أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

الكاتب الكبير: د. يوسف إدريس / 1927-1991

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

يوسف إدريس علي، كاتب قصص، مسرحي، وروائي. مصري ( 1927-1991) حائز على بكالوريوس في الطب، 1947-1951؛ تخصص في الطب النفساني.

 

حياته في سطور

طبيب بالقصر العيني، القاهرة، 1951-1960؛ حاول ممارسة الطب النفساني سنة 1956، مفتش صحة، صحفي محرر بالجمهورية، 1960، كاتب بجريدة الأهرام، 1973 حتى عام 1982. حصل على كل من وسام الجزائر (1961) ووسام الجمهورية (1963 و 1967) ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى (1980). سافر عدة مرات إلى جل العالم العربي وزار (بين 1953 و 1980) كلاً من فرنسا، إنجلترا، أمريكا واليابان وتايلندا وسنغافورة وبلاد جنوب شرق آسيا. عضو كل من نادي القصة وجمعية الأدباء واتحاد الكتاب ونادي القلم الدولي. متزوج من السيدة رجاء الرفاعي وله ثلاثة أولادالمهندس سامح والمرحوم بهاء والسيدة نسمة.

 

السيرة:

ولد "يوسف إدريس" لأسرة متوسطة الحال بإحدى قرى محافظة الشرقية في 18 مايو 1927، التحق بالمدارس الحكومية حتى المرحلة الثانوية، ليكمل بعدها مشواره التعليمي بكلية الطب جامعة القاهرة ثم ليتخرج فيها عام 1951.

 

وكان والده متخصصاً في استصلاح الأراضي ولذا كان متأثراً بكثرة تنقل والده وعاش بعيداً عن المدينة وقد أرسل ابنه الكبير (يوسف) ليعيش مع جدته في القرية.

 

ولما كانت الكيمياء والعلوم تجتذب يوسف فقد أراد أن يكون طبيباً. وفي سنوات دراسته بكلية الطب اشترك في مظاهرات كثيرة ضد المستعمرين البريطانيين ونظام الملك فاروق. وفي 1951 صار السكرتير التنفيذي للجنة الدفاع عند الطلبة، ثم سكرتيراً للجنة الطلبة. وبهذه الصفة نشر مجلات ثورية وسجن وأبعد عن الدراسة عدة أشهر. وكان أثناء دراسته للطب قد حاول كتابة قصته القصيرة الأولى، التي لاقت شهرة كبيرة بين زملائه.

 

ومنذ سنوات الدراسة الجامعية وهو يحاول نشر كتاباته. وبدأت قصصه القصيرة تظهر في المصري وروز اليوسف. وفي 1954 ظهرت مجموعته أرخص الليالي. وفي 1956 حاول ممارسة الطب النفسي ولكنه لم يلبث أن تخلى عن هذا الموضوع وواصل مهنة الطب حتى 1960 إلى أن انسحب منها وعين محرراً بجريدة الجمهورية وقام بأسفار في العالم العربي فيما بين 1956-1960.

 

وفي 1957 تزوج يوسف إدريس.

 

وفي 1961 انضم إلى المناضلين الجزائريين في الجبال وحارب معارك استقلالهم ستة أشهر وأصيب بجرح وأهداه الجزائريون وساماً إعراباً عن تقديرهم لجهوده في سبيلهم وعاد إلى مصر، وقد صار صحفياً معترفاً به حيث نشر روايات قصصية، وقصصاً قصيرة، ومسرحيات.

 

وفي 1963 حصل على وسام الجمهورية واعترف به ككاتب من أهم كتّاب عصره. إلا أن النجاح والتقدير أو الاعتراف لم يخلّصه من انشغاله بالقضايا السياسية، وظل مثابراً على التعبير عن رأيه بصراحة، ونشر في 1969 المخططين منتقداً فيها نظام عبد الناصر ومنعت المسرحية، وإن ظلت قصصه القصيرة ومسرحياته غير السياسية تنشر في القاهرة وفي بيروت. وفي 1972، اختفى من الساحة العامة، على أثر تعليقات له علنية ضد الوضع السياسي في عصر السادات ولم يعد للظهور إلا بعد حرب أكتوبر 1973 عندما أصبح من كبار كتّاب جريدة الأهرام.

 

وعلى هذا فقد عايش في مرحلة الشباب فترة حيوية من تاريخ مصر من جوانبه الثقافية والسياسية والاجتماعية، حيث الانتقال من الملكية بكل ما فيها من متناقضات، إلى الثورة بكل ما حملته من آمال، ثم النكسة وما خلفته من هزائم نفسية وآلام، ثم النصر في 73 بكل ما كان ينطوي عليه من استرداد لعزة وكرامة الشخصية المصرية، ثم الانفتاح وما تبع ذلك من آثار على المجتمع المصري من تخبط وتغير في بنيته الثقافية والنفسية والاجتماعية.. إنه رجل عاش كل هذه التقلبات، ليس كما يعيشها الإنسان العادي، بل كما يعيشها الفنان المبدع الذي تؤثر فيه تفاصيل الأحداث، ويعمل على أن يرصدها ليتمكن من تأثيره عليها، فجاء أدبه معبرا عن كل مرحلة من هذه المراحل، وناطقا برأيه عما يتغير ويحدث حولنا في هذا البلد وما يحدث في أبنائها، ولاسيما أنه كان في مطلع شبابه متأثرا بالفكر الماركسي بكل ما يحمله من هموم اجتماعية.

 

كان كاتبنا غزير الثقافة واسع الاطلاع بالشكل الذي يصعب معه عند تحديد مصادر ثقافته أن تقول إنه تأثر بأحد الروافد الثقافية بشكل أكبر من الآخر.. حيث اطلع على الأدب العالمي وخاصة الروسي وقرأ لبعض الكتاب الفرنسيين والإنجليز، كما كان له قراءاته في الأدب الآسيوي وقرأ لبعض الكتاب الصينيين والكوريين واليابانيين، وإن كان مما سجله النقاد عليه أنه لم يحفل كثيرا بالتراث الأدبي العربي وإن كان قد اطلع على بعض منه.

 

هذا من ناحية أدبية وفنية وثقافية عامة ساهمت في تشكيل وعيه العقلي والأدبي، ولعل ممارسته لمهنة الطب وما تنطوي عليه هذه الممارسة من اطلاع على أحوال المرضى في أشد لحظات ضعفهم الإنساني، ومعايشته لأجواء هذه المهنة الإنسانية ما أثر في وعيه الإنساني والوجداني بشكل كبير، مما جعل منه إنسانا شديد الحساسية شديد القرب من الناس شديد القدرة على التعبير عنهم، حتى لتكاد تقول إنه يكتب من داخلهم وليس من داخل نفسه.

 

بدأ نشر قصصه القصيرة منذ عام 1950، ولكنه أصدر مجموعته القصصية الأولى "أرخص ليالي" عام1954، لتتجلى موهبته في مجموعته القصصية الثانية "العسكري الأسود" عام1955، الأمر الذي دعا عميد الأدب العربي "طه حسين" لأن يقول: "أجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت في كتابه الأول (أرخص ليالي) على تعمق للحياة وفقه لدقائقها وتسجيل صارم لما يحدث فيها.."

 

وهي ذات المجموعة التي وصفها أحد النقاد حينها بقوله: "إنها تجمع بين سمات "ديستوفسكي" وسمات "كافكا" معا".

 

ولم يتوقف إبداع الرجل عند حدود القصة القصيرة والتي صار علما عليها، حتى إنها تكاد تعرف به وترتبط باسمه، لتمتد ثورته الإبداعية لعالمي الرواية والمسرح..

 

حديث عن الحرية:

لقد تمتع "يوسف إدريس" بسمات شخصية كان على رأسها الإقدام والجسارة والجرأة، ولم تختلف صفحات قصصه ورواياته كثيرا عن تلك السمة المميزة لصفحة شخصيته، فاتسمت هي الأخرى بالجسارة، فهو من أصحاب الأقلام الحرة، على الرغم من أنه ظهر في مرحلة تجلّى القمع فيها في أسوأ صوره، من تكميم لأفواه المبدعين، وسحق لآدميتهم، وتشريد الداعين للحرية بطردهم من وظائفهم، أو سجنهم، أو التنكيل بهم.. إلا أنه بين كل هذه الألغام في طريق الكلمة الصادقة الحرة عمل دائما على أن يقول ما يريد وقتما يريد، وبعد أن فرح بالثورة وأخذ بجانب بدايته كطبيب في القصر العيني –حينها- يهتم بكتابة إبداعاته القصصية حتى وصل لأن يكون مسئول القسم الأدبي بمجلة روزاليوسف، سرعان ما بدأ انتقاده لرجال الثورة وسياسة "عبد الناصر"، الأمر الذي أدى به عام 1954 إلى السجن، مما جعله يعتبر نفسه في النهاية لم ينل حريته التي تمكنه من قول كل شيء.. بل بعضا من كل شيء؛ فنراه يتكلم عن هذه الحرية المفقودة ويقول: "إن كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتباً واحداً لممارسة فعل كتابته بالجسارة التي يحلم بها".

 

وعن هذه النفس الإنسانية المتوقدة داخل يوسف إدريس يقول د. "جابر عصفور": "كان "يوسف إدريس" واعياً بالأسباب السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية التي تحول بين المبدعين وممارسة جسارتهم الإبداعية إلى المدى الذي يعصف بالمحرمات التي كادت تشمل كل شيء، والممنوعات التي يتسع مداها بالقدر الذي يتسع به مدى الاستبداد والتسلط مقروناً بالتعصب والتطرف على كل مستوى من المستويات. وأغلب الظن أن "يوسف إدريس" كان واعياً بمعنى من المعاني بالجذور القديمة والأصول الراسخة للقمع في تراثنا، تلك الجذور والأصول التي أودت بحياة الكثيرين من المبدعين على امتداد العصور".

 

القصة بين الواقعية والعامية:

تميزت القصة عند "يوسف إدريس" بالواقعية، حيث أخذ يصور الحياة اليومية ولاسيما للمهمشين من طبقات المجتمع، كما أنه جنح إلى استخدام العامية في قصصه، وإلى استخدام لغة سهلة بسيطة، وكان يرى أن الفصحى لا يمكن أن تعبر عن توجهات الشعب وطموحاته، كما أن الحوار يعد ركنا هاما من أركان القصة عنده، ويمثل جزءا من التطور الدرامي للشخصيات، والتي غالبا ما كانت من البسطاء الذين يصارعون من أجل الصمود أمام مشاق الحياة، ولعل في الظروف التي كان يعيشها الشعب المصري حينها، وضغط الفقر والحرمان من أبسط حقوقه الإنسانية ما يفسر اتجاه كاتبنا نحو هذا النوع من الأبطال في قصصه ومن الأسلوب الذي اتخذه للتعبير عنهم من خلال الحوار والذي جاء لتقريب ما يدور داخل شخصياته من تصعيد نفسي وتصعيد للأحداث.

 

عمد "يوسف" إلى التكثيف والتركيز في قصصه القصيرة حتى كان يقول عن تعمده هذا المنحى: "إن الهدف الذي أسعى إليه هو أن أكثف في خمس وأربعين كلمة.. أي في جملة واحدة تقريبا- الكمية القصوى الممكنة من الإحساس، باستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات". وعليه فقد كان "يوسف إدريس" يعتبر الإيجاز في القصة القصيرة من أهم الخصائص الأسلوبية التي على الكاتب أن يناضل من أجل تحقيقها، وفي ذلك يقول: "فالقصة القصيرة أكثر الأشكال الأدبية إيجازا فعبارة "أهلا حمادة" تشبه القنبلة الذرية في صغرها وفعاليتها ومع ذلك فهذه القنبلة يمكن تصنيعها-فقط-على أيدي أناس ذوي موهبة"

 

مراجع

([1]) نقلاً عن (أعلام الأدب العربي المعاصر) لروبرت كامبل (2/233-237)

([2]) نشر هذا المقال في جريدة اللواء الأردنية بتاريخ 26/5/1987 بعد أن ظل لدى الدكتور يوسف إدريس أكثر من عام وبعد أن رفضت بعض الصحف الكويتية نشره، ولكن الدكتور يوسف إدريس في مقاله المنشور بالأهرام يوم 8/2/1988 ذكر أنه كان يعترض على الآراء المؤدية إلى نبذ العلم والتكنولوجيا، وأن ما شاهده من أعمال شباب الجماعات الإسلامية يجعله يقول: اللهم إن كان التيار الإسلامي هكذا، فأنا أول المنضمين إليه، فإذا شئتم حزباً يبشر بهذا ويعمل به، يخاطب العقل فينا وينهرنا عن الغوغائية فخذوني معكم" .

([3]) الأحزاب (36).

([4]) الشورى (38).

([5]) سنن أبي داود الحديث 2608، 2609.

 

 

مؤلفاته:

 

قصص:

- أرخص ليالي ، رة، سلسلة "الكتاب الذهبي"، روز اليوسف، ودار النشر القومي، 1954.

- جمهورية فرحات ، قصص ورواية قصة حب، القاهرة، سلسلة "الكتاب الذهبي" روز اليوسف، 1956. مع مقدمة لطه حسين. صدرت جمهورية فرحات بعد ذلك مستقلة، ثم مع ملك القطن، القاهرة، دار النشر القومية، 1957. وفي هذه المجموعة رواية: قصة حب التي نُشرت بعدها مستقلة في كتاب صادر عن دار الكاتب المصري بالقاهرة.

- البطل، القاهرة، دار الفكر، 1957.

- حادثة شرف، بيروت، دار الآداب، والقاهرة، عالم الكتب، 1958.

- أليس كذلك؟، القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط، 1958. وصدرت بعدها تحت عنوان: قاع المدينة، عن الدار نفسها.

- آخر الدنيا، القاهرة، سلسلة "الكتاب الذهبي" روز اليوسف، 1961.

- العسكري الأسود، القاهرة، دار المعارف، 1962؛ وبيروت، دار الوطن العربي، 1975 مع رجال وثيران والسيدة فيينا.

- قاع المدينة ، القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط، 1964.

- لغة الآي آي، القاهرة، سلسلة "الكتاب الذهبي" ، روز اليوسف، 1965.

- النداهة، القاهرة، سلسلة "رواية الهلال"، دار الهلال، 1969؛ ط2 تحت عنوان مسحوق الهمس، بيروت، دار الطليعة، 1970.

- بيت من لحم، القاهرة، عالم الكتب، 1971.

- المؤلفات الكاملة، ج 1:القصص القصيرة، القاهرة، عالم الكتب، 1971.

- ليلة صيف، بيروت، دار العودة، د.ت. والكتاب بمجمله مأخوذ من مجموعة: أليس كذلك؟

- أنا سلطان قانون الوجود، القاهرة، مكتبة غريب، 1980.

- أقتلها، القاهرة، مكتبة مصر، 1982.

- العتب على النظر، القاهرة، مركز الأهرام، 1987.

 

روايات:

- الحرام، القاهرة، سلسلة "الكتاب الفضي"، دار الهلال، 1959.

- العيب، القاهرة، سلسلة "الكتاب الذهبي"، دار الهلال، 1962.

- رجال وثيران، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة، 1964.

- البيضاء، بيروت، دار الطليعة، 1970.

- السيدة فيينا، بيروت، دار العودة 1977. (انظر رقم 5 أعلاه) .

- نيويورك 80، القاهرة، مكتبة مصر، 1980.

 

مسرحيات

1- ملك القطن (و) جمهورية فرحات، القاهرة، المؤسسة القومية. 1957 مسرحيتان.

2- اللحظة الحرجة، القاهرة، سلسلة "الكتاب الفضي"، روز اليوسف، 1958.

3- الفرافير، القاهرة، دار التحرير، 1964. مع مقدمة عن المسرح المصري.

4- المهزلة الأرضية، القاهرة سلسلة "مجلة المسرح" 1966.

5- المخططين، القاهرة، مجلة المسرح، 1969. مسرحية باللهجة القاهرية.

6- الجنس الثالث، القاهرة، عالم الكتب، 1971.

7- نحو مسرح عربي، بيروت، دار الوطن العربي، 1974.

ويضم الكتاب النصوص الكاملة لمسرحياته: جمهورية فرحات، ملك القطن، اللحظة الحرجة، الفرافير، المهزلة الأرضية، المخططين والجنس الثالث.

8- البهلوان، القاهرة، مكتبة مصر، 1983.

 

مقالات

1- بصراحة غير مطلقة، القاهرة، سلسلة "كتاب الهلال" ، 1968.

2- مفكرة يوسف إدريس، القاهرة، مكتبة غريب، 1971.

3- اكتشاف قارة، القاهرة، سلسلة "كتاب الهلال"، 1972.

4- الإرادة، القاهرة، مكتبة غريب، 1977.

5- عن عمد اسمع تسمع، القاهرة، مكتبة غريب، 1980.

6- شاهد عصره، القاهرة، مكتبة مصر، 1982.

7- "جبرتي" الستينات، القاهرة، مكتبة مصر، 1983.

8- البحث عن السادات، طرابلس (ليبيا)، المنشأة العامة. 1984.

9- أهمية أن نتثقف .. يا ناس، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1985.

10- فقر الفكر وفكر الفقر، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1985.

11- خلو البال، القاهرة، دار المعارف، 1986.

12- انطباعيات مستفزة، القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1986.

13- الأب الغائب، القاهرة، مكتبة مصر، 1987.

14- عزف منفرد، القاهرة، دار الشروق، 1987.

15- الإسلام بلا ضفاف، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1989.

16- مدينة الملائكة، القاهرة، الهيئة المصرية…، 1989.

17- الإيدز العربي، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1989.

18- على فوهة بركان، محمود فوزي، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 1991. حوار.

19- ذكريات يوسف إدريس، القاهرة، المركز المصري العربي للنشر والصحافة والتوزيع، 1991.

 

نماذج من أعمال الكاتب

أنشودة الغرباء

المهزلة الأرضية

جمهورية فرحات

بيت من لحم 

أبو السيد

نظرة

لغة الآي آي

 

 

بيت من لحم

 

الخاتم بجوار المصباح .

 

الصمت يحل فتعمى الآذان .

 

في الصمت يتسلل الاصبع .

 

يضع الخاتم . في صمت أيضا يطفأ المصباح .

 

والظلام يعم . في الظلام , أيضا تعمى العيون .

 

الأرملة وبناتها الثلاث .

 

والبيت حجرة .

 

والبداية صمت .

 

الأرملة طويلة , بيضاء , ممشوقة في الخامسة والثلاثين .

 

وبناتها أيضا طويلات , فائرات . لا يخلعن الثوب الكاسي الأسود بحداد أو بغير حداد, صغراهن في السادسة عشر , وكبراهن في العشرين , قبيحات , ورثن جسد الأب الأسمر المليء بالكتل غير المتناسقة والفجوات , وبالكاد أخذن من الأم العود .

 

الحجرة رغم ضيقها , تسعهن في النهار – رغم فقرها الشديد – مرتبة أنيقة , يشيع فيها جو البيت , وتحفل بلمسات الإناث الأربع .

 

في الليل تتناثر أجسادهن كأكوام كبيرة من لحم دافئ حي , بعضها فوق الفراش , وبعضها حوله , تتصاعد منها الأنفاس , حارة , مؤرقة , أحيانا عميقة الشهيق .

 

الصمت خيم مذ مات الرجل , والرجل مات من عامين بعد مرض طويل . انتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى , وأبرزها الصمت .. صمت طويل لا يفرغ , إذ كان , في الحقيقة صمت انتظار , فالبنات كبرن , والترقب طال , والعرسان لا يجيئون , ومن المجنون الذي يدق باب الفقيرات القبيحات , وبالذات إذا كن يتامى ؟ .. ولكن الأمل , بالطبع موجود , فلكل فولة كيال , ولكل بنت عدلها , فإذا كان الفقر هناك , فهناك دائما من هو أفقر , وإذا كان القبح هناك , فهناك دائما الأقبح , والأماني تنال , أحيانا تنال , بطول البال .

 

صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة .. يتصاعد في روتين لا جدة فيه ولا انفعال .. والتلاوة لمقرئ , والمقرئ كفيف , والقراءة على روح المرحوم , وميعادها لا يتغير , عصر الجمعة  يجئ , بعصاه ينقر الباب , ولليد الممدودة يستسلم , وعلى الحصير يتربع , وحين ينتهي , يتحسس الصندل , ويلقي بتحية لا يحفل أحد بردها , ويمضي.

 

بالتعود يجئ , بالتعود يقرأ , بالعادة يمضي , حتى لم يعد يشعر به أحد .

 

دائم هو الصمت , وحتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه , أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت . دائم هو كالانتظار , كالأمل , أمل قليل ولكنه دائم , فهو أمل في الأقل , دائما لكل قليل أقل , وهن لا يتطلعن لأي أكثر , أبدا لا يتطلعن .

 

وتدرك الأرملة وبناتها الآن فقط , كنه ما تقدم , ليس فقط الصوت الوحيد الذي كان يقطع الصمت ولكن , أيضا , الرجل الوحيد كان , ولو في الأسبوع مرة , يدق الباب , بل أشياء أخرى يدركن , فقير مثلهن صحيح , ولكن ملابسه أبدا نظيفة , وصندله دائما مطلي , وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون , وصوته قوي عميق رنان .

 

والاقتراح يبدأ : لماذا لا يجدد الاتفاق , ومنذ الآن , ولماذا لا يرسل في طلبه هذه اللحظة ؟ .. مشغول , فليكن , الانتظار ليس بالجديد . وقرب المغرب يأتي , ويقرأ , وكأنه أول مرة يقرأ , والاقتراح ينشأ , لماذا لا تتزوج إحدانا رجلا يملأ علينا بصوته الدار ؟ .. هو أعزب , لم يدخل دنيا , وله شارب أخضر , ولكنه شاب , وبالكلام يجر الكلام , ها هو الآخر يبحث عن بنت الحلال .

 

البنات يقترحن , والأم تنظر في وجوههن , لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح , ولكن الوجوه تزور , مقترحة , فقط مقترحة , قائلة بغير كلام : أنصوم ونفطر على أعمى ؟ .. هن ما زلن يحلمن بالعرسان , والعرسان عادة مبصرون . مسكينات , لم يعرفن بعد عالم الرجال , ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه .

 

-تزوجيه أنت يا أماه .. تزوجيه .

 

-أنا ؟ .. يا عيب الشوم ! .. والناس ؟!

 

-يقولون ما يقولون .. قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال .

 

-أتزوج قبلكن ؟ .. مستحيل .

 

-أليس من الأفضل أن تتزوجي قبلنا , ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك . تزوجيه . تزوجيه يا أماه .

 

وتزوجته .. زاد عدد الأنفس واحدة , وزاد الرزق قليلا , ونشأت مشكلة أكبر .

 

الليلة الأولى انقضت وهما في فراشهما , هذا صحيح , ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب , ولو صدفة , فالبنات الثلاث نائمات , ولكن من كل منهن ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة إلى المسافة الكائنة بينهما , كشافات عيون , وكشافات آذان , وكشافات إحساس . البنات كبيرات ,  عارفات , ومدركات , والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحي إلى ضوء نهار . ولكن بالنهار لم يعد ثمة حجة , وواحدة وراء الأخرى تسللن , ولم يعدن إلا قرب الغروب و مترددات , خجلات , يقدمن رجلا , ويؤخرن رجلا , حتى يزددن قربا , وحينذاك يدهشهن , يربكهن , يجعلهن يسرعن , ضحكات, قهقهات رجل , تتخللها سخسات امرأة .. أمهن لابد تضحك , والرجل الذي ما سمعنه إلا مؤديا خاشعا ها هو يضحك . بالأحضان قابلتهن ولا تزال تضحك , رأسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك , وجهها , ذلك الذي أدركن للتو أنه كان مجرد فانوس مطفأ عشش فيه العنكبوت والتجعيدات , فجأة , أنار , ها هو أمامهن , كلمبة الكهرباء , مضيء . ها هي عيونها تلمع وقد ظهرت وتلألأت بالدمع الضاحك .. تلك التي كانت مستكنة في قاع المحجر .

 

الصمت تلاشى واختفى تماما , على العشاء وقبل العشاء وبعد العشاء , نكت تثرى وأحاديث , وغناء ,صوته حلو وهو يغني ويقلد أم كلثوم وعبد الوهاب , صوته عال , أجش بالسعادة , يلعلع .

 

خير فعلت يا أماه . وغدا تجذب الضحكات الرجال , فالرجال طعم الرجال .

 

نعم يا بنات . غدا يجيء الرجال ويهل العرسان . ولكن الحق أن ما أصبح يشغلها , ليس الرجال أو العرسان , ولكنه ذلك الشاب , كفيف فليكن , فما أكثر ما نعمى عن رؤية لمجرد لأنهم عميان, هذا الشاب المتدفق قوة وصحة وحياة , ذلك الذي عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير آوان .

 

الصمت تلاشى , وكأن إلى غير رجعة , ضجيج الحياة دب , الزوج زوجها وحلالها , وعلى سنة الله ورسوله , فماذا يعيب , وكل ما تفعله جائز . حتى وهي لم تعد بالمواربة أو بكتمان الأسرار , حتى والليل يجيء , وهم جميعا معا , فليطلق العقال للأرواح والأجساد , حتى والبنات مبعثرات , متباعدات , يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات , مسمرات في مراقدهن , يحبسن الحركة والسعال , تظهر الآهات فتكتمها الآهات .

 

كان نهارها غسيل في بيوت الأغنياء , ونهاره قراءة في بيوت الفقراء , ولم يكن من عادته أول الأمر أن يؤوب إلى الحجرة ظهرا , ولكن , لما الليل عليه طال , والسهر أصبح يمتد , بدا يؤوب ساعة الظهر , يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى , واستعدادا لليل قادم . وذات مرة , بعدما شبعا من الليل , وشبع الليل منهما , سألها فجأة عما كان بها سلعة الظهر , ولماذا هي منطلقة تتكلم الآن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها , ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الآن , إذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا , ولماذا لم تكن تضعه ساعتها ؟

 

كان ممكنا أن تنتفض هالعة واقفة صارخة , كان ممكنا أن تجن , كان ممكنا أن يقتله احد , فليس لما يقوله إلا معنى واحد , ما أغربه وأبشعه من معنى .

 

ولكن غصة خانقة حبست كل هذا , وحبست معه أنفاسها . سكتت . بآذانها التي حولتها إلى أنوف وحواس وعيون , راحت تتسمع , وهمها الأول أن تعرف الفاعلة . إنها متأكدة لأمر ما أنها الوسطي , أن في عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص إذ أطلق , ولكنها تتسمع . الأنفاس الثلاثة تتعالى , عميقة , حارة كأنها محمومة , ساخنة , بالصبا تجأر , تتردد , تتقطع , أحلام حرام تقطعها . أنفاس باضطرابها تتحول إلى فحيح , فحيح كالصهد الذي تنفثه أراض عطشى . والغصة تزداد عمقا واحتباسا . إنها أنفاس جائعات ما تسمع . بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن تفرق بين كومة لحم حي ساخنة متكومة , وكومة أخرى . كلها جائعة . كلها تصرخ وتئن , وأنينها يتنفس , ليس أنفاسا , ربما استغاثات , ربما رجوات , ربما ما هو أكثر .

 

غرقت في حلالها الثاني , و نسيت خلالها الأول , بناتها , و الصبر أصبح علقما , وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر . فجأة ملسوعة ها هي كمن استيقظ مرعوبا علي نداء خفي : البنات جائعات . الطعام حرام صحيح لكن الجوع أحرم . أبدا ليس مثل الجوع حرام . إنها تعرفه . عرفها ويبس روحها ومص عظامها , وتعرفه , وشبعت ما شبعت , مستحيل أن تنسى مذاقه .

 

جائعات , وهي التي كانت تخرج اللقمة من فمها لتطعمهن , هي التي كان همها حتى لو جاعت أن تطعمهن , هي الأم . أنسيت ؟! وألح مهما ألح , تحولت الغصة إلى صمت . الأم صمتت . ومن لحظتها لم يغادرها الصمت .

 

وعلى الإفطار كانت , كما قدرت تماما, الوسطي صامتة .

 

وعلى الدوام ظلت صامتة .

 

والعشاء يجيء , والشاب سعيدا وكفيفا ومستمتعا , ينكت لا يزال , ويغني ويضحك , ولا يشاركه الضحك إلا الصغرى والكبرى فقط .

 

ويطول الصبر , ويتحول علقمه إلى مرض , ولا أحد يطل .

 

وتتأمل الكبرى ذات يوم حاتم أمها في إصبعها , وتبدي الإعجاب به , ويدق قلب الأم , وتزداد دقاته وهي تطلب منها أن تضعه ليوم , لمجرد يوم واحد لا غير . وفي صمت تسحبه من إصبعها . وفي صمت تضعه الكبرى في إصبعها المقابل .

 

وعلى العشاء التالي تصمت الكبرى وتأبى النطق .

 

والكفيف الشاب , يصخب , ويغني , ويضحك , والصغرى فقط تشاركه .

 

ولكن الصغرى تصبح , بالصبر والهم وقلة البخت , أكبر , وتبدأ تسأل عن دورها في لعبة الخاتم , وفي صمت تنال الدور .

 

والخاتم بجوار المصباح , الصمت يحل فتعمى الآذان . وفي الصمت يتسلل الإصبع صاحب الدور . ويضع الخاتم . في صمت أيضا . ويطفئ المصباح . والظلام يعم . وفي الظلام تعمى العيون .

 

ولا يبقى صاخبا , منكتا , مغنيا , إلا الكفيف الشاب .

 

فوراء صخبه وضجته , تكمن رغبة , تجعله يثور على الصمت , وينهال عليه تكسيرا . إنه هو الآخر يريد أن يعرف , عن يقين يعرف . كان أول الأمر يقول لنفسه : إنها طبيعة المرأة التي تأبى البقاء على حال واحد . فهي طازجة صابحة كقطر الندى مرة , ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى . الخاتم دائم ووموجود صحيح , ولكن , وكأنما الإصبع الذي يطبق كل مرة إصبع , إنه يكاد يعرف , وهن بالتأكيد كلهن يعرفن , فلماذا لا يتكلم الصمت , لماذا لا ينطق ؟

 

ولكن السؤال يباغته ذات عشاء , ماذا لو طق الصمت ؟ .. ماذا لو تكلم ؟

 

مجرد التساؤل أوقف اللقمة في حلقه .

 

ومن لحظتها لاذ بالصمت وأبى أن يغادره .

 

يل هو الذي أصبح خائفا أن يحدث المكروه مرة , ويخدش الصمت , ربما كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله , والويل له لو انهار بناء الصمت .

 

الصمت الغريب الذي أصبح يلوذ به الكل .

 

الصمت الإرادي هذه المرة , لا الفقر لا القبح لا الصبر ولا اليأس سببه .

 

إنما هو أعمق أنواع الصمت , فهو الصمت المتفق عليه , أقوى أنواع الاتفاق , ذلك الذي يتم بلا اتفاق .

 

الأرملة وبناتها الثلاث .

 

والبيت حجرة .

 

والصمت الجديد .

 

والمقرئ الكفيف الذي جاء معه بذلك الصمت , وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكته في الفراش على الدوام هي زوجه وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه . تتصابى مرة أو تشيخ , تنعم أو تحشن , ترفع أو تسمن , هذا شأنها وحدها , بل هذا شأن المبصرين  ومسئوليتهم وحدهم , هم الذين يملكون نعمة اليقين . إذ هم القادرون على التمييز , وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك , شك لا يمكن أن يصبح يقينا إلا بنعمة البصر , وما دام محروما منه فسيظل محروما من اليقين , إذ هو الأعمى , وليس على الأعمى حرج .

أم على الأعمى حرج ؟

 

 

جمهورية فرحات

 

ما كدت أدلف إلى القسم ومعي الحرس حتى أحسست بانقباض مفاجىء . لم تكن تلك أول مرة أدخله ولكنها كانت المرة الأولى التي أرى القسم فيها في الليل ، ولهذا شعرت حين تخطيت الباب أني أدلف إلى خندق سفلي لا يمت إلى الحاضر ولا حتى إلى الماضي القريب ... جدران يكسوها حتى منتصفها سواد على هيئة طلاء وكآبة تكسو نصفها الثاني .. وبقع بيضاء مبعثرة هنا وهناك لا تخفف السواد بقدر ما تظهر بشاعته . وأرض لزجة لا تدري إن كانت من الأسفلت أو من الطين ورائحة ... رائحة لا تستطيع أن تحدد كنهها وإنما لا بد أن تحس معها بغثيان ، وضوء باهت يأتي من مصابيح بالغة القدم عشش عليها الذباب وباض ... مصابيح معظم ضوئها محكوم عليها بالسجن المؤبد داخلها والقليل الذي يتسلل منها هرابا لا يبدد الظلام بقدر ما يحتمي به ويتستر وإن وقع على الأشياء والناس فإنما ليظهر كل ما بها من حزن وقبح وبشاعة .

وأحسست حين احتوائي هذا كله وأصبحت جزءا لا يتجزأ منه والناس من حولي على سيماهم جد خطير يمشون كالمنومين ، وصناديق الفاكهة وعربات اليد وكراسي المقهى إلى صادرها بوليس البلدية وهي مكومة في ركن وأصحابها متناثرون حول الجدران والأركان متهالكين على الأرض ورؤوسهم مائلة على حجورهم . والعساكر يبدون في أرديتهم السوداء كعفاريت منتصف الليل .

أحسست حين احتوائي هذا كله أنني لا بد أنا الآخر قد ارتكب جريمة ونسيت ومنيت أن أهرب من المكان بأسرع ما أستطيع ولم أكن أستطيع مغادرة المكان فقد كان على أن أحجز في القسم ليلة لأرسل إلى النيابة في صباح الغد .. واحتاروا أين يضعونني فالحجز كان ممتازا والحجر الأخرى التي يوضع السياسون فيها عادة تعج بالمراقبات وصاحبات الحرفة ، ولم يبدوا لي في النهاية خيرا من حجرة الضابط التوبتجي . وهناك تركت ومعي حارس ..

كانت الحجرة على سعتها تضيق من فيها ، وكان أبرز الموجودين جميعا الضباط النوبتجي ، وحين رأيته جالسا إلى مكتبة كالحكمدار وعلى يمينه فوهات أكثر من خمسين بندقية مغمدة في فضاء الحجرة . وخلفه اللوحة الخشبية المثبتة في الجدارن والمثقلة بألوان وأشكال من السلاسل والقيود والدورع والبلط والخوذات ، وعلى يساره الخزانة الحديدية القديمة .. حين رأيته هكذا تخيلت أن لا حدود لرهبته وفوته ، وأنه يستطيع ببساطة أن يفضم دراعي أو يضع أصبعه في عيني ، مع أني كنت متأكدا أن لا شأن لي به ولا شأن له بي ...

ووجدتني أترك كل ما في نفسي وكل ما يشغلني وأنضم إلى جيش العيون المنصبة عليه من الناس المزدحمين أمامه ، والذين لا يفصله عنهم إلا سور خشبي منخفض ...

وبدا لي أول الأمر وكأنه ليس بكائن حي ... وإنما جسده فقد صنع من طلاء الجدران الأسود . ورأسه خوذة من الخوذات المعلقة وراءه . وعيناه فتحات بنادق ولسانه لا بد كرياج ...

ولكني حين هدأت قليلا واعتدت على المكان ، وتأملت كيف وضع " الكاب " فوق رأسه في وقار مخيف وزرر معطفه الضابطي - على غير العادة - إلى آخر زرار فيه ، وشد جلد وجهه في تزمت صارم فاختفى كل ما فيه من تجاعيد وأصبح أملس كجدل الطبلة المشدود ، وأضفى على نظرات عينيه بريقا تحس معه أنه لا ينظر بهما إلى الناس بقد ما ينقر ويلسع وحمل صوته ما لا يطيق وهو يشخط ويهدر بكلمات غير مفهومة كأصوات الرصاص .

حين تأملت كل هذا بدا لي حينئذ كأحد الجنرالات الطليان الأسرى الذين كنا نراهم أثناء الحرب ... وحدث أن جاء شاويش أو بيتشاويش لا أذكر ووقف أمامه ونادى عليه :

- يا فرحات ...

عجيب كيف ينادي بلا تكليف هكذا ، ولكن عجبي زال حين قال مرة أخرى .

- يا فرحات ... ياسي فرحات ...

ولم يرد الضباط النوبتجي إلا بعد أن قال له الرجل ... يا حضرة الصول ....

وكنت قد اقتربت حتى استندت مع غيري المستندين على السور الخشبي وسمعت لهجته التي فيها آثار باهتة من ريف الصعيد ونم صوته العالي عن الفضاء الواسع الذي ترعرع فيه ، وعن مسلتزمات الوظيفة من شخط ونظر وقد عملت عملها طوال تلك السنين فأتلفت صوته وأضافت إليه حشرجة كالتي تلحق براديو القهوة البلدي من كثرة رفع صوته . وذهب الجنرال من خاطري تماما ووضحت أمام عيني ملامحه التي كان يلفها ضباب الرهبة والسلطة ، ورأيتها صعيدية خالصة بأنفه الكبير كأنف رمسيس وجبهته الحادة العالية كجبهة منقرع ، وشيخوخته التي تنم عن تاريخ حافل في خدمة البوليس إذ لا بد قضى أجيالا حتى يصل إلى رتبة الصول ، وقد دخل الخدمة . " نقرأ " ككل الأنفار ، ورأيت جسده العجوز على حقيقته مستقيما في أجزاء منبعجا في بعضها الآخر ، وقد فرضت عليه البدلة العسكرية والحذاء الثقيل و " القايش " ... فرضت على جسده شكلها فرضا كما يفرض قالب المكوى على الطربوش شكله وأبعاده . وكان من الواضح أنه يحب هذا المركز حين تسند إليه مهمة الضابط النوبتجي ، ويحب أن يعامله الناس كضابط بحق وحقيق وهو الذي - بلا شك - قد قضى ثلاثة أرباع عمره يحلم بهذا وينتظر اليوم الذي يحمل فيه كتفه " النجمة " .. وكان باديا أن كتفه لن تحمل شيئا من هذا القبيل ، فهو ,إن كان يقوم أحيانا بدور الضابط النوبتجي إلا أن الإحالة إلى المعاش كانت تبدو وشيكة ، ونجمة الفجر أقرب إليه من نجمة الملازم الثاني ... وحين تركته وأدرت بصري في الحجرة ورأيت المكاتب الخاوية التي تركها أصحابها ، ودولاب الدوسيهات ، والمروحة القديمة الموضعة فوق الخزانة والتي كان يبدو أنها لم تستعمل منذ عشر سنين على الأقل ، وقد صنع التراب من نفسه عناكب فوقها ، والمصباح الكهربائي الذي له " برنيطه " من الصاج ، والذي يتدلى من السقف حتى يوازي رأس فرحات المائل على ما أمامه من أوراق ، والناس المزدحمين حول الحاجز الخشبي والذين يكونون خليطا - إن تنافر في أشياء - فإنه يتفق في نظرات القلق والحزن الغاضب والوجوه المنقبضة الجامدة . كان معظمهم متهمين عائدين من تحقيق النيابة وتضمهم سلسلة حديدية طويلة ، تبينت بعد حين أنهم لا يقيمون وزنا للسلاحليط أو السلسلة أو الصول فرحات نفسه .. فشخطته تقابل بزمجرة وأحيانا برد لا يقل عنها قسوة ، حتى انفجر أحدهم مرة لأن فيشه وتشبيهه لم يكن بعد قد جاء من تحقيق الشخصية ، وكان عليه لهذا أن يمكث في الحجز بلا إفراج حتى يجئ انفجر ولعن الدنيا والحظ والفقر والذين كانوا السبب . ولولا الملامة للعن الضابط النوبتجي هو الآخر . ولمحت الضابط الذي في فرحات يعاني الحرج الشديد ، وهو يسمعهم يدرون ، ولكثرتهم وشراستهم وضربهم الدنيا صرمة لا يستطيع - كالضباط الحقيقيين في نظرة - إخماد ضجتهم . ولما انتهى منهم ومضوا وعسكري في أول صفهم وعسكري في آخره ، والسلسلة ترن وتصلصل وهم لا يزالون يسبون ويلعنون ، تنهد فرحات تنهد الذي وضع أصبعه في الشق .

حين تركته وأدرت بصري لكل هذا وعدت إليه وجدت حينئذ يبدو عجوزا جدا ... عجوزا إلى الدرجة التي تحس معها أنه عهدة من عهد الحكومة عثرت

عليه ذات يوم أثناء " كبسة " على بلدنه فصادرته وختمته بالطربوش الأحمر والبدلة الميري . وظل في مخازنها حرزا من الأحراز يبلى ويصبح كهنة ولا تبلى ما عليه من أختام .

وقال وهو يجوس بعينيه خلال الموجودين :

- أف ... أقسم بالله الأشغال الشاقة أرحم من دي شغله .

وتوقفت عيناه على وفيها دعوة واضحة . وكنت أنا الآخر لي ساعات وأنا صامت فوجدت نفسي أقول :

- ايه ... الشغل كثير وإلا ايه ؟

وكمن كان ينتظر الفرج من زمن رأيته ينفجر :

- يو هوه يا أستاذ ... هو ده شغل ؟ دا سرك ... دا موريستان ... الناس اجننت ... يعملوا ايه ؟ .. حيخس عليهم حاجة ؟ كله على دماغنا والنبي أنا أشتغل في الحديد ميت سنة ولا أقعد هنا ساعة .. والأكاده أن كله كلام فارغ .. كله كدب ... تبالى وحياتك .

اللي معور نفسه ... واللي ضاع منه شاكوش .. واللي كان نايم قال وراحت طاقيته .. ونروح بعيد ليه ؟

مش دي واقفة من الصبح ؟ مالك يا بت ؟ أبقي مش الصول فرحات إن ما قالت أنهم ضربوها وأخذ سيغنها ... مالك يا بت ؟ فيه ايه ؟

وكانت " البت " امرأة واقفة ضمن الواقفين ترتدي ثوبا كان أسود ثم أحاله ساحر الحاجة إلى رمادي . وتتعصب بمنديل كالح لا يخفي إلا القليل من شعرها البني الأكرت القصير وقد تلوث نهاياته وتنافرت . وكان وجهها غامقا أسمر . وفي عينيها كحل أفسدته الدموع ...

وردت تقول في ذلة :

- أم سكينة والبت عيوشة وبنت أختها نبوية والود ...

- مالهم ؟ مالهم ؟

- اتلموا على وضربوني في بطني .. آه يانا ...

وفي ومضة خاطفة كانت في حالة بكاء تام . وأضافت والدموع والشهقات تختلط في حلقها ...

- وأم سكينة .. عضتني .. هنا .. في كتفي ... وزغدتني في بطني ... والبت عيوشة قلعتني الحلق .

وقهقه الصول وخشخش صوته وقال :

شايف يا أستاذ شايف ؟ مش قلتلك ؟

كله وحياتك كدب ... نصب واحتيال .. بقي بذمتك دي حيلتها البلى الأزرق ؟ حلق أيه يابت اللي خدوه ؟ حلق حوش ؟

- حلق ذهب يا بيه وغويشتين ..

والتفت الصول إلى وقال بلهجة ذكرتني بنجيب الريحاني :

- تفتكر والنبي مين المجني عليه في الحكاية ده ؟

- مين ؟ ...

- أنا ! ...

- أنا !...

- أنا يا فندم .. ما هو الكدب العلني ده يبقي سرقه بالإكراه .. ومحضرها المصيبة من صورتين . والمصيبة الكبرى أن أنا اللي حاكتب الصورتين ... واستدار إلى المرأة ولسعها بنظرة كاوية فيها أثار من لمعة الضحك وأمسك القلم وفتح دفتر المحاضر الكبير وكأنه يفتح بوابة المتولي وقال :

- هه .. الهي وأنت جاهي ربنا يا خدكم ويخدني معاكم خليني استريح ..

ولما انتهى من كتابة مقدمة المحضر سألها :

- اسمك ايه يا بت ؟

ولم ينتظر أن تجيب أو يحفل بإجابتها . وواجهني مستأنفا كلامه وأنا أحس أنه يحدث نفسه أكثر مما يحدثني :

- وأنا والنبي المجني عليه .. ومش في الواقعة دي بس ... في ألف واقعة .. في دشليون .. يمكن ما تصدقش .. اتفضل أدي دفتر الأحوال .. اصطبحنا بهتك عرض في الطريق العام و 592 اللي بعدها نشل حافظة نقود قال فيا قال 147 جنيه و 83 صاغ وورقتين ، ويمكن لجل الحلفان خمسة تعريفة كمان . واللي بعدها قال سرقة نحاس .. قابلين في البلاغ أن النحاس وزنه 50 رطل ومتهمين الخدامة ... حتة بت قد كده متطلعتشي كلها على بعضها عشرة أرطال .. وغيره وغيره .. من الصبح وأنا وأنا أيدي ما وقفت من الكتابة .. وكله ملاليم وكلام فارغ وكدب ... يا شيخ فضل .

والتفت إلى المرأة يسألها :

- ما تنطقي يا بت .. اسمك ايه ؟

وقبل أن تجيب ضحك وقال كمن تذكر نكته :

- واللا الجثة اللي لقيوها في الخرابة مالهاش صاحب ... قصدى صاحبها مجهول ... ليوا السر الإلهي طلع منه كده لوحده ومن غير ما حد يكلمه ... قوللي ؟ ... اشمعنى نفي الخرابة دي يموت فيها ؟ ... يعني ضاقت الدنيا في وشة ... ماكنتشي يتمشي لحد شبرا مثلا ؟ الله يرحمه مات ... وأتعذب أنا ليه ؟

نهايته .. كتب عليكم الهم والغم كما كتب على الذين من قبلكم .. وأدار رأسه إلى المرأة :

- يا وليه اسمك ايه ؟ ...

- خديجة ...

- خديجة ايه . انطقي ...

- خديجة محمد ...

- يا وليه تحركي ... محمد ايه ...

- وقبل أن تجيب أرقد قلمه ... وأسند كوعيه إلى الصفحة ووضع رأسه بين يديه وقال من تحت حافة " الكاب " . والمصباح الذي أمامه يهتز كالبندول فيتحرك ظل رأسه على الحائط الذي خلفه .. يتحرك رائحا غاديا كقرد كبير :

- أنا المجني عليه والنبي .. هي حكاية محضر ؟ هو أنا عجزت من شوية ؟ ثلاثين سنة خدمة وحياتك ويوميا بهذا الشكل ... جبتها من المنزلة لعنيبة ومن العريش لمرسي مطروح .. وشفت اللي أدبح عشان عود قصب . واللي حرق جرن علشان كوز دره .. الناس أجننت .. هو الواحد شاب من شوية ؟ ...

وأنهي كلامه فجأة وانقض على يد كانت تمتد إلى المكتب وخبط عليها بعنف وعصبية قائلا :

- قلتلك ميت مرة شوفلك نشافة تانية ... هو ما فيش في القسم كله إلا دي ؟ ...

أعوذ بالله احنا في سوق النور ؟

قال هذا وانظر حتى اختفى صاحب اليد مهيض الجناح والتفت إلى بوجهه الجاد المشدود الملامح :

- والواحد يبقي حارق دمه ... وأولاد الـ " ..." ولا هاممهم وعمالين يهزروا .

وكان يشير بعينيه وهو يتكلم إلى حجرة التليفون حيث اجتمع بعض العساكر حول زميل لهم بدين مترهل وله كرش كبير ، وكان بعضهم بكتفه والآخرون يحاولون جذب بنطلونه وإنزاله ، والرجل يلهث ويناضل بكل ما يسمح به شحمه من قوة ... ويركن عيني لمحت الصول فرحات يبتسم ويضحك ويقهقه ، ثم ينسى كل شيء ويمد رقبته يتابع المعركة . وظهر عليه أسف حقيقي حين انتهت المعركة بانتصار صاحب الكرش وتخلصه ممن حوله . ورفع حينئذ صوته قائلا بلهجة صعيدية خالصة :

- آه يا نسوان ... ما قادرنشي على أبو كرش كليته " شغت " ؟ !

وما كاد يتم كلامه حتى فتح باب جانبي وظهر المعاون في الفناء وأصبح القسم فجأة أصم وأبكم وهبطت الصرامة تجمد كل شيء وقال الصول للمرأة في حزم :

بتقولي اسمك خديجة محمد ايه ؟ ....

وتركته يحقق وشغلتني عنه داورية الليل وقد بدأت تتجمع في الفناء وحين تجمعت بدا منظرها عجيبا ... صفان من الظلام التام ليس فيه إلا بريق الزراير النحاسية الصفراء وفوق الظلام نار من الطرابيش الحمراء الممدودة تسند البنادق بلا حماس ... وتسمع في الظلام همهمات وضحكات تموت سريعا كالشهب . وقد يشذ عن الأيدي الممدودة كوع ويلكز جاره .

وفتش عليها المعاون وأنفه - كالديك الرومي - في السماء وعينه على زرار لا يبرق أو حذاء نفض عنه بعض سواده . وراح وجاء ثم دخل حجرته . والظاهر أنه تعشى فقد خرج وهو ما زال يمضغ وعلى شفتيه لمعة وفتش مرة أخرى وهو يجفف يديه بعد أن اغتسل .

واندكت الأرض بالأحذية وكعوب البنادق مرات وعواقب بعض وكدر آخرون ....

ثم ...جنبان سلاح و .. كتفان سلاح .. و ...داورية ... معتادان مارش ...

وخرجت داورية الليل تئز وتتمايل وفي آخرها العسكري البدين يحاول عبثا أن يوفق بين جسده غير المنتظم وخطواته المنتظمة ...

وأصبح فناء القسم بعد خروجها خاويا كعربة قطار الليل حين يقترب من آخر محطة . وعدت إلى الصول فرحات فوجدته لا يزال يحقق مع المرأة ويسألها :

- اتلموا عليكي فين؟ ...

- جوه السيما ...

- وايه اللي دخلك السيما يابت ؟ ....

- محمود ....

- محمود مين ؟ ...

- محمود !! ...

وهنا بدت على الصول فرحات صعيديته وسألها وجبهته معقودة دون أن يكتب في المحضر :

- محمود دا ايه يابت ؟ ...

- ابن خالتي ....

ووضع القلم من يده وهو يقول :

- آخ يا بلد كابوريا يا ولاد الـ ....

وأخرج من جيبه علبة صفيح قديمة من التي تباع فيها السجاير الغالية ولمحت فيها سيجارتين سادة وواحدة بفله وعلبة كبريت وأشعل السادة وغمغم بأشياء مبهمة تمس الآباء والأجداد وانجاب الأبهام حين قال لنفسه .

- سيما ... هه ... قال سيما قال ؟ ... وتدخلوا السما تنيلوا ايه ؟ ... هو انتو بتوع سيما ؟ ..

وانفلت من حديثه لنفسه يسأل المرأة وقد ثنى

ظهره إلى الوراء ووضع ساقا فوق ساق

- وتدخلي بعينه ناحيتي ولعله كان يود أن يشهدني على إجابتها فقلت له :

ايه هو المحضر لسه ؟ ...

- آه ... لسه ... هو هيخلص ؟ ... حاضر .. أنا عارف إني عطلتك .. دقيقة واحدة وأفضالك ..

والظاهر أنه حسبني شاكيا أو مبلغا .. ربما هذا .. وربما وجدني أصلح مستمعا يفضفض لي بما عنده في ليلة من لياليه الطويلة فآثر أن يؤجل انصرافي .. وكتب شيئا وهو يبتسم ويقول لي :

- وادي انت بتتسلى ... مش بذمتك أحسن ما لسيما ؟ ..

وتنهد وسأل المرأة ...

- هبه .. وطليقك سلط عليكي ليه ؟ تروحي السيما تنيلوا ايه ؟ ... ما تتكلمي يابت طليقك سلط عليكي ليه ؟ ..

- أصلي واخده عليه حكم نفقه ...

وكتب كلمة أو اثنين والتفت إلى بنظرة فيها استنكار :

- روايات ؟ سيما ؟ روايات ايه اللي بيعملوها دي ؟ يبلوها ويشربوا ميتها أحسن !

- ليه مبتعجبكش ؟ ...

- تعجبني ؟ تعجبني ازاي ؟ الفيلم لازم يملأ مخ الواحد ... إنما ايه المسخرة والرقص اللي لا تجيب ولا تودى ...

وأمسك القلم ووضع سنه على الدفتر وبدلا من أن يكتب قال لي بفتور :

- أنا مثلا لما قرفت من الروايات عملت مرة فيلم ...

ولم تجعلني قلة حماسته أصغي إليه تماما . ولكن كلامه وقع في أذني غريبا فقلت :

- علمت ايه ؟ ..

- علمت فيلم .. رواية .

- عملت ازاي ؟ مثلت فيه وإلا ايه ؟ !

لا .. فيلم ألفته مخصوص عشان السينمات .. وكدت استخف بالأمر كله وأضحك فقد اعتقد أنه لا بد شاهد حادثة أو جناية من جنايات التي تحفل بها حياته ويريد بسلامة نيته أن يجعلها فيلما . فقلت وأنا أكتم ضحكتي :

- فيلم ايه بقي ؟

فقال ببساطة ودون أن يتنحنح أو يعتدل أو يضع القلم ، أو حتى يلقي بالاً إلى المرأة والناس الذين عند الحاجز :

- كان واحد هندي جه يزور مصر .. راجل غني قوي ... من الجماعة اللي عندهم فلوس قد الفقر اللي عندنا ... الراجل جه .... وقعد في لوكاندة فخمة قوي زي ما تقول لوكاندة مينا هاوس واللا شبت ... وكان فيه جدع إلبان زي حالاتنا كده ...

وانبهت حواسي كلها فجأة ...

وملت على السور كثيرا حتى لا تفوتني كلمة من كلماته ..

وأقبلت امرأة تستغيث في شبه صراخ ، وكانت بيضاء حلوة وحواجبها مخططة بعناية فائقة ... وزمجر فيها الصول فرحات :

- مالك يا وليه ؟ .. مالك ؟ القيامة قامت ؟ ...

- الحق يا خويا .. الحق .. الواد موت أمه م الضرب !

- واد مين يا وليه ؟

- الواد ابن جارتنا ..

- واحنا مالنا ؟

- يوه مش أنت يا خويا النبي حارسك البوليس ؟

- وهو يصح أن البوليس يدخل بين الواد وأمه ؟

- يه ... ولما يموتها الدلعدي يا خويا ؟ !

- تبقي تفرج .. نبقي في الحالة دي نروح نمسكه ...

ويئست منه المرأة فانتحت ركنا قصيا بالعسكري الذي كان يحرسني وراحت تهمس له بالقصة وتهمس له أكثر بحواجبها . ثم غادرت القسم والعسكري ساهم وكأنما أعجبته همسات الحواجب .

وعاد إلى الصول فرحات وقال :

- أما مصايب صحيح . واد قال ! ... بس ... الجدع الإلبان ده كان خالى شغل .. يعني زي ما بيقولوا موظف في كوبانية الشمس .. يعبي الشمس طول النهار في قزايز ويسرح بيها في الليل ... هيء هيء .. آمال ! ... آه .. فتك في الكلام .. الراجل الهندي ده مرة طالع م اللوكاندة فوقع منه فص ألماظ يسوى النهاردة بالميت سبعين تمانين ألف جنيه شافه الجدع المصري قام واخدة ومديه للغني الهندي ..

- فص ايه يا راجل يا بكاش ؟

والتفتنا سويا ، وكان الذي قال هذا شاويش طويل معه دوسيه ما لبث أن سأل فرحات :

- عملت ايه في المتوفي المجهول الاسم ؟

- وهب فيه فرحات :

- حاعمل ايه يعني ؟ أمشي في الشارع أقول ياللي ضايع له ميت ؟ ...

- أنا رحت المستشفى وشفته ...

- تشرفنا ...

- شوف يا سيدي عنيه عسيلية وشعره شايب وعلى صدغه الأيمن ..

- وبتقول لي الكلام ده ليه ؟ ... هو أنا بعتك تخطبه ؟ ... روح شوف شغلك أحسن .. عسلية ايه يابو طويلة يا هاتف ؟

ثم التفت إلى قائلا : الراجل الهندي جه يدي للمصري فلوس إلا رأسه وألف سيف ما يأخد ولا مليم ، يهديك يرضيك ما فيش فايدة فكبر قوي في عين الهندي واكيف منه تمام .. راحت الأيام وجت الأيام وروح الغني بلده وهو محتار يجازي المصري ده إزاي ، فلقي أن أحسن طريقة أنه يشتري باسمه ورقة لوترية .. تعرف البريمو كانت تكسب كام ؟ وإلا استنى أما نشرب شاي ...

وصفق كثيرا حتى جاء صبي البوفيه ، وطلب الشاي واختلف معه طويلا على الطلبات التي تناولها في يومه .. الصبي يقول ثلاثة وهو يقول اثنين . ولم ينته الخلاف حتى باحضار الشاي .

وسمعنا باب المعان وهو يفتح والمعاون يخرج ويقف في الفناء ويتمطى ، وعاد فرحات يسأل المرأة :

- هيه ايه الحكاية ؟

- لما خدت عليه الحكم .. لف على عايزني أتنازل .. مارضيتش فبعتلي أمه وأخته وبنت خا ...

- هوس ... كفاية لحد هنا ... واتلموا عليكي في السيما ؟

- ايوه وفضلوا يضربو فيه لما كانوا حيسقطوني ...

- ايه ؟

- أصل أنا حامل في ست أشهر ...

وترك الصول فرحات المحضر وقد استولى عليه حب الاستطلاع وأعجبته القصة وسألها :

- يخرب بيتك ... حامل من مين يابت ؟

- منه يا بيه ... من طليقي ...

- امتى ؟

- قبل ما يطلقني ...

- وجوزك ده طلقك ليه وأنت حامل ؟

- عشان وقع على اليمين ...

- يمين ايه ؟ وطلقك امتى ؟

- ليلة أول رمضان اللى فات ... كسرت قلة أمه وأنا قايمة أنحسر فحلف طلاق بالتلاثة ليكسر قصادها دراعي !...

- وكسر دراعك ؟ ...

- لا ... طلقني ...

- أنا قلبي كان حاسس والنبي ... بقي قلة أمه هي السبب ؟

بقي عشان قلة أمه اكسرت في رمضان اللي فات ، يتحرق دمي النهادره طول اليوم ..قلة تمنها ساغ يا عالم أروح أنا ضحيتها ؟

- اسمعي يا بت ! هل لديك أقول أخرى ؟ عايزة تقولي حاجة ثانية ؟

- أيوه يابيه ... عيوشة هي اللي مقلعاني الحلق .. وأمها هي ...

- أف .. يا بت أقوال أخرى غير اللي قلتيها ؟

- هو أنا لسه قلت حاجة ...

ولم أتمالك نفسي فضحكت . وتحول غضب الصول هو الآخر إلى قهقهة عالية وانتهى من المحضر . وتنهد وتثاءب وهز رأسه .

وخرجت المرأة ومعها خطاب الكشف عليها ولدهشتي خرج معها كل الناس الواقفين .

- هيه ... كانت البريمو تكسب كام ؟ ...

- انت لسه فاكر ؟ ... تكسب مليون جنيه ... ما هي كانت غالية كمان !

واشترى ميت ورقة عشان يضمن المكسب ، وجه السحب واحدة منهم كسبت البريمو ... مليون من غير الضريبة . وفكرشي الراجل أنه يطمع عليها ولا حد دري ؟ أبدا .. عمل ايه ؟ راح شاري غليون بضاعة كبير قوي ... ووسقه حرير هندي من اللي على أصله ... واشي عاج ... واشتي ريش ... نعام ... واشي جوخ وكشمير ومايوليا محترمة ... وراح باعت المركب بالطقم بتاعها باللي عليها على اسكندرية ، وراح باعت عقد البيع والبوليصة خالصة كل حاجة لصاحبنا على

مصر .. يعني ما عليه إلا يستلم .

وهب ... وصلت المركب اسكندرية .. حاجة باسم الله ماشاء الله .. وبتاعه مين يا جماعة ؟ ... بتاعت فلان ... بالاختصار الراجل باع البضاعة اللي عليها واشترى بيها مركب تانية ، وخلى مركب رايحة بلاده بره شاحنة ومركب جاية شاحنة ، وإذا كان حتة الطرد قد كده الواحد بيخلص عليه في السكة الحديد بكذا ... شوف بقي مركب زي دي تكسب قد ايه في السفرية ...

واندفع في هذه اللحظة إلى الداخل رجل قصير نحيل يرتدي جلبابا كله زيت وبقع ورأسه عار .. ويرتدي قبقابأ له صوت مزعج ، اندفع كالسهم داخلا وهو يقول وعلى وجهه ألم عظيم :

- يا فندي ... يا فندي ...

وضايق دخوله الصول فرحات ، وكأن أحدهم قد صوب إلى أرنبه أنفه لكمة فاستدار إلى الرجل وأرعد فيه :

- مالك ؟

- ماليش يا فندي ... واد ابن حرام حدف طوبة كسرت لوح القزاز بتاع بترينة الدكان ... لوح القزاز اللي معرفشي أجيبه النهادره .. بنور بلجيكي من الأصلي اللي قبل الحرب .. تلاتة متر في تلاتة متر في تلاتة ... روح الله يخرب بيتك يا بعيد زي ما خربت بيتي ...

دكان ايه ؟ ...

- بقالة المودة والإخاء في الشارع العمومي ..

- عارفها .. إلى عالناصية قدام الجاراج ؟ ...

أيوه .. إلهي يعمر بيتك .. ربنا مايوريك ...

البترينة نهين اللي أكسرت .. اللي عالشارع وإلا التانية اللي ع الحارة

- الكبيرة يا فندم اللي ع الحارة ...

فقال الصول وهو ينفض يده من الأمر

ويستعد لمتابعة الرواية :

- تبقي مش تبعنا .. تبع بولاق ...

- إزاي يابيه والبيت تبعكو...

- الناحية اللي ع الحارة تبع بولاق ...

- يا فندي أعمل معروف ...

- قلتلك مش تبعنا .. روح قسم بولاق ...

- ياف ...

- روح .. جك ريح خماسي ..

واندفع الرجل يقبقب خارجا كالسهم وانتظر فرحات حتى اختفت دقات القبقاب ثم رجع محاولا أن يستعيد الجو الذي عكره القال .. وثنى ظهره إلى الوراء كثيرا ومال الكرسي لاتثنائه .. وخلع الكاب وأمسك به في يده يدبره أحيانا وأحيانا يهف به وقال :

- الراجل كان طهقان من مراكب الخواجات ، ففي ظرف سنة بنا اداله واتسع قوي .. وحبه يحبه راح شاريلك مراكب اسكندرية كلها ... وما أصبحشي فيه مركب انجليزي ...

ولاحظت أن ملامح الصول فرحات قد تاخت وانزاح عنها كل ما فيها من صرامة واشمئزاز واتخذت طابعا عجوزا راضيا . وعيناه هامتا في مساء الحجرة كفراشتين حالمتين ، وصوته خلا من كل تشويش وحفل بنشوة طارئة حلوة كانت تخرج الكلمات من فمه لذيذة وكأنه محلاوة بعس النحل ، فلا تملك إلا أن تحبها وتحب رعشتها الممتلئة بالرنين وهي تنساب في تؤده من خلال السكون الحزين الذي خيم حتى أصبح القسم كسرادق المأتم في آخر الليل ، حين لا تسمع فيه إلا فحيح الكلوبات .. وهمسات المعزين :

- وأصبح للراجل مراكب لا تحصى ولا تعد ... أصغر ما فيهم تيجي قد القسم دهه عشرة خمساتشر مرة . يسكتشي على كده ؟ أبدا ... الفلوس مالحستشي عقله فراح شاري بالإيراد بتاع المراكب مصنع نسيج كبير قوي ... وشغل النسيج نص مليون عامل ... بعد شهر واحد مصنع النسيج عمل مصنع قزاز .. والقزاز عمل مطاحن .. ومضارب رز ... وبعد كله اشي محالج واشي سكر .. واشي جاز .. واشي ورق .. واشي مكن ... واشي صلب ... المهم إنه جه يوم عليه امتلك فيه مصانع مصر كلها ...

وما عجبوش الحال الملخبط ده فراح لأئم المصانع وبناها على حتة تطلع ألف فدان لا... ألف ايه ؟ ... هي الألف تنفع .. ييجي عشرة آلاف فدان .. خمستلاف منهم مصانع والخمستلاف التانية سكن فيها العمال .. مش سكن كلشنكان ... لا ... سكن .. بيت .. بجنينة ببلكونة وحاوي مما جميعه حتى فيه عشش الفراخ والأرانب ... ومش بس كده كان ما يخدش من عرق العامل حاجة ... اشتغل بخمسة يأخد خمسة .. بعشرة بعشرة .. ما هو لا مؤاخذة في دي الكلمة العامل لما يأخد إلى يقضيه يشتغل ويتفرعن في الشغل ... واحنا شعب وارث الفرعنة أبا عن جد ... فبدل ما يطلع متر يطلع مترين ... وبدل جزمة جوز جزم ... مهو كده هات وخد ... اديني حقي وخد حقك .. أنت راخر العالم أصبح حاجة تانية ... هدوم نضيفة أربعة وعشرين قراط . عفريته مكوبة يروح بيها الشغل وبيجي بعد الضهر يلبس بدلة الأيافة والطربوش النسر والجزمة الأجلسية . وقهاوي ايه وجناين ايه وكازينات ايه وأبهة ايه ... والناس بقوا حلوين وفرحانين ومبسطوطين ... ولا قرف ولا بالاوي .. طول النهار ضحك وفرفشة والليل يروحوا السيمات .. والسيمات دي مهمة قوي ... كل شارع سيما وبالأمر لازم كل كبير وصغير يخشى ... والأفلام . أفلام تمام ... وبوليس مفيش بوليس ... العسكري بدل ما يتطلع 8 ساعات في الدوراية له كش قزاز في قزازة في وسط الشارع ... وكتب صغير واللي عازي حاجة بجيله ...

استنى بقي لحسن الواغش بعيد عنك جه .. أما نشوف إيراد النهاردة حيبقي كام ... وحقيقة كنت أسمع الضجة القليلة التي أنا المنساق هذه المرة وراء ما يقوله فرحات وما ذهلت له تماما ...

والتفت ناحية الباب فوجدته قد ازدحم بأربعة مخبرين أو خمسة طوال عراض أيضا ويرتدون اللبد ، وقد أمسك كل منهم في كل يد من يديه قبضة أطفال مشردين ، ومتسولين عجائز وكل منهم يجر ما في يديه جرا وقد ربط جلباب الطفل في جلباب الآخر ... وكان المخبرون يبدون كالعمالقة الطوال ، والأطفال يبدون بجوارهم قصار وصغارا ، كالكتاكيت المذعورة ، وعبروا الفناء ووصل ركبهم إلى السور الخشبي ، وكذلك وصلت ضجتهم فأنهي الصول فرحات كل الأصوات بقوله :

- بس .. اخرس أنت وهوه ... وقفهم طابور يابو طه قدامي .. بطل كلام عمى في عينك ...

وذهب باقي المخبرين واصطف الطابور في سكون .. ورجع الصول فرحات إلى الوراء كثيرا وهو لا يزال في نشوته فقلت :

- وبعدين :

- ولا قبلين ... حالا مكن من المانيا جه ... والمهندسين والعمال اشتغلت ... وارجو زراعينلك الصحراء كلها ...شوف بقي الرملة دي كلها لما تزرع ؟ .. الاكس يمشي فيها سبع تيام ما يحصلش آخرها .. وأهم من ده وده إن ما فيش قولة حاجة اسمها توابيت محاريث ... سواقي .. كلام فارغ ده ... كله مكن ... الري يمكن والدراس يمكن والسباه يمكن ...

وحتى كان فيه مكن يجمع القطن ويحش البرسيم والفلاح اللي عليه العمل .. مفيش قولة جلايبة طاقية ... بشت ... أبصر ايه معرف ايه ... أبدا كله يدل ... بنطلونات كاكي لحد الركبة ويرانيط بيضة نظيفة وجزم بنعل دوبل ما يدوبش أبدا . والفلاحين يسرحوا طابور يشتغلوا لغاية الضهر بس وبعدين يرجعوا طابور .. والنسوان كذلك ... بس دول في غيط ودول في غيط .. والبيوت كلها حجر ... ولمض جاز تبطل خالص كله كهرباء والسحب على صاحب الأرض ... وكل صف بيوت له ميز باكلوا فيه ويرجعوا لبيوتهم يقيلوا ، وبعدين العصر طابور على المدرسة يقروا ويكتبوا ويعرفوا اللي لهم من اللي عليهم . بس يا سيدي ما طولشي عليك الراحل من كتر الفلوس عنده زهد فيها كانت أرخص من التراب ... وحاكم الفلوس لما تبقي بالشكل ده الواحد لازم يقرف منها . اللي ياكل كل يوم بيقرف منه ... في يوم من الأيام أعلن في الراديون .. أيوه .. مهو نست أقولك إنه عمل محطة إذاعة وعمل ليها في كل بيت من البيوت وصلة .. أعلن في المكرفون أنه متنازل عن جميع .

وكان الصول فرحات ينظر إلى ويقول كلماته الأخيرة وكأنه يفكر في مشكلة أخرى ...

وقال للعسكري فجأة :

- أنت واقف بتعمل ايه يا جدع ؟ ! أنت ما وراكشي شغل ؟ ...

وقال العسكري في صوت متقطع :

- أصل ... إلا .. الأفندي .. أنا مستلمه ...

- مستلمه ؟ ليه ؟

حرس عليه ...

واستدار إلى الصول فرحات وألقى على نظرة ما رأيتها منه قبل الآن واستمر يحدجني طويلا . ولا ريب أنه لم يجدني أصلح كي أكون قائلا أو سارقا أو خاطف طفل ولست أدري ما كان يعنيه حين قال في بطء وشك كثير :

- آه الأفندي ده هو أنت منهم ؟

فقلت وأنا أبتسم :

- من مين ؟ .. المهم ... الراجل أعلن ايه في الإذاعة ؟ ...

واستمر ينظر إلى ثم قال بصوت تائه :

- آه ... والله مانا فاكر .. يا شيخ فضك ... أهو كلام .. أنت بتصدق ؟

ثم شد جلد وجهه حتى عاد كالطبلة الصارمة وجذب " الكاب " حتى بلغ موضعه التقليدي من جبهته تماما . وهوى على " المتسول " العجوز الواقف في أول الصف بنظرة صاعقة من عينيه وانطلقت جعجته المعهودة :

- ما تنطق يا بجم ... اسمك ايه ؟ !

 

 

المهزلة الأرضية

 

صفر: انت خدعته والا هو اللي خدعك ؟

محمد الثالث: أنا، أنا نفسي كنت عايز أروح المستشفي واستعملته كوسيلة

صفر: انت؟!

محمد الثالث:أيوه أنا

صفر:طب وتعمل كدة ليه؟ حد يعمل كدة ؟ حد يحب يخش مستشفي امراض عقلية هنا ؟

محمد الثالث: أنا

صفر: ليه علشان أيه؟

محمد الثالث:لأن أنا الجاني الحقيقي انتوا مش بتدوروا علي الجاني ..أنا الجاني.

صفر: جاني جنايتك أيه؟ يا تري أنت راخر عملت أيه؟ الظاهر ياما لسة هنشوف من أولاد قارون

محمد الثالث: أنا جنايتي كبيرة أوي شاملة بعدد كل حرف اتعلمته وكل قانون من قوانين الكون عرفته وكل سطر من كل كتاب اطلعت عليه

صفر: إيه ده كله أنت عملت أيه ؟

محمد الثالث:هربت . ساعة الجد هربت من دوري ومنكم .. في وسط المعركة بدل ما أضرب فريت واستخبيت جوه نفسي

صفر: بس لو مكنتوش تستعملوا الكلام اللي ما بيفهموش حد ده؟وحتي إذا الناس فهمته عبال ما توصل لمعناه يكون طار ..... ما تقولنا ببساطة يا أخي قضيتك أيه؟

محمد الثالث: ما هي المصيبة أن ما لياش قضية حتي ولو خسرانة..حتي ولو قضية باطل أنا جريمتي كبيرة أوي أنا العين اللي الحياة قعدت عشرة مليون سنة علشان تعملها فلما عملتها أختارت أنها تغمض وإذا فتحت تدعي أنها مش شايفة وإذا شافت تدعي انها مش عارفة وإذا عرفت تشكك في اللي عرفته . أنا اللي حاطط الكلمة فوق الأنسان والقانون فوق الحياة والقيمة المثالي بمعني اني عايز كل الناس تبقي مثلي أنا اللي مش عاجبه حد والنتيجة انه مش عاجب حد أنا اللي من كتر لومي لنفسي أدمنت الغلط ومن كثر ما أنا عايز أعمل حجات مبعملش حاجة خالص ومن شدة تصميمي عايش متردد

صفر: أيوه بس أيه اللي حصل وخلاك تفر وتستخبي زي ما بتقول ؟

محمد الثالث: الحريقة زادت

صفر: حريقة أيه ؟

محمد الثالث: اللي أنا دخانها

صفر: برضه مش فهمتش

محمد الثالث: الحريقة بين الأرض الكبيرة والناس الصغار بين الحاكم والمحكوم والمحكومين والحكام بين الظالمين لأنهم مظاليم والخايفين من ناس خايفين بين العلم والدجل بين الحقيقة والكذب ، الكذب عيني عينك وفي وشك وبالبنط العريض ويا ويلك لو قلت تلت التلاته كام

صفر: برضه وحياتك انت ما فهمت

محمد الثالث: المهزلة الأرضية ! كنت عايز أبقي المتفرج الوحيد علي المهزلة الأرضية بس أندمجت أوي وولعت النار .. أنا مأساتي..

صفر: مأساتك أيه بقي ما أنت لسة مسميها مهزلة

محمد الثالث: ما هي مهزلة الناس وإنما مأساتي أنا

صفر:إيه الحكاية اللي بوشين دي؟

محمد الثالث: حياتنا

صفر: بيعجبني والله لعبكم بالكلام ده . حريفة كلام بشكل الواحد منكم ما يسبش المعني الا وهو ماسكه في خانة اليك تقدر تقولي من غير حرفنة كدة إيه اللي قومها في دماغك وخلاك تعمل العملة دي

محمد الثالث: ما قدرتش أصمد أعمل أيه ؟ لا قادر أعملها زي ما أنا عايز ولا عارف أعيش فيها زي ما هي لا أنا بطل علشان أغيرها ولا أنا أرضي أنها تغيرني

صفر: والنبي تسهلها علينا وعلي نفسك يا شيخ

محمد الثالث: أقول لكم إيه بس أقول لكم كنت عايش مغمض فتحت مرة وسألت لقيت طريق السؤال صعب إنما في نفس الوقت لقتني موش عارف أرجع واغمض تاني لا أنا عارف أرضي ضميري ولا قادر أسكته وارشيه ماعادليش مكان بينكم ومكاني الحقيقي عالي عايز صفر لا انا شجاع علشان أقدر أنتحر ولا جبان علشان أقدر أعيش ولا جرئ علشان أسأل ولا عبيط علشان ما اسألش فكل اللي قدرت أعمله اني أروح مع اللي ما بيسألوش موش عن خوف أو جبن إنما عن مرض مع المحرومين مع القدرة علي السؤال أروح من غير شماته .. لا أنا شمتان فيكم ولا عايزكم تشمتوا في. لا أنا باعايركم بخيبتكم ولا أنتم تعايروني بقصر ديلي ليكم حياتكم السعيدة المزعومة ولي ديني

 

صفر:تعرفش تقولي باختصار كدة وانت محيرنا كلنا حتي الدكتور الغلبان محيره

معاك . أنت عاقل ولا مجنون محمد الثالث:بعد كل ده معرفتش

صفر: يمين الله ما عرفت

محمد الثالث: يبقي تقدر تسميني العاقل جدا لدرجة أن الناس فاهمة أنه مجنون أوي المجنون جدا لدرجة أنه فاهم انه عاقل........

 

 

أنشودة الغرباء

 

"الليلة من ليالي الشتاء * .. ليلة عجوز شمطاء، البرد يكاد يمتص كل ما على وجه البسيطة، برد قارس كئيب يفوح منه رائحة الفناء، وتهب نسائمه فتلفح الوجوه التي أنهكها سعي النهار واحتواها ظلام الليل، فتهرب منها الدماء مخلفة وراءها صفرة، تقشعر لها الجلود المنهكة.

لم يسع (المعلم) عمر الا أن يقفل باب (القهوة)، ليمنع النسائم التي اعتصرها البرد والظلام أن تدلف إلى المكان، ولكنه عاد ليفتحه قليلاً عله يلتقط هارباً من جحيم البرودة، ثم تربع على أريكته ومضى يتأمل (زبائنه) بعينه نصف المغمضة وقد استقرت خلف إطار عتيق من الأهداب، وبوجهه الأسمر تلك السمرة التي لا يفصلها عن السواد إلا غلالة شفافة، وبملامحه التي يصبغها طابع من الغموض..غموض قد تخف وطأته، فتلمح فيه اشمئزازاً من حياته.. وقد يزداد غموضاً فلا يفصله عن سمرته الا غلالة شفافة.. لم يكن يزيد عن الخمسين؛ ولكن تجاعيد وجهه كانت تنطق بأن ثمة أحداثاً هائلة قد عبثت بكيانه.

عبث (جاويش) المطافئ الذي كانت أشرطته وسلطته مضرب الأمثال، في شاربه، وهو يروي لنا مغامراته التي يعتز بها في قيادة السيارات والتي انتهت بساق من ساقيه ذهبت مع تيار الحياة، الدافق وكانت حنجرته الجوفاء البارزة من عنقه، تضفي رنة عجيبة تمده بسلاح قوي للتأثير على سامعيه، كنت أعرف أنه كثيراً ما يخلط الواقع بما يتمتع به من خيال خصب، ولكن ذلك لم يمنعنا من الإعجاب بخياله قدر إعجابنا بحقيقة أفعاله وهذا إبراهيم.. أو أبو خليل كما كنا نناديه دائما حتى اندثر لفظ إبراهيم فأصبح ينافس الحذاء القديم الذي يرتديه، وجلبابه الذي تناثرت فيه الرقع، ومعطفه الأصفر العتيق، وعمامته التي حال لونها من كثرة ما حملت من أقذار..

ومع ذلك فقد كان قريباً إلى نفوسنا جميعاً، كان يتكلم فنصمت مصغين، ففي صوته رنة حزينة عميقة تأمرك بالإنصات، كان كلامه كنغمات ناي قديم تنساب في ليلة ظلماء أو كانبثاق دمعة من دموعه يذرفها على (أمينة) التي أضاع من أجلها عشرة فدادين ثم أفاق من غفوته، ليجد نفسه فقاعة دفع بها الموج إلى الشاطئ حيث لا أمينة ولا فدادين.

أما حسن بك فقد كان مكتئباً هذا المساء، أهو جيبه قد عمر مرة أخرى بالنقود... هذه عادته كلما انتفخت حافظته، إنه ذو ثروة يسيل لها العاب، ولكنه يحاول دائما أن يهرب من ماله ومن الطرق التي يحاول بها البشر أن يستدرجوه بها، لاستثمار أمواله فيأتي إلينا.. ضارباً عرض الحائط بطرقهم وبماله وبالتيار، وما يزخر به من متدافعين.

والتفت إلى الشيخ شبراوي، فوجدته يلوك في فمه شيئاً وأمامه قدح القهوة (السادة) فابتسمت، كان إماما وخطيبا في أحد المساجد غير أن نفسه التي تسعى وراء المجهول أبت أن تتلقفها عيون المصلين الخاشعين باحترام، أبت أن يكون رائدا للجموع وهو أدرى بما في قلوبهم من ظلمات، وبما في قلبه هو من ظلمات قد تكون أشد حلكة، فلاذ بنا فراراً من نفسه ومن الجموع.

أما أنا... حقاً من أنا.. أنا غريب حتى عن نفسي، فلا تسلني من أنا، يكفيك أني واحد من الغرباء.

كنا جلوسا في تلك الليلة وقد اكتمل جمعنا ومضينا ننهل من الدخان الأزرق، يدخل صدورنا ويتصاعد مختلطاً بدمائنا إلى عقولنا فننسى، ننسى أننا عشنا يوماً في هذا التيار، وأننا كنا يوماً بين المتدافعين.

إننا ننظر إلى حلقات الدخان وقد تصاعدت من جوفنا وملأت المكان فمحى خلالها بقايا ما كان يحتوينا من الخضم الهائل، بقايا البغض والحقد الذي يترسب في أعماق مواكب النمل التي ما كان يهمها من دنياها غير لقمة العيش وجرعة الماء، إننا ننظر من شاطئنا إلى معركة الوجود كما نظر (نيرون) يوماً إلى حريقه، فتهمس الغبطة في نفوسنا: دعوهم في صراعهم، دعوا الذئاب تعوي، والقطيع يصرخ، والأفاعي تلدغ، والكلاب تنبح، والبوم ينعق، والصقور تنهش. دعوهم في حياتهم يعمهون.

وتأخذ النشوة الشيخ شبراوي مما اجتذبه في صدره ولاكه في فمه فينطلق في الغناء.. ولم يكن صوته حلوا ولم يكن كذلك قبيحاً، وإنما كان قويا. وأحسسنا أنه يغني لنا، بأنه يستمد ألحانه من دقات قلوبنا ومن أطياف الهدوء والسكون التي تحلق فوق رؤوسنا، يدفعنا الإعجاب به بل ويدفع بأبي خليل الهادئ الرزين إلى أن يفك عمامته، ويحيط بها وسطه، ويرقص ونصفق نحن، ثم يستخفنا الطرب فنردد مع الشيخ شبراوي أغانيه الذي يسره ما بعثه فينا من نشوة، وما أثاره فينا من مرح، فيمسك بعمامته ويقذف بها في الهواء.

ثم حدث شيء مفاجئ غادر بعثر الغرباء، التأم جمعنا، الجمع الغريب مرة أخرى ولكن، في فناء السجن هذه المرة.

ما للجمع يسوده غموض حائر متطفل؟ وما لأهل الشاطئ قد استكنت ألسنتهم في أفواههم؟ وما لنبع الهدوء الساحر الذي كان يسيل من وجوههم ينقلب غبرة يشع منها الوجوم؟ لم يكن السير عميقاً في خفائه، بل كان واضحاً وضوح أشعة الشمس الغاربة الحمراء وكأنها أنفاسها اللاهثة حين تحتضر، وهي تطل عليهم من بين القضبان.

كأن مواكب النمل قد ضاقت بهم وعز عليهم ما ينعمون به وحدهم، فأخذت القواقع من سلام الشاطئ، وأثقلتها بالقيود ثم أرسلتها إلى الأعماق.. إلى ما خلف معركة الوجود... إلى حيث لا يشعرون بدبيب المواكب وهي تمضي فوقهم، وكان دخانهم الأزرق هو السبب! لم يجرؤ واحد منا على أن يلوث قدسية ما نحن فيه من سكون، إنه الانتقال المفاجئ من الشاطئ الساكن إلى ضيق الأعماق.. إنه الليل حين يقبل - أول ما يقبل - على الإنسان الأول، وقد قضى يومه في نور بهيج. إنها الأشجان حين لا يحلو لها أن تداعب خيالنا إلا في ظلمة الليل.

أهناك رباط ما بين الأشجان والظلام؟ أم أن الإنسان حين يضيع بصره في حلكة المساء. يرتد إلى نفسه باحثاً منقباً فلا يجد إلا أشجانه التي تلوذ بأعماقه، ولا يلمح بارقة لأفراحه، فهي كالعطر الثمين تنعشه ساعة ما، ثم تمضي ولا تخلف وراءها أثراً؟

إنه الليل والظلام والأشجان هي ما تثير فينا الوجوم، وتدفعنا إلى السكون، غير أن ثمة شيئاً ما جعلنا ننسى أنفسنا ونصغ السمع إليه كان أبو خليل ينقر على (عكاز) "الأسطى" حنفي، ووجهه هادئ لا ينم عن شيء: هي الأحداث ترتفع وكأنها الجبال الشامخات وتنخفض وكأنها أعمق الوديان، ووجهه لا يتبدل فالابتسامة التي يخيل إليك أنها سوف تحتل وجهه ومع ذلك لا تفشيها ملامحه، هي هي، غير أن لحيته قد طالت وزاد سوادها، وكأنها طلاء فنان عربيد قد أحاط بوجهه، كان ينقر وكأن نقراته رعدة تمر بيده فيخفيها بتحريك أنامله، ولكنها ما لبثت أن اتخذت طابعاً نعرفه جميعاً، طابعاً يعرف الطريق إلى قلوبنا، فيسلكه حينما يشاء ليجدها تنتظره وترحب به.

فجعلته يضرب امرأة دخل عليها من نافذتها ذات يوم وقد اشتعلت النار في دارها، فوجدها تكاد تكون عارية... ثم يستقر بعد سنين السجن العجاف.  

كنا نرهبه ونخشاه، فالحياة التي قضاها خلف القضبان كانت تضفي عليه هيبة وكأننا حين ننظر إليه، نرى وراء طلعته المتهالكة السجن الرطيب.

وجلسنا نحن.. نحن الغرباء في دنيا الناس.. نحن الهاربون من ضجة الحياة وصخب البشر، نحن الذين رأينا الناس يندفعون في موكب الحياة المجنون وكأنهم قطرات الرذاذ قد تحولت إلى تيار ماجن دافق ينخر في صلب الوجود.. آثرنا أن نركن إلى الشاطئ، وأن نحتمي بمرفئنا الهادئ وكأننا قوقع نهر أشفق عليه الموج، فدفعها في حنان وتؤدة إلى شاطئه. أهو جبنا منا..؟ أم عجز عن أن نتدافع بالمناكب سمه ما شئت وسمنا ما شئت فنحن لا يهمنا رأي البشر المتخبط في مجراه، يكفينا أننا اعتزلنا ما اصطلح الخلق على تسميته بالحياة، وما نسميه نحن بتناحر النفوس وقد تحولت من فراشات ترفرف في سمو إلى عش للزنابير أهاجها يوم قائظ فمضت تلدغ من تشاء ومن لا تشاء، وما نسميه تضارب العقول وقد عز عليها أن تسير إلى الأبد في مجراها السليم فمضت تتصارع في جشع، وتتلوى في أنانية، وما نسميه تحجر القلوب وكأنها قبيلة من أكلة البشر، لم تجد ما يقيم أودها فراحت تتربص بنفسها.

الأخ يلعق دماء أخيه، والأم تتخير لنفسها غذاء دسماً من بين أطفالها، نحن أهل الشاطئ، اخترنا هذا الحصن - وما هو بحصن - واجتذبنا صاحب المكان فهو، وإن كان ليس منا الا أنه كان يقف في مكانه من تيار الحياة لا يريم، وإذا تحرك فلينقض على هذا أو يعرقل ذاك أو يتراجع في خطى يائسة معانداً التيار، التيار الضخم الجبار، وكأنما كانت وقفته أو انقضاضه سكون وسط هذا الجو المشحون بالحركة والجنون، فلما تراكم الناس خلفه يدفعونه، ويرغمونه على المسير أثر أن ينزوي على الشاطئ، وأن ينفض يده من المعركة، وأن يحني رأسه للعاصفة، لا عن فكرة تدفعه إلى التسليم ولا عن عقيدة تلح عليه في الانطواء، وإنما عن جبن وعن عجز.

كان لنا نعم الملجأ، وحين عثرنا عليه ونحن تائهون بين رمال الشاطئ تلقفناه تلقف الملهوف، واتخذنا تلك القوة المتداعية مركزا لنا ومقرا، فهي بصاحبها و (صبيه) أحمد الفتي الذي لم يتجاوز العشرين بوجهه الصبوح وشعره المشعث في فوضى محببة، ولذعاته عن طربوش (المعلم) عمر وهو يهمس بها لنا فترتفع قهقهتنا في ضحك صاف حبيب، حبب إلينا المكان، وربطنا إليه برباط لا تنفصم عراه.

ومضيت أتطلع إلى الباقين من الرفقاء - إلى الغرباء المتظللين بهدوء الشاطئ وسكونه، كان الجالس على يميني (الأسطى) حنفي بجثته الضخمة وشاربه، المفتول فهو محدثنا اللبق خاصة حين يداعب شاربه.

وانفجر الجمع الغريب، رقص الشيخ شبراوي وصفق حسن بك وقهقه المعلم عمر، وتمايل (الأسطى) حنفي وانطلقنا في غناء مرح صاخب.

إنها الأعماق حقاً، ولكننا غرباء بعيدون عن صراع القطيع وحريق الرغبات!

نحن الهاربون من الحياة نحيا الحياة التي وإن كان يمجها المتزاحمون، ويحتقرها المتصارعون النهمون؛ وإنما هي حياتنا.. نحن أحرار فيها، نحياها في الشاطئ الهادئ الساكن، أو في القاع المظلم الرطيب.

 

 

أبو سيد

 

 

الدنيا كلها سكون، والصوت الوحيد الذي يتسرب إلى الحجرة كان ينبعث من "وابور الجاز" وهو يون في ضعف مستمر واهن وكأنه نواح طفل عنيد مسلول، ولا يقطع ألوان هذا الشاحب البعيد إلا زحف "الكوز" على أرض الحمام، ثم صوته وهو يبتلع الماء ويصبه بعد ذلك في ضوضاء مكتومة .

واستمر الوابور يزن، والكوز يزحف ويبتلع وينضب ماؤه، وصفيحة الماء تقرقع. استمرت الأصوات كلها تتضارب وتحلق كالوطاويط في سماء الحجرة، حتى جاد الوابور بآخر أنفاسه، وانطفأ وعاد المكان إلى سكون الدنيا الثقيل.

ومضى وقت طويل قبل أن يفتح باب الحمام، ويسمع رمضان نقيق " القبقاب" على البلاط وهو يقترب، ويعلو، حتى دلفت امرأته إلى الحجرة، وأحس بنفسها الذي ليس غريبا عليه يملأ الجو .

وظل " القبقاب" رائحا غاديا وضوء المصباح ينتقل من مكان إلى مكان، وهمهمة حزينة خافتة تنحدر وتعلو من فم امرأته مع اقتراب الضوء وابتعاده .. ظل هذا يدور ورمضان مغلق عينيه، ومصر على إغلاقهما ولم ينتفض ويفتحهما إلا على قطرات من الماء البارد تلسع وجهه.

وجمده قليلا مشهد امرأته وقد وقفت منكوشة الرأس، والمشط الخشبي في يدها، تدكه بين غزارة شعرها الأكرت، ثم تشده بكل ما تسطيع ليحرث طريقه بين الجذور والسيقان وقد زمت وجهها السمين الخمري اللامع، وارتسمت دقائق التجاعيد حول أنفها السهل الفاطس، وبأن النور يشع من عينيها اللتين ضيقتهما في فراغ بال، بينما رذاذ الماء تدفعه جذبة المشط فيتساقط هنا وهناك، وعلي ثوبها الشيت النظيف ذي الورود الكبيرة الباهتة.

وانتهي جمود رمضان، ثم عاد إلى نومته وقال في شيء من التحدي وهو يغلق عينيه :

- مش تحاسبي يا ولية..قزازة اللمبة حطق من المية.

وردت المرأة بكلام مضغوط لم يفسر، ولم يهتم به، فقد عاد يتنفس بعمق، ويكن رجله ثم يفردها، ويشخر بمطلق إرادته، ثم قرر أن ينام.

وحين كان يجذب اللحاف فوق أكتافه، وارب عينيه وألقى نظرة أخيرة على زوجته التي كانت يدها تمتد إلى المصباح تمسيه، وشعرها تم نظامه، وازدادت لمعته، ووجهها قد ابيض حتى كادت تختفي تجاعيده في تلك الابتسامة الكبيرة الرائعة التي احتلت وسطه.

وارتعش رمضان، وأسرع يصفق عينيه في عنف، قد كان يعرف من زمان سر هذه الابتسامة، فاليوم يوم الخميس، والليلة ليلة الجمعة. وأحس الرجل بالسرير ذي الأعمدة الرفيعة يهتز، ويزيق، ثم بامرأته تستوي على السرير، وتدخل تحت الغطاء، وعبقت في الدنيا التي يصنع اللحاف سماءها، رائحة المرأة مختلطة برائحة ثوبها الشيت، ورائحة الصابون الرخيص الذي دعكت به جسدها. وكح رمضان وكان لا يريد أن يكح، وطال سعاله. وقالت امرأته ووجهها إلى الناحية الأخرى في صوت حنون ذليل :

مالك يا سي رمضان.

ثم سكنت قليلا قبل أن تقول في همس خافت مليء بالإثم :

أوعى سيد يكون صاحي.

ولما لم يرد، تنهدت في حرقة تصاعدت من كبدة قلبها، واهتزت أعمدة السرير وهي تستدير لتكمل آهتها، حتى أصبح وجهها يتدفأ بكثير من الحرارة والخشونة المنبعثة من رمضان.

وكان الرجل ساعتها يلهث، ولفح أنفاسه يحملها بعيدا إلى حيث لا يراهما أحد، ثم يلوكها في نشوة ويدغدغ ضلوعها في حنان، ومدت يدها وملست على جبهته اللزجة بالعرق، ثم أرسلت أصابعها تتحسس رقبته الغليظة النافرة العروق، وقالت في صوت خنفته وأطالت فيه حتى غدى كمواء قطة جائعة:

اسم الله عليك يا خويا، اسم النبي حارسك يا ضنايا

وكح رمضان، وكان لا يريد أن يكح، وزام من خلال فمه المطبق، ثم اهتز السرير وهو يستدير ليعطيها ظهره. وما كانت هذه أول ليلة يستدير فيها، ولا كانت هذه أول مرة يكح فيها ويزوم ويعبس. وهو لا يذكر كم شهرا مضت، وهل بدأت المسألة عقب أيام العيد الصغير أم قبله، وهناك ضباب كثيف بينه وبين البداية، فما فكر في الأمر أبدا ولا اعتبر ما حدث – يوم حدث – بداية لأية نهاية، تماما كما لم يتبين جاره سي أحمد الكمساري في شركة الأوتوبيس أن السخونة التي أصابت ابنته ممكن أن تكون البداية لنهاية يعزيه فيها الناس على البنت.

والناس على هذه الحال، وكذلك رد ما أصابه في تلك الليلة إلى نوبة البرد التي ألمت به, ومرت أيام، وراح البرد من جسده وحين استيقظ ذات صباح، ووجد العافية قد ردت إليه، قرر أن يفعلها في نفس المساء.

وانشرح خاطره لقراره ومضى إلى الميدان يردد في انتعاش مطلع الموال الوحيد الذي يعرفه، وتسلم صرة الميدان كما تركها ووقفت العربات لإشارته كما اعتادت أن تقف.

ويده قوية في قفازها الأبيض القديم كما كانت طول عمرها، وبدلته بزرائرها الصفراء اللامعة محبوكة عليه، تبرز أكتافه، وتضيق فوق كرشه فتكوره وتجعله كالبطيخة أمامه وقبعته يلمع فوقها الدهان الذي لا يفلح في إخفاء كل ما فيها من قذارة وبلى، وقلمه الثابت الثقيل في يده يلتقط رقم العربة في سرعة الواثق من يومه وأمسه وغده يدونها بخطه الواضح الذي كان يفخر بجماله .. كانت الدنيا هي الدنيا .. الدنيا التي هنا والتي هو ملكها، كانت لا تزال بخير، ولا يزال يتربع على عرشها، ويحكمها بصفارته يعز من يشاء ويذل من يشاء، فقط متى لوح بقفازه. وحين كان يكتب أول مخالفة كان عقله سارحا في الليلة التي سينفض فيها عن نفسه خمول المرض الذي لازمه أسبوعا ولكن أمور اليوم شغلته، وعيونه الزائغة هنا وهناك تنقر المخالف من تحت حافة القبعة، هذه العيون ألهته عن الخاطر، ولم يتنبه له إلا هناك .. حين كان يجاهد في خلع حذائه الميري الثقيل وقد ألقى بجسده المنهوك على "الكنبة" وامرأته تلقي إليه بتحيتها الوادعة، ثم تتربع على الأرض وتقول في حماس أطفأت العادة جدته :

عنك أنت.

وطوقت يدها اللينة قليلا سمانة رجله بينما مقدمة حذائه أصبحت مدفونة بين أثدائها، وحينئذ نقر الخاطر فوق رأسه ولم يعتبر ما جاء في باله عملا صبيانيا فراح يزغزغ المرأة بحذائه الثقيل العريض،وهي تضحك وتنهره وتدفعه وتميل إلى الوراء ثم على جانبها حتى تكاد تلمس الأرض وتشدد من قبضتها على عضلات رجله، وترخي القبضة في بطء وهو قد استمرأ اللعبة، وانتشى وهو يعب من صوت امرأته التي كانت تمطه وتدفعه ثم تحيله همسا .. ونصفها يضحك ونصفها يتدلل وكلها تريد وترغب.

في ضباب البداية يذكر رمضان هذه الليلة ولا ينساها فقد حاول في كل دقيقة منها وسالت عليه بحور العرق وقد أصم شعوره عن العالم، وأصبح هو وامرأته والفراش كل دنياه وتفكيره . وأزاحته المرأة مرات ومرات ولعن أباها آلاف المرات، والمعركة تدور وتدور لا تهبط إلا حين يتململ الصبي حتى يكاد يستيقظ وتبدأ حين يعود إلى غطيطه ويعود اللعاب يسيل من جانب فمه . وهجعت المحاولات قرب الفجر، ونامت المرأة ولم ينم رمضان. وليلتها مضت وليلة أخرى جاءت وصراع جديد نشب وثقة رمضان في نفسه ورجولته تستميت وهي تدافع عن نفسها، والواقع وما يحدث يسلب هذه الثقة   

وأخيرا سلم رمضان بعد ليال، وقال لنفسه في صباح يوم بصوت لا يدري أكان مسموعا أم غير مسموع : - لا حول ولا قوة إلا بالله . واللا ضعت يا رمضان واللي كان كان ..

ولم تكن أول مرة يتحاشي فيها امرأته وهي تقدم له الفطار، وإنما كان يود أن يزيحها في هذا اليوم من أمامه، ثم يسرح ويخبط رأسه في الحائط عله ينفلق .

كان شيء غريب يدور فيه، فبالقوة والعافية والعرق والليالي الطويلة كان عليه أن يصدق أنه لم يعد رجلا. وكان هو يأبي أن يصدق ويكابر هذه الحقيقة وهو مكسوف خجل كما لو كانوا يزفونه في البلد فوق الحمارة وهو عاري الجسد وعلي رأسه كومة طين .. ويعود من جديد يقول وكأنه يتلو آية الكرسي ليطرد جنية من الجان : - واللا ضعت يا رمضان، واللي كان كان

ويصمت ثم يقطع لقمة كبيرة من الرغيف ولا يأكلها .. ويقوم وينظر من النافذة ثم يكح ويبصق بصقة كبيرة علي العشش التي فوق السطوح أمامه ويعود إلى جلسته أمام الطبلية ويسرح في صمت طويل آخر وهو يحدق في الطعام ويمضغ صمته حتى يشبع فيرتدي البدلة وكأنه يخلع كل ملابسه، ثم يتسلل من البيت كحرامي النحاس وجسده هارب منه، وأطرافه لا يعثر عليها ..

وحين يقف وسط الميدان، والعربات تزدحم حوله والأرض والسماء تتحرك وهو حده الواقف الهامد الضائع..حينئذ يشعر بتفاهة هذه المملكة التي له، ويضايقه القفاز الأبيض ويحس بالقبعة وكأنها حجر الطاحونة يكتم أنفاسه ..ويومها لا يقيد محضرا واحدا، وماله هو والمحاضر والمخالفات فليدع من يخطيء يخطيء ومن يتحطم يتحطم ومن يقتل يقتل . وهل هو الذي ينظم الكون؟! لعن الله العربات وأصحاب العربات والمرور وكل ما يمت إلى خلية النحل التي يلسعه دويها وصرخاتها

ولأول مرة في حياته كره بيته ووجه امرأته النحس ولم يعد توا إليهما..وفي خطوات لا يهمه وقعها، ولا أين تقع راح يدق الشارع بحذائه الثقيل،وقد كفأ القبعة فوق جبهته، وامتلأت أخاديد وجهه بالاشمئزاز واليأس، وفك حزامه العريض،وتمنى أن ترحمه عربة نقل وتأكله.. ووصل أخيرا إلى باب الإنسان الذي لا يصادق في المدينة إنساناً سواه،وطرق الباب – ونادرا ما كان يطرقه - ولم يفاجأ طنطاوي، وإنما رحب به وسأله عن الصحة وكالمعتاد عن البلد والقرايب والنسايب والذي مات والذي عاش ومن تزوج ولكنه فوجئ فعلا حين قطع رمضان أسئلته وقال في جد : -اسمع ياواد طنطاوي..عايزين تعميره. 

لم يكن رمضان يشرب الحشيش كثيرا، ولكنه شرب هذه المرة حتى أن طنطاوي لم يأتمن الطريق عليه فأصر على مرافقته.ولم يرفض رمضان ولم يقبل ولم يرد على أسئلة صاحبه عن السر الذي يكمن وراء سكوته.وفي الطريق سرح رمضان بعيدا، وأوغل في الزمان والمكان، حتى وصل إلي سكينة جارتهم في بيتهم القديم على الترعة ثم السنوات القليلة التي أعقبت بلوغه.. وكان رمضان يتوقف عن السير ولا يدري لماذا ؟ ثم تجذبه ذراع طنطاوي فيمشي ويسرح ثم يتوقف حتى خطر له خاطر قاله في انبهار

- يكونشي ياولاد الحشيش ينفع ؟! وانفجر ضاحكا وقد كف عن المشي، وغمغم الطنطاوي وهو يهز رأسه في رثاء :

-الجدع انسطل والنبي.

وهم رمضان أن ينطق، وكادت الكلمة تغادر فمه، ولكنه لحق نفسه، وابتلع الكلمة، وابتلع معها ريقه الجاف. وحين جره الطنطاوي من يده عاد حذاؤه يقرع الطريق مرة أخرى.

ولم ينفع الحشيش .. أبدا. وعاش رمضان بعد ليلتها صامتا .. لا يتحدث إلا حين يمد إنسان يده فيستخرج من جوفه كلاما كالعصارة الفاسدة لا نكهة له ولا معنى، وإنما هو مزيج من الضجر والتبرم يعكره سخط غامق بليد، وامرأته تتكلم وتكثر من الكلام وهو لا يتحرك. 

وعمله في الميدان أصبح علقما يشربه في بطء الساعات التي يقضيها نصف واقف، وتحيته التي طالما انتفض بها لرؤسائه في مرورهم تضاءلت ووهنت وأصبح ينتزعها من جسده كما ينتزع الناب الفاسد .. وأصبح يتخبط في حبل طويل من الأكاذيب التي يقصها على الطبيب فيمنحه اليوم أو اليومين إجازة يقضيها حيث لا يقضيها. وعمره ما عاد لبيته إلا ويده مشغولة بشيء ولو بربطة فجل. فصار يعود ويده خاوية تتأرجح بجانبه وكأنها ليست من جسده.

وفي ذات عودة، سلم على حماته وكانت قد حضرت. وتندى جبين امرأته لبروده وعدم مبالاته، وأكلت النيران قلبها وحديثه لأمها لا يخرج عن : إزيك .. سلامات ثم صمت طويل من صمته البارد، تعقبه سلامات أخرى حتى ضاقت الضيفة، فلم تكد تلهف صلاة العشاء، حتى تمددت على السرير وهي تئز بآهاتها وتشكو من مفاصلها. ولم تمض ساعة حتى كان ممددا بجانب ابنه وامرأته على الحصير تحت أقدام الفراش.

وأيقظته حماته حين عثرت به لما قامت تتوضأ قبل الفجر. وحين كانت تخطئ كعادتها وهي تقرأ الفاتحة بصوتها الخشن، كان يسأل نفسه بعدم اكتراث ترى ما الذي جاء بها؟.

وكان الجواب ينتظره في المساء حين تنحنحت الحاجة بعد العشاء وقد تربعت على الأرض وأسندت ظهرها إلى الحائط وانتهت من إحاطة نفسها ورقبتها وصدرها بالمحرمة الكبيرة البيضاء، وبدأت تقول بصوتها المبحوح : - بقى يا بني ما خبيش عليك ..

والحق أنها أخفت عنه الخطاب الذي أرسلته لها ابنتها من ورائه، وإنما راحت تسوق له القصة في حنكة العجائز. وكان صمته هو الذي شجعها على أخذها دور أمه وأخته ثم ناصحته حين قالت :

- وكل عقدة وليها يا بني حلال .. ألف حلال .

عقدة ماذا ؟ وحلال إيه ؟! وماذا جاء بك ؟! ومالك أنت وما أضناك يا ابنة المركوب ؟! وبدأت اللعنات التي تنهال من داخله إلى داخله تصنع بصابيص النار التي ألهبت ثورته . فحتى هذه اللحظة لم يكن قد أدخل امرأته في المسألة، ولم يعترض وجودها وشعورها ورأيها طريقه وهو يترنح في الخرابة وحده إنه ليس وحده .. ومن يدري كم معه الآن ؟.

وشبت الثورة في حريق هائل قلب الطبلية وأطفأ المصباح وسمع الجيران طقطقة حطبها حين علا صوته في زئير مرتفع: علي الطلاق ما انتي نايمة في بيتي .

وباتت الحاجة وابنتها عند الجيران وقبل الشروق كان القطار يحمل الأم وحدها إلى البلد، ولو كان للبنت مكان في دار أخيها لحملها هي الأخرى.. كان رمضان في نفس الوقت يتسرب من الحارة وهو يتلفت حوله حتى لا يراه أحد، وحين قابله أبو سلطان وصبح عليه غمغم بتحية قصيرة، ورأسه منكس، وأقدامه تسعى في عجلة حتى يتوارى عن الأنظار. وكذلك فعل مع عبد الرازق بائع الجرائد، والحاج محمد الفوال وكل الوجوه التي يعرفها والتي لا يعرفها.. كانت أقل حركة فيها سره، والكلمة الواحدة فيها إشارة واضحة، والضحكة فيها سخرية منصبة عليه .. كل الناس يعرفون حتى الواقف بجانبه، المتعلق معه في عمود الترام، حين زغر له بعينه والترام يميل، كان يعرف هو الآخر.

ومضى إلى صرة الميدان كالريح وهو يتمنى أن يشف ويشف حتى لا يراه أحد، وبدأ العمل ومن لحظتها بدأ يحس أنه واقف في الوسط كالواجهة الزجاجية يتطفل عليه كل غاد ورائح، ويحاول كل محدق وناظر أن ينكش سره الباتع. وخيل إليه وهو يحاول ضم ضفتي نفسه ليحكم إغلاقها أن الناس يضعون عيونهم وأنوفهم بين ضفتيها حتى تبقى مكشوفة مفتوحة.   

ودعاه فشله إلى صب جام غضبه على الناس، وقضى اليوم بطوله يدون المخالفات ويهدر بأوقح الألفاظ ويزور مركز الشرطة جانيا ومجنيا عليه، وكان يومه حافلا. وتلقف الميدان من ساعتها رجلا كئيبا غريبا لا يفك وجهه الأسمر الجاف إلا ليعقده، ولا يتكسر صمته بكلمة تائهة عابرة إلا ليعود إليه الصمت يلون سمرته، ويرتعش له شاربه الذي نماه وشوشه حتى غدا كحزمة متنافرة من عشب شيطاني. وميدانه تحول ميدان رعب، وهو أصبح "بعبع" السائقين تخفق قلوبهم وهم يمرون أمامه – وما أقل ما يمرون – ويتندرون بينهم وبين أنفسهم على الجاويش الأسمر أبي شوارب، وخشونته وسلاطة لسانه، وحقده المرير على كل امرأة سولت لها نفسها أن تقود عربة أو حتى تعبر الميدان، ثم امرأته ..

آه من امرأته ! لقد أضناه التفكير فيها .. ماذا كانت تفعل يا ترى حين عاد مرة إلى البيت ولم يجدها .. قالت له يومها إنها كانت عند أم حميدة .. أم حميدة .. أم حميدة الصعيدية .. وأخوها مهني .. الولد الذي يلبس السكروته المكوية التي تظهر أفخاذه ويعقص الطاقية .. ماذا كانت تفعل عند أم حميدة ؟. ويوم أن ضبطها تطل من الشباك بلا منديل .. بنت الكلب .. ولا منديل!. 

وهكذا اعتاد التأخر في العودة بعد أن أدمن على باب طنطاوي، وعاد مرة في شيخوخة الليل وارتدى جلبابه الأبيض وأحكم طاقيته الصوف فوق رأسه، وفرش جسده المنهك المخدر فوق السرير، وأصوات البوم تطن في أذنه، وحديث طنطاوي ينبثق في مخيلته ثم يختفي.

وتبين بعد أن خف الطنين وغاب طنطاوي أن امرأته لا زالت مستيقظة .. ليس هذا فقط، بل إنها تنهنه بنحيب مبتل وكان رمضان ليلتها قد بلغ به الأمر منتهاه، ووصل إلى حافة مقاومته، فظل بكاء المرأة يتساقط على الحاجز الجامد الذي وضعه بينها فيلعقه، والحاجز يرق، حتى لم يعد يفصله عنها إلا اللحاف، وظل ينصت لبكائها، وهو لا يملك إلا الصمت حتى انهار، وقال وكل جزء من جسده ينشج بغير دموع : بس قوليلي يا نعيمة .. أعمل إيه.

ولم ترد، وإنما كانت تحملها شهقة وتضعها شهقة، وقد انخرطت في بكاء عال. وهزها رمضان في حنان ذليل وعاد يسألها. وماكان ينتظر منها شيئا وإنما ألحف في سؤالها ليغلب عجزه ويشرك إنسانا على الأقل في حل لغزه.

وبدأ البحث عما يفعله الناس،وبدأ السؤال،وفتح رمضان الكتاب، والتمس حل عقاله عند أصحاب الحل والربط وزار أسياد البلد كلهم،وأطعمته نعيمة الحمام والمنجة من توفيرها ومص زعازيع القصب وترنح على دفة الطار في الزار واستيقظ مع الفجر مرات ليرمي العمل في البحر وسوت له امرأته الفطير مختلطا بدامائها، وتجرع من العطار كل ما عند العطار،وفي كل مرة كان يعود وكأننايابدر لا رحنا ولا جينا. ثم عرف رمضان الطريق إلى المستشفى السري،وتعرف في طابورالمرضى على رفاقه وآنسته الصحبة بقدر ما امتلأ الكيس الذي خيطته له نعيمة بزجاجات الدواء وفرغ الكيس وامتلأ وانغرزت الأبر في عروقه وفي عضلاته ودخل المستشفي وخرج.وجاءت حماته ومعها بعض النقود، وراحت النقود كما راحت غيرها ولم تفرغ مشورات الحماة ونصائحهاولا آراء الأهل.واستمر رمضان يفتش عن رجولته في كثير من اليأس سائلا كل من يلقاه جاريا وراء كل مشير،متتبعا كل أصبع وحديثه أثناء ذلك لا يدور إلا عن البحث الذي وهب له نفسه،والحديث يدور في صلاة الجمعة،وعلى القهوة وفي سوق السمك، وعلى محطة الترام ومع تومرجي المستشفى وحتى مع حضرة الضابط،كل هذا والحال مثل الحال.

كان الحديث يدور بين رمضان ونعيمة فوق السطح والشمس تدفئهما في ذلك اليوم من أيام الشتاء، وكأحاديث الضحى الدافئ كان الكلام يشرق ويغرب في كسل هادئ، والوقت يمضي، ورمضان في يوم راحته يسأل ولا يسأل، ونعيمة قد اشترت "سردين" الغداء من الصباح وتمددت في استسلام فاتر. ودار الحديث ودار، وكانت لهجة رمضان أرق ما يكون فلعله فكر كثيرا في امرأته، وأنب نفسه كثيرا حين فكر، فاختار هذا اليوم بالذات وهذه الساعة نفسها ليقول كل ما يثقل ضميره. واقترب مما يريد، وطأطأ كلامه وكأن حديث الضحى لا زال يدور وهو يقول : -اسمعي يا نعيمة.

- خير.

وتردد رمضان ثم أسلمه تردده إلى سكون راح يخلص نفسه من حرجه ويتملص منه ليقول : - مش .. مش أحسن أخلص ذمتي من الله و ...

وحين نظرت إليه في كسل وبشائر ضحكة تكاد تهب منها لحديثه المتعثر .. واستمر هو يتهته : أحسن .. أحسن .. أطلقك يا نعيمة.

اعتدلت المرأة حتى واجهته ودبت على صدرها وقد أربدت ملامحها وبان فيها عتب كثير : - يا عيب الشوم يا رمضان، إيه الكلام ده، دانت أبويا وأخويا وتاج راسي، دانت في عيني من جوه، هو أنا أسوى الأرض اللي بتمشي عليها، دانا خدامتك يا حبيبي، بقى ده كلام، مقصوصي شاب، شعرك ابيض، ونعمل زي العيال .. دا ... دا .. يصح يا بوسيد.

ولم يسكتها إلا موجة البكاء التي أوقفت لسانها، وسحبت المنديل من فوق رأسها وضمدت به دموعها حين قامت هالعة تهبط السلم وهي تتعثر على درجاته.. وتركت وراءها رمضان يتحسس تجاعيده، ويملس على رأسه التي كادت تخلو من الشعر، ويمر بيده على بطنه المتكور ويشد شعر رجله الكث الذي ابيض أكثره وينظر إلى ابنه سيد .. وتأمل الصبي وكأنه يراه لأول مرة منذ سنوات ! كان سيد يرقد أمامه وقد غطى رأسه بكراسة الحساب، وظل الرجل يلتهم الولد بعينيه ويتوه، ثم يعود إليه غير مصدق لا حول ولا قوة .... أيكون قد نسي سيد في زحمة البحث عن رجولته ؟ أيكون قد نسي حتى أن له ابنا ؟ أبو سيد ينسى سيد ولا يذكر من الدنيا إلا نفسه ! كيف حدث هذا ؟! كيف ؟

سيد .. يا سيد .. تعال يا سيد .. اقعد هنا جنبي .. أيوه كده .. يا بني يا حبيبي .. باسم الله ما شاء الله .. وكبرت يا سيد .. بقيت طولي .. خليني أبوسك يا سيد .. هه .. وكمان مرة .. يا بني .. انت كنت فين .. وأنا فين .. وكبرت يا سيد .. وحتبقي راجل .. وأجوزك يا سيد .. سيد .. حجوزك واحدة .. حلوة .. لأ .. أربعة .. أربعة حلوين عشان خاطرك .. وتبقى راجلهم .. فاهم .. فاهم يعني إيه راجلهم يا سيد .. معلهش .. بكرة حتفهم .. وتخلف .. سامع يا سيد حتخلف .. وأشيل خلفتك يا سيد .. بإيدي دي ..فاهم يا سيد ..

 

 

نظرة

 

 

كان غريبا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانا كبيرا مثلي لا تعرفه، في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدا حقا ففوق رأسها تستقر "صينية بطاطس بالفرن". وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض، قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه حتى أصبح ما تحمله كله مهددا بالسقوط .

ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل وتلمست سبلا كثيرة، وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية، ثم أضبطهما معا فيميل رأسها هي. ولكنني نجحت أخيرا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبا حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه . لست أدري ما دار في رأسها فما كنت أرى لها رأسا وقد حجبه الحمل . كل ما حدث أنها انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة "ستي" . 

ولم أحول عيني عنها وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين .

وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها وتخطو خطوات ثابتة قليلة وقد تتمايل بعض الشيء ولكنها سرعان ما تستأنف المضي . راقبتها طويلا حتى امتصتني كل دقيقة من حركاتها فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة .

أخيرا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم، في بطء كحكمة الكبار . واستأنفت سيرها على الجانب الآخر وقبل أن تختفي شاهدتها تتوقف ولا تتحرك . وكادت عربة تدهمني، وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام والحوض والصينية في أتم اعتدال أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون . 

ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيرا فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها وقبل أن تنحرف استدارت على مهل واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة.

 

 

لغة الآي آي

  

لم تكن بالضبط صرخة ولكنها كانت الأولى بعد منتصف الليل بقليل ، تصاعدت ، غير آدمية بالمرة . حتى الحيوان ممكن إدراك كنه صوته . ولكنها بدت لأول وهلة جمادية ذات صليل . كعظام تنكسر وتتهشم تمسكها يدا عملاق خرافي القوة وبنية صارمة لا رحمة فيها تدشدشها .. فجأة وفي المنزل الهادئ المظلم الفاخر الإظلام ، السابح في سكون مسود تلمع فيه حواف الموبيليا الأنيقة الموزعة بعناية وذوق ، بيت ساكن نائم يرفل في رائحته الليلية الخاصة التي تميزه عن أي بيت ، وفي الحي المترف الذي تتثاءب نوافذه وأضواؤه واحدة وراء الأخرى ويؤوب إلى الرقاد على ضجة المدينة ووسطها المستيقظ كغمغمة غارق في الأحلام .

 

وفي وسط هذا كله ، ومن مكان لا تستطيع تحديده أو تعرف إن كان يمت حتى إلى الحي . تصاعد ذلك الشيء الغريب الغامض الأول ، مفاجئا وكالطعنة الملتاثة ، حافلا بأنين التمزق ، وكأنه صادر من حنجرة تتمزق أحبالها الصوتية لتصدر الصوت ويكاد يمزق طبلة أي أذن يقع عليها .

 

ودونا عن سكان الحي والبيت ، بدا وكأنه الكائن الوحيد الذي سمعه ، كان مغمض العينين لا يزال بينه وبين النوم مشكلة لا بد لها من حل ، ومر الصوت مفاجئا غير مألوف من الصعب تبينه ولكن جسده في اللحظة التالية كان يقشعر بخوف طفلي مذعور وإن لم يتسغرق زمنا . أسلمه إلى عينين مفتوحين لآخرهما وقلق وعاصفة من الاضطراب ، فالإحساس التالي الذي واتاه كان إحساسا بالذنب ، شعور غامض يربطه بالصوت ، ويؤكد أن الصلة بينهما من صنعه ومسؤوليته ، وأن عليه وحده يقع التحمل للنهاية ، وبالغريزة التفت كانت زوجته لا تزال على وضعها ففقط في اللحظة التي التفت فيها ماءت مواء طال بعض الشيء ، ثم بإرادة نائمة انتقلت إلى جنبها الأيسر وقربت ساقها ، ربما كان الأثر الوحيد الذي أحدثه الصوت في جسدها المستسلم لأول مراحل النوم ، وارتاح وبعض الشيء اطمأن وهو يواجه الأمر وحده ، فقد كان ظهورها على المسرح لحظتها كفيلا بزيادة ارتباكه . ما هذا الصوت ومن أين جاء ؟

 

في لحظة مر بخياله ألف احتمال إلا الاحتمال الوحيد الذي كان يخاف مروره . لم يكن قد تغير في البيت أو في الحي أو في دنياه كلها شيء ما عدا ذلك الشيء الواحد الذي اغتم له ، ولا بد أن يكون الصوت الجديد من صنع القادم الجديد حتى ولو نفى عقله بشدة وأبي أن يصدق .

 

ولم يشأ أن يفكر أكثر مجرد صوت وحدث ، المهم ألا يعود يحدث ، ومر بعض الوقت، أحال اللحظة إلى دقيقة ، أو دقائق ، ولا شيء يتغير داخل الليل الساكن ، والأمل يقوي...

 

ولكن وشوشة غامضة حدثت ، اندفع منها إلى أعلى فجأة صوت كالطوفان الهادر العمودي له وقع العظام نفسها وهي تحق وتتدشدش ، صوت أقرب إلى رعد تنفثه السماء في ماسورة مكتومة ، ما لبثت أن فتحت وسلكت في استغاثة راعدة مولولة ممدودة يخاف صاحبها أن ينهبها وكأنما الموت عند نهايتها .

 

انتهى الأمر ، لم تعد هناك فائدة .

 

كان هذا الصوت الثاني مزعجا حقا حتى أنه ، مع علمه هذه المرة وتأكده من مصدره ، لم يستطع كبح جماح ارتجافته ، ليس خوفا منه ، وإنما من الشيء المجهول المروع الذي يختفي لا بد وراءه ويحدثه ، مزعجا ومحيرا إلى درجة لم يلحظ معها أن رفيقة الفراش قد اعتدلت نصف اعتدالة والتفت إليه قائلة بهستريا مفاجئة :

 

- إيه ده ؟ قول لي بسرعة وحياتك إيه ده ! وحياتك بسرعة بسرعة بسرعة .

 

وقبل أن يفكر فيما يقول انخلعت عنه ، ناظرة إليه بشك متوحش :

 

- أوع يكون هوه ؟

 

وقبل أن يفتح فمه أردفت :

 

- أنا مش قلت ، أنا مش قلت ، اتفضل بقي ، أتفضل بقي ، أنا مش قلت .

 

وحقيقة لقد قالت وعارضت وكل ما حدث كان رغم قولها وإراداتها وبالتأكيد هي ألآن بسبيلها إلى إعادة ما قالته ، وعليه أن يتذرع بالصبر ويقول لها كلاما مطمئنا كثيرا .. إنها مجرد آهة ... آهة ستمر ، ويعود كل شيء إلى سابق عهده ...

 

أكان معقولا أن يعود أي شيء ليلتها إلى سابق عهده ؟ الكلام نفسه وربما الألفاظ نفسها.

 

وما فائدة الكلام ، والكلام الذي دار كثير ، وقد كان ممكنا ، مادام الوضع هكذا ، زوجة حلوة قوامها كقوام المانيكان ، وساقها حتى في الظلام يظهران من قميص النوم في إغراء لا جمهور له ، وحتى هناك تواليت وماكياج للنوم وعناية خاصة بالشعر ، ودهان مخصوص للبشرة وزوج هناك دائما بينه وبين لحظة النوم مشاكل لا بد لها من حل ، زوج امتلأت روحه بالتجاعيد مثلما فقد رأسه الكثير من الشعر وعيناه القدرة على الرؤية ... ما دام الوضع هكذا ، فقد كان ممكنا أن يدور الكلام نفسه وربما الألفاظ نفسها حول أي موضوع ، كالعادة ، لا تلتقي عنده وجهات النظر ، المهم أنهم أصبحا بشيء من التحدي ينتظران الصرخة الثالثة ، التي لن تجيء كما يؤكد الزوج والتي لا بد أن تأتي كما تصرخ الزوجة ومن المطبخ هذه المرة كان المصدر واضحا ولا شك في أمره ، انطلق مواء كمواء القطط ، يحاول صاحبه كبته وخنقه فيخرج مضغوطا ثاقبا إرادته فيبدو كما لو كان رجل قد قرر بجماع ما يمتلكه من قوة ويسبق إصرار ، أن يتأوه كما يريد ، ولتقم القيامة بعدها ، انطلق صفير معذب متألم متظلم باك غاضب كافر مستغيث بائس مؤلم زاهد ... آي ، آي . آي . آي طويلة وقصيرة ، ممدودة ومبتورة عاليه بكل قواه يرفعها ، منخفضة بجماع إرادته يخسفها ، مجروحة دامية ، لاسعة كالنار في العين ، كاوية كصبغة البود في الحلق ... حارق كآثار الحامض المركز .

 

فتحت الزوجة فمها تصرخ في هوس من تأكد قولها ، وانتظرت أن تنتهي الصرخة لتطلق صرختها هي ولكن انتظارها طال ، وبدأت رغما عنها تسمع ، ومن المذهول استمر فمها مفتوحا وأذناها بأمر قوة قاهرة تصغيان ، ثم بدأت ترتجف وتقترب من زوجها وتمسك بيده لتوقف الرجفة ، ونفس اللحظة التي كانت قد قررت فيها أن تطلق لفزعها العنان وتتغيث صارخة ، انتهت الصرخة فجأة ، وكأنما انكسر الجهاز الذي يصدرها .

 

وكان الصمت الذي حل تاما ساحرا كالدواء الشافي المعجز لو لم يحل ، وفي اللحظة التي جل فيها ، وعلى تلك الصورة الكاملة ، لفقد أحد أو الجميع عقولهم .

 

قالت الزوجة بعد جرعة صمت سخية ، كده يا حديدي .. كده ..

 

وأجاب بهمس مناه ألا يصدر : أرجوك يا عفت ... أرجوك ...

 

ولكنها لم تستجب ، بفحيح أكثر انخفاضا وإلحاحا سألته : بس أنا عايزه أعرف ... أرجوك أنت ... أنا ح أجنن عايزه أعرف ... ماوديتوش لوكاندة ليه .. ما سبتوش يتحرق مع أهله ليه ... عملت كده ليه أرجوك قولي بس ... عشان ما اجننش ...

 

كيف يخبرها نفسه لا يدري لماذا أقدم على ما أقدم عليه ، كان قد اتخذ قراره من زمن وكف تماما عن مساعدة أهل " زينين " وتوظيفهم والتدخل لقضاء المصالح أن أهل بلده هؤلاء لا يكاد يبرز من بينهم واحد حتى يتاسبقوا إلى جذبه إلى أسفل وإغراقه في حل مشاكلهم ، مشاكل لو تفرغ لها لاحتاج لأضعاف أضعاف عمره ، فلا يوجد إنسان إلا وله مشكلة حادة ملحة تطلب الحل وتستحثه ، ومائة ألف نسمة في زينين وما حولها بمائة ألف مشكلة ، بقرار حاسم باتر منه أن تبقي له حياته الخاصة ومشاريعه وطموحه وأن ينفض عن نفسه هذه الأيدي الكثيرة التي تريد إنزاله وجره إلى حيث هم وكأنما لا يطيقون رؤية البارز العالي ولا يسترحون حتى يبرك مثلهم ويعجز .

 

ولكن السكرتير جاءه قرب الظهر قائلا : إن أبا فهمي وعمه بالخارج وأنهما يريدان رؤيته ، وحياته ليس فيها إلا فهمي واحد , أول ، وربما آخر طفل أو إنسان يعترف الحديدي لنفسه إنه أذكى منه ، كان فهمي إذا وقف ليجيب وقد عجز الفصل عن الإجابة التفت الحديدي بكليته ناحية ، يتأمل ملامحه الشاحبة ، ووجهه الملئ بالعظام النائتة والذي تكسوه مع هذا غلالة من مهابة خفيفة ، مهابة التفوق أو العبقرية ، وكل كلمة ينطقها كان يتأملها وتبهره حتى الطريقة التي ينطقها بها ، فكل كلمة كانت الصواب بعينة ، كل كلمة بالضبط ما يجب أن يقال وما يعجز الجميع عن قوله ، فهمي كان يقولها ببساطة ودون أي جهد ، في ذلك الفصل من المدرسة الإلزامية ذي الجدران المتساقطة الطلاء الكاشفة عن الطين الذي بنيت به الحيطان ، الفصل ذي السبورة الكالحة البالغة الصغر وكأنما هي سبورة خاصة لتلميذ واحد ، المزدحم بعشرات الطواقي الصوف والبيضاء القطن وأحذية الإخوة الكبار أو ربما الآباء والقباقيب والحقائب القماشية التي صنعتها كل أم لابنها ، أو خبطت على المكنة فوق البيعة مع الجلابية ، الأيام الأولى التي كان الحديد يتعرف فيها على مدخل العالم المقروء المكتوب ويحاول أن يحذق مبادئ أسراره ، وفهمي رفيق تلك الأيام ومثلها الأعلى ... أيكون أهله هم من ينتظرونه بالخارج .

 

وأمر بدخولهم ...

 

ومن باب الحجرة دخل ثلاثة أو أربعة أناس من حجم قصير تخين واحد .. ورابعهم مثنى على نفسه لسبب مجهول . أجال بصره فيهم ، إن ملامح فهمي محفورة في ذاكرته لا تمحى أو تموت . ,أجال بصره محاولا أن يعثر على من يصلح ليكون أبا لفهمي أو عمه ... ولكن ملامحهم بدت غريبة حتى على أهل زينين بشكل عام ...

 

- أمال فين فهمي ؟

 

وتسابقوا في ارتباك عظيم يجيبون ، وينتهون إلى الإجمال على الإشارة للشخص الرابع المثني على نفسه .

 

- ده .

 

- أيوه يا بيه ...

 

- أنت ؟ ..

 

- أيوه يا بيه .. هو ...

 

- أيوه ... يا ...

 

ورفع رأسه يواجهه رغم بقائه متنبا . وحدق الحديدي طويلا فيه كمن يفتش في كومة من قش قديم عن إبرة ملامحه لطفل صديق كان أعز عليه من نفسه ...

 

- أنت فهمي ؟‍‍!

 

- أيوه .. يا .. فاندي ...

 

جاءه الجواب من وجه المومياء الخارجة لتوها من القبر أو المستعدة توا للدخول فيه . وجه منقبض بالألم وكأنما ثبتت ملامحه عنده وحنطت عليه ...

 

- أنت فهمي أبو ...

 

- أيوه ... أبو عنزه يا بيه .. ده كان مع في المدرسة ... بس حضرتك مش فاكر .

 

أمعقول هذا ؟ من الطفل المرتب النظيف الذي تحيط بوجهه مهابة النبوغ ، ومن العينين اللتين يطل منهما الذكاء النفاذ والقدرة المعجزة على الإدراك ، أين هذا من ذلك الرجل الذي يبدو عجوزا محطما تجاوز الخمسين ، المظلم القسمات كالأرض البور ، المطفا العينين لضيقهما كشريط اللمبة حين يحمر من تلقاء نفسه ويقصر ويحترق لدى فراغ الكيروسين .

 

وأحس بفجيعة ذات طعم خاص . كان دائما متأكدا أنه سيلقي فهمي يوما ما . وكان يعد العدة لهذا اللقاء الحافل . إن قدرا كبيرا من الرهبة التي يحسها لفهمي مبعثة أنه كان يتخيل دائما أن فهمي سيظل متفوقا عليه وعلى الآخرين . وأن الذي باستطاعته أن يتفوق كطفل لا بد باستطاعته أن يتفوق كشاب ثم كرجل .. ولم يكن أبدا يتصور أن اللقاء سيتم على هذه الصورة وأن الطفل الذي في ذاكرته سيمخض عن هذا الرجل .. كان يدخر اللحظة التي يقابله فيها كلاما كثيرا يريد قوله . وكيف أنه إذا كان قد أصبح الأستاذ الدكتور الحديدي أكبر مرجع في الكيمياء العضوية في الشرق وإذا كان قد أصبح رئيس مجلس إدارة مؤسسة كبرى ومرشحا أكثر من مرة للوزراة وعضوا في عشرات اللجان والهيئات العلمية في الشرق والغرب فجزء كبير من هذا الفضل يرجع لفهمي ، فقد كان الصوت الذي ظل لأكثر من ثلاثين عاما من الزمان يلهب طموحه ويدفعه للتفوق حتى ينتصر ، ولو مرة واحدة ، على الطفل العبقري الذي ظل يحافظ عليه في ذاكرته كصور القديسين التي لا تمس . وها هو اللقاء وها هو القديس .

 

- أن فهمي أبو عنزة ؟

 

- أيوه يا بيه .

 

- عنزة إيه يا بيه ؟

 

العنزة التي سرقها ليشتري لحسين أبو محمود والد منصور الألدغ حقن الدواء 606 التي قيل إنها بخمسين قرشا وأنها دواؤه الوحيد .. فقد كان فهمي شهما أيضا . لا يتردد في الذهاب سائرا على قدميه إلى البندر أو بقاء الليل بطوله ساهرا أو اليوم كله عاملا كادحا إذا أحس أن غيره في حاجة إلى هذا العمل أو الجهد خاصل جعلت الجميع يدهشون ويفجعون لإقدامه على سرقة العنزة ، وإن كان السبب قد عرف والعمل قد اغتفر ، إلا أنه خرج منها بالاسم لاصقا به ملغيا اسمه الحقيقي وحالا محله .

 

أهلا وسهلا .. أيه خدمة

 

بالطبع فلا بد قد جاءوا مثلما كان يجيئه المئات في انتظار أن يحقق لهم بمفرده ومركز المعجزة كان سهلا تخمين المطلوب هذه المرة . فلا بد أن فهمي مريض ولا بد أنه يريدون إدخاله المستشفى .

 

وحاول أ، يتحدث إليه ويسأله عن مرضه متنيا على نفسه في جلسته لا يرفع رأسه ولا يبدو عليه أن يسمع ما يقال . وتهته أبوه وعمه وهم يعتذرون عن صمته وكيف أنه دائم الحدوث ، بل أحيانا تمضي عليه أيام كثيرة دون أن ينطق فيها بحرف . ولم يكن المرض في عقله أو نفسه وإنما كان في مثانته . فهم منهم أنها لا بد بلهارسيا أدت إلى سرطان في المثانة ، وأنهم لفوا وتعبوا على جميع ( حكما ) المركز ومستوصفاته ومستشفياته وحلاقي صحته والعرب الذين يكوون بالنار و ( يخرمون ) بالمسلة حتى قالوا لهم في مشتئفى المحافظة في النهاية بالأشعة في مصر ، وأدحنا جينالك يا بيه ربنا يخلي لك أولادك ويمتعك بالصحة .

 

ومن غير دعاء . كان قد قرر أن يتكفل بالأمر إن الدين الذي في عنقه للكتلة البشرية المنكفئة على نفسها أمامه ملفوفة بالملابس المهرأة كبير ولقد حان أوان رده وإيفائه .

 

كانت المشكلة أن يتخلص أولا من " الجماعة " التي ترافقه ويستصحبه إلى بيته ليقضي فيه الليلة وفي الصباح واعمادا على صديقه أستاذ الأشعة يدخله المستشفى . فقد كان عليه أن يدبر أمر ذهابه إلى البيت بطريقة لا تجرح ذكراه في نفسه من ناحية ولا يظن معها من ناحية أخرى بواب أو ساع أنه أخ له أو قريب . وكان عليه أن يتغلب على معارضة ( عفت ) زوجته التي لا بد سترفض إيواء شخص مثله ولو ليلة واحدة ولو لكي ينام في المطبخ أو في فراش السفرجي .

 

ولقد تم كل شيء كما قدر له الحديدي ... إلا معارضة الزوجة التي بقيت حتى بعد رضائها بوجوده في البيت وأمرها للسفرجي أن يتكفل به وبحراسته وإطعامه . وهكذا لكي يقلل به وبحراسته وإطعامه . وهكذا لكي يقلل من وقت وجودها بالشقة اقترح أن يذهبا إلى المسرح ، وحين عادا في منتصف الليل كان الهدوء المعتاد يهيم على البيت وكل شيء فيه هادئ ونور المطبخ مطفأ ، وبعد نصف ساعة كانت عفت تستمتع بمراحل نومها الأولى وكان الحديدي مغمض العينين لا تزال بينه وبين النوم مشكلة مجلس الإدارة الذي أجلت حكاية فهمي من اجتماعه ومن المشهد العاصف الذي كان قد أعده لكي يسحب فيه البساط من تحت أقدام المدير العام ويجبره .. إما الظهور بمظهر الغبي الأحمق الجاهل إما ، حفظا لماء الوجه الاستقالة . حين جاءت الصرخة الأولى .

 

وأعقبتها الثانية والثالثة .

 

وتكهرب جو البيت تماما . أيكون قد تورط في خطأ أكبر دون أن يدري ، وظن أنه يأوي قطعة حديد خردة عزيزة لتأخذ طريقها في الصباح إلى الورشة فإذا بها قنبلة بدأت تنفجر وتوشك أن تهدم البيت !

 

وعلى عجل أسرع إلى المطبخ حافي القدمين . كان مظلما لا يزال ولكن رائحة خائفة حامضة قابضة نفاذة واجهته لدى فتح الباب . مد يده يضيء النور ولكن الشلل أصباها قبل أن تصل إلى المفتاح فقد انطلقت من المطبخ الضيق بآهة صارخة ثاقبة كعشرات من الأبر الحادة المسمومة انطلقت في كل اتجاه . لا يمكن أن يكون هذا صراخ ألم أو للتعبير عن ألم ، ولا مجرد أصوات . أنه شيء مادي ينخر في الجسد ويصيب السامع بالحمى ، فوق احتمال البشر.

 

أضاء النور وهو فعلا خائف . ولم يلمح فهمي في الحال فقد وجد الفراش الذي منحوه إياه ممزقا مكوما والمطبخ فقد وجد الفراش الذي منحوه إياه ممزقا مكوما ، والمطبخ بكل ما فيه مبعثرا وملوقا والمقشات متنزعا قشها وريشها ومنثورا ، وعددا لا يحصى من بقع الدماء الصفراء تصبغ الأرض وباب الثلاجة والمناضد البيضاء والرائحة النتنة الخائفة لا تزال هناك لكأنه كان ميدانا لمعركة حامية الوطيس دارت بين إنسان أعزل وخم جبار غير منظور ، لكأن الصرخات كانت صرخات رعب الإنسان من عدو خفي يسحقه بالضربات وهو عاجز محاصر متألم مهزوم لا حول له .

 

ونظر ثانية ألقاها على المطبخ بعيني الزوجة هذه المرة أدرك بعدها فاجعة لم يكن يتوقعها أبدا قد حلت . وبحث عن فهمي فوجده قد حشر لنفسه بين منضدتين من مناضد المطبخ عاريا تماما ليس عليه إلا فانلة مهراة ، رأسه يتحرك في كل اتجاه عيونه الميتة المطفأة تقدح بشرر أبيض دائبة الحركة في محجرها تبحث عن منقذ ومخلص ، وبكيانه كله كان يتجه إلى أعلى في بأس كامل كمن يدرك تماما أن لا تجاه . أنه ألم سرطان المثانية المروع حين يزحف مع الليل حين تبدأ قطرات البول تتجمع بحمضها عبر الورم الخبيث الذي نفذ إلى كل المسالك ، ومرور القطرة على الورم المتهتك المجروح ، يسحق بالألم الذي يصدره كائنا حيا في فخامة الفيل وبلاده إحساسه ويجعله يجثو ويحفر الأرض بأظلافه ويملا الدنيا بهتاف مروع صارخ .. إنه الألم الذي يسمونه فوق احتمال البشر . فهو لم يخلق لبشر ولم يخلق البشر وتزود أعصابهم بتلك القدرة الهائلة الدقيقة على الإحساس كي يتسحقها ويكوبها ألم كهذا الألم .

 

أخرج فهمي من مكانه ولا يزال رأسه وعيناه وكل كيانه في حالة تلفت مسعور وبحث عن مفر ، مشغول عنه وعن المكان والزمان والدنيا كلها بما هو حادث فيه وبداخله ، فيقف ويجثو ويتمدد على بطنه ويركع ويقوم هالعا واقفا ويفتح فمه استعدادا للصرخة ، وحتى يكتمها ويحتملها يحشو فمه بذراعه أو بالمخدة أو المقشة ويغرز أسنانه فيها ويسيل الدم من الذراع ومن الفم . ومع نقاط البول الكاوي .

 

وشعر بضغط خانق يكتم أنفساه وبرغبة مجنونة أن ينطلق هادرا لاعنا نفسه وبلده وأناسها واليوم الأسود الذي كتب عليه فيه أن يولد منها ويصبح عليه أن يحيا عمره كله يحمل عن أناسها همهم وفقرهم وعجزهم ومرضهم وأخيرا آلامهم وبولهم ، ولكن ما الفائدة ومن يتلقى لعناته واحتياجاته إنه لا يستطيع حتى أن يطلب من فهمي أن يكف عن الصراه أو يرغمه على البقاء في ركن بعينه من المطبخ إلا إذا كان بأستطاعته أن يأمر الألم الذي في داخله أن يكف والشيطان الذي يمزق أحشاءه أن يهجع .

 

وسمع خطوات مترددة في الصالة ، ومخافة أن ترى الفاجعة الحادثة أطفا النور وأسرع عائدا إلى حجرة النوم ليجد عفت في منتصف المسافة .

 

- هيه .. عملت إيه ؟

 

- فلت له يسكت ...

 

- وإن ما سكتش ؟!

 

- حا يسكت ..

 

أي ياي ياي ياي ياي ياي ياي

 

وأسرع خلفها إلى حجرة النوم التي فرت إليها مذعورة وما كادت الصرخة تنتهي حتى وقفت تواجهه وتهيئ نفسها للعاصفة المقبلة الهوجاء ولكنه أسرع ، واستطاع رغم دفعاتها وتملصها أن يحتويها بين ذراعية ، ويقاوم إحساسه بالرغبة الملحة في الانهيار ويعترف لها بصدق واضح وملموس أنه أخطأ وأنه ما كان يجب ، وأنه يطلب الصفح ، وأن يكون صفحها على هيئة مساعتدته في تدبير الحل للموقف فهما في قلب الأزمة معا ولا سبيل أمامها إلا الاحتمال . وما تنزلوش ينام تحت عند البواب ليه ؟ فضيحة والساعة إتين . أروح أنا عند ماما . دلوقتي ؟! أنا ما أقدرش استحمل . عشان خاطري . ما أقدرش ... أرجوكي .. غلطة وباعتذر عنها وبأرجوكي أنك تساعدينى وتستحملي ... استحمل إزاي يا رب .. استحمل إزاي ..

 

***

 

آي آي آي آي ي ي يا يا ياي

 

- أه يا مامي ما أقدرش على كده ما أقدرش

 

و و و و و ه يييييييـــــــه

 

- إيه ده ، ده مش بني آدم ، دول عفاريت ، دول جن ، ألحقيني يا ماما أنا ح أجنن .

 

وشيئا فشيئا بدأ الحديدي يحس أن ارتباطه بحجرة النوم وبالزوجة التي يحتضنها ويسكنها بالبيت والحاضر كله تضعف وبتواترته تتراخى وبواجدانه يستحيل إلى بحيرة هائلة مساء على استعداد لاستقبال أدق الرذاذ الصادر عن فهمي ..

 

فرتك مرتك شرتك دي دي دي دي دان

 

الألم لا بد قد إزداد بدرجة مخيفة . خفف عنه يا رب

 

واج الواج الواج الواج الواج

 

وإلى جوار هذه القادمة من المطبخ . جاءت أخرى رفيعة طفيلة من الحجرة المجاورة ما كادت تسمعها عفت حتى بقوة عاتية خارقة خلصت نفسه من تكتيفته وجرت خارجه إلى الغرفة الأخرى ، ولكن الطفل طفلها الوحيد قابلها قادما باكيا مناديا : يا مامي .. واحتضنته وحملته وبتنمر وتوهج قالت للزوج :

 

- سامع : أنت لازم تطرده حالا دلوقتي

 

يروح يشوف له مصيبة يبات فيها .. دا الولد قايم يرجف ... يا مصيبتي .

 

- يا عفت أرجوكي .. أنا شرحت لك الظروف - الراجل ده عندي مهم قوي وما أقدرش أطرده .

 

- مهم أكتر مني ومن فهمي ده .

 

- مش أكتر إنما مهم ، كفاية تعرفي أنني مسمي فهمي ابننا ده على اسمه .. ده الوحيد اللي خرجت به من طفولتي .

 

- يا ح تطرده يا ح أسيب لك البيت وأنزل .

 

- أنتي عايزة مني إيه .. أركع لك .. قلت لك أرجوكي .. أنا ح أجيب له دكتور يديله مخدر دلوقتي ويسكته وأنشغل بكليته في عملية استدعاء طبيب الإسعاف وانتظاره . ولم يدهش حين أخبره الطبيب أن المخدر في حالة كتلك ضعيف المفعول لا ينجح عادة في تسكين الألم فآلام هذا النوع من السرطان أقوى من المخدرات وكل المسكنات التي اخترعها الإنسان .

 

وكانت الفائدة الأهم للطبيب أنه أعطى الزوجة حقنة من عقار منوم. وبعد مدة قليلة نام فهمي الطفل في حضن أمه.

 

وأخيرا أصبح وحدة مع الصرخات القادمة من الأعماق وكما قال الطبيب لم يكن المخدر قد أحدث تأثيرا يذكر المشكلة الآن أن يعاد الاتصال... أن يعود إلى نفس الحالة الوجدانية التي كان عليها قبل أن يصحو الولد وتثور الزوجة أنه لا يعرفها ويذكرها وهي قريبة دانية منها وكلنها ترف وتذهب، يتذبذب بينها وبين حالتة العادية يه يه يه يه يه فمندا مندا مند هوندا بندا سارادات.

 

وأحس براحة باهتة وبالأصوات تصل إلى مكان سحيق داخلي فهي وتنعشه في رقة وعذوبة بالضبط هذا هو المكان هنا يحس بها تتجمع... آهاته التي لم يطلقها أي باي يانا يا بوي.

 

يا بوي موجوعة تأتي للحديدي بالضبط على الوجع. يابوي إنها ليست من لغة الحياة ولكنها من لغة الأعماق والآي إنه يحس بها تعبر عن وجعة هو منذ سنوات وسنوات وهو يريد أن يقف في ميدان التحرير ويستجمع شجاعته. وبكل قوة وبالحر ما يستطيع يطلقها عالية موجودة صادرة رأسا من الوجع مثلما يفعل فهمي الآن ولكنه في اللحظة الأخيرة يعدل ويضعف ويخاف أن يفر منه الناس ويتهمون بالجنون فيخمدها ويكبتها ويردها إلى حيث ترقد الكثيرات من زميلاتها المكبوتات المحبوسات.

 

آي آي آي فركش أن منكش أي بعقش أي...

 

الآن فقط يحس بها كلها. آلامه. ويحس بها أبشع حتى من آلام فهمي وأوجاعه.. كل الفرق أنه ليس له الحق في التوجع مثل لن يصدقه أحد إذا صرخ وترك أعماقه تعبر عن نفسها المكتومة الوارمة المضغوطة ألم بلا آهات أضعاف أضعاف الآلم. الآن وهو مع وحيد مع نفسه

 

وموجوع مثله وأعماقه مفتحة الأبواب أمامه يستطيع أن يسأل نفسه: ماذا يؤلمه؟ إنه فوق القمة كل الخط العريض الذي رسمه لحياته تحقق زوج ورب أسرة وسعيد مخوط بالرعاية والحب والاحترام أن يكون فمن أين تجيئه الآلام التي لا تطاق حتى أنه ليحسد فهمي على حالته.

 

ترى ماذا كان يفعل ويشعر لو حدث له ما حدث لفهمي وبدلا من التعليم المتواصل الذي هيأه له أبوه الصراف الذي كانوا يتندرون عليه ويسألونك وأنت ذاهب لتدفع المال مال الحكومة واللامال الصراف. بدلا من هذا أخرجه أبوه من المدرسة واشتغل فلاحا كان هذا مصيره أي إنسان في مكانه لابد أن كان يقبل يده ظاهرا وباطنا أين هو وأين فهمي؟ هو الذي لابد تختاره إذا طلب إليك أن تختار مائة يمثلون الصفوة في هذا البلد. المتمتع بكامل صحته وحياته لا حق من حقوقه مهضوم ولا شعرة ظلم تمسه أو تمس مركزه أين هو من إنسان كفهمي تكفل الفقر بالقضاء على عقله وأحالة إلى واحد آخر من ملايين الفلاحين السذج. وتكلت البهارسيا بالقضاء على جسده... فالمفروض أنه الآن ميت وعمره مسألة أيام وحياته كانت أبأس حياة وشقاؤه كان من نوع يضرب به المثل... لو كان قد حدث له هذا... تراه ماذا كان يقول عن "ألمه" المزعوم وأوجاعه؟

 

قال الحديدي لنفسه بلا تردد: كنت أكون أسعد.

 

كيف؟ المسألة ليست فقرا وغني أو تعليما وجهلا السؤال هو؟: هل أنت حي أم ميت؟ فهمي رغم كل شيء حي وعاش أما أنا فلم أحي والحياة أي حياة أروع ملايين المرات من الموت أي موت حتى لو كان الميت مكفنا في ملابس أنيقة محتلا أرقى المناصب سعيدا في حياته الزوجية.

 

ولكنك حي. أنا ميت إنه ليس تلاعبا بالألفاظ إنها حقيقة المقياس الوحيد للحياة أن تشعر بها وأنا لم أشعر ولا أشعر بها إنني أقضي حياتي كعملية حسابية دقيقة هدفها الوصول... وحين أصل لا أسعد لأن أمامي يكون ثمة وصول آخر.

 

إن فهمي قد عاني من الفقر والبؤس ولكنه كان يعمل مع الرجال ويضحكون سويا ويتشاورون في مشاكل العمل ويستمتعون بمشوارهم إلى السوق يفرحون لعود الفجل إذا أضيف إلى الأكلة ولا أحد منهم يأكل بمفرده إذ الطعام ليس أن تجوع وتملأ بطنك... الأكل عندهم أن يحل موعد الطعام ويلتفون حوله في ترحيب ويتعازمون ويهزرون ويحسون أنهم يقومون باحتفال إنساني صغير. أنهم يفعلون هذا دون إدراك لكنهه ولكنههم به. بهذه الأشياء الصغيرة المتناثرة في طريق حياتهم يمتلئ كل منهم بإحساس يومي متجدد إنه حي وأن الحياة مهما صعبت حلوة.

 

أنا قضيت حياتي أجري وألهث لكي أصل إلى القمة كما تسمى... كان على أن أظل أصعد ولهذا كنت أصادق أو تضمني المجموعة لا لكي أستمتع بصداقتي ورفاقيتي لها وإنما على أساس سرعتها وعلى اعتبار أنها أسرع من المجموعة التي هجرتها وأظل سائرا معهم ما داموا يسيرون بنفس السرعة التي أريدها حتى إذا أحسست أنني بحاجة إلى سرعة أكبر هجرتهم إلى مجموعة أخرى. أو سرت بمفردي كي لا يعوقني معوق. وما توقفت مرة كي أواسي مختلفا أو أخذ بيد أعرج معتبرا أن ليس الذنب ذنبي أنه تخلف أو أنه خلق أعرج ولقد ظللت أسرع وأسرع لكي أبدأ الحياة حين أصل ولكن لم يكن للوصول نهاية بعد التخرج قلت العمل. بعد العمل الدكتوراه بعدها أستاذية وحين أحسست أنها تستلزم الانتظار هجرتها إلى الشركات قلت.. بعد الزواج وحين تزوجت قلت.. نبدأ الحياة مع الأولاد وحين خلفت قلت الأوفق حين يكبرون وها أنذا لا أزال أجري مسرعا وقد أصب هدفي ليس الوصول إلى أي شيء وإنما الإسراع في حد ذاته تماما مثل الذي يبدأ حياته بتوفير النفود كي يحسن مركزه المالى ويبدأ حييا بعد الألف الأولى وحين يصل إلى الأولى يصبح هدفه الثانية فالثالثة إلى أن ينسى الهدف تماما ويتحول إلى بخيل مقتر هدفه جمع المال ليس إلا.

 

ياني ياني ياني ياني يا بوي.

 

أحس بتوجع فهمي يريحه راحة بدأت تصبح عظمى وكأن فهمي يتوجع لكيهما أو أكثر من هذا كأنه هو الذي أتيح له أخيرا أن يتوجع كما يريد وبكل قدرة استطاعته إنه الألم المتراكم عبر السنين ألم الحزم الدفين والاكتئاب إن الإنسان جهز بتركيبه وأحساسيسه لحياة خاصة تسمى الحياة الجديرة بالإنسان وهو لا يستطيع أن يخرج عليها ويحياه حياة من صنعة هو ومن ابتكاره إلا وهو يتألم وآلامه تتضاعف ولدق قسما العرم كله على طبيعته وكتم نداءات الأعماق المطالبة بمتع الحياة الصغيرة الكثيرة العادية التي تعطيها طعم الحياة قسا عليها ليجبرها على أن تحيا بمفردها.

 

أبو... أموا... أبو... أموا... واه...

 

بالضبط يا فهمي الوحدة للوصول. الوحدة للسرعة الآلم البشع لفراق الناس والبعد عنهم... الوحدة القاتلة التي تربي الخوف من الآخرين وتدمر الثقة بالنفس، الوحدة لكي تكون

 

حرا أكثر ومنطلقا أكثر وحيا أكثر التقوقع فإذا بها تؤدي إلى التوقع والرعب من الآخرين وتحديد الحركة وإحاطتها بعشرات القيود. همه يحمله وحده ومرضه ينفرد به. وضيقه هو المسؤول الوحيد عنه. الألم. أضعاف أضعاف الألم الذي يسحق فهيم ويدمره وهو مرغم على كتمانه يخاف خوف الموت أن يطلع عليه أحد فإن تألم الرجل أو حاجته للفضفضة إلى الآخرين ضعف وعورة.

 

دي دي دي دي دي دي .....

 

ياللمضحك... إنه يحس أنه ربما لأول مرة يذكرها في حياته... سعيد. سعيد إلى درجة حقيقة متأثر لأوجاع فهمي ولكن فرحته هو لهذه اللحظة التي يحياها أجل ربما أول لحظة يحياها لا توصف. ومن الصعب أن يدرك الأسباب ولكن لابد أن أهمها أنه أخيرا استطاع بوسيلة معقدة مركبة تعتمد على أعماق تخاطب أعماقا خلال لغة غير مفهومة أخيرا استطاع أن يتصل. وأن يشارك وأن يزاول عملا من أعمال الأحياء يزاوله بمتعة وسعادة سعادة تدخله في حالة وجدانية لها صفاء لحظة الكشف لدى المتصوفين وعمق لحظة الخلق لدى العباقرة لحظة ها هو يحس فيها أنه قادر على الاتصال بكل إنسان وبكل شيء بل قادرا على الاتصال بنفسه وبالتحديق مليا في أعماقه دون أن يرده الرعب المقيم مما قد يراه.

 

وكلما اندمج في حالته الوجدانية تلك أحس بنفسه تتفتح أكثر وتعمق وتتقوي صلته بفهمي حتى لكأنه يقرأ ما يجأر به في كتاب مفتوح وأحس أيضا أنه ينجذب إلى مكانه ليصبح أقرب انجذابا مريحا ممتعا إلى درجة لم يدرك معها أنه كان قد غادر الفراش ومضى يعبر الصالة في عدد كبير من محطات الممشى الضيقة. كل خطوة بمحطة سمع كالصوت البعيد يأتي للنائم نافذة جار تفتح ويعقبها صوت زعيق ولابد.

 

إنه كلمات سباب سمعها وكأنها لا تمت إليه ولا تهمه إنه يرى حياته الآن بكل كبيرة وصغيرة حدثت فيها ولها مجسدة مجموعة أمامه بحيث بنظرة واحدة يستطيع أن يرى نفسه تقريبا من يوم ميلاده إلى يومه هذا....

 

الغريب أنه ينظر إليها وكأنه حياة غريبة عنه لا تربطه بها أو بصاحبها أدنى علاقة لا تربطه ذكرى بأي جزء فيها أو موقعة وأغلب الظن أنه لا يذكرها أنه لا يكره شيئا في الدنيا قدر كراهيته لحياته تلك أنه يمقتها ولولا النداء القوي الصادر له من فهمي لحملها في التو وقضى عليها وعلى نفسه ولكن النداء أقوى أنه يتسرب إلى كيانه كله ويهز هيكل الحياة فيه ليوقظ حبه الغريزي لها. ومن الظلام الكثير الرابض يملأ الصورة تبدأ تتسرب موجات كاشفة مضيئة يجسر معها على التحديق والرؤية ليتابع نفسه وهو يجري ويجري وحده الناس تحيا وهو يجري والشاشة مليئة بالصلات المقطعة بالصداقات المبتورة بأجزاء العلاقات بقيم على الطريق مهدرة بإنسان لا يريد أن يرتبط بأحد حتى لا يعطله الارتباط ولا أن ينتمي لجماعة أو حتى لصديق لأن في الانتماء فقدانا لذاته الحرة وكيانه، والنتيجة جري سريع إلى قمة الوصول هو في الحقيقة هرب سريع من الحياة فالحياة هي الأحياء وأن تنفصل عن الأحياء معنا انفصال عن منبع الحياة الأصيل وفقدان طعمها ونوعيتها والتحول إلى الموت. الخطأ الفادح الذي يدركه الآن وعلى الضوء الباهر الصادر من أعماق فهمي إلى أعماقه يراه أن الوصول لا قيمة له بالمرة إذا وصلت وحدك أية قيمة أن تصبح ملكا متوجا أو عالما حاصلا على جائزة نوبل وأنت محاط بصحراء جرداء أية قيمة لأي شيء في الدنيا للمتعة نفسها أن تحس بها وحدك؟

 

وصحيح أنه ليس وحده فهناك زوجته وابنة وأقرباؤه وأخوته وبعض الأصدقاء ولكنها ديكورات علاقات ليس إلا... إن حب الناس للناس وارتباط الناس بالناس لا ينشأ للزينة وإنما ينشأ لحاجة الناس للناس الحاجة الماسة الملحة كحاجتك إلى الماء والهواء والتي بدونها لا تستطيع أن تعيش وهو له أخوة وزوجة وأناس ولكنهم لا يمثلون مطلبا حيويا بالنسبة إليه أن في استطاعته إذا أراد أن يحيا كما تعود بدونهم قد يكونون هم في حاجة إليه... ولكنه هو ليس في حاجة لأحد أو بالاصح هو في حاجة حيوية مساة، ولكنه يحس ويوهم نفسه مثلما أوهمها طول عمره أنه ليس بحاجة اليهم ومن هنا ينشأ ألمه البشع.. من هنا بدأ ويستشري السرطان الذي يقتل الضحكة على فمه لأنه يحس أنه ليس بحاجة إلى الضحك ويجمد العواطف في صدره لأنه يحس ليس بحاجة إلى أن يعطي الحب أو يستقبله من هنا تبدأ المأساة التي أحالته إلى ميت حي.

 

وجاءته صرخات فهمي قريبة هذه المرة إذ كان قد وصل إلى المطبخ وجلس بجواره جاءته بعد سكوت خيل إليه أنه طويل وكان مجرد إحساس فهمي بوجوده بجواره خفف عنه الألم.. جاءته الصرخات، أقرب ما تكون إلى البكاء وأحس بنفسه وكأن بركانا باكيا يوشك أن ينفجر أنه لم يبك في حياته منذ أن كان طفلا وها هو يحس أنه يود لو ظل يبكي إلى أن توافيه المنية إشفاقا على نفسه وهو أول من أدرك أنها أكثر أهل الأرض جميعا حاجة إلى الشفقة...

 

هات يدك يا فهمي ضعها هنا على صدري إنه خاو كما ترى أنا أعرف أنك مريض وأحس بك وأريد أن أقاسمك الألم ولكن لا أستطيع فقلبي من خشب، تركتكم جميعا أنت في زينين وسعد في بنها وعبد المحسن في أسيوط وشلة الجامعة وجمعية الكتاب. وكل الناس وظننت أنكم تسيرون في الطريق العادي طريق الندامة ... وأن الطريق الأسرع طريق السلامة هو الطريق ... والنتيجة أني مت من زمن وظللتم أنتم أحياء أنا جثة أقنع نفسي أنني أنا الذي أزور عن الناس في حين أنهم هم الذي ينزورون عني وما حاجتهم إلى جثة حتى زوجتي وابني أحس أنهما لا يطيقان رائحتي... أنا أريد العودة يا فهمي أريد البداية من جديد أطلب فرصة أخرى فمن يقبلني يا فهمي؟ من يقبل جثة من يرضى بي إني لا أجد في هذه اللحظة سواك يا فهمي هل تقبلني... هل تقبلني يا فهمي!!

 

- ما تعيطش يا محمود..

 

ولم يصبه الذهول مع أن القائل كان فهمي. وكان أول كلمات ينطقها ولم يعجب أيضا لأنه ناداه بمحمود. وكأنما ذكره الاسم بالتختة المشتركة وبأيام زمان كل ما أحس به أن رجاه قد تحقق. وأنه يقول:

 

- أشكرك يا فهمي... أشكرك..

 

وانبطح الحديدي ببجامته على بلاط المطبخ وتناول يد فهمي يقبلها ومسح بها دموعه السائلة التي لا تتوقف وهو يردد سامحني يا فهمي... سامحوني يا ناس أنا غلطت وتعبت والألم فاض بي... سامحني يا فهمي.

 

ولكن فهمي كان قد عاد بآخر وأقوى ما عنده، يصرخ وىلامه قد اشتدت بغتة... وكانت توافذ البيت جمعيها قد فتحت من زمن وسكانها يصيحون رغم أنوفه للآهات المستغيثة.. ويستجيرون من الصوت الذي لا يرحم أبوابهم ونافذهم مهما أغلقوا وأحكموا الإغلاق الصوت الذي أيقظ العمارة ببوابيها وبهواتها وسادتها وداداتها وبدأ يصل إلى العمارات المجاورة ويوقظ سكانها، ولو استمرت الصرخات لربما كانت قد أيقظت الحي الراقي بأكمله، ومن يدري بما المدينة كلها كانت قد صحت... ولكنهم كانوا قد طلبوا بوليس النجدة... وحضر وفتحت له الزوجة نصف نائمة غير أنها استيقظت تماما حين قادتهم إلى المطبخ ووجدتت الحديدي راكعا على الأرض يقبل يد فهمي ويتسغفره...

 

ورفعوا فهمي وألبسوه وحاول جنديان حمله فيما بينهما ولكن الحديدي نهرهما، وتقدم هو من فهمي وحمله على كتفه والمرض قد التهم لحمه ولم تبق له سوى العظام، وتشبثت عفت بزوجها سائلة إياه عما يفعله بنفسه إلى أين ذاهب؟ وابتسم لها وأضاء وجهة كما تتعود بالابتسامة وقال: رايح في طريق تاني صعب شديد... تيجي معايا؟!

 

- أنا مارحش وياك بالشكل ده.. أنت اجننت؟

 

وأحاطت فهمي الصغير بيدها بينما استدار الحديدي بحملة الصارخ المولول ومضى يتقدم الموكب، ونظرات السكان وأهل الحي تتبعه وتحيط به تهمس وتسري بينها الهمسات الضاحكة ... لقد عاش في الحي سنتين مرعوبا أن يكتشف أحد أصله وفصله وتبدو للأعين النائمة شعره واحدة تكشف عن الجذور والسيقان التي يمت إليها... ولا ريب أن كثيرين من سكان الحي كانوا يفعلون مثلة فها هو يرى النافذ والمدخل حافلة بكثير من الجثث... وهو الآن يستعجل اللحظات التي يغادر فيها الحي... وقد أصبحت الرائحة لا تطاق.

 

أضيفت في 01/07/2005/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية