرؤ على الدخول في موضوعات ما كان معتاداً تناولها في عالم الأدب لأسباب كثيرة.

 

إن مفهوم الأدب كان ذا خصوصية كبيرة نظراً للموروثات الموجودة سابقاً التي كانت تعد الشعر ديوان العرب الوحيد المعبر عن طموحاتهم وأهدافهم وآمالهم.

من أجل ذلك فقد فهم كثيرون القصة على أنها التعبير عن أحداث منصرمة وبعث للماضي من الأحداث، في حين وجد عديدون فيها فرصة سانحة لقول أفكارهم ورؤاهم التي يؤمنون بها.

وفي حال غير مستقرة مثل هذه الحال راحت بعض مظاهر القصّ التجاري تعلن عن نفسها لأن مفهوم القصة الفنية لم يكن معروفاً، ولم يكن معروفاً أغايتها الإثارة والتسلية أم غير ذلك؟

لذا فإن ضرورات نشرها وسواها قد وسم كثيراً من نماذجها بميسم الأحداث البوليسية والمغامرات الغرامية التي تهدف إلى الإثارة والمتعة.. لكن مثل هذا المفهوم راح ينسحب ليحل بدلاً منه المفهوم السليم لدور الأدب، والقصة أحد أجناسه.

 

الحالة النقدية كانت تشير إلى أن النقد لا يزال في بداياته المنهجية( )، حيث كانت تسيطر عليه رؤى غالباً ما كانت تقليدية تتعلق بمفهوم النقد اللغوي وحدوده، والسجالات وثنائية القديم والجديد والاعتزاز بالتراث وسوى ذلك.

 

إن النقد لم يكُ مؤثراً في حركة الأدب التأثير الذي يجب أن يكون، وكان دوره مرتبطاً بأشياء ربما بعيدة عن النصوص، وكانت له بعض الصور الانطباعية التأثرية، ومما هو واضح أن النقد كان منشغلاً بالشعر أكثر من انشغاله بسواه، بخاصة أن الفنون النثرية لم تنل الاعتراف الذي يجعل منها أجناساً منافسة.. وقد ظهرت في ساحة النقد يومذاك مجموعة من الكتاب الذين أرادوا نقل الخلافات الفكرية إلى ساحة النقد، وذلك في ضوء الحالة السياسية والفكرية والاجتماعية السائدة، إلا أن نفحات من المفاهيم الغربية بدأت تهب عليه بخاصة من قبل بعض المترجمين دون أن ننسى الأثر البارز للصحافة في تشجيعه، هذه الصحافة التي بدأت تفسح المجال للحديث عن كثير من الأمور، إضافة إلى حرية الرأي المتاحة يومذاك..

 

أحوال القصة وهمومها:

نشر في هذه المرحلة (1931-1947) اثنتا عشرة مجموعة قصصية( )، كان فن القصة القصيرة واضحاً في بعضها، وفي قسم آخر ترجح بين الصورة والمقالة والخاطرة، إلا أنها قياساً لما سبق هذه المرحلة تلفت الانتباه، ونشرت قصص عديدة في بعض الدوريات لم يتح لها أن تلتئم في مجموعة قصصية، ومجموعة القصص المنفردة، والمجموعات يحمل بذور نضوج فن القصة القصيرة في تاريخ الأدب السوري، إن الجرأة على نشر المجموعات، وطرق موضوعات لم يعتد طرقها من قبل، والاستفادة من الاحتكاك مع الآخر جديرة بالانتباه، بخاصة أن أماكن النشر كانت متعددة، والكتاب كانوا من مناطق متعددة، وقد أسهمت الصحافة إسهاماً فاعلاً، وراح عدد من أولئك القاصين يتابع الكتابة والنشر لاحقاً، وقد طوّر تجربته وقادها إلى مصاف فنية مقبولة (أديب نحوي- مظفر سلطان..).

 

كانت أمام الكتاب آنئذٍ مهام عديدة تتصل بضرورة ترسيخ جذور الفن القصصي إذ أدرك معظمهم أن مفهوم القصة القصيرة غربي الجذور، وعلى الرغم من بدء نشاط الترجمات من الأدب الفرنسي والروسي، وبدء انتشارها سواء أكانت ترجماتها في سورية أم لبنان أم مصر، إلا أن الأدباء كانت تتناوشهم ناران، نار الصدمة مع الآخر وضرورة الاستفادة مما تقدمه ثقافته، ونار كونه محتلاً لأرضنا.

 

وسعى الكتاب سعياً حثيثاً لإعادة النظر بمفهوم فن القص ودوره، وقد اندرجت أشكال القص آنئذٍ في مظاهر عديدة، فكان بعضها بصورة نفحات رومانسية عاطفية، شكلت النسيج الأبرز لعدد من القصص، ولم تبتعد عنها النماذج التي دعيت بالقصة الصورة التي تعتمد فيض المشاعر والتأمل، وظهر نمط آخر اتخذ من الهم التاريخي والديني موضوعة رئيسية له، إذ اكتشف أن في خصائص هذا الفن ما يجعله أهلاً للحديث عن بعض آراء الماضي وأفكاره.

على أية حال، لا يمكن إلا أن نقول: إن النماذج المنشورة آنئذ قد اتسمت بالجرأة التي تبدّت في محاولة ترسيخ جذور الفن أولاً، إضافة إلى طبيعة الموضوعات التي تناولتها إذ وقع بعض الكتاب في صدام مع أفكار المجتمع ثانياً، فيرى عديدون أن ليس من دور الأدب فضح القشور، في ظل فهم للأدب حيّك على مدى قرون.. غير مدركين خصوصية فن القصة القصيرة، ولعل هذا الصراع قد وضع القصة القصيرة السورية في إطار لا تحسد عليه دائماً، إذ قيدَتْ الأمور إلى منتهاها، وراح القاصون يحملون قصصهم مجمل أفكارهم فنشأ لدينا في الخمسينات نمط من القصص لا يختلف كثيراً عن البيان السياسي أو الاجتماعي.

 

صحيح أن القصة في سورية قد أخذت دوراً خاصاً تجاه المجتمع لكن لكل أمر حدوده.. وفي حال مثل هذه الحال، بدأ القصّ التجاري ينسحب أمام جمهور لم ينفر من هذا التحميل للقصّ، بل بدأ يعيد النظر بمفهومه للقصة إلى أن حدث التوازن بمرور الأيام.

 

وكان لا بد للقصة وهي التي عدّت صيغة تعبيرية مهمة من المشاركة بجديد هذا المجتمع وتموراته، وأسهمت بصورة مباشرة طوراً، وغير مباشرة تارة بمجمل الصراعات التي تخص القديم والجديد، وحدث كثير من التواشج بين الوعي الأدبي والفكري والاجتماعي والسياسي، يمكن رصده في نصوص عديدة( ).

وشجعت الصحافة مثل هذا الدور، ورسخته( )، على الرغم ممّا كانت تعانيه من عسف وظلم ورقابات عديدة، ولم يكن من السهولة بمكان يومها التخلص من مخلفات التعقيد اللغوي والبلاغي المتراكمة ومنتجاتها.

 

إن كماً هائلاً مما نشر يومذاك في الدوريات لم يتح له أن ينشر في مجاميع بالرغم من أنه متميز فنياً( )- وهذا وارد في كل مرحلة – لكن في مرحلة البدايات له أهمية خاصة، وكان أن نشر بعضهم بعد ذلك بسنوات طويلة مجاميعهم.. وما وقوفنا في هذه المرحلة دون سواها عند القصص المتفرقة إلا لأهمية ذلك في مرحلة البدايات، وكيلا نفوت على بحثنا فرصة الحديث عن قصص مهمة لكتاب ما استطاعوا جمعها في كتب.

إن الهم الاجتماعي كان من أبرز الهموم التي شغلت القاصين، وتجلى ذلك عبر نقد ما يقوم به الناس وبعض العادات والتقاليد، وكان الديدن الرئيسي لهذا الهم الإشارة إلى الآثار الاجتماعية المأساوية على العلائق بين الناس.

مثلما انصرف عديدون نحو معالجة الهموم الذاتية ذات البعد الإنساني التي تتعلق بمدى مقدرة الذات على الانسجام مع المجتمع، وما تكابده هذه الذات نتيجة بعض العادات والتقاليد. وراح قاصون يتحدثون عن هموم تاريخية، فيما انشغل بعضهم بالصدمة مع الغرب وتأكيد الفروقات، وكذلك تأكيد ضرورة الاحتكاك.

وبغض النظر عن كل ما يمكن قوله عن القصة وموضوعاتها ومقولاتها وإشكالياتها يومذاك لا بد من تأكيد أن القصص آنذاك هي بنت ظروفها، وعصرها، وبنت محاولة ترسيخ الفن وتجذيره، وبنت الانشغال بهموم المجتمع والذات وبدايات التلامح والتكون( )، لكن مما لا شك فيه، وهو ما يلحظ أول وهلة، أن الضعف الفني خيّم على مجمل القصص، إضافة إلى عدم وضوح الرؤية، وارتباك مفهوم القص ودوره في جلّها.

 

تجارب ومجموعات:

ربما يبدو مفيداً أن نتوقف عند بعض القاصين من أجل توضيح مفردات لوحة البذور الفنية أكثر، فعلي خلقي صاحب أول مجموعة مثلاً، مزج حياته بقصته، وهو الذي عاش حياة حافلة بألوان العذاب والمعاناة( ) وكان قد اطلع على نماذج تراثية وغربية.

 

لقد توقف عند بعض المشاكل الاجتماعية معبراً عنها بكثير من الصراحة من ذلك قوله: "الحق أقول لكم لم أكن أنتظر من صديقي (أ.د) هذه الجرأة وهذه السرعة بوضع خطة خطرة مثل هذه، ولشد ما كان دهشي عظيماً عندما شاهدت على سيمائه دلائل الجد والثبات فقلت: أتبصر يا أخي بما تقول! إنك ابن أسرة عريقة في المجد فلا يليق بك الاقتران بفتاة لقيطة تجوب الحانات، ولا أخال أن أقاربك يتركونك تقترن بها. فامتعض من حديثي وقال بشيء من النزق والغضب دعني من أقاربي.. فلا دخل للأسرة فيما يختص بالقلب والشعور. قد أحببتها وهذا يكفي لتكون زوجتي. وهنا انتهى الحديث كما انتهت زجاجة الوسكي التي كانت أمامنا"( ).

لا شك في أن التعبير يبدو بسيطاً، وربما سطحياً، لكن تحسس المشاكل الاجتماعية ومحاولة التعبير عنها يعد أولى خطوات التغيير، وقد عدد بعض الدارسين ميزات قصص علي خلقي من مثل الاهتمام بالجانب الفني، والتركيز على الأزمات النفسية وسهولة اللغة ومحاولة الاستفادة من التركيب التخييلي، على أن المرء معني بتأكيد رهافة حس علي خلقي وانفعاليته في التعبير أحياناً.

 

وقد عنون (خلقي) قصصه بعنوانات تشير إلى مضموناتها غالباً

(العم طنوس- مونولوج منثور- فتاة الحانات- على طريق زحلة-

مذكرات ممثل يائس)( ).

 

ومن قصة مونولوج منثور يمكن أن نأخذ مقبوساً يكشف شيئاً من آلية كتابته ومفهوم المرجعية وأهمية الأحداث المعيشة في قصصه: "سيداتي سادتي..، بدون كلفة أرجوكم الإصغاء كلمات وجيزة لا هي نحوية مملة، ولا هي من الكلام الدارج بين الطبقتين، هذه مقدمة صغيرة لا بد منها لكل خطيب "يمر بيده على رأسه ثم يمسح كفه بمنديله الأحمر الكبير" أعيد قولي، سيداتي سادتي قصتي صغيرة وقصيرة جداً بحسب تعريف أهل الأدب، كان، ولم يزل لي ابن أخ، وأنا عبدكم الواقف أمامكم لم أتزوج، ولم أتذوق معنى الزوجية بعد، عشت عمري عازباً حتى أتملص من تبعة الأولاد لأنها كما يعتقد فيلسوف الشرق السيد أخونا أبو العلاء المعري. عبء ثقيل، إذ قال طيب الله ثراه هذا جناه أبي علي. ولكن وآسفاه لسوء حظي وسواد بختي ونكد طالعي بليت بابن أخ. بليت بشاب مهذار، ثرثار يسهر الليل وينام النهار"( ).

لقد تمكن علي خلقي من التقاط مجموعة من الحالات الاجتماعية، فقد صور علاقة الرجل بالمرأة في قصة (فتاة الحانات)، ودور الحالة المادية والانتماء الطبقي في اختيارات الحب والزواج، أما في قصة (مونولوج منثور) فقد عرض لحالة طالب ذهب إلى فرنسا ليدرس هندسة الخطوط الحديدية ثم اكتشف أهله أنه درس هندسة (الشوارع)!

وحين عاد حاول أن يعيش حياة الغرب هنا لكنه رد عليه، "نحن لنا في الشرق عادات غير عادات الغرب، هم يكتبون من اليسار إلى اليمين ونحن بالعكس، وهم يعطون الخدم الطوابق العليا ونحن نحجزها لأنفسنا"( ).

 

إن تجربة علي خلقي تشكل مفصلاً مهماً في طور الانتقال من القصة ذات البعد الرومانسي إلى القصة الطامحة في الدخول في خضم مشاكل الواقع بحيث تعد مجموعته ربيع وخريف أول مجموعة تحمل بذور القصّ الفني وتعلن عن نهاية مرحلة وبداية مرحلة لها علاقة بفن القصة القصيرة.

أما القاصّ محمد النجار( ) فقد كان يؤكد في بداية كل قصة من قصصه أنها مستمدة من الواقع الأمر الذي كاد يوصلها إلى مستوى المادة الصحفية التي تحاول نقل واقعة ما، وتأكيده هذه النقطة يشير إلى مفهوم القصة آنئذ وحرصها على الانتماء للواقع أكثر من انتمائها للتخييل..

 

ومعروف أن قصص النجار كانت لا تخلو من جرأة وحدة في طرح القضايا الساخنة، متحدثاً عن عديد من الجوانب الأخلاقية، وقد وُوْجِهَ كتابه (في قصور دمشق) بهجوم حاد، نتيجة موضوعات قصصه التي من عناوينها: (الجثث المتدحرجة – الموظف الذي تاجر بمصاغ زوجته – الحاجة أنيسة – نظف رائحة فمك- غرام قديم – سر الهاربتين- همسات بردى- خدامو الإنسانية- كيد الرجال..)

والحق أن قصص النجار هي حكايات أكثر منها قصصاً، ربما كتبت لتُسْمع، وتلقى شفوياً فهو يقدم شروحات مفصلةً عن البيئة والزمان والمكان.. وقد شغلته علاقات الرجل بالمرأة، والأغنياء بالفقراء، والأمهات بالأبناء، والآباء بالأجداد.

وقد حاول إعطاء قصصه أبعاداً شعبية عبر الأمثال والكلمات العامية.. وشكل هذا محاولة كسر للأسلوب السائد آنئذ.

يقول النجار في فاتحة إحدى قصصه وهي بعنوان (يزني ويتصدق):

"وعدتك يا دكتور أن أحدثك بهذه القصة التي قلت لك بالأمس إن قصتك إزاءها (لوز وسكر) والآن اسمع: في يوم من أيام عام 1930 بينما كنت أجتاز خان الباشا – شارع معروف بهذا الاسم – بخطوات هادئة صادف أن كان يمشي أمامي وعلى مقربة مني أربع سيدات من الصنف الموديرن – وكن يمشين بصورة جدية متزنة لا أثر فيها للغنج والحركات، مما يدل على أنهن من الطبقة الأرستوقراطية – وكنت ألحظ أكثر عيون الطبقة القديمة ترمقهن بشيء من التبرم وعدم الرضا بهذه الموضات الحديثة"( ).

إن هذا المقبوس ينقل لنا حالة اجتماعية يتجاذبها تياران: الأول يريد كسر ما سبق والتجديد، والآخر غير راض عن ذلك.

 

وقارئ قصص محمد النجار لا بد من أن يلاحظ ولعه في الحديث عن جوانب جنسية من حياة الرجل والمرأة، هادفاً إلى فضح بعض الطبقات الاجتماعية، معتمداً أسلوب الإثارة، مؤثراً نقل الحوادث في تجلياتها الخارجية، وهو يقدم صورة عن بعض الجوانب الفكرية والأخلاقية السائدة آنئذ..

ومن القاصين الذين نشروا قصصاً منفردة آنئذ القاص مظفر سلطان الذي تتكئ معظم قصصه( ) على حكاياتها المعتمدة على عناصر شفاهية عديدة، تخص التشويق والأسلوب الحكائي الشفهي والتوجه مباشرة للمتلقي، وتأكيد واقعية الأحداث، وأنها حدثت فعلاً، ويحاول (سلطان) الابتعاد عن التخييل الذي يبدو ضعيفاً في أنحاء قصصه، ويحرص بصورة ما على انتماء الأحداث للواقع، ربما أكثر من انتمائها إلى القصّ الفني، وبناءً على مجمل المعطيات السابقة فإن مظفر سلطان يختار لغة جزلة لتقديم قصته، تتمثل جزالتها عبر آلية تركيب الجملة، إضافة إلى اختياره الألفاظ.

 

ولا يبتعد مظفر سلطان في قصصه التي نشرت لاحقاً عن جملة سمات عرفت بها قصته ولا يحاول التطوير، وهي تتمثل بشيء من الإسهاب والاستطراد الذي يُقْبلَ شفهياً، وشيء من الشرح، إضافة إلى الكثير من الخطابية الملائمة للشفاهية، والمباشرة في القصد دون الاستفادة من الإمكانيات الإيحائية للغة. ومثل هذا النمط يتكئ غالباً على مقولته ومضمونه، وإن جيء بإدهاش فإنه يُسْقَطُ إسقاطاً.

 

ويرى د. شاكر مصطفى أن "هيكل القصة عند سلطان يرسم بعناية، ويتسق خطوات، وحنايا قبل البدء بالكتابة. ثمة تصميم هندسي متسق، متماسك تشعر بمنطقه وحدوده في كل قصة، سواء كانت "لحظة" ملتقطة من تيار الحياة، لقصصه الأولى أو (درامة) كاملة كقصصه الأخيرة.. ولا يتقيد سلطان بالتقاط الحدث من زاوية معينة أو على طريقة واحدة ، لقد يجابهه في لحظة مأزومة وينظر إليه من خلالها، أو يطلقه من التسلسل الزمني الذي يخلق فيه"( ).

 

ولا شك في أن تجربة مظفر سلطان قد اتضحت لاحقاً، لكن بقيت ضمن حدود ما وضعه هو لنفسه من حدود وأطر.

ولم يكن مظفر سلطان الوحيد الذي نشر قصصاً، ولم ينشر مجموعات آنئذ، بل هناك أسماء أخرى منها: ليان ديراني الذي يمثل نموذجاً حسناً من نماذج البدايات التي ارتضت أن تبقى ضمن مجموعة من الأطر والحدود الكتابية أو بقي مخلصاً لذلك، حيثُ رُسِمَت في ذهنه القصة وهي معجونة بمقولتها الصريحة التي تؤرقها ثلة من الهموم التي ارتبطت بالبدايات بخاصة أنه عاش حياة لا تخلو من صعوبة، ودعا إلى مواجهة الهموم الاجتماعية، وبعض العادات والتقاليد بكثير من المباشرة.

ويمكن لنا أن نأخذ مقبوساً من قصة بعنوان (أنا عامل) "قلت لأبي في مساء ذلك اليوم: لو تعلمت صنعة وخلصت من البطالة..

فلم يدعني أتمم عبارتي، بل قاطعني بصوته الهادئ: ولكنك بعد الشهادة، لا تقدر على إتقان أي صنعة، وصمت كأنه يود أن يقول لي: لو شئت أن أعلمك صنعة لما أنفقت عليك كل هذه النفقات وأضعت لك الأيام سدى، ولكنه لم يقل شيئاً من ذلك، بل آثر الصمت الطويل، وأخيراً قال: إني لا أزال قادراً على العمل وإني أشتغل.

لا شك أن أبي كان كثير الإيمان بالمستقبل، جسوراً، أما أنا فكنت أرى أن إخوتي يكبرون بسرعة، ويتطلبون من النفقات مثلما كنت أتطلب، وكنت أرى أبي يسير إلى العجز بخطوات سريعة، وقد تحقق ظني، فقد مرض بعد أسبوع واضطر إلى ملازمة الفراش، وكانت أمي لا تنفك عن ترديد التعاويذ وتعيد ما تعرفه من الآيات، كانت تدعو لي كل النهار، أما الحقيقة الواقعة فهي أن أبي لم يعد يصلح لعمل فقد أصيب بالفالج وانقطع كل أمل في شفائه"( ).

 

لقد انشغل القاص ليان ديراني بالقضايا الاجتماعية، وحاول التعبير عنها بكل ما أوتي من مقدرة وبدا في بعض قصصه بعد رومانسي حاول من خلاله معالجة ما يعتور الإنسان من مشاكل، بخاصة أنه انشغل بهموم الإنسان المسحوق، وقد بدا أن تجربة ليان ديراني قد تطورت لاحقاً إلا أن عدداً من سماتها الأولى بقي مرافقاً لها، ولا يمكن لمتابع إلا أن يشير إلى دوره في التعبير عن الهموم التي كانت تشغل بال الإنسان آنئذ، لا سيما قضايا المرأة والعامل وبعض العادات الاجتماعية( ).

إن معظم قصص ليان ديراني تبدو أشبه بالبيانات الاجتماعية المزنرة بالشرح المسهب عن أحوال شخوص وظروفهم الاجتماعية، وقد كان يجذبه حس إنساني ذو بعد رومانسي شفيف، غالباً ما تكون تبعاته وخيمة على بناء القصة الفني.

 

أما القاص الآخر الذي نشر قصصاً متفرقة آنئذ لكنه لم يجمعها في مجموعة نهائياً فهو ميشيل عفلق، الذي يبدو أنه من القاصين الذين كان يمكن أن يكون له شأن عظيم لو تابع كتابة القصة القصيرة، بخاصة أن قصصه المنشورة آنئذ تشير إلى موهبة متميزة، وقد وصفه د. شاكر مصطفى أنه "السمفونية التي لم تتم في الأدب العربي الحديث"( ).

ويبدو لقارئ قصص ميشيل عفلق على قلتها أنه يجيد البناء الفني إجادة عالية "ويتماسك بناء القصة في عناصره الأساسية والجزئية (الهيكل العام واللقطات الجانبية)، ويشد بعضه بعضاً ليشكل وحدة عضوية منسجمة متوافقة، كل عضو فيها له دوره وله أهميته، ويتوجه الجميع نحو خلق الأثر الموحد المركز والكلي الذي أراد عفلق أن يتركه لدى القارئ"( ).

 

ويمكن لنا أن نأخذ المقبوس التالي من قصة بعنوان "الصفعة".

"تزوجها وهو في الخامسة والعشرين فذهل بها عن كل شيء، وكانت ابنة ضابط قديم، يزهو والدها كلما رأى طبائعه العسكرية تظهر في ابنته، فما مضى بعض الوقت على الزواج، حتى كان الزوج أمامها أشبه بقلعة مهدمة السوار، كان أبوها يعاونها على تهديمه… لقد كان عوني بك كبير الآمال يحلم أن يكون مخترعاً كبيراً.. فانتهى به أن يكون أستاذ رياضيات له لقب بك و 14 ليرة في نهاية الشهر "( ).

إن أسلوب القاص لافت من حيث جملته المكثفة، أو اعتماده على المفارقة، ومثل هذه الجوانب نعرف قيمتها أكثر إن نظرنا إليها في سيرورتها التاريخية..

ومن آلية كتابته للقصة يقول د. شاكر مصطفى "كان يكتب قصصه عفو القلم، ينتزعه صديقه من البيت إلى إدارة الجريدة وبينما أسنان المطبعة تنتظر، كانت القصة تستقيم وتتكامل وتلقى إليها ورقة ورقة"( ).

إن المقبوس السابق يشير إلى أمرين أولهما دور الموهبة المتفردة في الكتابة، وثانيهما: ما يمكن أن تقوم به الصحافة من تنشيط للحركة الأدبية.

وتابع د. مصطفى حديثه عن الجوانب الفنية في قصصه واصفاً إياها بأنها "تخلصت من الأسلوب الرومانتيكي سواء في فهم الحياة أو في التعبير عنها.. ثم إن هذه القصص كانت فتحاً جديداً في الأدب. وفي القصة بوجه خاص، إنها النماذج الأولى التي أثبتت أن القصة يمكن بل يجب أن تكون جماع الأدب كله، كانت التعبير العملي عن المفهوم الحديث للقصة الأدبية( ).

 

وهناك نمط من القص شكل حضوراً يومذاك هو القص التاريخي الذي حاول أن يحقق وظيفة خاصة " ولعل وظيفة القصة التاريخية في سورية تظهر واضحة في العصور التي توجهت إليها، إنها ركضت إلى عصور الألق والوضاءة، إلى البطولات الكبرى (الأرناؤوط) وإلى مواقف الدين والخلق (الطنطاوي) وإلى الحياة الماتعة الزاهية (المنجد)"( ).

 

وهذه القصص عرفت بالاهتمام بالحادثة التاريخية وتأكيد المقولة وخفوت في التخييل عبر لغة مفصحة..

وهذا بدا واضحاً في ما كتبه علي الطنطاوي الذي سيطرت على كتاباته الروح التأريخية التمجيدية "إن العقلية التاريخية.. هي التي تحكم حروفه وصوره وهو يكتفي من كل عصور التاريخ بالتاريخ الإسلامي، محاولاً التحليل، والتأكيد على الحوار الذاتي وبعض النواحي التشويقية التي يضعفها الصراخ والمباشرة"( ).

ورغم ذلك يبدي المنجد رأياً جريئاً فيما يخص التجديد وعلاقة القديم بالجديد "فليس التجديد تعصباً للأدب الغربي وجهلاً للأدب العربي.. خذ من الأدب العربي القديم ما شئت، واعرضه عرضاً حديثاً، يقره الفن ويرضاه الذوق، ويجاري العواطف ويلائم الأفهام.."( ).

والقص التاريخي في كثير من تجلياته له إشكالياته التي تتمثل بتفضيله القديم على الحديث، واستحضاره شخصيات قديمة تكون هي القدوة والمثل، إضافة إلى أن بعض صوره لا يعني لها البناء الفني أكثر من توصيل المقولات والمواعظ التي يريدها الكاتب، إلا أن هذا القص التاريخي عاد وتطور وبقي حاضراً في القصة السورية على امتداد سيرورتها.

 

ولا بد من الوقوف عند مجموعة "تاريخ جرح" لفؤاد الشايب التي عدها بعض الدارسين صالحة لتكون البداية الفنية الواضحة المعالم للقصة السورية، وتحتوي مجموعة من القصص المتنوعة المواضيع، ومما يلحظ في تجربة الشايب حرص على التأنق في اللغة، والأسلوب، والحديث عن بعض الخبرات الشخصية في الأمور النفسية، ويلحظ أيضاً أن الشايب حرص على توضيح مفهومه لفن القصة القصيرة وخصوصيتها، وقد كانت رؤيته مؤثرة إلى حدّ جعلت أحد الدارسين يعلن أن شهرته تعود إلى رؤاه الفنية وأشياء أخرى.( ).

 

وقد تناوشت قصص الشايب ثلة من الهموم ذات الأبعاد الوطنية والاجتماعية والذاتية والتي تواشجت في مواضع عديدة، وقد جمع الشايب في قصصه ثقافته الغربية وجذوره العربية، وعبّر عن هموم اللقاء بين الشرق والغرب، وبعض المسائل النفسية والفلسفية إذ يعلو صوت المؤلف في مواضع عديدة، على أصوات الشخوص، ويظهر اهتماماً بالتفاصيل ليس من الضروري أن يخدم عموم بناء القص الذي يبدو مسترسلاً في مواضع عديدة مضفياً شيئاً من ملامح السخرية على بعض هذه التفاصيل التي يسعى من خلالها لتقديم البيئة والجو العام لأحداث قصته( ).

ولنأخذ مثالاً من قصة تاريخ جرح:

"قال الصديق المحامي بعد ساعة تأمل وتدخين : هل لاحظت كيف هربت الطفلة من الجندي؟ قلت : نعم. إنه مشهد غريب! قال: لقد كانت تبكي وتتعلق بأذيال المارة طلباً للنجدة، كأن الجندي لا يمشي في الطريق إلا ليحصد أرواح الناس.

قلت: وعبثاً حاول الجندي، بكل ما أبدى من عطف ورقة، أن يرد على الطفلة صوابها، فقد كانت تستر وجهها بكفيها، وتزداد نحيباً.

قال ألا ترى أننا لسنا، عند الضرورة، أثبت روعاً من هذه الطفلة المسكينة؟

قلت: على كل حال، فالطفلة لا شك نشأت في بيت أخوف ما يخاف أهله، الجنود. وهم يحتالون على أطفالهم ليسكتوهم، بالبعبع.. بالجندي.

قال: أؤكد لك أنني أخاف الجنود، وكل من لبس بزتهم، وأزرارهم، ومهمازهم. ولعلني لا أجهل لماذا أرهبهم"( ).

إن تجربة فؤاد الشايب تشكل لبنة أخرى مهمة في بناء البذور الفنية المتميزة في تاريخ القصة القصيرة السورية، ومهما قيل فيها فإن المرء لا يمكن أن يتجاوزها دون أن نقع في الوجهة المعاكسة المتمثلة بوصفها أنها خارج زمانها( ).

 

سمات المرحلة:

إن التجارب التي أعلنت عن نفسها في هذه السنوات القليلات لها دورها الذي لا ينكر في ما جاء بعدها، وما كان لما جاء بعدها أن يكون في صورته التي ظهر فيها لولا هذه البذور، وهذا معروف جيداً في تاريخ الفنون والآداب وتشكلاتها التي لا تنشأ دفعة واحدة، بل عبر مراحل متتالية ضرورية ولا غنى عنها لتطور الفن.

بكلمات قليلة يمكن للمرء أن يعدد ثلاثة تيارات تجاذبت بذور القصة الفنية السورية، حاول أولها أن ينحو بها منحى واقعياً ريبورتاجياً، صحفياً، اهتم بالتوثيق وبنقل الوقائع بحرفيتها، وكان يؤكد متى أتيحت له الفرصة واقعية أحداثه وانتماءها لمرجعية ما..

والتيار الآخر كان أيضاً ابن زمانه حيث انشغل بالأبعاد الرومانسية للأحداث محاولاً الاقتراب من الواقع عبر معالجة الأمور بوجهة لا تمت إلى الواقع بكثير من الوشائج، معولاً على رسالته الإنسانية وأهدافه السامية التي تقوده أحياناً للنظر إلى الأمور بوجهة نظر خاصة، بل خاصة جداً.

 

والتيار الثالث ابتعد كثيراً أو قليلاً عن واقعية الأحداث ورومانسيتها إلى الماضي بصوره العديدة، ربما ليحضر صوراً ماجدة أحياناً وبطولات واستعادات وبث شيء من روح الأمل أو الرغبة بإعادة كتابة أو تمجيد شخوص، منشغلاً بالكثير من الوعظية والتعليمية وتأكيد مقولاته، علماً أن التيارات الثلاثة بتجلياتها المختلفة ليست منفصلة، والحدود بينها ليست ثابتة، بل إننا نجد كثيراً من التداخل، وما تقسيمنا إلا تأكيد الخصيصة الغالبة على هذه التجربة أو تلك، لأن النسبية سمة ملازمة للكثير من الأنماط الأدبية والفنية..

وربما صار من الضروري الآن محاولة تحديد بعض الخصائص العامة التي وسمت الكثير مما قدم يومئذ من قصص يمكن إجمالها فيما يلي:

وتأكيد الرسالة والمقولة المقصودة، حيث كانت تشكل محوراً رئيسياً في بناء القصة، ونتيجة لأهمية هذه المقولة فإن القاصين كانوا لا يألون جهداً في الاهتمام بها، مما قادهم أحياناً إلى تأكيدها بالمباشرة، وكانوا يقعون في شيء من الصراخ. ومثل هذا التأكد للرسالة داعب عدداً هائلاً من القصص، إلا أن قسماً آخر لم يتضح في ذهنه بعد مفهوم القصة ودورها فأبقى على جانب الإثارة، والحديث عن العواطف والانشغال بمتعة القص ودوره في التسلية والإمتاع بغض النظر عن الرسالة، بل أحياناً تسطيح الأمور والتركيز على الانفعالات( ).

 

لم تتخلص قصص كثيرة من الآثار السلبية الأدبية الأخرى، لأن عدداً منها يكاد يختلط بالخاطرة، وقسماً آخر ربما يتشابه والمقالة، مع ملاحظة الأثر اللغوي البارز من حيث الحرص على اللغة الجزلة في بعض المواضع، ومحاولة بعضهم استعمال لغة مبسطة تستفيد كثيراً من الألفاظ العامية، مع بدء التنبه لإمكانية استعمال لغة فصيحة مبسطة، ويلحظ أن شيئاً من بذور السخرية يمكن أن يراها المرء بخاصة في القصص التي أخذت طابعاً اجتماعياً، هذا الطابع الذي تجلى في عدد عظيم من القصص إذ شكل نقطة مهمة في الموقف من الواقع وعاداته وتقاليده حاملاً اصطدام الفرد وطموحاته بمعطيات المجتمع ومتطلباته، وإن قاد ذلك في أحيان كثيرة إلى بعض الوعظية والتعليمية التي داعبت هذه القصة أو تلك وهذا يبدو مقبولاً في البدايات إلى حدٍ ما.

 

"إن النظر إلى القصص بعين فنية محض دون مراعاة زمانها وكونها بذوراً فنية لا يبدو منصفاً لها، ويكفيها أنها شاركت بصورة أو بأخرى في ترسيخ جذور الفن.

"قد تابع عدد من القاصين إنتاج القصة إلى عقد التسعينات (أديب نحوي مثلاً) فيما توقف بعضهم (فؤاد الشايب)، وبدا أن بعضهم اكتفى بدوره الريادي هذا، فيما نجح (نحوي) مثلاً في ترسيخ تجربته وتطويرها حتى رسا على أسلوبية معينة عرفت تجربته بها، إضافة إلى انشغاله إلى حد كبير بالموضوع الوطني والقومي.

"إن النظرة الموضوعية تتطلب منا أن ننتبه للظروف التاريخية، فإصدار المجاميع القصصية لم يكن عادة قد ترسخت، إضافة إلى عدم وضوح مفهوم القصة ودورها.. وأشياء أخرى كثيرة تتعلق ببذور الفن أي فن، ولئن قبل الدارس كثيراً من الأمور في البدايات ومرحلة (البذور الفنية) فإنه بعد ذلك لن ينظر بالعين ذاتها، لأننا نطمح إلى تطور في الفن، ولا نريد الثبات، لأن الثبات في الفن غالباً ما يعني التراجع!

 

 

المرحلة الثانية: نتوءات الواقعية

1948-1958

مقاربة القصة القصيرة في هذه المرحلة تعني من جملة ما تعني القبض على مسارات التشكل الأولى في مرحلة لها الكثير من الخصوصية النابعة مما أنتج آنئذ أولاً، ومن طبيعة المرحلة ثانياً.

والدائب في رصد المنتوج القصصي لهذه الفترة سيحاول تقسيم معطيات المرحلة إلى مجموعة تقاسيم تمكنه من تناول تجاذبات متنوعة أعلنت عن نفسها يومذاك، وهذه التقاسيم تبدت من خلال المحاور التالية:

-كتلة الظروف المنتجة أولاً.

-التقاطعات التي نمت في أجوائها القصة القصيرة وتركت أثراً قلّ أو كثر مع محاولة القبض على مجموع الآثار، أو بكلمات أخرى: العوامل المؤثرة في المنتوج القصصي ثانياً.

-المجموعات القصصية( ) ثالثاً وهي تشكل ظاهرة لافتة قياساً إلى ما سبق كماً، واستقراراً فنياً إلى حد ما، وإن لم تستطع التخلص من كثير من الترهلات الموروثة والمفاهيم المغلوطة، إلا أن المرء يلاحظ بوناً من نوع ما بين هذا وذاك، ولعل الذي يمكن للمتابع الوقوف عنده هو الإصرار على النشر في مجموعات، إذ يوحي هذا بشيء ما لم يتح لفن القصة القصيرة من قبل بخاصة أن تطوراً من نوع ما، رافقه تنوع يمكن أن يلحظ في المجاميع الصادرة التي كانت تهجس في بعض تجلياتها بالفهم الصحيح لفن القصة ودورها ومطامحها، وقد أسهمت عوامل عديدة في ترسيخ هذا المفهوم أو ذاك، وهو غالباً كان مفهوماً أقرب إلى الفن منه إلى أشياء أخرى كالإثارة وسواها.

إن هذه السنوات تشكل مرحلة التكوين، والتكوين يعني إرساء أسس فن القصة وهي التي مرّت بإرهاصات ما قبل التشكل، ومثل هذا التكون استدعى بالفعل وبالقوى جهود ثلة من الكتاب قاموا بإرساء أسس الفن عبر ما قدموا من مجموعات قصصية، وما أسهموا به من توضيحات مفهوماتية ومساجلات نقدية، قبع خلفها مجموعة كبيرة من الرؤى والأفكار التي لم تقصر في محاولة جرّها إلى هذا المرمى أو ذاك.

 

ومما لا شك فيه أن هذه المرحلة ليست بقادرة على غربلة كل ما يمر بقناتها، والمهم المحاولة، محاولة خلق الخصوصية وإرساء أسس الفن عبر تجذير مفاتيح مفهوم الفن ومرتكزاته، فمهمومه لا يلقّن، بل يتشكل درجة درجة، وهو لا يُقَدّم ناجزاً، لأنه لا مفهوم نهائياً في قضايا الفن التي تؤثر وتتأثر بمعطيات الظروف المحيطة بالنمو.

ومثل هذه المحاولات الترسيخية تحتاج قبل كل شيء إلى جهود الكتاب المتواشجة على صعيد خلق جمهور يتعاون مع الفن، ومحاولة إيصال المفهوم السليم له والتجاوب معه، ومن مفهوم الفن تتنامى طاقة من الهموم التي لا تقبل الأحادية شرط تحقيق الحد الأدنى من الأسس المعافاة( ).

 

لذا فليس سهلاً ما واجه الكتاب يومذاك الذين داهمتهم مقولات عسيرة كان لا بدّ لها من أجوبة معجونة بالإقناع والدبلوماسية، بخاصة أن قاصي هذه الفترة لا يملكون إرثاً قصصياً يعضّدُ ما يزعمونه، وليس بالإمكان الاتكاء على المترجم، وحتى لو أرادوا محاكاة هذا المترجم فإنّ عيونهم تنظر إلى واقع موّار بالهموم، ضاجّ بالتيارات، ويحتاج كتاب المراحل التأسيسية غالباً إلى توضيح أهدافهم عبر وسائل أخرى غير الفن الذي يكتبونه من مثل الحديث النظري عن مكونات الفن إذ لا يكفي أن يكتبوا فحسب، إذا علمنا أن ما يكتبونه ووجه بتيارات فكرية وأيديولوجية عديدة.

 

ويبدو أن التنوع والاختلاف لا يفسد للود قضية شرط الوعي ببعض تفاصيل الفن ومؤسساته.

وفي مراحل المهاد الفنية قد يحدث خلط مقصود أو غير مقصود في فهم بعض الأمور، أو قد يُعول على الفن كثيراً من جهة بثه كل المواجع والأحزان والأفكار التي تكاد تزهق روحه، ومثل هذه الثقة في مقدرة هذا الجنس الأدبي أو ذاك مربكة للمنتج والنص والمتلقي، إذ يمكن أن نجد في هذه المرحلة عدداً من المجاميع التي تصرخ بشعاراتها وأفكارها الذهنية ودعاواها السياسية( ). وقد حُمّل هذا الفن الرقيق، الناحل الجسد يومذاك ما يحتمل ومالا يحتمل، وربما هذا لم ينتج عن خصوصية الرؤية فقط، بل شارك فيه مجموع القراءات لهذه القبسات الفكرية الجديدة التي تثلج صدور منتجيها، وتشكل معادلاً موضوعياً لإحساساتهم الضاغطة. وقد طالت هذه المرحلة بمفاهيمها ورؤاها، وكانت القفزات الفنية في مرحلة الترسيخ بطيئة( )، واحتاجت القصة إلى أصوات جديدة غير أصوات هذه المرحلة لتقفز بها خطوة أخرى نحو الأمام، مخلصة إياها من مظاهر وقائعية تسجيلية كادت تسم المرحلة بمياسمها، ومقولات وعظية تعليمية شكلت حضوراً عالياً في نسيج القصص المكتوبة يومئذ.

 

ظروف المرحلة:

الحديث عن الظروف المعايشة لهذه المرحلة يتطلب نقاشاً ووقفة عند الظروف السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية.

فعلى الصعيد السياسي مثلاً لا يجد المرء أنه بحاجة إلى كبير استفاضة في إشاراته إلى طبيعة هذه المرحلة التي جرت فيها أحداث لا تزال بصماتها

إلى يومنا هذا.

 

أول خصوصيات هذه الفترة كونها المرحلة الأولى التي تجلّت فيها آثار نيل القطر العربي السوري استقلاله من المستعمر الفرنسي الذي شد أمتعته ورحل بعد نضال لا يخلو من مثابرة، وبرحيل هذا المستعمر نشأ في الساحة فراغ سياسي واسع، لأنه لم يكن من أهداف المستعمر ولا من مصلحته أن يهيئ البلاد للمرحلة التالية لجلائه.

وهذا فتح الميدان للارتجالات، ولمجموعة من الانقلابات العسكرية التي قدمت صورة لا تخلو من تشويش عن مآل أمور البلاد التي مرت بمراحل عديدة حتى استقرت صورة نظامها السياسي، ومما كان يزيد الطين بلة أن كل نظام كان له رجالاته ومستفيدون منه ومرتزقون..

ولا بدّ من التنويه بأنّ المستعمر لم يرحل قبل تعبئة نفوس كثيرين بنفثات من الطائفية والفئوية، ولم يترك فرصة تمكنه من إذكاء روح الخلافات بين أبناء الوطن الواحد.. إضافة إلى أنه قد خلّف بعده جيشاً مزعزعاً يحتاج إلى إعادة تأهيل وبناء، ذلك أن معظم أفراده قد تدربوا على يدي الجيش الفرنسي الذي لم يكن حريصاً، بالطبع، على أن يكونوا مؤهلين التأهيل اللازم.

 

إنّ الاستقلال الذي حصلت عليه سورية كان استقلالاً ناقصاً لأنه يقع ضمن حيز الأمة العربية التي لم تنل معظم دولها استقلالها يومئذ( ).

وقبل أن تلتقط البلاد أنفاسها وقعت النكبة- نكبة فلسطين- التي تركت بصمة واسعة الأثر، وعميقة الفاعلية في سيرورة التاريخ العربي الحديث، وفتحت الأبواب على كل الأسئلة والاحتمالات، ووضعت كينونة المواطن العربي في دائرة المساءلة عما حدث؟ وكيفية حدوثه؟ وماذا يمكنه أن يفعل إزاء التطورات الجديدة..؟

وكان أن هبّت مجموعات غيورة وحدت نفسها تلقائياً وتسلحت بوسائل خاصة، منها كتاب قصة، وراحت هذه المأساة تتبرعم في أيكة الكتابة التي جرحها ما حصل؟

وقد أنتجت هذه النكبة حالاً جديدة هي موضوعة النازحين، وكيف نزحوا ولماذا؟ ونشأت مخيمات وتجمعات تعاني كثيراً، الأمر الذي جعل هذا الموضوع دائم الحرارة، وكلما ألفته النفوس حدث فيه جديد شدّ الكتاب إليه مما أثمر عشرات القصص التي استفادت من خصوصية هذا الفن، وطزاجته وكونه فن اللحظة المأزومة التي أعلنت عن نفسها كما يرى عديدون.

 

وبعد رحيل المستعمر ونظراً لاستثنائية الظروف فقد أفسح المجال وهيّئ الجو لظهور عدد من الأحزاب التي كان بعضها يعمل سراً وبعضها يعمل جهراً، بمختلف مشاربها وأهدافها وطموحاتها، مما جعل الفرصة مواتية لوجود طقس فيه بعض أسس الحوار والتعددية والتصارع أحياناً.. وكانت الساحة مفتوحة الأشرعة لقول من يريد ما يبتغيه، وهذا أفسح المجال لنمو مزدهر لأفكار الأحزاب ومقولاتها، ربما لم يُتح لها فيما بعد.

وكان كتاب كثيرون ينتمون إلى هذا الحزب أو ذاك أنتجوا بفعل الحوار والصراع والمثاقفة قصصاً كانت صدى وصوتاً لمقولات أحزابهم وأفكارها.

وراحت الأمور تفور وتغلي أحياناً، وقد أسهم في ذلك حالة الأمة العربية وحركة الانقلابات والنسيج الاجتماعي الذي بدأ يأكل بعضه بعضاً، وكل هذا أورث الحالة الفكرية والثقافية والأدبية حيزاً من الانشغال الدائم، وصار كل حزب معنياً بإعلان مواقفه على ألسنة صحفه، وبأقلام كتابه أدباء وغير أدباء حيث كانت تتجاذب المجتمع نيران ماضيه وتراثه والمداخلات الغربية التي تقدم الجديد والمتقن.

 

ومع أن حالة التعليم قد بدأت بالتطور إلا أنها لم تكن لتلبي الطموح بخاصة في الأرياف، وكانت ثلة من المفاهيم تسيطر على عقول الناس تجاذبتها ثنائيات عديدة كان كثيرون لا يعتقدون بإمكانية أن تلتقي أو تتقاطع، في وقت بدأت الأمور فيه توسم بميسم الأبيض أو الأسود وهو خيار فرضته جملة الظروف والمتغيرات.

ولم تكن طبيعة المجتمع وآليات التفكير بقادرة على الانسجام مع كل هذا إذ إنّ ما يقدم هو من الآخر الغربي، وكانت البلاد لا تزال تعيش صناعة يدوية تتركز على أنواع بسيطة غالباً ما سيطر عليها جماعة من الناس محدودة، سيّان ذلك في الريف أم في المدينة!

ولا تكتمل أجزاء اللوحة يومئذ دون الحديث عن الأحوال الثقافية المتمثلة بأوضاع الصحافة والترجمة والفكر السائد والتيارات، فحال الصحافة المزدهرة أثر بفعالية واضحة في بروز فن القصة القصيرة، وأخذها الدور الذي تستحق، وأسهم في ذلك أن بعض الصحف كان يدبرها أدباء.. وشهدت صفحات بعضها آنئذٍ نشر عشرات القصص والتعليقات حولها، إضافة إلى أن هذه الصحف كانت مكاناً خصباً لمجموعة من السجالات والمناقشات التي أسهمت في تبلور مفهوم القصة القصيرة يومذاك!

وقد لعبت صحف مثل الطليعة والنقاد والآداب( ). وسواها دوراً لا تغض الأعين عنه بخاصة أن هذه الصحف غالباً ما كانت ترتبط بتيار أو حزب ما..

وما يسجّل للصحف آنئذ أنها كانت تؤمن غالباً بالصوت الآخر وبضرورة سماعه وذلك بغض النظر عن مدى الاختلاف أو الاتفاق معه.

وكانت الخلافات السياسية والاجتماعية والفكرية يشتعل أوارها في المقاهي والصحف ومقرات الأحزاب والمنازل، وكان المنتمي لحزب ما آنئذ منتمياً مقتنعاً بفكره ومبادئه، مدافعاً حتى الموت عن مقولاته وأفكاره.

 

أما أحوال الترجمة( ) فقد بدأت تنشط أكثر، وتتنفس هواء متنوعاً خلال تعددية مصادر الكتب المترجمة من روسية وفرنسية وإنكليزية.

وقد ترجمت أعمال متميزة عديدة أتاحت للكتاب الإطلاع على تجربة الآخر، وتمثلها والاستفادة منها، وأسهم ذلك في المساعدة على خلق تقاليد أدبية لم تكن واضحة، وكان بعض القاصين يتقن لغة أخرى مما جعل آثار قراءته تظهر فيما يكتبه.

وربما يجد المرء في بعض القصص السورية صدى (جيداً أو سيئاً) لما كان يترجم، وقد أثرت بعض المذاهب الفلسفية في كثير مما كتب من مثل الوجودية( ) التي تبدت آثارها جلية في قصص نشرت في الصحف يومئذ، وقد وجد عدد من الأدباء حظوته ومرامه في هذا التيار أو ذاك، وكشفت الترجمة أحياناً مدى ما وصلت إليه القصة عندنا فنياً والتعرف إلى ما أنجزه الآخر، وإلى أين وصل، وما إمكانية الإفادة من تجربته؟

ولعلّ مجموع العوامل السابقة قد جعل المجتمع مواراً بالتحولات، ضاجاً بالأفكار والمتغيرات، وكانت الأمور قابلة للحوار والمساءلة، ولم يتم الركون إلى فكر ما أو أدلجة نهائية، لأن كل شيء كان على محك الاختبار والتغيير.

 

ولا يمكن تجاوز هذه المرحلة دون  الإشارة إلى الفكر الوجودي الذي أخذ ينتشر في نهاية هذه المرحلة معلناً عن تجاوره مع منطلقات فكرية أخرى كالماركسية، والقومية والدينية، وكان كل منطلق فكري يجد بغيته في عدد من الشخوص الذين يتبنونه وينافحون عنه، وقد دفعتهم ظروف عديدة وقناعات متنوعة للانضواء تحت رايته.

أما رابطة الكتاب السوريين بصفتها مَعْلَماً مهماً من معالم الخمسينات فإنها تحتاج إلى وقفة، لأن ثلة كبيرة من أعضائها كانت تكتب القصة القصيرة، وقد أصدر عدد منهم المجموعة المشتركة الذائعة الصيت، المرفقة ببيان ثقافي أدبي، بعنوان (درب إلى القمة) وقد حاولت أن تضع تصوراتها ومقولاتها حول أمور عديدة تخص الأدب، والموقف من الفن، وحال البلاد والواقع الاجتماعي والفكري.

 

ولا بد من التساؤل كيف نشأت الرابطة وما دورها وما الذي حققته؟( ).

شهدت مرحلة الخمسينات فرصة ذهبية تشكلت فيها مجموعة من المنتديات والروابط انضوى في أطرها فريق كبير من الكتاب، لأنهم كانوا يتحسسون ضرورة أن يأخذوا دوراً ما في الأحوال التي كانت تعيشها البلاد، بخاصة تبدلات الأنظمة العسكرية، وقد أسهمت في نشوء رابطة الكتاب السوريين عوامل عديدة تخص تلك الحالة الفكرية والأدبية، وأثر الصحف والمترجمات، والشعور أن يد الفرد لن تترك الأثر المطلوب، ولا بد من التكتل والتعاون لترك الأثر المصبو إليه.

وكانت الرابطة معنية بتوضيح مواقفها من أمور عديدة( )، ليست أدبية فحسب بل اجتماعية وفكرية، فأعلنت عن موقفها من التراث ومفهومها لوظيفة الفن، محاولة التركيز على أهمية الدور الاجتماعي المنوط بالأدب، ولم تكن هذه النقطة دعوة نظرية بل فكرة آمنوا بها، وعملوا على تطبيقها الأمر الذي أوقع قصصاً كثيرة في مطب الوقائعية الوثائقية( ).

 

ومما أسهم في ذلك موجة المد اليساري ومنطلقات الواقعية الاشتراكية والفكر الماركسي، التي غلفت تفكير المنتمين إليها.

وكانت فكرة إنشاء الرابطة تتركز إلى حد ما على أهمية التكتل لتترك أثراً ما في هذا الواقع تشير إلى ما كان يمور به( ).

وتنقل لنا بعض وثائق تلك المرحلة الكثير عن دور هذه الرابطة، والترحيب الذي وجدته يومئذ، لكن المرء معني بالتساؤل التالي: لماذا لم ينضم كتاب كثيرون إليها بخاصة أن أغلب المنضمين صنفوا، أو كانوا هم أساساً، ضمن حقل التوجهات اليسارية..؟

وربما تدفع الموضوعية المتمعن إلى القول: إن ما كان يجمع أعضاء الرابطة ليس الانتماء إلى حزب ما، بل الاتفاق في توجهات فكرية معينة تتمحور حول الالتزام والحرية والدور الاجتماعي للأدب، وقد شاركت الرابطة في إصدار عدد من الكتب لأعضائها، إضافة إلى ما سببه إعلانها من حوارات وصراعات عديدة، ولعلّ تكثيف تفاصيل إعلانها يوضح الصورة أكثر إذ أكّد:

-تحديد الاتجاه الفكري الذي يسير أعضاءها "نحن كتاب تقدميون بكل ما في الكلمة من خصب، تقدميون لأننا نستهدف أبداً أن نمشي إلى أمام حيث يتلامح هدفنا إننا نؤمن بأمتنا ونؤمن بأننا نستطيع خدمتها وإننا لن نكون كتاباً إذا لم نعش حياة أمتنا، إن هدفنا هو أن نعمل للشعب لأننا منه"( ).

حرص الكتاب المشاركون على تحديد موقفهم من التراث لأن مثل هذه القضية آنئذ – كما الآن وإن كان ليس بالدرجة نفسها- تشكل عاملاً مهماً في صيرورة الصياغة الفكرية للشخوص، وهذا شأن ليس بجديد، لأن الذين التموا في هذه الرابطة أو تلك يجب أن تجمعهم بعض الثوابت، بغض النظر عن اختلافات كثيرة تترك حيزاً لكل شخص بحيث لا تتعارض الموافقات العامة مع خصوصيته ورؤاه وأفكاره.

 

لقد كان موقفهم واضحاً من التراث بحيث أعلنوا أنهم سيعملون "على أن نتحرر إذن، ونساعد غيرنا على أن يتحرر: من الأفكار العتيقة التي ماتت وتأبى إلا أن تحمل رفاتها في أذهاننا بكل ما فيها من نتن وعفونة، ومن الأنظمة المتخلخلة التي يرفض البعض إلا أن يتمسك بها"( ).

-تأكيد الكتّاب أهمية التكتل ووعي حسناته وسوءاته وما يثيره من آراء متنوعة على الرغم من كونه شيئاً ليس بجديد "إن فكرة التكتل الفكري ليست حادثة لا سابقة لها، بل هي فكرة قديمة كانت تظهر للنور في كل عصر وفي أكثر الأمم، وليست المجامع العلمية والأدبية واللغوية، إلا نوعاً من هذا التكتل ولو استعرضنا تاريخ نهضات الشعوب، لرأينا أن فئة معينة من المفكرين، كانت دائماً تساند وهي تحمل سارية العلم في ساحة النضال تحت اسم واحد.. كلنا يؤمن أن التكتل يثير ضجة، قلّ أو كثر امتلاؤها فهي ضجة، تفتح العيون، وما علينا إذا ما تفتحت إلا أن نرمي إنتاجنا في السوق، وأن نطالب غيرنا بمثله"( ).

 

-الانتباه إلى علاقة الفرد بالجماعة ودور ذلك في التعبير الأدبي بخاصة أنهم لا يطالبون بحالة تذويب "وإنما نطالبه أن يعيش مجتمعه، ويشارك فيه، ولينطلق بعد ذلك كما يشاء فهو لن يضلّ ولن يبتعد عنا كثيراً، الفرد الواحد المستقل عن الجماعة غير موجود.."( ).

 

- تأكيد أهمية التحرر من الجوامد والثوابت، ووضع "التقدمية" في وجه البالي من النتاج وتأكيد أهمية الأبعاد الإنسانية للمواقف الشخصية، وأن السلام إن أريد له أن يعم العالم أجمع يجب أن يتم الانتباه إلى ضرورة أن يؤخذ بعين الاعتبار في كل أنحاء العالم، وأنه لم يعد بالإمكان التقوقع لأن الانفتاح هو أولى دعائم ترسيخ الجذور وبعد ذلك سيقرر الزمن الجيد من سواه.

لا شك أن حالة الحماس متوفرة وواضحة، وإثارة الأمور بشيء من الحدة فيما يخص كثيراً من القضايا التي تشكل محوراً للنقاش إبان تلك المرحلة التي تبدو ممتلئة بالأفكار والحوارات.

 

ومن الجلي ابتعاد البيان عن تأكيد أهمية القضية الفلسطينية، بخاصة أنه لم يكتف بالتعرض للمواقف الاجتماعية والفكرية الداخلية، بل امتد الحديث به إلى جملة من القضايا الإنسانية التي تخص الإنسان، ولعل التقدمية التي طالب بها الكتاب آنئذ كانت ستصبح أكثر (تقدمية) لو أشارت إلى هذه القضية التي كانت ولا تزال تشكل أحد أهم محاور الوجود العربي وفكره وكان جديراً بهم تذكرها ولو بكلمات قليلات!

حول مرجعيات القصة وهمومها

للمرجعيات في قصة هذه المرحلة وضع خاص ومكانة مهمة، ويمكن النظر إلى هذه المرجعيات في ضوء مفهوم فن القصة القصيرة يومذاك من جهة، وفي ضوء آثار هذه المرجعيات من جهة أخرى.

 

إذ كما هو معروف فإنه في كل عصر لا بد من تجليات قصصية مركزها التخييل، مثلما هناك تجليات قصصية أخرى تنبع وتعود إلى الواقع، والأهم في كلتا الحالتين ألا يبقى الفن مشغولاً بالانعكاس، بل أن ينتمي إلى عالم الفن وأن تدمج كل المقولات والهموم والمواد الخام في إطار الفن.

فالفن بأحد مفاهيمه تعبير عن حاجات الإنسان وهمومه ونوع من خلق توازن بين الواقع والمتخيل ( ).

وفن القصة القصيرة، في هذه المرحلة، حُمّل جملة من الهموم والمقولات والأشجان، ومثل هذه الأهداف كادت تقصم ظهر عديد من القصص.

ويمكن للمرء تصنيف هموم القصة في الخمسينات، بهموم قومية ووطنية واجتماعية وذاتية مع تأكيد التداخل في كثير من النماذج، ولئن كان الموضوع القومي قد تجلى بخاصة خلال قضية فلسطين، فإنّ الهم الاجتماعي قد برز من خلال أمور كثيرة منها العادات والتقاليد وهموم الأسرة، والهجرة الداخلية والخارجية واستنزاف الطاقات.. أما الهموم الذاتية وهي بصورة ما ذات تجليات اجتماعية فلا تحضر الحضور الواضح المعالم.

 

على أن المهم في كل ما سبق هو الكيفية التي يتم تناول هذه الهموم من خلالها التي تدل بصورة أو بأخرى على آليات اجتماعية وفكرية تحمل في طياتها أفكاراً ومداليل على صور وإشارات كثيرة ليست معنية دائماً بالإفصاح عن نفسها بكثير من المنهجية والوضوح.

 

إن زاوية الرؤية وطريقة الاختيار وآلية المعالجة( ) هي محاور رئيسية في عملية البحث وتحديد الصوى والمعالم ومعرفة دور الفن وأهميته وفنيته، بخاصة أن جملة الظروف الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية تلعب دوراً بارزاً وأكيداً في تشكيل الذائقة، وفي تحديد زاوية الرؤية، ودرجة أهمية الفكرة والمقولة، على أن المعول عليه ها هنا الوعي والقراءة السليمة للواقع وهي لا تتأتى لكثيرين، وإن تأتت فإن المرء لا يأمن عليها من محاولات التشويش التي ليست بالضرورة أن يكون هدفها تشويشياً بقدر الاختلاطات التي تخلفها نظراً إلى تنوع المؤثرات وتعددها واتفاقها طوراً واختلافها تارة.

 

إن المرء يمكن أن يسجل ملاحيظ عديدة حول قصة الخمسينات من وجهات تخص فهم الفن وحجم المقولات وآلية المعالجة وطريقة التناول.( ).

وليس المرء معنياً إلى حد كبير بالتسويغ السائد في حالات كهذه من حيث الريادة، وبكورية الفن، وعدم استواء التقنيات وآلية فهم الوظيفة، إذ يمكن للمرء أن يزعم دون كبير حذر قائلاً: إن حالات الفن كادت تزهق روحه بهذا الركام من الأفكار حتى نتجت لدينا قصص هي ليست قصصاً تماماً، لأنها أشبه بالبيانات السياسية وبدعاوى الالتزام، وبرزت دعوة ضرورة نبذ الفن للفن، وسوى ذلك من الشعارات التي وجدها كثيرون مشجباً يعلقون عليه ضعف مواهبهم، أو مأزومية أحوالهم ومفاهيمهم، وصار الالتزام حجة من لا حجة له، والمشكلة أن مثل هذه الأفكار حين تسود مرحلة ما فإنه من النادر أن يتشجع أحد على الخروج من برقعها لأن أصابع الاتهام بانتظاره، والحق أن هذه "الالتزامات" الكبيرة والكثيرة قد جعلت الفن يكاد يراوح في مكانه فترة طويلة، لولا أن جاء نفر بعد ذلك استطاعوا تخليصه بعد لأي من كثير من الشعارات، على أن المهم في تاريخ كل فن وفي كل عصر أن يبقى تواقاً للتحديث والتطوير اللذين يجعلانه متجدداً، قادراً على الغوص والتحليل والتعبير الفني، ومطلوب من القصة أن تحافظ على فنيتها مهما كانت الحجج والبواعث والمقولات.

 

الهم القومي والوطني وتجلياتهما:

شكّل الهم القومي والوطني عبر سيرورة القصة القصيرة السورية أحد أبرز الموضوعات الأساسية وهذا ليس بغريب، إذا تذكرنا خصوصية هذا الهم من جهة، وموقع البلاد وما تعرضت له من مآس داخلية وخارجية من جهة أخرى.

 

وليس الحديث عن هذه الموضوعات في القصة السورية نوعاً من أداء الواجب المفروض على الباحث، بل هو يدخل في صلب الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية، لذا كان من الطبيعي أن تظهر تجلياته في القصة السورية بطريقة أو بأخرى، وإن لم يكن كثير منها قريباً من الفنية العالية.

 

الموضوع الفلسطيني:

في الوقت الذي لم تنل فيه معظم الدول العربية استقلالها حلّت نكبة فلسطين، ولم تكن الدول التي استقلت قد حققت شيئاً يذكر على صعيد إعادة تنظيم أمورها والتخلص من لوثات المستعمر.

 

وقد أخذ الموضوع الفلسطيني منذ بداياته بعداً قومياً لأسباب كثيرة منها أن عدداً هائلاً من أبناء فلسطين قد رحلوا إلى الدول العربية، ولا سيما المجاورة لها، وإحساس الناس بأنّ ما حدث في فلسطين يمكن أن يحدث في أي دولة عربية، إضافة إلى رابطة العروبة والإسلام، وقد شارك بعض أبناء هذه الدول في معركة الجهاد ضد هذا الوضع الجديد، وراح كثيرون يدركون خطورة أن يقوم كيان اسمه "إسرائيل" في خاصرة الأمة العربية، بخاصة أن جغرافية هذا الكيان ممتدة الآفاق، وإن كنا نلحظ عدم الوعي آنئذ بأبعاد الأمور تماماً ومآلها لدى الكثيرين، لأن الانشغال بالهموم الاجتماعية كان كبيراً.

 

وقد أسهم – كما سبق وأشرنا- بعض الكتّاب في معركة الجهاد ضد الكيان الجديد، ومن هؤلاء المسهمين د. عبد السلام العجيلي( )الذي كتب قصصاً عديدة حول هذا الموضوع، كانت في مجملها متميزة، ليس لأنها معجونة بالتجربة الشخصية فحسب، بل لأن العجيلي قال ما قاله حول الموضوع الفلسطيني ضمن مساقه الفني، وابتعد عن المباشرة في مقاربة الموضوع، مما خلق لقصصه كبير خصوصية فنية، إذ بقيت أحداثها أشمل وأكثر عمقاً، وهي التي دمجت عدداً من المواضيع والهموم والمقولات مع بعضها، وجاء الحديث عن الهم الفلسطيني في مسار الأحداث، ففي قصة (القفاز) مثلاً، يروي حكاية شخص مع القفاز( ) وكيف كان هذا القفاز عنصر حماية لذاك الصديق.. ومع أنّ مثل هذه المقولة بحاجة إلى مناقشة موسعة فكرياً وفنياً ليس موضعها هنا إلا أن الكاتب يؤكد أهمية دورها دامجاً المقولة الفكرية الاجتماعية مع المقولة القومية.

أما قصة "بنادق في لواء الجليل" فإنها تستحق وقفة أوسع ليس لبنائها الفني المتميز فقط، بل لأن الكاتب أعطانا خلالها نبذة عن الحالة المعيشة آنئذ، وحالة العشق للبندقية التي تغدو أملاً حياتياً لأحد الأولاد لكنه حين يستعملها تخرّب يده لأنها من السلاح الفاسد، حيث يدفعنا القاص لإدانة حالة التواطؤ واستغلال حاجة الناس للسلاح، وليس هذا فحسب، بل نقل العجيلي لنا حالة الحياة الجميلة التي عاشها الفدائيون يومذاك خلال رصد بعض طرائفها وأحداثها الممتعة مركزاً على نبض الأحداث.

وهناك أدباء آخرون وقعوا في حالة استبكاء، وحاولوا استثارة القيم العربية والحث على الصمود خلال أحداث وحكايات متنوعة، فها هو ذا القاص ممدوح مولود يقدم لنا حكاية شاب لا يعرف شيئاً عما يحدث، ومن حوله يخفون عنه ذلك، وحين يعرف يقول:

"إذن هؤلاء اليهود هم سبب الرعب الآخذ بالقلوب، وهم الذين كنت أجنب التعرف إليهم يا أماه، كم كنت سعيداً لو أطلعتني على الحقيقة ذلك اليوم، وقلت لي: إن اليهود هم أعداؤنا وأعداء العرب جميعاً وأعداء أمتنا، وإنهم جاؤوا لينهبوا أرضنا ويطردونا منها"( ).

 

ثم يذكر القاص بعض جرائمهم من مثل هدمهم المساجد ويحث العرب على الصمود، مستثيراً الرجولة العربية، واصفاً تمثيل اليهود بالناس، واستيلاءهم على المحاصيل وأنهم لا يدعون للكبير حرمة وأنهم أوباش، خاتماً بإشارة إلى الجهود العربية" وفي الصباح اكتسحت سماء فلسطين من الشمال الطائرات السورية"( ).

ورصد كتاب آخرون أيضاً المشاركة العربية في الكفاح، فالقاص محمد المجذوب ينقل مشاركة أحد أبناء المغرب في النضال، وهو الذي كان أساساً يخدم في الجيش الفرنسي ثم ترك هذا الجيش "فلما كشف القدر ظلمات الانتداب عن سماء الشام، وجلا العدو خاسئاً مدحوراً عن ربوعها، لقيهما بعد يأس، ولكنه لم يطل المقام بجانبهما حتى فارقهما كرة أخرى ليتم واجبه نحو فلسطين، وليعود بعد قليل حاملاً ذراعه الجريح ليقضي بينهما دور النقاهة، وأنطوت الأيام والشهور بعد ذلك وجاءت الهدنة الأولى، ثم الثانية ورأى أمام الأمر أنهم في غنى عن الزناتي وأمثاله من الجنود فسرحوهم ليلقوا بهم إلى الشارع صفر اليدين من كل وسيلة إلى الحياة، وفترت الحميّة الشعبية في نفوس الجماهير فلم يعودوا يعجبون بالسواعد الجريحة في جهاد فلسطين"( ).

 

إن القاص في المقبوس السابق يفضح ما آلت إليه أمور الذين ضحوا بالكثير من أجل الوطن وكيف كوفئوا واستقبلوا، برغم ما يمكن أن يسجّل حول مباشرة المقولة وآلية التعبير الصارخة.

 

وفي قصة أخرى يتحدث القاص نفسه عن شخصية يسميه (عربي) معرجاً خلالها على مجازر دير ياسين إضافة إلى مقاومة المجموعات الفدائية ودورها البطولي( ).

وانتبه بعض القاصين إلى نقاط أخرى تظهر حالة التلاحم الضروري بين أبناء الوطن الواحد، وضرورة الإسهام في التبرعات لشراء السلاح، موضحين رؤاهم المتعلقة بهذا الموضوع، أما الدار فسيشتريها بعد عامين اثنين.. ولسوف تبقى له ولأبنائه في حرز ما دام يحرسها السلاح"( ) وقدموا صوراً عديدة من التوق وتحين الفرص للمشاركة في النضال حتى من المعاقين الذين لا تدفعهم العقبات لليأس، بل يبقون ساعين للمشاركة حتى يتساءل أحدهم ما بها رجلي؟ أتنازلني؟ فأثبت لك مدى قوتها.. أريد أن أحمل السلاح وأمضي إلى الساحة، أتدرب، أريد أن أدافع عن أسرتي، عن حريمي، الذين حملوا السلاح ليسوا أقدر مني.. رجلي لا تعيقني عن ضرب الأجنبي الذي يهبط عليّ من السماء( ) ثم يوافق الضابط الذي لا يمكن أن يبقى صامداً أمام إصرار هذا الشاب" بورك فيك أيها الفتى: إنك لتضرب مثلاً نادراً في البطولة والحرص على البذل في سبيل الوطن، إني باسم الجيش لأهنئك على غيرتك ووطنيتك"( ).

 

ويتساءل القاص في قصة أخرى حول إذكاء روح المقاومة وضرورته على لسان أحد شخوصه "أيمكن أن تنكسر شوكة المقاومة في شعب، كل أبنائه مقاومون، ليجرب العدو، ليعيد الكرّة في حلب، جرب في بورسعيد فباء بالخذلان، ورفت بورسعيد على كل سفحة، حمى بورسعيد أبطالها، وسطروا بدمائهم صفحة الفخار في سجل الخلود..( ).

والسلاح أداة فعّالة للقضاء على العصافير الكبيرة التي تريد أن تنتفض على الأعشاش الوادعة لتلتهم صغارها( ). هكذا يرى القاص عبر لغة مباشرة تعليمية لا تلائم قصة فنية موجهة للكبار!

وأشار القاصون إلى مواقف كثيرة تصف مقدار التضحية التي قدمها كثيرون في الجبهة والبطولات الشعبية الفردية وتمجيد الشهداء، أما الأم التي تخبئ ابنها في الخزانة خوفاً عليه من المشاركة وفقدانه فإن أحد أبناء الحي يوعيها بواجبات ابنها خلال أحداث معينة "إن الذي سلب أثاث منزلك يا أم أحمد هو بالقياس للوطن ذلك الطامع الغادر الذي يدور في خلده أن يدخل الوطن من أبوابه الواسعة، لحظة ينام حراسه، ويتشاغل ساكنوه"( ).

 

وينطق القاصون شخوصهم أحياناً فوق ما يحتمل فكرهم نظراً للمقولات التي يحرصون عليها، من ذلك ما تحدث فيه عبد الرحمن البيك في قصة (جندي في السماء) المهداة إلى شهداء الحادي عشر من كانون الأول شهداء معركة طبريا، إذ يتحدث عن الشهيد على لسان أخيه الصغير، إذ الشهيد يبحث عن بيت لكنه يؤخذ إلى القبر، وذلك بأسلوبية فنية فيها الكثير من أركان العمل الفني( ).

 

في حين دلف قاص آخر إلى موضوع لم يشكل رصيداً بعد في القصة القصيرة برغم أهميته وحيويته، وأعني به موضوع اللاجئين في المخيمات، وما أورثته هذه الحياة الجديدة لشاغليها والقائمين عليها من أحوال اجتماعية وأخلاقية، وحالة الضياع التي وصل إليها كثيرون نتيجة فقدان الأمل بالعودة، إضافة إلى عدم الأمل بحياة كريمة، وخلال قصة (رمال) يقدم لنا كاتبها حكاية شاب عاطل عن العمل يحب فتاة، ويختلف مع أمه يومياً، وهذه الأم تحاول أن تستفز قيمه متحدثة بحنق شديد، معلنة فقدانها الأمل بكل شيء "أبوك كان من أشجع الذين ماتوا في فلسطين.. أنت لا تحترم شجاعته، كل الناس يقولون عنك أزعر، بهدلت العائلة يا مجرم، فلسطين لن تعود لأن هذا الجيل فاسد!

:معك حق فلسطين لن تعود، ونحن سنعود إليها.

:من يردها؟ أنت يا وسخة في الشوارع لمّ نفسك من الطرقات يا مجرم، ارجع إلى البيت قبل ما ترجع إلى فلسطين( ).

أما إنعام الجندي فيعلن عن خيبته وأن لا رجاء في عودة فلسطين، وما وصل إلى ذلك عبثاً بل وصل لأنه فاقد الأمل بالحكومات العربية:

"أخاف أن تقول لي: الجأ إلى الحكومات العربية، لا تهزأ مني ومنك ومن كل عربي، لا تلفظ هذه الكلمات لأنها جرح طويل المدى يحزّ في أكبادنا"( ).

وعرض أيضاً لمسألة خيانة بعضهم بصوت جهير "إنه يتجسس لحساب الصهاينة، وانتفضت كالملسوع وصحت في وجهه: أيها الكلب إن ما اتهمتني به حري أن تتهم به أنت، من ساعد الصهاينة على الحولة؟ من بدل الضباط الذين حاولوا منع تحويل الأردن غير زعيمك الخائن وأعوانه"( ).

ويمكن للمرء أن يعرض بعض الملاحيظ حول آلية المعالجة وهموم الرؤية التي نوقش في ضوئها الموضوع الفلسطيني في هذه المرحلة، إذ أول ما يلاحظ أنّ الحيزّ المخصص له قليل قياساً إلى الموضوع الاجتماعي مثلاً، ويمكن أن نقترح أسباباً كثيرة منها ما يتعلق بكون استقلال البلاد جديداً، إضافة إلى الحركة الاجتماعية والتبدلات التي بدأت تعلن عن نفسها، ويمكن أن نقول:

إن عدم الوعي الكافي لدى الجميع بأبعاد ما حدث جعل الموضوع لا يأخذ الحيز المبتغى.

 

أما تأخر وضوح الرؤية فقد قاد بعض النصوص إلى تسطيح الأمور، دون أن ينسى المرء هذا السيل من الانفعال والخطابية والمباشرة التي يمكن أن توصف بها نصوص كثيرة أنتجت آنئذ، مما أضاع على القاصين فرصة تقديم قراءة فنية فيما حدث، وقد أسهم في هذا أمران: الأول حرارة النكبة والصدمة التي حصلت نتيجة ذلك، مما أدى إلى قول المقولات والأهداف والرسائل بكل صراحة ومباشرة، والأمر الآخر هو عدم استواء الفن بعد بين يدي كثير من القاصين، ووجد كثيرون الفرصة سانحة كي يحمل الموضوع القومي بحرارته وكونه أمراً يهم الجميع ومواهبهم وإمكانياتهم التي لا تخلو من ضعف أحياناً!( ).

 

وقادت بعض الأمور إلى المبالغة في تصوير ما يجري، وغالباً ما كانت مبالغة خارجية غير نابعة من مسافات القص الفنية، ومثل هذه المبالغة تجرّ إلى الفجاجة والتسطيح وتكون مضارها أكثر من منافعها.

 

برغم ذلك فإن المرء لا يعدم القص الفني المتميز الذي عرف بجرأته وقدم الموضوع بصفته خلفية للأحداث على الرغم من أنه يحمل في طياته الكثير، ومما يلحظ أن قاصين عديدين قد تحدثوا عن تجارب معينة وأماكن محددة مستفيدين من أحداث سمعوها وتجارب لأشخاص، مركزين على دور البطولة وضرورة التضحية والتبرع والشدّ على الأيدي( )، راصدين الأحوال ومآلها، منبهين على أدوار بعض التجار المستفيدين مما حدث ومصالح الحكام.. وقد شغلت بعضهم أحوال النازحين وما تولد عنها من معاناة ومكابدة، مشددين على دور الشهيد وما يقوم به واقعاً ورمزاً، ويبقى الحديث عن القصة التي تناولت الموضوع الفلسطيني آنئذ حديثاً يجد من واجبه أن يغضّ النظر عن جوانب فنية عديدة لطبيعة الموضوع ولعدم نضوج أدوات الفن، وقد خلص د. حسام الخطيب بعد مناقشته لهذا الموضوع إلى أن الموضوع الفلسطيني لم يأت على تلك الدرجة من القوة التي يتوقعها الإنسان في أدب بلد عربي ظل أبناؤه دائماً يعتبرون القضية الفلسطينية الأولى والمركزية ( )

موضوعات قومية ووطنية أخرى (الجزائر- الاحتلال الفرنسي- الأحزاب):

لم يقتصر حديث القاصين عن الموضوعات الوطنية والقومية على الموضوع الفلسطيني بل امتد اسهامهم إلى الحديث عن المشاركة العربية في النضال ضد المستعمر عبر تمجيد هذه الروح وتأكيد الحالة النضالية التي يجب أن يعيشها الناس في سبيل تحرير البلاد من المستعمر، وقد تحدّث بعضهم عن جوانب محددة بخاصة ما يتعلق بالنضال الجزائري حيث تبدى ذلك بخاصة في مجموعة (جسد الجمهورية) المهداة إلى الشعب الجزائري، ومقدمتها تتناول الموضوع الجزائري أيضاً.

أخذت المجموعة عنوان القصة الأولى (جسد الجمهورية) الذي تشكل من مجموع تضحيات أبناء البلاد.. ويؤكد القاص بكثير من الحماس أهمية الابتعاد عن البكاء والانتقال إلى الفعل.. هناك وجدت جندياً يقوم على حراستها، فأمسكت عن النشيج وأقلعت عن النحيب، ثم رميته بحجر وصعدت السيارة، وجلست خلف مقودها وقبل أن أغادر مكاني أخرجت رأسي من النافذة فرأيت ظلالاً مرصوفة إلى جانب الطريق يقابلها ظلال أخرى تسدّد البنادق.

 

وأدرت رأسي إلى الأمام، فوجدت قطرتين من الدمع تقتربان مني وكأنهما موج اليم.. ولكن النشيج ذرفهما على حين غرة، فحسبت نفسي أنني نجوت من الغرق، غرق الجهاد، غرق النضال، غرق البحث عن قارب له فيه ملكية شرعية.. وأخيراً دوت طلقات البنادق في الأرجاء، فأدرت محرك السيارة خلال انتشار أزيزها، فلم تنقل الريح خبر فعلتي، فشكرتها أنها لم تخف، إنها أيضاً تجاهد من أجل الاستقلال"( ).

 

إن كل شيء يتحول لدى القاص إلى قوة مقاومة ضد الاستعمار ( ) تحاول أن تعيد للبلاد حريتها وحقوقها المهدورة التي لن تستعاد إلا بالبذل والتضحية.

وتناول بعضهم هزيمة فرنسة في سورية واضطرارها للرحيل عن البلاد "كانت أوامر القيادة الفرنسية تقضي بكسر شكيمة المقاومة وإفناء الحرس وتشريد أعضاء المجلس لقبول مطالب فرنسا بخصوص حصولها على امتيازاتها العليا"( ).

 

ويستشهد القاص بحادثة ذات جذور واقعية حول استشهاد شاب عربي برفقة حبيبته الإنكليزية مما اضطر الفرنسيين للاعتذار من الإنكليز ( ).

وامتدت أقلام القاصين للحديث عن آثار الحروب في رؤية إنسانية عميقة، محاولة أن تتلمس آثار الحروب على الناس، بخاصة ارتفاع الأسعار وحالة البلبلة( ).

وتحدث بعضهم عن نموذج شعبي يتذكر أيام "السفر برلك" وما تصنعه الحروب في الناس، مركزين على ما بدا في الحرب العالمية الثانية وآثار القنابل النووية والهيدروجينية( ) مع حرص على تأكيد ضرورة الانتصار للضعيف وأنّ الحروب عادة ما يكون النصر فيها للأقوياء، والمتضررون منها الفقراء.

ويجد المرء نفسه أخيراً غير قادر على تجاوز مجموعة "الشعب هو القائد"( ) برغم مجموعة الملاحيظ الفنية التي تدهم قارئها، فقصص المجموعة فكرية، شعاراتية أكثر من كونها قصصاً فنية، وقد كان مؤلفها مدركاً ذلك حين تحدث عن طابع قصصه "إنه الطابع النضالي، لم أتخيره لأني أردت أن أتخيره، ولكن لأن أمتنا تحياه بعمق، فحيثما توجهت وأنى تلفت، طالعتك صور النضال الرائع، تتفجر بقوى الخير، بقوى الحرية والحق "ويتابع إن على كتابنا إذا أرادوا أن يصوروا الواقع، أن يظهروا مآسيه من جهة، ومن جهة أخرى أن يرسموا الطريق، أي أن يوضحوا الاتجاه الصحيح لتيار الشعب الهادر صوب أهدافه، فأنت لو بحثت في مطاوي كل نفس عربية، بل لو بحثت في ذاتك لما أعوزك طول عناء لمعرفة أهداف الأمة، فأين من أبصار كتابنا هذه الحقيقة؟( ).

 

ويتوقف القاص عند جملة من الأمور ذات البعد النضالي والوطني، واصفاً، دائناً، محرضاً، ويركز على موضوع الإضرابات ومواقف الطلاب، متحدثاً عن المنع من النشاط الحزبي، دائناً بعض المستزلمين للمستعمر، متذكراً بعض المواقف في النضال ضد الفرنسيين، معبراً عن جرحه النازف وحرجه الواضح مما حدث في فلسطين، واغتصاب لواء اسكندرون، مركزاً على دور البطولات الشعبية.( )

إن هذه المجموعة تكتسب أهميتها من كونها تعطينا نموذجاً حياً عن فهم النضال والالتزام في مرحلة زمنية، وكيف أن المتحربين والمؤدلجين يحاولون أن يسخروا كل شيء لخدمة أيديولوجياتهم والتزاماتهم.

 

إن الهم القومي والوطني في هذه المرحلة لم يأخذ المكانة التي يستحقها قصصياً قياساً على ما كان يشغل ساحة الأحداث، ولا سيما أن انصرافاً لافتاً نحو الهم الاجتماعي يلحظ في هذه المرحلة، وحجم الاستجابة لهذا الموضوع قصصياً لم يكن كما يجب، وقد يعود هذا إلى حالة الصدمة وعدم الوعي إلى ما يمكن أن تقوده هذه الأحوال السياسية التي طرأت على الأمة العربية، لذا فإننا نجد أن الهم القومي والوطني قد برز بشكل أوسع في مرحلة لاحقة.

 

الهم الاجتماعي والذاتي وتجلياتهما:

ليس الهم الاجتماعي والذاتي في قصص هذه المرحلة هماً عادياً أو عرضياً، فالحديث عنه يعني الحديث عن معظم قصص هذه الفترة، فثمة مجموعة غير قليلة من القصص انصرفت إلى تناول هموم المجتمع، ومما لا شك فيه أن ذلك لم يحدث نتيجة قرار مسبق من الكتاب، ولكنّ مبعث هذا الانشغال في الهم الاجتماعي إبان تلك المرحلة يمكن أن يعيده المرء إلى أسباب كثيرة:

-أولها أنه نتج عن بدء وعي الذات – الفرد بالخصوصيات والإمكانيات، ونظراً إلى رحلة الصدمة مع الآخر، وربما يبدو هذا مسوغاً لو تذكرنا بدء انتشار التعليم وتنامي التلاقح مع الآخر نتيجة لاتساع حركة الترجمة( )، دون أن ننسى مجمل المتغيرات السياسية الداخلية والخارجية وكثير منها يخص كينونته ووجوده، وهي التي جعلت الفرد في حقل مساءلة لذاته عما يحدث وكيف يحدث ولماذا؟ وبعد ذلك صار يسعى إلى معرفة موقع الفرد ودوره، وكيف له أن يترك أثراً ويقوم بدور أعتقد أنه مطلوب منه وواجب عليه؟

-وثانيهما: الحركة الفكرية والحزبية المزدهرة في هذه الفترة، إذ سمح المناخ لمدّ وتصاعد في أمور حزبية، وصار مطلوباً من المرء سعى لذلك أم لم يسع، صار مطلوباً منه أن يأخذ موقفاً علنياً من كثير من الأمور، وقد اقترن معظم هذه المواقف بالحدة والانفعال طوراً، والرؤية الأحادية تارة، لأن ثلة منها لم يقم على قراءة الآخر، بل نتيجة للانضواء تحت هذا الإطار أو ذاك.

 

-وثالثها: جملة التغييرات التي طرأت على المجتمع ونسجه الظاهرة والباطنة( )، التي لا يمكن أن تبقى ثابتة وكل ذلك يجري ويحدث على مرأى من العيون ومسمع من الآذان، بخاصة أن حالات ومواقف راحت تفرضها طبيعة المرحلة من حيث صراع القديم والجديد، ودعاوى الالتزام وعدمه، وتجليات ذلك في الأدب من حيث طرح ثنائية الفن للفن، والفن للواقع، وسوى ذلك، من رؤى أخذت صيغاً غير ناضجة أحياناً ولا تخلو من حدّة..

 

وقد أفرزت هذه الهموم مجتمعة آلياتها وقضاياها وحاجاتها، وبرزت في ميدان الأدب قضايا نهضوية غالباً ما يتم التركيز عليها في حالات التبدّل والتحوّل المجتمعي والأدبي من مثل قضيّة المرأة والعادات والتقاليد، والقضايا الإنسانية المتعلقة بمجموعة من المثل والقيم، بعضها يخصّ الفقر والغنى والعدالة، وحالات المجتمع المتخلف وعمل الأطفال وصراع الأجيال وهموم المسحوقين، وأحوال تتعلق بالجهل والسحر والشعوذة واستشراء الأمراض.

 

هموم المرأة:

أعلن موضوع المرأة ( )عن نفسه بكثير من الجرأة والشمولية والغنى، ولم يقصر معه كتّاب القصة يومذاك، إذ توقفوا عند هموم كثيرة تتعلق بالمرأة وهمومها، بخاصة في علاقتها مع الرجل (ومعظم همومها تنتج من هذه العلاقة) من حيث العادات والتقاليد والزواج ومسألة الإنجاب، وإنجاب البنات وعمل المرأة ودوافع العهر وسوى ذلك...

وكثيراً ما قدم القاصون قصصهم المتعلقة بهذا الميدان خلال سياقها الاجتماعي، وقليلاً ما ترك القاصون قصصهم هي التي تقول لأن حرصهم على تأدية مقولاتهم ورسالاتهم دفعهم للحديث بشيء من المباشرة أحياناً عن إدانتهم لهذا الموقف أو ذاك.

 

وعادة ما تنتبه المجتمعات وهي في مراحل نهوضها للمعيق في حركة المجتمع والجارّ إلى الخلف، وغالباً ما كان موضوع المرأة من حيث الحقوق المهدورة عاملاً مثبطاً، ليس لأنها هي التي تعاني، بل لأنها مرآة اجتماعية تحمل في أثنائها مكابدة عناصر أخرى في المجتمع، وتقدم المرأة عادة على أنها المظلومة المقموعة وهذا وارد جداً في قاموس المجتمعات غير الناهضة، وغالباً ما يمثل نهوض المرأة رحلة صراع ضرورية مع المجتمع، أو بكلمة أدق مع المهترئ في المجتمع، وفي حال مثل هذه الأحوال تحضر مجموعة من العادات والتقاليد المهترئة لتمثل الطوطم المسنون الأسنان، المكبّل للمرأة التي تكون لقمة سائغة يسهم الرجل في مأساتها غالباً.

 

في إشكالية الزواج يتم تناول مسألة الاختيار وصاحب القرار وما يجرّ خلفه من عمليات قسر وإجبار ضحيتها المرأة، إضافة إلى مسألة الإنجاب مما يخص التأخر، وعدم الإنجاب، إضافة إلى إنجاب البنات برغم تأكيدات العلم منذ مدّة مسؤولية الرجل في هذه المسألة، إلا أن الوعي الاجتماعي يضع الوزر ها هنا على المرأة حتى إن اقتنع أن الأمر يتعلق بالرجل، عندها يدخل موضوع تعدد الزوجات، وطرق الزواج، وآلية الاختبار، إضافة إلى طباع كل منهما، والهموم والقضايا التي تخص ضرورة أن تنسجم المرأة مع طباع الرجل ومتطلباته، ولا ننسى أن عدداً من هذه الهموم لا يتحمل الرجل وحده جريرته بل للمرأة دور ما في هذه القضية أو تلك. وتدخل قضايا أخرى تخص اختلاف الدين بين الزوجين ورؤى المجتمع التي لا تتقبل أي اجتهاد في هذا الميدان ويكاد المتابع لا يجد كبير تغيير في هموم المرأة على الرغم من تقدم الزمان وهذا مأساوي على الصعيد الذاتي وسيرورة التاريخ البشري.

 

وتأخذ بعض هموم المرأة أبعاداً اجتماعية خطيرة نظراً لارتباط عدد منها، بمسألة الشرف، شرفها وشرف الرجل وشرف المجتمع، وهذا ينفتح على ممارسة العهر والنظرة الاجتماعية الحادة، وبعض الموازنات بين ما يقوم به الرجل وما تقوم به المرأة.

 

إنّ مجموع الهموم السابقة قد تجسَّدت في القصة القصيرة السورية إبان هذه المرحلة، إذ وجد القاصون أنفسهم واعين بكثير من هذه المسائل وآثارها وطبائعها، فانبروا بجرأة وبحماس أحياناً للحديث عنها، والدفاع عن حقوقها بمستويات تعبيرية عديدة ترجَّحت من قاص إلى آخر، ومن قصة إلى أخرى، ومن موضوع إلى آخر فكانت مباشرة طوراً، وموحية فنية تارة.

ولعل بعض الحماس الذي رافق قاصين عديدين لهذا الموضوع أو ذاك، إضافة إلى الدوافع الفكرية والمحضرات الخارجية قد جرَّ عديدين إلى الوقوع في هذا النمط أو ذاك من التعبير المباشر وإثارة بعض القضايا بشيء من الانفعالية والتسطيح دون محاولة الغور في نسيج المجتمع وقراءة الأمور، وتحديدها وتشكيل رؤية كلية حولها، والسعي للتعرف إلى ما يدور خلف الكواليس، ولماذا يحدث ما يحدث على سطح المجتمع؟..

واعتقد عديدون بصدق أنّ الرجل هو المسبب لكلّ هموم المرأة، وتناسوا أن كماً هائلاً من الرجال يعاني مثلما تعاني المرأة، بل ربما أكثر ، وأن محاولة التخلص مما يحدث قد تحتاج لجهودهما معاً؛ بخاصة جهود الرجل، لأن الأمور تتعلق بجملة موروثات ومعطيات ورؤى وعادات لا يمكن التخلي عنها بين يوم وليلة أو تجاوزها، لأنها لم تتشكل عبثاً أو بسرعة، بل هي تراكمات طويلة لن يتم التخلص منها بالنوايا الطيبة والسهولة البادية. ولعلّ ربط الأمور بمساقاتها يقود إلى قراءة واعية فيما تتعرض له المرأة من إشكاليات لأن الأمور لا تتعلق بموقف فرد، بل تتعلق بآلية تفكير ومجموع مورثات وعادات وتقاليد وسوى ذلك.

 

لقد توقف قاصوا هذه الفترة عند الكثير من القضايا التي تخص المرأة، ومن تلك القضايا، النموذج الرومانسي المعروف الذي عولج شعرياً في الثلاثينات خلال قصائد معروفة، نموذج المرأة العاهرة التي اضطرتها ظروفها للعمل في هذا الميدان وخضمّه المؤلم أو جرَّها جهلها أو رفاق السوء..

وأدان قاصون آخرون بعض التصرفات اللا قيمية  من مثل أن يكون الزوج قواداً حيث ينكشف السر، وها هنا لابد للقاص من كلمات:

"بيد أني قبل انبلاج الفجر، وكان الحي ما برح يغط في سباته العميق، وقفت على الشرفة أتنفس هواءً نقياً، وأرى بندم إلى السيارة التي كانت تتهادى مبتعدة عن بيت "ريحاب" تنضم عليها وعلى أمها (يسرى)، وعلى رجلين آخرين في جلسة شمّ وضمّ، بينما وقف الزوج ورجل في مثل سنه على العتبة يلوّحان للسيارة بأيديهما حتى غيبتُ  عبرةً لم أقصد إلى سحّها من عيني معالم الحدود والخطوط. وأحسست أن العالم يغوص في بحر من الفجور"( ).

 

ومثل هذه الموضوعات والدعوة للالتزام الأخلاقي ظاهرة بارزة في تجربة القاص اسكندر لوقا الذي كانت تزعجه  تلك التصرفات التي تشير إلى شيء من الانحلال حيث رصدها القاص في عدد هائل من قصصه، مؤكداً دائماً القيم الخلقية الأسرية، وكان يدين الرجال المتهالكين على هذا النمط من النساء بكثير من السخرية واللوم، وهو بذلك يرصد ما آلت إليه الأمور وبدء التحلّل والفساد القيمي:

"أما نورا.. فهي إحدى هؤلاء الصبيات أو إحدى هؤلاء الخادمات ممتهنات العار‍!.

ولكنها منذ عام رحلت إلى سوريا، ثم وطئت عاصمتها، وقد حدثوها هناك عن الشعب السوري الذي (يقدر) الفن ويبذل له ويذوب فيه!

مسكين هذا الشعب كم من خادمة وخادمة رخيصة، تلهو به كالدمية وتقوده معصوب العين إلى حتفه، إلى مصيره الشنيع فوق الصدور الفسيحة العاجية!"( )..

ومثل هذا التعبير الساخر قاربه قاصٌ آخر حين أشار إلى مجموعة من الأفكار التي تخصّ الوعي الاجتماعي وفهم هذا الموضوع على لسان خطيب الجامع يوم الجمعة إذ يدين ما يحدث، متلمساً الحلّ من خلال الزواج وفق وعيه ورؤيته فقد اندهش بما بات يحدث، فكان لابدّ له من اقتراح حلوله التي تعبر عن رؤيته: "لقد رأوك البارحة يا إبراهيم خارجاً من دار أم معزز، ألف مرة قلت لكم إن الذهاب إلى دار أم معزز حرام، لو أن الدنيا دنيا لكان أخوكم إبراهيم بين يَدَي الآن أجلده على الأقل ثمانين جلدة، ولكن الزي الآن أن يظل الشبان دون زواج، لقد تعلمتم والعياذ باللّه، يا أخوان على النطنطة والسفر إلى الشام بمناسبة أو غير مناسبة.. إن الزواج يا أخوان ينهى عن الفحشاء والمنكر..."( )..

ويتوقف قاص آخر عند كيفية بداية الانحدار في سلم الخسائر خلال رصد حالة فتاة تراقب زميلة لها، وتستفيد من تجربتها لتتقي شر هذا العالم لأن تقديم تنازل في هذا الميدان يجرّ إلى تقديم تنازلات أخرى، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه "ولم تأخذ الثوب بعد ذلك مطلقاً، فلقد أدركت أن ما يدفع زميلتها قد يدفعها هي الأخرى، فيما لو مرت بها نفس الأزمة التي تقترب أبداً من نافذة البطالة البشعة، وإن كانت قد علقت في حنجرتها غصّة، لم تستطع أن تتفاداها، طالما أنها ما زالت ترى كل ليلة زميلتها ذات الجسد الأصفر المخدر"( ).

وموضوع الإنجاب كما أسلفنا ذو حضور قوي وطبيعي في مجتمع شرقي، أحد أهم متكآته مسألة الإنجاب التي تتصل بالتفكير العشائري وسواه، وعلى الرغم من أن الرجل يعرف أن المشكلة في زوجته إلا أنه لا يصارحها، وهي تتوقعها وحين تعرف تنفجر:

"يا حبيبتي العزيزة، يا صديقتي... لن تري الأولاد مطلقاً!...

إنك تقول شيئاً مخيفاً.. إنك تقتلني..

فاستدار إليها ولمحت الدموع في عينيه فجاهدت حتى لا تصرخ: هل يعني أنَّ الطبيب..

: لا أمل يا حبيبتي فقد حرمنا من الأولاد.."( )..

وقدم قاصون آخرون لحظات حميمية تشكل صلب الحياة الزوجية خلال بعض الذكريات، يوم لا يبقى إلا هي، من خلال موضوع إشكالي يتعلق باللباس وما يجب أن تُظهر المرأة من جسدها وما تخفيه:

"أنا لا أسمح أبداً أن تظهري في الحفلة هكذا نصف عارية.

ولما أصررتُ على الذهاب وهجمت علي وأخذت تمزق الثوب وهو على جسمي إرباً إرباً حتى جعلته كومة على الأرض"( )..

ويرصد بعض الكتاب تقدم السن وآثاره على نفسية المرأة، لأن قطار العمر مستمر في الجريان، ولنضارة المرأة وشكلها دور جوهري في حياتها:

"ما للسيدة إحسان تعود هذا المساء من سهرة رأس السنة كئيبة ضيقة الصدر...

يا للمرأة الخبيثة.

 

لقد بدأت تتنكر لها من أمد غير بعيد، وهي ذي اليوم تضرب ضربتها القاصمة فلا تدع مجالاً لتضليل أو تمويه.. لقد خبا بريق عينيها الأخاذتين، وغارتا في محجريهما، وتقصّفت الأهداب الطويلة التي كانت تترك ظلالاً فاتنة على الخدين، وبدا كأنهما تعاريج وتجاعيد حول العينين.

 

لقد أحبت المرأة فيما مضى حباً جماً، يوم كانت تشعر بزهو واعتزاز  كلما نظرت إليهما".( )

وينقل قاص آخر آلية معالجة الأهل لأمر يخصّ الفتيات اللاتي يسعين لشيء من الحرية فيما يتعلق بشؤون القلب، وذلك بإغلاق النوافذ، والقيام بمبدأ ردّ الفعل دون محاولة تعليل الأمور، وإيجاد الحلول المنطقية لها:

"حين أفاقت قمر صباح اليوم التالي كانت الإجراءات الاحتياطية قد تمت، وقد نقلت أمها إليها القرار الآتي:

"تمنع بنات العائلة منذ الآن من الذهاب إلى المدارس، أو إلى أي مكان آخر، وينقلن إلى غرف لا نوافذ لها تطل على الطريق، ويستمر هذا الحظر حتى إشعار آخر"( ).

ولطرق الخطبة والزواج حضورها في غير قصة إذ تأتي بصفتها جزءاً من الأحداث التي تشكل نسيج القص:

"ثم تقول: يا روح أمك أنت يا فطمة انزلي لتحت عندنا ضيوف.. ضيوف مين؟ خطابين؟.. يقطع الخطبة ويقطع الجواز!

وترمقها أختها في ضجر، هذه المسكينة التي لا تقدر النعمة التي منّ الله بها عليها، لو أنها لم تكن جميلة، لو أنها بلغت سناً كبيرة من اليأس! أكانت تزدري فكرة الزواج مثل هذا الازدراء"( ).

 

ويقدم القاصون نماذج إنسانية أنثوية أخرى من مثل: المرأة المضطرة للعمل في الشحاذة، والمرأة حين تمرض، والمرأة التي لا تملك قرارها، والمرأة التي تعمل خادمة.. فالمرأة المريضة كانت تنتظر قادماً تعوّل عليه، لكنه لا يأتي وقت الحاجة لقدومه "هاقد مرت ثلاثة أيام.. ثلاثة أيام انتظرتك فيها بلهفة وشوق وأنت لا تأتي.. لم أستطع أن أخط حرفاً واحداً، لأني لم أعرف النوم خلال ذلك، وكل ما أدريه أني نفثت كثيراً من الدم، وأني كنت صريعة حمى عنيفة، ولقد تبين لي اليوم بأني أصبحت موضع العطف، وأن أحداً لا يرمقني بازدراء، وهذا في الواقع بات لا يهمني في كثير أو قليل، لأني لا أحب عطف وشفقة أحد، وإذا كان هذا يعني شيئاً عندي فإنما ذاك الأمر الرهيب الذي سبق لي أن أخبرتك بأني أمقته..."( ).

 

وهناك قاصون آخرون يستفيدون من عرض بعض أوضاع المرأة التي تخصّ المرض لرصد آلية التفكير والوعي السائدة المتعلقة بالسحر والشعوذة والجان.."إنه جدري،وسادت الهمسات، وتدانت رؤوس أهل القرية متسائلة، وتتسع أهدافهم فيقول شيخ: إنه رأى هذا المرض في إحدى القرى وإنه يجعل الشخص كسيحاً، وقال آخر: إنه يجعله أعمى، وقال ثالث: إنه مرض في المعدة لا يلبث أن يشفى بقليل من البابونج، أما طبيب القرية المجاورة فقال وهو يرفع عقاله مفكراً: هذا المرض يسمونه عندنا (الشنورة) وهو مرض فظيع إذ أنه يترك الإنسان مجنوناً.

 

وقرَّب رأسه من المجتمعين وقال بصوت خفيض: يقولون إن من يصاب به هو على اتصال مع الجان وخاصة ابن الملك الأحمر، وساعد الله دياب (العريس) فقال أحد الشبان: ومن قال إنه سيتزوجها، لقد أسرّ لي البارحة أنه ليس قرن التيس حتى يتزوج امرأة تزوجها المرض"( ).

ويشير قاص آخر إلى افتقاد المرأة لأي قرار يخصّ مرتكزات حياتها، لكن القاص ينقاد للأفكار وتجره المباشرة مما يفقد الكثير مما يسعى إليه لحاؤه الفني، الذي يجب أن يبقىهو الأبرز والأوضح، في قصة بعنوان الله والزنابق والعبيد:

"قلت: لا بأس عليك.

إن المرأة التي أردتها لا تصلح لأنها من صنع العبيد، أبوها وأمها هما اللذان صنعاها، هذه هي الحقيقة المعترف بها اليوم، ولذلك لهما الحق في أن يبيعاها بالثمن الذي يريدان، هذه هي مأساة أخرى من مآسي العبيد: والجرح العميق أن كلّ امرأة اليوم هي ملك أبويها.

 

لشدّ ما يؤسفني أن تفقد المرأة بهجتها من نفسك يا صديقي الشاب كما فقدت ذات يوم البهجة عند صديقتي الزنبقة.."( )

إن موضوعات المعاناة والظلم لا تخصّ المرأة فقط بل هناك نماذج كثيرة تتعلق بالأطفال الذين يلجؤون إلى العمل على الرغم من صغر سنهم ويضطر بعضهم إلى ترك دراسته.

ألوان من المعاناة:

تعددت أشكال المعاناة في هذه المرحلة التي انتبه القاصون فيها إلى أنماط عديدة من الناس المسحوقين وقد شكل موضوع معاناة الأطفال أحد أهم الموضوعات الرئيسية في سلّم المعاناة التي تناولها القاصون، بخاصة أن هذه الهموم وتلك الألوان من المعاناة كانت ذات تجليات مختلفة: كالاضطرار إلى العمل في ميدان (الشحاذة) والأب الذي يضطر إلى تشغيل ابنته خادمة في بيوت الناس على الرغم من كرهه لقيامه بهذا الفعل.

 

ولفتت انتباه القاصين موضوعات ذات أبعاد رومانسية عولجت بالطريقة ذاتها من مثل الطفلة بائعة اليانصيب والأطفال المضطرين إلى العمل.

وكانت موضوعات العتال وبائع العرقسوس وسواها مواد أولية لقصص عديدة، إضافة إلى صراع الأجيال وأحوال العمال والمشاكل الوظيفية وبعض العادات والتقاليد، ورصد حال التغير التي أصابت نواحي الحياة، والتعبير بكثير من المباشرة عن أثر المكان ومحبته في بعض ما يقوم به الفرد.

أما الطفلة الشحاذة التي تجبرها ظروفها أو ظروف أهلها على التسول فتحضر أيضاً، وهي التي تفقد كل حقوقها الطفولية، لأنها ستقضي جلّ وقتها في الشارع، والشارع لا يحفظ الحقوق:

"كانت تبلغ من العمر أعواماً سبعة، وترتدي ثوباً قصيراً مرقعاً في أكثر  أجزائه يكشف عن ذراعيها النحيلتين، وركبتيها الضامرتين، وقد حشرت قدميها في حذاء كان يرغمها على أن تعرج في مشيتها قليلاً"( ).. لكنها أخيراً تصل إلى نهاية مأساوية إذ تدهسها سيارة.

ويتناول قاص آخر شعور الأب وهو يجد نفسه مضطراً إلى تشغيل ابنته وتركها في أحد البيوت نتيجة للظروف الحياتية القاهرة:

"كان العرض مفاجئاً إلا أنه أراد أن يمتنع بسرعة، إنه لا يريد فقدان ابنته الوحيدة، لا يريد أن تعمل خادمة، وعندما حاول أن يتكلم سبقته المرأة، وهي تمدّ في وجهه ورقة خضراء من فئة المئة ليرة وتقول: وأنت لازمك مصاريف.. خذ دبر حالك... البنت عندي بأمان نحن مثل أهلها لا تعب ولا غسيل ولك والله أحسن لها، الحياة بالشام غير يا أبو أمونة"( ).

 

وقاص آخر يقدم نموذجاً قصصياً آخر، وهي الطفلة بائعة اليانصيب التي تبدو لا حول لها ولا قوة لكنها صاحبة كرامة غالية:

"لقد بدت عيوش صغيرة جداً ورفعت رأسها الحلو نحو محمود وكأنها تتوسل إليه، ثم ارتمت  على يده، وهمت أن تقبلها:

ـ دخلك... حقها خمس ليرات... ببوس إيدك بتموتني أمي قتل...

ـ وتدخل سعيد: نحن بنعطيك ياها.. بس بشرط ما بنشتري!

ـ وكأنما ردت روحها إليها فقالت وهي تضحك من قلبها: ليش؟!..

ـ احسبيها ضاعت وعطيناك خمس ليرات!

ومدت عيوش يدها فتناولت الورقة وضمتها إلى أخوتها، كانت فرحانة كما لو أنها فقدت إحدى عينيها ثم استعادتها سليمة مضيئة.

وبدت كأنها تريد أن تمضي في طريقها... وفعلاً، خطت بضع خطوات لكنها استدارت فجأة وهرعت نحوهما، وصدمت بكل قامتها ساق محمود: صدقتوا أني راح روح بدون ما تشتروا مني"( ).

 

وربما يبدو أن القاص قد أسقط وعيه على وعي تلك الطفلة، لكنه أراد أن يقول لنا: إن الحاجة ليست مبرّراً لقبول ما يقدّمه الآخر.

شغل الموضوع الإنساني الأثير الذي يتعلق بالفقر والغنى، والحاجة لمكانة خاصة عند قاصين عديدين، محاولين أن يبثوا روح المحبة والتعاون بين الناس وضرورة التراحم، ومن ذلك فتاة وأمها يشحذان ثم سرعان ما يتبرعان ببعض أموالهما إلى رجل ضرير.

"وبعد ساعة زمن كانت الأم وابنتها في المدينة الكبيرة، تجوبان الشوارع وتستعطفان أكف المحسنين، ولما سألت البنت أمها: لماذا لا نجمع في الأيام الأخرى مثلما نجمع اليوم في وقت قصير؟..

أجابتها الأم في دعة: في أيام الأعياد يا بنيتي، يسعى الإنسان للتقرب من الله بإحسانه إلى الفقراء والمساكين، وعندها مرّ بجانبهما رجل ضرير يستجدي مثلهما، فوضعت البنت الصغيرة في يده المبسوطة قروشاً معدودة، كان قد تصدق عليها بها عابر أمام باب الكنيسة.. فمضى الضرير يدعو للمحسنة الطيبة ويتمتم بآيات شكر بصوت خفيض"( ).

وينفتح باب المعاناة لدن القاصين ليتحدثوا عن ألوان أخرى منها ما يكابده الأطفال الفقراء:

"منذ أن نال (سعدو الأساس) الشهادة الابتدائية قال له أبوه: قسط التجهيز وأكلك علي، والكتب والأواعي عليك.. دبر حالك. شف لك شغلة تصمد منها كم قرش للمدرسة، ومن ذلك اليوم صار ينتظر عطلة الصيف طيلة أيام المدرسة"( ).

 

والنماذج المسحوقة  شكّلت مادة ثرّة للقاصين، وقد شغفهم بها هذا السعي الدؤوب للكسب الحلال رغم الآلام والأمراض والأوجاع، التي تحيله إلى نهاية وإلى حال لا يريد الوصول إليها أحياناً:

"وأخذ يحدث نفسه: إن ظهره يؤلمه كثيراً، ومفاصله كأن السوس ينخر فيها، إنه يسمع طقطقتها واضحة كضربات قلبه الشديدة.

وفجأة فقد توازنه واضطرب في سيره، ومال بحمله يمنة ويسرة، ثم دفعه الثقل إلى الأمام، فتعثر وانكبّ على وجهه مستقبلاً الأرض وقد سقطت الخزانة الضخمة فوقه"( ).

أما بائع العرقسوس فإنه يعاني من ملاحقة الشرطة له، ويقدمه القاص وقد اكتوى بنار الوجع والمعاناة، وها هنا يقدم القاص أحداثه منتصراً للإنساني:

"وتجمهر حولي عدد غير قليل من الناس فازددت حماسة، وانطلقت أنادي، وأبرِّد ما تحمله القربة المعلقة على ظهري من الشراب، بهزّ جسمي هزّاً متداركاً متواصلاً يثير الضحك، وبينما أنا كذلك أحسست بصفعة على رقبتي، وركلة شديدة على قفاي ألقتني أرضاً، وما كدت أنهض من عثرتي بصعوبة حتى وجدت أمامي شرطياً يزمجر غاضباً بكلام لم أتبين منه سوى اللعنات والسباب فتملكني الارتياع وانتابني الهلع"( ).

ولم تكن مهنة التدريس ببعيدة عن المهن الشاقة التي تحتاج إلى مكابدة ومعاناة وصبر، لكن المدرس سرعان ما ينسى همومه المتراكمة حين يجد ما يواسيه، ولو كانت هذه المواساة كلمة شكر من طفل:

"إنه يكره هذه المهنة الملعونة، ويضحك في صميمه من كل الذين يمارسونها، كثيرون من زملائه يخافون هذه المهنة ويتندّرون على الكبار منهم، أما هو فإنه يكرهها فحسب"( ).

 

وحين تلاطفه أخته الصغيرة ينسى جلّ آلامه:

"عندما طلع الصباح أقبلت أخته الصغيرة عليه توقظه، ولما أفاق قرأ في عينيها عتاباً لطيفاً، قالت له: تأخرت امبارح وانتظرتك كتير... قوم... كنت بريد تصحح لي إعراب البيت... وكالغزالة البرية نفرت نحو محفظتها، واستلّت منها دفتراً قدمته له فتناوله"( )..

وهناك قاصون وقفوا عند مسألة العمل بصفتها فكرة كلية تشير إلى معاناة العمال بعامة، وضرورة المطالبة بحقوقهم يستوي في ذلك العاملون في أي مجال، ولعلّ هذه الفكرة من تأثيرات الفكر الاشتراكي، من ذلك قول ليان ديراني بحماسة شديدة: "من يتصدق علينا نحن العمال؟.. من يسامحنا بقرش واحد؟.. إننا ندفع ثمن كل شيء، ويا ليتنا ندفع الثمن الحقيقي، بل إننا ندفع أكثر من الثمن العادي بكثير... كل القوانين وضعت لاستثمارنا وإذلالنا.. إن أصحاب الأموال الكبيرة أنشؤوا المعامل بجهودنا ليربحوا.. ورفعوا البنايات والبيوت ليربحوا... ومن أين يربحون؟.. من يقوم بتأدية هذا الربح لهم؟..

نحن.. نحن العمال.. نحن المضطهدين.. نحن الذين نبذل دماءنا وأرواحنا لكسب القرش فنؤديه لهم ونعيده إليهم ثمن أقل ما نستطيع الحصول عليه للمحافظة على حياتنا وتأخير الموت عنا.."( )..

إن لغة هذا المقبوس تبدو قريبة من لغة خطاب سياسي يمكن أن ينشر في جريدة على أنّه مقال في المطالبة بحقوق العمال والإشارة لتضحياتهم أما أن يكون جزءاً من قصة فهذا يحتاج إلى إعادة نظر لأن الإيديولوجية المباشرة التي يحملها تنأى به عن ذلك.

وهناك قاصون آخرون توقفوا عند نماذج طفولية شقية، وما تؤدي شقاواتها أحياناً من نتائج متخذين من ذلك فرصة لمواعظهم المتعلقة بضرورة التمسك بالقيم والأخلاق منبهين إلى ما تؤول إليه أمور من يتخذ السرقة درباً له وأن العقاب الرباني بالانتظار" كان (هوسيب) أزرق الوجه، متصلب الأطراف، جامدها، تنام إلى جانب رأسه حية سوداء تتلوى على نفسها، ولا تحرك ساكناً.

 

وقريباً منه على حافة النهر كان ينام كلب رمادي اللون، قصير الذنب، أجرد الجسم، طويل الأطراف، وقد تجمد فوق عنقه سلسال من الدم الأسود، بينما قدماه متدليتان في الماء، وثلاثة ديدان تأكل في عينيه"( ).

 

وربما تتكئ هذه القصةعلىحادثة واقعية أضاف إليها الخيال الشعبي شيئاً من أجوائه.

ونظراً إلى الحالة الثقافية التي راحت تسود فإن إحساس الأبناء بأهمية ما يعتقدون، وضرورة أن يكون لهم رغائبهم وحياتهم الخاصة قد دفعهم للخوض في مجادلات كثيرة، وعدم الرضا والاستسلام  لما يثيره الأهلون فيما يخص أمورهم وجوانب حياتهم، وهذه المسألة تشكل  خطوة في طريق وعي الفرد تجاه وعي الجماعة ويبدو ذلك جلياً في بعض قصص سعيد حورانية وعادل أبو شنب، وضرورة أن يكون له استقلاليته ورؤيته الخاصة، وهي تنقل لنا إحدى نقاط التطور الفكري الذي يتجلى خلال محاولة الفرد الابتعاد عن قرارات الجماعة إلا في ما يفيده، وما ذلك إلا إشارة إلى حدوث معطيات فكرية جديدة أدت إلى  هذه الأمور.

من ذلك ما قيل في رؤية الابن وتضخم الذات التي تشعر أن الكون لم يعد يتسع لها:

"لا بأس سيذهب ماشياً بحمله الثقيل وسيثبت للعالم بأجمعه أنه رجل يأبى أن يسكت على الإهانة، ولكنه سينتقم انتقاماً مريعاً فظيعاً، سأنتقم ولو بعد عشرين سنة، لماذا أجلس وأحقد.. العظماء كلهم تفرقوا عن أهلهم بسبب أفكارهم" ثم يكتشف "لا كرامة لنبي في وطنه... لماذا بالله يبقى في البيت بعد هذا؟ وأي رابط يربطه بعد الآن، أبوه وقد أهانه أمام الملأ؟"( ).

 

وتتتالى الصور التي يقدمها القاصون من ذلك ما يخصّ آلية العمل الوظيفي والرقابة والتفتيش بشيء من السخرية( )، ويتولد نمط من القص خاص بوظائف الدولة بمستويات تعبيرية متنوّعة فيها الطريف، وفيها الأسلوب الذي يأخذ بعداً وعظياً، يتعلق بمسألة البطالة والطرد من الوظيفة:

"مضى على المواطن لطفي عبد السلام ثلاثة أسابيع وهو عاطل عن العمل. وهو لذلك مغتّم وحزين، حزين ليس فقط لأنه فقد المورد الذي يقتات منه ثلاثة صغار وزوجة تحمل الرابع، وأم ضريرة، قعيدة البيت، فطبيعي أن يغتمّ الإنسان إذا فقد عمله الأوحد، لكنه حزين كذلك لأنه لا يعمل، لأنه عاطل، لأنه بات بعيداً عن تلك التي انعقدت بينه وبينها آصرة ودّ خلال تسع من السنين... لقد سرّح من عمله المواطن لطفي عبد السلام.. سرح مع عمال كثيرين"( ).

وقد أدان القاصون أوضاعاً بدأت تعلن عن نفسها من مثل الحديث عن تثاقل بعض الرجال على النساء ومحاولة استغلال الوضع الوظيفي...

 

الهجرة والمكان:

وقد توقف قاصون آخرون عند أشكال جديدة من المعاناة تتعلق بمسألة الهجرة الداخلية والخارجية، محاولين أن يحلّلوا ويتوقفوا عند القضايا التي تثير إشكاليات نظراً إلى طبيعتها وعلاقتها بنسج المجتمع( )، ودوافعها وآثارها وعلاقتها بالانتماء، والواجب، والحق بين الوطن ومواطنيه وعبَّر أحياناً قاصون عن مواضيعهم بكثير من الجرأة، بخاصة ما يتعلق بمسألة الشرب التي كان يجاهر بها بعض الشخوص بوصفها نوعاً من عدم الخضوع للرقيب الاجتماعي وما يدور من حوارات حول هذه الأمور بين الشخوص:

"يجب أن تضيع في النشوة التي تدخل إلى قلبك الجبان الشجاعة التي تفتقر إليها فتدرك حقيقة الأرقام التي تعيش من حولك..

اشرب وستشعر بشجاعة فارغة كعقلك الفارغ لأنه ينقصك الإيمان.. الإيمان بأي شيء، وعندما تؤمن لن تكون بحاجة إلى مثيرات لتوقظ شعلة الشجاعة الخامدة في قلبك، آه لو أن الناس يسكرون جميعاً مرة واحدة.."( ).

 

وتتجلى أهمية المكان حين يغدو عاملاً مؤثراً في القرارات نظراً إلى حميميته حتى إن أحد الشخوص يعود أدراجه بعد قراره الهجرة لأنه تذكر علاقته بالبلد بعضاً من ذكرياته فيها:

"تذكرت روابيها الفاتنة في أعاليها، قصور كأنها جنان وعلى دروبها ورود، وفي سفوحها أنهار وجداول وعيون، تذكرت التنورة المزركشة تلبسها فلاحة الضواحي، تدور بها على أنغام الناي في دبكة عاليادي اليادي، تذكرت ليالي الصيف الرائعة على شطآن بردى الوفي في انسيابه نحو الوادي الأخضر وضوء القمر يناجي سماء الليل، والآهات يرددها العشاق في لحن طويل لا ينتهي، تذكرت الكروم واللؤلؤ على شجيراته"( ).

ثم يتذكر أمه المريضة، لتمتد كل هذه الذكريات معيدة إياه إلى بلده، رافضاً أن يهاجر ويتركها.

 

وقد انطلقت مخيلات القاصين للحديث عن موضوعات أخرى تخصّ ما يتيحه المكان للشخوص بخاصة دمشق التي تقدم وجوهاً عديدة للحياة:

"بعد منتصف الليل تغدو دمشق مدينة جديدة،  مخيفة، هل رأيت شوارعها الخاوية الحزينة؟ هل أكلت في مطاعمها الرخيصة؟ إن فيها دكاكين عتيقة تقدم الشاي الأسود بلا ثمن، وعيوناً لا تنام تأكلها حروف المطابع.. إن دمشق بعد منتصف الليل غير دمشق النهار"( ).

إنَّ نظرة متأنية إلى واقع قصة هذه المرحلة تقودنا إلى الإقرار بالتنوع محاولة الشمولية يومذاك، إلا أن طريقة المعالجة والتناول تحتاج إلى وقفة لأن قضايا الفن لا يهمّ فيها كثيراً الحضور الكمي، وإنما المعول في كيفية قول الأمور، معالجتها والنظر إليها.

 

ومما لا شك فيه أن أسباباً عديدة قد تكاتفت في إبقاء معظم ما أنتج من قصص في أطر وحدود معينة، لكن هذه الأسباب لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما نشأ لدينا جيل لا حق أطلق قضايا كثيرة من عقالها، وفتح باب التجريب بقوّة، مؤكداً الالتزام بالأفكار الإنسانية ولكن لا ليكون الالتزام عبئاً على طريقة المعالجة، بل ليكون آية من آيات طريق الرؤية والتناول، ولعل هذا أكثر جدوى وأعظم فائدة للفنون من الشعارات والمقولات العريضة.

 

في قضايا المرحلة وظواهرها الفنية

أسئلة الفن:

استدعت هذه المرحلة مجموعة من القضايا والإشكاليات التي تخصّ مفهوم فن القصة القصيرة ودورها، والعلاقة بين الفن والواقع، والأساليب الفنية التي يمكن أن يستفيد منها القاصون لقول ما يبتغونه. نتيجة لكونها مرحلة تأسيسية لم تنضج فيها أدوات القص بعد.

 

وقد تواشجت القضايا السابقة مع ثلّة من الظواهر الفنية لوسم هذه المرحلة بمجموعة من المياسم التي حققت هويتها، وتركت بصمات واضحات على قصص كثيرة أنتجت يومذاك.

 

ويبدو الباحث معنياً بمناقشة عدد منها، من مثل ما يخص آلية المعالجة، وطبيعة الموضوعات ومفهوم الواقعية ودور القصّ وأنماطه السائدة، ومن ثمة الوقوف عند بعض الظواهر الفنية، والإشارة إلى بعض التجارب الفنية المتميزة.

 

إن المنازع ذات الأبعاد الإنسانية التي تدعو إلى القيم الكبرى، وتشغلها معاناة الإنسان كانت ذات حضور بارز يمكن أن يُقْبض عليه ها هنا خلال ميدانين واضحين:

الأول: الموضوعات التي عالجتها قصص كثيرة.

الثاني: آلية المعالجة وطريقة الرؤية.

إنّ الموضوعات المعالجة يعود عدد منها إلى مفاهيم، ومقولات، ونماذج ركزت عليها معطيات الحركة الرومانسية بتجلياتها المختلفة؛ من ذلك: بائعة اليانصيب والطفل المتسول، والمرأة العاهرة التي دفعتها ظروفها إلى العمل في هذا المجال، ومعاناة الطفل.

 

لقد فتح القاصون الأبواب لوصف حالة أولئك الشخوص وحاجاتهم الجسدية والظروف المحيطة بهم، وغالباً ما جاءت هذه المعالجة منبتَّة عن مساقاتها ركزت على الخارجي من الأمور، وانشغلت بالظاهرة، دون محاولة البحث عن إفرازاتها ومباعثها.

 

ومثل هذه الرؤى المسطحة في كثير من تجلياتها قادت إلى آراء غلب عليها طابع الشعار حول الغنى والفقر وحاجات الأطفال ووضع اللوم دائماً على المجتمع، وقد أسهم فهم فن القصة القصيرة ووظيفته إسهاماً فاعلاً في هذا الميدان.

 

وقد كانت الشعاراتية سمة بارزة يومئذٍ ومطلباً حياتياً يومياً، وربما لا يعود ذلك في غالبيته إلى رغبة في الشعاراتية بقدر كونها تكأة نظرية فكرية يمكن أن يجاهر بها المرء، فبنظر كثيرين لم تكن الأمور تحتاج إلى جدل طويل ويحدها أمران هما الأبيض والأسود، بل إن إمكانية البحث عن ألوان الموشور الأخرى لم تكن واردة في قاموس الحالة الاجتماعية والفكرية يومذاك، وربما هذا ليس بغريب عن المجتمع العربي السوري  الذي راح يتشكل، ويحاول النهوض والارتقاء.

ومما لا غرو فيه أن الأحزاب والأفكار قد أسهمت في تغذية الاختلافات، وجرها إلى منتهاها بحيث تأخذ شكلاً فيه الكثير من الحدة، بخاصة في عملية فرز الفن للفن، والفن للواقع، رغم أن كل مقولة منهما تحمل الكثير من الأفكار التي تحتاج لحوار طويل.

 

وأفرزت هذه الأحوال قصصاً أتخمت بها الساحة لا علاقة لها بالفن إلا ادعاؤها هي، لأن عدداً من كتابها اعتقد أن لا فرق كبيراً بين القصة والمقالة وهي تتحمل الإيديولوجيات في ظل وضع كان الفرز فيه معلناً في آلية التفكير وفق الرؤى التي غالباً ما صنف في دائرتها الفكر العربي.

 

وها هنا لا يفوت المرء الإشارة إلى صكوك التميز  التي منحت لقاصين كثيرين آنئذٍ، والسبب الرئيسي هو مضامينهم ومقولاتهم وسبقهم التاريخي والحرص على الواقعية بمفهومها الوثائقي، وقد جعل هذا الأمر وأمور أخرى اللهجة العامية حاضرة حضوراً قوياً لأنها الأقدر، فيما يرى بعضهم، على نقل أفكار الشخوص، ودفع هذا الفهم لدور القصة إلى تقديم الكثير من التفصيلات غير الضرورية أيضاً.

 

وأمام عدم فهم دور القصّ والانشغال بالوقائعية وسوى ذلك فقد وقع عديدون في آراء خطيرة تخصّ الأخلاق والعهر والشراب مثلما وقع عديدون في الوعظية لأهداف مخالفة، وبدت بعض الأفكار أنها تُقدَّم بشيء من السذاجة الفنية، وقد أصيب كثيرون بشعار أهمية التجربة الحياتية مما أوجد قصصاً كثيرة لا تستحق أن تكون قصصاً، وما كتبت إلا لأنها حدثت مع القاص في الواقع دون التنبه إلى أن الحادثة الواقعية ليست بالضرورة قادرة على بناء قصة فنية.

 

وهذا يصبّ بصورة أو بأخرى في فهم مرجعية القصة في ظل تأكيدات انتماء القصة إلى الواقع، لأنها تطرح مفهوم الالتزام والصدق الفني والمحاكاة، والمهم في هذه الإشكاليات ألا تبقى القصة منتمية إلى الواقع، بل أن تعلن انتماءها للفن، إنَّ المواد الخام والحكايات لا تشكل وحدها الأهمية المطلوبة للفن القصصي الذي يُستنزف حين لا يعطى حقوقه.

 

لقد كانت المعالجة الفنية لمعظم القصص لا حول لها ولا قوة أمام حجم الشعارات الكبرى المطروحة التي تحتاج بالتأكيد إلى شيء غير فن القصة القصيرة للتعبير عنها نظراً إلى أن هذا الفن عرف عنه أنه فن نزق، يوحي أكثر مما يقول.

 

إلاّ أن الطموحات المبنية على دور الفن في تغيير الواقع دفعت عدداً من القاصين لقول قولتهم وطرح شعاراتهم في قصصهم التي كتبوها. وعدم القبض على جوهر فن القصة القصيرة لدن قاصين عديدين ضيَّع على هذه المرحلة الكثير الكثير من الفن. لذا بدت كثير من الملامح الفنية ملامح خجولة لم تستطع أن تشرئب أكثر، وهذا ليس بغريب إذا تذكرنا بعضاً من النقد الذي لم يُوِل الفن الأهمية التي  يستحق حتى في مراحل لاحقة.

 

إنّ فهم روح القصة القصيرة، إضافة إلى الموهبة البارزة لدن كثيرين قد خلق بوناً شاسعاً بين أنماط القصة القصيرة في الخمسينات. إذ نجد قصصاً  سارت في طريق فنية لاحبة، فارضة أجواءها، في حين أن قصصاً أخرى لم تتجاوز نفسها.

 

ولعلّ فرحة القاصين بالفن قد جعلتهم يختبرون إمكاناته، كل بحسب مفاهيمه ومقدراته ووعيه وموهبته، فنجد آنئذٍ أحاديث عن البيئة والمكان والمجتمع الصاخب والعادات والأفكار..

وباستثناء أسماء قليلة من هذه المرحلة يمكن للمرء أن يرثي معظم التجارب الأخرى وحالة القصّ الفنية، وقد أسهمت بعض الظروف في الثبات على الرغم من عدد المجموعات التي صدرت يومذاك.

 

إنَّ ما جعل عديداً من قاصي هذه المرحلة يتطورون ويقدمون قصصاً ناضجة في مراحل تالية هو فهمهم المتطور وقبضهم على جوهر فن القصة القصيرة إضافة إلى موهبتهم، مع مايمكن أن يضعه المرء في الحسبان من متغيرات في الظروف والمفاهيم وروح التنافس والترجمة، ولعل مشكلة كثير مما قدم يومذاك لم يكن تماماً في القاصين أنفسهم بقدرما كان في آلية الفهم السائدة آنئذٍ، وتعويل كثيرين على ما تطرحه القصص من موضوعات وأفكار وفق اعتقاد سائد بأن منبع تقدير القصة يعود إلى مضمونها، ولا  علاقة كبيرة في تقديرها لآلية الكتابة أو المعالجة الفنية.

 

تيارات القص:

يمكن أن نصنف قصص هذه المرحلة في تيارين وفقاً لآلية الكتابة والمرجعية والوظيفة:

التيار الأول: يعدّ بعيداً عن القصة الفنية لأسباب كثيرة وقد مثلته مجموعات انشغفت بالوعظ والتوجيه، وكثيراً منها كتب قبل هذه المرحلة لكنها لم تنشر، وكان همها توجيه أذهان الناس إلى مجموعة من الأفكار الدينية أو التاريخية أو الإنسانية الأخلاقية خلال إنشائية عالية واستدرار للمشاعر والعواطف وإنارة صفحات مجيدة من تاريخنا، وقد وجد كاتبوها في ظهور فن القصة وقتذاك فرصة سانحة لقول ما يريدونه بخصوص مقولاتهم التي يبتغون إيصالها، ومعروف الأسلوب الوعظي وإشكالياته وكون رسالته هي الأهم وغالباً ما يسخّر نفسه لقول ما يريده عبر حكائية لا تتوانى عن نقل مقولاتها بكثير من الصراحة والمباشرة أحياناً.( )

ويضاف إلى المجموعات السابقة مجموعات أخرى تمثل هذا التيار انشغلت بالأحداث الغرامية والمغامرات البوليسية هادفة إلى إمتاع القارئ واستثارة مشاعره وتشويقه، وتقديم متعة له تشده إلى متابعة القصة، وهذا يذكر المرء بجذور القصة يوم كان هدفها التسلية والإمتاع( ).

 

التيار الثاني: يعدّ فنياً، وتنقسم فنيته إلى مستويين، الأول تمثله مجموعات كتبت في ضوء رؤى وأفكار ومفاهيم سابقة، إذ  إن عدداً  منها ينتمي إلى مرحلة البذور الفنية، وقسم آخر اختلطت فيه المقالة بالخاطرة، وهذا المستوى يمكن أن يسميه المرء الصورة القصصية، أو المقالة  القصصية التي لم تتضح معالمها الفنية بعد، ولم تفرق بين مفهوم القصة الفني وبين الإرهاصات الفنية ويغلب عليها بعد رومانسي استبكائي فيما يخص القضايا التي عالجتها وهي كثيرة( ).

والمستوى الثاني في هذا التيار هو الذي نجح في تقديم نقلة فنية عما قدم في بذور القصة القصيرة، وأسهم في ترسيخ فن القصة القصيرة السورية، وهذا المستوى ينقسم إلى ثلاثة أقسام قسم رأى أن القصة القصيرة محاكاة للواقع، وقسم حاول نقل بعض قضايا الواقع بقليل من الشغل الفني، وقسم قدّم نماذج قصصية فنية متميزة( ).

ومثل هذا التنوع في هذا المستوى طبيعي في كل مرحلة من المراحل إذ تتحكم فيه مجموعة من الرؤى والأفكار والمفاهيم والموهبة التي تخصّ القصة القصيرة.

وفي كل مرحلة ثمة مجموعة من الكتاب تحاول أن تبقى متقوقعة في محاكاة ما أنتج سابقاً وتراه أنه الأميز والأفضل، في حين أن كتاباً آخرين يرون أن أفضل اعتراف بأهمية ما سبق، هو محاولة تجاوزه وتقديم آفاق جديدة للفن.

 

ظواهر فنية:

يبدو أن الحديث عن الظواهر الفنية لهذه المرحلة يستدعي وقفة مطولة عند قضيتين ترتبط فيهما مجمل الظواهر الفنية والتقنيات هما مفهوم الواقعية وكيف تجلَّت، ودور الحكائية في بناء القصة بما تتطلبه من سرد شائق ومقدرة على الإمتاع والإقناع وحضور آثار الشفوية والسمات الشعبية ودور التخييل، وأثر التفصيلات، ووضوح وبساطة وإمساك بالحدث وسوى ذلك.

 

إن استعمال التقنيات الناجح مرتبط بتحقيق غايات جمالية يسعى خلالها القاص إلى الإمتاع والإقناع بقضاياه التي يثيرها. ومما لاشك فيه أن للواقعية إن فُهِمَت فهماً فنياً جمالياتها وخصالها التي تنماز بها من سواها، مثلما للحكائية سماتها وخصوصياتها التي تجعلها محجّاً لمعظم القاصين.

 

ويمكن للمرء إن أراد أن يسم قصص هذه المرحلة لقال إنها قصص واقعية، مع أن طريقة الاستفادة من الواقعية قد اختلفت من قاص إلى آخر، فبعضهم اختار طريق المحاكاة لنقل ما لفت انتباهه من حالات، في حين أن آخرين نظروا إليها على أنها انعكاس لانعكاس يشتغل عليه الكاتب قبل أن يرى النور، في حين أن قاصين آخرين استفادوا من معطيات واقعية تمكنوا خلالها من أن يقدموا مقولاتهم ويضيفوا ما يضيفونه، محاولين أن يناقشوا ثلة من القضايا والرؤى بأسلوبيتهم الخاصة التي جعلت قصصهم تنتمي إليهم لا إلى وقائع مسطحة،مسلحين برؤية عميقة تتمكن من الغوص في أثناء الواقع.

 

وكما هو معروف فإن "تناسق العمل الفني هو الذي يبرز جملته، لا مدى محاكاته أو قوة شبهه بالطبيعة، وتعتبر فكرة المعادل... من أهم أفكار الفن الحديث، إذ إنها تهدف أساساً إلى إعادة بناء واقع جديد اعتماداً على معطيات ثقافية محددة لبديل للواقع والقائم بالفعل"( ).

 

والفن في تجلياته المتميزة ليس محاكاة، بل خلق وإبداع، ومعايشة تخلق أبعادها الفنية دون أن ننسى الوظائف المنوطة به.

إن الانشغال بالهم الاجتماعي والحرص على الصدق في نقل وقائع ما يحدث قد جرّ قصصاً عديدة إلى غير مبتغاها، وخفت أوهاج الفن فيها.

مثلما أضاع الانشغاف بالإثارة طوراً، والوعظ تارة كثيراً من جماليات الأنماط الأخرى.

 

والحرص على الوقائعية يتضح في عدد من المجاميع من خلال عناوينها:

قصص من الحياة ـ نافذة على الحياة ـ الحب لا يموت ـ مبادئ من باريس ـ الشعب هو القائد ـ صور من حياتنا ـ حب في كنيسة ـ عذارى ومومسات. وهي عناوين لا يجد المرء لها مشابهاً في مراحل تالية.

 

والالتزام بمقولات ورؤية محددة قد قاد مجموعات إلى غير ما يشتهيه كتابها، لكن المرء لا يعدم محاولات تجاوز وُجِدَتْ لدن عديدين بقوا يتابعون كتابة القصة على مدى ما يقرب من نصف قرن.

 

لم تكن الواقعية في هذه المرحلة بقادمة من خارج المرحلة، بل إن الوظيفة ومفهوم الفن والوضع الفكري والثقافي كان له أياد  بيضاء فيما حدث لتكون أهم السمات التي يمكن أن يوسم بها نتاج هذه المرحلة، وقد لا تكون المشكلة في تجليات عديدة في الواقعية ذاتها، إنما المشكلة في فهم الواقعية ولاسيما أن مفاهيم عديدة يجد المرء بعضها قد حقق نجاحات فنية معقولة. إلا أن هذا الاندغام بالواقعية قد أسهم في التخلص إلى حد كبير من تبعات الرومانسية، وبدأنا نرى معالجات واقعية لموضوعات رومانسية.

إنّ الترميز والإيحاء لم يكن لهما دور يعول عليه كثيراً في مجمل ما كتب، وكان القاص أمام ضغط الرسالة وأشياء أخرى حريصاً على قول مقولاته بصريح العبارة غير معوّل كثيراً على المتلقي، ولم يرد معظم القاصين ترك الدلالة احتمالية، بل كانوا يريدون توصيل ما يبتغونه بكل صراحة.

ولو تطورت كثير من الملامح التي يجدها المرء في بعض قصص هذه المرحلة لكان للحديث شأن آخر، إذ إننا نجد نفثات تحليلية وكشفية ومحاولات عديدة للولوج في أغوار النفس الإنسانية، وحرصاً على نقل تفاصيل يومية توضح الأبعاد الشعبية لبعض ما يحدث خلال وضوح في الدلالة واقتصاد في اللغة واتكاء هائل على الموهبة.

إن المرء معني بالإشارة إلىمحاولات بعض القاصين تفصيح العامية، وسوى ذلك من محاولات تبسيطية، ومحاولات أخرى لنقل ما يحدث بلغة الشخوص ووعيهم وليس برؤى كتاب القصة.

 

قراءات في تجارب:

إن اللجوء إلى بعض الأمثلة في مسألة الحديث الفني في هذه المرحلة يبدو ضرورياً، ليس لتكون الحسابات أكثر دقة، بل لأن المجموعات الفنية المتميزة الصادرة في هذه المرحلة ليست كثيرة بحيث تحيِّر المرء، إنها أقل من أن تجعله يتساءل ويقف حائراً في الاختيار.

 

والحديث عن الجوانب الفنية يعني الابتعاد عن المجموعات التي انشغفت بالوعظ والتوجيه، وعن المجموعات التي حاولت دغدغة العواطف واتخذت من الإثارة سبيلاً لها.

وربما يتردّد المرء في ضرورة الحديث عن بعض النماذج الواقعية بتجلياتها المختلفة، إلا أنّه لابد من أن يحزم أفكاره ويقرّر أن يتوقف عند ثلاثة مجموعات لكتاب تركوا بصماتهم في هذه المرحلة وفي مراحل لاحقة، كل منهم وفق الأسلوب الذي اتخذه وهم يصبون في بوتقة الواقعية، إلا أن كل واحد منهم اختار أسلوبيته الخاصة، وبان في أنحاء قصصه تقنياته، وهم جميعاً كان لهم بصمة خاصة في هذه المرحلة بل عبر سيرورة القصة القصيرة السورية وهم عبد السلام العجيلي ـ حسيب كيالي ـ سعيد حورانية، ولا يعني عدم الوقوف عند تجارب أخرى أنها لم تقدم شيئاً جديراً بالمناقشة. وإنما لأسباب منهجية تفرض على المرء ضرورة الاختيار، والحرص على أن يكون الاختيار ـ قدر المستطاع ـ يعبر عن الفني بتجلياته في هذه المرحلة.

 

البداية ستكون عند عبد السلام العجيلي وخصوصيته اللافتة في هذه المرحلة ليس لأنّه قدَّم ثلاث مجموعات، بل أيضاً لأن المتابع يجد تطوراً من مجموعة إلى أخرى، هذا التطور يتضح في آلية المعالجة الفنية والتقنيات المستعملة والرؤية للأشياء بدا ذلك في مجموعته الثالثة "قناديل إشبيلية" بخاصة، وفيها يحاول القاص الاستفادة من عدد من التقنيات (المقاطع والرسائل + التناص + تعدد الأصوات)، إضافة إلى أنه منذ بواكيره قد استطاع أن يعالج قضايا ما كانت الظروف آنئذٍ تشجع على مناقشتها، بعضها له علاقة بالفكر( )، مستفيداً من ثقافته العلمية والأدبية والعادات والتقاليد لتقديم رؤاه، محاولاً أن يضفي على أفكاره المثارة الكثير من المشروعية عبر ربطها بالواقع وتقديمها وهي مقنعة ممتعة، وما كان هذا ليحدث لولا أن تمكن من السرد الشائق عبر طريقة حكائية. وهو لم يحرص على نقل وقائع والتعبير عن هموم معيشية يومية بل إنه حاول مناقشة ماهو يومي من ضمن معالجته الأفكار مضيفاً على قصصه أبعاداً خاصة ربما لم تتوفر لدن معظم قاصي هذه المرحلة في ظل سيطرة لمفاهيم معينة تمكن العجيلي من تجاوزها إلى حدّ كبير، وهو بذلك قد فتّح الأذهان إلى أمور عديدة تتعلق بفن القصة وخصوصيته، هادفاً إلى قصدية في التقنية تبدو لافتة من خلال التنويع الذي يجده المرء في قصصه، ومحاولته التناص والرسائل وسوى ذلك.

 

 وما كان هذا ليتاح لولا أنه كان عارفاً بما يريد، مبتعداً عن النمطية والنماذج التي كانت سائدة يومئذٍ بتقديم شخوص واقعيين من لحم ودم يعانون من إشكاليات عديدة، مستفيداً من رحلاته وأسفاره ولإضفاء الكثير من الدهشة حول كتاباته.

 

صحيح أن قصصه كما يرى بعضهم تتكئ على إيمان بالغيبيات وغرابة وقدرية( ) إلا أنه قدم بعض ما قدمه بطريقة مقنعة، وليست مجلوبة من خارج النص بل من داخله.

إن العجيلي قد لعب دوراً كبيراً في ترسيخ فن القصة القصيرة وفي لفت الأنظار إلى أن الوثائقية ليست كل شيء وأن الحكائية إن طُعِّمت بالتخييل وحتى إن استندت علىوقائع لقادرة على أن تأتي بثمرات طيبات.

 

إن مجموعات العجيلي الثلاث الصادرة في هذه المرحلة تبرهن على مقدرة سردية فائقة، ووعي كبير في تناول مختلف الموضوعات، محاولاً تخطي كثير من الحواجز التي يمكن أن تنخلق بين الكاتب وموضوعاته من خلال مقدرة فنية لافتة.

 

ولا يتردد العجيلي في استعمال التقنية المناسبة لموضوعه بغض النظر عن شيوعها من عدمه، في ظل معرفة بالدور الذي يمكن أن يقوم به.

فنجد في مجموعته الثالثة قناديل إشبيلية التناص في قصة (قناديل إشبيلية)، وتقنية الرسائل في قصة (الليل في كل مكان)، ومجموعة وجهات نظر في حكاية واحدة في قصة (بنادق في لواء الجليل)، إضافة إلى الاستفادة من الضمائر عبر تنويعها بين المتكلم والغائب وتطويع القصة لما يريده وتحكمه في طولها وقصرها، مع أنه يدرك أهمية أن تنتمي القصة للواقع في هذه المرحلة، محاولاً أن يقدم أدلة عديدة على واقعيتها في سياق القصة وإن كان ذلك لم يمنعه من توصيل رسالته التي يريدها وقدعالج في قصصه موضوعات متنوعة تخص الوجود العربي في إسبانيا عبر التناص، وأثر المكان وإيحاءاته والعلاقة بين الأحبة، وحكاية تنبؤ شخص بموته، وحول النضال الفلسطيني، وذكريات عنه...

وكل ذلك عبر أسلوبه الواضح المعالم من حيث الإقناع والإمتاع والحكائية التي تمسك بمتلقيها، والمقدرة على تصوير ما في أعماق شخوصه وبثها المواجع التي يريد بطريقة مقنعة، مقدماً  لنا عدداً من التفاصيل التشويقية التي تجعل قصته على قدر كبير من الجمال.

 

وهو في مساعيه لقول ما يريده  لا يتورع عن استعمال تقنيات باتت تميز تجربته التي تعدّ متقدمة في عدد من النواحي على ما حولها، وقد برع في تسخير التقنيات لأسلوبيته التي عرف بها والتي تتكئ على الحكائية الشفوية التي تجذب متلقيها، وتمكَّنَ  من تقديمها عبر أكثر من وسيلة مؤكداً  عدداً من المنطلقات الفكرية التي تخصّ القضاء والقدر والغرائبية والقدرية وسوى ذلك من أمور وصل إليها العجيلي بعد طول تفكير وتدبر في شؤون هذا الكون دافعاً المتلقي إلى التساؤل معه حول ثلة من القضايا التي ينظر إليها بصفتها مسلمات، هادفاً لتقديم رؤية أكثر عمقاً لواقع يضج بالأحداث عبر لغة جزلة عرفت بها تجربته.

ويمكن لنا أن نستشهد بمقبوس يكشف بعض سمات أسلوب عبد السلام العجيلي.

 

"كنت واثقاً من أني لو أدرت مفتاح العودة ذلك المعلق في قاعة دارنا بمكناس في قفل باب هذه القاعة في إشبيلية لفتحه، ولكن مفتاح العودة لم يكن معي، ووجب قلبي وأنا أتصور أن أجدادي الذين بنوا في مكناس، منذ خمسة قرون، قاعة مثمنة ذات أعمدة مزدوجة في أركانها الثمانية، إنما كانوا يتمثلون في هذه القاعة وينحون منحى هندستها!..

وفي مزيج مثير من العواطف والأفكار التي كانت تتجاذبني في تلك اللحظة اتجهت وأنا شبه مذهول إلى الباب الصغير الكائن في أقصى القاعة والذي كنت واثقاً من أنه ينتهي إلى بستان أعرف أشجاره واحدة  واحدة ومماشية ممشى  ممشى، اتجهت إليه، وكما كنت أدفع ذينك المصراعين في مكناس كل مساء دفعت هذين المصراعين الليلة واندفعت منهما إلى ظلام ما وراءهما".( )

إن القاص في هذا المقبوس يكاد يقنع المتلقي بما حدث وأن ما حدث معه قد عايشه ليس لأنه يستعمل ضمير المتكلم بل لأنه أيضاً يتوجه إلى المتلقي ويدخل في أعماقه ويقدم شخصه وقد سيطرت عليه حال من القلق مما يخلق الكثير من التجاوب بين المتلقي والنص.

إن تجربة العجيلي تعد من التجارب المهمة في سيرورة القصة القصيرة السورية ليس لاستمراريتها فحسب بل أيضاً لمحاولاته في التنويع وأسلوبيته التي عرف بها، ويبدو أن دوره الأبرز كان في مرحلة ترسيخ جذور الفن وتخليصه من كثير مما كان يعتوره.

 

أما القاص سعيد حورانية فقد كوَّنت قصصه بصمة خاصة في سيرورة القصة السورية( )، وتعود هذه البصمة إلى مجموعة خصائص يلمسها المرء في مجمل قصصه، منها أنه يتخذ الصراع تقنية حاضرة في معظم قصصه، وهذا الصراع يكون بين طرفين أحدهما غالب والآخر مغلوب على  أمره في تجليات عديدة (فلاحون = ملاك)، (السلطة = المواطنون)، (الآباء = الأبناء)، ومعروفة ثمرات مثل هذا الصراع في سياق القصّ من حيث التشويق والدينامية التي تمنح للقصة، إضافة إلى تعلق سعيد حورانية بالتعبير عن هموم المظلومين أنى وجدوا في أنحاء قطرنا سواء أكانوا في الميادين أم الحسكة أم السويداء ومقدرته على التقاط مجموعة من الحالات الخاصة الصالحة لتكون نواة قصة فنية متميزة عبر أسلوبية عرفت بها تجربته.

 

ويحرص سعيد حورانية في تجلياته القصصية المتعددة أن يكون عيناً، نقدية ساهرة لا ترحم ظالماً أو عادة مهترئة، أو موقفاً خاطئاً بل يشرع قلمه اللاذع الطريف ليتوقف عند كل هذه الحالات مصوراً إياها بكثير من الحرارة، محاولاً الالتزام بقضايا الناس البسطاء وبقيم الحق والعدالة الإنسانية، مستفيداً من الرمز في حالات قصصية عديدة إلا أنّه رغم كل هذه السمات  المتميزة فالمرء لا يعدم وجود نفحات من المباشرة والنقد الصارخ في مواقف متنوعة مما يجرّ بعض  مقاطعه للوقوع في الخطابية، أما الموضوعات التي اهتم بها فهي تتناول مسألة الإنجاب والقلق وبعض الأمراض والعلاج الشعبي وآثاره السلبية وعلاقات الحب وصراع الآباء والأبناء وقضايا ذات طابع قيمي تركز على أهمية القيمة في حياتنا، بخاصة إذا خضعت هذه القيمة لكثير من المساءلة في ضوء تعرضها للاهتزاز نتيجة موقف ما.

ويلحظ أن حورانية لم يتورع عن استعمال اللهجة العامية، اقتناعاً منه أنها أكثر تعبيراً عما يصبو إليه وهو الحريص على نقل أجوائه الشعبية بكل حرارتها ويمكن لنا أن نقبس بعضاً مما يشير إلى ذلك:

"أحسست فجأة، أن أنفي الخائن الثائر، قد ارتدّ إليَّ طائعاً، فتدفق الدم من شرايينه في عنف آلمني.. يا لهذا الأنف اللعين ينفصل انفصالاً عن بقية الجسد، ويستقبل وحده... مترفعاً، تياهاً ألسنة الزمهرير".( )

 وفي مقبوس آخر يعبر عن الحالة الفكرية التي وصل إليها بعض شخوصه الذين يتخذون من الصراع سيرورة حياتية لهم لأنهم لا يريدون أن يخنعوا لمعطيات الواقع:

"لا كرامة لنبي في وطنه.. لماذا... بالله يبقى في البيت بعد هذا؟

وأي رابط يربطه بعد الآن؟

أبوه؟ وقد أهانه أمام الملأ.... صحيح أنه يؤمن بعبقرية خالد بن الوليد ولكن اندفاعه كان لردّ التحدي، أما أخوه الأكبر فقد ترك ابنه وشارك أباه السب وهو يلوي شدقه: ....عليك وعلى علمك وسحنتك"( ).

 

إن أسلوبية سعيد حورانية الخاصة( ) باتت معروفة وقد أثرت في المشهد القصصي تأثيراً إيجابياً لأنها أخذت في حسبانها الكثير من روح القصة القصيرة من حيث الصراع، والإيقاع السريع والمأزومية والتشويق والحكائية. إضافة  إلى أنه كان مثالاً لدى الكتاب المنضوين تحت إطار الفكر الماركسي مما أسهم في تسويق قصصه أيضاً. 

أما القاص حسيب كيالي فقد شكلت قصصه لوحة متميزة( ) خلال بعض السمات التي تلامحت أولاً بأول، من هذه السمات محاولة التعبير الترميزي عن الواقع عبر إدراك البعد الاستعاري للغة، والسعي الحثيث لتقديم نقود لظواهر اجتماعية عايشها القاص، وهو الذي انهمك بنقل الأجواء الشعبية بتجلياتها المتنوعة عبر لغة فيها الكثير من العامية مثلما فيها الكثير من الفصحى، ومع أنه يكاد يوهم قارئه أنه ينقل أحداثاً من الواقع إلا أنه يضفي نكهته عليها، ناقداً الجانب الطريف، مبدياً مقدرة خاصة في التعامل مع المعطيات الواقعية، مركزاً على حالة الطرافة المرّة والسخرية اللافتة فيما نعايشه، إن البساطة إحدى سمات أسلوبية حسيب كيالي إلا أن هذه البساطة تقترن بدقة ملاحظة نفاذة تقوده إلى تقديم أحداثه بتفاصيلها التي لا يملها المتلقي نتيجة للطريقة المتميزة التي يعالج فيها موضوعاته والزاوية التي يقدم من خلالها أفكاره للمتلقي، وهو الذي يحقق الإمتاع الناتج عن المرونة في التعامل مع الأشياء، محاولاً الولوج في أعماق شخوصه وتقديم رؤاهم بكثير من الجرأة والصراحة عبر نقد متميز لبعض ما يقومون به( ).

 

وقد تناول حسيب كيالي مجموعة من الهموم التي تخص تغيير الأنظمة السياسية خلال عهد حسني الزعيم ووصوله إلى السلطة، وعلاقة الرجل بالمرأة عبر رشاقة الجملة والإسهاب في العرض إنما بتشويق وحميمية، ويختار نموذج حفار القبور لنقل جو الريف وبياع الدربكات ليصل إلى انتقادات لاذعة للوضع السياسي السائد، من مقدرته على توظيف المثل والموروث الشعبي، وينتقد الترشيح والمرشحين بكثير من التورية ناقلاً وعود أحد شخوص قصصه للناس وموقفه من الحكومة إبان فترة الترشيح "أيتها الحكومة الخائنة، سأضع حداً لهذه الفوضى التي أطنبت أضرابها في هذه البلاد العزيزة...

أجل سوف أضع لها حداً. إن موعدي معك أيتها الحكومة قبّة البرلمان"( ).

 

ويتابع كيالي قصته بأن يجعل هذا المرشح ينجح ولا يحدثنا عما فعله بعد النجاح مكتفياً بكلمة (والله أعلم)، مبدياً شيئاً من التجديد عبر قصص قصيرة تصوّر حالات زمنية خاصة تتعلق بقضايا التبدلات بين الماضي والحاضر.

 

ويتجرأ على الموضوع الديني مثلما تجرأ على الموضوع السياسي، مقدماً تفصيلات جريئة متكئة على المفارقة للتعبير عما يبتغيه، ومستفيداً من دقة ملاحظته في القبض على التفاصيل لوصف طباع الناس وحركات الجسد بأسلوبية حادّة وتقديم نماذج بشرية وطباع متنوعة بتلقائية سردية أشبه بالمكاشفات فيما يخص المتلقي.

فحين يصور في قصة بعنوان (تقرير تفتيش) ما يحدث فإنه يصوره بحكائية رشيقة مفعمة بالسخرية:

"بناء على أمر مقامكم المؤرخ في 13/آذار/ 1943 تحت الرقم /215/ توجهت إلى مدينة.. وفاجأت أمين صندوق المركز السيد أحمد الـ.. وفتشت صندوقه تفتيشاً يكسر الظهر، كان بودي لو أن مقامكم كان حاضراً ليرى الوجه الأصفر واليدين المضطربتين والفم المفتوح على مصراعيه في هذا الأمين المسكين، لم أكن أدري من قبل أني مرعب لهذه الدرجة. معلوم ياه! هذا تفتيش ما هو ضحكة لعبة، وأنا مفتش قد قبة وقنطرة"( ).

إن هذا المقبوس يكشف مثلما تكشف معظم قصص حسيب كيالي مقدرته الساخرة التي جعلته يلتقط عدداً من الهموم محاولاً تعريتها وكشف مكنوناتها، ساعده على ذلك جرأة ومقدرة على الحكائية السلسة التي نقلت ما يعتلج في نفسيات شخوصه.

يمكن للمرء أن يسجّل بكثير من التكثيف الملاحظات التالية:

ـ شهدت مرحلة الخمسينات حركة نشرية  معقولة ومقبولة، ولاسيما أنها سمحت لأنماط قصصية عديدة بالحياة والوجود، وهذا أسهم في أن تنسحب هذه النماذج لاحقاً حين عرفت مداها المحدود ومقدراتها الفنية الضعيفة.

 

ـ سجلت هذه المرحلة حضوراً ما للقصة القصيرة التي تكتبها المرأة وإن اشتكت نصوص كثيرة من هموم عديدة لم تستطع قاصات عديدات التخلص منها إلى يومنا هذا، ولاسيما أن عدداً منها تغلب عليها إنشائية اللغة ومقالاتية الطابع. ولم يمكن حضور المرأة آنئذٍ يعبر عن غنى لأنه لم يكن بذي حظوة فنية عالية، ويكاد المرء، لا يعثر إلا على اسم ألفة الأدلبي ممن استمر من النساء في القصة الفنية، بالرغم مما يمكن أن يقال حول انشغاف الإدلبي بالجوانب التوثيقية للمجتمع الشامي بخاصة( ).

ـ اعتمدت قصص متنوعة على السرد الشيق الذي استفاد من البذور الحكائية الموروثة من التراث الشفوي، محاولاً أن يستثمر الحكاية بتجلياتها  المختلفة وكان هناك مجاميع فيها الكثير من التشويق والطرافة حيث تمكنت من تقديم قصص فيها رشاقة متفردة.

 

مثلما حضرت نماذج وعظية ترى أن القصة القصيرة ماهي إلا حكاية لابدّ لها من مقولة واضحة ورسالة هدفها المثل العليا بغض النظر عن المسائل الفنية.

ـ عرف عدد من كتاب هذه المرحلة بمثابرتهم وحرصهم على تطوير تجاربهم، وما عانوه آنئذٍ قد يكون أسهم في ألا ييئسوا، ولا يزال عدد منهم ينتج إلى يومنا هذا( ) وقد تطورت مفاهيمهم وتعمقت رؤاهم وإن بقي عدد منهم مخلصاً لنهجه الفني بشأن المفاتيح العامة ومعظم ما قدمه شكلَّ تنويعات على إيقاعه وكان تطور بعضهم ضعيفاً جداً.

ـ بدا أن معظم الذين كتبوا القصة القصيرة في هذه المرحلة، وقد جربوا كتابة أجناس أدبية (الشعر ـ الرواية)، في الفترات اللاحقة (العجيلي ـ بغدادي ـ البحرة).

ـ شهدت هذه المرحلة نشر قصص منفردة لعدد من الكتاب تركوا بصمات لا تنسى في سيرورة القصة السورية لاحقاً (تامر ـ إخلاصي). فيما لم يصدر بعض الذين نشروا قصصاً في هذه المرحلة أي مجموعة (عبد الله عويشق).

ـ تعدّ هذه المرحلة ذات فضل كبير من حيث بلورة أسس الفن عبر قصد في التقنية لم ينهض على فراغ.

ـ وجد في هذه المرحلة تداخل كبير بين الأجناس الأدبية، لكن لابدّ من الإشارة إلى أن هذا التداخل آنئذٍ لم يكن واعياً، وهو غير التداخل الذي وجدناه في مراحل لاحقة (السبعينات مثلاً)، ويهدف للاستفادة من معطيات الأجناس الأخرى.

ـ لو حاول المرء أن يحدّد الموجة التي وسمت هذه المرحلة بميسمها لقال إنها الموجة الواقعية بمفاهيمها المختلفة. ولوحظ وجود لحالات عامة ومواضيع نمطية ذات طابع رومانسي أو عام أكثر من كونها موضوعات ذات طبيعة حية.

ـ يمكن قبول كثير مما نشر في هذه المرحلة بصفته منتجاً من منتجات مرحلة التأسيس لكن لا يقبل إن نظر إليه من وجهة فنية محض.

ولا يعدم المرء بعض الفوائد في قصص كثيرة آنئذٍ بعيداً عن مسألة الفنية والقصصية، والمعنيُّ هنا حالة التأريخ للمجتمع حيث نعثر على أحداث عديدة ليست في كتب التاريخ، بل نجدها في القصة القصيرة التي حُمِّلت أحمالاً ثقالاً وهي في طور النشوء من حيث ضرورة التعبير عن كل ما يجيش به صدر المجتمع من اضطرابات وإشكالات، لكن هل هذا يدخل في مهام القص؟

ولا يمكن إلا أن ننوه برصد جديد المجتمع آنئذٍ بخاصة ما طفا على السطح وارتباط بعض القصص بروح النقد، ومحاولة الإشارة إلى الانحدار القيمي الذي بدأ يشيع.

ولا نشك بأن ما قدم في هذه المرحلة قد كانت له آثاره في نهضة الستينات الفنية، لأن التركيز على الواقعي والهم الاجتماعي والالتزام وسواه قد أسهم في خلق شيء من ردة الفعل، إضافة إلى دور التراكم وأثر المنجز القصصي الذي قدمته هذه المرحلة.

 

 

 

المرحلة الثالثة: استواء الفن

1959 ـ 1968

تشكل هذه المرحلة حلقة أخرى في سلسلة تاريخ القصة القصيرة السورية، ولهذه المرحلة مثلها مثل سابقاتها ولاحقاتها خصوصية، وخصوصيتها تنبع من كونها أعلنت عن رد غير معلن على الكثير مما طرح في المرحلة السابقة من حيث حجم قضايا الالتزام والشعارات والأفكار.

 

وهذه المرحلة من جهة أخرى من أبرز الحلقات في تاريخ القصة السورية من حيث تقديمها وترسيخها لعدد من الأسماء التي لا تزال تعدّ من أميز الكتاب من مثل زكريا تامر ـ وليد إخلاصي ـ حيدر حيدر ـ محمد حيدر...( ).

وما يلفت الأنظار هو النقلة الفنية النوعية التي شكلها قاصو هذه المرحلة، وهذا ما جعل القصة القصيرة السورية تضرب جذورها عميقاً في جنبات الفن بتجلياته ومفاهيمه بحيث إنّ قاصي هذه المرحلة قد جرَّبوا الكثير الكثير من التقنيات والأنماط والعناصر، إضافة إلى أنهم كسروا عدداً من الحواجز التي كانت تعد محرمة، مع مقدرة هائلة في نقل نبض الإنسان، ابن هذه المرحلة، من حيث مشاعره وآفاقه وأحلامه وآلامه.

وعلى الرغم من خصوبة أحداثها اجتماعياً وفكرياً وسياسياً إلا أن الفن بقي حاضراً حضوراً مقنعاً إلى حدٍ كبير، وما نجح فيه القاصون ها هنا أن حرارة الموضوع وسحر الفكرة لم يكن ليوقع معظمهم في خضم المباشرة، إضافة إلى النجاح الأهم في مسألة آلية المعالجة ومفهوم الفن وأولويات التعبير.

 

ظروف المرحلة:

قراءة المتابع أحداث المرحلة السياسية تجعله يقر بغناها وقد حدها أمران جليلان أولهما حلم تحقق ثم انكسر، وآخرهما انتكاسة مشهودة.

لقد تحقق في البداية حلم ظل يراود الكثيرين آنذاك ولا يزال، حلم الوحدة العربية الذي تبدّى خلال الوحدة بين سورية ومصر بصفتها خطوة نحو تحقيق الوحدة الكبرى، وقد رافق هذا الحلم مجموعة من الآمال اعتقد كثيرون أنها تحققت أو في طريقها للتحقق.

 

والحديث عن أهمية الوحدة في نفس المواطن العربي السوري حديث ذو خصوصية كبيرة إذ كانت الوحدة أشبه بالمخلص في اعتقاد كثيرين؛ بخاصة أن وهج الأفكار القومية قد بدأ مداه يتسع، والأحلام الكبرى، وكذا الأفكار كانت ذات حضور في مخيلات الناس آنئذٍ، والوحدة كانت تعد رداً عملياً على ما حدث للوطن العربي عبر قرون طويلة من ظلم واضطهاد وتفرقات؛ مثلما تشير إلى استجابة لعوامل التاريخ والجغرافية والقومية واللغة والدين.

والوحدة تعني القوة التي ستمكن الأمة من الدفاع عن حقوقها ومكتسباتها والمحافظة على استقلالها.

 

لكن الوحدة كما أثبتت الأيام ليست نية سياسية حسنة ولا مشاعر صادقة؛ بل تحتاج إلى  جملة عوامل اقتصادية واجتماعية مهيأة ومدروسة بصراحة وإخلاص.

وما إن أعلن عن الوحدة، حتى جرت أمور كثيرة، ومثل أي مشروع آخر، كان لابدّ من ثمن، ومتضررين حاولوا أن يقلقلوا الأمور لأن مصالحهم الذاتية قد تأثرت، وهذا أمر طبيعي يخص آلية التفكير والرؤيا، لأن حالاً مثل  هذا الحال يفترض الكثير من التضحية بالخاص لأجل العام... وقد وُجِدَ فريق دافع عن الوحدة دفاعاً شديداً؛ إذ حققت له الكثير من أحلامه وآماله...

وبعد ذلك حدثت أمور قادت الأوضاع إلى منتهاها إذ صدرت قرارات أثير حولها جدل كبير، ولاسيما ما يتعلق بالإصلاح الزراعي والتأميم وسواه... لأن هذه القرارات من شأنها خلق مجموعة من الآثار الاقتصادية والاجتماعية على الأطراف جميعها؛ إذ فرح بها كثيرون وحزن منها كثيرون..

لقد حاولت الوحدة التخلص من الطبقية والإقطاعية والتحرر من رواسب الماضي، إضافة إلى أنها شكلت انتصاراً على خطط الأعداء وبعثت القوة في النفوس، ودعت إلى إقامة العدل الاجتماعي "بالتقريب بين دخول الأفراد، فلا يكون غني فاحش إلى جانبه فقير مدقع"، وسعت إلى الاهتمام بتوسيع الرقعة الزراعية وتنمية الاقتصاد الوطني رغم إدراك أن هذه تحتاج إلى أوقات طويلة، وقد جوبهت الوحدة بحصار اقتصادي وتشكيك بقدرة الاقتصاد الوطني وسوى ذلك( ).

 

ووفق ما ورد آنئذٍ فإن كثيراً مما قامت به الوحدة هو محاولة لكسر بعض الاحتكارات، وإعادة أمور ما في نصابها من حيث الملكية، هادفة لتصحيح تراكمات خطأ نجمت عن ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية سالفة، دون أن ينسى المرء أنه رافق الوحدة حلّ الأحزاب التي لم تحلّ بالمعنى الدقيق، إضافة إلى مركزية القرارات (في الإقليم الشمالي) وما قام به كثيرون من تصرفات شخصية وحالات بطش، ثم جاء بعد ذلك الانفصال مشكلاً شرخاً جديداً في مجتمع لم تستقر نسجه بعد، ودولة لم ترتح أركانها.

لقد كان الانتماء إلى حزب ما أو إلى آلية تفكير انتماءً صادقاً، غالباً ما ينبع عن قناعة وليس لغايات نفعية، وكان المنتمون إلى فكر ما يستميتون في الدفاع عنه، وهذا ولَّد في المجتمع مناشط عديدة قوامها الصدق في الانتماء، والحماس والإخلاص.

 

ولم يقتصر دور الأحزاب في العناصر المدنية بل تغلغل  في الجيش، مما أدى إلى إفرازات عديدة أسهمت في حدوث الانفصال الذي أيده كثيرون وعاداه كثيرون.

ومع أن الأمور لم تكن واضحة، والوعي بالنتائج  لم يكن تاماً، غير أن الانفصال عنى من جملة ما عنى حدوث أمور جديدة في البلاد لم يتطامن وضعها... وقد بلغ الحماس بأحد القاصين مثلاً إلى حدّ تشبيه الداعين إلى الانفصال باليهود! ومن الواجب قتلهم!( ).

 

وبعد الانفصال حدثت أمور كثيرة تمثلت في الثامن من آذار حيث أتيح لحزب البعث العربي الاشتراكي أن يتسلّم السلطة في البلاد لأول مرة ثم حدثت أمور تخص بنية الحزب ذاته.

 

وقد بقي المجتمع العربي السوري يعج بهموم وإشكاليات وتناطحات أخذت أشكالاً معينة من فترة إلى أخرى، ولم يكن أي خلاف أو تناحر ليبقى محصوراً في الأوساط السياسية فقط، بل كانت آثاره تدخل إلى حيز المجتمع لا لتخرج بسهولة كما دخلت( ).

وبعد مرور عدد من السنوات جاءت الضربة قاصمة الظهر وتمثلت بنكسة حزيران التي وضعت الأمور على المحك وكشفت ما وراء  الأكمة وفتحت الباب واسعاً ليتحدث الناس عما يدور خلف الكواليس.

 

لقد تمكنت هذه النكسة من إزالة الغبش والبراقع المزروعة بالوعود الرنانة والادعاءات التي كان يجود بها الحكام العرب على شعوبهم، وقد استجابت جموع الشعب العربي لمخدرات  الوعود إلى أن جاءت الشعرة التي كشفت ظهر البعير وقصمته. وقد فضحت هذه النكسة المستور والمسكوت عنه، وأثارت جملة من الاختلافات التي قامت في القطر العربي السوري( ) حيث فتحت الباب على مصراعيه لقيام تغييرات في البلاد في فترة لاحقة.. وربما ما كان لهذه التغييرات أن تنجح، وأن يسمح لها بالظهور لولا جملة التراكمات السابقة التي حدثت.

لم تكن أهمية حرب مثل حرب الـ67 في أحداثها ذاتها فقط؛ فالانتكاسات التي مرت بها البلاد عديدة، بل لبُّ أهميتها كامن في أنها عرَّتْ أشياء كثيرة، وكشفت وعوداً خلبّية كانت تعول عليها الجماهير يوم ذاك.

 

وقد تجلت آثار هذه الصدمة في نفوس الناس وفي مختلف منتوجاتهم من أدب وفن وفكر....( ).

 

ولابد للمرء من أن يعرج على الحالة الفكرية والاقتصادية والعلمية التي كانت في هذه المرحلة، وهي التي أعلنت عن أفول نجم الشعارات التي خف وهجها، وخفت بريقها بعد أن وجهت إليها غير صدمة، وتبين بالقوة وبالفعل أنها وحدها لا تكفي، وأن آراء نظرية عديدة تحتاج لتأخذ مصداقية الكثير من الفعل والعمل، وأنه لابد من تخفيف الحماس والميل لعقلنة الأمور وترشيدها، والانفتاح على كوى عديدة بعد أن تبين أن الصوت الواحد ليس بالضرورة هو الصحيح والدقيق.

وشهدت هذه المرحلة استمراراً للمد الوجودي( ) الذي ترك بصمات على آلية التفكير والرؤية، وصار المجتمع السوري مكاناً لتجاذبات فكرية عديدة نجمت عن حالة الانفتاح المعيشة يوم ذاك، وقد شهدت هذه المرحلة إعلان قصيدة النثر عن نفسها، إضافة إلى حركة مسرحية واسعة الأصداء والاهتمامات.

ونتيجة للمتغيرات التي سادت يوم ذاك فقد استقرت أحوال كثيرة تخص التعليم ومظاهر المدنيَّة، إذ إن الحكومات المتتالية والأمور السياسية والاقتصادية التي حدثت كانت تحاول أن تترك بصماتها في جنبات الحياة الأخرى.

 

لكن المرء لا يعدم وجود حالة من العودة إلى الذات بعد فقدان الأمل بأفكار عديدة طالما عوّل عليها الناس تخص التغيير والتحولات، وإن راحت هذه المرحلة تشهد الكثير من محاولات التغيير التي تتعلق بالريف.

 

إن تنوعات عديدة برزت في هذه المرحلة تخص مجمل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي عاشها الناس، فالاقتصاد يومئذٍ مرّ بتبدلات لا تخلو من حدة، بخاصة أن مظاهر تصنيعية في ميادين عديدة بدأت تعلن عن نفسها، إضافة إلى ما استجد على صعيد الزراعة سواء بتوزيع الأراضي أم في محاولة إدخال المكننة الزراعية، وقد خلقت هذه الأمور أجواء جديدة عبر العلاقات والمفاهيم والرؤى، ولم يكن الأمر بعيداً في الجوانب الاقتصادية الأخرى بخاصة الصناعة، ومحاولة إدخال بعض القوانين التي تنظم العلاقة بين أركان العملية الاقتصادية وإنشاء المنظمات والاتحادات التي تؤطر كل شريحة بهدف وضع شيء من الضوابط في آلية العلائق، مما هيأ المجتمع لقبول أمور عديدة هي جديدة عليه، إلا أن ما هو بحاجة لكبير تأكيد أن ثلة من الأمور المجتمعيّة بدأت تقرّ، وتحاول خلق تقاليدها الخاصة، وقد كانت اللهفة عليها كبيرة بعد أن ذاقت البلاد لوعة الانقلابات في المرحلة السابقة.

 

إن قراءة لمجمل ما حدث يومذاك يشير إلى وجود أشياء عديدة تخصّ قطاعات المجتمع المتنوعة الأحداث التي جرت ليست هينة وساءلت كثيراً من الأفكار الخاصة والعامة، واتضحت الرؤية في شأن عديد من القضايا وزالت براقع مستورات كثيرات وشكلت المرحلة دافعاً لإعادة النظر بكثير من البديهيات والمسلمات لأن ما حدث فكرياً وسياسياً واجتماعياً قد طال مختلف أركان الحياة العامة والخاصة.

 

وقد لعبت الصحافة دوراً كبيراً في وضع النقاط على الحروف( ) في ظل جو عرف ظروفاً عديدة من سماح لها بالصدور وإغلاق وسماح بعد ذلك؛ لأن الظروف السياسية تباينت في أثناء المرحلة غير مرة، ويمكن للمرء أن يسجل حالة من الوعي قد بدأت تعلن عن نفسها في أركان المجتمع وشرائحه المتعدّدة بعد ما دخلت خدمات عديدة وأوصلت طرق وجسور بين أطراف البلد الواحد مما أسهم بفعالية في التعرف إلى ما وصلت إليه كل منطقة أو شريحة في رؤاها وأفكارها، بخاصة أن المجتمع كانت تتناوشه تيارات عديدة ذات أسس وحدوية ودينية واشتراكية وقد  وجدت هذه التيارات أصداء لها في شرائح المجتمع المختلفة ومناطقه المتنوعة، وقد سمح ما حدث في ميدان التعليم وسواه من إيصال الكثير من الأشياء إلى الراغبين فيها، وبدا أن الأمور ليست خاضعة للتنظير فقط، بل إن التطبيق مجدٍ وبانت آثاره على الإنسان الكادح قبل غيره الأمر الذي ولَّد ثقة في نفوس الكثيرين دفعتهم لمتابعة مايحدث والتحمس لبعض أحداثه ولاسيما إذا كانت تصبّ في بوتقة المصلحة المجتمعية.

 

وهذه المرحلة اجتماعياً تعد في أهم المراحل وأكثرها خصوبة في سيرورة حركة المجتمع العربي السوري من حيث مقدرتها على دفع المرء لإعادة  مساءلة الكثير من الثوابت، وكونها أتت بعد مرحلة صاخبة بالأفكار والمقولات. وما كان للتطور الذي حدث أن يحدث آنئذٍ لولا أن مجموعة من العوامل في داخل المجتمع بدأت تعلن مساندتها لما يحصل، أسهم معها معطيات خارجية ومؤثرات تغلغلت في نسج المجتمع جعلت القارَّ يتحرك، والمتحول يعلن عن نفسه بصراحة وجرأة أكبر.

إنَّ مجمل هذه التغييرات وما سبقها في المرحلة السابقة ولّدت لدى كثير من الكتاب حالات نفسية متباينة قادتهم إلى ولوج عوالم تجريبية، في ظل انفتاح في القراءة والثقافة أسهم فيه عدم استقرار الأمور وتبدّلها من فترة إلى أخرى تبدلاً فيه الكثير من التضاد أحياناً، وكل هذه الأشياء، لابدّ أن يكون لها بصماتها في ميادين الكتابة ومرجعياتها.

 

حول مرجعيات القصة وهمومها:

شهدت هذه المرحلة بروز الجيل المجدد( ) في القصة القصيرة السورية كما قلنا قبل أسطر، هذا الجيل الذي ترك بصمات لا تمحى في تاريخها، إضافة إلى أن عدداً من الأسماء التي ظهرت في المرحلة السابقة قد حاولت أن تقدم جديداً وتطوِّر مساراتها( )، وربما حدث ذلك بدافع من الإحساس بضرورة تجاوز ما سبق أمام منجزات الذين برزوا في هذه المرحلة.

 

إنّ عدداً ممن ظهر في هذه المدّة قد ترك ملامحه على تجارب لاحقة راحت تلهث للبحث عن خصوصياتها وعن موطئ قدم في تاريخ القصة السورية( )، ولعل ميزة بعض الأسماء التي ظهرت آنئذٍ أنها لم تركن إلى ما حققته، بل بقيت مسكونة بضرورة تجاوز ما سبق لذلك راحت تجرب مختلف الأنماط مما جعل بعض التجارب اللاحقة تتطرف في تجريبها لعلها تترك بصمتها الخاصة.

إن قارئ مسار القصة السورية سيتوقف ويتأمل في هذه المرحلة الأسماء التي كان بعضها كالكواكب التي يدار حولها، في حين صارت تجارب أخرى مساطر يقاس ماجاء بعدها عليه.

 

والمرء المنصف لابد قائل: إن بعض الأسماء قد خلق سمعة فنية مشهورة للقصة السورية في القصة العربية دون أن يعني ذلك أي محاولة للغض من جهود السابقين أو اللاحقين.

ولعل هناك عوامل عديدة شاركت بأن يأخذ قاصو هذه المرحلة المدى الذي يستحقون مثل كون الكِتَاب لا يزال في زهو عطائه والاهتمام به، إذ كان يعدّ أهم الوسائل الثقافية السائدة يومئذٍ، إضافة  إلى روح المثابر وحالة الانفتاح الثقافي والفكري الموجود يومئذٍ،وهي التي تجعل المرء يشعر بما يدور حوله، وأسباب أخرى.

 

الهم القومي والوطني وتجلياتهما:

لا يشكل حديث المرء عن الموضوع القومي إبان هذه المرحلة رغبة في المتابعة لما سبق في المرحلة المنصرمة فقط، لأن هذا الموضوع شهد عدداً من التحولات في نوعية الموضوعات وفي آلية المعالجة وطريقة النظر( ).

 

لقد شهدت هذه المرحلة صدور غير مجموعة مخصصة للحديث عن هذا الموضوع، وإن كان  عدد من قصصها قد ظهر منجماً فيما سبق.

ولئن شكلت هذه المرحلة بموضوعاتها استمراراً للموضوعات الأساسية إلا أن هناك حوادث جديدة أخذت حيزاً ما من مثل:

الوحدة والانفصال ونكسة حزيران.

 

وقد شهد الموضوع القومي في هذه المرحلة نقلة نوعية حملت على أشرعتها الكثير من الابتعاد عن الصراخ والمباشرة للوصول إلى الإيحاء.

والموضوع القومي هو موضوع إشكالي ومثير للجدل بطبيعته، لأن هذه الموضوعات غالباً ما ترتبط بمناسبات  تأتي حزينة ورمادية وتدفع النفس الإنسانية لمحاولة التوازن بين حجم الفاجعة وإمكانية التعبير عنها، إذ من المألوف أن يكون حجم المشاعر وما يريد قوله الكاتب أكبر من فنية الفن، وأكبر من طاقاته وإمكاناته ليس لضعف الفن، بل لحالة من الهيجان العاطفي... وكثيراً ما يحدث اختلاط بين الآلية التي يكتب في ميدانها الكاتب وما يريد قوله، وعندها تجذب حرارة الموضوع الجمل والأفكار فتختلط الفنون بسواها، وفيما يخص القصة القصيرة فإنها قد تختلط بالمقالة ولا يراعى إلا بعض مظاهر القص وتعلن المباشرة والصراخ نفسيهما سمتين أساسيتين للقص.

وربما يشكل ما سبق مأزقاً في وجه أدب المناسبات من حيث كون كل نص  لابد له من مناسبة لكنَّ هناك فرق بين المناسبة التي تجيِّر النص لها، والنص الذي يجيِّر المناسبة له، ففي الحالة الأولى يحضر الإعلام والإعلان، وفي الحالة الثانية يتم التركيز على الفنّي.

 

لقد كان الإحساس بالمسؤولية والجدية العالية سمة لمعظم ما قدم آنئذٍ، ومثل هذه الرؤيا كانت تتسرب بعفوية طوراً، وبمقصودية تارةً إلى أجساد قصصهم، وكان السؤال  ماذا يشكل الموضوع القومي للقاصين فكراً ورؤية؟

لقد كان يشكل لدى عديدين قضية إيديولوجية ووجودية وهمَّاً رئيسياً يستحق أن تنصرف إليه الجهود( ). وكان يعني لدى آخرين موضوعاً له الكثير من الخصوصية.. وهذا التنوع في التناول أمر مفيد وضروري لأنه يخلق حالة من الخصب والتعددية تسهم في تقديم شمولية فنية عما يشعر به الناس وما يسلكون من سلوكيات.

لقد كان عديدون يرون أن الوحدة هي مدخل أي حل( )، وبخاصة في تحرير فلسطين في حين رأى آخرون أن الأكثر جدوى هو الحديث عن شؤون الفلسطينيين وشجونهم على الرغم من أنهم وغيرهم يمكن أن يتناولوا موضوعات أخرى( ). بينما عاد بعضهم بذاكرتهم إلى الوراء، وقد شعروا  أن  تقصيراً ما حصل في رصد ما جرى في أثناء الاحتلال الفرنسي، وانشغل عديدون في الحديث  عما آلت إليه الأوضاع، أوضاع بعض المشاركين في التحليل ممن كانت لهم اليد الطولى في تحقيق ما وصلت إليه البلاد( )، هؤلاء الذين كانوا زُرَّاعاً متميزين، لكن حين آن أوان الإثمار كُفَّتْ أيديهم، وهم الأولى والأجدر بتحديد نوعية ما زرعوا وتطوير مساراته، بخاصة أن أحداثاً سلطوية لا تكمن خلف تصرفاتهم بل العيش في كرامة ودون أهداف جشعية.

 

وصار بإمكان المرء بعد ما حدث أن يجد أحاديث عن أنظمة عسكرية سابقة مارست الكثير من البطش في حق شعوبها( ).

ومما لاشك فيه أن قاصين عديدين قد انشغلوا بالمسألة التسجيلية التوثيقية هادفين إلى تدوين شهادة تصمد في وجه الانمحاء تخصّ المواقف وما يحدث آنئذٍ  فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي راحت أبعادها تتكشف وآثارها تأخذ بعداً عميقاً.

 

وربما أراد بعضهم فرصة الحصول على وقت لتسجيل مواقف قَادَتِهِمْ المتمثلة بالادعاء ومحاولة استغلال المناسبة، والإشكاليات التي تخص المناسباتية فيما يتعلق بالإعلان والإعلام.

 

ولعل الجدير بالانتباه إليه هذه المقدرة الواضحة في المزج بين القضايا الاجتماعية والقضايا الوطنية والقومية التي أدرك عديدون أنها لا تنفصل عن بعضها، وربما تكتسب جميعها المزيد من المصداقية في ظل تقاطعها( ).

فيما انشغل بعضهم في تسجيل تجربته الشخصية التي عايشها؛ غير حريص كثيراً على المسألة الفنية بقدر حرصه على توثيق ما حدث معه، وربما غير آبه بإعطائها الأبعاد الإنسانية أو تعميقها دون أن يغفل المرء عن الأثر البكائي الانفعالي، واللغة الإنشائية العالية في قصص كانت تشحذ المواقف والهمم من قرائها( ).

ولا يمكن للمرء أن يغفل حالة الانكسار والانشراخ التي عاشها الناس يومئذٍ، فحالة مثل هذه الحالة تركت جروحها نازفة في جنبات الإنسان العربي وتركت مياسمها في نصوص أدبية كثيرة، كتبت إبانها ونشرت لاحقاً( )، وكما هو المعتاد في حالات كهذه فإن الآثار عديدة منها ما يبدو على نصوص  تسخر نفسها لهذه الموضوعة أو تلك، ومنها ما يتسرب إلى روح الإنسان فتبدو في كتاباته بصورة غير معلنة تماماً، ولعل شرخ نكسة حزيران كان من النوع الطويل الأثر والأمد لا يمكن أن تُحَدَّ  آثاره بقصص كتبت يومها، لأنه من الشروخ التي مست الكثير من الثوابت ولم يكن من النوع الذي جاء ومضى بسرعة، لأن بصماته كانت متنوعة تظهر على صعد عديدة منها ما يتعلق بخسارات الأرض،

ومنها ما يتعلق بحالة الانكسار التي ولدتها كشوفات الأوهام الخادعة التي عاشت في دائرتها النفوس العربية لفترة طويلة.

ولا يمتري امرؤ بالقول: إن ما حدث إبان تلك النكسة كان ضرورياً كي تعيد الذات ترتيب أولوياتها ومعرفة ما يكتنفها من حالات غشاوة، ومن ضرورات، ربما هي مهمة لتطوير الذات التي ستحاول تعميق الثوابت وتطوير بعض الفروع، وهو تطوير ضروري تفرضه استمرارية الشخصية ومآلاتها وصيروراتها.

 

الموضوع الفلسطيني:

لقد كان الموضوع الفلسطيني يشكل مادة دسمة للقص آنئذ( )، نتيجة لخصوصيته في النفس العربية ولحرارته، فقد صرف القاص بديع حقي عدداً هائلاً من كتاباته المتنوعة لهذا الموضوع، ملاحقاً إياه في تجلياته المختلفة سواء أكان ذلك في تتبع أحوال اللاجئين وحنينهم لأراضيهم أم الموازنة بين أوضاعهم كيف آلت وكيف كانت من خلال السكن والأحوال المعيشية، والبيارات التي كانوا يملكونها، دون أن ينسى الوقوف عند بعض البطولات التي قام بها الأبناء من خلال حكايات وأحداث لا تخلومن إقناع..."( ) .

ها هو ذا يصف بعض ما حدث:

"أخذ الحقد يأكل قلبه وهو يرى أطلال الدار، إنها لا تزال قائمة، غير أنها باقية الآن بحوزة اليهود، فهو محروم منها، لقد استبدل بها غرفة صغيرة حقيرة يسكنها مع أبيه وأمه وأخته في الطرف الآخر من خط النار، من الحدود المخضبة دوماً بالدم"( ).

إن القاص ينجح في خلق انفعالات تؤدي إحساسات لدى قارئه حين يحاول الموازنة بين معيشة (حسن) الفلسطيني الصغير مع أسرته في بلدة قلقيلية قبل النكبة وبين حي اللاجئين في مسكن يرمز للذل والفقر، ويحاول القاص أن يجترح تقنية تقسيم الأحداث بحسب الأيام التي تمر معه مبقياً على سمات قصته من حيث تفصيحه اللغة والإيقاع البطيء، وتأكيد الميلودرامية التي لا تخلو في أطوار عديدة من  مواقف إنسانية( ) ويبدو أن التقنية لم تترك أثرها على بناء النص لذا بقيت خارجية ولم تمسّ أعماقه.

وينبري القاص للتركيز على جانب الحنين إلى الأرض مما جعله يصف أسباب هذا الحنين، محاولاً التوقف بتأنّ عند الاكتواء بنار التشرد( )، إلا أن المرء لا يعدم تسجيل ملاحظات عديدة حول التجربة تخص الاستعطاف والبكائية المسيطرة على عدد من القصص.

 

ووجدت رؤى في هذه الفترة حاولت المزج بين مقروءاتها وأفكارها والأحداث الواقعية، وتمكنت من تقديم نصوص فيها الكثير من الأبعاد الفلسفية والوجودية والثورية الشاحنة للقراء( )، ولعل إشكالية هذه النصوص أن ما حدث فيها لم يأتِ عفو الخاطر، بل جاء نتيجة وعي مسبق وحسابات معلنة مما ترك ثمرات غير طيبات في أنحاء النص.

 

"إن لديكم ها هنا جبهة مكشوفة تعرفون من تحاربون وتستطيعون أن تعينوا لحظة المعركة ومكانها، إنني أسألك أنت مثلاً كم معركة خضت وكم صدراً أغمدت فيه رمحك؟

وكان ابن سلمان قد أجفله السؤال فقال بارتباك: الحق أنني ظمآن مثلك إلى معركة حقيقية، معركة فاصلة، إن زميلنا الفلسطيني قد سنحت له مثل هذه الفرصة مرات عديدة، تصور أنه ألقى قنبلة على مقهى فرنسي مزدحم فقضى على أكثر من مئة جندي فيه دفعة واحدة، وفي مهمة أخرى نسف هو وعشرة من رجاله قطاراً حربياً بكامله( ).

وتتابع فصول الحوار الثوري بين الشخوص المغرقين في نضالهم إلا أنهم يأنفون التحدث فيما وصلوا إليه نظراً لعدم إحساسهم بأهمية ما يصنعون، وهم بذلك يعلِّمون الآخر شيئاً من التواضع، حيث يتسابق الفلسطيني والجزائري في محاولة أن يعلي كل منهما شأن الآخر برغم أن أحداً منهما لا يقل عن الآخر بطولة وشجاعة وفخاراً...:"وحينئذٍ تدخل الآخر بالجانب الثاني من ابن سلمان قائلاً  بصوت متهدج: تنسى نفسك يابن سلمان.... لا تصدقه يا أستاذ، هل تريد أن أعدد بطولاتك؟..

أعرف أنك تنفر من ذلك؟..

فأجاب ابن سلمان برصانة: ليس المهم أن يعرف عني أو عنك.. أو عنا نحن عرب الجزائر البطولات والمفاخر، ولكني أحاول فقط أن أشعره أنه هو أيضاً وكل العرب الآخرين يمكنهم أن تكون لهم مثل بطولاتنا.

 

إننا نفتح للعرب طريقاً جديداً والمستقبل هو الذي سيبرهن على ذلك، والإنسانية في قرارة ضميرنا تقرنا كلها على أسلوبنا الحاسم الجديد هذا"( ).

وهناك قاصون صوروا عمق معاناة الإنسان الفلسطيني اللاجئ الذي وجد نفسه مكبلاً بقفص الاتهام حتى في أخص خصوصياته، لدرجة أنه صار يدافع عن أشياء ما كان يتاح من قبل أن يناقش فيها، وصارت ظروف الحياة القاسية تدفع المرء للتفكير بأنه يمكن أن يتخلص من أحد أبنائه نتيجة شظف العيش.

"كانت أضواء مخيم اللاجئين تبدو لأبي صالح الذي اقتعد حجراً أمام الطريق، وضم إليه ابنته باهتة تتحدى رغم تفاهتها حلكة الليل، وكان أبو صالح يصيح بصمت لأنغام الجدول الصغير وهو يرقب باهتمام أنوار  سيارة قادمة من بعيد، ويداعب ضفائر ابنته الذهبية باضطراب"( ).

 

يتابع القاص بعد ذلك:

"وتذكر همس أهل المخيم:

لقد أقسم السائق أمام المحكمة بأن أبا محمد هو الذي دفع ابنه... دفعه تحت عجلات السيارة، أقسم على ذلك بالمصحف الشريف".

وتمزق فجأة الخوف والأمل حين انفلتت ابنته من بين يديه، وانطلقت راكضة تجتاز  الطريق جرياً على عادة أقرانها عند مرور إحدى السيارات، وصرخ أبو صالح بهلع وقد استيقظت فيه بغتة كل مشاعر الأبوة، فهب وراءها راكضاً بدوره ليمنعها عن ذلك ودوّى نفير السيارة محذراً... وبصراخ ابنته من الجانب الآخر للطريق وبصدمة عنيفة في صدره تلقيه بعيداً في وسط الطريق وتحرك قليلاً في رقدته وهو يئن ثم.. ثم  انطفأت أفكاره"( ).

 

الموضوع الفلسطيني لم يُحصر في مرحلة ما، لأن جرحه بقي نازفاً طوال هذا القرن، لذلك من الممكن أن يعبر الكتاب عن جوانبه طوال تاريخ القصة السورية لديمومته ولخصوصيته وهذا ما حصل، فآثاره الجانبية لم تنته ولم تكن ذات محدودية تقصرها على هذا الجانب أو ذاك، ويعد الموضوع الفلسطيني من المواضيع المتشعبة الجوانب التي تتجدد أحداثها من  مرحلة إلى أخرى، ويبقى جانب التضحية فيه قابلاً لتسجيل الجديد، فالبطولة أحد أقانيمه الرئيسية التي لا غنى عنها، وتشكل الوجه المعوَّل عليه في عملية التغيير، يرصد قاص بطولة أحدهم.

 

"وسدد نحو الشخص الذي يتملى في الخريطة، وضغط على الزناد، وبسرعة فائقة سدد نحو الشخص الآخر وأطلق... وعندها أطلقت عليه الحماية اليهودية النار وفي غمرة هذه النشوة سدد على الثالث وقتله"( )

إن رصد الحركات النضالية والبطولات الفردية والجماعية كان أحد أهم الموضوعات التي شغلت بال القاصين وهي التي تحقق هدفين رئيسيين: الأول توثيق ما يحدث ورصده بما يستحقه، والآخر بث روح الحماسة في قلوب الناس خلال تأكيد دور البطولة وجدواها.

موضوعات قومية ووطنية أخرى(بور سعيد- الجزائر- ذكريات الاحتلال الفرنسي- السلطات المحلية):

 

ولئن شغل الموضوع الفلسطيني حيزاً كبيراً من اهتمام القاصين يومذاك فإنه لم يكن الموضوع الوحيد، بل توقف القاصون عند سواه من الموضوعات( )، من مثل ما حدث في بور سعيد، مركزين على حالة البطولة التي قوبل بها قصف العدو، محاولين أن يصفوا حوادث بعينها حدثت آنئذ، إضافة إلى حرص عديدين على أن يتخذوا مما حدث فرصة للتنبه لخطورة ما يجري وآثاره المستقبلية على الوطن، إن بقيت الحال على ماهي عليه، بخاصة أن ما حدث في بور سعيد قدأعاد الأمل وجدَّد الهمم  التي كادت تفتر، يصف وليد مدفعي ما جرى:

"حدثت فوضى عجيبة خلال ضرب بور سعيد من الجو والبحر، وما أقرب تلك الساعات الرهيبة التي قضتها المدينة تحت وطأة القذائف المتفجرة والقنابل المحرقة إلى يوم الحشر..

فسارت جموع الأهلين تملأ الشوارع مستغيثة بضمير العالم ومتنقلة بين الأنقاض المتداعية والحرائق الهائلة.... تدور وتلف وأينما حلت يلقاها ذات الدمار ويلفح وجوهها اللهب المستعر وتصدم أنوفها روائح الدخان والبارود والنجيع...

استمرت محاولات إنزال الجنود بعدما باء أكثرها بالفشل الذريع وما كانت الأخبار تضيع عن أحد في العالم"( ).

وجموع الناس التي تسمع أخبار المعارك لها فرحها الخاص بها لأن ما حدث كان محطة في طريق إعادة الأمل. وإن كان توثيق مثل هذه الأخبار إشكالياً على صعيد بناء القصة الفني لأنه يجعل اللغة ذات طابع إخباري بخاصة إذا تصادف ذلك مع موهبة ضعيفة وهو ما نجده بكثرة.

وقد رصد ميلاد نجمة أحد البلاغات وهو البلاغ 29:

"أسقط الجيش المصري ثلاث طائرات، والعدو يواصل غاراته  على بور سعيد والمظليون  يُقْتَلون قبل أن يصلوا الأرض.

كان وهو يسمع إلى مثل هذه الأنباء عن الانتصارات الباهرة تبرق في نفسه نشوة عارمة من الفرح ويدمدم: هه... مفتكرين أن الوطن رخيص على أهله!"( )

ويجد القاص الفرصة سانحة لتأكيد أن لا حدود لأطماع الأعداء وأن كل أجزاء الوطن معرضة للقصف.

"لقد اقتنع أبو فارس أن المعركة يمكن أن تنتقل إلى بلاده بين يوم وآخر كما اقتنع بضرورة الاستعداد والتأهب للدفاع عن الوطن، عن الأرض التي فضل أن يتحمل قحطها سنين طوالاً من أن ينزح عنها إلى الشام مع الذين نزحوا، ويتصور لوأن المعركة انتقلت إلى بلاده، وتعرضت قريته إلى الغارات وهبوط المظليين"( ).

إن قراءة كثير مما كتب من وجهة فنية فقط أمر له إشكالياته وآثاره غير الحسنة على صعيد النظر للنص القصصي، إلا أن الانتباه إلى طبيعة النص التوثيقية ووظيفته التي كتب من أجلها والظرف الذي أنتج قد تخفف من الغيرة الفنية عليه.

 

ويحاول بعض أبناء الوطن العربي حماية قراهم ومدنهم بحماس شديد مؤكدين أهمية دور الفرد، والدليل ما يحدث في بور سعيد "وكلما تذكر ذلك الخبر الذي شاع في القرية قبل ثلاثة أيام يزداد إيماناً بجدوى مهمته التي يقوم بها: فتى بور سعيدي يوقع طائرة كبيرة من على سطح داره"( ).

ورصد عديدون ما حدث في الجزائر( )... فالحرب في الجزائر كانت بين طرف يحاول أن  ينال استقلاله وطرف آخر يعتقد أن البلاد من ممتلكاته، ولا يعدم في إيجاد الحجج التي يختلقها لتوسيع ما يقوم به من بطش، ورصدت هذا غادة السمان خلال حديث أحد الضباط الفرنسيين بأسلوب فني ساخر:

"أنا أكره القتل/ أقتل باسم الحرية، باسم مجد فرنسا، باسم الشعب الفرنسي المسكين؛ الذي يريدون طرده من أراضيهم، وجاء ضابط طويل ذو منخر معقوف، وانتحب أمامي: تصور هذه الحقارة، كيف يطردوننا من أرضهم التي مضت علينا أعوام ونحن ننهبها، ننهبها بلطف ورقة دون أن يشعروا، تصور أنهم وحوش، ولا يريدون أن يقاسمونا أرضهم، ثم إن لحمهم طيب نحبه، هل ترضى بأن نموت جوعاً"( ).

 

ويعاود موضوع الاحتلال الفرنسي حضوره في هذه المرحلة وقد انقشع ظلامه إلا أن ذكرياته وأحداثه لا تزال حاضرة في ذاكرات الكثيرين، ببطشه وبالنضال ضدّه، بخاصة أن الموضوع الجزائري كان حاراً، ويساعد في فتح بوابة الذاكرة على ما حدث مع الشعب السوري، وقد قبض قاصون عديدون على نقاط ذات أبعاد إنسانية خاصة نظراً لطبيعتها المتفرّدة، من ذلك ما سجله صميم الشريف في رصده معاناة أحد الشباب من تعامل الآخرين معه، وما ذلك إلا لأنه ابن خائن عميل للفرنسيين، مؤكداً تعاضد تصرفات الناس وأن ما يفعله الآباء يؤثر في الأبناء، والعكس بالعكس أيضاً( ).

 

ومشاهدات الأطفال تبقى راسخة في الذهن بعد أن يكبروا لتصبح مادة أولية لقصة فنية يصوغها قاص آخر: "أولاد الكلب"، "السنغال"، "يسبحون عراة في النهر"، لم يطف بخيالنا قط أن الأمر جد، إلى أن سمعنا صوت طلقات، ثم رأينا بعد حين، بضعة رجال يحملون قتيلاً ويمضون به إلى أعماق الغوطة، ولقد تبينا أن القتيل كان "حامد" رفيقنا، أطلقوا عليه النار فسقط في النهر الذي لعب على ضفافه وطفت جثته، وانتُشِلَتْ ملأى بالثقوب"( ).

ويظهر القاص جوانب الشجاعة في بعض المواقف عبر الاستفادة من طاقة التخييل التي يمنحها البعد العجائبي للأحداث.

 

"كانت أخبار الثوار تملأ آذاننا كل يوم ولأنهم كانوا يظهرون فجأة كما قيل على ضفاف تورا، ويختفون بالطريقة نفسها، فقدعدَّهم أطفال الجيرة مِرَدَةً تنشق منهم الأرض، ولقدآمن الفرنسيون على ما يبدو بذلك إذ إنهم حينما جربوا اجتياز النهر الصغير برزت لهم من وراء الأشجار المثقلة بالثمار قامات شامخة للأشباح تحمل بنادق رهيبة فارتدوا ولم يحاولوا اجتيازه بعد ذلك أبداً( ).

 

ويسير القاص مع أحداث أخرى راصداً كيفية تحويل الذاكرة الشعبية الشخوص الأبطال إلى شخوص يقومون بأحداث خارقة، وذلك عبر سيرة البطل المعروف حسن الخراط:

"كانت تصرفات الرجال الثلاثة لا توحي بأنهم مِرَدَةٌ... لقد كانوا طيبين طيبة أبي، ولقد جمعت تلك اللحظة في صدري حقداً على أطفال الجوار الذين أدخلوا في رأسي أن الثوار ليسوا بشراً، وأن حسن الخراط الذي طار صيته في غوطتنا عملاق كجبل، ترتفع قامته حتى السماء، ويسدّ بمنكبيه ضفتي النهر، ويمسك بإحدى ذراعيه سكيناً طويلةحادة، يذبح بها الأعناق"( ).

إن المزج بين الهدف المرجعي والهدف الفني ممكن كما ورد في النصّ السابق، ويمكن للقاص أن يوصل رسالته عبر فنية عالية دون اضطرار للوقوع في حبائل الشعاراتية والإيديولوجية المباشرة.

 

وتذكِّر القاصة الإدلبي بحوادث معينة جرت تشير إلى حالة اللحمة التي سادت بين الناس في مواجهة ماكان يحدث، وتفتق أذهانهم عن أفكار وخطط تقف في وجه الطارئ من الأمور:

"طفتُ اليوم بجميع بيوت حارتنا، فما تخلَّف بيت واحد عن الدفع، الأغنياء والفقراء على السواء، فاستطعت أن أجمع ثمن خمسين عباءة، أتدري أن ثمن العباءة الواحدة خمس ذهبات؟ فيقول أبي: أعرف ذلك: الأفضل أن تشتري أنت العباءات.

حاولي أن تشتري من كل دكان عباءة  أو اثنتين فقط، كي لا تلفتي إليك الأنظار"( )..

ويمكن للقاص أن يذكر بعض التفاصيل الحميمية التي تخصّ بعض مايحدث مما يخفف من وطأة مباشرة المقولة التي يبتغيها.

وقد تناول قاصون آخرون بعض ما آلت إليه أحوال البلاد من حيث مطالب الشعب والمظاهرات التي كانت تعم البلاد آنئذ، وما راح يحدث في أنحائها مركزين على الإشارة إلى حالات القمع والاعتقال التي مارسها بعض حكامه ومتسلطيه في هذه المرحلة وفي مراحل سابقة، محاولين أن يرصدوا جانباً مهماً من جوانب المجتمع عبر علاقة أبناء الشعب مع القيادات والسلطات ومآل هذه العلاقة، مؤكدين أن الظلم مهما اشتد أوارهُ لا بدّ أن ينتهي، مشيرين إلى ضرورة الاستفادة مما جرى كيلا يتكرر ولا يعاد، وقد أشار القاص سعيد حورانية إلى تصرفات بعض الجنود في المناطق النائية:

"منذ عشرين عاماً نُقِلَ ضابط درك في الأربعين من عمره إلى الجزيرة، كان يبدو قاسياً جلاداً أمام الفلاحين، وكانت العشائر التي لا يجسر أحد على التعدي على تخوم أراضيها سواء أكان المعتدي ابن حكومة أو غيره تقول: إن الجزيرة لها بلاءان ضابط الدرك الجديد وانحباس المطر، وبقدر ما كان ضابط الدرك الكهل متكبراً أمام الناس، كان آية في اللطف والكياسة مع الفرنسيين فكانت ترقياته تتالى بسرعة غريبة، وهذا الضابط الذي جاء من دير الزور يداً من قدام ويداً من وراء، أصبح بسرعة البرق من أصحاب الثروات الضخمة، فكل مخفر درك يعرف هذه الحكمة، ما لقيصر لقيصر وما لمخفر الدرك لمخفر الدرك"( )

إن القاص في المقطع السابق يجعل الإدانة معطىً للقارئ وإيحاء تقوله أحداث القصة، ويحاول الابتعاد عن المباشرة خلال تركيزه على حكايته، راوياً إياها بكثير من الحيادية على الرغم من أنّه ينقل تفاصيل كثيرة تصب في بوتقة ما يريد قوله.

ويغلب على ما قدمه سعيد حورانية محاولة تعرية ما يمرّ به وكشف ما يحدث في المجتمع مشهراً قلمه لنقد كل ما هو سلبي.

وينقل لنا القاص ناشد سعيد بعض المشاغبات التي يمكن أن يقوم بها الشباب الذين اقتيدوا إلى السجن وذلك بأسلوب فني لا يخلو من  بساطة وطرافة:

"لن أدعك تحلق رأسي، اذهب وقل لرئيسك إنهم يرفضون الحلاقة وإلا أشبعناك ضرباً، لقد ضربنا رئيس المخفر منذ قليل.

فانجُ بنفسك هذا أحسن لك..

وإذا به يضحك، ولست أدري لماذا، ثم قال بهدوء:

"يا أولادي، إن المشاغبات لا تفيدكم، وإذا لم تحلقوا بالمعروف، فسيأتي الوكيل وجنوده ويضربونكم بالسياط حتى يغمى عليكم، وعندها يحلقون لكم ليس بالماكنة، بل بالموسى، ومن دون صابون أيضاً!"( ).

 

إن هذه الأجواء قد خلقتها مجموعة الانقلابات التي حدثت يومذاك، وخلافات الأحزاب مما أنشأ حالة من التوتر والكراهية والمواقف المسبقة التي أرختْ ظلالها مدّة طويلة على المجتمع العربي السوري الذي لم يهنأ بالاستقلال بعد إلا ودُوْهِمَ بمجموعة من الإجراءات القمعية وكتم الحريات ولعلّ ما يحز في النفس أن هذه الأحداث كانت تصدر عن أبناء الشعب أنفسهم، وهذا كان يزيد الأمور مأساوية.

 

والقاص ناشد سعيد نفسه يصف أيضاً ما حدث نتيجة المشاركة بمظاهرة قام بها مجموعة من طلاب المدارس، لكن السلطة استجابت لمطالب الشعب خوفاً من حدوث ما لا تحمد عقباه.

 

"بقينا في السجن ثلاثة أيام فقط ثم أفرجوا عنا بناء على رغبة وزير المعارف الذي أبلغ الزعيم كيف أن الأهالي قد تذمروا لفقدانهم أولادهم، وقد تجمهروا في المدارس يطالبون بالإفراج عنهم، وقد يحدث مالا تحمد عقباه إن طال زمن اعتقال أبنائهم"( ).

 

وبطريقة مشحونة بالسخرية يقدم سعيد حورانية أبناء الشعب وقد تجرؤوا  على مخاطبة الرئيس بلهجتهم البسيطة من خلال رسالة موجهة إليه:

"وماذا نقول لحظرة جنابكم بعد ذلك. ماذا نذكر من الحوادث التي يشيب لهولها الأطفال الرظع في السنوات السبع التالية كنا دوماً في أخذ ورد، وكر وفر مع فايز الديراني المذكور واسمحوا لنا هنا، ولا مؤاخذة، أن نؤكد على تحيز حكام عهد الاستقلال له، كأن الحكومة لم توجد ـ وحاشاكم ـ إلا لتعين علينا أعداءنا وتضربنا وتسجننا وتناصر هذا الرجل الذي هبط علينا بلاء من السماء فوق بلاء القحط وفيضان الفرات"( ).

 

إن حرص القاص على نقل أفكار الفلاحين بلهجتهم العامية له دوره في بناء القصة، وهم الذين يوجهون خطاباً لرئيس دولتهم يضجون فيه مما يحدث لهم ويشكون له أولئك المستغلين، وهم ينقدون بكثير من الصراحة والجرأة هذا التوالي في الاضطهاد لهم من قبل بعض الشخوص الذين يتلّونون بحسب مصالحهم سواء أكان ذلك قبل الاستقلال أم بعده.

الوحدة:

يعدّ موضوع الوحدة من الموضوعات السياسية( ) المهمة في هذه المرحلة إلا أن تجلياته القصصية لم تشكل رصيداً كبيراً، برغم ما تركه من آثار على الواقع وما حدث بعد ذلك من انفصال، ولو استثنينا قصص أديب نحوي الذي اهتم كثيراً بهذا الموضوع لما وجدنا شيئاً يذكر يمكن أن يكون مواكباً لحدث ترك بصمات مهمات في سيرورة المجتمع، إذ شكل موضوع الوحدة بما له من أبعاد قومية فكرة محورية في قصص أديب نحوي، إضافة إلى الموضوع الفلسطيني وذلك عبر مسار تجربته الطويل، وكان يبدي حماسة في التعامل مع الموضوع تدفع المرء إلى الاستغراب من جهة، وإلى الاحترام من جهة أخرى نظراً لتصريحه بإيمانه القومي وتعويله عليه.

وقد أبدى القاص تذمره الشديد من الانفصال والداعين له، معدّداً مزايا الوحدة، شاحذاً طاقاته الفكرية والروحية للإشارة إلى أهمية الوحدة في حياة الإنسان العربي( ).

وعلى الرغم من مقدرة القاص الفنية والحكائية إلا أنه كان لا يكتفي بتعبيره الفني هذا، إنما يباشر غاياته بصريح العبارة، لكن بروح حكائية لا تخلو من تشويق وسخرية أحياناً، ووصلت به الأمور حدّ تشبيه دعاة الانفصال باليهود ففي إحدى القصص يقدم لنا القاص أحد الأشخاص وهو يتحدث إلى مجموعة من الأطفال ذاكراً ابنه الراحل في سياق القصة ليغدو لازمة لكل مقطع.

 

"الانفصاليون قتلوه يا أولاد، نعم الذين قتلوه، يوم السبت، أول يوم سبت بعد الانفصال، عندما قامت حلب كلها ضدهم والناس صاحوا في الشوارع: عاشت الوحدة"( ).

ويسترسل القاص في وصف مشاعر هذا الأب تجاه الانفصاليين الذين هم أعداؤه؛ إضافة إلى اليهود لأن أولئك قتلوا  ابنه واليهود قتلوا ابن الجيران:

"الانفصاليون قتلوه يا أولاد. الانفصاليون أعدائي، هم، واليهود، الانفصاليون قتلوا ابني عبد القادر، واليهود قتلوا ابن جيراننا، حسن بركات، ألا تعرفون حسن بركات؟ ابن حارتكم،  ذلك الولد الطويل الأسمر.. ابن مصطفى بركات الذي يشتغل في المقر بفتل خيوط القنب، وقد انكسر ظهره منذ أن قتل اليهود له ابنه حسن، فلم يعد يقدر على فتل الخيوط من القنب"( ).

 

ولا يكتفي القاص بما يمكن أن يقوم به جيل اليوم بل يطلب من جيل الغد أن يقوم بشيء ما تجاه أولئك وتجاه اليهود معاً لأنه لا فرق كبيراً بينهما:

"الانفصاليون واليهود أعدائي يا أولاد وأنتم أولاد حارتي، فلا تنسوا لما تكبروا، ويصير لكل واحد منكم بارودة ويلبس مثل العسكر...

فلا تنسوا عندما تأخذون بالثأر لحسن بركات من اليهود، لا تنسوا ابني عبد القادر، وأنا يا أولاد لم يبقَ عندي صبيان أجعلهم يأخذون ثأر عبد القادر من الانفصاليين، فخذوا أنتم بثأره من اليهود، لأن الانفصاليين واليهود مثل بعضهم البعض، الانفصاليون قتلوا عبد القادر واليهود قتلوا حسن بركات، فلما يقتل الولد منكم يهودياً أمام مخفر للكرسي، فكأنه قتل الانفصاليين"( ).

 

ويظهر القاص نحوي مشاركة أبناء الأرياف في الاحتفاء بالوحدة، لأن ما حدث إبان الوحدة قد مسّ حياتهم بصورة ما، فهذا واحد منهم وقد جاء إلى مدينة حلب وهو ابن القرية التي غيَّرت اسمها من (الرفاعية) إلى الوحدوية، أي كأنه يوحي بأن التحول تم من الطريقة الصوفية المعروفة إلى القومية:

"أنا وحدي شيخ ضيعتنا التي كان اسمها الرفاعية، فغيرناه نحن منذ شهرين وسميناه الوحدوية، منذ اليوم الذي حضر فيه الوزير لتوزيع الأراضي، فرفعنا في وجهه العلم، وكل الجرائد كتبت عن ذلك اليوم، ألم تسمع؟..

صحيح أن الحكومة لا تعترف باسم قريتنا الجديد؟ لكن ماذا يهم ذلك؟ مادام جميع الناس جيراننا في قرى جبل سمعان كلها، وتجار باب جنين وباب الحديد قد اعترفوا باسمها الجديد..."( ).

 

وعبر حكائية تشويقية يدخل القاص راويه في عدد من التفصيلات التي تخدم فكرته الرئيسية التي يسعى نحوها "نعم يا بن أخي: أنا مختار الوحدوية التي لما حضر الوزير إليها منذ شهرين، رفعت في وجهه علم الوحدة وقال له المسنون من أهلها: لا نريد منكم أرضاً بل نريد الوحدة وصاح شبابها بينما الصبايا تزغرد: يسقط الانفصال: يسقط يسقط يسقط..

تعيش الوحدة  تعيش تعيش تعيش"( ).

وعلى لسان (حمدان) الشاب الريفي الذي كان قد أسهم بمقاومة العدو الإسرائيلي سابقاً، واليوم هو أمام المحكمة يدافع عن نفسه بشأن الوحدة والانفصال ينقل القاص رأيه فيما يحدث.

"غداً 22 شباط ، عيدالوحدة، وعندنا أخبار أن جماعة المشاغبين الذين أثاروا مدينة حلب ضد الحكومة في 22 شباط الماضي، ينوون القيام غداً بمظاهرات مماثلة لتلك التي قاموا بها في مثل يوم الغد من السنة الماضية"( ). ويتابع وصف حاله:

"أنا كنت يا سيدي أقول لهم وللوحدويين جميعاً عند منتصف كل ليل انهضوا فنحن لا نموت والوحدة يجب أن تنهض أيضاً وتحيا، كنت أقول لهم: كيف نسمح للانفصاليين أن يقتلوا وحدتنا... لا تناموا يا شباب، الوحدة يجب أن تنهض وتحيا..."( ).

 

ومادام الناس لم ينسوا أمر الوحدة فإن الشاب راضٍ بما وصل إليه....:

"ومادام النائمون قد نهضوا ونزلوا كما سمعت وأنا في السجن صباح اليوم التالي إلى شوارع حلب وأحيوا ذكرى الوحدة وجعلوا المدينة كلها تثور معهم ضد الانفصال فاحكموا عليَّ بما تريدون"( ).

 

إن هذا القصّ بشعاراته وحماسه يذكِّر المرء ببعض قصص المرحلة السابقة الاجتماعية خاصة، فالقاص نحوي يوجه معظم جهوده نحو هدفه المحدّد، قائلاً ما يريده بكل صراحة وعبر حكائيته الفنية المعروفة، وعلى الرغم مما يمكن أن يسجل من وجهة فنية إلا أننا نجد أنفسنا أمام شهادة حية لمفهوم القصة القصيرة ومدى الانسجام بين حياة المرء وما يكتبه، وما يؤرقه، ولاسيما أن هذا القاص قد أكد إخلاصه للموضوع القومي بتجلياته المختلفة في جلّ أعماله، ولعل هذا السعي الدؤوب هو نوع من الالتزام الذاتي بموضوعة ما؛ رأى القاص أنها تهمُّه وتخصه وتخاطب جوانيته لذلك بذل لها معظم ما كتب.

 

وقد كان القاص عارفاً بطبيعة مقدرته التي تتكئ على الحكائية الشفوية التي أرادها، منتبهاً إلى ما يمكن أن يخدمه في تخفيف مباشرة الأفكار التي يثيرها.

إن الهم السياسي بتجلياته الداخلية والخارجية بقي ذا حضور واسع في أرجاء القصة القصيرة السورية لأنه من الموضوعات ذات الحرارة المتجددة والصاخبة بالأحداث، فمجموع هذه الأحداث كان يترك تحولات تخص الفرد والمجتمع، لأنها ليست أحداثاً طارئة ولا مفتعلة بل هي نابعة من قلب المجتمع وأحد إفرازاته، إضافة إلى كونها تعبيراً عن جملة من التحولات والمتغيرات التي تخص البلاد وسيرورتها وإرهاصات التبدل فيها التي لا تأتي بين يوم وليلة بل ترتكز على ثلة من العوامل والأسباب. هادفة إلى الوصول إلى غايات متنوعة المظاهر والمشارب.

 

الهم الاجتماعي والذاتي وتجلياتهما:

رصد بعض القاصين جوانب من معاناة العمال والفلاحين والأطفال والمرأة، وهذه النماذج غالباً ما كانت مادة ناضجة للوقوع في الظلم والحيف، وقد سُجِّلت صور من معاناتهم إلا أن اللافت في المسألة هو آلية النظرة والتفكير والرؤيا التي باتت تبث في النصوص، لأن قراءات تراكمية قد راحت تظهر في القصص تنقل شيئاً من نبض الوضع الثقافي يومئذٍ، وليس هذا فحسب بل آلية إثارة بعض القضايا التي تخص المرأة مما كان غير مستحسن الإشارة إليه من قبل.

هموم المرأة:

أثيرت المواضيع التي تخص المرأة وعلاقتها مع الرجل، وظهر لدينا في قص هذه المرحلة المرأة المعتدّة بنفسها، الواثقة بقدراتها، المحاولة فك الأغلال التي يحرص الرجل على أن يكبلها بها، وهذه المرأة لم تعبر عنها القصص التي كتبها الرجل بل عبرت هي عن هموم المرأة خلال  قاصة تركت بصماتها الواسعة، والمقصودة هنا غادة السمان التي ثارت على كل القيود عبر  قصصها بالفن أحياناً والمباشرة والحدة غالباً التي  لا تعرف تراجعاً نتيجة لجملة القناعات المبنية على أن الصمت لم يعد يفيد ولابد من رفع الصوت ليسمع الآخر الهموم والمعاناة، وليحسب حسابات للمرأة التي هضمت حقوقها الطويلة وغُيِّبت لأسباب عديدة عن ساحة المشاركة والإنتاج والعمل ونُظِرَ إليها نظرات فيها الكثير من الظلم دون أن ترتكب إثماً إلا لأنها أنثى، وعلى لسان إحدى الشخوص تعبر عن فرح المرأة  بما تحقق لها نتيجة عملها:

"لاشيء في حياتي سوى عملي، أنا سعيدة، لا شيء ينقصني،أملك حريتي وقدري، كأي رجل في هذه المكاتب، أنا حرة سعيدة... سعيدة!.. لماذا لا تظل تكرر لنفسها أنها سعيدة؟..

عماد قال لها ذات مرة: عندما نكون سعداء فعلاً لا يخطر لنا أن نتساءل إن كنا كذلك أم لا، السعادة تصبح جزءاً منا، إنك لا تتساءلين إذا كانت يدك في مكانها أم لا، نحن نتحسس الأشياء عندما نشك بوجودها، لماذا تستعيد كلماته بهذا الحنين؟ إنها لا تحبه.

 

لا لم تحبه أبداً، كانت تتسلى به كما يداعب أبوها جارتهم الحسناء كلما التقى بها على الدرج، وكما يتلهى أي رجل في المدينة بالفتاة التي تروق لعينه. وهي رجل الدار لقد نجحت في أن تكون رجل الدار"( ).

وتتابع القاصة غادة السمان الدخول في أعماق آلية علاقة الرجل بالمرأة من وجهة نظر تحاول  النظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة وتحت وطأة الحيرة وعدم اكتشاف بواطن الأشياء، وإن كان بدء النظر إليها بهذه الرؤية حمل في جوانبه ملامح جديدة في آلية التفكير والنظر والتعامل مع بعض التفاصيل التي كانت لا تحتمل أكثر من رأي لأن عديدين كانوا لا يناقشون كونها بديهية وأمراً في حكم المنتهي، فلا جدوى من مناقشته أو التوقف عند مفرداته.

"نجحت في تحقيق قضيتها، انتصرت، ولكن قضيتك كانت فاشلة منذ البداية، كنت تحاربين الشمس تريدين أن تشرق من الغرب، أن تخرس الأمواج وأن يضل الليل طريقه إلى دروب المدينة... لقد انتصرت... إنها فاشلة كبيرة، أفكارها تمزقها، تحاول الانكباب على المصنف أمامها لا تستطيع، إنها تتعذب، وتكره أن تضعف حتى أمام نفسها، إنها تتعذب... تعيش مرارة نصر عجيب...

لماذا لم يقتلها أبوها يوم نبؤوه بأن ابنة خامسة ولدت له؟ ابنة! جاءت بوقاحة بالرغم من تهديداته لأمها، بالرغم من تمائمها وأدعيتها وذعرها".( )

إن الحديث عن قصص غادة السمان وتجربتها يمكن أن يتضمن الإشارة إلى العنف في الأفكار المثابرة والمباشرة والتطرف أحياناً، ويبدو أن مكانة غادة السمان في معظم تجلياتها لم تكن ذات طابع فني، وإنما نتيجة للأفكار التحررية التي أثارتها، وهذه الأفكار قد تكون ذات فاعلية في المجتمعات المتخلفة أكثر من فاعلية التعبير الفني.

وثمة نماذج أخرى من معاناة المرأة تتعلق بكون بعض ما يحدث لها غير ناتج عن خطأ  ارتكبته، بل نتيجة  لذنب ارتكبه الآخر، ودورها هي يكمن في دفع الثمن وفي لحظة حنق وانزعاج تبوح بحكاياتها:

"أنا نطفة دنسة، بصقها مجهول في أحشاء أمي عشية اجتاح الفاتحون برلين... عشية استباحوها، عشية افترسوا كل من تبقى من نسائها التعسات، في ذلك اليوم اللعين، داهم أمي عشرون جندياً، كانت عذراء نقية كزهرة التوليب، فحاصروها وأشرعوا حراب بنادقهم فوق صدرها وضاجعوها تباعاً".

إن مأساة المرأة هي هي وإن اختلف المكان، وتبقى ثلة من الرجال يهدفون إلى السيطرة على جسدها واغتصابها، وعلى الرغم من مرور الزمان إلا أن الصورة تتكرر، فها هو رجل آخر يحاول اغتصاب الابنة:

"أجل هذي هي قصتي أيها الذئب.... هل أثارتك؟ أم أنها حركت الشفقة في قلبك لا عليك... تعال إلي لتخرس عواء جسدك... هلم انهش من لحمي... لن تدفع شيئاً مقابل ذلك.."( ).

 

ويقدم القاص عادل أبو شنب صورة عن المرأة التي ملت الجلوس في المنزل وتريد أن تتنفس هواء الحياة العليل، وتطمح كيلا تعيد سيرة أمها بأن تحصل على شيء من الفسحة مع أن اعتراضات الأم المشبعة بقمع الأب تحاول أن تثنيها عما هي عازمة عليه:

"قالت لأمها: لن تمر ليلة العيد وأنا في البيت يا أمي، أريد أن أتفرج.

قالت الأم: لن يرضى أبوك. اجلسي في البيت واسمعي أغاني الراديو.

قالت فاطمة: تجعلني الأغاني أحلم يا أمي: أنا رائحة.

وزجرتها الأم الطيبة وهددتها بأبيها، ولكن فاطمة لم تصغِ، وإنما صفقت وراءها الباب ومضت ودعاء أمها ما يزال في سمعها: الله يبعث نصيبك يا بنتي!"( ).

هذا الدعاء الذي ورد في الجملة الأخيرة من المقبوس السابق يبقى أمنية غالية للوالدين فيما يخص ابنتهم، لأن بقاء الفتاة دون زواج يظل الهم الأبرز في فكر الوالدين وهذا يرجع في مجمله إلى أسباب اجتماعية.

 

إن هذا التعبير وسواه عن حالة المرأة يشير إلى بدء تفتح الوعي لدن القاصين في رؤيتهم لما يحدث في مجتمعاتهم، وتعبير القاص عن مثل هذا الموضوع يشير إلى رؤية متفتحة واعية.

 

ويقدم قاص آخر نموذجاً مختلفاً للمرأة التي تقدر عالم الرجال وتحترمهم وترى أن كثيراً مما يقدمونه جدير بالتقدير والاحترام، محاولة أن تقدم نفثات من السخرية:

"وكان من عادة أم ميخائيل أن تظهر احترامها للرجال، فتنصت عندما يتكلمون وما تلبث أن تخوض معهم الحديث ويصيخ الرجال بسمعهم إلى رأيها في بعض المواضيع... ولا تترك حديثاً للرجال إلا ولها فيه رأي ويعرف الرجال فيها ذلك، ومع هذا يحترمونها لجرأتها وانطلاقها، وكانت إذا سمعت أحد الرجال يتكلم والنساء لا ينصتن إليه تتأفف وتقول لهم: أنصتوا.. عيب الرجل عم يتكلم وكثيراً ما تحنق الساهرات على أم ميخائيل وتهمس إحداهن لجارتها: ما أقواها! مثل الرجال!"( ).

 

إن المرأة في مجمل علائقها قد أعلنت حضورها في قصص هذه المرحلة وهذا يحمل مؤشرات عن الحالة الفكرية السائدة وبدء التحسس لبعض القضايا، وهو يعني أيضاً أن فن القصة القصيرة راح يفتح أمداءه على حالات أخرى وأجواء وظروف بدأت تشكل صورة ما في نسج المجتمع يومذاك.

 

معاناة العمال والفلاحين:

إن موضوع البطالة والبحث عن عمل وما يكتنفه من مصاعب يبقى موضوعاً قابلاً للورود في غير مرحلة، إلا أنه قد عُبِّر عنه يومذاك بطريقة خاصة لأنه انسجم والمعطيات الفكرية المثارة في هذه المرحلة من مثل الضجر واليأس وفقدان الأمان:

"منذ يومين تقدم أحمد للعمل في هذه الشركة، وقُبِلَ طلبه بعد مشقات كثيرة، والبارحة تقدم إلى الفحص الطبي ممتلئة نفسه بشراً وأملاً، فقد كان على ثقة تامة، أنه سيكون أحد عمال الشركة بعدما بذل في سبيل الوصول إليها كل ما فيه من قوة"( ).

 

وربما يريد القاص إيصال هذا الشخص إلى فكرة معينة وهو الذي لم يصل إلى ما يصبو إليه، وقناعاته راحت تهتز وهو لا يرضى بالاستسلام:

"إنه لم يعد يؤمن بالقدر، لم يعد يؤمن بغير قوته المسلوبة منه، فلو كانت فيه، لما كان قد وقف في طريقه أيّما قضاء أو قدر ليثنيانه عن العمل والشعور بالحياة"( ).

إذاً إن إثارة هذا الموضوع لم تكن تماماً تهدف إلى التعبير عن المشكلة ذاتها، بل تحمل في أرجائها نية الوصول إلى  رؤية فكرية أرادها هذا القاص أو ذاك نتيجة لثقافته وقلقه.

 

ويلتقط قاص آخر حالة ذات بعد إنساني حين يضطر العامل لقبض أجرته مسبقاً من أجل دفن الميت هذه الحالة تحدث مع امرأة عملها الرئيس أن تغسل ملابس بعض العائلات في أحياء  متعددة من المدينة، يموت زوجها ولا تملك أجرة دفنه:

"وكان ذهنها يرسم صورة الطريق الذي ستسلكه للمرور على جميع  منازل زبائنها في سوق ساروجة والصالحية والمهاجرين وأبي رمانة والحلبوني... تسألهم بيتاً بيتاً ثمن غسلة مقدمة.

قالت فاطمة لنفسها: قد يتأخر الدفن قليلاً بسبب بعد منازل زبائني عن بعضها، ولكن هذه الطريقة هي الطريقة الوحيدة التي تكفل لجسد زوجي المنتظر على الفراش أن يوارى وأن يهال عليه التراب".( )

إن المناجاة للذات في هذه الأحوال تغدو ضرورية فنية يتطلبها السياق القصصي وتأتي ملائمة تماماً للحالة المتوخَّى وصفها.

أمّا القاص وليد مدفعي فقد اختار وجهاً آخر من وجوه العمل غير البطالة وغير عمل المرأة والحاجة الماسة إليه، إنه وجه لا يقل مأساوية عن هذين الوجهين والمعني به عمل الاطفال، ومعاناة أهلهم في تأمين حاجاتهم الضرورية عبر قصة (قدمان حافيتان)..

"لقد حل الصيف وانتهى الامتحان ولم يعد غسان يذهب إلى المدرسة ثم إن الحرارة قد أصبحت مرتفعة، ولذا فإن أمه أو أباه لم يفكرا في شراء حذاء له، فلديهما واجبات أهم من ذلك وهما يعيشان في إملاق واضح.

 

لم يشعر غسان نفسه بضرورة الحذاء فهو يستطيع أن يخرج من المنزل بالقبقاب الخشبي وماكان يهمه أن يصل بالقبقاب إلى سوق الخضار، أو من دونه فقد اعتاد ذلك"( ).

إن بعض القاصين أحياناً ينطقون باسم شخوصهم في رحلة صادقة للتعبير عن عمق معاناة أولئك الشخوص، ويبدو من الضروري أن يترك القاص شخوصه تعبر عن نفسها.

 

وثمة جوانب أخرى في المعاناة الإنسانية منها معاناة الفلاحين من الملاَّك الذين اعتادوا أن يعاملوهم معاملة المالك للمملوك دون أن يفكروا بكرامة الفلاحين، وقد التقط القاص ناشد سعيد حالة تتعلق بالفلاح والمرأة معاً، هذه المرأة التي لا تعني لدى عديدين سوى جسدٍ يُشْتَهَى، وتكون ثمناً لقضاء بعض الحاجات دون أدنى حساب لإنسانيتها أو كرامتها، أو كرامة أهلها وزوجها وأولادها:

"ويوم ذهبت لعند الأفندي صاحب البئر والمحرك الكبير والبحيرة الطافحة بالماء، والتي يحد جدارها بين حقلي وحقوله، وما كنت أظنه سيمنع عني الماء، فإن له زرعاً مثل زرعي ومن غير المعقول أن لا يخاف عليه من الجفاف، ولقد كان ظني في محله بادئ الأمر، فهو بشر كيفما كان الحال ولا يجب للزرع أن يجف ويموت ولكنه اشترط علي أن أرسل له زوجتي! زوجتي ولماذا أرسلها إليك؟.. ثمناً للماء أيها الأحمق؟..

أما تريد للذرة أن تينع وتثمر وتمتلئ بالعرانيس......!

لست أدري لماذا غضبت حين ذاك كل الغضب... ونسيت كل شيء حتى عيدان الذرة وثمارها... ووثبت عليه أمسك به من رباط عنقه الحريري اللامع، وأنا أخرج في وجهه لا ألوي على شيء: ماذا تقول أيها الخنزير؟"( ).

إن التعبير السابق يحيّر المرء في بعض جمله من مثل (لست أدري لماذا غضبت حين ذاك كل الغضب)، ولا نعرف متى يغضب الإنسان إن لم يغضب في هذا الموضع؟..

المكان والوطن والهجرة:

ومن الموضوعات الأخرى التي يمكن للراصد أن يقبض على عدد منها، ما يتعلق بمفهوم المكان والوطن والهجرة وسوى ذلك من هموم بدأت تدق عالم القص، وراح عدد من القاصين يؤكدون أن الإحساس بأهمية الأشياء يرتبط بمجمل الظروف التي يعيشها المرء ودرجة المعاناة واختلاف المفاهيم والتصورات بحسب آليات العلاقة مع الأشياء، فهذا بائع الترمس يقول:

"ما أجمل دمشق حين يراها الإنسان من على جبل قاسيون!"( ).

وينقل لنا قاص آخر التصور الشعبي لدمشق بصفتها مدينة (تبتلع) الشخوص والمفاهيم عبر شخص ترك قريته راجياً أن يحقق آماله العريضات في الشام:

"خجل جبور في بادئ الأمر أن يواجه الناس كيلا [يسألون!]، عن سبب عودته من الشام فيستضعفوه ويستذلوه... فالشام أم الدنيا ما راح واحد من الضيعة واشتغل فيها إلا واستوطن وما عاد يتعرف على ضيعته إلا صدفة... فكيف رجع جبور؟

أما زوجة جبور فتضايقت من زوجها لعدم استقراره ولم يرق لها أن تترك المدينة.... فهناك  كانت تقوم بخدمة بعض العائلات، ففي كل يوم تجلب معها بقايا "أكلات طيبة" وأحياناً بقايا العتيق من الكساء، فماذا تعمل في الضيعة التي أضحت "حطبة يابسة".. كما يطيب للكهول أن يصفوها"( ).

ويدعو عدد من القاصين إلى عدم هجرة أبناء المدينة مدينتهم، مشيرين إلى حججهم مباشرة، وهم يقدمون مفاهيم للمدينة يبدو أن معظمها يعود إلى أشياء مستوردة وليست نابعة من حال المدن في بلادنا، بل إن قراءة الآداب الأخرى لها آثارها في الإشارات المذكورة وقد صار موضوع المدينة ثيمة رئيسية في قصص المرحلة التالية:

"قالت له أمه: لماذا تذهب يابني؟

قال: مدينتي عقوق يا أماه!

قالت: هل هجر إنسان مدينته بمثل هذه السهولة يا بني؟

قال: لم أعد أقوى على الاحتمال يا أماه سأذهب....

كان يعلم أنه يهجر بهجران أمه وطناً وصدراً وتاريخاً صغيراً تافهاً ولكنه حار، وكان يعلم أنه يجابه موقفاً حزيناً صعباً، ليس هو وداعاً، وإنما انتهاء حركة ميتة،  آخر حركة"( ).

وانتبه عدد من القاصين للأثر الذي يمكن أن يتركه المكان في بعض التصرفات من حيث كونه عاملاً مؤثراً وحاسماً فيما يمكن أن نقوم به من أعمال:

"مشى رجل وفتاة في الطريق، وهبت نسمة وسقطت أوراق الشجر كما يسقط المطر، حطت ورقة على كتف الفتاة لحظة فتنفست الفتاة بعمق قالت: هل تحس أحياناً أنك تكاد تختنق ثم يحدث شيء سخيف؛ صدفة تحوم فراشة بيضاء أمامك، أو تفتح الشباك وإذا بدفقة من الهواء تغمر رئتيك، فتتنفس بعمق؟..

قال: تعرفين؟. لن أعيش مع غيرك وحتى لو عشت، ستظلين عزيزة عليَّ أعز شيء، وشعوري بأنك صديقتي سيقويني.

قالت: هكذا يقول الإنسان كيلا يخاف الوحدة، بهذا يحس أنه لم يفقد شيئاً وأن في الدنيا أصدقاء"( ).

إن هذا الحوار الفكري بين الشخوص ينمّ عن وعي شديد لدن شخوص القصة قد لا يعبر تماماً عن وعيهم المنبجس من بناء القص بقدر ما يعبر عن وعي القاص ذاته وقد وضع نفسه ناطقاً باسمهم.

ويرتبط الفقدان أحياناً، فقدان الحبيب، بفقدان الوطن:

"قال: لا أريد أن أفقدك؟

سألته: فقدت الشام ولم تفقدني؟

قال: فكري حتى الغد.... فكري بهدوء! نتزوج ونسافر!

قالت: لن أفكر.... أحب الشام هل نفترق هنا؟!"( )

إن هذا التلاحم بين الحبيبة والمكان يبدو معقولاً لأن للحب أمكنته التي ينمو في أفنائها، وإن كانت هذه الحالة من الموازنة بين الحبيب والمكان محرجة لأن لكل منهما خصوصيته ومكانته.

وفي رحلة صراع المكان القديم والجديد بما يرمز إليه كلٌّ منهما نتيجة لمجمل خصائصه وسماته فإن بعض الشخوص في القصص يعلنون عن انحيازهم العلني للدور القديمة، محاولين أن يحددوا سماتها وخصائصها في محطة توثيق لبعض مفردات هذه الدار أو تلك بما تحمله كل دار من ذكريات أمضاها الشخوص في أفنائها.

"أتصدق أنني مهما سكنت من الدور ما زلت إلى الآن أحب دورنا الشامية القديمة وأحن إليها، وأفضلها على غيرها. ألا ترى معي أن في طراز بنائها القديم شيئاً من الديمقراطية... إنها تبدو على الأقل متشابهة لا يشمخ كبيرها على صغيرها.

جدرانها تسند بعضها بعضاً، ومياهها مشتركة ومكشوفة، وسكانها دائماً أمناء على طهارة المياه. وسطوحها متصلة ببعضها وشبابيكها المتقابلة المطلة على الأزقة الضيقة تكاد تتعانق في ود، توحي إليك دائماً أنها تضم أناساً متحابين متآلفين، يشد بعضهم أزر بعض، ولا يبدو لنا الفارق إلا إذا واجهنا الدهليز المعتم، فتخطينا الدار الأولى التي كنا نسميها (البراني) إلى الدار الثانية (الجواني) حيث تبدو لنا عظيمة في سعة فسحتها وزخرفة ذي القوس العالي، وأناقة بحرتها الرخامية ذات النافورة الدفاقة، كذلك كانت دار جارنا حليم باشا أكبر دار في الحي، وكان البراني في دار الباشا يضم كل مساء وجهاء الحارة وكان مكان أبي يأتي دائماً على يمين الباشا، فهو جاره وابن حارته وصديقه القديم..."( )

إن لخصوصية المكان أثراً كبيراً فيما يفرضه من عادات وتقاليد وتبدو أجزاء المكان جميعها ذات دلالات محددة قد تأخذ أبعاداً اجتماعية وفكرية وإنسانية وإشارات لأفكار عديدة تخص البشرية.

لقد نجحت القصة القصيرة في هذه المرحلة إلى حد كبير في التعبير عن نبضها وقلقها وخصوصياتها، وقد تجلت أحداث كثيرة فيها، ونقلت خلال صور متنوعة بحيث إن المرء يستطيع تشكيل انطباعات كثيرة عن روح هذه المرحلة.

****

في قضايا المرحلة وظواهرها الفنية

 

أسئلة الفن:

يلفت الأنظار في قص هذه المرحلة تلك الحساسية الجديدة، والرؤى المتميزة التي يعثر عليها المرء في محاولة من القاصين لتقديم فهم جديد للفن يتمكن من تجاوز ما سبق، وفتح آفاق أخرى تجعل التجديد ضرورة ملحة ومجدية في ضوء ماحدث.

 

إن جديد هذه المرحلة لم يقتصر على الجانب الفني، أو استعمال مجموعة من التقنيات والعناصر الفنية، بل إن هذه العناصر الجديدة قد كانت ثمرة آلية تفكير جديدة ومؤثرات ثقافية متنوعة بدت التقنيات المستحدثة نتيجة طبيعية لها، لأن أي تجديد هو بصورة أو بأخرى ثمرة علاقات جديدة ورؤى مختلفة، وهذا ما حدث في هذه المرحلة، لأن المرء لا يشعر أن آلية كتابة القصة في تجليات عديدة وأنماط وأشكال متنوعة مجلوبة من خارج القص، وإنما تأتي في سياق طبيعي.

إن اختلاف آلية النظر إلى القصة القصيرة هو أول ما يسجَّل لهذه المرحلة، ومثل هذا التجديد في المفاهيم شارك فيه القاصون والظروف بعد أن تبلور مفهوم متطور لفن القصة القصيرة في ظل إدراك بدأ يتنامى في كون القصة القصيرة ليست تراكمات أفكار، ولا تتعلق قيمتها بهذا الكّم من القضايا بقدر ما تتعلق بكيفية قول هذه الأفكار، لذا فإن تمييز قصة من أخرى أو قاص من آخر لا يعود إلى ما يتبادر من موضوعات رنانة وشعارات صارخة بل الأمور تتعلق أيضاً بإمكانية الإيحاء التي يمكن أن يقدمها كل نص قصصي، وهذه العناصر تحتاج إلى كياسة في التعامل مع اللغة القصصية التي تحتاج لأبعاد استعارية ومجازية تسمح لعدد من الرؤى بالوجود والتنوع، إضافة إلى أن حرفية التعبير، وأهمية المرجعية لا تلبي طموحات الجديد الذي راح الواقع ينبض به، وبدأ مفهوم الواقعية يتسع ويغدو أكثر  إيغالاً في طبقات الواقع مع البحث عن ماهيات الأمور، وصار القاصون على وعي بأن القصص لا تستمد أهميتها من تأكيد الكاتب في مقدمة قصته أن هذه القصة قد حدثت فعلاً!..

إن موازين الكتابة المتميزة قد بدأت تعلن عن تبدلها إذ صار التخييل ميزة وعاملَ إخصاب للفن القصصي، ومثل هذه النقلة لا يمكن أن تتحقق إلا بعد مخاض تمثل بـ(لماذا)( ).

وربما قصص المرحلة السابقة قد حُمِّلت أكثر مما تتحمل من حيث البعد الشعاراتي والإيديولوجي، وإن كان عدد كبير من القصص المنشورة في هذه المرحلة في مجاميع قد نشر في المرحلة السابقة بشكل مفرد في الصحف...

لقد أصبحت اللغة لدى قاصين كثيرين أكثر من أداة توصيل، بل ذات دور جمالي وعنصر مهم لا يقل مكانة عن الشخصية وطريقة القول وسوى ذلك، ولم تعد طبيعة الحياة والظروف لتسمح فقط بالدلالة الوحيدة، وقد اكتشف قاصون عديدون أن اللغة كائن حي جميل يمكِّنهم من تقديم عوالم فيها الكثير من الإدهاش والغرابة مما يلبي طموحاتهم اللا شعورية في التعبير عما يكنّون من أشياء قد لا تكون مكشوفة الماهيات أو معروفة الانبعاثات( ).

إن هذه التطورات قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بجملة القراءات التي راحت تؤثر في القراء إضافة إلى الموجة الأدبية والفكرية السائدة آنئذ والتأثرات بالآخر( )، دون أن ننسى ما أصاب كثيرين من خيبة أمل بعدد هائل من الأحداث السياسية والفكرية والاجتماعية، وإن المرء ليقف حيران فيما بين يديه من قصص تتحدث عن الغربة التي تعبر عن أحوال القاصين، وبعد ذلك يمكننا أن نستغرب  ما حدث نظراً إلى طبيعة المجتمع العربي وعلائقه الاجتماعية، وقد نتجرأ فننسب جلّ هذه الغربة إلى القراءات، وضرورة التحديث وسوى ذلك حتى إن الحالة والإحساس بها قد جعلاها كأنها حقيقة معيشة، وقد راح القاصون يعبرون في قصصهم عن أهمية الانكفاء الذاتي وأن الأفضل الابتعاد عن الناس، فالمجتمع فاسد والناس لا خير في الاقتراب منهم، والمدينة ملوثة، والشوارع الإسفلتية تلوث وجه المدن، والنساء غادرات، والأمان مفقود( ).

هاهنا ربما يبدو التساؤل مشروعاً عن أحوال بلدنا بعد ثلاثين أو أربعين سنة من تاريخ كتابة هذه القصص وكثير من مدننا تعيش حالة الريف، وهناك قرى عديدة لم تصل إليها الكهرباء بعد؟

أهو البحث في آفاق التجريب والتجديد؟..

لاشك إن إحساس الكتّاب بضرورة التجديد والتميز حق مشروع لأنهم تمكنوا خلال ذلك من إبراز جديد الحياة التي يعيشونها، واستطاعوا إقامة نقلة نوعية فنية كانت القصة القصيرة السورية أحوج ما تكون إليها.

 

وصار بإمكان المتابع الحديث عما يمكن أن يسمى بالحساسية الجديدة في التعامل مع الأمور، ومثل هذه الحساسية الجديدة إضافة إلى كونها تعبر عن أفكار ربما لم تنل ما نالته في أضواء أدوات وتقنيات أخرى يمكن أن تقدم جيلاً مختلفاً من الكتّاب وهو ما حدث نجح في تقديم بذور فنية والحديث عن تفاصيل لم تكتمل معالمها بعد.

ربما يؤخذ على عدد من أولئك القاصين مغالاتهم والوصول بالأمور إلى منتهاها، وربما يقال: إن معظم ما أشاروا إليه لا يعبر عن مجتمعنا...( ) لكن لا يمكن للمتابع إلا أن يشيد بالجهود القصصية التي مكنتهم من الدخول في أعماق الفن وصورت صراع الفرد مع الجماعة؛ هذا الصراع الذي لم يأخذ شكلاً عملياً بقدر ما أخذ شكلاً نفسياً عبر عن الكثير من المكنونات والرؤى والمفاهيم والإحساسات بما يحدث، إضافة إلى حالة الغليان الفكري والقلق والضياع التي يعيشها أبناء المجتمع، ومجموع هذه الحالات ليس من السهولة التقاطها والتعبير عنها لأنها تدخل في عالم اللاشعور، وهذا العالم لا يمكن استظهاره والتعبير عنه بسهولة عبر لغة مشدودة إلى الواقع بوثائق عديدة؛ وإنما بلغة متفتحة الأذهان على التخييل( ).

 

ولو أراد المرء أن يعلّل ما حدث متسائلاً: هل هو نتيجة تطور زماني إن حاول تقسيم التطور إلى تطور طبيعي يحدث بمرور الزمان وتطور آخر أميل إلى النقلة النوعية؟ لقلنا : إن ما حدث إبان هذه المرحلة هو من النوع الثاني لذا فإن الإشارة إليه تحتمل شيئاً من البعد الإيجابي لتميزه وخصوصيته!..

لقد صار في هذه المرحلة للحزن والتشاؤم حضور، ولم يعد ضرورياً أن نبحث عن سبب الحزن والتشاؤم، ولا القاص وجد نفسه معنياً بذكر الأسباب العقلية لمثل هذا الحزن والتشاؤم بل حسبه التعبير عنه ونقل الحالة النفسية، وصارت الإشارة إلى الهرب من الواقع الذي يعيشونه أمراً لا تجلب العار أو العيب.

 

تيارات القص:

إن المجموعات الصادرة في هذه المرحلة يتقاسمها تياران ـ رؤيتان إحداهما تنتمي إلى مرجعياتها  وتفرز تقنياتها المعروفة التي كادت أن تتبلور منذ المرحلة السابقة، وهذه كتبت في ضوئها مجموعات عديدة لكتاب عرفوا في المرحلة السابقة، إضافة إلى كتاب عرفوا في هذه المرحلة، وقد كان ضمن هذا التيار مجموعة  من التجارب المتنوعة، كل منها عبر وفق فهمه ورؤيته ومقدرته الكتابية،  ولوحظ أن تجارب من مراحل سابقة قد حاولت أن تتفوق على نفسها، وتتابع اجتهادها لكتابة قصة أكثر تميزاً لكن ضمن الحدود التي قيدت  نفسها بها، دون أي رغبة في تجاوزها أو الانسلاخ عن جلدها الفني، لأنَّ لها رؤيتها ومفهومها الذي يضعها ضمن هذه الأيكة أو تلك.

أما التيار الآخر وهو الذي ترك بصمة أوسع ليس فقط لأنه طرح مفاهيم جديدة في كتابة القصة، بل لأنه شكل كماً كبيراً، ولأنّه أثار جدلاً  وعبَّر عن حساسية المرحلة وتقلباتها، كسر عدداً من الحواجز، وبعث الحياة في فن القصة هادفاً لدفعه إلى الأمام، وقد تهيأ له مجموعة من الكتاب الذين بدت ثقافتهم عالية في قصصهم، حملوا نبض المرحلة وعبروا عن حالة الانكفاء خير تعبير.

 

ويمكن للمرء الوقوف عند بعض سمات هذا النمط الجديد، على الرغم من الاختلافات الموجودة في داخله من تجربة إلى أخرى.

وقد وجد عند هؤلاء القاصين مجموعة من الأمور الفكرية والاجتماعية دفعتهم للانكفاء والغوص في عوالم النفس الداخلية، ربما كنوع من التعبير عن خيبة أمل في واقع لم يحقق المطامح التي كان يسعى إليها الناس في الخمسينات، إذ وجد القاصون أن الشعارات والأحزاب والأفكار لم تجدِ ولم تقدم جديداً، لذا فإن المرء يلحظ عدداً من المعطيات التي ظهرت في قصص هؤلاء القاصين تبدو فيها تقنياتهم ممتزجة بموادها  الأولية ومقولاتها الفكرية منها:

ـ لجوء بعضهم إلى لغة شعرية تحاول أن تخلق علاقات جديدة بين الكلمات لأن التعبير المنطقي يسهم بنقل أشياء واقعية أما التعبير عن خيبات الأمل، واللا شعور والحالات النفسية والبطالة، وحالة فقدان الثقة والتوتر النفسي والقلق يحتاج إلى علاقات لغوية جديدة تخلق أجواءها الخاصة، وهذا بدا في تجارب (زكريا تامر ـ حيدر حيدر).

ـ استدعى الحديث عن  حالات نفسية وعوالم لا شعورية والإحساس بعدم جدوى كثير من الأمور، استدعى كل ذلك إسقاطاً للحادثة المتتالية فخفَّ وهج الحكائية، وصارت قصص كثيرة معنية بنقل جوّ معين أكثر من نقل أحداث متتالية، مقنعة، ومثل هذه الحالات تطلَّبت الحديث عن شخصيات تمرّ عليها مجموعة من الحالات والأوضاع النفسية، ونجد هذا في قصص (وليد مدفعي ـ جورج سالم ـ محمد حيدر ـ زكريا تامر ـ وليد إخلاصي).

 

ـ أعلن الترميز نفسه أحد التقنيات الرئيسة التي وسمت هذا النمط من القص،  ما يشعر به المرء لا يمكن أن يعبّر عنه مباشرة، وإنما بإيجاد مجموعة من الحالات المعادلة، والرموز التي قد توحي به، لأنه هو غير واضح المعالم تماماً، هو يتشكل أحياناً من خلال مجموعة إحساسات وضغوطات، وليس من خلال معطيات محسوبة ومكشوفة وواضحة، تعثر على هذا (ناشد سعيد ـ وليد إخلاصي ـ جورج سالم).

 

ـ نظراً للحالة المسيطرة فقد طغت رؤية كابوسية  على الواقع وكان سؤال الجدوى حاضراً باستمرار، وأدى مثل هذا الوضع إلى وجود رؤية عبثية تسيطر على أجزاء كثيرة مما قيل صاحبها الكثير من فقدان الأمل بكل شيء لأن لا جدوى من شيء، نجد ذلك عند (وليد إخلاصي ـ ناشد سعيد ـ جورج سالم ـ محمد حيدر).

ـ إن عدم الاتكاء على الحادثة وعدم التعبير عن حالات ملموسة، أفرز مجموعة من المشاهد والمقاطع غير المترابطة التي تحتاج لصياغة جديدة كي يتم الخروج بقصة فنية مقنعة. تبدى ذلك في قصص معظم التجارب التي مثلت الحساسية الجديدة من الأسماء السابقة.

 

ـ سعى القاصون نظراً لما عانوه لاستحداث تقنيات جديدة من مثل الأنسنة لعلهم يكتشفون أسرار الكون، وهذا كان يتيح لهم قول أفكارهم على ألسنة الأشياء والتحاور حول  كل شيء  مهما كان بديهياً لأن واقعاً هذه إفرازاته يحتاج إلى المساءلة، من مثل (وليد مدفعي ـ وليد إخلاصي).

ـ بدت آثار الثقافة الوجودية وسواها واضحة، ورافقها ضجر وضيق وتبرم من أشياء عديدة، وقد جرَّت كل الأمور السابقة أحياناً بعض القصص إلى حالات تجريبية خاصة لم تثبت جدواها في المراحل اللاحقة (جورج سالم ـ ناشد سعيد).

 

ـ وللتقنيات والرؤى السابقة إفرازاتها على صعيد الموضوعات التي سيتم تناولها، إذ لم تعد المواضيع الرئيسة التي يعبر عنها التيار الآخر الذي اختار طريق المحاكاة هي المواضيع التي سيعبر عنها هذا النمط، الذي التفت إلى موضوعات وأفكار فرضتها طبيعته، وأفرزها وعيه الذي توجه لتحليل المشاعر والغوص في أعماق الإنسان، وهذه الموضوعات لم يكن التطرق إليها وارداً فيما سبق أمام الانشغال بالاجتماعي والقومي والوطني.

 

ظواهر فنية ـ فكرية :

إن الظواهر الفنية والفكرية تبدو مترابطة في هذه المرحلة لأنّ التجديد لم يخص التقنيات فقط بل آليات التفكير في عدد من القضايا التي لها علاقة بالضجر واليأس وجدوى الحياة والانكفاء على النفس.

 

ومن الصعوبة فصل التقنيات عن المضامين المقصودة، وهذا ما وسم عدداً كبيراً من قصص المرحلة التي استدعت خصوصيةُ موضوعاتها وجدّتها التقنيات الجديدة التي برزت من مثل الترميز، واللغة الشعرية، والأنسنة، والتخفيف من أهمية الحادثة في القصة، وقد ساعد على ذلك قراءات متنوعة، منها ما يتعلق بالتيار الوجودي.

وقد حمل عدد من القصص صوراً شتى للاحتجاج وجدوى الموت والحياة، ناقلة مختلف التفاصيل التي تمر مع القاص، وقد عبر ياسين رفاعية عن مسألة طرقَها غيرُهُ تتعلق بالبطالة، لكن آلية معالجته تمثلت في أن شخوصه لم يشتكوا للآخر بل وصلت مع أحدهم الأمور في نهاية المطاف إلى التساؤل "

الله ماذا فعلت لك"( ).

 

وتصل الأحداث إلى منتهاها في بعض الحالات فيما يخص فقدان الأمل من بعض المواقف حين يصل الناس إلى حالات مأساوية تتعلق بالآباء الفاقدين لمولوديهم وأنهم لا يرغبون في التعويض لأنهم يكتشفون أن لا مكان للحب، ويرد أحدهم على والد زوجته المتأمل بمستقبل أكثر إشراقاً "قال والد سلوى: ستعوضه إن شاء الله بمولود آخر....

همست: لا يا عم... لا أريد أن نبدأ حلماً جديداً يتحطم في لحظة ما.. ويغيب.... سأعلِّم سلوى أن لا تحلم أبداً... طالما أن الموت يخطف فجأة الصور الحلوة التي نحلم بها جميعاً بلا رحمة... لا يا عم لنعش بلا أحلام.. وقررت ونحن في طريقنا إلى البيت أن أحصد من ذهن سلوى كل الصور التي تحلم بها"( ).

وينقل لنا بعض القاصين مشاهد عديدة من حالات الضجر والقلق التي يعيشها الشباب حين يكتشفون أن لا هدف لهم:

"مشيت... من دون هدف، رأيت عديداً من الوجوه الجامدة التي لا حياة فيها، وخطر في بالي أن أدخن سجاير من نوع معين، طلبت من أحد الباعة علبة، أجابني ببرود: ليس عندي سجاير من هذا النوع... تذكرت صديقاً لي لم أره من زمن بعيد، تقدمت من هاتف للعموم وهتفت له، لم أجده قلت في نفسي: أذهب إلى السينما، اقتربت من دار للسينما ودونما معرفتي ما هو الفيلم، تقدمت لأقطع تذكرة، فوجدت شباك التذاكر مغلقاً وقد علقت عليه لوحة كتب عليها: لم يبقَ محلات، أحسست بأني جائع، خطر في ذهني بائع للفول يعتني بعمله جيداً، كان بعيداً عن المكان الذي أنا فيه، حثثت السير نحوه، وعندما وصلت وجدت محله مغلقاً".( )

ما الذي سيحدث بعد أن سدت الأبواب في وجه هذا الشخص الذي اعتقد أن النحس كله قد وقف في وجهه...؟.

هاهو يركب في الباص لا يعرف إلى أين هو ذاهب ثم يخلص إلى "لقد بدت لي هذه المدينة غريبة عني لا أملك فيها شيئاً، إنها ملك الآخرين، موحشة وقاسية"( ). ربما تكون نتيجة طبيعية نظراً إلى أنه حاول معها بكل الوسائل والأفكار لكنها بقيت مصممة على أن تترك أبوابها مغلقة في وجهه.

 

إن هذا الإصرار على تصوير الحالات وفق هذه الطريقة يشير بصراحة إلى النتيجة التي يصبو بعض القاصين للوصول إليها. وهي تعبر عن أفكارهم ورؤاهم.

وقد استهلك هذا الموضوع قصصاً عديدة لياسين رفاعية إذ تناول جوانب عديدة من ذلك "ليله الغرابي طويل، مغرق في وحشته، تذوب السكاير بين يديه الواحدة تلو الأخرى، ويجرع الشراب من الزجاجة المنتفخة البطن، ثم يعود ليحملق في السقف الأصفر الواطي، كأنه يكاد يجثم فوق صدره"( ).

ويتابع القاص تأكيد أن المدينة مختلفة وكل ما فيها قاتم يقود إلى هوّة سحيقة تمثّل عالم الاستسلام والذلّ، مما يدفع شخوص بعض قصصه كي يلوذوا إلى عوالمهم الداخلية  يتأملون إذ يقول في مطلع إحدى القصص "يندحر الشاب المتعب متدحرجاً على درج بيته غارقاً في لجة من الأفكار الغريبة، وفي اللحظة التي صفق الباب خلفه، تنسم هواء الفجر الرطب، ولسع وجهه برد قارس نوعاً ما"( ).

 

إن تناول المدينة في هذه المرحلة جعل الأبواب مشرعة لتغدو موضوعاً رئيسياً في المرحلة اللاحقة يتيح للقاصين التذمر منها وجعلها مشجباً لكثير من أوجاعهم.

وهناك قصص عبَّرتْ عن الضيق والتبرم من كل القيود التي تفرضها علينا مجموعة الظروف الحياتية، فبعض هذه القيود تشبه الأقمطة، لكن تعبير هذه القصص كان حاداً ولا يخلو من مبالغة:

"وانزلقت أكثر فأكثر في الفراش، واحتضنت ليلى بحنو، وأخذت أقبلها باشتياق فانساقت إليَّ بكليتها، وأحسست كأني قد أصبحت وإياها ملفوفين في قماطٍ واحدٍ!..

وفجأة وأنا بكامل انسجامي معها، سمعت صوتاً ينبعث من أعماقي ويصرخ بي بعنف: أيها الجبان لا تستسلم لا تستسلم، باستطاعتك على الأقل، أن ترفض هذا القماط الجديد، الذي سيعلق برقبتك بعد عامين، قبل أن ينام، لتضعه في فراشه"( ).

 

والمقصود هاهنا واضح، إنه البذرة التي ستنجب مولوداً بعد فترة ما، سيشكل هذا المولود  قماطاً آخر برأي الصوت القادم من الداخل:

"وضحكت لماذا أرفضه؟ لقد عشت ثلاثين سنة  من عمري وأنا مشدودٌ إلى عددٍ هائلٍ من الأقمطة ولقد تعودت العيش فيها، فماذا يضيرني إذا زادت واحدةً"( ).

إن الوصول إلى هذه الحالة اليائسة لم يأتِ عبثاً، فالأمور تساوت لدن كثيرين مادام الإنسان صار مزنراً بالقيود، لكنه برغم كل ذلك لا يفقد الأمل بالمستقبل:

"وعلى كلٍ... لا تظن أني لن أنتفض على هذه الأقمطة يوماً ما.. وإني سأستكين إليها إلى الأبد... لا سوف أتمرد في النهاية وأرفض أن يلقى عليَّ قماطٌ جديد... سوف أكتب في وصيتي غداً عندما أستيقظ في الصباح: ادفنوني عارياً عندما أموت بلا كفن فإني لم أعد أستطيع احتمال المزيد من الأقمطة... أعفوني من هذا القماط على الأقل"( ).

وقد شكل القاص زكريا تامر ظاهرة متميزة في آلية تعامله مع اللغة وتعبيره عن الموضوعات التي سعى إليها فهو يتحدث عن موضوع البطالة وحيرة الشخص وما الذي يعمله والآمال المتكسرة والناس الذين يجلسون في المقاهي يقضمون أوقاتهم بصمت:

"نهر المخلوقات البشرية تسكع طويلاً في الشوارع العريضة المغمورة بشمسٍ نضرة، حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطنٍ أبيض ناعم ضُغِطَ ضغطاً جيداً في قالبٍ جيد.

 

وتعرج النهر عبر الأزقة الضيقة وبين المنازل الطينية المكتظة  بالوجوه الصفراء والأيدي الخشنة، وهناك امتزجت مياهه بالدم والدموع وبصرير جراح أبدية، وعثر النهر في ختام رحلته على نقاطٍ مبعثرة بمهارةٍ مختبئة في قاع المدينة فصب فيها ضالته الباقية"( ).

 

وبدأ القاص بعد ذلك بالتعريج على مأساته الخاصة التي تشير إلى وضعٍ يقوم به هو في دمج متميز بين الراوي والمؤلف: "وإحدى هذه النقاط مقهىً صغير قابعٌ قبالة المعمل الذي طُرِدْتُ منه قبل أشهر لارتكاب خطأً أتلف آلةً من آلاته، ورواد هذا المقهى عمالٌ يشتغلون في المصانع القريبة،  وفلاحون وبائعون يتجولون وسائقوا سيارات وتراكتورات وعربات وحمالون وأناسٌ بلا عمل ـ مثلي يجلسون جميعاً باسترخاء ويحتسون الشاي على مهل ويثرثرون دون أن يكون بينهم أي معرفةٍ  سابقةٍ..."( ).

وبعض القصص عبرت عن تعارض الوعي الفردي مع الوعي الجماعي وبدء كثيرين بالاعتراض على المسلمات الاجتماعية والفكرية، وهذا الاعتراض عادةً لا يأتي من فراغ بل غالباً ما يتكئ على معطياتٍ فكريةٍ ما...

في إحدى القصص يعترض أحد الشخوص على دعاء أمه وعلاقتها بالمسيح، مبيناً أن دعاءها الطويل لم يغير من الأمور شيئاً، موضحاً أثر قراءاته الوجودية في قصصه: "كنت لا أصدق أن صديقها المسيح سيلبي طلباتها فوراً، فصحيح أنني كنت أنجح كل عامٍ في المدرسة. ولكن أخي لم يتنور عقله، إذ ما مرت سنة حتى خطف ابنة الجيران وتزوجها، وأبي لم يزد رزقه، ولم تنتهِ قصة بؤسه.. أما هناء أختي المتزوجة "موجودة" في بيتها فلأن انسجاماً قديماً ربط بينها وبين زوجها، أما سلام العالم فلا يزال حتى هذا اليوم مهدداً بحماقةٍ يرتكبها أحد هؤلاء الذين أسموا أنفسهم أقطاب الدنيا.. لم أكن لأصدق أن كيس الدقيق سيمتلئ..."( ).

 

وأمام ما أحس به القاصون من تطورات جديدة، وما رأوه من أخطاء فقد تشجعوا لتناول موضوعاتٍ معينةٍ مع الكثير من السخرية المبطنة في عدد من الأمور، وبات بعض القاصين ينقل حواراتٍ ظاهرها لا يحمل شيئاً لكن باطنها يحمل الكثير الكثير من التعرية والجرأة والصراحة: "قال أحدهم مازحاً: أحذر أن يراك والدك وإلا فسنحرم منك مدة أسبوعٍ ريثما تختفي آثار حذائه من رأسك ولن نجد أحسن منك محطاً لدعاياتنا... سنفتقدك كثيراً".

أجابه القصير المنزوي في ركن السيارة:

لا تخشَ عليه لأن الحذاء سيبلى قبل أن يصاب رأس صاحبنا بأذى.

ضحك الجميع ورد الشاب الأسمر: أما أنت فستجد والدك ساهراً، ولكنه سوف لا يوبخك لأن عليه أن يبرر بقاء الخادمة ساهرةً أيضاً..."( ).

وبلغ إحساس بعضهم بالضجر منتهاه كما ظهر في عددٍ من القصص، ومبعث القلق المرافق للضجر غالباً ما يكون غير معروف الأسباب:

"أذكر أنني استيقظت في يومٍ من أيام الربيع العابرة على ضجر خانق يأخذ عليَّ كل مسلك وعلى سآمة سامةٍ تشيع في كياني وتفيض من مقلتي فتشوه لي الحياة وتشوهني من الحياة فإذا أنا أشبه الأشياء بدمل بشع على جسدٍ قذر، كلاهما ساخط على صاحبه، وكل منهما أجدر من صاحبه بالسخط واللعنة... والحياة بكل أهدافها ومفاجآتها أنشودة سمجة يرددها صوت بغيض على نغمٍ رتيب يوغر الصدر، ويزهق الصبر، ويغري بكل شيء إلا بالحياة"( ).

ولعل ظروفاً عديدة قد خلقت نصوصها الخاصة التي اجترحت تقنيات فيها الكثير من التميز فقد صار المرء يخاطب الجدران ويتلمس مواضع الحياة فيها ويشكو لها همومه بعد فقدانه الأمل بالبوح للإنسان، وإن لم يأتِ هذا الفقدان معلناً دائماً!..

ومن هنا فإن الأنسنة يمكن أن يقبض عليها المرء في غير قصة وبأسلوب فني لا يخلو من الرشاقة والإمتاع:

"وكانت النافذة تئن من الألم وتصرخ محتدة من ضربات المطرقة الشديدة على ضلوعها وعندما تركها النجار وانحدر فوق السلم لم تجرب النافذة أبداً أن تتبعه كما فعلت من قبل، وكادت تتحطم، وإنما ظلت في مكانها ثابتة، أهو إغماء قد تملكها أم أنها خافت من عودة النجار بمطرقة أكبر، وعلى أي حال فالذي حصل أنها لم تأتِ بحركة واحدة"( ).

وتصل الأفكار إلى درجة عالية من التصديق حين يقتنع الإنسان بطاقات هذه الأشياء وعجائبيتها ويبدأ بالتعامل معها بكثير من الإنسانية:

"قال الشخص البدين. ارفع هذا الباب إنني لم أرَ في حياتي باباً أعند منه، وضع النجار أدواته في السلة، وحاولت الكماشة وحدها أن تختبئ تحت الممسحة وساعدها في محاولتها جرسون صغير كان بالقرب منها يمسح الأرض، وكاد أمر فرارها يتم إلى الأبد لولا أن صاحب الفندق كرر طلبه بصوتٍ عالٍ: قلت لك مراراً أن ترفع هذا الباب"( ).

وصار مباحاً ومتاحاً تقديم هموم فيها الكثير من الذاتية بحيث يمكن أن يعبر القاص عن مكنوناته في قصصه التي يكتبها إن أحس بحاجة لذلك، محاولاً أن يلغي الكثير من الحواجز والممنوعات المسبقة،  ولعل عدداً من القاصين أدرك أن القبض على الإنساني في الذاتي مهم جداً، لكن الأمانة تستدعي من المرء القول: إن عدداً من هذه القصص بقيت تدور في ذاتيتها الخاصة بكاتبها، ولم تنجح في خلق التواشج المطلوب مع المتلقي، لذا فإن إطلاق صفة أدب الضياع( ) على قصص كثيرة من قصص هذه المرحلة لم يأتِ من خارجها ولا هو نوع من المبالغة، بل هو ضياع يعبر عن حال الضياع بتقنيات ضاع بعضها من القاصين، وبدا بعضها غير مضبوط ولا معروف المصائر.

إن ربطنا الحديث بين التقنيات وبعض الموضوعات نابع من صعوبة الفصل بينهما، نتيجة لحالة التواشج بين التقنية والموضوع وهذا يحمل إشارات إلى مدى التواشج بين المؤسسات الفكرية والموضوعات والفنيات في عدد هائل من قصص المرحلة بخاصة أن الخيارات الفنية جاءت ضرورة أفرزتها المرحلة والقراءات والوعي والأفكار وسوى ذلك، وهو يشير إلى حالة الترابط بين القاصين والزمان الذي عاشوا فيه ومن ثمة عبروا عنه.

يمكن أن نختم الحديث عن هذه المرحلة بالإشارة إلى النقاط التالية التي تتعلق بمجمل الفن القصصي الذي كتب ورؤاه وظروفه والتجارب التي كتبته:

ـ تقاسمت هذه المرحلة رؤيتان تعبيريتان إحداهما اتخذت من المرجعية والواقعية طريقاً   لها، والأخرى كانت حساسية جديدة شكلت هوية هذه المرحلة نتيجة لما أثارته من قضايا، وما لفتت إليه من موضوعات، وما استخدمته من تقنيات، وما طرحته من رؤى.

ـ انسحب عدد كبير من كتابة القصة قياساً للمرحلة السابقة بما أن الظروف الجديدة تستدعي مقدرات فنية هائلة،  وحرصاً على المثابرة والمتابعة في ظروف بدا أنها لم تعد تولي القصة الاهتمام الذي أولته إياها في المرحلة السابقة.

ـ وجد جيل جديد من الكتاب بعث الحياة في دم القصة القصيرة السورية، وكانت بصماته قوية في سيرورتها وفي التجارب اللاحقة.

ـ وجدت أصوات نسائية ذات بصمة واضحة، استفاد بعضها من جرأته وحرارة طروحاته (غادة السمان) وقسم آخر راح يحفر آثاره بهدوء عبر مسيرة هذا الفن (ناديا خوست).

ـ بان أثر الثقافات والقراءات في عدد كبير من القصص بحيث لم يعد الواقع هو المرجعية الأهم، لأن المرجعيات الفكرية والنفسية باتت تنافسه، بل تكاد تعلن نفسها بديلاً له.

ـ إن الأهم الذي قدمته هذه المرحلة كامن في آلية التعبير عن موضوعات عديدة في ظل حضور قوي للفنيّ الذي جعل طريقة المعالجة تختلف، واجتهد في إيجاد أسلوبياته الخاصة به لدى كل الأنماط التعبيرية، رافقه تراجع لقصص الوعظ والإثارة.

إن التغييرات التي حدثت في هذه المرحلة قصصياً استندت إلى حدٍ كبيرٍ إلى تغيير في المواقف مما كان يحدث، وهذه المواقف لم تتغير لتتنافر مع ما سبق، وإنما اختلفت آلية الرؤيا التي أدت إلى تغير في الموقف، إضافة إلى ثقة القراء بالأنماط التعبيرية مما جعل أصحاب الإمكانات والمثابرين على المتابعة ومحاولة تقديم الجديد الجميل يأخذون مكانة كبيرة.

إن قارئ قصص هذه المرحلة قد يراوده تساؤل حول حجم التغييرات في الأنماط التعبيرية التي كانت سائدة.

وفي الإجابة يمكن القول:

إن القصة الواقعية بمفاهيمها المختلفة لم تغب عن الساحة بل كانت تشكل نصف المرآة الآخر، وما يلفت أن عديدين من الكتاب السابقين والجدد حاول إدخال تقنيات وتطويرات في الكتابة القصصية جعلتها أكثر فنية، أعمق رؤيا، وأدق مساراً؛ مما جعلها تخطو نحو الأمام بثقة وضمن مساقاتها التعبيرية دون أن تفقد قصصيتها وخصائصها الجمالية والتقنية والمضمونية.

 

 

المرحلة الرابعة: التنوع المثمر

1969-1979

الرؤى التي برزت والتقنيات التي استعملت، والموضوعات التي عولجت إبان هذه المرحلة تحمل تنوعاً وغنى مما يؤهلها لتكون من أخصب المراحل على صعيد إنتاج القصص كماً ونوعاً.

وقد أضافت المرحلة الكثير لفن القصة القصيرة السورية الذي نضج واستوى على أيدي كتاب كثيرين، منهم من ظهر في هذه المرحلة، وعديدون ممن عرف في المراحل السابقة، وإن قدم ثلة ممن عرف سابقاً بنضج كتاباته إبان هذه المرحلة مجاميع قصصية( ).

صار التجريب أكثر انضباطاً وأميل إلى التعبير عن غايات محددة، وما فتئ يرتاد آفاقاً جديدة في سعي حثيث إلى تقديم الجديد وتجاوز المكرور من القديم، وقد أدى هذا الاندفاع نحو التجريب إلى اجتراح تقنيات عديدة وترسيخ جذورها، والاستفادة منها عبر غير طريقة وأسلوب، إضافة إلى أن محاولة تجاوز ما سبق قد دفعت عديدين لكسر الكثير من التابوات، وبرز لدينا قصّ يحاول التخفيف من أوهاج السرد والسببية والحكائية ليصل إلى تضييع الحدث والتقليل من بؤريته، وإبعاد البعد الدرامي عن المركز مع الاستفادة من إمكانيات اللغة، ومحاولة إضافة مفاهيم جديدة تبدو أكثر صلاحية لرؤى قديمة تتعلق بالمرجعية والواقعية وسوى ذلك، وأسهمت المسابقات والجو الثقافي الموجود آنئذ في هذه الجرأة وذاك التجديد، بل كانت دافعاً رئيسياً نحو التنويع الذي يلحظه المرء في كثير من قصّ هذه المرحلة( ).

والحق أن هذا لا يعود إلى هذه المرحلة فقط بل يعود أيضاً إلى التراكم وتوفر كم من القاصين يمثلون معظم الأنماط، ووجود تجارب مختلفة، منها من مرّ على بدء كتابته للقصة سنوات طويلة، ومنها تجارب جديدة تحاول أن ترسّخ قدمها مستعملة أساليب اعتقدت آنئذ أنها الأكثر جدارة أو جدوى.

 

ظروف المرحلة:

بقيت حرب الـ67 تلقي ظلالها على الروح العربية فترة من الزمان، لأنها لم تكن جولة خاسرة فحسب، بل كانت نكسة حقيقية كشفت الكثير من المخبوء والمستور لذا فإن يراعات الأدباء وحناجرهم قد رفعت أصواتها عالياً، داعية إلى الاستفادة مما حدث كيلا تتكرر الهزيمة، وبقيت الأمور بين مد وجزر إلى أن جاءت حرب الـ73 التي أحيت بعض الآمال في نفوس الناس، ودفعت كثيراً من محطات الثقة إلى الإعلان عن نفسها، وإن لم تكمل نهاياتها التباشير التي تحققت في بداياتها إلا أنها في الأحوال جميعاً كانت بذرة أمل في مرحلة مشبعة بالانكسارات، وعاشت البلاد على الصعيد الداخلي الكثير من الاستقرار ومظاهر الديمقراطية وتمثيل الشعب بشرائحه المختلفة، وأنشئت الكثير من المنظمات، وكانت الأمور آنئذ تخضع لشيء من محاولة القَوْنَنَة والتنظيم.

 

وأضحت هذه الأحداث بارقة أمل في نفوس الناس، وسرعان ما اختلَّت الأمور إذ بدأت الأحداث في لبنان، وحدثت الزيارة المشهورة للسادات إلى القدس التي شكلت شرخاً في أعماق الروح العربية لأنها كسرت حاجزاً بقي صامداً لفترة طويلة. إضافة إلى بداية تشكل أوضاع داخلية جديدة في نهاية المرحلة.

 

وقد شجعت الأحوال الإيجابية السابقة الناس على الأمل بتحقق الكثير مما كانوا يصبون إليه في مختلف الميادين على الرغم من أن جديداً لم يحدث على صعيد قضايا استراتيجية مثل القضية الفلسطينية، بل إن الكيان الصهيوني اتخذ عدداً من القرارات التي حاول خلالها تثبيت دعائمه في فلسطين دون إيلاء قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة أية أهمية تذكر.

 

إن الرؤيا نحو الموضوع القومي والوطني صارت أكثر عمقاً وأوسع دلالة بحيث لم تعد مرتبطة بالتعبير عن شعارات مكرورة، وإنما ظهر وعي جديد يشير إلى ضرورة التحرر الداخلي وتحقق الكثير من الحقوق للإنسان في بلده كي يستطيع أن يصمد ويقاوم، وإن العبرة ليست بالشعارات، إنما العبرة في تقوية نفسية الفرد وجعل صمودها عقيدة، وهذه العقيدة؛ لا بد من تعضيدها بالكثير من الوعي والتعمق في نسج الوقائع والأحداث، لذا فإن الانشغاف بالتعبير المباشر عن القضايا السياسية لم يعد يحقق الحضور الذي حققه في مراحل سابقة، نظراً لانشغال القاصين بقضايا عديدة.

 

أما الأوضاع الاقتصادية في البلاد فقد شهدت الكثير من التطور والاستقرار في مفاهيمها المختلفة، وراحت حركة التصنيع تنمو أكثر( )، وتستقر المعامل التي أنجزت فيما قبل وتم الانتهاء من مشاريع زراعية وصناعية وتنموية عديدة منها إنهاء بناء سد الفرات، وقد انتبه القاصون لما رافق بعض الأمور من أجواء جديدة راحت تعلن نفسها حيث بدأت ملامح الفساد تتخلق مع ما أخذ يرافقها من أمور تتعلق بالاستغلال لتغدو النفعية إحدى طرق التفكير التي واكبت ما حدث من محاولات تطوير صناعية.

وبدأ صوت العمال يعلو في وجه المستغلين من أصحاب المصانع من جهة ومن ممثليهم من جهة أخرى.

 

وكان لا بد بفعل عوامل التنوع والانفتاح وتفجر الكثير من المسلمات التي تخصّ المنظومة القيميّة من بدء تشكل أجواء جديدة، ولا سيما أن العديد من المعطيات القديمة قد بدأت بالتقهقر في وجه ما يعلن، وهذا كله تمّ ضمن وضع فكري وثقافي عُرِف بصخبه وضجته التي ساعد عليها أجواء محسوبة تخص الفكر والثقافة، إذ عرفت الأجواء الثقافية في هذه المرحلة سمة الانفتاح والتنوع واللامُصادَرة بحيث نشأت تيارات ثقافية عديدة غلب الحماس على بعضها إلا أن الصدق بقي هو الموجِّه الرئيسي لها.

وصارت الثقافة نسَباً لكثيرين في محاولة دؤوبة للتخلص من القيود الاجتماعية التي وجدت نفسها في قفص الاتهام حين راحت ثلة هائلة من الشباب تعلن اعتراضها على العديد من هذه القيود.

 

وقد كسرت كثير من البديهيات فيما يخص القصة والمجتمع، ولم تعد الأحادية في الرؤية والتفكير قادرة على أن تشرئب كثيراً إذ كان الصوت الآخر بالمرصاد لها.

ونتيجة للمراحل السابقة ولما تم في هذه المرحلة فقد بدأت كثير من البنى القيمية الاجتماعية والفكرية بإعادة مساءلة نفسها لأن مفاهيم جديدة وبنى مختلفة كان لا بد لها أن تولد بعد طول انتظار.

 

وانعكس هذا بصورة فعلية في عالم الصحافة بتعدد دورياتها ورؤاها، ونشأت حواريات مفيدة في الصحف، ونتج عن هذه الأجواء أصوات ثقافية متميزة استفادت من الأجواء المنفتحة والجرأة المتاحة حتى إن كثيرين لا يزالون يتحسرون على ظروف السبعينات تلك، نتيجة لما أتيح فيها من مجالات لسيطرة سعة الرؤيا على كثير مما يقال إلا أن هذه الأشياء غابت بعد ذلك وتراجعت أمور كثيرة لظروف عديدة.

 

كان لا بد في ضوء هذه الأوضاع من تبدلات عديدة تخص ثلة من المفاهيم الثقافية التي راحت تهب عليها نسائم فكرية متنوعة المصادر، مما جعل الثراء صفة لكثير منها مما أسهم بإخصاب الأجواء ومدها بالنقاء الثر الذي له ثمرات يانعة على مفاهيم سادت يومئذ، وأخذت الدوريات دوراً كبيراً، ويلحظ هذا بخاصة في مجلة الموقف الأدبي التي خصت القصة السورية مثلاً بملفات عديدة تضمنت العديد من الرؤى والأفكار التي تخص القصة القصيرة، إضافة إلى نشر نماذج قصصية متنوعة لقاصين من أجيال عديدة، ولعب ملحق الثورة الثقافي دوراً بارزاً إضافة إلى جريدة تشرين ومجلة المعرفة، ولعل العامل الأساسي في تفعيل هذه الدوريات الثقافية وأخذها الدور المنوط بها يعود من جملة ما يعود إلى أن مثقفين حقيقيين قد قاموا بإدارتها قاصين وغير قاصين.

 

وقد أعطت هذه الدوريات تلك الأجواء مثالاً واقعياً عن كيفية تفعيل دور الثقافة وجعلها بؤرة رئيسية في سيرورة الحياة، بل جعلها عامل جذب لأنماط الحيوات الأخرى ودفعها إلى  التكامل والتواشج معها بكثير من الندية والحوار والنقاش.

 

وقد أسهمت الأوضاع الاجتماعية التي شهدت كثيراً من التحولات والتغييرات في جملة ما حدث، لأن كثيراً من الأشياء القارة قد طالها التغيير ووصلت إليها المناقشة والمساءلة وتم إعادة النظر بكثير من المسلمات والبديهيات بفعل عوامل ثقافية وفكرية أعلنت حضورها القوي والفاعل في سيرورة الحياة يومئذ.

وبدا أن عوامل عديدة إنْ تواشجت فإنها تسهم في خلق التغييرات التي يطمح إليها العديدون من الساعين إلى تغيير الكثير من باليات المجتمع.

ومما يلفت أنظار المتابع أن الحوار والنقاش كان حاضراً بقوة إبان هذه المرحلة على الرغم من حالات التناحر التي كانت تسوده إلا أنها لم تسدّ الأبواب تجاه الآخر وتنغلق على نفسها، وبالرغم من منغصات كثيرة يمكن أن يقبض عليها المرء إلا أن أوضاع هذه المرحلة بعامة كانت أوضاعاً جيدة إذا ما قورنت بمراحل لاحقة أو سابقة( ).

 

حول مرجعيات القصة وهمومها:

لقد كان تفاعل القاصين مع معطيات المرحلة فعالاً من وجهة فنية وموضوعاتية وفكرية، فعلى الصعيد الفني قدمت لنا وجوهاً وأنماطاً وأشكالاً وتقنيات كثيرة، واستطاعت هذه المرحلة أن تطبع معظم قصصها بطابعها الخاص وهذا بدا جلياً فيما يتعلق باللغة مثلاً التي سيطرت عليها جمل ومفردات معروفة كادت تسم قصصاً كثيرة من هذه المرحلة.

 

وفي الجانب الموضوعاتي انفتحت الأمور، وتسيّدت الجرأة الميدان ومتحت قصص من الواقع فيما كثير منها راح يخلق أسلوبيته بتخييله الخاص به عبر رؤى جديدة ربما أقل ما يقال فيها إنها منفتحة وجديدة، وتحاول أن تقدم شيئاً مختلفاً عبر ما اجترحته هي من تقنيات وأفكار جديدة، بخاصة أن ظواهر فنية وفكرية قد برزت في هذه المرحلة، ولم يعد بإمكان المرء تجاوزها حين بدا أن فن القصة القصيرة قد غدا لدى ثلة من القاصين مادة طيعة تتيح لهم معالجة ما يريدون برؤيتهم الفنية الخاصة وبأسلوبية متميزة فيها الكثير من الابتكار ووفق أنماط وأشكال لا بد أن تنال إعجاب كثير من المتلقين، وإن اختلفت مشاربهم واهتماماتهم، وهم الذين سيجدون أن المفهوم التقليدي للقصة بأركانها وشروطها وتقنياتها لم يعد يشكل قانوناً يقاس عليه، لأن النصوص صارت تخلق قانونها وتميّزها ولغتها وجمالياتها التي أفرزتها هي بما قدمته من جديدها الفني والفكري وقد مهّد قاصو الستينات لذلك( ).

 

وربما كان التواشج مقبولاً إلى حد كبير بين كل من الأجواء الاجتماعية والسياسية والأجواء الفكرية والثقافية والكتابية في ظل وعيٍ تامٍ راح يؤتي أُكله خلال فترة قصيرة.

إن هذه المرحلة تعد ذهبية فناً وفكراً ورؤى تواشجت مع أجواء الحرية التي فرضت نفسها بعد سلسلة الانكسارات وبعد انجلاء الكثير من الادعاءات التي تخص الوضع العربي ككل؛ مما دفع القاصين إلى محاولة الانطلاق للتعبير عن مواضيع فيها الكثير من الحميمية والحرارة والتجريب، ربما أسهم فيه استواء الفن ونضجه إضافة إلى الكثير من الثقة بالنفس، هذه الثقة التي ولدتها المجاميع السابقة والمواكبة أيضاً نتيجة لوضوح المفاهيم وهضم روح القصة القصيرة الذي جعل التجديد ممكناً أكثر.

إن الكثير من الجرأة في التعامل مع القضايا المثارة يلحظه المرء فيما كتب ونوقش يومذاك، ولم تكن تلك الجرأة لتقود إلى المباشرة والصراخ في معظم تجلياتها، بل قادت عدداً من القاصين إلى التنبه لأهمية السخرية في عالم الفن حتى لو كانت هذه الجرأة، وتلك السخرية من الشخص نفسه الذي لم يتورع عن جعل نفسه مادة أولية للتناول بهدف إثارة بعض القضايا ولفت الأنظار إليها، وهذا يشير إلى وعي كبير وإلى حال التجاوز للعديد من القيود الاجتماعية التي تحاول ربط الفرد بجملة من القيود والمعيقات التي تجعله في دائرة محدودة.

 

ولم يكن كثير مما قدم يشتكي من ضعف في الموهبة أو عدم نجاح في المعالجة، بل إن معظمه أحضرت له واقترحت تقنيات ملائمة أسهمت إسهاماً واضحاً في لفت الأنظار إلى ما يحدث، والتنبه على أهمية الفن والتواشج بين أركانه المكونة له، إضافةً إلى التنبه على أن الجرأة والمكاشفة والنقد ليست بالضرورة ذات أهداف تجريحية، بل غالباً ما تكون ذات آثار إيجابية لشرائح المجتمع المتنوعة.

 

الهمّ القومي والوطني وتجلياتهما:

استمرت تجليات الموضوع القومي بالظهور في عدد من قصص هذه المرحلة وإن بدا الحديث قد مال إلى تناول ما يتعلق باللاجئين والنازحين وحياتهم ومشاكلهم التي راحت تعلن عن نفسها نظراً لطول فترة الإقامة، وما تسرب عنها من هموم بين اللاجئين والنازحين من جهة، والمقيمين من جهة أخرى دون أن ننسى طبيعة حيواتهم وظروفهم الخاصة( ).

 

لكن المرء لا يعدم العثور على قصص كثيرة لا تزال منشغلة إلى حد كبير بقضايا الشحن الدعائي والشعارات بخاصة أن حالة انكسار قد شاعت في النفوس نتيجة لحدوث نكسة حزيران التي ألقت بظلالها فترة من الزمان، وقد بدا بصورة جلية أن عدداً من القصص الدعائية لم تكن تملك الإمكانات الفنية التي تؤهلها لمجاراة القص الذي تناول موضوعات أخرى...

وحاول هذا النمط التغطية على ضعفه الفني بـ(خصوصية موضوعه) لكن هذا القص أثبت أن خصوصية الموضوع وحدها لا تصنع فناً!

إن ثلة من القصص قد دخلت في أعماق موضوعاتها، وناقشت المسائل بكثير من الروّية وأعادت النظر بأفكار عديدة كانت تتناول كأنها بديهيات مع أن كثيراً من القصص كانت تتكئ على موضوعاتها المستحضرة من الذاكرة، تستعين بإمكانيات التخييل، وقد ترك ذلك أثراً ما في ظل ما طرأ على الساحة من أحداث وما كان من حيل حيكت لعدم كشف الحقائق للشعب العربي، في محاولة لتشويه هذه الحقائق.

 

وقد أسهم الابتعاد عن معايشة بعض الموضوعات بعد مرور فترة على وقوعها بتقديمها بصورة مختلفة بعيداً عن ضغط المناسبة والدعائية.

إن الانشغالات بالجانب الاجتماعي الناشئ عن الحروب وآثارها والنزوح وسواه يبدو جلياً في هذه المرحلة والوقوف عند وجوه متنوعة للعلاقات الإنسانية النامية بفعل الظروف الجديدة التي غدت واقعاً لا مفر منه.

وقد عالجت قصص عديدة الجديد الذي حدث في هذه المرحلة وهو ليس بقليل من مثل حرب تشرين والأحداث التي جرت في لبنان، وزيارة السادات لإسرائيل والتي شكلت خرقاً قوياً في الصف العربي آنئذٍ( ).

 

إضافة إلى القضايا التي لم تنتهِ عقابيلها حتى يومنا هذا من مثل القضية الفلسطينية ونكسة حزيران.

ويلحظ أن القصص التي تناولت القضية الفلسطينية قد خفَّت بصورة لافتة في ظل أوضاع الانكسار والعودة إلى الذات وانشغال القاصين بالاجتماعي من الهموم، إضافة إلى القضايا الجديدة والهموم التي راح يفرضها واقع كان يصعب عليه التآلف مع الفساد والقمع والظلم، وكان يحث أطرافه على ضرورة التنبه إلى الإنساني من القضايا.

إن المتأمل في الموضوع الوطني والقومي في قصص هذه المرحلة يجد أن آثار حرب الـ67 وسمت قصصاً عديدة( ) عبَّرت عنها بصورة مباشرة أو غير مباشرة بحيث يمكن القول: إنها كانت أبرز الآثار المتجلية في قصص هذه المرحلة لأن حرب تشرين لم تتجلّ التجلي القصصي اللازم الذي يعبر عما أحيط بها سياسياً وإعلامياً( ).

إن مجموع المشاعر التي كانت تراود اللاجئين والنازحين وظروفهم وأحوالهم قد شكلت مادة أولية للقاصين آنئذ، وقد ولج عدد منهم في عمق أذهان الناس شارحاً الظروف التي وقع في إسارها كثير منهم، إضافة إلى حالة التردد التي قيدت تحركات الكثير منهم وقد حدثت أشياء جديدة تخص الموضوع الفلسطيني أثارت الشجون كثيراً.

وقد رصدت بعض قصصهم حالات الناس الذين أُبعدوا عن أوطانهم متناولة حالة الانتظار التي يعيشها الأديب هذا الإنسان البالغ الخصوصية، محاولة رصد أثر الذكريات في نفسيته وكتاباته وهو المضمخ بالجراح التي لم تبرأ بعد، لأن أسبابها وآثارها لا تزال موجودة ونابضة، وقد حاول القاصون توظيف إمكانياتهم الفنية في هذا الميدان، إلا أن درجات النجاح لم تك كما الطموح:

((لقد سلخ سنوات عديدة بعيداً عن أرضه المحتلة بعد أن فقد أبويه، إبان حرب حزيران. لم يبقَ له سوى أطلال الذكرى، قبع بجانبها يستوحي ملامح شعرية ثورية، دفعها واحدة تلو أخرى إلى صدور الصحف، وهو يلوك مرارة التجربة، وينظر بعيداً متخطياً جدران الأبنية الشاهقة وخطوط النار، ليقف بخشوع على أبواب بلدته الجريحة. وشده الحنين إليها وهو يسمع أغنيات المقاومة.

 

حدثه ابن عمه في رسالته، عن الأيام الخوالي، وقص عليه مأساة النكبة وحكاية النكسة...))( )

ونشأت لدينا قصص أخرى ترصد بكثير من الصدق والمكاشفة والجرأة بعض صور النازحين وأحوالهم مع حالة التردد التي اكتوى بها كثيرون، وإنه لموقف إنساني محير راود النازحين والذين رفضوا النزوح من جهة أخرى وقد فضلوا البقاء في أراضيهم تجلى في أي الأمور هو الأفضل؟ وقد فقد كثيرون حججهم في تبرير نزوح القريبين منهم حين تركوا الأرض وبعض أفراد الأسرة مفضلين النزوح على البقاء:

((أمام خزان الماء كانت فاطمة لا تزال واقفة تسأل بحيرة: ماذا سنفعل يا جماعة؟ النار قادمة، يجب أن نتدبر أمورنا، وهناك قرى نزح أهلها...

فرد عليها الشيخ العجوز: أمورنا مدبرة يا فاطمة أم أنك تودين أن ننزح بدورنا؟

نفضت فاطمة رأسها ورفعت يدها مستنكرة: لا بالله يا عمي مسلم. ما فكرت بالنزوح.

وفجأة سألها عبد الله: أين زوجك يا فاطمة؟

ذهب ليجلب لنا بعض الأغراض من غباغب.

قال مسلم: الذين نزحوا ما فلحوا...

وقال عبد الله: على كل حال النار بعيدة عنا!

فرد مسلم: من جهة النار، النار قريبة يا عبد الله، منطقتنا منطقة خطرة، مهما يكن فلن أخرج من دير العدس ولو أصبحت الدبابة فوق رأسي.

قالت فاطمة مستدركة: ما رأيكم لو أرسلنا الأطفال؟

فسألها مسلم: نرسلهم؟ إلى أين؟

لم تجب فاطمة، لم يكن لديها جواب محدد، فهي تدرك أن الذين نزحوا عن قراهم ندموا.

 

وتنبهت لصوت العجوز مسلم يسألها: أجيبي إلى أين نرسلهم؟

استمعي إليّ يا ابنتي وليستمع معك جميع أهالي دير العدس ليس لنا مكان في الدنيا غير بيوتنا وتراب قريتنا، هنا ولدنا وهنا عشنا، وهنا سوف نموت والملاجئ موجودة))( ).

 

إن حالات نفسية مرتبكة تسيطر على الناس في مثل هذه الأحوال العصيبة التي لا يستطيع الإنسان دائماً أن يتخذ القرار الملائم له والأقرب لجوانيته، نتيجة لحرارة الظرف وخصوصية التجربة، وضغط ما حول الإنسان الذي قد لا يقوده دائماً إلى القيام بالملائم من الفعال حتى إن الضغط يولد اعترافات ربما يحرص المرء على أن يخفيها، وهذا قام بنقله بعض القاصين بكثير من الحرفية، ولئن كان في الواقع مقبولاً فإنه في القص ربما يحتاج إلى كثير من المعالجة الفنية التي تجعل الأمور أكثر إقناعاً وفنية:

((وقال عبد الله: من يود النزوح فليفعل ذلك!

قالت فاطمة: بصراحة يا جماعة، زوجي قرر النزوح عن القرية!

سألها عبد الله: وأنت؟

لم أوافقه على رأيه ولهذا، ذهب وحيداً وتركني مع الصغار!))( ).

 

إن المقاييس السابقة تنقل لنا الأحوال النفسية بكثير من الوثائقية كأن القارئ أمام وثيقة أكثر من كونه أمام قصة فنية.

وقد حاولت قصص أخرى تقديم حالة التلاحم التي شهدتها بعض ربوع الوطن خلال تعاون النازح والمنزوح إليه عبر رؤية فنية عالية، وذلك لحرص الفن في هذا الموضع على ترك الحالات غير المرغوب بها مما يسمى بغير المقبول من التصرفات التي لا تعبر عن الرأي العام بقدر تعبيرها عن تصرفات بعض الأفراد، ومثل هذه الحالة التلاحمية تبدو ضرورية ومعبرة جداً عن المشاعر المتناغمة بين أفراد الوطن الواحد في حالات الظروف الصعبة، وتعيد الأمل للنازحين بإمكانية أن يسهم أخوتهم في مساعدتهم وهم الذين يمرون بظروف لا يحسدون عليها ساعد عليها أحوال ربما لم يكن لهم يد فيها:

((لا يا سعدو!

أنت الذي قدمت لها بيتك لتسكنه، لقد أصابك حزن شديد عندما رأيتها بعد أن استشهد زوجها في حرب حزيران، بين النازحين في صحن المسجد القريب من بيتك، لقد شددتها من ساعدها وأخذتها وأولادها إلى بيتك وقلت لها: اسكني هنا ولن تخرجي، حتى نستعيد الجولان وتعودي إلى دارك.

إنني أقوم بخدمتي الإلزامية في الجيش ولا أجيء إلى دمشق إلا قليلاً فلا حاجة بي الآن لهذا البيت.

-أدامك الله لي سنداً يا سعدو أنت أخي وأبي وأمي))( )

وثمة قصص تحدثت عن أحوال بعض الفلسطينيين ممن لجأ إلى الجولان، وقد صدموا ثانية بما حصل فقد داهمهم العدو وزادتهم النكسة هموماً على هموم لأنهم خضعوا إلى التغريب والنزوح قبل أن تبرأ جراحهم من آثار النكبة، وقد اكتشفوا أن لا حدود ومقيدات لمطامع عدوهم فقرر بعضهم ألا ينزح ثانية وبقي في مكانه وقد وجد الفرصة سانحة لإعادة بعض اعتبارات نفسيته وهو الذي يحمل ذاكرة معجونة بندم النزوح الأول:

((اختار أبو سامر القنيطرة مقاماً له، ينتظر يوم العودة، لكن اليد السوداء امتدت إلى بقاع عربية أخرى، بالغدر والعدوان وكان ما كان.

 

لم يستطع أن يطلق من فمه كلمة ما في عام النكبة، في عام النكسة فجّرها فمه، أطلقها شعارات، رددها رايات خفاقة، عالية البنود.

فضَّل ألا ينزح مرة ثانية، وقف تحت رايته، كانت في الماضي بعيدة عنه. مقيدة بين يدي أعدائها. خلصها الشعب بنضاله.. شتان بين عام النكبة وعام النكسة...))( ).

ونتيجة لاستمرار حالة الصدام مع العدو فإنه لا بد من مواقف نضالية تعلن عن نفسها بفعل الاحتكاك اليومي، وقد حاولت بعض القصص رصد بعض ما يدور في داخل الأرض المحتلة من نضالات يومية يكون فيها العدو هو الباطش؛ لأنه يريد الوصول إلى أهدافه ووضع حد للكفاح الذي يقوم به المدافعون عن أرضهم وأوطانهم:

((منذ أشهر عديدة، اقتاده جنود العدو من منزله، ألقوه بحقد بين هذه الجدران القاتلة، أشبعوه جَلْداً وركلاً بالنعال، أثخنوا جسده بالجراح، قاوم تلك الجلسات الكهربائية بُجلَد، كانوا يزمعون إرغامه على الاعتراف عن أسماء مقاومين، قضوا ليلة في منزله، لكنهم لم يفلحوا، فصبّوا جام حقدهم عليه، هددوه بنسف منزله، وتشريد أسرته خلف الحدود، تحتَّمَ عليه أن يختار بين أسرته ووطنه..))( ).

 

إن معظم المقبوسات السابقة تنشغل كثيراً بمسألة المرجعية والتوثيق لذلك غالباً ما تأتي بلغة تقريرية ومباشرة تريد توصيل رسالتها، دون أن يكون للوهج الفني كبير حضور فيها، وهذه مسألة خطيرة تدفع المرء لمساءلة كثير مما أنتج فنياً وقد انصرف معظم القاصين المبرزين فنياً إلى موضوعات أخرى وهذا مثار اهتمام يتعلق بأسباب حدوث ذلك.

 

وقد رصدت بعض القصص دور وسائل الإعلام إبان الحروب التي جرت، وكما هو معروف فإنه غالباً ما يكون دور الإعلام مركزياً سواء في تقوية النفوس أو في توجيه بعض الأوامر، وهو في الحالتين معاً لا بد أن يترك آثاره على ما يحدث محاولاً زرع الثقة في نفوس المدنيين والجنود معاً...

وتوقف قاصون عند بعض ما كانت تقدمه هذه الوسائل عبر إحداث شيء من التواشج بين ما يجول في النفوس وما تذيعه وسائل الإعلام خلال تناوبات مقطعية بين مجموعة من المصادر تسهم كلها في تصوير الحدث وتقديمه خلال وجهات عديدة ضمن طقس الشحن المعنوي:

((كان طيران العدو كثيفاً، وقد ألقى قنابل النابالم المحرقة على الجنود والأهالي، (أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في السلاح).

 

واصلت القوات المصرية تراجعها، واتخذت مواقعها عند خط الدفاع الثاني (إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله)...))( )

وقد حاولت بعض القصص أن ترصد بعض التصورات التي تشكلت حول العدو والمقدرة على الصمود:

((أظن أن طائراتنا مشتبكة الآن مع العدو، وعندئذ اقترب الصبي من أبيه: قال رفيقي إن اليهود يخافون أن يطيروا في سمائنا، أصحيح أن بعض طياريهم يُحاكمون بتهمة مخالفة الأوامر؟

سحب نفساً عميقاً من سيكارته، وانفتل على عقبيه، وبدأ ينظر إلى قاسيون، بدت البيوت الملزوزة على السفح مثل أصدقاء حميمين قعدوا يستريحون من سفر طويل))( ).

وتنقل لنا بعض القصص الحس الشعبي أمام أمر يبدو طبيعياً إلى حد ما إبان الحروب والمعارك حيث تُقدَّم لنا الأحداث عبر حكائية شعبية لا تخلو من طرافة تغطي على طبيعة الموضوع وتقريريته وتقدمه بكثير من الفنية:

((القضية يا إخوان أننا أمسكنا بطيار إسرائيلي وسط منطقتنا وسلمناه لجماعة الحكومة فإذا سألتم: كيف أمسكتم الطيار؟ قلت لكم باختصار: أمسكنا به ونحن نضحك.. فإذا سألتم وكيف سلمتموه؟ قلت لكم أيضاً سلمناه ونحن نضحك. عجيبة، أليس كذلك!

الحكاية يا سادة، يا كرام، أنني كنت أُقلِّب الأرض تحت الشجر بالمحراث، وقد تعبت وأتعبت الثور، تعرفون، أرض الغوطة رطبة، وقلب التراب وتشميسه يفيده ويفيد الحب. قلت في نفسي: شمس تشرين حادة، سأعمل من الفجر حتى صلاة الظهر ثم أرتاح بقية النهار وقد بدأ طيران العدو فوق رأسي منذ أن أشرقت الشمس، لكنني لم أتوقف عن الحراثة، وكنت أسمع الضرب دح... دح... بو... بو))( ).

 

إن هذا الاشتراك بين الذاتي والوطني والاجتماعي خلال حكائية رشيقة يجعل الأمور أكثر تقبلاً من المتلقي الذي لا بد ستقوده الحكائية والطرافة لتقبل الأمور والاندماج مع الأحداث، بخاصة أن القاص قد قدمها عبر بساطة آسرة لا يوجد فيها شحن دعائي مباشر بل سلاسة أسهمت في تقديم الجو العام والخاص:

((ولحظة أن لامست أقدامه الأرض، أشرعت الأسلحة ضد الرجل المعادي الهابط من سماء الرعد والغضب، وأتلعت أعناق تستطلع شكله، وخرَّس الأصوات كلها، لحظة ترقب عجيبة، يا جماعة الخير.. خلالها حدثت المعجزة..))( ).

 

وانشغلت قصص للحديث عن فظاعة جرائم العدو بالوثائق والأرقام التي تنشرها الصحف والدوريات، عبر التواشج بين حكائية القص وفنيته وما يقرؤه المرء في صحيفة بأسلوب تناصي لا يخلو من بعض التقريرية والمباشرة التي تحتاج للرؤية الفنية الأعمق، وقد دارت أحداث المقبوس التالي بين طفلة وأمها، وإذ حاولت القاصة إضفاء أبعاد واقعية عبر الحرص على نقل الحوار بالعامية:

((النار حلوة.. في نار حلوة وفي نار ما حلوة!

-تعالي نرسم نار حلوة وخاروف نائم...

هي تحاول أن ترسم ناراً حلوة برتقالية، وأنا أقرأ:

أعلنت بيليد وزيرة الهجرة وعضو المابام ما يلي: سنة 1948 لم تكن إسرائيل تعد أكثر من 650 ألف شخص وقد استقبلت خلال سنتين 235 ألف مهاجر أي كما لو أن الولايات المتحدة استقبلت في الفترة نفسها 70 مليون مهاجر)).

((أكد إسرائيل غاليلي مستشار غولدا مائير: إن طلب انسحاب القوات الإسرائيلية وراء حدود 1967 هو غير مقبول إطلاقاً ويرفضه كل عضو في الحكومة)).

((أذاعت سلطات إسرائيل أن دورية إسرائيلية قتلت ستة أشخاص ((من لصوص الماشية)) ماما الخاروف صعب... بس ليش عيونك عم يلمعوا...

قتلت دورية ستة رعيان وسرقت خرافهم...  من اللصوص... سرقوا حيفا ويافا.. سرقوا اللد والرملة.. سرقوا قمم الجولان وسهول النرجس.. سرقوا بيارات البرتقال والقدس القديمة وليسوا لصوصاً))( ).

 

ثم تبحر القاصة عبر نصوص قديمة محاولة شد المتلقي إليها عبر استشهادات تذكرها حول رؤية العالم للقاتل الذي يقتل الناس عبثاً ولهواً وعداءً:

((في الأساطير القديمة تهتز الأرض بالعواصف والصواعق عندما يقتل إنسان.. هل هذا أمل الإنسانية العميق منذ القديم بأن ترفض الأرض أنْ يقيم عليها قاتل؟

-ماما بلا تئري الجريدة.. لا تهزي رجلك.. تعالي نحكي..))( ).

واضح من المقبوسين السابقين أن المباشرة قد لعبت لعبتها وجرَّت القصة إلى ما لا تحمد عقباه فنياً.

 

وقد تركت حرب الـ67 آثارها النفسية والفكرية على كينونة الإنسان العربي، وصنعت حالة من الإحباط التي راحت تجثم على صدور الشعب، ودقت نواقيس الخطر الدائم الذي يتهدد كل بقعة من الوطن:

((وسيقول نواف: ((أنا لا أعرف الفخر)) فيرد عليه: إذن لست عربياً))

الهزيمة ثقيلة، ولكن ما من أحد منهم إلا ويبررها. وأمام تبجحات الغالب توجد دائماً تبريرات المغلوب..)).

((أصابني اليوم قلق ميتافيزيقي)).

((ميتافيزيقي. مرحباً ميتافيزيقي)).

((ألا يخطر لك أن يحتل الإسرائيليون دمشق، أو أية منطقة عربية أخرى؟))

((لا. لن يستفيدوا شيئاً...!))

((يدخل علي ويجلس على الكنبة الجلدية. يمد يده فيعبث بقرص الترانزستور)).

((صنعته الرأسمالية لكي نسمع منه تقارير يومية عن هزائم العالم الثالث.

((سوف يتحدث عن العلم دونما كلل... لا شيء حتى الآن؟ ليس في الراديو أخبار عن عدوان إسرائيلي جديد؟)) أجابه: لم يفت الوقت بعد. وإلا ما معنى الحشود الضخمة منذ أسبوع))( ).

إن آثار حرب الـ67 قد لا تبدو جلية بصورة مباشرة خلال الحديث عن المعارك أو سوى ذلك، إن أثرها اللافت كامن فيما تركته من جوّ كابوسي سيطر على عشرات القصص حتى إن تناولت موضوعاً آخر غير موضوع الحرب، لأن آثارها كانت على الفرد لافتة للنظر، وأضفت على كثير من القصص لغة حزينة تسودها روح التشاؤم والانكسار، وإعادة مساءلة لكثير من الثوابت التي تخص الشخصية العربية.

وقد كونت الحياة الاجتماعية للجنود إحدى أهم الثيمات الرئيسية في القص الوطني في هذه المرحلة مازجة بذلك الاجتماعي مع الوطني، مما أضفى على طبيعة ما يتم نقله من الأجواء العسكرية المزيد من الحيوية والغنى لأن الأمور صارت تقدم ضمن مساقاتها الطبيعية التي تدفع المتلقي للتعايش مع الجندي وتقدير مجموع معاناته وأشواقه:

((كان تضمين الرسالة قبلة على وجنتي زوجته، أمراً أكثر صعوبة من ملاحقة طائرة مغيرة على (الرأس الحاسبة) للمدفع الذي يربض خلفه المقاتل نايف مع بقية عناصر المربض. فهو لا يجيد القراءة والكتابة، ولا يرى من اللائق الطلب إلى رفيقه سليمان الذي كلفه بكتابة الرسالة إلى (عياله) ليضمِّن الرسالة قبلة على وجنتي الزوجة الملهوفة في إحدى قرى ريف محافظة حلب.

 

-لماذا حرمونا من التعليم ونحن أطفال؟ لماذا لم يفتحوا مدرسة في قريتنا؟))

كان السؤال يلحّ على ذهنه كلما تلقى رسالة من زوجته وكلما أراد أن يرسل لها الجواب.

 

ولهذا فعندما قيل له إن هناك دورة لمحو الأمية في القطعة التي يعمل فيها قرر أن ينتسب إليها فوراً. وخلال فترة قصيرة بدأ ((يفك الحرف)) ثم بدأ يقرؤه بشكل جيد ودخل الآن مرحلة الكتابة.

 

مازحه رفيقه عايد قائلاً: ((كل هالتعب والدراسة منشان تبعث بوسة للمرا؟ إي خود مأذونية وروح بوسها))( ).

إن طول بقاء الجندي في أجواء الحرب لا يعني أنه ينسى جوانب حياته الأخرى، لأنه أيضاً يوجد حياة اجتماعية ومعاناة يعيشها الجندي مثل سواه من البشر. وقد عبر القاص بكثير من المباشرة عن موضوعته التي أرادها حتى إنه تساءل لماذا الحرمان من التعليم؟ وهو بذلك يقدم نقداً لواقع سائد آنئذ..

وقد خلّفت المعارك حالات اجتماعية عديدة كانت تبعث الحيرة في نفس المرء أحياناً؛ من مثل حالة المفقود الذي لا تعرف هويته ولا يعرف أهله ماذا حلّ به وهم يبحثون عنه بدأب، تائقين لمعرفة شيء عن أوضاع ابنهم وهذه الحالات من الفقدان جرّت الناس للعيش في أوضاع قلقة صورتها قصص عديدة، لأنها تدفع الإنسان للوقوع في ظروف متنوعة ليست دائماً في صورة مثالية، بل قد توقعه في مواقف الحيرة والارتباك أمام ما يحدث:

((يا عم يا عم.. وأحس بيد رقيقة تربت على كتفه، لأول مرة يتحدث إليه إنسان وسط تلك الجدران البيضاء الملطخة، حيث يسأل الإنسان ويسأل ولا يجد جواباً، التفت بلهفة، كان طبيباً وبرفقته ممرضة شابة، تأمل وجهه مستغرباً، فلم يكن يذكر أنه قد شاهده من قبل، لكن الطبيب بادره بالكلام فأخبره أنه لاحظه منذ يومين يتردد على المستشفى باحثاً، وأن جثة مجهولة لمقاتل من الوحدات الخاصة قد وصلت، ولم يستطيعوا التعرف على هويتها، وفهم بسرعة قَبِلَ بلا تردد.

كان يريد أن يعرف، يعرف فقط، ولده مفقود! ماذا تعني كلمة مفقود؟ الإنسان إما حي أو ميت، ولا بد أن يعرف، واندفع يلحق بالطبيب بقدر ما أوتي من سرعة وهو يعرج على ساقه المعطوبة، والجدران العالية تضيق. تضيق حتى ليخيل إليه أنها ستلتصق مع بعضها وتسحق كل هؤلاء الناس، وهو منهم بينها))( ).

إن السؤال محيِّر، فالأهل يريدون أن يصلوا إلى نتيجة فيما يخص ابنهم والأرض تضيق بالأب حيث يقض مضجعه ليل نهار مصير ابنه الذي لا يعرف عنه شيئاً، وهو الذي يبتغي الاطمئنان والوصول إلى نتيجة ما.

وترصد إحدى القاصات شخصية لا تزال ترى في النضال العسكري طريقاً وحيداً لاستعادة المهدور من الحقوق، ناقلة إحدى الحكايات:

((حيَّته وقدمت له تقريرها، وبقيت واقفة تنتظر، قدم لها الفتى الذي أدخلها الغرفة كرسياً، ولكنها بقيت تراقب وجه القائد ونظراته عبر السطور.

-أهكذا يا رفيقة؟

سألها والألم يعتصر فؤاده.

نعم يا سيدي، فأبناؤنا يحملون البندقية بيد، وينقذون المدنيين باليد الأخرى..! أحياء كاملة يا سيدي أصبحت أنقاضاً!

أشعل القائد سيجارته وأخذ يدور في جنبات الغرفة الصغيرة، وهي تسائل نفسها، أتروي له قصة الجندي المغلوب على أمره، إذ خرج يقاتل المقاومين، ولما جاءت إليه امرأة تبكي أطفالها الثلاث والذين سيموتون ظمأ، قدم لها مطرته لتقطر ما تبقى فيها في حلوق الصغار.. ولما رآه قائده، أطلق عليه النار وأمر بهدم المنزل وسقطت المرأة تعانق المطرة وابتسامة سعيدة تطفو على شفتيها وتغمر وجهها كله..! ولكن ما للقائد وآلاف القصص، إن وقته لا يتسع لها))( ).

إن هذا الملمح المتعلق بحالة الجندي المعادي لافت مع أن التعبير تم بسرعة، ويعد متميزاً فيما يخص الرؤيا التي وسمت هذه المرحلة.

وعلى الرغم من حالة الهدوء التي نوقش خلالها الموضوع القومي بعامة إلا أن الأمر لم يخلُ من بعض القصص التي حاول كاتبوها أن يغطوا إمكاناتهم الفنية العادية بالشعارات والبطولات غير الموجودة على أرض الواقع، وإن وجدت فإنها لم تثمر شيئاً، وإن أثمرت نادراً ما تنسب إلى مَن قام بها:

((من بعيد لاحت طائرة مقبلة من الغرب، توجهت نحوها أذرع المدفعية الطويلة وتحتها حدقت الأعين. قلت في نفسي، ربما كانت طائرة سورية، ابتسمت، ارتاحت نفسي لقولي.. يرتفع صوتي: آمين.. أنظر إلى تل الفرس طائراتنا تقصفه، إنه يحترق، وثب أمين في الجو.. ثم اشتبك معي في عناق طويل.. من بعيد صاح صوت ميراج.. انتبهوا أيها الرفاق..))( ).

وفي نص آخر يرصد الحالة الاستعدادية عبر لغة مقبولة إلى حد كبير وهي تنم عن حالة من التعلق بالمكان خلال نفسية معينة تعبر عن حالته المتوثبة:

((بلادي. بلادي. بلادي. لك حب وفؤادي.

 

كنت أغنيها بصوتٍ هامس وصدري يعانق تراب مرصدي الأمامي الذي ينزّ حرارة حزيران، يتفصد عرقي بغزارة، ينحدر خيوطاً من تحت خوذتي الفولاذية. تستيقظ كل غدد العرق في جسدي، تنبع مياه مالحة، تبلل ثيابي، بندقيتي تتجه إلى الأمام. عنقها الحديدي يلتحم بصدري. مستعمرة (الرفيد) تبدو لعيني جزيرة من نور في خضم الظلمة. أفتش بنظراتي عن تلال الأرض السليبة. تل الفرس. تل مهير. تل الذهب. تلال شعاف السنديان. تبدو كتعاريج سوداء على خط الأفق))( ).

 

وقد كانت الصدمة بما بدأ يحدث في لبنان وفي بيروت خاصة ذات وقع حاد الأبعاد في نفوس الناس، إذ كانت بيروت محطة دافئة لكل أبناء البلدان العربية، تشكل ملاذاً لمن تعترضه ظروف الحياة، وكانت هي الرمز للتعددية والحرية والجمال لذا فإن هول الصدمة كان قوياً جداً:

((ما كان لأحد ليصدق أن ما حدث سيحدث على ذلك النحو، لا لأن الذي حدث كان رهيباً وصاعقاً، إنما لأنه حدث في غير مكانه وغير زمانه على ما يبدو ولقد كان صائباً وخاطئاً في آنٍ معاً. يهبط الليل على بيروت وشيعة من النيون والدوي. وحده البحر يبدو غريباً وقصيّاً في الطرف الغربي منها. وهو يعبر الشوارع وحيداً، يقول عبد الله بن يحياوي: ما عادت بيروت هي بيروت وعليك يا عبد الله أن ترحل قريباً إلى بلاد أخرى. كانت بيروت محطة استراحة فيها طويلة لكنها لم تكن المرفأ الأخير...

وفيما مضى كانت بيروت للعابرين. جميعاً محطة مضيئة وصاخبة، محطة قطار، أو محطة مطار))( ).

 

إن عامل الصدق يبدو واضحاً في المقبوس السابق، وهذا الصدق دفع الكاتب لشيء من المباشرة، وكأننا أمام مقبوس علاقته بفن القص ليست وشيجة...

أما ما صنعه السادات فقد كان ذا حضور ليس في بعض قصص هذه المرحلة بل أيضاً برز في بعض قصص المرحلة التالية:

((فجأة صرخ الرجل: آه منه سيوقع الاتفاقية ابن الوسخة)).

 

الطائرات تقصف بعنف. والشهادة معلقة في صدورنا كوسام. ((سيوقع الاتفاقية.. يا عيب الشوم.. يا عيب الشوم. وبصق مرة أخرى... علقت إحدى المعلمات هذه عاداته كل صباح.. عندما يسمع أي خبر لا يعجبه، يبصق ويشتم))( ).

 

إن هذا الحدث كانت آثاره في النفس العربية أكثر حضوراً مما كانت في القصص، بخاصة أنه شكل شرخاً قوياً لجدار حُوفظ عليه فترة طويلة.

لعل نظرة إلى حال الموضوع الوطني والقومي في هذه الفترة تشير إلى أنه كان حاضراً وهذا طبيعي بصفته أحد العوامل المسهمة في بنى المجتمع وآليات تفكيره دون أن تتيح له الظروف أن يستعيد شيئاً من ألق ما مضى إذ كان له ظروفه وخصوصياته.. بل إن حضوراً قوياً له يشهده المرء في المرحلة اللاحقة تجلى في تخصيص عشرات القصص وعدد من المجموعات للحديث عنه، بخاصة أنه قد مُدَّ بموضوعات جديدة شكلت إحدى بنى المرحلة التالية وأسهم في صوغ خصوصية المرحلة خلال حديثين رئيسيين يشكلان استمراراً لبعض ما حدث في هذه المرحلة ومراحل سابقة يخصان الجنوب اللبناني والانتفاضة والمقاومة ضد الاحتلال بتجلياتها المتنوعة.

 

الهم الاجتماعي والذاتي وتجلياتهما:

برزت في قصص هذه المرحلة ظواهر عديدة أفرزتها نسج الواقع، وقد واكب القاصون جديد هذا المجتمع بتجلياته المختلفة، وقد رُصِدَت الحالات الجديدة التي شكلت ظواهر مستقلة وواضحة وعبر وجوه متنوعة، ففي هذه المرحلة راحت أشكال الفساد تعلن عن نفسها وتكشر عن أنيابها بكثير من الصراحة. وقد رافقتها مجموعة من حالات القمع المتنوعة التي عايشها القاصون فرصدوها، وسجلوا ردود الفعل عليها، إضافة إلى محاولة حثيثة في تصوير أبعادها المختلفة.

وأدرك القاصون أن التستّر على حالات الفساد ووجوه القمع غالباً ما يترافق مع شعارات جوفاء تطلق علانية، إضافة إلى مهرجانات تغدو مُسيِّرةً لكثير من وجوه الحياة المختلفة التي راحت تعلن أنماطها بعلانية وصراحة، ولم يكن أحد ليسْلَم من وجوه القمع والاستغلال المختلفة التي لا ترتبط فقط بما تقوم به السلطات، بل إن الأمر صار مفتوحاً كي يرتبط أصحاب العمل مع السلطات ليستغلوا العمال ويأكلوا حقوقهم علانية وقد باتوا يعرفون أن لا أحد سيحاسبهم وأن أصوات أولئك العمال ستبقى مكتومة؛ وإن خرجت فإنها لن تصل إلى المسؤولين عن المحاسبة حتى إن وصلت إليهم فإنهم لن يكترثوا بها.

 

إن الفن القصصي في هذه المرحلة قد قدم الكثير من موضوعاته عبر فنيات عالية يمكن للمرء أن يشيد بعديد منها، إضافة إلى الابتعاد عن الارتهان بهذه النظرة أو تلك فيما يخص آلية المعالجة بعد أن غدت الأوضاع مفتوحة الاحتمالات على معالجة كل ما يعتور المجتمع، وهذا ترافق مع وعي كبير ومتميز من قبل القاصين أنفسهم مع حساسية عالية ودقة ملاحظة نادرة في التقاط كل ما هو خارج عن الخط الصحيح للأوضاع، وها هنا لا بد من التنويه بأن الأمور لم تعد تحتاج إلى الانفصال بين هذا الهم وذاك، بل إن نسيج القصة صار يحتمل ثلة من التأويلات والدلالات وهذا يحمل مؤشراً على تطور الفن واستوائه بين أيدي القاصين، وهو مما لم يكن متاحاً بهذه الصورة في كثير مما سبق، إضافة إلى أن القاصين ها هنا قد اندغموا في مجتمعاتهم ولم يقف كثير منهم عند الهموم وهي منفصلة عن المعاناة، بل إن كثيراً من القضايا تثار حية وهي تتعايش مع الشخوص الذين بدؤوا يرصدون ما يدور حولهم من تغييرات فكرية وقيمية وأشياء جديدة لم يكن من المألوف حدوثها راحت تفرضها طبيعة النظم والأجواء الحياتية الجديدة.

 

معاناة العمال:

يكوّن العمال في هذه الظروف التي تحدثنا عنها أحد وجوه المعاناة والاضطهاد، وهم الذين يشكلون شريحة واسعة غالباً ما ينالها شيء من الظلم نتيجةً لطبيعة أعمالها( )، ولئن كان العمال قد أسهموا في انتخابات نقابية ليكون لهم ممثلوهم فإن أولئك باتوا يخونون أماناتهم من أجل مصالحهم الشخصية، وصار أرباب العمل يبحثون عن الذين أسهموا في توعية العمال بحقوقهم ومطالبتهم بنيل مستحقاتهم كي ينتقموا منهم:

((لم تقابل صرخة صاحب المعمل من قبل العمال المضربين بغير الصمت المبتل بالغضب، فأرغى وأزبد ثانية، وهو يهددهم، سأعرف أي كلب منكم وزع تلك المنشورات الهدامة التي حثتكم على الإضراب.. زَوَره أحد العمال، ورماه بنظرة ازدراء، ثم بصق أمامه باحتقار))( ).

إن الوعي قد تسرّب إلى أشخاص كثيرين، وقد برز التعبير الفني عن هذه الموضوعات التي قدّمت عبر مجموعة من الأحداث وعلى بعد ما من المباشرة جعلها مقبولة.

وفي هذه الحال يبدو لجوء العمال إلى نقابتهم وممثليهم مشروعاً، وإن كان العمال يدركون كيف آلت الأمور وكيف صار الناس يتلونون بحسب مصالحهم وحاجاتهم:

((سأخبرك بالتفصيل ((كيف لا؟)) ريثما أعود.

وتابع سيره إلى مبنى النقابة في ذاته جرح وحوار ((عبد الله)) يا وجه الحرباء، لقد عرفت كيف تستغل الأيام وتتلون معها، عرفت كيف تكون أداة بين أيدي الذين أوصلوك إلى منصب رئيس النقابة؟

عرفت كيف تهز رأسك الفارغة لكل ذي...)) وكظم أبو إلياس غضبه في صدره وعتمة خفيفة تغشى الزوايا والأبواب ونهايات الدرجات المفضية إلى غرف النقابة.

حتماً تذكر يا عبد الله عندما كنت تطأطئ رأسك وأنت محني الظهر واقفاً بذل أمام... تعرفهم جيداً يا عبد الله كما أعرفك أنا، أعتقد لم تنسَ بعد أيام هروبك المستمر من عملك، لم تنسَ تمارضك بغية الحصول على إجازات مرضية، لم تنسَ ذلك اليوم الذي كتب الطبيب في ورقة مرضك: متمارض! فجن جنونك فركضت وتذللت إلى فلان وعلان كيلا يكتب الطبيب بحقك عقوبة ما؟ ثم جئت إليّ لأتوسط لك لدى الطبيب...))( ).

إن الذاكرة مشتعلة بتاريخ الشخوص الحربائيين الذين نسوا أو تناسوا ما كانوا يقومون به دون أي رادع يردعهم عن عدم مناصرة زملائهم ومحاولة إفساح المجال لهم لنيل حقوقهم المضطهدة ويفلح بعض القاصين في الحديث عن معاناة العمال بحميمية وحرارة تدفع المتلقي للتعاطف معهم نتيجة لاقتناعه بما يقرؤه.

ويسهب بعض القاصين في الحديث عن عمليات استزلام بعض العمال لرؤسائهم أو لأرباب العمل من أجل تحقيق المكاسب التي تكون على حساب زملائهم، والعمال يشاهدون بأم عيونهم كيف تؤكل حقوقهم وتهدر، والويل لمن يحاول نيل حقوقه أو قول لا، لأن الطرد والاضطهاد بانتظاره وسيكون عبرة لزملائه، ومما كان يرعب العمال أن خلف كل واحد منهم مجموعة من الأفواه التي تنتظر ما سيحضره لها آخر النهار:

((الشاويش: كيف الأمر عندك يا ممدوح؟

ممدوح بهدوء الأفعى: تمام يا سيدي (7) في كل عنبر!

الشاويش: وهل أفهمتهم أن عددهم الذي يجب أن يذكر عند الحاجة هو كما اتفقنا؟

ممدوح: أربعون كالعادة يا سيدي. وقد فهموا ذلك جيداً.

الشاويش: وأنت يا عصام، ما بدّي (حمير) مثل رباح!

عصام بخنوع المذنب: أمرك حاضر لن تسمع إلا ما يسرك يا سيدي..

الشاويش: يعني قصة رباح (ما بدي إياها تنعاد ولا صوته ينسمع).

عصام: معاذ الله يا سيدي.. لقد كان رباح عبرة لجميع عمال الرصيف المياومين يا سيدي. واستدار الشاويش إلى الكاتب وقال له: سجل في العنبر الأمامي أربعون عاملاً.. وفي نفس الوقت كان رباح الشاكر يجول الطرقات بحثاً عن عمل..))( ).

إن المفارقة في المقبوس السابق تكشف كيف بدأت الأحوال تسير وإلى أين ستصل بخاصة إذا كانت السلطات المتنوعة قد اجتمعت على ظلم العمال واستغلال حاجاتهم؟

وتناولت قصص عديدة حاجة العمال لرغيف الخبز وصعوبة ظروف الحياة وآثار الفقر في الناس إذ يدفعهم إلى القبول بكثير من الضغوطات والأعباء( ).

ألوان أخرى من المعاناة:

لم تكن المعاناة من نصيب العمال فقط، بل الكثير من شرائح المجتمع المختلفة من مثل الفلاحين أما المدرسون الذين قالوا (لا)، وتحدثوا عن بعض المفاهيم العامة فكان النقل إلى أماكن نائية من نصيبهم لأنهم تجاوزوا الخطوط الحمر ونقدوا وكشفوا المستور وهو ما لا يرضي رؤساءهم.

((قال المدير: لقد جاء أمر نقلك.. خذ، أنت محظوظ لأنهم لم يسرحوك.

قال صالح: هل تعرف لماذا سجن أبي؟ سأقول لك إذن: تضارب مع نوري، ونوري هذا (زلمة) عبد الهادي صاحب الأرض التي نمشي فوقها، قال أبي أريد ماء لأسقي قطني، قال عبد الهادي: أنت مشاغب ولا تدفع ثمن الماء كما يفعل بقية (الفلح). ابتعد عن المسقى خير لك، وإن حولت الماء فسأقتلك، رد عليه أبي: يا جرو يا أجير سآخذ الماء رغماً عنكم.

وحين أتى الدرك صوبوا بنادقهم نحو أبي وطلبوا منه أن يكف عن ضرب نوري، ثم اقتادوه إلى السجن، أستاذ أسألك ألم يكن بمقدورهم قتله؟ ومن يحاسبهم، تصور لو أنهم قتلوه؟))( ).

 

ومثلما هذا الابن –ابن الفلاح- يشكوا إلى الأستاذ المنقول حدود الظلم فإن هذا الأستاذ أيضاً ضحية للظلم لأنه تحدث فيما بعد من خارج مهمته، ولأن الفلاح قال: لا للاستغلال فإن السجن كان مصيره، ولأن الأستاذ لم يلتزم بالتعليمات فإن النقل كان نتيجة:

((قال المحافظ للمفتش: يجب أن تعلمه الحرية وكيف يشرحها جيداً للتلاميذ، يجب أن نربي هذا الصعلوك، يتطاول علينا، وعلى الحكومة التي تطعمه خبزاً!

قال المفتش: يا سيدي سأقذفه إلى قرية ليس فيها غير القمل والعفاريت والحجارة ولا تسكنها إلا العفاريت، سأجعله يأتي راكعاً مستغفراً!

قال أبي ذات يوم: لا تخفض رأسك أمام السياف بل دعه منتصباً، ففي كلتا الحالتين سيتدحرج الرأس بعيداً!))( ).

إن الظلم سيقع على كل من يحاول الوقوف في وجه الظالم سواء أكان معلماً أم فلاحاً! هذا يظلمه الإقطاعي وذاك يظلمه المفتش والسبب في الحالتين أن بعض الناس لا يرضون أن يكونوا ضحايا للظلم، وهذا شأن المدافع عن الحقوق دائماً لا بد أن يدفع ثمناً، غير أن أثره في الآخرين يعوض ذلك.

والقاص يعتمد اعتماداً لافتاً على المفارقة وتقديم صور عديدة لمعاناة الناس وكأنه يريد أن يوصلنا إلى مقولة مفادها: أن الظلم واحد وإن تنوعت أشكاله.

وليس هناك حدود للقمع الذي سيشمل الجميع حتى لو كانوا قادمين من صلب التاريخ، ويشكلون مرموزاً من مراميز العدالة في أدبيات الشعوب، وهذا الحال هو حال أبي ذر الغفاري الذي لا بد أن يوضع في القفص مع رجال من أعمار مختلفة، ولئن اعتقد كثيرون أن الغفاري قد مات فهو ليس كذلك لأن التاريخ يعيد نفسه، ومحاربة الظلم واجبة في كل زمان ومكان ولا بد من وجود أكثر من (أبي ذر) لتستمر حركة المقاومة والمطالبة والجهاد ضد الظلم وانتهاك الحقوق حتى لو أدرك الواقفون في وجه القمع أن السجن مصيرهم، إلا أن من واجبهم أن يبقوا صامدين على أمل أن يحصلوا على الحقوق في يوم ما كيلا يستشري الظلم وتمتد جذوره وتستطيل:

((تقدم أحد الرجال خطوة ثم قال: يدعي أنه أبو ذر الغفاري يا دكتور؟

التفت الطبيب نحو الرجل المسكين وسأله: أنت أبو ذر الغفاري؟

نعم يا سيدي!

لكن أبو ذر الغفاري مات منذ زمن طويل.

أنا أبو ذر الغفاري ولم أمت بعد؟

هل تعتقد أن عمرك مئات السنين؟

: أنا أبو ذر الغفاري.

فتح الطبيب ملفاً أمامه، سجّل بضعة السطور، رفع رأسه وقال:

خذوه، اقتيد أبو ذر الغفاري إلى قاعة تشبه قفصاً كبيراً مليئاً بالرجال ذوي الأعمار المختلفة وعندما فتح باب القاعة، أخرج أبو ذر من ردائه ودفع إلى الداخل، قال أحد مستقبليه: من أنت؟

: أبو ذر الغفاري!))( ).

 

يبدو التناص في المقبوس السابق موظفاً بطريقة حسنة استفيد منها في إحضار أبي ذر ليعبر عن هموم حاضرة بما يحمله من دلالات في ثقافتنا المعاصرة.

وفي هذه الظروف تنشط الطرق غير المشروعة في العمل لأن الأجواء الفاسدة تشجع عليها وتدفعها كي تنشأ وتترعرع، وتغدو في بعض الأحيان أمور التخريب شرعية لأن القائمين على السلطة ينهبون خيرات الناس باسم النظام وخدمة الوطن وسوى ذلك من شعارات رنانة...

وتختلط الأحداث أحياناً ويغدو الأهل أسرى ظروفهم ويصبح هدفهم الأسمى أن يزوجوا بناتهم ولو لأناس لا يستحقون وينفتح باب آخر للمعاناة، والمقصود معاناة المرأة التي بقيت مادة قابلة لتقبل كل ألوان العذاب، وعلى الرغم من كل الشعارات التي تثار حول هذه القضية إلا أن حجم المعاناة كبير، لكن ظروف الحياة الجديدة والمعطيات القيمية الاستهلاكية التي بدأت تشيع جعلت الأمور تختلط ببعضها، ففي الوقت الذي يسعى أحد الشباب لبيع تبغه قبل أن يسيطر عليه رئيس المخفر، يخبر الزوج زوجته عن رغبة رئيس المخفر بالزواج من ابنتهما على الرغم من أن هذه الفتاة متعلقة بذاك الشاب المتمرد على رئيس المخفر من أجل حقوقه:

((قفل الرجل باب الدار، أطفأ الفانوس، تمدد إلى جانب زوجته، تنهد بارتياح كمن أزاح هماً.

: خير يا أبا عبد الله؟

: ابنتك سلمى أصبحت صبية.

فتحت الفتاة عينيها – في أول الشهر تكمل السادسة عشرة.

ضحك الأب، لكز زوجته بمرفقه: البارحة رآها رئيس المخفر على النبع.

-إيه.

-قرب فمه من أذنها، باح لها سراً، صرخت بابتهاج: من فمك إلى باب السماء!

-((يا ريت))! هو صاحب معاش.

-أصبح بمقدورنا أن نقطع حطباً كما نريد!

-طار النعاس من جفني الفتاة، انتظرتهما حتى غلبهما النوم.

-وفرت إلى كوخ مجاور – غداً أطلب يدك من أبيك))( ).

وأمام حالات الاعتقال غير المعروف الأسباب فإن القاصين لم يقفوا مكتوفي الأقلام، بل أشرعوا أذهانهم وأقلامهم للتعبير عما يحدث ولا سيما أن كثيرين منهم لا ذنب لهم ووضعوا قيد الاعتقال، وقد حاول بعض القاصين الوقوف عند المشاعر الدفينة التي يحسها الإنسان المعتقل الذي تصل أوضاعه النفسية في كثير من الأحوال إلى ما لا يسر نتيجة لشعوره بانتهاك إنسانيته دون أسباب، وأماكن الاعتقال غالباً ما تساعد على مثل هذا الشعور لعدم توافر أي شرط بشري فيها:

((كنت متمدداً على ظهري، وقد أسندت رأسي إلى الجدار الخشن، متأملاً دائرة الضوء الصغيرة التي كانت تتسرب إلى داخل الزنزانة كلما أضيء القنديل في الممر، مستسلماً إلى مصير مجهول، متسائلاً باستمرار وأنا أستعرض ماضي حياتي بالتفصيل: ماذا فعلت؟ ولِمَ أنا هنا؟

وأتحسر بألم على أسرتي التي لا تعرف أين أنا، قد خُطِفْتُ من أمام منزلي عندما تعرض لي ثلاثة مسلحين وقادوني دون إبداء أي سبب إلى هذا المصير المجهول.

وكنت بعد مرور أيام قد قطعت أي أمل بالعودة إلى  الحياة، فمنذ ألقي بي في هذه الزنزانة التي تقع تحت عشرة أمتار من بناء ضخم، وحتى اليوم، لم يطرق باب الزنزانة أحد، ولم تلمس يدي يد إنسان آخر إلا مرة واحدة عندما أدخل السجان صحن الطعام البلاستيك من نافذة الباب الحديدي الصغير))( ).

إن حدوث فعل الاعتقال على شخوص لا ذنب لهم مبعث حسرة في نفوس كثيرين، لأن الحالات النفسية التي يولدها والآثار التي يتركها في المعتقل وأهله ومجتمعه لها إفرازات غير حسنة، بخاصة أن الاعتقال أحد أكبر مظاهر الظلم وهدر حقوق الإنسان.

 

الفساد:

إن وجود أجواء غير نظيفة تطغى على الساحة الاجتماعية غالباً ما يؤدي إلى إفرازات على صعيد أفعال الشخوص، إذ سيستغل كثيرون ما بأيديهم من سلطات لتحقيق مآرب شخصية بحجج متنوعة، وأمام عدم وجود المحاسبة فإن الباب يغدو مفتوحاً للتظاهر بالولاء وحسن تنفيذ الأعمال المنوطة بالشخص، وستؤدي هذه الأحوال إلى حضور هائل للمهرجانات والشعارات بهدف تغطية ما يحدث في الخفاء. وقد نقلت قصص عديدة وعالجت وعي الناس بما يجري، راصدة ردود كثير من الأفعال التي صار يراها المرء هنا وهناك، فالظروف صارت على قدر كبير من الوضوح والكشف بحيث لم يعد يخفى شيء، وكانت الطريق أمام الذين يريدون الوصول تُفتَح عبر الأموال أو النساء، وعلى الرغم من أن موضوع القصة التي أخذنا منها المقبوس التالي يتعلق بالعزاء وموت أحدهم بالسكتة القلبية إلا أن تعليقات بعض الحضور قد أضفت على ما ورد من أحداث شيئاً من السخرية المريرة، ذلك أن بعض المتلقين ممن يعرفون الحقيقة حين يسمعون الآية القرآنية التي تقال عند الموت لا بد لهم من التعليق حول معناها ومناسبتها لحالة المتوفى ولمجموع أفعاله:

{يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}.

لكن أحد الحضور جاءه وهمس: هل سمعت؟ راضية مرضية. هل تعتقد أنه سيجد له مكاناً في الجنة.

رد الثاني: يا سيدي إن الله غفور رحيم!

همس الأول مجدداً: أنقذته السكتة القلبية.. لولاها لكان الآن في السجن.

 

قال الثاني: السجن لمن هم ليسوا على شاكلته، أما هو فلا سجن ولا ما يحزنون، لم يكن الرجل غبياً قبل أن يأكل أطعم، فضمن بذلك ألا تمتد إليه يد بسوء، ثم إن زوجته جميلة كما ترى وكانت قادرة على إنزال محكوم بالإعدام عن حبل المشنقة...))( ).

 

وكما قلنا من قبل فإن هذه الأجواء تغدو مرتعاً خصباً لعديد من الشعارات العريضة إذ تحاول مجموعات المنتفعين والمرتزقين الاستفادة منها؛ متخذة من هذه الشعارات تكأة عريضة لها، ويمكن لهم خلالها أن يوهموا الكثيرين بحرصهم على مصالح الناس وحقوقهم وهم يعرفون أنه ليس الجميع بقادرين على اكتشاف الحقائق المريرة التي غالباً ما يمكن تغليفها وحفظها بعيداً عن أنظار عامة الناس.

 

ويغدو الميدان مفتوحاً لمجموعة من المهرجانات تتيح لهم استعمال شعاراتهم بحيث تصبح المهرجاناتية برنامج عمل يمكن خلاله غسل أذهان الناس ودفعهم إلى نسيان ما يحدث أمام الحرص على التنظير بعيداً عن الواقع والفعل، وهم يحاولون إشعال فكر الناس بالأحاديث المنمقة والشعارات العريضة الجميلة التي يمكن خلالها صنع ما يصبون إليه وراء الكواليس في حين يتم اتخاذ هذه الشعارات واجهة منمقة لما صنعونه، في حال ليس المطلوب الصدق والإخلاص في العمل إذ يمكن تغطية الأعمال مهما كانت سيئة بسيل من الشعارات التي صاغها مختصون..

وعلى الرغم من كل هذا الحرص وهذا الوعي فيما يفعلون إلا أن الحيلة لن تنطلي على الجميع فلا بد من وجود مجموعة من المثقفين اكتشفوا اللعبة وأسرارها، وصاروا يقدمون إداناتهم على لسان الحيوانات؛ وكأنهم يردون عليهم بلغتهم نفسها قائلين: حتى الحيوانات تفهم ما تريدون، وإن المهرجانات لن تغطي أفعالكم بخاصة أن معظمهم قد اكتشف أن كثرة المهرجانات ليست عاملاً صحياً، بل غالباً ما تكون أداة لزيادة الكذب والنفاق، فما هي إلا مجموعة مظاهر ضررها أكثر من فائدتها، فالعمل هو المعبر الصحيح والفعلي عن النوايا والأهداف:

((تململت الجياد في مواضعها، فحملت ثقل أجسامها من أرجل إلى أرجل أخرى، واصطدمت حوافرها بالأرض الصلدة فتصاعد من اصطكاكها صدى أصم، صدى لا يهدأ حتى يبدأ من جديد، فبعض الجياد أراحت رجلها اليمنى وبعضها رجلها اليسرى. بعضها فعل ذلك منذ بعض الوقت، وغيرها قبل أو بعد الأخرى ومثلما نقل بعضها ثقل جسمه من رجل إلى رجل ثانية، راحت أخرى تنظر يميناً ويساراً إلى فرسانها بأعنتها، أو إلى الناس الذين اصطفوا على جانبي الطريق))( ).

ولأن أحوال الجياد المحضرة للمهرجان لا تفرق كثيراً عن أحوال الناس الذين لا يعرفون لماذا أتوا؛ فإن الجياد تتساءل عن جدوى وجودها في هذا الاستعراض، ويأتي هذا الاعتراض من الجياد التي تقف في مقدمة صفوف الجياد وقد جاعت كثيراً، متسائلة عن إهمالهم لها:

((وقال جواد من الصف الثاني لرفيقه:

إنني لم أطعم اليوم كفاية، قلت في نفسي عندما أحضروا لنا وجبة الصباح يجب ألا آكل كثيراً كي أجري جيداً. هل تعتقد أنهم سيجرون سباقاً في الجري؟

فرد رفيقه: لا أظن!

عاد الجواد الأول يسأل: لماذا إذن أتوا بنا إلى هنا!

فرد الثاني: لست أدري لكن ليس هناك سباق على كل حال!))( ).

 

إن هذه الأنسنة للجياد وإطلاق التساؤلات على ألسنتها للتعبير عن الاستياء مما يحدث يدفع المرء لتأكيد وعي كثيرين بما يحدث وأنهم برغم الموانع يمكن أن يعبروا عن مأساويته ترميزاً.

 

إن مجموع الهموم والمقولات التي تناولتها القصة القصيرة آنئذ تعطي نبذة عن الأحوال التي كانت سائدة وآلام الناس وحاجاتهم وطموحاتهم وهذا مما يدخل في صلب وظيفة القصة التي عبَّرت خير تعبير عن ظروفها المحيطة بها، وكانت كما في مختلف المراحل لسان حال المجتمع وجديده على الرغم من اختلاف الأدوات الفنية من نمط إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى؛ مع أن عدداً هائلاً من الظواهر الفنية قد وُجِدَت في هذه المرحلة لتشير إلى خصوصيتها.

في قضايا المرحلة وظواهرها الفنية

 

أسئلة الفن:

لقد كان سؤال التجريب والتحديث من أهم الأسئلة التي كانت تعنّ على مخيلة القاصين، ولعلّ هذا التجريب ضرورة ملحة تحاول أن تبعث الروح ثانية في أجزاء الفن التي تسرب إليها الخدر، وهو يحاول كسر القار من العادات والتقاليد الفنية، وحين يعلن التجريب عن نفسه فإنه يشعر أن التجديد أفضل مما ترسخ عليه التقليد الأدبي، ولعل هذا شأن الفنون والآداب جميعاً التي تحاول أن تتطور وتقدم الجديد، فما إن تترسخ تقاليد متينة ما حتى يأتي مبدعون يحاولون كسرها...

لقد وجد معظم قاصي هذه المرحلة أنفسهم على مفترق طرق؛ مما جعلهم يسعون سعياً حثيثاً للتجديد والتحديث في خطابهم القصصي، وبرز لدينا قاصون عديدون حاولوا ترك بصماتهم من خلال الشغل في الشكل الفني للقصة القصيرة، مازجين بينها وبين فنون أخرى، مستعملين لغة توحي بصباحات ثقيلة ويأس ضاغط على الصدور مثلما يمكننا أن نعثر على قص أضاع نفسه ومتلقيه.

 

وقد أتاحت هذه المرحلة لعدد من القاصين فرصة أن ترسخ جذور قصصهم، وتمد أغصانها أيضاً في هاجس التجديد، وابتعدت قصص عديدة عن أي مرجعية، بل حاولت تجارب أن تكتب قصصاً هي أميل للقصة ((اللوحة)) القائمة على التجريد معوّلة على الترميز والتخييل.

 

وبدا أن هناك قصصاً كثيرة صعبة المراس على المتلقي وتحمل في أثنائها تساؤلات وجودية وفكرية محاولة ترك بعض المفاتيح، وأعطت تجارب عديدة أمثلة تطبيقية وحية على الفرق بين التجديد النزوة، وتجديد المثابرة، ولئن كان الأول سرعان ما نُسِي فإن الثاني تابع سيرورته، بخاصة أن التجديد لم يقتصر على الشكل بل في آلية الرؤية ومعالجة الموضوعات وإضاءة الزوايا المهملة والتفاصيل الصغيرة.

 

إن عدداً كبيراً من الأمور أعيد ترتيبها بحسب الأولوية، وهاهنا يمكننا أن نشير إلى العام والذاتي من حيث النظرة إليهما؟، وقضايا الالتزام والشعارات التي لم تثبت جدواها فعلياً، فالمسلمات لم تعد مسلمات، وصار من واجب القاصين إعادة النظر، فلم يعد المهم الانطلاق من القضايا العامة للوصول إلى الخاصة، بل غدا المهم كيف نعبّر عنه وإلى أين نريد أن نصل؟ وأمام تقدم التقنيات القصصية والحِرَفية لم يعد المتلقي يشعر بثقل بعض الموضوعات المعالجة رغم أن عدداً كبيراً منها فيه تجريد وله خصوصية مضموناتية.

 

وقد حاول قاصون عديدون الاستفادة من الإمكانات الطباعية المتاحة بما أن النشر في كتاب هو أحد طرق إيصال القصة القصيرة وبذا انتبه القاصون إلى إمكانات النص المقروء وفرقوا بينه وبين النص الشفاهي الذي يسمع بالأذن مع بدء تشكل الوعي بالإمكانات المتاحة لكل نمط (الشفاهي والكتابي)، ذلك أن ثلة من القاصين كانت تنظر وتعامل الفن القصصي من حيث حكائيته وإمكانياته الشفوية وتصعيده الدرامي وعوامل التشويق، وهذه القضية ربما لا تخص القاصين فحسب بل تخص المتلقين أيضاً الذين اعتادوا لسنوات طويلات على النصوص الشفوية المستندة على الحكاية، لذا فإن محاولي التجريب لم يلقوا الترحيب اللازم بخاصة أن عدداً من ضعيفي الموهبة يتكئون على حجج التجريب لتمريق نصوصهم.

ولعله قدر المجددين دائماً أن يبذلوا جهوداً مضاعفة لترسيخ فنهم الذي يسعون إليه ورؤيتهم الطامحين لها.

 

إن السعي للتجديد تتدخل فيه عوامل عديدة فكرية واجتماعية وذاتية، وبالتأكيد سيصطدم بإشكالية التوصيل التي لا بد تعلن نفسها في هذه الأحوال لأن كسر الطرق المألوفة في التلقي، ربما يستدعيه بعض أنواع التجديد الفني، دون أن ننسى اعتياد المرء على نمط معين، والموازنة بين الجديد الوافد، والقديم الراسخ، وأثر الطباع البشرية من حيث الميل للثبات والتحول والمرونة والتعويل على التجديد ومصادره وأهدافه.

إن أنساقاً عديدة تترك أثرها في الحفر لنمط جديد أو آلية جديدة لكل منها دوره في ذلك.

 

إن الجديد لا يمكن تحديد ماهيته وجدواه بين ليلة وضحاها، ومشكلة كثيرين أنهم ينظرون للجديد نظرة لا تخلو من ريبة، ولعل الأجدى هو أن نترك لهذا الجديد فسحة من الفرصة بهدف إثبات الجدوى، فإن أثبت جدواه تكون الحركة الأدبية قد كسبت أشياء، وإن لم يكن فحسبه السعي.

 

وربما لا تكون مساعي الجديد ومراميه واضحة في ذهن المجرب نفسه هو، ولعل قراءة جديد السبعينات تكشف أن أنماطاً منه وتجارب محددة قد تابعت طريقها في حين أن مجاميع وقصصاً وتجارب قد تركت الجنس الأدبي لتنطلق إلى أجناس أخرى أو لتدع الكتابة جانباً.

 

وكان كثيرون يعتقدون أن القصص ستوصلهم إلى نجومية يسعون إليها في ظل اهتمام الحركة الثقافية في هذه الفترة بالقصة، لكنهم اكتشفوا أن القصة لا تحقق مآربهم، وسرعان ما تجاوز الفن القصصي مثل هذه المآرب والرؤى ليتماثل للشفاء على أيدي قاصين آخرين ناضلوا وأجروا الكثير من التوازن بين التطوير والتوصيل وبقيت هناك وشائج تلم الأمور إلى بعضها بعض.

 

إن الانضواء تحت مفهوم نظرية الانعكاس راح يتخفف منه القاصون كثيراً، لأن الرؤى الأخرى في فهم الفن ودور التخييل اشرأبت وأعلنت عن نفسها، وهذا طبيعي لأن القاصين معنيون بالبحث عما يمكن أن يقدموا من خلاله مقولاتهم، وهذا يتطلب غوصاً في عمق نظرية الفن، ربما هذا لم يكن بدافع القراءة النظرية، وإنما محاولة تدبر وتفكر بما أمامهم من قصص، وحرص على التجديد في وقت صار الابتكار فيه مطلوباً أمام تلاقح الكتاب الجدد مع الكتاب القدامى.

 

إن هذه المرحلة قد شهدت توسيع فتح الآفاق للقاصين الراغبين بالهروب من أجواء الارتهان لنظرية المرجعية والانعكاس، وقد أثمر مثل هذا الانفتاح ثمرات يانعات على القصة سواء في التقنية أو الموقف بحيث دلفت قصص عديدة إلى أمور ما كانت لتخطر على أذهان القاصين لو بقوا يدورون في فلك نظرية الانعكاس لأن خواصها ما كانت لتسمح لهذه الموضوعات بالمرور.

 

وقد تنبه قاصون عديدون إلى أهمية التخييل وإعادة الأنظار في دوره في البناء القصصي بحيث أعطى فسحة تعبيرية ثرة.

 

بخاصة أنه قد يكون من صلب نظرية الفن في كل مرحلة التعبير عن جديد الناس وقديمهم مع القبض على الجمالي والمتميز، وإضاءة نبض المرحلة التي يعيشها، وهي التي تشكل نسغه الذي يعيشه مثلما هي تستفيد من إثاراته، فالعلاقة بين الفن والواقع علاقة لها أبعاد كثيرة ومتشابكة، وكثير مما كتب إبان تلك المرحلة يشي بأن تمثلاً قد حصل لحركة الواقع، ومعظمهم لم يعد يعاني من مشكلة كيفية التعبير الفني لأن الأدوات صارت طيعة والمنجز القصصي السابق أصبح مثاراً للتحريض على الكتابة المتميزة، وقد أسهم ذلك في استكناه حركة الواقع والغوص في نسجه.

 

يشكل كثير من القصص المكتوبة في هذه المرحلة ترسيخاً للفن في سيرورة القصة القصيرة السورية، وقد بدا ذلك في كيفية قول القصة لما تريده إذ بدا أن رهاناتها الفنية كانت محسوبة ومتميزة إلى حد كبير فقد نبهت نفسها على قضايا عدة في عالم الفن فهي لم تتطرف في فهم الواقعية، ولم تتكئ على تقنياتها فقط، بل حاولت إجراء شيء من الموازنة بين التقنيات وكيفية قول الواقع حتى إن المرء يلحظ وجود بعض الموضوعات المكرورة من حيث أفكارها الأولية، لكن طرق معالجتها وآلية الرؤية دفعتها إلى التجدد مما أدى إلى خلق انطباعات حسنة عن كثير من القصص.

 

ومن الأشياء التي تتضح للمتابع هو دأب قاصي الخمسينات والستينات على الكتابة بإصرار وحماسة محاولين ترك بصمة في تاريخ هذا الفن.

 

ومن أجل تثبيت الأثر الفني وترك البصمة الخاصة، إضافة إلى الرغبة الدؤوبة في التجديد فإن نصوصاً تجريبية هائلة يجدها المرء في عديد من قصص هذه المرحلة، إذ اجترح كثير من القاصين التقنيات الملائمة لكل نص، وحاول آخرون الانفتاح على الفنون الأخرى والأجناس الأدبية لتطويع بعض عناصرها من أجل فن القصة القصيرة، وانصرف كثيرون للحديث عن مواضيع مهملة، وإضاءة زوايا مظلمة في الواقع وفي النفس الإنسانية ضمن جوّ من روح التنافس أثمر كماً كبيراً من القصص المتميزة التي تحدَّت نفسها والآخر في محاولة التجديد ونجحت إلى حد كبير في التحدي.

 

ووُجِدَت تجارب كانت تحاول أن تجرب في كل قصة، مستفيدة من هموم ضاعطة وثقافة واسعة ورؤى عميقة.

 

ولم يعد كثيرون ينشغلون بالدعاوى والشعاراتية وتقديم الأمور بكثير من الحماس والمباشرة، لأن نقل نبض روح التجارب أبقى وأكثر دواماً، ومما لا شك فيه أن الواقع المعيش كان غنياً بحيث أسهم في هذه الوفرة القصصية، بخاصة أن هذا الواقع كانت تتجاذبه تيارات عديدة وأفكار ورؤى متنوعة، والحيز المتاح كان خصباً مما سمح للتجارب على مختلف مشاربها ومراميها أن تعبر عن نفسها، وكان الغنى في الرؤيا، والتعدد في التشكل والبنى وآلية التعبير هما الميسم، وقد وجد القاصون أن أمامهم فرصاً وأنماطاً تعبيرية عديدة بحيث يعبر كل واحد منهم عن نفسه بالأسلوب الذي يريد، ولا سيما أن الكثير من المد والجزر قد أعلن عن نفسه حين التعرض لنسج الواقع، هذا الواقع الذي حيَّر كثيرين اجتهدوا في إيجاد معادلات له، وغاصوا في أجواء تخييلية ثرية أسهمت في هذه القصص المتنوعة المشارب، المتعددة التقنيات.

 

وهاهنا لا بد للمرء أن يتوقف عند قصص كثيرة كُتِبَت بمفاهيم متأخرة جداً عن مرحلتها هذه، أو بكلمة أدق بدا أنها لم تستفد من التجديد الذي حدث، إذ نشرت مجموعات عديدة بدا أنها أميل إلى الحكاية، محافظة على إنشائيتها، وعناصرها التقليدية، وظهرت حاجة بعضها إلى الإقناع، وأسهم ذلك في ظهور بعض أصحاب المواهب المحدودة والإعلان عن تجاربهم، ولاقوا تشجيعاً من كثير من الطامحين بإعادة الفن إلى الوراء أو تثبيته على صورة محددة تنتمي إلى الواقع والمرجعية أكثر من انتمائها إلى الفن، وقد حاول قاصون عديدون الاتكاء على موضوعات وطنية وقومية واجتماعية تخص العادات والتقاليد بكثير من الوعظية والمباشرة والشعاراتية، ولعل هذه القصص غالباً ما تعبر عن نهج تقليدي في كتابة القصة وهذا طبيعي إذ إن التطورات الفكرية والثقافية والفنية لا تتم دفعة واحدة، وقد لا يستجيب لها الجميع دون أن ننسى أن الاختلاف في الفن وتعدد الرؤى يعطي الجميع فرصة التعبير عما يصبون إليه، والأمر عينه ينطبق على مسألة التلقي دون أن يعن على ذهن المرء أن هذا الفصل بين آليات المعالجة ومفاهيم الفن كان مفروزاً بحيث إن الوشائج معدومة، لأن نصوصاً كثيرة قد استطاعت إجراء شيء من التوازن، وعبرت عما تصبو إليه بطرق فنية عديدة بحسب ما يستدعي الموضوع والمضمون.

 

إن المتحدث عن قصص هذه المرحلة لا بد له أن ينوّه بتجارب عديدة استطاعت أن تخلق لنفسها فسحة من الوجود عبر المثابرة والمتابعة، وقد طعّمت هذه التجارب النسغ الرئيسي لمسار القصة السورية الذي قدّمه، وتابعه قاصون ظهروا في المراحل السابقة، متكئين على جمل وتقنيات عديدة، وقد برزت تجارب كثيرة في هذا النمط أو ذاك من القصة القصيرة بحيث ارتبطت بعضها بأسمائها.

 

وقد تابعت الأصوات النسائية تميزها وأعلنت تجارب عديدة عن نفسها وهي متفاوتة التميز والنجاح الذي حققته، وقد أكملت بعض التجارب التي أعلنت عن نفسها في مراحل سابقة مسيرتها، إلا أن النجاح الذي تحقق في هذه المرحلة للقصة النسائية لم يكن بمقدار الطموح وما سمحت به هذه المرحلة.

 

تيارات القصّ:

كانت هذه المرحلة مثالاً للتنوع المثمر الذي يلحظه المتابع أول وهلة، وقد سمح عدد المجموعات الكبير بظهور معظم التيارات القصصية دون أن يطغى تيار على آخر.

وقد شهدت نشاطاً نشرياً متنوعاً أسهم فيه مختلف كتابها سواء أكانوا من الرواد أم من الجيل الجديد، إذ إننا نجد بعض الرواد أصدروا ثلاث مجموعات( ).

 

وهذا الأمر عينه ينطبق على كتاب عرفوا في المرحلة الثانية، فيما أصدر بعض القاصين في نهاية هذه المرحلة مجموعة أو أكثر لتترسخ تجربته وتعرف في المرحلة التالية( ). فيما كان هناك ثلة من القاصين أصدرت مجموعة ولم تكرر هذه التجربة إلى يومنا هذا( ).

 

وفي الأحوال كلها يجد المرء عدداً من النقاط يمكن أن يشير إليها تتعلق بطبيعة ما صدر آنئذ، إذ على الرغم ما عرف في هذه المرحلة من بروز للفني في القصة إلا أن الكاتب الذي أصدر أكبر عدد من المجموعات (محمد المجذوب) يكتب القصة الوعظية.

 

ولا يمكن أن يخلص الباحث إلى تعميمات تتعلق بطبيعة المجموعات المنشورة إذ كان المجال مفتوحاً لبروز الأسماء التي تسعى إلى البروز، ووجدت مجموعة كبيرة من الأسماء أرادت أن يطلق عليها جيل عقد السبعينات حاولت أن تترك بصمتها الخاصة بالفن وسواه لعلها ترسخ أسماءها، طبعاً قد يجد المرء الكثير من القصص التي ليست ذات وشائج متينة مع الفن إلا أنه يجد حضوراً هائلاً للفن أيضاً.

 

ولو حاول المرء الوقوف عند دور المرجعيات في قصة هذه المرحلة لوجد أن هذا الحضور ترجح من تجربة إلى أخرى، إذ اتكأت عليه تجارب كثيرة اتكاءً رئيسياً( ) في حين كان في تجارب أخرى يحضر حضوراً غير قوي، وثمة الكثير من التجارب التي استثمرت التقنيات خير استثمار.

وفي الأحوال جميعها لا يمكن أن يربط المرء نهجاً فنياً تجديدياً بالكتاب الجدد، وسواهم بنهج آخر. لأن التجديد والاشتغال على التقنيات قام به معظم الكتاب بغض النظر عن المرحلة التي ينتمون إليها وهذا يدل على أن الفني لا بد يجذب الكاتب الذي يريد أن يترك بصمة بغض النظر عن المرحلة التي عرف بها، وقد أسهم هذا التلاقح في الشغل على الفني ومن كتاب متنوعي التجربة ومختلفيها في إثرائه وتقديمه بصور عديدة.

ومم يلفت أن بعض الكتاب قد أصدر غير مجموعة في سنة واحدة ويمكن للمرء أن يعيد نفسه إلى عنوان المرحلة (التنوع المثمر) ليجد أنه يعبر عن المرحلة التي تجاذبتها تيارات عديدة لم يستطع أحد منها أن يتحكم في تحديد هوية المرحلة، بل أسهمت جميعاً في ذلك وغلبت القصص الفنية على سواها، وفي القص الوعظي أيضاً يلحظ المرء تطوراً.

إن الإشارة إلى التيارات لن تتضح أبعادها دون الوقوف عند التقنيات والظواهر الفنية التي برزت في هذه المرحلة الخصبة كماً وكيفاً.

غير أن ما يحتاج لتأكيد أن ترسيخ كثير من هذه التقنيات لا يعني أبداً أن التيارات الأخرى المتكئة على المرجعيات وسواها قد ألغيت، ولا بد من الإشارة إلى أن السمة الغالبة على قص السبعينات هي محاولة التجديد وكتابة القصة بأسلوب مختلف بحيث نشأ لدينا ثلة من القاصين الذين قاموا بهذه المحاولة( )، وقد واكبهم إن لم يكن قد سبقهم الجيل المؤسس السابق الذي ما انفك يحاول التجديد والتطوير والتحديث، وعبر هذا التواشج والتلاحم حدثت هذه النقلة النوعية.

 

ظواهر فنية:

استطاعت قصص عديدة مما نشر إبان هذه المرحلة ترسيخ مجموعة من التقنيات والأركان الفنية عبر الاستفادة مما أحدث في مرحلة الستينات من تقنيات مع محاولة تفريعها والشغل عليها، ولم يك ذلك ليحدث بسهولة، بل احتاج إلى عمل طويل وتمرّس في كتابة القصة كي تكون التقنية منسجمة مع الحدث، وكيلا تبدو الأمور مجلوبة من خارج روح القص.

وما كان هذا الترسيخ ليحدث لولا أنه وجد الكثير من المتابعة بحيث أن قارئ قصص هذه المرحلة لا يمكن إلا أن تلفت انتباهه تلك المنجزات الفنية التي قدمت نقلة نوعية لتاريخ القصة القصيرة السورية الفني.

 

المدينة(*):

لقد شكلت المدينة في قصص هذه المرحلة موضوعاً رئيساً توقف عنده عدد من القاصين، ليس بصفتها فضاءً مكانياً فحسب، بل بوصفها رمزاً من رموز استلاب الإنسان واغترابه، ولم يعد المجال مجال موازنة بين ريف ومدينة، وإنما تم التوقف عند عدد من المداليل التي تحمل في أرجائها إشارات إلى ضيق القاصين من المدينة، وأنها توحي لهم بالضيق واليأس، ولم يقصر عديدون في إغداق صفات قد لا تحتملها المدينة ذاتها. لذا يمكن أن يعد الباحث المدينة أحد الرموز الرئيسية التي استعملت في هذه المرحلة لتغدو تقنية رئيسة اتكأت عليها عشرات القصص.

 

يتقاسم النقاد رأيين فيما يخص المدينة في الأدب العربي الحديث، أحدهما يرى أن المدينة ليست موضوعاً بعيداً عن الأدب العربي ويمكن لهم أن يستشهدوا بأمثلة عديدة:

والآخر يرى أن المدينة ومفاهيمها التي تنوولت خلالها في الأدب العربي الحديث ما هي إلا نوع من التقليد للغربي بعدما شاعت صور عديدة تتعلق بالاغتراب، والموازنة مع الريف، والحلم بالمدينة الفاضلة وبعض سمات المدينة المعاصرة...

وربما هناك عوامل تشد المرء إلى المفهوم الثاني بما أن مفهوم المدينة عندنا لا يفارق كثيراً مفهوم الريف، وربما ما حدث يعود في بعض تجلياته إلى الحالة النفسية التي شعر بعض المثقفين الذين هاجروا إلى المدينة، وراحوا ينسبون ما يرون من مناظر إلى المدينة مع أن كثيراً مما يحدث في الميدنة يقوم به الوافدون إليها بعد أن يتخلصوا من مجمل الرقابات الاجتماعية( ).

 

إن المرء لا يستطيع أن يمر مروراً سريعاً على طريقة تناول الأدباء للمدينة، بل لا بد من وقفة عند بعض الصور التي تجلت خلالها في قصص عديدة. ولا سيما أن تصورات حادة يائسة بنيت على مفهوم المدينة عند بعض القاصين، ونسبت إليها صفات عديدة تحتمل المداليل المتنوعة:

((المدينة ظلت نائمة، الغيوم المتخاصمة لم ترعبها ولا الأمطار المجنونة تصفع الأرض، هي نائمة منذ زمن شهيق وزفير، كل شيء منتظم الأقدار كانت تنمو في الطرقات كلحية رجل كسول، وكان الغبار أحياناً يلفح جبهتها))( ).

 

وتصبح المدينة لدن كتّاب عديدين مدخلاً لرثاء حالتهم الإنسانية التي يعيشونها محملين إياها كل ما يعانون عبر لغة هي أشبه بالمونولوج الداخلي الذي يبدو غير مترابط تماماً في الظاهر مع أن معاني الجمل تشكل لوحة متواشجة الأجزاء من حيث المداليل الكلية:

((المدينة نائمة وأنا في رحمها الجنين، عصفور المطر سيرميكم بحجارة من نار، تحولت المدينة إلى نفق أتعبه ليل القطارات الوافدة.

عصفور المطر سيرميكم بحجارة من نار، المطر يغسل وجه المدينة الجائعة، المدينة الجريحة، وأنا وحيد كقلم مهجور. تحولت الغرفة إلى سجن، لم يتمكنوا من إغلاق النافذة بالقضبان فهي تطل على بيت مأهول ولكنه صامت كمقبرة، أطلت علي فتاة من نافذة سألتني بصمت فأشرت لها بأنني مخطوف وأنني أحبها ومن المؤكد أنني سأموت بعد ساعة، غطت وجهها بيدها وأغلقت النافذة باليد الأخرى... تذكرت وجه حبيبتي التي ماتت جوعاً))( ).

 

لقد أضحت المدينة بنظر قاصين عديدين مشجباً متيناً لتعليق مختلف المتاعب والمصاعب التي يواجهها المرء في هذه الحياة، ومدخلاً لإدانة ما يعتور الحياة التي نعيش من مشاكل ربما لا ذنب للمدينة فيها، على أن هذه السمة في التعامل مع الأشياء عبر لغة مثقلة باليأس صارت عنواناً لقصص عديدات نشرت في هذه المرحلة.

 

وقد قدمت بعض القصص أوصافاً معينة للمدينة استدعى سياق القص ذلك أم لم يستدع بهدف تقديم جو مثقل بالهم يوحي برؤاهم ومعاناتهم، وربما حدث هذا بفعل التأثر بالأجناس الأدبية الأخرى بخاصة الشعر، حيث لم يعد القاص يأبه بلوم لائم إن قدم مفردات المدينة الكئيبة من مثل الطفل الجائع والمرأة العاهرة التي تنتظر الرجال عند زوايا الطرقات لتجرهم خلفها، صحيح أن كل هذه الأشياء تحدث في المدينة لكن النقاء الكلي غير متوفر، ولا تكمن الإشكالية في المدينة ذاتها وإنما فيمن جاء إلى المدينة أيضاً وخلق هذه الظروف، إن المدينة في النهاية جزء من نسيج اجتماعي تكون فيه الوعاء والفضاء الذي يحتوي نماذج متنوعة تعطي صورة عن النسج المجتمعية المتوفرة في رقعة ما وعبر بعد زماني معين:

((المدينة غارقة في الضباب، ضباب كثيف لم تعرفه من قبل. ولا يمكنك أن ترى إلى أبعد من مترين فيه إذا سرت في الشوارع القائمة ورأيت احتفالات عجائبية، قبائل غريبة بلا ياقات، ولا ربطات عنق، غجراً مدهشين يرقصون سكارى ونساء آسرات، قطعاناً من الخيول جامحة تمر من فوقك طائرة إلى الكواكب البعيدة وهي تصهل وتدعوك للذهاب معها، وإذا رأيت امرأة في ثياب سوداء ووجه ساحر، تعبر بالقرب منك خفيفة كالطيف، تلتفت نحوك هامسة في حنان: أنا المرأة التي انتظرتها طوال عمرك اتبعني، فلا تتبعها، ولا تكترث إنها مجرد أشباح مجنونة تتصاعد من رأسي الدائخ المحموم.

 

لكن إذا ما لمحت طفلاً مشعث الشعر، قذر الملابس، نحيلاً، منهكاً، لم ينل حصته من النوم والخبز والطفولة، اسمه يمام، فاتبعه أنى ذهب، لأنه مرهق وبائس مثلي، فضلاً عن أنه بطل قصتي))( ).

 

إن هذا الحرص على التمازج بين الشخوص وقصصهم في ظل بيئة المدينة يصور الحالة التي كان يعتقد القاصون أنهم وصلوا إليها في ظل طموحات وأحلام حملوها معهم، ولم تحققها المدينة، فالمدينة ليست مفتاحاً سرياً يحقق الآمال والطموحات.

 

إن اجتراح الأساليب الفنية كان سمة لازمة لعدد من التجارب القصصية التي كانت مسكونة بروح الخلق والإبداع وقد أسهم معها في تحقيق مرادها واقع موار بالأحداث، وثقافة واسعة الأمداء حيث وصلت الأمور أحياناً إلى الإعلان عن البعد الوجداني للقاص وسكبه مشاعره الخاصة علانية والهدف من ذلك إيجاد فسحة من التعبير وكسر الحواجز التي كانوا يعتزون بها من حيث علاقة النص بمؤلفه سردياً وشعرياً.

 

وقد شكل موضوع الاغتراب في المدينة أحد مفردات الحديث عنها لأنها صارت بنظر عديدين أشبه بالسجن الواسع الذي يغدو الخروج منه كأنه نيل للحرية المهدورة، ها هو ذا أحد الشخوص الذين أفلحوا في الهروب منها يصفها حيث بدت بلا حركة، بل مجموعة من الأحجار المرصوفة والطرقات السود:

((وخلف السهول بدت المدينة الواسعة كومة من الحجارة المرصوفة والطرقات السود تسحق فيها المآذن والقباب... وتساءل في سرور: أتراني تحررت حقاً؟)).

 

وكان هذا التساؤل كافياً لأن يعيد إلى نفسه كثيراً من الصور والمشاعر التي قدر أنه قد تخلص منها إلى الأبد...

((ساعة خلَّف المدينة وراءه، واتجه مصعداً في هذا المكان ولكن ها هو يجابه، إذ يولي المدينة وجهه، تهدمه الذاتي الشاخص هناك في كل شوارع المدينة وأحيائها في منزله، بين جيرانه وأهله وذويه..))( ).

 

هذه هي الصورة الثانية الناتجة عن حالة نفسية أوصلت هذا الشخص إليها، بخاصة أننا أمام القاص جورج سالم الذي تخصص في الموضوعات الوجودية والفكرية عبر لغة فيها الكثير من الجاذبية خلال اتخاذ الهروب إلى الطبيعة هو المخرج من الأحزان والأزمات التي يعيشها الإنسان بما أن دروب الحياة قد ضاقت به:

((على ذروة الجبل، فوق قمته العالية، بعيداً عن المدينة الصاخبة، كان إبراهيم جالساً، لم يكن من عادته قط أن يتنزه في هذه المنطقة الهادئة الساكنة، إلا أنه في هذا المساء –وكان الحزن والألم قد امتلكا قلبه- مضى نحو هذه الجبال بعد أن اجتاز سهولاً عريضة، ممرعة تتموج فيها سنابل القمح، وترعى فيها قطعان الخرفان والأغنام، ولم تلبث قدماه أن أفضتا به إلى سفح هذا الجبل الذي تتسلقه أشجار التفاح وشجيرات الكرز كانت هذه تنوء بالبراعم والثمار. وكان النسيم يتغلغل بين أوراقها، فينبعث منها حفيف شجي يملأ الفضاء بنغمه العذب ودويه الرقيق، ويحمل معه عبق ينفذ إلى المسام ويداعب الجسم برهافة))( ).

إن المعادل للمدينة موجود، إنها الطبيعة التي تتوفر فيها كل عوامل النقاء في حين يحدث العكس في المدينة.

 

وقد عبر بعض القاصين عن نزقهم مما يحدث في هذا العالم، وارتد كثير منهم للاستهتار بنفسه أحياناً أو بالعالم الذي يحيط به في لحظة فقدان أمل:

((هذا العالم صغير جداً، تافه جداً، أصغر من رأس نملة، وبتفاهة عقب سيجارة من صنف رديء، مثالياته، مادياته، شخوصه، تكويناته تثير في نفسي القرف والاشمئزاز. ألعن شروق شمسه، وأسخط على غروبها، ملعون هذا العالم.

 

أشعر بالنشوة هذا المساء إحساس غريب لا أعرف مصدره كأنني غارق في بحر من النبيذ... النبيذ الأحمر، ولكن... لماذا أحمر؟ إنه يثيرني، يذكرني بالدم، وأنا أحن إلى عالم أخضر صاف، كحبات المطر، واللون الأحمر يذكرني بضحايا الحروب. أشعر بأني مسؤول عن قتلى كل الحروب، في ذاتي تكمن قوى شر هذا العالم.. أية نشوة هذه؟))( ).

إن أفكاراً عديدة أسهمت في وصول بعض شخوص القصص إلى ما وصلوا إليه، ربما كانت المدينة أحد الأسباب لكنها بالتأكيد ليست هي التي أدت إلى هذه النتائج التي تقبع خلفها رؤى فكرية متنوعة وثقافات عديدة.

 

السخرية:

حدثت نقلة مهمة على صعيد السخرية( ) على يدي أحد كتاب القصة في الخمسينات وهو حسيب كيالي والذي عاد محاولاً ترسيخ مكانتها أكثر وقد نجح لأن تجربته قد نضجت، وبناء عليه فإن المواد الأولية صارت بين يديه تشكل عجينة أولى يؤلف خلالها الصور التي يريدها:

((أنا أعلم أنه يحكي في حقي، يسميني (الرجل الصغير) ماذا يريدني حضرته أن أفعل؟ أن أتشرد مثله في الأزقة، وأرابط خلف زجاج كل خمارة من خمارات البلد لأرصد انطلاق البنات من المدارس، وأشهق كلما ناست ضفيرة على ظهر لطيف الاستدارات على حد تعبيره دائماً!

أيريدني أن أقرأ الصحف والمجلات وأنفق نصف راتبي في شراء كل كتاب يخربشه مخربش ويدفع به إلى الأسواق؟

هو حضرته لا وراءه ولا قدامه، مقطوع من شجرة، وراتبه مع ذلك أربعمئة وخمس وعشرون تصل إلى يده ثلاثمئة وسبعاً وخمسين.

وأما أنا، الله لا يركع مخلوقاً، فراتبي مئتان وخمسون مع التعويض العائلي، امرأة وولدين أقبضها ما لا يسمن من هزال وركاكة!))( ).

إن استعمال السخرية في القص يشير إلى تنبه للمقدرة الاستعارية للغة وإمكانية الترميز التي تتيحها العبارة المراوغة، إضافة إلى أن هذه السخرية ترفد القص بجملة من الخصوصيات بعضها يتعلق بالتعدد الدلالي وإمكانية تنوع التأويل دون أن ننسى الطرافة وأثرها في المتلقي والتشويق الذي هو أحد خصائص القص.

ولأن الوظيفة عمل صارت تمارسه شريحة واسعة من المجتمع فقد اتُّخِذ مادة أولية يمكن أن تبنى عليها بعض الأحداث الطريفة، ولا سيما أن ديدن الشكوى لدن الموظفين ديدن قديم يتمثل بالشكوى من عدم كفاية الراتب، ولا سيما أن عدداً هائلاً منهم يريد أن يحقق كل طموحاته دفعة واحدة على الرغم من كون وضع الموظف متميزاً إبان تلك الفترة، مقارنة بما آلت إليه الأمور اليوم:

((ولكن كيف تستطيعون أن تعرفوا الرجل الموظف من غير الموظف، إذا كان هذا الرجل مجهول الهوية لديكم تماماً؟

انبرى أبو خليل –وكأنه استخف السؤال لتفاهته قائلاً: الأمر في غاية السهولة، فمتى رأيت الرجل أزور، مائل الكتف، فاحكم عليه بأنه موظف...))( ).

ويتبارى مجموعة من الأصدقاء فيما يشبه الحكايات ذات الأحداث المتتالية مقدمين أوصافاً عديدة للموظف، تحمل الكثير من الطرافة وسرعة البديهة ودقة الملاحظة إذ يرى أحدهم أن توجيه ثلاثة أسئلة له والإجابة عليها تحدد وضعه لأن الإنسان ابن ظرفه:

((كم معك؟ كم عليك؟ كيف تسكن؟

وعلى ضوء أجوبته أستطيع أن أميزه بكل سهولة، فالذي ليس موظفاً يجيب تباعاً، معي كذا، لست مديناً، سكني ملك...

أما الموظف فإن أجوبته تأتي معكوسة تماماً إذ يقول ((السكن بالإيجار، الدين مرهق، لا شيء معي ولا سيما إذا ووجه بالسؤال بعد انقضاء أسبوع واحد على قبض راتبه))( ).

ويرى شخص آخر من شخوص القصة أن للموظف علامات يعرف بها، وهذا الرأي يقدم وجهاً آخر للطرافة المريرة هاهنا التي تسهم في منح الأحداث وجوهها العديدة التي تجعلها أكثر ثراء وغنى:

((إن للموظف علامات، وعلاماته: ملق ظاهر، واستزلام حاضر، طموح معدوم، وقلب دائم الهموم!

إرادة مسلوبة وحركات آلية عجيبة، يُسامُ الذل فلا يرد، وينتقص من حقوقه فلا يصد!))( ).

وتتسع دائرة السخرية الخالقة للمرارة عبر الاستفادة من المفارقة في تقديم بعض الأفكار مما يجعل الأحداث أكثر حفراً في النفس لأنها لا تتكئ على الإضحاك بل على اكتشاف مأساوية بعض الحالات خلال تقديم الوجه الآخر لها إذ تتناول بعض القصص هموماً أخرى غير الهموم اليومية والاجتماعية بحيث يمكنها أن تتطرق لموضوع أحوال المواطن العربي مقارنة مع أحوال المواطن الأوربي عبر تتالي مجموعة من المقاطع كل مقطع منها يقدم وجهاً من وجوه كل شخصية من خلال الموازنة بين حالة المواطن العربي (عباس) وذكر الزرافة البريطاني (فكتور) في قصة القاصة دلال حاتم:

((الأحد 18/9/77)) مساء.

يدخل صيدلية ويقدم الوصفة إلى الصيدلي، يقرؤها الآخر بإمعان ثم يفتح أبواباً زجاجية، يتناول علباً بألوان وأحجام مختلفة، ويحسب ثمنها على حاسبة الكترونية صغيرة: تسعون ليرة وخمسة وثلاثون قرشاً، وهنالك دواءان ليس عندي منهما!

تسعون ليرة!

أجرة لمدة أسبوع، من أين يأتي بهذا المبلغ!

يعتذر للصيدلي إنه لا يحمل المبلغ، وعندما يخرج من الصيدلية يمزق الوصفة قطعاً صغيرة ويلقي بها في الهواء))( ).

أما الوجه الثاني من المفارقة:

((الثلاثاء 28/9/77))

أوردت وكالة الصحافة الفرنسية في إرسالها النبأ التالي:

فشلت كل الجهود التي بذلها أطباء مستشفى البحرية، وجهود أحسن الخبراء البريطانيين في إنقاذ ذكر الزرافة فيكتور بحديقة حيوان مانشستر جنوبي انجلترا من الموت... وكان فيكتور سقط بعد ليلة غرام طويلة مع أنثاه))( ).

إن محاولة الموزانة تبدو ذات وشائج متنوعة مع المباشرة في معالجة ما يحدث إلا أن القاصة لم تتدخل لتوصل إلى المتلقي ما تريده بل اكتفت بتقديم المقطعين لتجعل المتلقي يكتشف عمق مأساة ما يحدث وهو يعيد اكتشاف الأبعاد بطريقته الخاصة.

 

التناص:

شكل التناص ظاهرة لافتة في قصص هذه المرحلة، وقد وجد فيه القاصون مفتاحاً مهماً لإضفاء أشياء متنوعة على قصصهم فيما يخص المداليل والدوال، ولا سيما أن توظيفه في هذا النص أو ذاك يحمل مؤشرات عديدة مثلما يثري النص ويدعمه دون أن ننسى أبعاده الجمالية وخصائصه الكشفية وما يمنحه للنص من غنى وخصب( )، وهو الذي يجعل النص القصصي مفتوحاً على كوى عديدة من الاحتمالات والرؤى، ونتيجة لإدراك القاصين هذه الأبعاد التي يمنحها للنص فإن عديدين منهم قد وظفوه بطرق متعددة ومن مصادر متنوعة، وقد اختلفت درجات النجاح في استعماله تبعاً للمقدرة، إضافة إلى الأشياء التي تتعلق بمادته الأولية سواء أكانت تراثية أو حديثة، بخاصة أنها كانت مترجحة بين الصحف والأخبار والنصوص الصوفية ورموز العدل ورموز الحب، وهو الذي ظهر في النصوص أحياناً بصورة مباشرة وأحياناً بصورة بدا فيها كأنه خلفية غير معلنة للنصوص، تشرَّبته جمل عديدة في هذه القصة أو تلك، وقد وجد فيه بعض القاصين مدخلاً لإدانة أشياء عديدة تحدث في الواقع، مستفيدين من المفارقة التي تحصل حين تتم المقارنة بين الماضي والحاضر، وكيف كانت الأمور وإلام آلت؟ إضافة إلى ما يمنحه التناص من تثوير لطاقات الذاكرة والفكر في الولوج إلى أعماق النصوص دون أن ننسى الإشارة إلى أن عدداً من القاصين استعمله بصورة بسيطة معتمداً على البناء المقطعي الذي يمكن عبره عزل كل مقطع عن الآخر بحيث بدا بسيطاً وغير متلاحم تماماً مع الأفكار المشار إليها إلا أن التناص في تجلياته المختلفة كان فرصة سانحة لإضفاء أشياء جديدة على النص القصصي، وفرصة متميزة أيضاً لإظهار دور التقنية في البناء القصصي، وقد أتاح المجال لكشف مواهب القاصين وقدراتهم في التكيف مع مجموع قراءاتهم ومطامحهم في إثبات إمكانيات فن القصة القصيرة وترسيخ جذورها والتجريب المحسوب فيها:

((لا خلافة في وطني، لا ملوك أعرفهم، كلهم أرانب، مناجل للجيوب والرقاب وعندما يأتي الجراد حجارة، لا قضاة، لا سيافين، قومي يحتكمون إلى النهر والعندليب والغمامة، والذهب في وطني أرخص/ المسامير.

 

ووطني خفيف كالهواء، نقي كسريرة الماء والطفل. صعب كعيني ((ورد)) تقدر أن تحمله في جيبك.

أن تضعه تحت الوسادة عندما تنام... إن دخلت وطني فلن تستطيع الخروج منه أبداً إلا أن يطردك. يهرب العاشقون إلى وطني سراً وأنا آويهم جهراً ومن يجرؤ على توقيفي.!))( ).

 

وثمة قصص اتكأت عبر التناص الامتصاصي على مجموع قراءات القاص في أحد الميادين من ذلك ما نجده في بعض قصص محمد كامل الخطيب التي قدمها عبر لغة ذات جمل قصيرة تشبه قصيدة النثر، ويذكر فيها أسماء عديدة من التراثيين الأعلام (أبو الشمقمق- الحلاج- السهروردي- ورابعة العدوية)، ويدخل هاهنا التناص في دائرة الترميز الذي يجعل المتلقي في حيرة من أمر القاص وما يريده، وهذا سعي حثيث من القاص إلى كتابة نص له خصوصيته ربما دون حسابات النجاح من عدمه في هذا الميدان( ).

 

وقد أشرنا في مقبوس سابق إلى نمط من التناص يعتمد على المفارقة المستندة على واقع يومي مرير يخشاه الإنسان( )، إلى جانب نص مأخوذ من إحدى وكالات الأنباء يقدم وجهاً آخر للحياة يزيد الأمور وضوحاً وحفراً في تعميق الدلالة.

 

وقد كانت التناصات مع رموز العدالة والثورة على الظلم وارفة في قصص هذه المرحلة، من ذلك ما ذكرناه في مقبوس سابق حول الموقف من أبي ذر الذي يمكن أن يلاقيه في هذا الزمان( ).

ويوازن أحد القاصين بين ما كان وما هو كائن الآن لبعض الأسماء المعروفة في تراثنا من ذلك سيف بن ذي يزن:

((لأول مرة في حياته يعاني سيف بن ذي يزن مثل هذه التجربة:

نكران الجميل. خيانة المضيف. العدوان على الوطن. بعد العناء أطلق سيف لناقته العنان تتمايل في طريق العودة الذي لا تخطئه، لقد حدث ما حدث. لم تبكِ السماوات والأرضون. النجوم تدلت كالعناقيد لا بشامته حتى الريح لم تكف عن معابثة أطراف ثيابه. النحلة وما برحتا متشبثين بالأرض))( ).

يبدو استعمال التناص في هذه المرحلة ذا آثار إيجابية في بناء قصص كثيرة جعلته أحد البنى الرئيسية التي اتكأت عليها.

الأنسنة:

ليست تقنية الأنسنة بجديدة على النثر بعامة (نذكر كليلة ودمنة) والقصة القصيرة بخاصة إلا أنها راحت تعلن عن نفسها في هذه المرحلة بجرأة وصراحة( )، وتحمل معها معطياتها ومرموزاتها، بخاصة أن صفة الأنسنة أعطيت للحيوانات والجبال والطين، وكانت مدخلاً للغة مختلفة تحمل ثلة من الاحتمالات الدلالية، وربما يبدو شيئاً مثرياً للمداليل ومثيراً للإمتاع الفني في تجليات كثيرة أن تتحدث الحيوانات عن حاجات البشر وأن تبدأ الأشياء الجامدة بالنطق ضمن سياق فني معين، ومثل هذه التقنية تحتاج إلى وعي ومقدرة، لأنه ليس من السهولة بمكان أن تبقى الأمور مضبوطة وتؤدي الأغراض المرادة منها، وقد بدأت الجوامد والحيوانات تعبر عن مكنوناتها ورؤاها فيما يخص بعضاً من التصرفات البشرية والمواقف الفكرية.

 

فلو بدأ جبل قاسيون بالحديث فإنه سيعبر عن لهفته وشوقه للغائبين ويعلن عن فرحته بالاستفادة من تربته، وسيقابله الناس وداً بود:

((بسطت ذراعي فرحاً باستقبالهم وهتفت: مرحباً يا أعزائي. لقد طال غيابكم وطال انتظاري. أسرع الأحبة إلى صدري واعتلوا كتفي، وقبلوا عيني ووجنتي، وقالوا: سندنا الكبير. ذقنا الحرية تحت سمائك، وعرفنا الصلابة في رسوخك، ومارسنا النضال في أرجائك، علمتنا العطاء والشيماء، ومنحتنا القوة والهناء، وغرست فينا العزة والإباء.

قسماً بشممك لن تظل يائساً، ولن تبقى متحسراً، ستغدو جنة من جنان الله في أرضنا، وبدأت آلات الحفر والجرف الحديثة تشق الشوارع وتفتح فيها أشجار الصنوبر والسرو، يأخذون من صخري الحجارة فيرصفونها على الدروب، وفي ترابي تنزرع الغراس وتتفرع الغصون فلا تسألوني من أكون... أنا قاسيون الجبل وابنتي دمشق الفيحاء))( ).

 

وتحضر بعض الأشياء المؤنْسَنة وقد أخذت أبعاداً رمزية تدفع المتلقي لإعادة النظر بما كوَّنه حول النص القصصي أول وهلة لأن مفردات الأحداث تظهر كثيراً من المداليل بخاصة أن ((الطين)) في المقبوس التالي يغدو رمزاً لحالة الاستغراق التي يعيشها الإنسان والحياة اليومية تلوكه، بحيث يغدو عامل إعاقة وهو الذي قد يرمز إلى طبقة جديدة بدأت تتشكل لا يمكن للإنسان أن يتجاوزها على الرغم من محاولاته في التخلص مما هو فيه، ويصبح هذا الطين ملاحقاً له أنى حل وأنى ارتحل، بل إنه يكاد يغمر كامل المدينة التي راحت تستشري فيها أشياء يجب التنبه إليها ومنعها من النمو:

((كان الطين يسد المدخل ويخفي الرخام الذي كان لامعاً، وكانت قدماه تغوصان في الطين، وكأنه عجينة نزقة ترفض أن تقاوم ولكنها تبتلع كل شيء. تصور الرجل رأسه يغوص في الطين، الأعمدة تتكسر، والزجاج يتناثر قرفاً من الصمت المريع، والأرض تنبع بالفناء. صرخ الرجل. ظل يصرخ منادياً أهل الحي ((أهل المدينة)) الطين يغمر هذه المدينة، استيقظوا يا أهل المدينة ((ولم يسمع أحد وكذلك كان الطين يرتفع، ينتفخ ويغلي، وأشباح الأنوار الخافتة من خلف الأسوار تتلاشى ولكنها لا تموت الطين يولد وهناك يجب أن يموت.

 

يجب أن أصرخ. وجعل يصرخ إلى أن لصقت قدماه بالطين فانتفض مذعوراً وسحب قدميه وجعل يركض بصعوبة عبر الطريق الذي اختفى تماماً تحت وطأة الطبقة الجديدة))( ).

 

ومما يلفت الانتباه في نصوص قصصية عديدة نُشِرَت إبان هذه المرحلة حالة التوق للحرية والرغبة بالانفلات من الأشياء المقيدة للإنسان مع سعي دؤوب إلى التخلص من الجوامد والحرص الحثيث على إعطاء الأفكار بعداً رمزياً خلال بعض الأحداث التي تحمل ظواهر عجائبية تتمثل فيما يشاهده بعض الناس من أمور ليس من المعتاد أن تحدث في الواقع، قاصدين خلال ذلك طبعاً إضفاء الخصب والغنى على النصوص، إضافة إلى إعطاء الأحداث بعداً إيحائياً مع شيء من الجذب والتشويق الذي يحيي النص والحدث ويبعثه من عاديته حيث تتخذ الأشياء بعداً استعارياً متميزاً:

((قرع الصيف الباب بلطف وانتظر قليلاً قبل أن يدخل، وقد حدثنا الجيران أنهم شاهدوه يتصبب عرقاً من الخجل فيما هو يطرد الذباب، يتوالد بكثرة في الطرف الآخر من المدينة ومن ثم ينطلق مرحاً ليلتصق بالأشياء.

 

وكانت الأشياء تتحرك بتثاقل عبر الممرات والطرق وداخل الغرف والأسرة الحنونة والقاسية، وسرعان ما انتشرت في الحنايا رغبات في الانفلات والانطلاق، فصهلت الحيوانات الذكية وابتدأ السباق))( ).

 

وحين تغدو الحيوانات وسيلة للتعبير عن حاجات الإنسان فإن الأحداث قد تُحمَّل أكثر ما تحتمل مثلما حدث مع الجياد في قصص عبد الله عبد لدرجة أن بعض الجياد صارت تتحدث عن مفاهيم العدل والظلم والحرية:

((ليت الحاجبتين لم تضيعا في ذلك اليوم ولم أرَ ما حولي ولم أفهم. إذ ماذا يجدي الواحد أن يشعر بالظلم إذا كان عاجزاً أن يفعل شيئاً لنفسه سوى أن يتألم))( ).

 

إن الوعي يغدو مجلبة للإحساس بالألم لدى الإنسان وكذا لدى الحيوان، لكن التجارب أثبتت أن الوعي مهما كانت عقابيله فإنه أفضل بكثير من الجهل بالأشياء، وفهم جزئيات الأمور ضرورة ملحة وتغدو الذاكرة والأحداث القديمة مجالاً رحباً للشرود وأملاً ربما لم يعد في متناول الأيدي للعيش في جنباته لأن الظروف تغيرت:

((في ما مضى كان يجهل تماماً طبيعة عمله. ويجهل أكثر ماذا يعني هو بالنسبة للبستان... وقد ظن ذات مرة أن كل عمله ينحصر في هذه النقطة بالذات أن يشد إلى زند الناعورة الخشبي ليحدث ذلك الصوت كي يدخل السرور على قلوب أفراد العائلة. وكان يُسرّ لذلك أيما سرور... لكنه ما لبث بمرور الأيام أن سئم هذه اللعبة. وتسرب الملل إلى نفسه ولم يجد ما يشغل به وقته سوى أن يسرح مع أفكاره، ويطير إلى الماضي يوم كان يعيش في البرية مع (شرشي) ينتقلان بين القرى يحملان البضائع ويقايضان عليها بالبيض والزبدة والعسل والزبيب))( ).

 

إن الوقوف عند بعض التقنيات والعناصر الفنية البارزة لا يعني أنها وحدها التي حضرت، إنما شكل حضورها ظاهرة استحقت الوقوف، لأن محاولات التجديد والتنويعات الفنية لم تخلُ منها نصوص كثيرة، كل منها حاول ترك بصمته الخاصة خلال ما اعتقد أنه الأجدى فناً ومقولة.

ظواهر فنية أخرى:

إن الظواهر الفنية التي برزت في هذه المرحلة هي كثيرة لأن الشغل على الفني شكل أحد أهم ما ابتغاه القاصون يومذاك، وقد نجح عدد هائل منهم في تحقيق مبتغاه لأن وعياً شديداً كان يسيطر إضافة إلى موهبة وحرص دائم على الإتيان بجديد..

فقد شكلت القصة القصيرة التي حاولت الاستفادة من إمكانية التلاقح مع الأجناس الأخرى، حضوراً ملفتاً في عدد من القصص المنشورة آنئذ. ومن هذه القصص ما اتكأ على الحوار اتكاء كلياً مستفيداً من إمكانيات المسرح الدرامية، ورشاقة الحوار والكثافة في اللغة، إضافة إلى كون ذلك شكلاً من أشكال التوسل للتجريب والتحديث.

فيما حاولت قصص أخرى الاتكاء على البناء المقطعي في تشكلها، وهي في هذه البناءات المقطعية قد طالها الكثير من التقديم والتأخير وسواه، وقد حاولت بعضها الاستفادة من طرق كتابة السيناريو معتمدة على مسمياته، وهي في تجلياتها المتعددة تفتح الأبواب أمام المتلقي ليعيد ترتيب الأجزاء وخلق الأحداث من جديد بعد أن فتتها القاص متقصداً. من ذلك قصة بعنوان ((معرض عن حياة عاشق قديم)):

((اللوحة السابعة: قيس يبكي، آلمته الصفعة دون شك، الفقير يربت على كتفه ويهدهده.

((اللوحة الثامنة: صور تقارير قديمة يرد فيها اسم قيس كثيراً، رجال مدير السجن فقدوا آثار السجين، فأعادوا فسخ تقاريرهم.

اللوحة الأخيرة: ليلى في النافذة تومئ، قال الفقير لقيس وهو يتأمله: أنت شاب جميل، طلب إليه قيس أن يرافقه كي يرى ليلى، لكن الفقير اعتذر، فاللياقة تقتضي العاشق أن يذهب وحيداً.

 

نداء إلى باعة الألوان:

كتب النداء بخط جميل ووضع على مقربة من اللوحة الأخيرة: لم تنته الحكاية بعد، فهناك لوحات أخرى لم تكتمل بانتظار توفر الألوان المناسبة في الأسواق المحلية))( ).

إن المقبوس السابق جزء من قصة تحاول الاستفادة من تقنيات عديدة منها المشاهد المتلاحقة، والتناص، والفن التشكيلي وهذا كله يدخل في إطار محاولات التجريب التي شكلت مساراً واضحاً في عقد السبعينات.

وثمة قصص حاولت أن تستفيد بصراحة أكبر من التجريب الذي يمكن أن تقدمه قصة المقاطع بمختلف أشكالها التي حققت وجودها بغض النظر عن طريقة التقطيع، ويمكن لنا أن نعثر على تجليات عديدة إذ شكل موضوع الحب أحد أركانها:

((1-إلى المساعد (د) للتحقيق وإعلامنا النتيجة.

2-السيد المدير.. إشارة إلى الكتاب السري رقم 975/س تاريخ 316 المرفوع إلينا من قبل عناصر المراقبة يرجى إعلامنا فيما إذا كانت الآنسة (س) الزائرة الصحية لديكم ذات سلوك مشبوه والإعادة مع الشكر.

3-السيد المدير إشارة لكتابكم رقم بلا تاريخ 9/3 المتضمن الرد على كتابنا رقم 975/س/2 تاريخ 7/3 المتضمن الرد نعيد إليكم كتابكم المذكور طالبين بيان وجهة نظركم في الموضوع من الوجهة الأخلاقية لا السياسية.

4-وفي ليلة الخميس 12/2 بينما كنت أقوم بمهام عملي شاهدتها تدخل بيت المدعو (ع) ولم تخرج منه حتى انتهاء نوبتي، كما أنها شوهدت وإياه في اليوم السابق في مطعم البحيرة يأكلان السمك ويشربان البيرة.

5-كما نقترح توجيه كتاب شكر للآنسة (س) وذلك للجهود التي بذلتها في إسعاف الجرحى وتفانيها في السهر عليهم رغم إصابتها بجرح في ساقها))( ).

إن المقبوس السابق يكشف إمكانية تحويل المادة الوثائقية الرسمية إلى قصة قصيرة لها خصوصيتها عن طريق كثير من الشغل الفني، وإعادة بلورة الأمور لتصبح أكثر فنية.

وهناك قصص حاولت أن تستفيد بصراحة أكبر من التجريب الذي يمكن أن تقدمه الطريقة المسرحية أو التلفزيونية في الكتابة بحيث إن بعض الكتاب لم يتحرجوا من تقسيم القصة إلى مشاهد والإشارة إلى مواضع صمت، ومواضع حوار واستعمال مفردات واضحة تدل على ذلك مثل (المشهد الأول- حوار- صمت- وصف خارجي...).

وقد كانت جمل قصيرة هي التي تكوّن القصة، ويمكن أن نستشهد بالمقبوس التالي من قصة بعنوان: ((موت في الجانب المضاء)):

((المشهد الأول:

تركت مدينتها، وسافرت في سيارة عادية نحو دمشق.

مرّت بمدن كثيرة متشابهة، كان همها الوحيد هو الاتفاق معه حول الرحيل بعيداً كما أخبرها في برقية خاصة.. لأن لقاءه الأخير معها كان بداية متاعب لا تنتهي، لقد قالت له أشياء كثيرة.. صرخت.. ضحكت.. بكت.. ثم تركته!

2-حوار

-قبل خمس سنوات كانت رسائلك تطاردني، كنت تريدني.

-كنت بعيدة.

-والآن.

-اختلف الموضوع.

(صمت)

-أوافق على رحيلك، ولكنني سأنتظرك عند الجسر القديم كشجرة.

-لا تفعلي، لن أعود!

-سأنتظرك كأرض بور.

-لن أعود.

3-وصف خارجي.

كل شيء كان في دمشق عادياً

ابتسامات الناس، طريقة كلامهم، معاملاتهم البسيطة والمعقدة، حتى مرور السيارات بازدحامه وفوضاه وكان مألوفاً لمن اعتاد المرور في شوارعها))( ).

إن قراءة بعض المشاهد المسرحية أو التلفزيونية تكشف أن كتابتها لا تختلف عن كتابة هذا النمط من القص ومثلما يتكئ السيناريو على مخرج يحوله إلى مادة بصرية تتجلى أمام المشاهد، فإن المخرج في القصة هو المتلقي الذي يجد نفسه مجبراً على إعادة بلورة النص ووصل المقاطع ببعضها، وإجراء مونتاجات وتوصيلات بين مختلف أجزاء النص.

وتحدث قاص آخر بطريقة مسهبة عن مجموعة من الموضوعات كأنه مخرج تلفزيوني يسيّر حركة الكاميرا ويتابع كل نأمة فيه، وتتواشج المداليل الرمزية مع الأبعاد المباشرة لمعاني الكلمات:

((فلم قصير جداً، لا قيمة للأزمنة فيه، أبيض وأسود.

لقطة ضيقة لمسمار يدق في لوح خشبي، ترتفع الكاميرا قليلاً فتبدو عدة ألواح متجانبة، متراصة، وصفوفاً متوازية من المسامير الكبيرة، تثبت الأخشاب إلى بعضها موحية بالمتانة والقوة.

تتحرك الكاميرا أفقياً نحو وجه الرجل، فيبدو منهمكاً في عمله، ووجهه ينضح عرقاً.

صوت خارجي: لقد جن نوح.

يلتفت نوح باتجاه الكاميرا بسرعة يحدق بها لحظة ثم يعود للعمل من جديد.

-قطع-

لقطة للبحر في قمة هيجانه ومحاولته التغلب على حجمه.

-قطع-

فتاتان عاريتان- تتبادلان الغزل في فراش واحد

صوت خارجي: ما هذا؟

تنتفض إحداهما، تقترب الكاميرا من وجهها، عيناها حادتان، نظراتها جرئية ثابتة، كلماتها واضحة اللفظ: منذ مئات السنين فعلتها سافوا، فلِمَ العجب؟

-قطع-

-نوح وسفينته التي بدأت تكتمل/ دمج.

-طائرات فانتوم تقصف.

يرافق المشهد صوت خارجي: إننا نقدم الهدايا للأطفال في عيد الميلاد..))( ).

إن المتلقي حين يقرأ هذا المقبوس يمكنه أن يبني تصوراً بصرياً لمجموع الأحداث التي قرأها، بخاصة أن القاص قد أعطاه عدداً من المفاتيح لاختبار مقدرته التخييلية ثم تثوير طاقاته الكامنة، ودفعه إلى إعادة كتابة النص بطريقته هو مع المحافظة على روح القص والمقولة والرؤية التي يريد إيصالها.

 

ملاحيظ فنية:

إن الحديث عن الجوانب الفنية في هذه المرحلة يقتضي الإشارة إلى أن التوفيق لم يكن حليف الجميع، إذ حاول عديدون الاقتراب من هذه التقنية أو تلك ولم يفلحوا، وقد سعى بعض القاصين إلى الاستفادة من سيرته الذاتية التي تكاد تطغى على عالم قصته، إلا أنه لم يبق منها إلا الجانب الشعوري، وانهار البناء القصصي لأن الذاتية إذا طغت على الأحداث تميتها، وهذا يلحظ في كثير من قصص المرأة، بخاصة تجربة كوليت خوري التي تملك لغة منسابة لكنها أميل إلى التعبير عن جوانب عاطفية بمفردات ذات مداليل شعرية إلى حد كبير مع انعدام التصعيد الدرامي وحصول الانسياب اللغوي والتداخل الذي لا يكون محسوباً من وجهة البناء:

((أنا ما اشتريته، قدموه لي هدية، قارئ مسن حمله إلي ذات يوم قائلاً: هذا المخلوق يذكرني بك. واحتفظت بالعندليب.. أنا ما اشتريته لأنني من هؤلاء الذين لا يخطر ببالهم أن يشتروا كائناً حياً مهما صغر حجمه أو قدره، ولا أن يسجنوا نفساً عظم شأنها أو تفه...)( ).

 

وهناك تجليات متميزة لاستفادة بعض القاصين من جوانبهم السيرية عبر اقتناص الدرامي وتكثيفه وتقديمه للمتلقي بصورة فنية متميزة بل بسخرية جارحة أحياناً:

((كان حسن يرفع الرفش مترعاً بالطمي الأسود من مقر مستودع مياه صغير ويطوح به خارجاً، كان يزيد من سرعته كلما أحس باقتراب أحد منه على أمل أن يراه المعلم ويعطيه أجراً كاملاً.

انقبض قلبه عندما تذكر إبراهيم كويتع. تصوره وهو يقول بدهاء، نصف أجر لنصف رجل عدل، هذا هو العدل وإلا فلا!

قلت لكم يا أخوان الدنيا لا تمشي بالأستذة وطق الحنك،. شوفوا واعتبروا رفع حسن يده كي يمسح العرق عن جبينه، جاءه صوت مألوف من خلفه: مبروك عليك هل لقيت شغلاً- مليح؟))( ).

إن إشارات عديدة تشير إلى ما حدث واقعاً وإن لم يكن حرفياً، وقد حرص القاص على أن يكون اسم الشخص مثل اسمه وقد تابع سخريته قائلاً:

"كيف تشغل الشاب بنصف أجر يا معلم، حرام عليك. هذا أستاذ مدرسة كرمى للعذراء حاسبه بأجر كامل… نخر المعلم وقال مقلداً لهجة عليش شخيدي: كرمى للعذراء حاسبه بأجر كامل وما علاقتك أنت! ابتلع لسانك( )".

ويتضح من المقبوسين السابقين أن المشكلة ليست في استفادتنا من أشياء تحدث في حياتنا اليومية، بل إن المشكلة في آلية المعالجة وطريقة الكتابة، وهذا طبيعي في كل الفنون والأجناس الأدبية.

وهناك قاصون كانوا يبدؤون قصصهم كما لو أنّه يكتب مقالة، متناسياً أنه يكتب قصة قصيرة، إذ تطول القصة لديه لتصبح عشرات الصفحات دون جدوى، هاهو أحدهم يتحدث عن كاتب معروف من مدينة مغمورة وحادثة معينة مرت في حياته:

"إنها تبدأ برواية كبيرة ألفها (ب) في مرحلة متتالية من مراحل إنتاجه الأدبي.

 

فكل كاتب على وجه التقريب يمرّ بفترة يغلب فيها الخيال على إلهامه الفني، ويستمد مواضيع كتابته من أفكار عامة أو مشاعر إنسانية نبيلة يفيض بها وجدانه الحي، فيكتب أشياء لا يراها في الواقع، ولكن يمكن أن تقع ويغالي في إبراز مشكلة معينة تنطوي عليها هذه الأشياء، وهدفه في ذ