أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتبة: إبتسام إبراهيم تريسي

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

قاصة وروائية من سوريا

 

لها مجموعة بعنوان :

جذور ميتة ، حائزة على المركز الأول في جائزة دار سعاد الصباح لعام 2001

 

صدر لها حديثا:

 جبل السماق .

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

اللهاث الأخير

حصاد العمر

نورا الفجر

ستة ألوان 

غير صالح للنشر

ألف باء الحب

ذات مساء كئيب

مواجهة

وصية المرحوم

 

 

ستة ألوان

لوجه مدينة منسيّة

 

 

صباح الخميس 30/آذار/2000

1 ـ رمادي ...

استيقظت مذعورة ، كعادتي كل صباح ، عندما يخنق السعال طفلي بأصابعه الشرسة ، حملته بين ذراعيّ هززته قليلاً ، بللت فمه بقطرات من الماء محاولة مساعدته على طرد البلغم المتشبث بخلايا حنجرته ، امتدت الزرقة حول عينيه الجميلتين وفمه الصغير ، يرافقها صوت المؤذن في الجامع الكبير الملاصق لبيتنا : ــ (( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )) أخوكم المرحوم ياسين الحداد ، انتقل إلى رحمة الله تعالى . الصلاة على الجنازة الساعة السابعة .

تشنجت يد طفلي الممتدة إلى أنفه في محاولة يائسة لدفع الهواء إليه . يتابع المؤذن :

ـ (( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة )) ... الفاتحة .

ارتديت ملابسي بسرعة ، وخرجت قاصدة طبيبة الحي ..

2 ـ أبيض ...

كان الصباح الربيعي يبسم في عيون الأطفال المتجهين إلى مدارسهم ، بقلوب تتقافز فرحاً وخطوات ترقص لمستقبل قادم من بعيد ، الشرائط الحمر والبيض في شعور الفتيات تضحك لزهرات المشمش الصغيرة في أوّل تفتحها .

الصبيان يتراكضون في مرح مشاكس ، يسبقون الزمن المقيت ، وأنا أحث الخطى حاملة طفلي باتجاه الساحة التي تبدو مزدحمة على غير العادة في الصباح الباكر .

عند بيت محمود السعيد كانت سلال الورد تقف في الطابور ، وابنه الشاب حسن يغسل السيارة ويلمعها استعداداً لزفة العروس هذا المساء ، أطلت أم حسن من النافذة ، نادت ابنها :

ـ أريدك أن تذهب إلى السوق ، ما زال لدي الكثير من الأعمال . والتفتت إلى المستخدمة التي كانت تنظف النوافذ ، أعطتها ملحوظة صغيرة بصوت عال ورفيع .. ودلفت إلى البيت .

3 ـ أخضر ...

عندما وصلت إلى الساحة المتفرعة إلى أربع جهات ، كانت الزمامير تعلو صاخبة والأعلام الخضراء والحمراء تزين السيارات ، وأعواد الورد والغار في أيدي الصغار المحتشدين لاستقبال زائر بيت الله الحرام ، كان الحاج محمد بلحيته البيضاء ، وقامته المهيبة يتوسط مستقبليه ، بينما فرقة السيف تقوم باستعراض راقص على أنغام المزاهر والدفوف ، بإيقاع منتظم بسيط ...

صوت قائد الفرقة ينادي : الفاتحة على روح النبي ، وعقبال العودة .

سارت قافلة المستقبلين شرقاً ، تداخلت أصوات الراقصين الفرحة بعودة الحاج مع صوت نائح :

ـ الفاتحة على روح المرحوم .

وعلا صوت قائد الفرقة الذي أصبح بمحاذاة القافلة التي تشيع المرحوم باتجاه الغرب :

ـ الفاتحة على روح النبي .

4 ـ أصفر ...

عركت الطبيبة هند عينيها من آثار النوم وتمطت ، أخذت الطفل من يدي ، فحصت الصدر بسماعتها و بكسل واضح ، نقلت خطوة متثاقلة باتجاه النافذة ، نظرت إلى البعيد ، لم يكن الطفل ولا أنا ما تنظر إليه :

طفلك بحاجة إلى أوكسجين , الأفضل نقله إلى المشفى سأعطيه مهدئاً ، لا أستطيع عمل شيء له .

قلبي ينتفض بين ضلوعي ، الصفرة تغطي وجه طفلي ، يداه الصغيرتان المرتعشتان استسلمتا ، وارتمتا بعيداً عن صدري ...

5 ـ أحمر ...

كانت أغرودة طويلة تمدّ عنقها الأفعواني من نافذة إحدى غرف المشفى ، تبعتها أخرى حلزونية منكمشة ، وثالثة كصافرة إنذار ..

صالة الاستقبال متخمة بباقات الورد الملونة التي يرقص الربيع في أجفانها الناعسة ، وتضج البهجة في وجناتها ..

استقبلتني الموظفة بابتسامة عريضة :

ـ إنه أول مولود لمدير المنطقة جاءه بعد سبع سنوات ...

ـ طفلي يعاني من تشنج في القصبات ، الزرقة تحتل وجهه وهو بحاجة لأوكسجين .

ـ لم يأت الطبيب بعد !

ـ الطبيب المقيم ؟

ـ في الخارج ...

أغرودة عالية تشق صدري .. سعال ، ضحكات ، تشنج صدر طفلي بقسوة ، اختلج بين يدي ، اجتاحه عرق بارد ... و ... تصرخ حنجرتي الذبيحة :

ـ أرجوكم أوكسجين .

ـ سيأتي الطبيب في التاسعة .

طفلي يتمتم بصعوبة : ما ...

 6 ـ أسود ...

أنكفئ على درجات المشفى محتضنة طفلي محاولة إرجاعه إلى رحمي .. ! أصوات تدق رأسي بمطرقة نحاسية عتيقة ، أحذية ملمعة .. دفوف .. مزاهر .. طبول .. أغاريد .. صوت المؤذن : الفاتحة على روح .... خطوات أنيقة تطرق البلاط الناعم :

ـ ماذا تفعلين هنا أيتها السيدة ؟

أغص بالكلمات فتخرج تمتمة مبهمة من بين شفتي .

وجه الطبيب الشمعي المصقول يطالعني بابتسامة باردة مشيراً إلى الطفل : ما به ؟

ـ طفلي كان ... بحاجة ... للأوكسجين .

يمد يده المنشاة إلى شعره الأملس :

ـ آ ... على كلٍ هدئي من روعك لا يوجد لدينا في المشفى سوى حاضنة ، شُغلت هذا الصباح بابن مدير المنطقة ..تعلمين ... المشفى ذو إمكانيات متواضعة .

تستمر الدفوف .. دقات القلب تعلو .. تطرق أذني .. أعلام سوداء نساء متشحات بالسواد ... وباقات الورد في كل مكان !!

 

 

 

 مواجهة

 

  

لم يتطلب اتخاذ القرار وقتا ،

طوال عمري كنت أتردد في اتخاذ القرارات المصيرية ، فيبادر أخوتي لاتخاذها عني . انكفأتْ نظرتي حاملة لون الرماد المترسب أسفل الأفق الخريفي ، وألماً مازال ينخر الضلوع .

في طريقي إلى بيت المحامي لم أكن أحملُ تصورا واضحا للقضية ، ولم يكن يهمني أن أكسبها ، إصراري على المواجهة هو ما كنت أتسلح به ، بعد دهر من الخنوع للآخرين .

ربّما لأنّ الموضوع ، ولأوّل مرّة يتعلق بحياةٍ أخرى ، وليس بحياتي . ( وهل هناك أغلى من حياة شكرية ؟ ) .

حاولت كتم انفعالي وأنا أشرح للمحامي تفاصيل القضية ، متجاهلة تلك الدهشة التي اعتقلت فكه الأسفل فتدلى في حركة بلهاء .

كانت شكرية خانم تبرز لي في التفاصيل الدقيقة للحادث ، فاردة ً شعرها الطويل مثار دهشة شبان البلدة ، وثغرها المفتر عن ابتسامة عذبة لا يني يشجعني على المضي في المواجهة .

منذ اليوم الأول لدخول شكرية خانم الصف فرضت نوعا من الذهول المحبب مصحوبا بتزاحم لتلبية طلباتها التي لم تنطق بها ، كلّ التلميذات تحلّقن حولها يرقبن تدفق اللون من فرشاتها على جسد الورق الأبيض ، وتناثُر الياسمين ثلجا بين أصابعها ، وتحوّل الدفلى إلى آلهة تسطو على نبضات القلوب الصغيرة ، وتأسر العيون بلونها الناري المشرق .

مضى زمن طويل ، لا أعرف كم من السنوات . لكنّ تأثير شكرية خانم ، بقي ماثلا في حياتي حتى بعد رحيلها إلى مدينتها . طريقة المشي والكلام وأسلوب رمي الفرشاة في إناء الرسم .

اقتنيت القماش والألوان ، وبقيت الدفلى تمدّ رأسها بعناد من لوحاتي زمنا طويلا .

عندما أحكموا حصارهم حول روحي واعتقلوا سنوات شبابي ، تراكم الغبار على لوحاتي ، وأطاح الزحف الأصفر بنار الدفلى فاستحالت رمادا .

أيقظني المحامي من ذهولي بتكرار السؤال :

ـ هل أنت على يقين أنك تريدين إقامة الدعوى ؟

تدفق سيل النار في أحشائي ، تزاحمت الكلمات على شفتي ، وخرجت بإصرار لم أعرفه يوما ، حتى أني تساءلت عن أنفاس شكرية خانم اللاهثة التي تصاعد بخارها قريبا من حلقي ، وسمعت صوت ضحكتها تلك، التي سمّرتني على المقعد لسنوات ، وهي تشرح لفتيات ريفيات يتسربلن بالخجل والجهل عن أمور أنثوية من المفروض ـ كما كانت تقول ـ أن يعرفنها في هذه السن الحساسة . احمرّ وجهي فجأة ، وكلمات شكرية خانم عن التصميم والإرادة والحرية ، والحقوق التي نالتها الفتاة في المدن ، تزعزع كياني ، وتزرع بذرة تمرد ما لبثت أنا ماتت عطشا .

كنت أسمع بوضوح صوت المذياع الدخيل على عالمنا ، مصحوبا بدندنة شكرية خانم وذهول الطالبات . تخيّلت للحظات أني حققت كلّ ما حلمت به على مقاعد الدراسة . لكنّ وجه المحامي المتفرس بملامحي ، جعلني أستدير محتضنة حلمي المعاق ، مصحوبا بحسراتي الحارقة .

لملمت الكثير من الحزن وخبّأته في معطفي الشتوي وأنا أعبر الزقاق القديم ، وأطلّ على مزار الطفولة ، وملاعب الصبا . تجاوزت قلقي وأنا أحتضن بقايا الجمر على رأس النارجيلة ، ولا أشعر بلسعاتها .

سرحت في البعيد، وبين صحوة الحلم وغفوة العين ، سرقني ماض قريب إلى شوارع واسعة ، وبيوت أنيقة ، حيث التقيت ضالتي للمرّة الأولى .

ما زلت أذكر لقائي الأول بشكرية ، كيف انحنيت لألمس بتردد ذلك الندى المضرج بحمرة خفيفة ، تسحب الروح مع تأوهات يصدرها النسيم العابر بطراوتها . أذكر كيف سرّحت بصري في انثناء العود الملتف بخجل على قامتها المعتدلة . وكم استجديت صديقتي القديمة التي تنازلت عنها بعد تردد ، ونظرات الحسد من صديقاتي اللواتي أذهلهن منظرها حين زرنني بعد عودتي من السفر .

نظرة واحدة كانت تنفث حقدها سموما وهي تتطلع إلى شكرية بحسد لا يوصف ، نظرة أم محمود . يومها بخّرتها ، ورششت المكان ، وكسرت جرّة وراء جارتي الجديدة التي تثقب عينها رأس الجمل .

لم أنم تلك الليلة حتى اطمأننت على شكرية ، تنهدت في الصباح عندما رأيتها سليمة لم تصب بأذى . بسملت حولها ، وجلست أشرب نارجيلتي بارتياح .

كان الخريف يدق الباب بعنف ، ورياح تشرين تتسلق الفتحات والشقوق ، تهاجم الشرفة بضراوة هازّة الأبواب الضعيفة لقلبي . كنت أعرف أنّ الجو في هذه المنطقة الباردة لا يناسب شكرية التي اعتادت دفء البحر والطقوس المدارية ، لكني تحايلت على الطقس بمزيد من الحطب والحرص على إغلاق النوافذ وأبواب الشرفة ، كي لا يتسرب الصقيع ليلا في غفلة مني إلى الجسد الطري فيقتله .

مرّ الشتاء ، وحمل الربيع إليّ تنهيدة الراحة ، لم أعد أهتم للنوافذ ، وسمحت لها بالتربع على الشرفة ، لكنّ أعين الجارات الحاسدة بقيت تنظر إلى تلك الغريبة الرائعة الجمال بحسد لا يوصف ، كانت أم محمود تتكئ على سور شرفتها العاري ، وتمدّ جسدها إلى الأمام دافعة بصدرها الضخم أمامها في حركة استفزازية ، وهي تصفر بإعجاب ، وتتساءل عن الطريقة التي جعلت شكرية تبدو بهذا الجمال والتألق بعد شتاء قارص . وسألتني وهي تغمز بعينها :

ـ صحيح ، لماذا أسميتها شكرية ؟ إنه اسم قديم وبشع .

دمعت عينيّ خلسة حين تذكرت شكرية خانم بجمالها اللافت للنظر ، وحديثها ، ومرحها ، كانت روحا جديدة ، لم تلبث البلدة بعد رحيلها أن شعرت بالموت يغزو صدور بناتها ، فأغلقت الأبواب ، وأسدل حجاب العتمة والجهل من جديد .

بعد تراخي قبضة المشنقة عن عنقي بموت أبي وأمي ورحيل أخوتي إلى العاصمة ، قررت أن أجد تسلية لحياتي المقفرة من الأولاد والزوج ، فشرّعت النوافذ وكدّست الأحبة على سور الشرفة . كانت النسوة يتزاحمن في المساء الصيفي الرطب أمام أزهاري ، يدخن النارجيلة ، ويتجاذبن الأخبار ، ويستمتعن بغروب مختلف تكتسحه روائح الفل والياسمين وعطر الليل* الذي يخز صدر أم محمود المصابة بالربو فلا تستطيع احتمال رائحته فتنسحب قبل نهاية السهرة .

كنت دائما أخشى نظرة أم محمود ، الجارات يتهامسن :

ـ لقد نظرت إلى شجرة كرز باسقة فأصبحت رمادا بين ساعة وأخرى .

استيقظت هذا الصباح على يد من أثير تهزني بعنف ، اتجهت إلى الشرفة بحركة آلية ، شيء ما ناداني ، فوقع القلب بين قدميّ ، هي ، شكرية ... كانت منطرحة على الأرض ، وقد شحب لونها ، تطلعتُ إلى التربة ، لونٌ أسود ممزوج بقطرات حمراء صبغت البلاط الأبيض ، صرخت ، تتالت صرخاتي . الجارات اجتمعن ، إحداهن همست :

ـ هي أم محمود ، لا أحد يجرؤ على فعل ذلك غيرها ، نظرتها لا يقف عليها طبيب .

صرخت :

ـ بل قتلتها ، لقد قتلت حلمي ، لكن لا ، شكرية خانم لن تموت  

نظرات الجارات أفصحت عن عدم فهم ، وتعاطف ، وتساؤل قلق ، ( هل جُننت ؟ ) .

لم يكن المحامي ـ الذي درس في فرنسا ـ يعتقد ذلك وهو يشرح للقاضي الأسباب التي جعلت موكلته تقيم الدعوى على جارتها ـ التي تصيب بالعين ـ لأنه وهو المثقف الذي لا يؤمن بالغيبيات رأى بأم عينه، كيف اختلّ اللون الأخضر لشكرية ، فتهاوت عن عرشها في الشرفة ويبست خلال ساعات وكأنّها لم تكن .

فاجأني القاضي بحكم لصالحي ، صرخة النصر تدوي في القاعة ، والجارات يحملنني على الأكتاف .

 

* * *

القيظ الذي سحب ماء الجسد ففار بالعطش، وتشقق اللسان ،جعلني أطلب جرعة الماء ، وأفتح عينيّ على منظر لن أنساه أبدا . كانت الزهور على شرفتي تحني هاماتها باتجاه الأرض ، والحرائق امتدت إلى الأخضر فتكرمش الورق بشكل أدمى قلبي ، لم تفلح قطرات الماء التي امتصتها التربة بشراهة في استعادة أحبائي ،

بقي سلطان الزهور محني الرأس ، تنفث أوراقه رائحة كريهة لاحتجاج صامت ، وزهر الجميل باهت اللون والحضور ، وأصيص شكرية الفارغ ينز سواده ارتعاشا لذكرى الخضرة البهية.

والشمس الحارقة تضحك بشماتة وسط سماء لا زرقة فيها .

تموز ـ 2004

* ـ عطر الليل نبتة واخزة الرائحة ، لا ينتشر عطرها إلا ليلا ـ يسميها أخوتنا في العراق ـ شبوي

 

 

 

 اللهاث الأخير

 

1

يوميا يدفعك لهاثك لامتطاء الجبل ، تقف في أعلى بقعة ، تسرح ببصرك عبر الأفق ، تعانق زرقة المتوسط ، تعبر سفن الرحالة روبنسون البحر !!

 

تشع قبة الصخرة ، يتقاطر أبناء راشد الحدادين من الكرك متهالكين على بساتينها .. مادين جذورهم عميقا في تربتها ، تستدير غربا ، وتنزلق خطواتك باتجاه المخيم ..

 

لهاث 2

 

تعييك رحلة البحث عن أنثاك ، تتدفأ ببقايا أحلامك واستحضارها ، تتدثر بوهم حضورها ... مخدتك الفارغة تشتم عطرها ، ترسم لها عيونا ، تغرق في عسلهما ، تشكل جسدها وفقا لرغباتك ، تصفعها .. تقبلها .. تضمها ، وتغفو ..

 

لهاث 3

 

تتلصص عيناك في العتمة ، خلف النوافذ المشرعة لهواء الصيف الثقيل تنام الأمنيات فاضحة عريها ورغباتك المجنونة ..

 

لهاث 4

 

تعبث بمفاتيح الآلة العجيبة ، تهيم بحثا عن أنثى افتراضية ، هذه ؟ لا ... تلك ! لا .. لا

كلهن أطياف .. برد في ضلوعك ويدك ترتجف شوقا لعناق دافئ ..

 

اللهاث الأخير

 

تطل ُّ الطائرات برؤوسها الصلبة ، تغوص غمازتان في فجوة وجهك المتعب ، ترفع صوت المسجل عاليا ، لا يغطي هدير الطائرات !! تدير ظهرك للنافذة ، تضع السماعات على أذنيك .. أغنية دافئة تشير بإصبعها : ( اقترب )

تقترب من النافذة ..

يتهاوى البناء المقابل ، تنسف الشرفة ، يتساقط ياسمينها ، تطير أصص الحبق ناثرة في الجو رائحة البارود !! تكتم صرختك ، تحمل صورتها تلصقها فوق زجاج النافذة ، تحدثك : ( إنه وهم ) تتابع تمايلك مع الأنغام المنبعثة من أذنيك ، يتابع جسدك رقصه على إيقاعها المنتظم ..

تدخل أمك ، إشارات يديها تفصحان عن كارثة ، فزع عينيها يخبرك بمأساة ، يداها تلطمان الخد بقسوة ، تشدان الشعر ، تنتبه ( أحمر يصبغ صدرها ) !!!

ترتعد استغرابا ، تنزع السماعات ، أمك تتابع تحريك شفتيها ،

أذناك تتابعان طنينا مزعجا

أمك تصرخ ،

أذناك تديران اسطوانة جديدة

أمك .. تقع .. أرضا ً

تصرخ ببلاهة :

ـ أكان دما حقيقيا ً ؟

2/1/2003

 

  

اللهاث الثاني

حصاد العمر

 

 

احتضن سماعة الهاتف بدموعه .. هاجمته طفولة في الصوت لم تلامس أذنه ، كانت مقيمة هناك تحت جلده ، تنسم رائحة فل وحبق ، ورآه يركض في البرية القريبة حاملا قطا بريا قذرا ، وآثار دماء على كفيه ، ناداه بلهفة وفزع ،

ردّ عليه الصوت المحايد من سماعة الهاتف :

ـ لم تقل لي يا حاج كم نمرة قدمك ؟

الصوت المحايد يهمس بالطلب للمرة المئة ، للمرة الألف ، لم يعد يدري كم من المرات سمع هذا السؤال ، ربما منذ ثلاثين سنة يتكرر على مسمعه ، تطلع إلى قدميه ، حدّق مليا : يا لك من عجوز تقف عند حدود الأمس ولا تتطور ، ما زالت قدمك تحافظ على نفس النمرة . !!!

في كلّ مكالمة يسأله ذلك الصوت الذي لا ينتمي إلى حواسه نفس السؤال ، وفي كل مرة يردد نفس الإجابة المصحوبة بتنهيدة الزمن المر : لو أنها تتغير !!

عبرت الحرقة مشاعره الهرمة ، سالت الدموع مغطية لحيته البيضاء ، انتزعت ابنته السماعة من يده ، بلهفة سألته عن الزوجة التي لا تعرف إلى الآن ملامحها ، عن الأولاد ، عن .. وتوقف صوتها منصتا لتذمره ، كان صوته المحايد يسأل :

ـ أما زالت الطرقات عندنا مليئة بالحفر ؟ ، والماء من أين تحصلون عليه ؟ ، أيوجد عندكم سخان ؟ أما زلتم تقفون في الطابور لشراء الخبز ؟ أم أمك ما زالت تقف أمام التنور ؟ أنا قلق ، زوجتي تريد زيارة البلد ، و أخشى أن ...

كالعادة أسقط في يدها ، ماذا تقول ؟ كيف تفصّل مدينة جميلة على مقاس الزوجة الأسبانية المثقفة وزوجها الطبيب الذي لم يعد يذكر الخن والدجاج ، والبراري ، وخبز التنور ، والسير حافيا في الأزقة الموحلة ، ومطاردة الأرانب ، وجز الحشائش لتصنع أمه منها وجبة غداء ..!

أمه المقعدة بقيت في كرسيها بعيدا ، ترفض تناول السماعة والدموع تبلل صفحات القرآن في حضنها ، الصوت المحايد يهمس لأخته  

ـ لا بأس اتركيها على راحتها .

يحضن سبحته وينزوي مع ذكرياته أمام الباب المتداعي ، يراه منحدرا من رأس الزقاق ، نفس الخطى المتعثرة الفرحة ، نفس الانطلاقة ، يلوّح بيده حاملا شيئا ما .. كان دائما يفرح بالأشياء البسيطة ، يرميها في حجر والده بفخر ، ويباهي رفاقه بها ، عشبة غريبة ، حطب يجمعه من البرية ، تنك فارغ ، وسحالي ، وسلحفاة غضة ! مازال وجهه ينضح بالعرق ، ولهاثه يعلو في الذاكرة ..

في المدرسة كان يباهي بأنّه الأوّل دائما رغم هزاله ! في الجامعة كان لا يراه إلا ليطلب المصاريف التي تؤمنها أخته المنكفئة على ماكينة الخياطة .. و ...!!

يقف أمامه فرحا ، يرفع إليه عينين ضعيفتي النظر ، يحاول تذكر ملامحه ، يبسم موزع البريد وهو يلوّح بما في يده :

ـ طرد لك يا حاج من بلاد الأجانب ، إنه من الغائب .

تسقط السبحة ، تنهض قامته المنحنية ، تشتدّ بفرحها ، يتناول الطرد بيد ٍ مرتعشة ، يهمس تلك الكلمات التي كررها الصوت المحايد في الهاتف : حذاء إيطالي ، جلد طبيعي ، مئة بالمئة ، مئة بالمئة ..! دخل البيت ، أخرج الهدية الغالية الثمن ، تساقط فرحه على رؤوس من في البيت ، تهلل وجه ابنته ، توقفت يد الحاجة عن عد حبات السبحة والأيام المنقضية ، جلد دافئ ناعم لونه بلون طين القرية ، بلون الشتاء البارد ، هذه المرة لم ينس النمرة .. لم ينس النمرة ..

وضع فردتي الحذاء أرضا ، كلاهما كانت للقدم اليسرى !

1/ 2 / 2003

 

 

نورا الفجر

 

 

أنّت المساءات الموجعة في لحم ذاكرتي ، تجاوب مع أنينها قلبي ، تمطّت في حر آب اللاهب ، نفثت وجعها بخارا ساخنا في عروقي ...

أنظر إلى وجهي !

تهتز المرآة ، تسيل دموعها ، باردة تغسل سطحها الأملس ...

تسيل دموعي حارّة تغسل قلبي الصدئ ..

أتحسس أسفل العين بأناملي المتيبسة ... آه يا نورا ...(( آه يا نورا ، يا طلعة الفجر وحضورا )) وتمتدّ يد جدتي من عتمة الأمس البعيد ، تلمس بحنانها ودمعها خشب السرير ، تضغط سنديانه بقوة ، تهزه بقلق ، ينخفض صوتها تدريجيا في محاولة لجعلي أنام ،

آه يا نورا .. ويتلاشى في محاولة لخنق الدمع ..

تختلس يدها في سرعة عجيبة لمسة أسفل العين لتمسح الدمع المتراكم هناك في حفرة بنية اللون !

تترك السرير ، تسرح نظرتها بعيدا عبر النافذة ، مخترقة السهول ، تتنهد ، تزفر الحسرة ..

فأشدّ يدها العجفاء بعناد ، تعود لتهز السرير ، وتهمس بأغنيتها .. آه يا نورا ... كم تشبهين الفجر في حضوره ! وكم ! ..

وتغصّ بدمعها .. صوتها تبتلعه الدموع ، ويدها على بطنها . لم أكن أعرف وقتها لماذا كانت جدتي تبكي كلّما غنّت لي ، وكلما سرحت ببصرها عبر النافذة مختصرة السهول والغابات ، وهي تلمس السنديان بقوة ، وتقبض على بطنها متوجعة .. آه يا نورا

في طفولتي البعيدة تلك ، كنت أجلس بجانبها أمام الباب الخارجي في فسحة أمام الدار تحت فيء البيلسان ، تقبض على يدي الصغيرة وتدمع عينها ، تغبّ نفسا عميقا من سيجارتها اللف ، وتتنهد : آه يا نورا

المرآة الملساء تريني فسحة الدار الخلفية ، زوجي هناك يستلقي على خوان عتيق ، يتدثر ببطانية ، ويرقب أصص الزرع والدجاجات ! أحدّق في الخضرة الطافية في ماء العين ! كنت في الرابعة عشرة حين سمعت أول عبارة غزل فيهما ، وكانت الأخيرة !

تسمّر لحظة ، وقعت الناي من يده ، وشهق : يا إلهي حديقة زهور في عينيها !

قدماه مضت باتجاه الضيعة ، قدماي مشتا باتجاه الضياع .. اهتزّ شيء في أطرافي ، برد تخلل فيها ، نظرتي ذبلت ، وأصبت بالذهول ..

كانت جدتي تقف بقامتها القصيرة النحيلة ، وتقول :

ـ ابقي جالسة يا نورا .. الفجر لا ينهض من نومه إلا حين تدغدغه الشمس بدفئها ، وتتأوه .. تنحسر ابتسامتها عن أسنان متهالكة ، وتعيد نظرتها إلى الأفق .

جدتي في ذلك الزمان المغرق في عتمته كانت تعي نهوض جسدي من ترابه ، وتفهم ذهول نظراتي ، حتى أنها حدثتني ذات مساء :

ـ نورا ، سمعت بحكاية عمتك ؟

لم يكن أحد في بيتنا يذكر أنّ لي عمة .. أعرف أنّ جدتي لم تنجب غير الذكور ، وأنّ جدي رحمه الله تركها في عز صباها وذهب إلى الحرب ولم يعد ، وسافر أعمامي واحدا تلو الآخر ، وجدتي صامتة لا تتحدث عن أولادها ، لكنها في ذلك المساء الربيعي كسرت حاجز صمتها ، وتجاوزته إلى قلبي بسؤالها ، ارتعش الفضول في داخلي ، مجرد وجود عمة هذا يعني مأساة كبيرة في قلب جدتي التي همست :

ـ عمتك ، كانت تشبه الفجر بجماله ، بقامتها الطويلة وخضرة عينيها ، وتلك البشرة البيضاء التي تشفّ كبلور صاف . تطلعت ِ إلى وجهك في المرآة ؟ كانت تشبهك يا نورا .. ذات مطر ، كانت هناك في الحقول ، شدّها تفتح الأقحوان في شعرها ، وهمسات شقائق النعمان في شفتيها ، ذات أفق لازوردي ندهت الأرضُ قدميها ، فسارت إليها دون وعي ، سحبتها الغيمة من يدها ، وجرها النهر إلى مصبه .. كانت تعشق السباحة ضدّ التيار ، ذات دفء بكت على صدري ، نشجت بقوة ، ثم اقتلعتها قدماها من حضني إلى الأبد !

لم تكن حكاية جدتي تلك سوى ناقوس الخطر ، حاولت تجاهل شهقته ، صممت أذني عن نغمات نايه ، أغلقت نافذتي وبابي ، حاولت إغلاق القلب لكنه انفجر هازئا بي ، وسال نبضه على صدري ..

المرآة تبحث في أصابعي عن بقايا ليونة من عهد الشباب ، المشط يجمد في يدي ، أتطلع إلى زهرات الأقحوان في شعري ، أنزعها ، لمن يا نورا ؟ تمتد نظراتي إلى حيث تفتحت شقائق النعمان يوما ! .. في القلب يهتز أفق شاحب ، يناديني مصحوبا بنغمات ناي حزين ، تبسم جدتي (( آه يا نورا ، يا طلعة الفجر وحضورا )) .

منذ صغري عرفت بهذا الاسم ، نورا الفجر ، حتى أنهم سجلوه في وثيقة زواجي متناسين اسمي الأصلي ، كفاية ، فقد اكتفت أمي بي من نسل البنات ولم تخلف غيري أنثى ! لكنّ جدتي كانت ترى في ّ عمتي التي فرت ذات حب ، ولم تعد تعرف عنها شيئا . كانت تهدهدني بأغنيتها الحزينة التي جمعت كلماتها من أنين القلب ، وأرضعتني إياها صغيرة ومن أجل جدتي ، والمساءات الدافئة ، وشجرة البيلسان الصغيرة لم أستطع قول ( لا ) حين قالوا : (( ابن عمك عرق عينك هو أحقّ بك من الغريب )) القلب نزف ساعتها بشدّة ، القلب أغمي عليه ، لكنه حين أفاق وجد الجسد طريح فراش غريب ، يحتله رجل لا يمتّ إلى الروح بصلة .

واعتاد الجسد ، التقلبات المقززة ، الرائحة المنفرة ، اعتاد تغيراته وتقلباته مع كل حمل وإرضاع ودخول الفراش .. لكنّ القلب بقي على رفضه ، .. جامدا عند حدود الدمع والناي الحزين تنسكب نغماته شلال فل وحبق في المساء الدافئ ..

المرآة تشاكسني .. ، فأحسّ بالكآبة والغضب ، أسحب شعري إلى أعلى لأربطه ككل يوم ، شعيراته البيضاء توجع قلبي ، وقبل أن تمتد يدي إلى غطائه الملون ، اتركه ينسدل مرة أخرى على كتفي ، تجوس أصابعي في عتمته ، ها هو الفجر يجتازه بخيوطه البيضاء ..آه يا نورا ، لم تعودي كالفجر في حضوره ، لا .. الشيب غزا القلب قبل شعرك ، الصبح بات قريبا ، العين كبت خضرتها ، وها هي الهالة البنية أسفل العين تذكرك بجدتك ، تنسلين من أفق المرآة بأكبر قدر من الهزائم ، تجلسين وضربات القلب تصل أذنيك عنيفة .. تبلل الدموع عروق اليدين ، هنا حيث قبلته .. كان عبد الله أحبهم إلى قلبي ، نعم أحبهم ، شدّ يدي حين ودعني :

ـ لا تبكي يا أماه ، لن أتأخر عليك

وهنا وضع شفتيه الحارتين ، على كفي .. ومضى ..

أصغرهم مضى إلى الخليج ، قالوا له ، تستطيع أن تدفع بدلا ولا تخدم في الجيش ! وأكبرهم قال : ( لن أتأخر يا أمي ، أربع سنوات أختص وأعود إليك طبيبا تفخرين به ) سرقته الغربة ولم يعد ، كم مر من الزمن يا محمود ؟ ! وأوسطهم قال لي : زوجتي يا أمي لا يناسبها سكن الريف وأنا مضطر ، هل تريدين إحراجي أمام أهلها ؟

لا ، لم أكن لأحرجك يا ماء العين ..

هاهم يا نورا ذكورك الثلاثة تركوك ومضوا ، سحبتهم الحياة من حضنك بقسوة ، ها هم نسل هؤلاء الذين وضعوا متراسهم في وجهك وأطلقوا على طائرك فأردوه قتيلا ! لم يشعروا بحزنك ووحدتك ! .

المرآة لا تكف تقول لي : انظري جيدا يا نورا ، حدقي في ذاك الفل الذي تضوع من جنبيك حتى ذبل ، حدّقي في ياسمينك الذي تراكم على شرفات الروح ، حتى يبس ، حدّقي ، الريح تنثره في بيدر بعيد ، حدّقي جيدا يا نورا ..

ألمس بطني المتوجعة بأصابع معوقة يابسة ، آه يا جدتي ! كنت تخترقين السهول بنظراتك بحثا عن غائب لن يرجع ، ونظرتي لا تتجاوز سطح المرآة الأملس . الغائب حاضر في الوجدان ، الغائب ما زال يسكب شهقاته حدائق فل من ناي حزين .. النغمة تهزّ جسدي ، النغمة تسبح بالروح بعيدا ، الأطراف المثلجة تخذلني ، القلب الراعش يرسل دمه إلى وجهي فيصطبغ بالحمرة القانية .. آه يا نورا

يناديني زوجي المستلقي على خوانه الخشبي ، متقوقعا حول عجزه ، أسير بآلية ٍ كئيبة إليه ، ينظر في وجهي تلك النظرة الغامضة المتسائلة ! نظرته تلك تهز كياني ، تزعزع روحي ، تكاد الدموع تنفر من عيني ، لكني أسنده كعادتي ، أتجاوز به فسحة الدار ، أعاونه على الاستلقاء في سريره ، أدثره .. وتمضي قدماي باتجاه المرآة .. لماذا يا نورا ؟

أكان هذا المساء يشبه آخر في حياتك ؟

نعم كان ذات مساء يقف بحزن نايه عند حدود قلبي ، يطرقه بشهقة بيضاء فيغمى علي ، وكنت أغوص في الحناء ، يداي مربوطتان ، كلانا اختلس نظرة ، كلانا تراجع خائفا ..

كلانا سارت قدماه باتجاه قدره ! مساء يشبه هذا ، دخلت هذه الغرفة مخفورة بالألم والاضطراب ، مساء يشبه هذا وقفت أمام المرآة للمرة الأولى ، سطحها الأملس كان متوهجا .

أمد يدي ، المرآة تسيل دموعها الصدئة ، ترسم خطوطا ، طويلة ، بقعا بنية ، تشققات غريبة ، كم مر من الزمن ! ؟ لعلها عشرون ، لا ، بل سبع ٌوعشرون مرت كأنها سحابة صيف ، مسرعة الخطى ورمتني في حضن الوحدة ..

كبر الصغار ورحلوا ، تركوا لي الفراغ والخواء ، والوحدة ، وزوج ، كان رجلا حين وقف صارخا :

ـ سأقف في طريقها ، والرجل يتقدم .

أمام سلاح القبلية تهاوى الرجال ، أمام سلاح الحيار ، تراجع كل ٌ إلى خنه وبقيت ذبيحة بين الأقدام ، الشهوة في العيون ، الجوع في الأمعاء ،

والوجبة حارة طازجة .. ! خارت الضحية أرضا ، تضرجت بدمائها .. وخرج القاتل مزهوا بنصره ! السنوات تمضي ، وأنا أذوي في قفص ضيق تطبق قضبانه على قلبي ، تعصره ، فينزف صديدا أسودا ..

عشرون مرت منذ أتوا به محمولا ، خلعت الريح الباردة أوتاد قلبي ، ابتسم نيسان ساخرا ، أسقط برده في عظامي ، مددت يدين عاجزتين لأحضن كتفي ، لا ، البرد هناك ، حيث وطء الخريف أشجاري قبل الأوان ، البرد هناك حيث الفراش الخاوي والغرف المغلقة !

تحرك قلبي من جموده ، خفق مذكرا بالحياة ، تسارعت دقاته ... ثم انتظمت ، الحقيقة كانت دائما مرة ، الوهم سكن تحت جلدي ، حاولت طرد تلك الحقائق التي يفاجئني بها زمني ، أولاد يرحلون وزوج عاجز نزق ، ونظرات متسائلة ! آه يا قلبي ها أنت تدخل الجحيم الحقيقي ، صراخ وشتائم ، صراخ ودعاء ، صمت ، ونظرة غامضة تحمل في طياتها شك وريبة !هاهي عشرون مرت ولم يتعب ، عشرون مرت وصراخه بات شرنقة تنسج خيوطها العنكبوتية حول روحي .

عشرون مرت ، أدور في مجرتي ، متعبة تائهة ، وأنت أيها الجسد متى ستخرج من مستنقع الركود ؟ وأنت أيتها الروح متى تمزقين شرنقتك ؟

المرآة الصدئة تقول : مدي أصابعك ، انزعي الحناء المقيت ، وانظري تحت العروق الزرقاء .

أحدق جيدا .. أصابعي مثلجة .. روحي تشتعل .. وجهي ! الحناء ! الدماء ..

أرمي المشط .. أترك شعري للريح الثقيلة في هذا المساء الحار ...

قدماي تقوداني ، تمشيان إلى حيث ترك الناي يرتعش وهو يلامس الأرض الباردة ..

تشدني النغمات من أذني إلى حيث غاصت عيناه في خضرة عيني ، وشهق تاركا نايه يتحطم عند قدمي .

 

 

 غير صالح للنشر

 

  

سلم عليه بحرارة ، نهض سالم العبد من كرسيه احتراماَ ، وأخذه بالأحضان :

ـ مكاني ، والله لا تجلس إلا مكاني .

أومأ عبد الكريم بيده النحيلة الدقيقة الأصابع :

ـ ابق مكانك سأجلس هنا .

سحب كرسياً وجلس قبالته ، هتف سالم بحركة مسرحية :

ـ بعد زمان يا رجل ، منذ متى لم نرك ؟!

هز عبد الكريم رأسه :

ـ مشاغل ، أنت تعرف ، عندما أكتب أغرق في شبر ماء . يضيق العالم بي ولا أفكر بشيء غير أبطال روايتي ، يسكنوني ، يحتلون بيتي ، يبعثرون الأوراق ، يقيمون البيت ولا يقعدونه ، فترى الفوضى في كل مكان .

سأل سالم باهتمام :

ـ إذا سنتشرف بقراءة روايتك الجديدة قريباً .؟

ابتسم عبد الكريم ابتسامة من سيفجر قنبلة ومد يده لسالم بالمغلف الذي يحتوي على الرواية :

ـ ها هي ستكون أول من يكتب عنها اطمئن .

استرخى سالم في كرسيه ، وقال متأسفاً :

ـ في كل مرة أقول في نفسي سأكون أول من يكتب عنك ، لكن هناك قارئة " ناقدة " ترسل لي مقالها النقدي قبل أن أبدأ القراءة وأقول لك الصدق ، إني معجب بما تكتب ، وأشعر بعد قراءة ما تكتبه أني لن أضيف شيئاً جديداً ، لذا أتنحى عن مهمتي تاركاً الساحة خالية لها .

غمز عبد الكريم بعينه :

ـ يبدو أنها ليست ناقدة فقط ، بل أكثر بكثير ، أنا أعرف رومانسيتك .

تنهد سالم العبد :

ـ ياريت ، لكنها معجبة بك أنت ، وليس بي ، ولا تكتب عن سواك ، لكن ما أستغربه أنها لم تفعل كالكثيرات اللواتي يطلبن عنوانك ومعلومات عنك ، مما جعلني أظن أنك تكتب المقال بنفسك تحت اسم مستعار .

ضحك عبد الكريم :

ـ لازلت كما أنت يا سالم ، لن يكبر عقلك .

احتج سالم :

ـ ليست قلة عقل ، وأنت تتفوه بأشياء لا تعنيها ، ربنا يجعلنا من بركاتك !

أكد عبد الكريم بثقة : يا أخي أنا مشغول ، والله ليس عندي وقت لهذه السفاسف فقد كبرتُ على المراهقة يا سالم

ـ أنا لست معك ، ليست سفاسف ، أنا أراها معجبة حقاً بك ، خذ واقرأ ما كتبت .

ـ سئمت ذلك .

سأل سالم بدهشة : تعني أنك لم تقرأ مقالها عن روايتك الأخيرة ؟! أنت لست على صواب ، أنا أرى أن ما تكتبه هو السبب في زيادة مبيعات كتبك ، هي تساعدك وكأنها بوق إعلان موجه .

رد عبد الكريم بلامبالاة :

ـ لم أعد أهتم لذلك ، صارت كثرة المقالات عني تصيبني بالدوار ، ولا أجد الوقت لأضيعه في جدل سخيف بين النقاد ، ولا أخفيك سراً ، لقد أخذت عهداً على نفسي ألا أقرأ شيئاً كي لا يتأثر إنتاجي الروائي بالآراء المتضاربة في سوق النقد ، لقد ضعت في بداياتي ودخت بين السرد والسيرة الذاتية والرمز والفنتازيا والواقعية . وقد أخذت الآن خطاً لنفسي لن أحيد عنه ، ولا يهمني آراء الآخرين .

ـ أنا أخالفك الرأي ، هذه الكاتبة تحلل شخوصك وأسلوبك وتدخل عالمك بشكل رائع أحياناً يخيل إلي أنها تعرفك شخصياً . اسمع ما كتبته عنك .

" تدخل عالم عبد الكريم السعد ، وكأنك في لجة بحر هائج ، تقرأ وأنت تصارع الموج وأسماك القرش ، تصارع من أجل الوجود ، وتصارع من أجل الحرية ، تصارع كي تصل إلى الشاطئ حياً ، تحزن وتفرح ، تحب وتكره ، وتسيل دموعك ، وتعلو ضحكاتك وأنت وحيد في غرفتك المغلقة ، تغمض عينيك فتشعر أنك وصلت للتو من سفر طويل ، ودعت فيه كل هؤلاء الذين عشت معهم بجوارحك ، مازن وأيمن ، ومحمود ورنا وريم كلهم كانوا معك على سطح سفينة ، معهم أبحرت ، معهم وصلت الشاطئ . مددت يدك صافحت كل واحد ، أخذت يده بين يديك ، أخاً وصديقاً !

وفي روايته الأخيرة نقف أولاً عند تلك اللغة التي يلهث فيها الشعر في أجواء حارة صادقة النبرة ، مبتعدة عن الغنائية ، مرتدية ثوب حدادها الخاص على حرية ضائعة . وأرض لا تبرح تستوطن الذاكرة ، وتضعف نبض القلب .. "

ـ ما رأيك ؟!

ـ معك حق فيما قلته ، هل كتبت الكثير عني ؟

ـ دائماً ، كل رواياتك على ما أذكر .

ـ وهل عندك ما نشرته ؟!

ـ أجل

تنفس بعمق وتساءل " وكيف فاتني أن أقرأ لها ؟ "

قال سالم بخبث :- ألم أقل لك ، معجبة قديمة متجددة ، كأنها تسكنك

داعب شعيراته البيضاء بحنان ، استعاد روح الشباب

ـ جميل فعلاً ، جميل أن تجد في هذه السن معجبة !

ـ لكنك مازلت شاباً

تنهد عبد الكريم متحسراً على شباب ولى ، يعرف في قرارة نفسه أنه لن يعود ، وإن هرب سالم بكلماته من هذه الحقيقة ، انتبه من شروده متابعاً

ـ شوقتني لقراءة مقالها

مد سالم يده بالأوراق :

ـ ها هو قبل أن أنشره ، بالمناسبة هي تكتب تحت اسم مستعار ، تكتفي بحرفين من اسمها ، ربما لها ظروف خاصة ، وربما لا تحب الشهرة .

استغرب عبد الكريم : امرأة لا تحب الظهور والشهرة !؟ ما أجملها من امرأة !

همس سالم : سأبوح لك بسر ، لقد تعلقت بها من خلال كتاباتها ، صدقني لا يهمني شكلها أو من تكون ، لكن هذه الروح الجميلة التي تنفر من بين السطور كغزالة متمردة تأسرني ، وأحياناً أحسدك وأشعر بالغيظ لأنها تكتب عنك فقط ، ربما تكون إحدى العاشقات التي لم تجد طريقاً لقلبك سوى بالكتابة عنك .

اهتز عبد الكريم طرباً ، تحبه ؟ لابد أن سالم يبالغ ، نعم لابد أنه يبالغ ، هي ترى أن رواياته تكتسح السوق وتستحق الكتابة ، فإن لم تكتب عن روائي كبير مثله ، عمّن تكتب إذاً ؟! أراحه هذا التفسير ، لكنه تساءل ، ولم لا تكون معجبة ، أو حتى عاشقة ما المانع ؟! سأل سالم باهتمام :

ـ هل اسمها جميل ككتابتها ؟ تعرف أني أهتم بالأسماء ، وأنتقيها عند اختيار أبطال رواياتي .

ـ قلت لك إنها توقع بحرفين فقط .

ـ يا للأسف ، بدأت أرغب في جعلها ضمن دائرة النساء اللواتي أكتب عنهن .

ـ تكتب عنهن ويعشقنك ، على كل لنختر لها اسماً ، ليكن ربيعة ، ما رأيك؟

ـ ربيعة ! اسم كلاسيكي لا جرس له،لكن ما الذي جعلك تختار هذا الاسم ؟!

ـ لأنها توقع بحرفين " ر . س " و أنا سميتها ربيعة سالم على اسمي ، وصرت أوقع مقالاتها بهذا الاسم .

ضحك عبد الكريم ضحكة مجلجلة كبيرة ، حتى أوقفته وخزة أسفل صدره .. آه من هذا الصدر ! كحّ بتقطع ، وأطفأ سيجارته . داعبته نسمات متسللة من النافذة ، حملت له رائحة الربيع ، وغاص في أحلامه ، مسح على شعرها ، أخذ كفها بين يديه ، جلسا في ركن هادئ ، حدثها حدثته ، ستتخرج قريباً ، تحلم بالسفر والعصافير والبحر .، ويحلم بضم خصرها والسير حافي القدمين على الرمال الدافئة ، وليكن لقاؤهما صدفة في بيت أحد الأصدقاء . و ..

ـ هه ، عبد الكريم ، ماذا بك ؟ ألن تقرأ المقال ؟!

رد بلهفة : نعم هاته .

أخذ الأوراق بين يديه ، ونظر فيها ، عادت الوخزة في أسفل الصدر تشعره بالضيق والألم ، اتسعت حدقتاه وهما تتابعان السطور ، ازداد خفقان القلب ، وتلاحقت أنفاسه

ـ افتح النافذة ، أريد مزيداً من الهواء ..

استرخى في مقعده مذهولاً ، ارتخت يده التي تحمل الأوراق ، لقد سددت له صاحبة المقال سهماً أصاب منه مقتلاً .

غمز سالم : أتعرفها ؟! يبدو أنه حب قديم ، أليس كذلك ؟ حدثتني نفسي منذ البداية أنها حب قديم .

رد عبد الكريم من واد عميق بصوت مسحوب من الذاكرة ، رداً ممطوطاً بطيئاً :

أعرفها .. أعر .. فـ .. ها ..

ـ حدثني عنها ، أريد معرفة كل شيء .

ـ أعرف أنها تجاوزت الأربعين من عمرها ، وأنها كانت جميلة أيام الجامعة .

ـ لا يهم

ـ وأعرف أنها متزوجة ، ولديها أولاد يملؤون حياتها صخباً ومتاعباً وهي مشغولة عن الدنيا بتربيتهم وببيتها ، فمتى وجدت وقتاً للكتابة ؟

شعر سالم بالأسف ، لكن َّ فضوله لم يتوقف ، سأل باهتمام

ـ ما اسمها ؟

تجاهل عبد الكريم السؤال ، اقترب برأسه من سالم ، مد يده إليه بالأوراق بلهجةٍ آمرة قال :

ـ أَشّر على الموضوع غير صالح للنشر .

صرخ سالم :

ـ لن أفعل ، إنها أفضل من كتب عنك ، وعن رواياتك ، أيها المغرور ، فلماذا تريدني أن أخسر كاتبة جيدة ؟ لتنتقم من وهم حبٍ قديم مر في حياتك ، وأنا متأكد أنك السبب في فشله ، طوال حياتك علاقاتك مع الحب فاشلة ، وتمنيت طوال هذه السنوات التي عرفتك فيها أن أسمعك تمدح أنثى ، أو تبدي رغبتك بالزواج من الكثيرات اللواتي يتحلقن حولك كالفراشات . لكنك كالبركان ، تحرق ، وتخرب ، وتهدم، وتأخذ كل شيء في طريقك دون رحمة.

رد عبد الكريم السعد : نعم آخذ كل شيء دون رحمة .

هدأ سالم ، وعاد إلى كرسيه :

ـ إذاً سأنشر المقال ، ولن أخسر صاحبته ، صحيح أني خسرت حلماً جميلاً ، لكني لن أخسر ناقدة جميلة من أجلك ، وإن كنت صديقي .

ابتسم سالم بعد مرور الزوبعة ، عاد واقترب من عبد الكريم وسأله غامزاً مرة أخرى

ـ لم تقل لي ، من هي ؟ وكيف عرفتها ؟!

رد عبد الكريم بصوت مجروح ، أنهكه الدخان وضيق الصدر .

ـ إنها زوجتي يا أحمق .

 

 

 

ألف باء الحب

 

تتوجع كفراشة أحرقها الضوء فتكومت فوق رمادها .

يحتضر أمسي القريب على أعتاب الذاكرة ، ألهث محاولة تمزيق شرنقة عبيرك المحيطة بقلبي ، أنجح أحيانا في مدّ رأسي المتعب من خلل خيوطها القاسية ، وتغلق منافذ الهواء غالبا في وجهي ، فيسرع القلب بالارتماء في أحضان الحلم ..

تربكني ثوانيك ، فأتعثر بمشاعري المتناقضة ما بين مد وجزر ..

يسحبني الطريق الذي تتناهبه عجلات السيارة لتصور أيامي القادمة في الخليج ، سويعات مرّت على ارتعاش صوتك واحتضاره عبر سماعة الهاتف وأنت تتلقى قراري بالسفر (( جاءني عقد عمل ، أظنه سيكون حلا مناسبا لأزماتي كلها ))

لم تقل شيئا .. فحيح .. تنهيدة مرة ، وصمت بغيض في سماعة صماء ..

صمتك ذاك جعلني أتردد ، ( هل أرمي أوراقي وقراري وراء ظهري وأعود إليك معتذرة ككل مرّة ؟ ) سئمت مراوحتي بين كره وحب ، سئمت تمزقي بينك وبين الحلم ... إلى متى يسلبني الحلم إرادتي ويتخذ عني القرار ؟ إلى متى أطير وراء فراشه الملوّن متعثرة بأمنياتي المستحيلة ! قلت لي : (( أحبك صدقيني )) أكان يجب أن أعيش معك جسدا باردا يتحرك بآلية الحلم وسيطرة رجل يقطن الذاكرة لتفهم أن ّ الحب ما أريده ؟ أتحتاج هذه الكلمة الصغيرة إلى زمن من المدّ والجزر لتكتشف سحرها ؟ أم أنك وعيت اللعبة التي تدور حولها عواطفي الذبيحة أخيرا ؟ أشكّ بحبّ احتاج لسنوات من الخطبة ليفصح عن وجوده بمنتهى العقل والحياد !

تمتد ّ نظراتي عبر الأفق الممتد بين غابات حمص ، والهواء الرطب الثقيل الممزوج بضباب خانق .. يتسرب صوتها هامسا من مسجل السيارة :

حيرى أنا يا أنا والعين شاردة ٌ أبكي وأضحك في سري بلا سبب

الضحك يتغلغل في مسامات الجلد الباردة .. البكاء يغسل بدمع ٍ ساخن قلبا ً لم أعد أستطيع السيطرة على نبضه .. انفصل عني بإيقاعه المضطرب ، وانضم ّ لقافلة التمرد والمشاكسة . همهمات ، مؤامرات .. تحطم ، وارتطامات ، وأشياء تتكسر في أعماقي .. ووجهه لا يزال ملتصقا بأنفاسي ، هل يمكن بعد هذا .. أن أحبك ؟

الطريق إلى دمشق ممل ، طويل ، ينتحب تحت عجلات السيارة ، يئن شاكيا ، يتجاوب مع نحيب أحلامي ..

سويعات مرّت على لهاث أنفاسك عبر سماعة الهاتف في أذني .. أمدّ يدا مرتعشة ، أتحسسها ، لا زالت تنبض .. تمضغني الدهشة بقسوة .. لازال وجهه ينفر ساخنا عبر مسامات وجهي ، يحتلّ ملامحي ، فأبدو مضحكة في مرآة نفسي .. ! إلى متى يحتلني الآخر مستبيحا إحساسي بالأمن معك ؟ إلى متى يجتاح شواطئي بقسوة قرصان ولدته موجة عاتية من التحامها بغيب مجهول ، يتسلل إلى فراشي ، يعبث بأشيائي ، يقبع في تفاصيل يومي منذ استيقاظ الشوق في ضلوعي إليه ، حتى ارتمائي في موج النوم القلق في ظلّ ذكرياتي معه ، ينتقي ملابسي بذوقه المتطرف ، يمدّ يده لانتقاء طعامي المناسب لمعدته ، يتأمل هيئتي في مرآته قبل خروجي إلى العمل ، يصاحب الخطوة المتخاذلة بنظرته الصارمة ، يبرز من المرآة (( لا أريدك أن تضعي كحلا في عينيك المتوحشتين ليراه غيري ، اتركي شفتيك بدون أصبغة ، أحبّ أن أراك لي .. لي فقط بتلك الرائحة المثيرة تفوحين ياسمينا وحبقا ))

في الطريق أجده ملاصقا لخطواتي ، يرتفع صوتي محدّثا طيفه ، يلتفت المارّة إليّ بذهول !

و تسألني باستغراب :

ـ ماذا تعنين بسؤالك أنا لم أقل ذلك ؟

أشهق ، وانتبه إلى شفتي ّ تحدثانه . !

لم أبدأ بمعرفته مبكرا ، كنت على وشك أن أتخطى عتبة الجامعة حين اهتز قلبي واقعا بين قدمي ، لمروره بقربي تاركا رائحة عطر خفيف سكنت خلايا أنفي .

حين دخلت قاعة المحاضرات رأيته يجلس أمامي محتضنا غموضه وحفنة ياسمين ، تجاهلت ابتسامته المغرية بحوار ثقافي حار ..

وأنا أنحدر باتجاه كلية الهندسة ، صدمتني نظراته ، فتكسرت ضلوع الروح ، وغادرني تحفظي ، انهلت بالشتائم على الساعة التي تعثرت فيها بدرجات الكلية المهشمة ، فوقعت كتبي بين يديه .

ضمتنا صالة معاوية ذات ليلة ، كان المسرح يضجّ بالحركة والحماس ، يتدفق حارّا متوهجا ، وهو بجانبي كتلة لا مبالاة مستفزة .

كنّا نلهث وراء سطر شعري في أمسية دافئة ، نزار يتألق قمرا على شرفة ، وهو يحتضن سواده وينزوي داخلي بهمس مبهم ! انخلع كعب حذائي ، وعدت إلى البيت عرجاء الروح وهو غارق في ضحك مستهزئ .

حين دخلت ا لفصول الماطرة ، تلبست رغباته جلدي رداء من نار الرعشة والتوق ، دخلت أفقا غريبا ، اقتحمتني أناشيد فجر يتسول دموعي وألقي ، عندما فكرت ذات لحظة أن أمتطي مراكبه مبتعدة إلى جزيرة نائية يرتجف شذاها ، فتمطر صحوا ، قلت : هنا نهاية مطافي .

بعد بعده الأخير ، نظر إلي ّ ، قلب شفتيه : لقد انتهت صلاحيتها . ! ابتعد ، فازددت التصاقا بترابه .

تجسد أمامي بعريه ، غامت الرؤية أمام عيني ّ فلجأت إلى معطفه البارد أستثير دفئه ..

لم أكن بحاجة لفكر يخرجني من لحظة البوح الأبدية ، لم أكن بحاجة لإنارة داخلي ، هناك حيث الوجع يقيم محتلا أنفاسي ، هناك حيث الوجع يرتعش على مخدتي ، هناك حيث كان واحدا فصار ألفا ، غامضا ، متقلبا ، متلونا كحرباء !

أتهجأ حروفه من جديد .. .. تضحك عيناه رامقة ً ذعري من عاصفة قادمة...... تتدحرج صلابتي وتستقرّ عند قدميه .

مذ كنا على عتبة أول حرف ، حذرتني نظراته : ( إياكِ والتوغل في حزني )

عشقت ذلك الحزن وظننته الرابط بين وحدتي وحصاره ، لكنه انكمش مبتعدا عن وهجي !

قبل أن أتجاوز الثلاثين ، كنت أنظر إليه كتموز عائد من دورة الأبدية ، بعد أن أحبّ زميلتي .. صرت أركض وراء سرابه في الرجال الذين أعرفهم ، ولا أقبض إلا على الوهم ..!

حتى حين التقيتك أيها الوهم الأكبر في حياتي ، وقبضت على مائك بأصابعي ، هزّني شيء عنيف ساخرا :

ـ لن تستطيعي أن تعشقي شخصا غيري ...

في مواجهة عنيفة مع الريح ، كشفت صدري لاجتياحها ، وتخليت عن مراوحتي في زمنه المر ، وتجاوزت نفسي بقرار لا عودة فيه ،(( سأتزوج )) .

حين رأيت الزهور تملأ الصالة وأنت بجانبي ، انهار تماسكي ، وصرخت الشرايين (( لن تعشقي غيره )). يشبك الياسمين عقدا ً حول عنقي ، يشبك أصابعه قيدا ً حول معصمي ، تشبك رغباته القلب وتعصره بقسوة .

في محاولة للالتفاف على مشاعري ، هادنت زمني ، ورضيت لجسدي دورا غبيا ، أصبحت خطيبة شخص ، وعشيقة آخر .

أنت تسير معي في الطريق ، تحتضن يدي في المساءات الدافئة ، ترافقني إلى المسرح ، ودور السينما ، تتناول الغداء معي ، وتمضي ..

الآخر يحتلني في الحلم ، يجردني من مشاعر الهزيمة والانكسار ، ينبش أنوثتي ، ويقدمني عارية من شكلي الاجتماعي على طبق رغباته ..

تلهث لتحقيق ما أريد ، تسند بيدك ضعفي ، والآخر يضحك مقهقها : (( أنا أريدك ، أنت عشبي ونداي ، وأرقي الطويل ، آه كم أريدك ! )) أنت تلازم صحوي ..الآخر يعيدني إلى حيث بدأت معه ألف باء الحب ، بنظرة غامضة على حدود العشرينات من العمر .

ترسم المستقبل ، تخطط شكل البيت والنوافذ ، والأثاث .. والآخر يرسم جسدي شهيا على قماش ذكرياته ، يبدع في إبراز مفاتنه ، يتقن وضع الابتسامة على وجهي ، يفجر برودي حمما ، وينقضّ ممزقا اللوحة ..!

أنت لم تقتحم حواسي كبركان ، لم تصدمني عيناك بالرغبة ، لم تنسف توازني بكلمة ، كنت واضحا كشمس فجة في يوم قائظ :

ـ أنا أريد الارتباط بك لأننا نناسب بعضنا .. أنت لن تجدي مثلي وأنا لن أجد مثلك .

الآخر ، انسلّ تحت خيمة العتمة وبوح المطر ، أعلن اتحاده بألقي ، فتح مسامات الجلد بلمسات خبيرة ، أيقظ توهجي ، سكب كلماته شلال فل على شرفات روحي ، ولم ينتظر ردّا ، كان يسير بي إلى الهاوية واثقا أني وراءه كظله ، ألازمه على رصيف نزواته ، يقرأ فأصمت ، يتحدث فأسمع ، يرغب فألبي ، يسير فأتبعه ظلا مرتعشا خائفا .

طلبت مني تحديد موعد الزفاف !

الآخر نظر إليّ من زاوية الحلم (( تتزوجين خيال مآتة ! أنت تريدين رجلا يفجر أنوثتك ، رجلا يوقظ فيك الحلم ، ويطرح الرغبة أسماكا في شباكك الغائصة في عمق البحر ، تتزوجين ! ))

السخرية تغوص رمحا باردا في أحشائي ، يهزني ، أتساقط رغبة ً ، جنونا ً ، حنينا ً ، أتهاوى صراخا ً :

ـ لا .. لا أريد ، لن أتزوج .

تتجمد للحظات ، تنبس بفتور :

ـ كيف ؟ !! لكني أحبك .

الآخر يبتسم بشماتة ٍ مبرزا نصره بنظرة تخدر دماغي وتدخلني في الغيبوبة !

أخلع حذائي ، أسير إليه حافية ، على مذبح رغباته أقف ذاهلة صامتة .. تفاجئني ابتسامة زميلتي الشامتة :

ـ ألا تعرفين أنه تزوجني ؟

أنت تلقفت عودتي إليك بحزن :

ـ هل أنا لعبة بين يديك تحطمينها وقت تشائين ، و تحاولين لصق أجزائها المتناثرة حين تحتاجينها ..

دموع حيرتي جعلتك تتراجع ، مسحتها ظنا ً منك أنها دموع استغفار وندم ! وعدت إلي ّ .

حين قررت الذهاب إلى المحكمة لتثبيت الزواج ، اقتحم الآخر مسائي غاضبا (( استطعت نسياني!!!! هكذا تقولين وداعا ؟ وهل يقول الإنسان وداعا لياسمين روحه ؟ )) تراجعت منكمشة على نفسي ، امتزجت بعشبه ، تمرغت بترابه ، شممت بعمق عطر شرفاته الغارقة بالياسمين ، واستسلمت لذراعي الحلم .

في الصباح كلمتك هاتفيا :

ـ لقد قررت السفر ،.. أريد اختبار عواطفي بعيداً عنك .!

طريق المطار الطويل أشعرني بلذة الوصول إلى النهاية ، القاعة الغاصّة بالمسافرين والعائدين تختصر الكلام بضجيج غير مفهوم .. ينظر الموظف المسؤول إلى وجهي بشك :

ـ جوازك ؟

تنطق شفتاي بحياد :

ـ نعم

تدقق نظراته فيه متمتما ، الاسم والشهرة تاريخ ومكان الولادة ، المهنة ! يرفع رأسه محدقا في وجهي :

ـ تعملين في الحكومة ؟

بضيق نفثت اختناقي حروفا متكسرة :

ـ لا

أتناول الجواز ، يستقرّ على البلاط الناعم بعيدا عن يدي المرتعشة . أمسح غبار الروح عنه تطالعني صورتي التي التقطت منذ سنوات ، أفهم نظرات الموظف ، أبتسم لنفسي بمرارة ، وأنا أحاول إغلاقه تلسعني جمرة التواريخ والأمكنة بقوة ، الولادة ، المهنة ،الإقامة ، كلّ ما في جواز سفري من معلومات باردة حيادية ، تغسلني بمياه الصحو الباردة ، ويصفعني السؤال :

ـ ماذا تريدين من الزمن بعد وأنتِ على أعتاب الأربعين ؟

بأصابع أحرقتها الحقائق فتحت جوازي ثانية ، دققت فيه بحثا عن تاريخ الحب ! الجواز الأصم بصق بروده في وجهي ، لا وجود لهذا المسمى الغريب الذي تبحثين عنه !

حين أوشكت الطائرة على الإقلاع ..

رميت جواز السفر ، ودموعي ، وارتعاشي ، وأحلامي في قاع الحقيبة المظلم ، أغلقتها بحياد ، وخرجت مع العائدين ، تنفست هواء المطار البارد بعمق ، ملأت رئتي ، وسرت باتجاه السيارة !

أيلول / 2002

 

إلى عبد الهادي شحادة

لأجل ذلك الحزن

الذي حملته أجنحة نورس مهاجر

 

 

ذات مساء كئيب على شاطئ ٍ كان لك

 

 

يزداد الطريق ضيقا ، تزداد الأبنية ارتفاعا ً. يرفع بصره متأملا البحر، الكتل الإسمنتية تحجب السماء ، تفصله عنه ببرود حصياتها الرملية الملساء ، ينعطف جنوبا ً عل َّ أزقّة الطفولة تمنحه توهج الملوحة النفاذة ، والشوق ، ودفء المكان ..

أبنية ٌ أخرى تبرز بشماتة ٍ سادّة ً الطريق إلى البحر ..

قرعت خطواته شوارع الذاكرة ، تمطّت أسينه نافضة بقايا نعاس يخدر جسدها الغارق في فوضى ترفه ، أحسّها قريبة ، فاح الدفء من معطفها الشتوي ، اجتاحته تلك الرائحة المميزة لعطرها ، تألقت عيناها في هطولهما مختصرتان عسل الطبيعة وتقلبات البحر . أغمض عينيه ، لم ينقذه الحلم ، بل دفع به إلى جدار إسمنتي أصم حيث كان ! . توغل أكثر، ضاق الحائط الإسمنتي، تكوّر على شكل نفق رمادي، لم تسعفه الخطوة السريعة في الوصول إلى نهايته، انغلقت النوافذ بعنف، انسحب الضوء مهزوما، برزت أيديهم، سياطهم الرمادية تمزق سكون الخلايا النائمة. حث َّ خطاه أكثر ، ازداد النفق ضيقا ، اضطر لخفض رأسه ، شعّ وجهها مخترقا الإسفلت الرمادي هازئا به ، لبسته ابتسامة غامضة ، انحنت قامته في مواجهة الضيق المطرد للنفق ، قالت عيناها أشياء لم يدركها ، سحبته رائحتها بعيدا ، حيث أصبحت سيّدة قصر ورجل أجوف ، تغوص بكميات هائلة من الأحذية والعطور والملابس الباريسية الأنيقة ، رمته حيث الوجع القديم حين رفضت انتظاره وقبلت الصفقة الرابحة . انبطح على بطنه مستقبلا برودة الإسفلت القاسي، وبدأ الزحف إلى حيث الجنون القريب حين التقاها خلسة بعد زواجها في بيت صديق مشترك ؛ وحين تخبطت بين ذراعيه حمامة تاهت عن برجها . يومها ظنّ أنّه انتقم لسنوات الحرمان والقهر ، انتقم من رفضها وفرارها من عهد الطفولة ، لكنه اكتشف أنّ العشيقة لم تعد تلك الطفلة ذات الضفائر الكستنائية والشفتين الخجولتين. وأن ّ حمرة الخد لم تكن سوى أصباغا ، ونظرة العين تزداد ترفعا وأناقة !

زحف ٌ جديد لخريف قادم ..

لم يصدق كيف زحف الربيع إلى بلاد مجهولة، دون أن يخلّف في القلب جمرة، أو يترك عطرا، كان غاصّا برائحة الورق الأصفر، والأقبية العطنة، والانهيارات الصعبة، والرفاق الذين..... ! سألته تنهيدة مرة : أين هم ؟ تابع الزحف مخلفا خيطا رفيعا من دم سال من لحم ساعديه...

كان معصوب العينين، الخطوات الثقيلة تقرع بلاط َ الممر الطويل، وأنفه يتحسس رائحة المكان.. ! لم يطل به الأمر، رفعت الضحكات الساخرة الحجاب، وضحت الرؤية، وجوههم لم تكن غريبة ! هم..!

هم من سحقوا الفجر بخطاهم الثابتة الثقيلة ، حين زاروه لأول مرة ..

ركض باتجاه البحر بأقصى سرعة، استعار جناحي نورس وغاص بعيدا، لم يكن يبحث عن سمكة في لجّة الإسمنت المسلح، بل عن روحه المختنقة في حديده البارد. تضيق الغرفة فتغدو قبرا، يصرخ طالبا الهواء، صراخه يدفن في قرار حنجرته، يتمرد الجسد على لسعات السياط، يتمرد على عريه المخجل، فينكمش في زاوية معتمة ! هل جاءه الملكان ليحاسبانه ؟

أمه كانت تنظر إليه من نافذة ماض بعيد ، تزجره نظراتها :

ـ ماذا فعلت ؟ ألا تعرف أنّ الملكين على كتفيك يكتبان ما تفعله ؟ سيعاقبك الله ، لن تنجو بفعلتك .

لن ينجو من نظرات أمه المخيفة، يطول الليل، يحمل النوم في جبّته الهائلة، مهاجرا إلى شواطئ العدم، وينكمش هو على كوابيسه في زاوية الفراش.

من هو الله ؟ كثيرا ما تساءل، لماذا يحقّ له أن يعاقبه ؟

كان يراه في صورة الأولاد الكبار المسلحين بعصيهم وسواعدهم القوية دفاعا عن وجودهم في الميناء... ثم رآه يبرز فجأة في عيون بعض زملاء الجامعة ، وفي خطوطهم السريّة الناعمة ! فقرر الانتماء للحزب الآخر ، حيث لا تكون لله سلطة على أفعاله ..

وجهه الممرغ على البلاط البارد القذر، يدفعه لاقتناص حلم آخر يُسَكّنُ أوجاعه. لم تعد المسكنات تنفع مع الألم الرهيب، الركبة المتمزقة، الجلد المتورم، الأحلام الذبيحة، لا جدوى.. تسرب الضعف إليه بقوة الماء الجاري بهدوء يحفر الوادي بصمت ، هل الضعف قوة ؟

( ـ أنا أستمد قوتي من ضعفي ! ) هكذا قالت له يوما، هكذا فلسفت وجودها ورضيت به .

آه ...تنبعث حارّة قاسية من صدره ..

يراها تنحدر من الدروب الجبلية ، يقطف لها البلوط والصنوبر ، يتنشقان عطر السهول البعيدة بامتدادها، المخيفة بعمقها ، يقف على حافة الهاوية، يفرد جناحيه، يتطلع صوب الأفق الغامض ، متسائلا : كم من الزمن يلزمني كي أصل إلى الأسفل ؟ ليتني كنت نورسا !

تتحداه بطفولة مشاكسة :

ـ هل تستطيع الطيران كالنورس ؟

تركض مختفية بين الأشجار، فيلحق الضفيرة، تقترب يده، فتفرّ ضاحكة بعذوبة..

خنقته سعلة جافة تشبثت بحنجرته ، بصق جانبا عذاباته وخياراته المرة ، طال الطريق إلى البحر .. وامتدّ الإسمنت في ارتفاع شاهق نحو السماء . رفع نظره ، ماذا يسمونها ؟ أبراجا ؟

لم يعرف في طفولته البعيدة سوى أبراج الحمام، ثمّ اندسّ في أبراج فكرية ملتوية في صعودها، احتلت أروقة دماغه، غيّبته عن شوارع الطفولة وذكريات البحر !

تقطّعت أنفاسه، ثقل مبهم يضغط على رئتيه، صعد إليه وجه سليم من عتمة الزرقة المغتالة، ابتسم بتحد ٍ:

ـ ألم أقل لك ؟

تنهد : ( نعم ، قلت لي . كنت أنظر إلى ذلك الامتداد الشاسع من الزرقة الصافية ، أتهيب ويرتعش قلبي ، من يجرؤ على انتهاك هذه الزرقة الجميلة ؟

يضحك سليم عندما يطالبه برد أحجاره :

ـ لقد خسرت، لن أعطيك شيئا ، روح بلّط البحر .

الحجارة ستغوص بعيدا ، سيلتهم البحر كل من يجرؤ على اقتحام قداسته !

يبتسم سليم بشماتة :

ـ أ أنت أعمى ؟ لقد بلطوه فعلا ً . )

تسكع طويلا على أرصفة ذاكرته، غاص في أزقتها الضيّقة، هاجمته رائحة الخبز الساخن ، لفحت وجهه نسمات الخريف الباردة، دس ّ يديه في جيب البنطلون بحثا عن عود ثقاب، وبقايا سجائر (( الحمراء القصيرة )) خرجت يداه مهزومتين ، بصق جانبا ( طوال عمري لم أقبض إلا على الفراغ ) .

غطى سراب فاقع اللون عينيه، كان ممتدا، أصفرا ً.. غامضا ً.. تبدو ذوائب الأفق إبلاً تتهاوى تحت ثقل أحمالها، تبتعد الإبل بأحلامه، ينقرض الأمل، تغلق غرف السجن على حلم مشوه ومستقبل معتم.

من فتحة ضيقة في آخر النفق الرمادي ، اندفع جسده المعتقل نحو البحر ..

من العتمة خرج .. يتدرج الأسود إلى الرمادي القاتم ساحقا ما تبقى من زرقة المكان،

حين نظر إلى الفضاء مرّة أخرى، وامتطى الرصيف البحري، عب ّ الهواء القادم من غربة الزرقة، وعاوده الخوف القديم .. مرّة أخرى قرع السؤال الممل باب دماغه :

ـ ما جدوى كلّ تلك الأبراج التي آمن بضرورة وجودها ؟

اللاذقية .. أيلول .. 2002

 

 

 وصية المرحوم

 

هل يقتسم الأخوة ميراثهم ليبقى دهراً ؟

وهل ينزرع الحقد في الأرض دواماً

هل يرتفع النهر ، ويأتي بالفيض أبداً ؟

 

- 1 -

 

كنت تقول لي ، من يأكل على مائدة السلطان ، يضرب بسيفه ، لذا لم تأكل يوماً على مائدة أحد ، واخترت أن تكون سلطاناً يأكل الجميع على مائدتك .

لكنهم الآن يحملون السيف نفسه ، و يقطّعونك به أجزاءاً ، وكل واحدٍ يصارع للحصول على أكبر قطعة .

انهار الهرم ، تحطمت هيبة المكان ، نامت الأشجار على وجعها ،تكسرت أعواد الكرز في الحقول .

ومر الليل بطيئاً ، كئيباً ، لا نهاية لدمعه ، لا حدود لسواده . حملوك على الأكتاف . تزلزلت همم الرجال ، تزعزعت صلابتهم ، واخترق الحزن العظام وهز الأنفس . نادوا باسم الله ، أهالوا عليك التراب . عادوا بعد انقضاء الطقس القاسي الثقيل . لكن عبئه بقى جاثماً فوق صدورهم .

نفضوا دموعهم فوق القبر ، وتركوه للبرد والريح والمطر ، عادوا يفركون أكفهم التماساً للدفء ، وانتظاراً لأحداث ما بعد الموت ! تماسك الأبناء ، أغلقوا باب الغرفة خلفهم ، تشاوروا ، همس ومداولات ، والعيون في الخارج تتسع ، والآذان تبذل جهداً إضافياً لالتقاط الكلمات .

فتحت أبواب خزانتك ، اندلعت أحشاؤها على الأرض ، مكومةً ذكرى الليالي الباردة والحارة والمناسبات . بدلةً تحكي قصة سفر ، وأخرى انتصار ، وثالثة لها رائحة الحزن ، ورابعة ..

تلاصقت ملابسك محتمية ببعضها ، توارت أحذيتك بين الأشياء هرباً من قدم حاقدة ستدوسها ! امتدت الأيدي تلقف ما تصل إليه بشراهة ، نهشوا لحم القماش الأبيض ، استباحوا أشياءك الصغيرة ، اقتسموا الغنيمة بضراوة ، كل ينظر بحسد لما بيد الآخر ويريده لنفسه ، كلٌّ يريد البدلة الأفضل ، ولا أحد من مقاس المرحوم ، كلٌّ يريد قلماً ولا أحد يكتب ، كلٌّ يريد زجاجة عطر ليغطي رائحة الحسد النتنة ، الكلُّ يريد شيئاً للذكرى ولا أحد يذكر !

امتدت يد الأيدي إلى العباءة المعلقة .

ـ وهذه ؟ هل ستتركونها ؟ لا يجوز أن يبقى شيء من أثر المرحوم .

صرخت : لا .. لن يرتدي أحدٌ عباءة أبي ، إنها لكبيرنا .

دارت العيون في محاجرها غيظاً ، فمن سيكون الكبير بعد المرحوم ؟ ألا يملأ أخوته السبعة أعيننا الفارغة .؟!

كنت تملأ العين والروح . يقف البيت على قدم وساق عند دخولك ، تترك الباب موارباً وتنادي " أغلقوا الباب ورائي " نتراكض حفاة كي لا يزعج نومك صوت أحذيتنا على البلاط ، زرعت أحلامك وتطلعاتك في دروب الروح سنديانا صلباً ، أشربتنا سياستك وأفكارك فتسربت مع الحليب في نخاع العظم ، كونتنا كما تريد ، ولم نخرج عن خطك الفكري ليقيننا أنه لا أحد يحسن تقييم الأمور أفضل منك ، والآن لا نجرؤ على التصديق أنك مت ، وتتمرد شفتاي على لفظة مرحوم .

يجلل السواد القاعة الكبيرة التي تضم النسوة المعزيات . أجلس في الركن ، تتطلع عيناي في الوجوه من حولي ، جو من التحفز للانقضاض ، والفريسة رقدت تحت التراب . الجو المشحون بالتوتر والحزن وغيظ الأقارب وحسد المقربين أطاح بيقظة الدماغ ، وحملني على ساعدين من ألسنة مبرودة كانت تدخل وتخرج من كهوفها العفنة تلسع وجهي بلهيبها النتن ، تنفث السم في عروقي " احذري " الوصية ، اخوتك سيأكلون الإرث " .

يمتد صوت المقرئ ، مساحة من الأمن في خطوط الرمل الحار الجاثم في حلقي .. " ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون " . يحاول الدمع في العينين الجشعتين الظهور لكنَّ الحسد يطفو على الخد ، ويغيض الدمع في وكره ! ترشُّ تعابير الحزن آساً أخضر على الوجوه المترقبة . لكن الآس الجميل يذبل ، ويذوي كرهاً بالأيدي التي تحمله .

تحمل قلبي أوجاعه رايةً ، وتتطلع العيون إلى الذهب في يدي أمي " تتزين وزوجها ميت هذا حرام " . يلتفت الوجه المائل إلي السواد بعد هجره الأصباغ متصنعاً الحزن ، يهمس بلؤم " كل هذه الذبائح ، ولم يصلنا إلا الدهن والعظام !" تتخفى الابتسامات وراء الطرحة السوداء " مات قهراً ، لم يحتمل العيش مع زوجته فانفجر دماغه ". أقام الرجال حفلاً تأبينياً ، تحدثوا عن مناقبك وكفاحك ، مواقفك المشرفة ، والخسارة الفادحة بفقدك . قرأ الشيخ مبروك سوراً من القرآن الكريم ، أطرق الحضور خشوعاً ، اصطف اخوتك السبعة متمثلين الحزن ، مرتدين أثوابه الخشنة ، هازين رؤوسهم أسفاً وحسرة . ختم الشيخ حديثه بالدعوة إلى تصفية القلوب من الحسد والضغينة ، واجتناب الغيبة والنميمة ، ودعا للمرحوم بالجنة وقرأ الفاتحة . مسح الحضور وجوههم ، تدحرجت حبات السبحات الطويلة بين أيديهم راكضة إلى حتفها ! وامتدت الأيدي إلى الطعام ، تُدحرج اللقيمات بشراهة إلى الأفواه المفتوحة . منذ متى لم يأكلوا على مائدة المرحوم !؟ سيعوضون فربما تكون المائدة الأخيرة . غاصت الأصابع في اللحم واللبن ، وسالت قطرات السمن من الأفواه التي ضاقت بحجم اللقمة المحشورة فيها ، فاشتكت المسكينة وأنت تحت الأسنان القاسية .

ارتخى المدعوون في كراسيهم . كانت بطونهم المنتفخة جبلاً ثقيلاً يحملونه على أنفاسهم فلا يستطيعون الحركة ، وعجّت الصالة بدخان السجائر ، وأنفاس الحضور ، وتعثرت أقدامهم ببقاياهم ، صاح الشيخ مبروك . الحمد لله ، الفاتحة ، عباد الله اتقوا الله واذكروا محاسن موتاكم .

اعتدلوا في جلستهم ، استعادوا نشاطهم ، وبلمحة استعرضوا محاسنك كلها !!!

لم يستفيدوا شيئاً من موتك ، تبادلوا التهم بسرقة اللحم وتوزيعه على بيوتهم بدل الفقراء ، تنازعوا في أمر العباءة " لمن ؟ " لمن أوصى المرحوم بها ؟! علا صراخهم ، ومهاتراتهم ، كان أكبرهم يجلس في الزاوية ، دموعه تنغرز في لحيته البيضاء بصمت ، فقد وعى لأول مرة أن الحياة أقصر من أن تمضي في المهاترات .

رن الهاتف ... تكلف الكبير الذي يعمل في الخليج عناء الاتصال :

ـ البقاء لله لم أتصور أني سأحزن لموته يوماً .

وأغلق السّمّاعة . 

انتهت أيام الأسبوع .. توقفت الولائم ..واشتعلت أرجاء البلدة بأخبار الوصية . كثر المنقبون ، والناشرون ، والمعلقون ! امتلأت أفواه المتحدثين بملايين المرحوم التي كان يكتنزها ، تشمموا رائحتها المنعشة ، وأكدوا لأنفسهم (( لهذا كثرت الأضحيات ، وانبسطت الأكف بالصدقات ، من هنا .. وليس من السمعة الطيبة ، وهل تطعم السمعة الطيبة خبزاً ؟

غمرنا طوفان الدائنين بسيل من الحقوق المهضومة والمنسية .. المتسولون يلحون ويغيرون من أشكالهم لينالوا أكثر من حصة ، طغى الفقراء على سكان البلدة فلم يعد فيها غيرهم ...

المرحوم أوصى بجزء من أمواله للفقراء !

مدّت جارتنا رأسها من غبار الزوبعة ، تطلعت يميناً وشمالاً ، همست .. لقد ظهرت !

تلفعت بالسواد والحزن ، طرقت الباب الكبير ، اندست بين المدعوين ، سبرت خفايا المكان ، نقبت في الوجوه .. ومضت تجر رغبة في الاقتحام والانفجار ، فتحت بيد مرتعشة فوهة الغدر ، وأطلقت قذيفتها :

ـ المرحوم أوصى بعدم اقتسام الإرث حتى تضع حملها .

عجائز الحي تدحرجن في خطاهن المتعثرة نحو زاوية الشيخ مبروك مذكرات إياه بأحقيتهم فيما يصرف من مال المرحوم ... فالمرحوم أوصى بإقامة دار للعجزة !

ابن الزوجة المزعومة رفع صوته هادراً ، مطالباً بحق أمه الشرعي بعد أن قتلتها جلطة مفاجئة تسللت إليها من وصية المرحوم .

الأميون جميعاً أكدوا أنهم رأوا بأعينهم ما جاء في وصية المرحوم فيما يخص العباءة !

صمت .. لا مبالاة .. تركت الدهشة للأفواه المفتوحة بتحفز .. وأخبار الشارع للألسنة المدربة على تذوق لحوم الموتى ومضيت ...

أغلقت باب غرفتك ، فتحت الأدراج ، أخرجت الوصية .. نظرت إلى خطي المرصوف على الورق الأبيض ، تأملت الحروف التي فارقتها الروح ... وببرود مزقت ما سطرته يدي .. ورميته في سلة المهملات .

10/كانون الثاني /2001

(1) ملحمة جلجامش / صـ202 فراس السواح

 

أضيفت في 20/11/2004/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتبة

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية