أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

روايات الكاتب: عز الدين جلاوجـي

سرادق الحلم والفجيعة

إلى صفحة الكاتب

لقراءة الرواية

 

 

الرواية

سرادق الحلم والفجيعة 

 

 

 

سرادق الحلم والفجيعة (رواية)

 

فاتحة

الهوى مركبي ...   والهدى مطلبي ... فلا أنا أنزل عن مركبي ...  ولا أنا أصل إلى مطلبي ... أنا بينهما مأخوذ عن حقيقة الخبر بتمويه العبارة …

أبو حيان التوحيدي

 

الخاتمة

ومازالت الأجيال المتعاقبة تبحث عن قمة الجودي حيث رست السفينة…لكنهم لم يعثروا عليها أبدا رغم كثرة الفرق الأثرية المتخصصة من أرقى جامعات العالم.

ومازال الرواة والمؤرخون يجمعون الأدلة والبراهين للوصول إلى الحقيقة التي آلت إليها المدينة المومس ولم يصلوا إلى نتيجة بعد.

هل اكتسح الطوفان المدينة ومن فيها؟

هل نجا شاهد هذه الأحداث ومن كان معه في السفينة من ذلك؟؟

أو ربما لم يحدث طوفان أصلا…ولم تمخر السفينة عباب البحر وبقيت المدينة المومس كما هي.

ربما…ولكن أين ذهب الشاهد والشيخ المجذوب والهدهد وسنان الرمح؟ وهل وجد الشاهد حبيبته نون التي قضى عمره يبحث عنها؟

غير أن الملك شهريار أذاع يقينا أن ما حدث إن هو إلا أساطير الأولين ابتدعتها شهرزاد وعجائز المدينة الماكرات…إن كيدهن لعظيم.

 

(1)

 

أنا والمدينة

 

الغربة ملح أجاج …

وحدي أنا والمدينة …

ثكلت الهوى… ثكلت السكينة …

لا ورد ينمو هاهنا… لا قمر… لا حبيبة …

لا دفء  في القلب الحزينْ …

لا ولا شوق… ولا غيث… ولا حلم أمينْ …

لا حب يبلسم من حبة القلب الأنينْ …

وحدي أنا والظلام …

وجدران تهاوت على القلب المعنىَّ …

وغبار تثاءب يغتال من جواي السلام …

وحدي أنا والمدينة …

ثكلت الهوى…ثكلت السكينة …

أجري…أعدو…ألهث…أختفي خلف شجرة شمطاء تترمد… تذروها الرياح…

خلفي تجري الثعالب…الثعالب تجري خلفي…تجري خلفي  الثعالب… أعدو… ألهث… أتسلق منارة… تتعالى أنفاسي...    تتطاول… ألهث...   التهم السلم… تسيخ المنارة… تغوص… تزدردها الأرض… أنتعل التراب… أجري… أجري… أعدو… ألعن زيف الأشياء… أتمدد… أختفي خلف رصيف يكاد لا يبين.

تقهقه المدينة العاهرة في سمعي… تتهادى أمام بصري في ثوبها الشفاف… يتصافح ثدياها… شكوتاها… تضرب على الأرض بكعبها…تدندن أغنيتها المفضلة.

تبتعد عني وأنا أتأملها حزينا باكيا…تجري خلفها الثعالب… الثعالب خلفها تجري… خلفها تجري الثعالب… أتململ… أضغط نفسي مرتجفا… وأنا أراها تغوص جميعا في أحشائها… في أحشائها تغوص جميعا.

أيتها المدينة المومس…

إلى متى تفتحين ذراعيك للبلهاء…؟؟

إلى متى تُرضعين الحمقى والأغبياء…؟؟

إلى متى أيتها المدينة تمارسين العهر جهارا دون حياء..؟

إلى متى تعرش فوق مفاتنك الطحالب…الفئران… والخنافس… تعلي قصورا...   ؟؟

يـــا… أيتها المدينة المومس…!!

إلى متى تطاردني الثعالب المشردة…تعدو خلفي عند كل منعطف…عند كل زاوية…عند كل موقف…هاهم إني أراهم يأتون من هناك…يضحكون…يعوون…يعدون…يلهثون…

وأنا…وحدي والمدينة…

مدينتي بقايا الآسن بجوف الغدير …

مدينتي مبغًى كبير ...  

وأنا الغريب…أجرع الفزع المرير …

أنا الغريب أيها الغرباء…السعداء…التعساء …

المشردون…الممزقون…البلهاء …

يا غرباء* الأرض اتحدوا …

يا غرباء الأرض اتحدوا …

 

الفأر والحصاة

من بالوعة القاذورات يخرج فأر أغبر يمشي الخيلاء…يبصر قطا متكورا على نفسه…يضحك الفأر ضحكة هستيرية… يجري خلفه…يفزع القط يندفع فارا تتناثر أعضاؤه هنا وهناك…يهتف العجاج عاليا لبطولة الفأر… يرتجف قلبي كبندول الساعة…أفتح فمي إلى آخر نقطة ممكنة…أحس بشهوة الصياح والصراخ والعويل…على عجل تتحرك حصى كانت ترقب المشهد عند سفح الرصيف…تقفز في فمي وتستقر تحت لساني…أحاول طردها بكل قواي ولكن لا مندوحة لقد تشبثت علقةً.

حملت جسدي المتعب وقمت من مكاني صمتا أتجرع مرارة الحصاة…والفأر…والقط…والرصيف…وبالوعة القاذورات… وعهر مدينتي البغي.

 

القوال والعناكب

دخلت مقهانا* الشعبية…دخان يصاعد من الزاوية يغازل أنوف المكومين معتقدا أنها مداخن.

السقف ملعب تمارس فيه العناكب هواياتها المفضلة…أجساد متهالكة هنا وهناك كرؤوس ماشية منحورة.

لم يثر ذلك في نفسي شيئا جديدا قد غدت هذه المناظر المقرفة روتينية تزرع الكوابيس حتى في أحلام يقظتي.

وسطهم كان يقف القوال يوقع على بنديره إيقاعات تشبه إلى حد بعيد لا شيء.

ثرثر بكلمات لم أفهم منها شيئا لأنها لا تعني في الحقيقة شيئا...    ضحك الجميع دموعا ثم بكوا قهقهات…ثم بكوا... ثم قهقهوا… ثم ندبوا… مد بنديره إليهم مرره على كل واحد منهم…ملأوه له نقودا.

حين حركوا جيوبهم… تبخرت رائحة العفن…إن المدينة تصب قاذوراتها فيهم… أقصد أنهم لم يشاؤوا تضييع الوقت والمال لإقامة قنوات لصرف القاذورات فحملوها في جيوبهم وحتى في أنوفهم وأفواههم وعبر كل فتحاتهم.

تمنيت لو لم أدخل أصلا إلى هذا المكان القذر غير أني لم أتحرك والمدينة المومس تتهادى أمامي في ثوبها الشفاف يتصافح...   ثدياها… وطبتاها…وتتعالى ضحكتها الهستيرية.

غنطستهم جميعا…عجلوا إليها سراعا... التصقوا بكل تضاريسها حلزونات مختلفة الأشكال والأنواع.

لم أعبأ بهم…اقتربت مني مدت أصابعها شبقية مرتجفة… كأصابع العاهرة العاشقة…اقشعر بدني…قمت من مكاني… انزويت إلى طاولة نخر السوس عظامها…لقد قررت أن أكتب رسالة لحبيبتي نون* التي لم أرها منذ أمد بعيد…حبيبتي التي لم ترد على رسائلي قط.

 

(2)

قبحون

 

وأذن فيهم مؤذن الغراب فهرعوا ملبين ينسلون من كل فج عميق…عميق…من تحت الأرصفة…من عمق البالوعات…من طمي المبولة البوالة…من تشققات الجدران الخربة…وتكأكأوا عليه كبة…وحملته جماعة فوق الأكتاف وما كاد يعلو فوقَ فوقَ حتى تدثر الجميعُ صمتا ونصبوا آذانهم سمعا…إنصاتا… طاعة…كأنهم في حضرة إله جبار…قهار… دمار… مكار.

جال الغراب بنوافذه فوق الرؤوس…تأمل المبولة تفغر فاها ضاحكة في بلاهة…تأمل جدار السجن يعلو شامخا… تتناهى من خلفه أنات مبهمات... عاد إلى نفسه… اعتدل في جلسته… تنحنح… صاح لعن أقصد نعل بحةً…

-عاش الغراب سيدنا في الأرض والتراب.     

ولهج الجميع خلفه مرددين العبارة واستمروا دون أن يسكتوا حتى بحت أصواتهم وتسايل عرقهم نتنا وانتشى الغراب فمد رجليه الأعوجين، ومد قامته إلى الخلف مستندا ذراعيه وقد رسمت الكبرياء على وجهه لوحة مشوهة… وحين شرنقه الغبار وتسلل فاتحا مناخيره أشار بمخالبه أن اسكتوا وكأنما قطع عنهم الكهرباء فسكتوا دفعة واحدة.

تمطط… تثاءب… وقال:

- لقد جمعتكم اليوم لننجز أعظم معجزة الدنيا…أعظم مفخرة الكون…لا بد لهذه المدينة يــا…من إله جبار… يحفظ الديار…ويرد الأشرار…ويحمينا من العار والشنار.

والتهبت الأكف تصفيقا...  وتدفقت الحناجر هتافا…وأقبلت المدينة من بعيد وقد اختلط عليها البكاء والضحك… ولوحت للغراب بيديها، فرد عليها التحية وقال:

-هاهي مدينتكم قد حضرت فحيوها.

واضطرمت الأيدي والحناجر ثانية تصفيقا… هتافا… وقبل أن تخبوا قاطعها مواصلا:

- وهل هناك أعظم من إله نصنعه بأيدينا… ننحته بأظفارنا… ننفخ فيه من أرواحنا؟؟؟ولقد سماه لعن السارمي ولكني استقبحت هذا الاسم الشنيع، واخترت له اسما رائعا… إنه قبحون…قبحون العظيم…

وتسعر الخواء عواء عَمَهًا… طنينا فارضا… فرحا صابئا… وأطل عليهم رهط يحملون هيكلا من خشب مسندة… نصبوه أمام المبوله فهرع إليه الجميع يغرفون من طمي المبولة ويلصقون بالهيكل، وماهي إلا ساعات حتى كان النصب شامخا…إلها جسدا له أنين…نعيق… جئير…

قال أحدهم:

-لن نبرح عليه عاكفين…

وقال ثان:

-هذا إلهكم وإله آبائكم الأولين…

وقال الغراب:

-وعجلت إليك إلهي لترضى…

وخر إلى الأذقان يجأر فخروا معه ساجدين جائرين…ولهج بالوِرد* المورود فلهجوا خلفه مريدين.

سوْحب … سوْحب…

ربي ورب الغراب والرنس والغيهب…

رب اللظام واللكام والشيهب…

سوحب … سوحب…

رب الجفاء والجفاف… 

رب العجاف والرجاف …

سوحب … سوحب …

رب الشطاع واللعاع …

رب الضحيح والاترياع …

سوحب … سوحب …

 

(3)

في حضرته

 

دققت الباب الخشبي الثقيل بيدين مرتجفتين…أز أزيزا خافتا يشبه إلى حد بعيد أنين المريض المنهك…مددت قدمي اليمنى في جوف الدار…وضعتها على الأرضية ببطء شديد أردفت الأخرى وأنا أمد نظري إليه.

هو كل شيء يزين العمامة والجبة واللحية والدار أيضا لم يلحظ حضوري … لا أستغفر الله العظيم لقد رآني ظاهرا وباطنا بعمق دون أن يرفع بصره…لا أستغفر الله العظيم هو لا يرفع بصره لأنه لا يرى بزجاج النوافذ التي نلصقها نحن في مقدمة الرأس.

لم أنطق بكلمة واحدة...  ولابنصفها…ولا بربعها...  ولا بأقل من ذلك...  ولا أكثر...  وإن يك مثقال حبة من خردل في فضاء سماواتي أو في أعماق أرضي.

كان يذوب منه الكل في طقوسه وكانت طقوسه تذوب فيه… كان هو هي…وهي هو…هما هما…شيء واحد لا ثاني له…إلا الوحدة إلا اللاشيء…إلا هو حاضر في جبته.

تصَّاعد أفنان البخور…تسْبَح في ملكوت الله…تطقطق النار مسبحة…تحمر وجنتاها...  شفتاها… عيناها...   جيدها...   في جيدها حبل من شفق…يحمر الوجه يتلألأ كتلألؤ اللآلئ.

ارتفع صوته لينبه الغفلة فيك…تجمدت مكانك لا تدري ما تفعل…لا شيء إلا هو وقلبك الذي مازال يدق خافتا، ونفَسُك الذي مازال يتسلل بطيئا، ودمك الذي مازال يتسلق عروقك…كل ذلك منه. 

وارتجفت جنبات بدني…تهرأ جسدي…بقي هيكلي العظمي منتصبا وحده دون قطعة واحدة من لحم، ارتعدت عظامي وتمتمت بين أسناني.

في لمح البصر وجدت نفسي أتكوم قربه عاريا إلا من ورقتين أستر بهما عورتي…لم أشأ أن أرفع بصري إلى السقف…كان يئن...   يضج…وهو يردد صدى الكلمات...   اللغة...  اللسان.

نظرت إلى النار والدخان وأنا أقول في قلبي:

- لا علم لنا إلا ما علمتنا.

وسكتُ فجأة…لماذا جئت إلى هذا المكان؟ لماذا كلما تضيق بي السبل أقصده كالعاشق الولهان؟؟ وعم أسأله؟؟ هل أسأله عن غربتي بين الغراب والنعل والأخدان؟ أم أخبره عن قصتي مع حبيبتي نون التي لم ترد على رسائلي؟؟ أم أسأله عن عشق المدينة لي وهيامها بي؟؟

والحقيقة أني جئت أسأله عن المدينة المومس التي ظلت تتهادى أمام بصري في ثوبها الشفاف…يتصافح ثدياها… شكوتاها...  تضرب الأرض بكعبها العالي…تدندن أغنيتها المفضلة.

-ياسيدي … يامولاي ... 

  يامن أوتيت رحمة وعلما…

لم لا تخرج إليها تمنعها عني؟ لقد أصبحت أخشاها… أرهبها…أنا أرى في لحظيها شهيق الشهوة…خوار الشبقية…

ليس لي بها طاقة…أخشى أن تبتلعني…إنها تبتلع الجميع…

كلهم على جسدها المتهدل المتهرئ…يغدون حلزونات لا تحسن إلا التلذذ بالالتصاق…

وأنا أرفض…أكره…أنبذ الالتصاق…

وهي تحب…تهوى…تعشق…تبغي…تريد…تطلب الالتصاق.

أنا وحدي تعشقني…تتعشقني…تغشاني…

هي شيطان…ملعون…مطرود…منبوذ…

هو شكلها…هي شكله…الكل على شكل وشاكلة…لقد تشاكل البقر علينا وإنَّا إن شاء الله لمهتدون.

رفع فيَّ عينين مصباحين دريين…فأضاء حوالي…تحركت شفتاه صبًا يرفرف عندليبا على القلب الظمإ…قال:

-تريد أن تبلغ مجمع البحرين…وقلبك معلق بالحوت…ولبك عاشق للعجل…عد اذبح العجل*…واحي الحوت*… ودون ذلك فلن تسطيع معي صبرا*…

هكذا خلته قال، ولعله لم يقل…هو لغته الصمت… التأمل…وأنَّى لي أن أفهم مالم أحط به خبرا؟               

 

الهبوط

يقال إن أبانا خلق واحدا متفردا استوى على الخير كله ونحن كلنا...  جميعا...  كافة...  عامة...  قاطبة نعيش داخله نسبح في ملكوته...   فكفر بأنعم الله حين انطفأ نوره الداخلي والتهب نوره الخارجي...   تفقد ما حوله فقال مالي لا أرى أنيسا لأكفرن أو أنتحرن أو ليأتيني بأنيس مبين...  وفي لمح البصر نُسخ من أبينا نسخةٌ أحلى وأمر...   ودارت عينا أبينا اليمنى صارت اليسرى واليسرى صارت اليمنى، وتحركت فيه بهيمية الأنعام، وتهاوى في دركات الحضيض...  قلنا اخرج منها إنك من الفانين.

ووجد نفسه عاريا في الخلاء فبكى، لقد فقد الخلد… العرش…الله على العرش استوى...  واستبدل الفرش بالعرش…أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟؟ اهبطوا فإن لكم فيها ماسألتم.

انبطحت نسخته على ظهرها فوق رمال تشوي الوجوه ساءت مرتقدا…لقد أدركت أنه يبكي الخلود…خلوده وخلودنا داخله في ملكوته فأوحت إليه أن ابذر داخلي خلودك يخلد…وفي لمح البصر تقيأنا جميعا في جوف نسخته.

 لماذا تتزاحم كل هذه الخواطر في نفسي كلما دخلت عزلة الشيخ؟؟ جئت من أجل أن أشكو إليه همي من المدينة المومس ثم نسيت كل ذلك وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره.

هل أصارحه بما جئت من أجله؟؟ أقصد هل أبوح إليه بالسر؟؟ وهل هو في حاجة إلى البوح لقد رأى كل شيء...  وفهم كل شيء...  إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

ثم خرجت دون أن أنبس نبسة واحدة ولا أقل من ذلك ولا أكثر…

 

(4)

الكابوس الجميل

 

إرهاق فضيع يقطع خلايا جسدي…براكينه تنفجر داخل مخي دبابيس حادة صدئة تنغرز في قدمي المشققتين… عجلت إلى مخدعي…دلفته…ارتميت فوق حصير بال قرضت الفئران جزء كبيرا من أطرافه.

فجأة توهج نور* في المخدع…تعاوى الظلام منهزما يختفي بين فجوات الجدران...  دهشت...  جلست من اتكاءتي… لمحته يقف بين يدي...  مد يمناه…أمسك بتلابيبي…أنهضني غضبا.

هو  : أين هي؟ أين ذهبت؟ أين ضيعتموها؟

تدلى قلبي حتى أمعائي هلعا وراح يتأرجح كبندول الساعة… أردت أن أسأله من هو؟ وعمن يبحث؟ غير أني لم أستطع…لقد انقلب لساني حتى دخل بلعومي…دفعني حتى ضمني الجدار وأعاد سؤاله.

هو  : هكذا تسكتون...  تلجمون حين تواجهون بالحقيقة المرة...  أين هي؟ أين ذهبت؟ ضيعتموها يا أوغاد؟

اشتد غضبه…لحظت حمرة شديدة في عينيه كأنما داهمتهما حمرة الشفق…وما فتئ أن تكسرت أمواج غضبه على شفتيه تاركة زبدا رابيا، يتجمع ثم يندفع نازلا…أعادتني صدمة الخوف إلى وعيي…سألته بحيرة.

أنا:  من أنت سيدي؟

هو: إني أبحث عنها...  هنا كانت... 

أنا: من هي؟

هو: (وقد أطلقني) من هي؟؟ من هي؟؟

ابتعد قليلا واتكأ على صندوق نخر يتهالك قرب الجدار وفي بؤبؤيه دموع حائرة براقة...  شعرت بالتعاطف معه وبشيء من الحميمية... 

أنا:عاشق أنت سيدي؟

هو:عاشق…متيم…تفطر مني الكبد واشتعل القلب حبا…

تذكرت نون حبيبتي…وقفت أمامي خلقا من نور وهِجٍ تحيطها هالة قوزحية…أخرجني من سبحاتي وهو يواصل حديثه.

هو:الحب إكسير الحياة…وحين تفقد من تحب فإنـ..؟!!  ولزم الصمت فجاريته في ذلك ولكني رحت أتأمله...  من التاريخ هو...  من الأسطورة...  ؟ تعالت أمامي قصور دار السلام وروائح ألف ليلة وليلة...  أردت أن أسأله ثم صرفت أمري عن ذلك.

أنا:أنا في الخدمة ياسيدي...  مرني وستجدني طوع أمرك.

هو:(صمتا استهزاءً ابتسامةً خَرجَت نفَساً من أنفه)

أنا:(فهمت) صدقت...  يا…سي...  دي من عشيقتك؟

سكت لحظة يتأمل السقف المتهرئ وكأني به يضطرب تفكيره ويمور مورا.

هو: كل قدرات الإنسان ومواهبه لن تصفها…لن تصورها وإن حدثتك عنها فسأكون خائنا...  والترجمة خيانة…لغتي عاجزة…وذهنك خائر بليد فكلانا ليس مؤهلا لاستيعاب حقيقتها...  كنهها…جوهرها…

ما يحوم حول إدراكها هو موسيقى القلب ولغة الصمت… وهما أرفع لغة…وهما أول خطوة لمحاولة إدراكها وفهمها.

أنا: هبطَت من السماء إذن؟

هو: أجل إذا كانت السماء غير التي تراها فوقك.

هكذا قال…أو هكذا خلته قال…واختفى من أمامي شواظا من نور فتثعبن الظلام من جديد مالئا الحجرة واندفعت إلى الخلف فانكفأت على قفاي فوق الحصير البالي أفرك عيني.

أين ما كنت أرى؟ وأين النور الذي ملأ الحجرة؟؟ قمت من مكاني…شققت الباب الممزق…نظرت خارجا…الظلام المدجج يحاصر كل شيء…والفضاء حاصبٌ مرعب… والهواء قحط…سغب.

عدت إلى مكاني لقد كان كابوسا مرعبا لكنه في الآن ذاته كان جميلا…أجل دون شك ما وقع هو كابوس*.

 

(5)

حبيبتي نون

 

آه مدينتي…

عفوا أقصد آه حبيبتي…لماذا تهرب منا اللحظات الرائعة الجميلة؟

لماذا ينفطر عقد الأحلام بيننا دائما؟

ما الذي صيرك كالهواء أعدو خلفه…أضمه إلى صدري بحرقة ثم أفطن على الفجيعة.

 أو لم تكوني يوما ابتسامة بريئة أرصع بها قلبي المتوهج؟؟

 أو لم تكوني يوما نوارا يملأ الآكام الضاحكة؟؟

أو لم تكوني يوما... موجا... شوقا يدغدغ أعماقي بأوتاره الرنانة؟

وهل تذكرين ياحبيبتي البيضاء ثلجا…العذبة فراتا نيلا… الملساء حجازا…الشامخة سنديانا؟؟

هل تذكرين حين كنا نسير أنا وأنت صامتين أمسك يسراك بحرارة الأوردة وأضغط أصابعك التي تشبه أشعة الشمس…

ولا شيء غير زخات من مطر تتناثر فوق جسدينا كالفرح…

ولا شيء غير الصمت…

لم أتكلم ولم تتكلمي ياحسنائي…غير أني قلت أشياء...  وقلت أكثر…

أوَ ليس الصمت أعظم لغة وأروع حكاية قصها هذا الكون منذ الأزل ومازال يترنم بها لحنا سرمديا...  ؟؟وذلك الذي كتبه بتهوفن للذين يسمعون بغير آذانهم.

حسناء حبيبتي يا لون الفرح والقمح البري…

يا طعم الطفولة والحلم والليمون…

يا قامة الصفصاف وكبرياء السرو…

يا…نسيم البراءة…يابراءة النسيم…

يا...  القوزح…الجوهر…السر…اللب...  العمق...  الكُنه..

ياطعم زخات المطر الليمون…الأريج…الشذا…

هل صدقا لقيتها…؟سبحت في فضائها…؟نشقت أريج الروح منها…؟

لعل الأمر لا يعدو أن يكون حلما جميلا*؟

 

(6)

الخطبة العصماء

 

لم أكن أقدر على المشي إلا متعرجا…ملتويا…مترنحا…قافزا هنا وهناك…كانت الفضلات تملأ الشارع أقصد التجويف… الذراع…الإصبع…وكانت روائح النتانة تتعرش داخل خيشومي مستعرضة عضلاتها…تختار مهطعة كل إحساس لدي…

وصلت إلى مقهانا…مقهاهم بصعوبة شديدة وأنا أحاول أن أمحو كل ما علق بذاكرتي من صور…كوابيس غير صورة حبيبتي نون.

عند المدخل اعترضت المدينة طريقي في ثوبها الشفاف يتصافح ثدياها…شكوتاها...  تضرب الأرض بكعبها العالي وتدندن أغنيتها المفضلة.

دفعتها عني بعيدا ودلفت على عجل استطلع الصخب الذي كان يملأ التجويف من الداخل وقد تعالى الدخان وشكل غواشي كثيفة غطت السقف كله، ومن خلاله راحت بعض العناكب تتأرجح في خيوطها مادة رقابها تشهد الحدث التاريخي العظيم.

لقد قرر الجميع تشكيل أحزاب سياسية لينتقلوا بذلك إلى الحياة الديمقراطية تأسيا بالأمم المتحضرة.

كان الجميع سكونا إلا من همهمات…ورمرمات… ودمدمات… وزمزمات… تزفر غيظا… دخانا.

خمسة أحزاب كبرى تشكلت حتى الآن وست مئة أخرى في فلك يسبحون…تابعين فما هم إلا تبع…لا أقصد قوم تبع باليمن وقيلهم سيف بن ذي يزن وإنما هم تبابعة محدثون…حداثيون ظهروا الآن في مدينتي.

وكان الغراب على رأس أكبر حزب في المقهى كلها سماه حزب جماهير الديمقراطيات الشعبيات*…وبعده حزب الحلزونات الشعبي… وحزب دودة الأرض للعدالة والمساواة وحزب…

لست أدري لم تعد ذاكرتي قادرة على استيعاب كل هذه المعارف.

أنهى الغراب خطبته العصماء بقوله:

-…يــا…الأخدان…منقاري خلفكم، ومخالبي أمامكم، وحذري محيط بكم، وليس لكم والله إلا بطني، به تحتمون، وإليه تعودون، وحول كعبته تطوفون…إنه من الغراب، وأنه باسمي العظيم أن آتوني خانعين...  خاضعين...  تائبين...   عابدين...  باخعين…راكعين...  ساجدين...  وإني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها...  إن للشيطان طيفا وإن للسلطان سيفا...  والله لو أمرت أحدكم أن يدخل من هذا البلعوم (وفتح فاه) فدخل في غيره لأجزن رأسه.

بيني وبين رقابكم حبل من مسد إن تجذبوه تتدل أرجلكم الصفراء…تبيض أعينكم…تتهاو ألسنتكم في الهواء…أو ترخوه سيروا في الأرض تساقط عليكم رحماتي…رضائي...   وهذا من مبادئ جمهوريتنا العظيمة.

وعلا التصفيق والهتاف، والهرج والمرج، والمكاء والتصدية، وشمر الأخدان سرابيلهم، واختلط الحابل بالنابل، وقامت حرب داحس والغبراء على قدم وساق، ودخلت المدينة المومس تلوك علكتها المفضلة يتهادى شعرها كسفا على أكتافها يوقع ثدياها ركز الفناء، وظل ثوبها شفافا يكشف عن كل شيء.

وجاءت من بعيد مجموعة من العبيد المناكيد يجرون رجلا خلته العبسي* من لحيته وقد نزفت مذاكيره دما.

 

شهوة التحليق والغوص

شهق الغراب شهقة عالية ورفرف في السماء ثم هوى إلى الأرض، ثم حلق في السقف، ثم هوى مرة ثانية، ثم انطلق صوب المدينة المومس فاستقر في سوأتها…دخل كلية إلا رأسه بقي يطل على الجميع ويضحك ضحكات الاستهزاء والسخرية والفرحة العارمة بانهزام العبسي.

وهتف الجميع صوافَّ وقد أزَّتهم مهارة الغراب في الطيران ومهارته في اختراق الحواجز المثغورة…لا أحد يصلح لمضاجعة المدينة والاقتران بها إلا الغراب، ولا أحد يصلح أن ينسل منها إلا الغراب…ورفع الجميع أكف الضراعة أن يُرزق الغراب بولي العهد أملا في استكمال صرح الديمقراطية وحكم الشعب الذي بدأه والده.

لفظت المدينة الغرابَ فسقط تتخبط أوصاله في أوحاله، ويتقيأ دما أسود، وتهادت نحوي ترغي كالبعير لقد اشتد ظمأها… عطشها… سغبها…تسعرت شهوتها…شبقيتها… عشقها، ومدت نحوي أصابعها المعروقة تريد أن تضمني إلى صدرها… اقشعر بدني… ارتجفت أوصالي…ركنت إلى الجدار… اقتربتْ…ركنتُ… اقتربتْ…تكومتُ…ظلّلَت قلبي بظل ذي ثلاث شعب خمطٍ دغيلٍ…لا ظل ولا ظليل…هي الآن قاب قوسين أو أدنى ما كذب الفؤاد مارأى.

انفتح الجدار خرجت إلى الشارع…الزقاق…الخلاء...  كانت المدينة تتمدد عجوزا مجعدة الشعر مغضنة الوجه ساقاها سلكا حديد صدئ…أسندتُ ظهري للجدار وجلست القرفصاء.

 

طقوس المبولة

قابلتني مبولة المدينة تفغر فاها متثائبة وقد سربل السوس كل أسنانها فتهاوت…هي أشبه ما تكون بفم عاهرة متقاعدة أدمنت الخمر والتبغ.

وبجوارها كان السجن يقف شامخ السرادق مزينا بالأسلاك الشائكة…وتناهى إلى مسمعي أنين وعويل وانتحاب…وتراءى لي الدم والدموع والعظام المفرومة والكلاب تنهش الجلد على العظم وتذكرتهم…عسل النحل ونور الشمس وشذا الزهر وسنان الرمح والأسمر ذو العينين العسليتين.

بالمناسبة هذا السجن أعلى سرادقه الغراب…والغراب نسيت أن أحدثكم عنه…هو مخلوق متميز فريد من نوعه نحيف طويل صغير الرأس معروق الأصابع ركبت فيه كل أشكال وأنواع الدمامات… كل من يراه يعترف أن لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر مثله على بال…

ينتعل حذاءه معكوسا وينكمش فتغوص رقبته في صدره حتى تتلاشى…ويظهر رأسه صوانا بكماء وُضعت دون مبالاة على كومة من عظام.

وتناهى إلى سمعي اللحظة صراخ فيه مرح وفرح…هل تسمعون؟ إنها مزامير الأتراح أقصد الأفراح…وظهر الموكب قريبا مني وقد تعالت أصوات المزامير والطبول والقهقهات…كان الغراب يسير في المقدمة يطلق عيارات نارية في الفضاء وخلفه موكب الأخدان الضخم ممن كان في  المقهى ووسطهم كانت تتهادى المدينة المومس في ثوبها الشفاف وقد تصافح ثدياها…شكوتاها…ورفعت عقيرتها تدندن وتزغرد وترقص على صفصفٍ لا أمتَ فيها…

خشيت أن تهاجمني…أنا أعرف شبقيتها…عطشها…سغبها… ظمأها…خرجت من شارعها…زقاقها… خلائها…فجوتها… مصارينها…قابلتني نخلة صلعاء على ريع حزينةً ذابلة تسعل بحدة وتفرز بلغما أسود وقد تهرش جلدها حتى تسايل منه دم أصفر ما يفتأ أن يمتزج بالقار الذي شوه جذعها... وكُبكب على سفحها خمطٌ وجرب غربيب…

اختفيت خلفها أرقب الموكب وقد توقف بين فم المبولة البوالة وسور السجن…مازال الغراب يرقص على رجل واحدة ويطلق البارود في الفضاء محاولا أن يتمطط فيصنع لنفسه رقبة أو ليوهم الرائين أن له رقبة.

وتعاون اثنان فحملا جثة وأوقفاها عند فم المغارة المبولة ثم ربطاها ببقايا أسنانها…كانت الجثة ضخمة معراة إلا مما يستر عورتها.

لم أستطع أن أتبين معالمها…المهم أنها جثة آدمي أبيض البشرة يميل قليلا إلى السمرة لكن لم أتبين جدا ملامح الوجه…كان الرأس منكفئا على الصدر وكان الشعر يتدلى حتى يغطي ملامح العينين.

وطار الغراب فحط على المبولة ورفع رأس الجثة مزيحا عن الوجه قزعات الشعر…لقد عرفته إنه هو نعم هو…لقد جاءوا به مقتولا…جثة هامدة  لا حراك بها إنه المخرب المفسد الخطير هنابال بن رافض…نعم هو أو كأنه هو…في الحقيقة ملامحه غير ثابتة كأنما يحمل ملامح كثير من رجال التاريخ.

المهم أن وكالات الأنباء قد تناقلت مجتمعة أنه هو الذي بذر الحطب بين القلوب وهو الذي شق البحر الأبيض المتوسط ليفصل الكرة الأرضية إلى شمال وجنوب ويرتكب جرم التفريق بين الإخوة والأشقاء…وهو الذي…إلى آخره مما عرفتم وسمعتم…وقد طلبه الأنتربول وفشلت كل الكمائن في اصطياده إلا كمين الغراب.

وتعالت الصيحات وعويل المزامير ونواح الطبول والدفوف وترنح الغراب يرقص بجنون يضرب الأرض بقدميه فيتطاير البول من تحت أقدامه طمياً…حمأً…عفنا على وجوه الجميع سائغا للشاربين.

وتسعرت المدينة فلملمت أطرافها... أزقتها... قذارتها… نتانتها... ودخلت الحلبة ترقص متهرئة اللحم يصفق ثدياها… وطبتاها…طار الغراب فحط على صدرها جِثيا وغرس أسنانه النتنة في ثديها الأيمن…هذه ساعة الرضاعة.

أما الآخرون فقد طوقوا الجثة وأدخلوا فيها مناخيرهم وراحوا يمتصون بين العينين... بين الذراعين... بين الساقين سائغا للشاربين.

سعلت النخلة* وقالت وهي تربت على كتفي بشماريخها اليابسة العجفاء:

- لا تضيع وقتك هباء فتسحت…لا تنشغل عن حبيبة القلب فتثبر…يجب أن تجدها…أنت بينهما مأخوذ عن حقيقة الخبر بتمويه العبارة.

وشهقتْ فخلت روحها أزهقت…

انطفأت الشمس الشاحبة المريضة وجاءت الثعالب تترى من أقصى المدينة تسعى…نظرت حولي لمحت ترابا ممتقع اللون قيحا ولمحت صوانا يسيل لعابها ببلاهة…ما أتفه ذكرياتي في هذه المدينة المومس وخشيت أن تغتالني هذه الذكريات الديناغولة فأغلقت نوافذ ذكرياتي وانسحبت بعيدا أتجرع مرارة الفجيعة.

 

(7)

حي بن يقظان*

 

صمتٌ أصلع يسبت القلب…يشل المدينة المومس…رهط هنا يتبادل تحريك الشفاه…وهز الجوارح…معاشر هناك كالموت بعضهم كبكب على قارعة الطرق يغط في نصف سبات…يستند مدافع رشاشة…بعضهم جثم خاشعا أمام الإله قبحون…بعضهم أقعى يلهث تدور عيونهم الشرسة كأنما ينتظرون شيئا…يرقبون طارئا…وحده القوال يدور…يضرب الطبل… يفتح فاه صائحا مناديا...  كأنما يعلن عن أمر ذي بال…لكن صوته لم يكن يتجاوز حلقه…

تقدمت متوجسا يحصف بي الخوف…يعصف الفضول…لفتت انتباهي لافتات كبيرة عليها إعلان مكتوب بخط رديئ جدا… تأملته…أجهدت نفسي في فك رموزه.

تعلن المدينة المومس (قف) أن (حي بن يقظان) (قف) قد تسلل بين تضاريسها….(قف)

وأن القبض عليه واجب يمليه الوفاء والإخلاص (قف)…

وعجلت إلى الجمع نهما لاستطلاع النبإ العظيم الذي هم له مجتمعون…وما كدت أصل حتى تزوبعوا حولي وملأوا أذني ومنخري ثم أمسكوا بتلابيبي وجروني كالموقوذة…وفي لمح البصر ربطوني بحبال غليظة على ساق الإله قبحون…وخروا إلى الأذقان سجدا تتعالى صيحاتهم وعويلهم لقد تحولوا إلى ذئاب مسعورة…لماذا يفعلون هكذا؟ لعلهم اعتقدوا أنني حي بن يقظان أو لعلهم اعتقدوا أنني من سلالة إلههم قبحون أو…أسئلة حيرى عصفت بدماغي…

من بعيد أقبل السيد لعن أقصد نعل عجلا يلهث كالكلب…وفي عينيه تفور حمم طامية وتتسايل عند قدميه…وارتمى على بطنه بالقرب مني يعوي مسعورا ويلهج بالدعاء والتسبيح يرفع جزء من طرفه في استحياء وخوف فألمح أسنانه رحى وجعجعة ويتناهى إلي كلام أكمه…مثبور…

سوْحب … سوْحب …

ربي ورب الغراب والرنس والغيهب …

رب اللظام واللكام والشيهب…

سوحب … سوحب…

رب الجفاء والجفاف … 

رب العجاف والرجاف …

سوحب … سوحب …

رب الشطاع واللعاع …

رب الضحيح والاترياع …

سوحب … سوحب …

كان السيد لعن جبتا يلهج بطلاسمه في تأثر بالغ والجميع وراءه يلهجون خلفه يرفعون رؤوسهم حينا وحينا يعنتون…شرنقتني الدهشة ارتفعت عقيرتي معهم…

سوحب … سوحب …

و نحروا ألسنتهم دفعة واحدة فغشي المكان سحاب من صمت مركوم…يبرق خلاله وميض صوتي العليل.

سوحب … سوحب…

ثار السيد لعن من مجثمه كالوباء فثار خلفه الأتباع وكبحت لساني رفعوا جميعا رؤوسهم فيَّ…صوبوا نحوي عيونهم وصمتوا…لمحت من ملامحهم فرحا فاجرا مالحا…نشرت ثنايا الوجوه لم أكتشف شيئا…ونطق السيد لعن فأزهق تفكيري.

وأخيرا أنت معنا بيننا…؟ بحثنا عنك في طيات كل ذرة من ذرات هذه المدينة…أين كنت أيها البطل المغوار؟ أيها الإله العظيم…؟ أين كنت حتى نلهج لك ملء الحناجر؟

سوحب … سوحب …

ربي ورب الغراب والرنس والغيهب …

رب اللظام واللكام والشيهب…

سوحب … سوحب…

رب الجفاء والجفاف …  

رب العجاف والرجاف …

سوحب … سوحب …

رب الشطاع واللعاع …

رب الضحيح والاترياع …

سوحب … سوحب …

كان يلهج والأخدان يرددون من خلفه في نشاز يمنشر القلب الفزع…وتغير أمره…فأرعد واكفهر…وأمطر علي حجارة من سجيل مسومة…عرَّش القلب…صهلت في تضاريسه الحيرة… القلق…السؤال…وقطع علي ذلك بسكين كلماته الصدئ.

- وأمسكنا بك أخيرا أيها اللعين…المنافق…الأفاك… القذر…الأشر…لقد انكشف أمرك وظهرت على حقيقتك… أنت في المدينة حقد…برد…فتق…رتق…سلب…نهب… رهب…

وسكت يلعق ما تلبنن وتلعبن من غدده النتنة على لحيته وصدره…

وفحوا جميعا…بصوت واحد كأنهم آلات مبرمجة

- الموت لحي…الموت لحي 

وتدافعوا كالقطيع علي صفعا…ركلا…لطما…قضما… لكما… قصما…وغيم المكانُ غبارا يعضد الغبش المعتاد ويظاهره في تشويه المدينة المومس…وتسلل الغبش إلى سويداء القلب يزرع مرارة الموت الزؤام وتناهى إلى أذني صوت لم أتبينه في البداية كان يرعد في الجميع فكفوا أيديهم عني وما كاد يصل ويتبين الأمر حتى هطل على الجميع شتما وضربا…وهُمْ بكم… بهم…كُمْهٌ…وما كاد زبده يذهب جفاء حتى مال إلي ورفع ستائر فمه عن أسنان متقيحة سوداء مبتسما…مخض البطن عصارته وعتا الموج داخله…وعاد فأسدل ستائر الفم وعاد مد الموج يهدأ من جديد…دار ميمنة ومشأمة أقعى…انبطح… تمرغ…نعق وقال:

- وتعتقد أمرك لا ينكشف؟ خلناك كتلة تسعى تدفعها الريح فوقَ تحتَ فإذا بك حي بن يقظان تريد أن تزعج موتانا فتزرع فيهم الحياة…؟ وتريد أن تقلق المدينة فتوقظها من سباتها العميق وتنغص عليها أحلامها الجميلة؟ أخبرنا من صوغ لك ذلك؟ من يقف وراءك؟ من ظل يخفيك متنكرا طول هذه الأزمنة؟ من شوه أفكارك أيها المثبور ؟ من أركسها فغدت صوانا؟        

قسما برفاة موتانا الناخرات…

قسما بأحلام المدينة الجميلات…

لأتركنك عبرة لأولي الحماقات... 

واندفع الجمع خلفه فحيحا…

- الموت لحي…الموت لحي…

ورأوا الغراب يهرع عند سفح الإله قبحون فهرعوا خلفه وانكبوا جميعا إلى الأذقان مهطعين خابتين خشعا وهم يبكون…يولولون… يعوون…ولوردهم المورود يرددون…

سوحب … سوحب …

ربي ورب الغراب والرنس والغيهب …

رب اللظام واللكام والشيهب…

سوحب … سوحب…

رب الجفاء والجفاف … 

رب العجاف والرجاف …

سوحب … سوحب …

رب الشطاع واللعاع …

رب الضحيح والاترياع …

سوحب … سوحب …

ثم نهضوا جميعا وأحاطوا بي وقد استلوا من عيونهم شبقية الحقد… قال السيد لعن:

- لنقطعن رجله ويده من خلاف

قال الغراب مؤيدا:

- و لنصلبنه في جذع النخلة

قال الجميع مبايعة:

- جزاء نكالا…

وسكتت الهمهمة فهموا إليَّ…غرابهم…ونعلهم ولعنهم… وأتباعهم…وقضهم…وقضيضهم .

وتعالت من بعيد قهقهة الفأر اللعين سكينا صدئة فجمدوا حيث هم…قال قائل منهم لم أتبينه:

- إن في القهقهة سرا .

قال الفأر:

- أتقتلون كتلة تسعى تدفعها الريح فوق تحت إني أراكم من الضالين؟

قال الغراب:

- إنه حي بن يقظان.

قال الفأر :

- تعسا لحواسك إذا كان لعن لا يملك أنفا فأنفك خرطوم…هأ…ذأ…القارح بن التالف والذي يدعى أيضا الفاني بن غفلان…ودخل بن دغل…وهيان بن بيان…فلا تشغلوا بالكم...  ولاتبخعوا أنفسكم…

قال الغراب :

 -عليه الويل…الثبور…الهلاك…تحنذه…تدثره… تزمله… كل هذه الألقاب ثم هو لازب…لاصق ؟!!   

ورأيت الجمع ينفرط في تذلل لا ينبس كلمة…وقد تهاوت على رؤوسهم الصخور تباعا من فم الفأر القذر…ولم يبق في المكان إلا غبار يتثاءب بصعوبة متكاسلا خاملا ودخان ينبعث من الجوف يترنح في الجو مخمورا…

ورأيت الغراب ينأى بجانبه يقتعد التراب المتثائب…وإن هي حتى أقبلت المدينة المومس فقعدت إليه…فحدق فيها مقطبا دون أن ينبس…لقد اتخذها مرآة يرى عليها وجهه…وربما وقفت أمامه الساعات الطوال تتخذه مرآة ترى عليه صورتها*

 

(8)

 

القارح بن التالف والفاني بن غفلان

 

فجأة دهمني موج عاصف قاصف حتى ارتطمت بالجدار المتهرئ… امتلأ المكان نورا...  تجلى أمامي.

هو: مازلت تنكرها؟

أنا: عمن تبحث؟

هو: عن حبيبتي.

أنا: أخبرتك في المرة السالفة أني لا أعلم عنها شيئا.

هو:  تعاونتم جميعا على هدمها واغتيالها ثم تدعي أنك لا تعلم عنها شيئا.

أنا: أنا...  ومن غيري؟

هو: أنت والغراب والفئران والثعالب التي تسعى من أقصى المدينة والقارح بن التالف والفاني بن غفلان ودخل بن دغل وهيان بن بيان…وكل أخدانكم وأتباعكم وأذنابكم.

أنا: ياسيدي ربما هم أما أنا فلا.

هو: ولماذا تستثني نفسك أيها الأحمق الغبي؟

أنا: أقسم بكل مقدس أنني لا أعرف عنها شيئا…هم لأنهم أشرار لم يفعلوا هذا فقط لقد هدموا كل شيء…هم أخطر  من الجراد…من الوباء…من القحط والجفاف…انظر هل تركوا شيئا في المدينة؟

هو: وأنت بقيت هنا شاهدا سلبيا على كل ما وقع أنت رأيت المنكر ولم تغيره أنت شريك في الجريمة أيها النذل الحقير.

أنا: ( لنفسي) وما دخله في هذا (له) أخبرني ياسيدي عن حبيبتك وأنا مستعد لأبحث معك.

هو: هي أعظم ما درج على الأرض…

أعظم ماسرى في الماء…

أعظم ما طار في الهواء…

هي ابتسامة بريئة على ثغر الصغير…

دفقة الحب في القلب الكبير …

دهشة الشوق الغزير…

هي مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على بال أحد.

 

(9)

عيد الغراب

 

المدينة المومس نعيقاً يقضم الأذن…فتحتُ ستائر العينين نشرتُ جسدي على الرصيف…لقد بتُّ القرفصاء قرب المقهى…لم يعد لي مستقر يحضنني فأنا أجلس حيث يغشاني التعب…فركت عيني لأتبين ما يجري أمامي…طبقة الغبار التي غطتني هذا الصباح سميكة على غير العادة…

قادتني رجلاي حيث الصوت القضَّام…وجدت نفسي قبالة قبحون، وقد وقف الغراب قريبا منه ومعه السيد لعن أقصد نعل، وقد دثرهما الأخدان من كل جانب، وقد تسربلوا كلهم جميعا لباس الغربان.

فجأة ارتفعت بينهم أنغام نشاز بدأت ضعيفة وراحت ترتفع رويدا رويدا، وإن هي حتى ضج بها المكان وتثاءب التراب راقصا زوبعة…واشتد عويل الأخدان يرفعون الغراب على أكتافهم بالتناوب وعلى وجوههم غبطة وسرور لم أرهما من قبل ثم أجلسوه على العرش الذي نصبوه له سفح الإله قبحون تبركا به وتداولوا على المنصة يهيلون على الغراب مدحا وإطراء وانتهوا أخيرا إلى إجراء مسابقة بين الحضور جميعا في أيهم كان أكثر ظهورا بشكل الغراب ليدل على المحبة والإخلاص.

وفاجأتني النخلة أنينا بعيدا:

-إنه عيد الغراب…

وما كدت أسمع هذا القول حتى فررت نجياً…

 

(10)

الصفصافة

 

يا حمحمة الروح…الزهر…

يا عندلة المطر…القمر…

يا عبق الطفولة…الحلم…الشعر…

يا صفصافة أتيه على ضفاف سواقيك الفضية الرقراقة...  أطرب على وقع الخرير...  الرقرقة…

يا...  مهرة برية بيضاء…تعشقين التمرد تعشقين الكبرياء... 

يا...  حمامة لا تحسن إلا أن تحلق في الفضاء... 

تستحمين بنوره...  

تنسجين على نول الشمس أزهارا بيضاء…

حين التقينا ذات صباح لازردي نحرت كل زهراتي…

كسرت كل ناياتي…

ووقفت أمامك عاصيا أثقلته الخطايا والذنوب... 

ظمآن جف حلقه...  وزاغ بؤبؤاه... 

وعشت عمري كله فارا منك إليك... 

تعدو خلفي عيناك وموسيقى بسمتك العذبة…

تداعبني شفتاك كقطرة ندى وتحدثني نفسي أن أصفعك… أتحداك... 

أعشق الدمع في عينيك…يذكرني برذاذ المطر على صفحة بحيرة هادئة…أتحرك…تخونني يداي رجلاي كل عضو في جسدي المتعب يتآمر ضدي...  يسري الضعف في كل فجاجي…

إليك أهرع كطفل صغير أفزعته الذئاب…

ضميني إلى حضنك... 

هدهديني بجفون عينيك... 

ضميني إلى القلب الملتهب... 

دعيني أكن قطرة حمراء تعدو متوهجة جذلى في شرايينك...  خفقة حبلى في فؤادك…صهيلا في كبريائك... 

ذوبيني فيك...  اكسري جدار صمتك يا…دكيه ودعينا نلتحم… إن الالتحام يولد الاحتراق...  إن الارتواء يولد الظمأ.

حدثتك طويلا وظللت صمتا...  كنت في حضرتك يادرويشتي… أمارس طقوس الحلول...  كنا جسدا واحدا يا أنا فصرت نصف جسد…خانني الكلام وظللت صامتة كالآلهة…

 يا...  هذه عصارة قلب الزهر أترعتها الأيام الحوالك جوف قلبي وجدتها تقبع حزينة تعاني ضياع الشذا ضياع السنا فاستلبتها لك اشفاقا عليها وحملتها إليك يا...  ضميها إليك...  عطريها من وجنتيك...  من سنا شفتيك...  اغمسيها في قلبك...  امنحيها الحياة... 

 يا...  إن الالتحام يولد الاحتراق...  إن الارتواء يولد الظمأ.

غير أني ما رأيتك قط…وما لمحتك إلا سنا…شذا…وجهدت العمر كي أراك ألمسك أنعم بالخصب منك…وكنت تقولين دائما يكفيك الطيف…تخيلني كما تشاء وكما يحلو لك وضمني حين توقظك الخمرة المعتقة…

وأنا يا حبيبتي لا أحسن الفصل بين الجسد والروح…ولا أملك هذه الخمرة المعتقة…

رفقا بقلبي المعنى وأشرقي على القلب خمرا معتقة…روحا وريحانا…

 

(11)

في رحاب الصخرة

 

كان المجذوب يجلس إلى ظل صخرة كبيرة يمسك بعصاه ويرفع رأسه يتأمل السماء دون أن يتحرك البتة هذا ديدنه لا يحسن إلا أن ينظر إلى السماء كتمثال مرمري قديم وُضع دونما عناية عند سفح صخرة كبيرة أحاطت بها حشائش خضراء يانعة.

جلست بجواره دون أن أنطق بكلمة واحدة…خشيت أن أقطع عليه خلوته ولقد علمنا أن ذلك هو الخسران المبين…ولماذا أتيته فارغ اليدين دون قربان ؟؟ وما يفعل هو بالقربان؟؟ إنه يمنح ولا يأخذ…

ذكر الأولون أنهم لا يعرفون متى جاء إلى هذا المكان، ولا لماذا ترك المدينة وصعد إلى هذه القمة؟ ولا لماذا اختار هذه الصخرة بالذات دون غيرها من الصخور؟ ولماذا هو يقضي معظم أوقاته صامتا يمسك عصاه بيمناه مرة وبيسراه أخرى وبكلتيهما مرات؟ ولكن لماذا يرنو ببصره إلى السماء أبدا؟

وللمجدوب طقوس خاصة أخرى لا يعرفها إلا هو…ولا يقوم بها إلا هو...  ولا يمكن أن يحل رموزها ويفك طلاسمها إلا هو...  ولماذا أطرح أنا كل هذه الأسئلة أليس كل شيء يحيط بي هو غريب لم أجد له تفسيرا ولا حلا؟  

لماذا تحاصرني المدينة الملعونة بنظراتها الشبقية؟؟ لماذا تستسلم في كثير من الأحيان للغراب وأتباعه من الحلازين ودود الأرض؟؟ أين الذين كنت أراهم بل وأسامرهم في بعض الأحيان الأسمر ذو العينين العسليتين وعسل النحل ونور الشمس وشذا الزهر وسنان الرمح و..؟ هل يقبعون الآن في السجن خلف هذه الجدران المنيعة والسرادق المتعالية؟؟وهل هذه الأصوات المنبعثة أنينا يسلخ القلب هي أصواتهم؟؟ أم أنهم قتلوا وما أسمعه إن هو إلا صدى يتردد ويتكرر؟؟ وأين حبيبتي نون لماذا هذا الصد وهذا الهجران؟؟ لماذا أبعث إليها برسائلي فلا ترد عليها؟؟ أم أنها ترد عليها لكن قطاع الطرق يتلفونها بل ولعلهم يتلفون رسائلي أيضا؟؟   

استوت الشمس على عرش السماء...  سوت أشعتها...  امتلأ المكان نورا وهجاً...  أشرقت الأرض...  سرق المنظر مني الغفلة ليغوص بي في دهليز الحيرة لماذا تشرق الشمس هنا بالذات؟؟ لماذا تتوهج؟؟ لماذا هي في مدينتي صفراء شاحب لونها كوجه شمطاء عليلة تفزع الناظرين؟

وتحرك المجذوب ببطء شديد كأنما جبل يتزحزح من مكانه… أمسك عصاه من وسطها وبدأ يمشي ثم يهرول حول الصخرة تزداد سرعته كلما أمعن في الدوران…لألأ وجهه عرقا… نجوما… جواهر…درا دون أن يظهر عليه الإعياء ودون أن يتوقف عن التمتمة التي لم أكن أفهم منها شيئا، ثم بدأ يبطئ رويدا رويدا، ثم توقف كأن لم يسر من قبل، وحدق في الصخرة عشقا…هياما…احتضنها برموشه يسقيها من جدب…قحط… جفاف…تيه…ضياع… عشقا…هياما.

وأمسك عصاه من مقدمتها وأشهرها في وجه الصخرة وراح يضربها.

- واضرب بعصاك الحجر…زيتونة لا شرقية ولا غربية… والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا.

هكذا قال...  رتل…تلا…أو لم يقل…لم يرتل...  لم يتل…لعله خيل إلي أنه قال...  رتل...  تلا...  وسواء أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون.

وانكفأت على نفسي وجلست القرفصاء بعيدا أنظر المشهد حزنا…حسرة…إنها لا تعمى الأبصار ولكن...      

ولكن قد أحسست بالمجذوب قد أنهى طقوسه واغتال الجدب من حوله فتأملني بعينين...  عشين…حضنين…سألته:

-يا سيدي قد جاءت الثعالب تترى من أقصى المدينة تسعى... 

 تترى من أقصى المدينة قد جاءت الثعالب تسعى…

من أقصى المدينة تسعى قد جاءت الثعالب* تترى…

هكذا قلت له...  أو لم أقل...  أو خيل إلي كأن القول يسعى تترى...   المهم أنه قال:

-إن الملأ يأتمرون بك فاخرج منها إني لك من الناصحين…

أو قال:

- فاخرج منها إن الملأ يأتمرون بك إني لك من الناصحين…

أو قال:

-إني لك من الناصحين…فاخرج منها إن الملأ يأتمرون بك…

قال أو لم يقل أو خيل إلي كأن قوله يسعى تترى...  الحقيقة أنه لم ينطق... لم يتفوه...  لم ينبس...  لم تتحرك شفتاه…لكني سمعته… أو ربما سمعته.

 

(12)

جحافل الدود

 

ظل القلب حزينا…كئيبا…مقروحا…يتدلى مشمشة مريضة متقيحة باطنها دود ومن قبلها دود.

جحافل الدود المثبور تغزو المدينة أمواجا…تحتل كل شبر فيها كل درب…كل زقاق…كل فضاء...  العفن يزحف يغطي كل شيء يتسلق الجدران…الأسوار...  يلتهم الأبواب…النوافذ…يدثر السقوف…يتأرجح على القلوب.

مازالت المبولة البوالة تفتح فاها تبتسم في بلاهة ولا صوت إلا الغراب يغني بجنون وفرح...  وإلا أتباعه يرددون خلفه بإكبار شديد...   وإلا المدينة مازالت تضرب على الأرض بكعبها العالي تؤدي رقصتها المفضلة حتى ترتج شوارعها وأزقتها.

بدأ الدود يلتهم قدمي ويزحف صاعدا إلى ساقي وفخذي وبعدها  سيغتال الفحولة في...  تذكرت أن القمر عدو الدود ضوءه يحرق الدود اللدود...  أين القمر عدو الدود اللدود؟؟ لا بد أن أتأمله...  لا بد أن استنجد به…أن أستغيث وإن يستغيثوا يغاثوا بضوء يشوي الدود.

العجائز والقمر

وراحت عيناي كالأرجوحة تجولان السماء الرحبة أين القمر؟ لاقمر…أين القمر؟؟ هاهو يصارع سحابة سوداء تعصره بكلتا يديها...  وهاهو وقد تملص منها يبدو مرهقا خافتا أسود الخدين حزينا.

قالوا إن ذلك السواد آثار السحابة السوداء التي أرادت أن تغتاله  ففر منها بعد أن كاد يلفظ أنفاسها ولكنها وإن انهزمت فقد تركت آثارها عليه.

وقالوا إن القمر قد عشق المدينة وهام بها حبا وسعى إلى الخلوة بها فلما تم له ذلك راودها عن نفسها أقصد راودته عن نفسه لأنها شبقية فاستعصم وفر فأمسكت به فقدت قميصه من قُبلٍ وشهد شاهد من أهلها قال:

- إن قَدَّت قميصه من قُبل فكذب وكانت من الصادقين...   وإن قدت قميصه من دبر فصدقت وكان من الكاذبين…

هي كذبت هو صدق…هي صدقت هو كذب.

ومازالت المدينة سعيدة إلى اليوم ومازال القمر حزينا إلى اليوم.

وقال آخرون إن السواد على صفحة القمر هو صورة الغراب لا غير، لقد أفنى الغراب عمره في خدمة المدينة وحبها وعشقها فلما أراد أهلها أن يكافئوه لم يجدوا أحسن من أن يرسموه على صفحة القمر ليراه الثقلان.

غير أن المدينة تعشقني تتعشقني تضمني إلى صدرها في هيام شديد أقصد أنها تحاول ذلك...  هي تحاول أنا أزْوَرُّ… أهرب...  أفر...  أعدو...   ألهث...  وهي تعدو خلفي في ثوبها الشفاف يتصافح ثدياها… شكوتاها…تضرب الأرض بكعبها… تدندن أغنينها المفضلة أغنية حبي…هي وضعتها لتتغنى بحبي.

 

رواية أخرى

وهناك رواية أخرى لا تسمح الأمانة العلمية أن أهملها وهي عن قوال مقهانا الشعبية عن الدود اللدود عن الحلزونات أن عجائز المدينة اجتمعن يوما وحدهن وليست معهن المدينة وقررن أن يسقطن القمر في قصعة ملأنها ماء، فكن بذلك أول من حاول الصعود إلى القمر من  بين المخلوقات أقصد إنزال القمر بدل الصعود إليه لاقتصاد الجهد والوقت والمال الطائل.  

واجتمعت العجائز عند بوابة المبولة البوالة واستحضرن كل الشياطين والعفاريت والمردة وياجوج وماجوج من كل حدب ينسلون وعلى كل ضامر يأتون…وحشر كل ساحر عليم…

وفعلا جاء القمر من عرشه يسعى ونزل القصعة المملوءة ماء…حينذاك أقبلت المدينة تتهادى في ثوبها الشفاف يتصافح ثدياها…شكوتاها…تضرب الأرض بكعبها العالي وتدندن أغنيتها المفضلة.

تأملتْ صفحة القمر المضيئة وهي تلوك علكتها…فرأت صورتها بشعة...   مفزعة...  مخيفة…مرعبة…مهلعة...   مهلكة...   قهقهت عاليا تنوح ثم قالت:

- مرآتي يا مرآتي من هي أجمل الجميلات؟؟

وأجابتها صفحة القمر صمتا...  سخريةً...  هزءً...  تكبرا...   تعاليا...   فلما اشتد حنق المدينة وأدركها ليل القنوط سكتت عن الكلام المباح وأوحت إلى العجائز أن شوهن محيا القمر.

وعملت العجائز على ذلك أياما وليالي ولم يستطعن إلا تسويد جزء منه…إن كيدهن لعظيم…فلما أدركهن الملال قلن حاشا لله ما هذا إلا ملك عظيم وأطلقنه ليعود حيث هو ومنذ ذلك الحين وهو يُرى أسود الجانب من الوجه.

مرت الزوبعة بي غير عابئة وما كادت حتى التفتت حيرة وثنت عطفها فطافت بي سبعا ثم انتصبت كالوقاحة وصفعتني بلسانها انتهت حبيبتك نون… تبخرت…حملتها بيدي هاتين… ونفيتها في فج عميق يغلي به ياجوج وماجوج… ولقد علموني من السحر ما أفرق به بين المرء ونفسه.

 

(13)

الحلول وحديث الإشارة

 

ضاقت بي الأرض بما رحبت بعد أن عاداني كل شيء فيها الأحياء والجماد على السواء...  فكرت بادئ الأمر أن أزور المجذوب في حضرته لعلي أسمع منه كلمة تنتشلني من الضياع والقلق اللذين أحياهما ثم صرفت التفكير في هذا الأمر لأن المجذوب لن ينطق بكلمة واحدة إذ منذ نذر صوما لن يكلم جنيا ولا إنسيا إلا سرا أقصد رمزا ليس بيديه ولا برجليه ولكن كل السر يرتسم على صفحة الوجه وذلك لا ينكشف إلا…المهم أني…

ثم فكرت بعد ذلك أن أزور القبة حيث يعتزل مولانا الناس وما يعبدون يزين العمامة واللحية والقبة…لكني تراجعت عن هذا القرار لأني أدرك أني سأعود خالي الوفاض مرتعد الفرائص وقد أشربت رعبا...  هلعا أن يفرغ علي حالة من الحلول…الذوبان…التلاشي...   الفناء...  الزوال...  فأرى نفسي دودة صغيرة تزحف ببطء قريبا من صخرته ثم لا أفتأ أن أخرج تطاردني الصيحات.

-اِهبط المدينة فإن لك فيها ما سألت

لكني لم أذهب ولن أذهب…

 

من هوى  هوى

قمت من مكاني...  الفضاء قاتم والشمس شاحبة تكاد تنطفئ جذوتها والرياح تصفر عبر جدران البنايات المتهاوية تحمل نعيق الغراب وهو يرقص مع أتباعه أمام المبولة البوالة في حضرة المدينة…ويعلو لغوه…ثغوه…غربيبا حرورا…أصبت بالغثيان والتقزز...  لماذا رحل الجميع وبقيت أنا…؟؟ اللعنة علي يوم قررت البقاء فيه لأعاشر هؤلاء الأوغاد الأنذال ضيعت حبيبتي نون والأسمر ذو العينين العسليتين وعسل النحل ونور الشمس وشذا الزهر وسنان الرمح و…كلهم ذهبوا إلى غير رجعة كلهم طلقوا المدينة ثلاثا ورموا خلفهم سبع حصيات ليقطعوا كل صلة لهم بها ورحلوا…أين هم الآن؟؟الله وحده يعلم أمرهم رحلوا إلى مدن أخرى أجمل وأحسن… سكنوا كهوف الجبال وأقاموا حياة جميلة هناك…أو غطوا في سبات عميق داخل إحدى الكهوف…أو لعلهم غاصوا في البحر فحملتهم اللجة إلى الجوهر حيث يكلؤون…؟

لست أدري…

وتذكرت عسل النحل* حين كان يودِّعني لقد اغرورقت عيناه دموعا…أمسكته من يده كأنما أريد أن أمنعه من الهجرة لكنه جذبها بعنف…حمل كتبه فوق ظهره…حز في نفسي وهو يقول:

-لم تعد في المدينة أزهار…أنا ضاعن عن المدينة التي تقتلع أزهارها لتذبل وتموت…أما أنت فقد أشربت قلبك حب المدينة أنت لها عاشق…أنت بها متيم…من هوى فقد هوى…إذا هويت فقد هويت…حين تهوى فأنت تهوى مِن هوًى لهوًى…من هاوية لهاوية…فيها تحيا وفيها تموت...   وعليها تحيا وعليها تموت…وفي سبيلها تقاتل فتقتل وتقتل كان ذلك أمرا مقضيا.

ثنى عطفه…جمع دموعه من بين ثنايا التراب في خيط من عسجد قلدها جيده عقدا لؤلئيا…تأملني بحيرة المفارق…سبحت في عينيه بحيرتين غامضتين...  تركني ومضى…فر من أمامي كأنه حمر مستنفرة فرت من قسورة…اعترتني قشعريرة رهيبة اصطك لها شعر رأسي فجلست القرفصاء أتأمله وهو يغيب بعيدا بعيدا عني.

وتناهى إلي وقع أقدام المدينة ترقص ثملة تضرب الأرض بكعبها العالي...  فاندفعت في شوارعها موغلا في الابتعاد.

كل المنازل بلا سقوف...  كل الجدران مضعضعة متهاوية والدخان وحده سيد الموقف يهدي للأنوف روائح العفن والعطن يتموج على إيقاع الغراب ممعنا في تكرار أغنيته المفضلة.

صفقت صوان شهباء ناتئة وسط الطريق على حافة هاوية سحيقة وقالت:

 - لن تجدها لقد أفرغنا عليها صلدنا ومسخناها صوانا باردا يبول عليه الغبار.

حرب البحر

قررت هذا اليوم أن أذهب إلى شاطئ البحر إلى البحر الذي مازال يتلوى حية جبارة حشرت في قارورة من زجاج.

تعرجتُ في بضع من الأزقة...  نزلت...  هبطت عبر مجاري ملوثة...   وصلت شاطئ البحر وقد زرع قذارة وشوكا طلعه كأنه رؤوس الشياطين…

تسللت من بينها لأقف على الفاجعة…لقد جف البحر...  لا بحر...   البحر الرحب في حرب...  بحر… حرب… رحب...   أقصد أن البحر الرحب قد خاض حربا وخسر ماءه...  مع من؟ مع المدينة…مع الغراب…مع الشمس أم القمر…مع الدود اللدود ربما مع الثعالب التي جاءت تترى من أقصى المدينة تسعى؟؟

لست أدري لا بحر رحب…ولا حرب في البحر أين سأذهب؟ وماذا أفعل؟؟وكيف أستطيع أن أقيم في مدينة بلا بحر...  مدينة يعشقها الغراب*؟؟

صدق الذين رحلوا أولم يكن لك في الأرض مندوحة…دحو؟؟

ولمن تترك المدينة؟؟ للغراب...  للدود اللدود...  للثعالب تأتي تترى من أقصى المدينة تسعى؟؟ وما يضيرك أنت؟ الظاهر أن المدينة قد شغفتك حبا...  عشقا...  هياما...  أعرض عن هذا واستغفر لذنبك.

 

الانجذاب

وأحسست بالاختناق وتراءت لي المدينة قادمة من بعيد تتهادى في ثوبها الشفاف…يتصافح ثدياها...  تدندن أغنيتها المفضلة أغنية العشق الخالد…وأحسست نفسي أنجذب إليها لقد شغفتني حبا...  ملأتني وجدا...  حاصرتني هياما...   أشربتني هوى...  من هوى هوى...  إذا هويت فقد هويت…من يهوى يهوى…فإنها لاتهوى الأبصار ولكن تهوى القلوب التي في الصدور...  فأمها هاوية وما أدراك ماهيه نار حاميه.

وتدفق الماء من بعيد طوفانا يطفو على الكل يطّوف بالكل...  لم يتدفق...  بل تدفق...  لا ولكنه خيل إلي أنه يسعى... 

وهرعت أضرب في شوارع المدينة لقد شغفتني حبا.

 

(14)

 

الأحذية والفأر

 

أحذية عسكرية ثخينة ثقيلة كبيرة...  مئات الآلاف مرتبة خلف بعضها البعض ترتيبا عجيبا تملأ الشارع كله وتضرب معا جميعا ضربة واحدة في استعراض عسكري بهيج…الأتربة تتناثر تسد الأفق تغتال ما بقي من الهواء وأشعة الشمس وضوء القمر...  الجدران تتضعضع… تتزلزل...  تتهادى...   تتهاوى...  الأرض تتبضع...  تتشقق سراعا...  تتقيأ غسلينا...   رؤوس شياطين ملعونة تطل عبر فتحات الأحذية جلِدة صارمة ثم تختفي تم تعود للظهور أكثر صرامة...   تندفع أعينها أمتارا إلى الأمام من شدة الغضب فتغدو أبشع...  مرعبة ثم تعود إلى مكانها.

تزداد خفقات قلبي…مع كل دقة على الأرض...  مع كل إطلالة للرؤوس الشيطانية أقفز على إيقاع الأحذية مبتعدا والرعب يسيج...  يحنط كل جسدي...  لمحت من بعيد الفأر يقف متكئا على الجدار يضع ساقا على ساق ويطوي يديه إنها وقفة تحدٍّ…رآني هو الآخر انفجر ضاحكا حتى سالت دموعه.

تذكرت القط الذي تناثرت أجزاؤه…تخيلت نفسي قطا مثله قفز القلب هلعا…ضرب في أضلعي يمينا وشمالا وعاد ليستقر مكانه بعد أن تلمست أجزاء جسدي فألفيتها مترابطة متلاصقة.

تعالت الأصوات من خلفي...  ظهر الغراب والسيد نعل وهما يحملان رشاشين كبيرين ويطلقان وابلا من الرصاص يدوي في الفضاء ويبرق ممزقا عتمة المكان، وفجأة أقبلت المدينة المومس تلوك علكتها… تدندن أغنيتها المفضلة…تضرب الأرض بكعبها العالي…ترقص في ثوبها الشفاف وقد تهادى ثدياها…شكوتاها.

كان الجميع يبدون سعداء فرحين بالحدث العظيم…دخول الأحذية الغريبة إلا أنا كنت تعسا مقروحا...  ولماذا أنا بالذات؟

قام الغراب والسيد نعل بحركات بهلوانية تنبئ عن فرحتهما وسرورهما بقدوم الأحذية العسكرية للمدينة ثم فجأة وقفا وخلفهما أخدانهما يؤدون التحية العسكرية وبقوا صامتين…خاشعين… خاضعين…جامدين…كتماثيل صنعها نحاة فاشل على عجل ومضض.

 

القيلولة

رُوي…رَوى السابقون عنا...  روُوا لنا...  وروونا...  وذلك من الري والارتواء ونحن في الحقيقة أمة الرواية ولا فخر...  وأمة العطش الأعظم...  السغب الأكبر...  الظمإ العاتي...  المهم أنهم رووا...  هل كذبوا؟ هل صدقوا؟ هل نحلوا وانتحلوا؟؟ لست أدري لأنني في الحقيقة لست خبيرا بنقد الروايات أو تمحيص القال والقيل الذي يؤدي للقيلولة وما أدراك ما القيلولة؟ قيلوا فإن الشياطين لا تقيل.

قالوا إن رجلا من عباد الله الصالحين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قرر أن يقضي على جنس الشياطين الملاعين والأبالسة الماكرين من على وجه الأرض وفي دهاليزها…وغيرانها… وشعابها… وشعبها…وشعوبها… وتشعباتها…ومهاويها… ومراديها… ووديانها…ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟

واستخار الله تعالى واستغاث به فأمده بالعون وراح يطوف بأنحاء الأرض وأحنائها منهمكا في عمله، وكان كلما اصطاد شيطانا وضعه في كيس كبير يحمله فوق ظهره، وكلما زاد عدد الشياطين انتفخ الكيس الكبير حتى إذا بلغ هذه المدينة المومس وهي آخر نقطة له ليمضي بعد ذلك إلى الجبل فيحرق الشياطين ويخلص الإنسانية من شرهم وكيدهم إذ ذاك انفتح الكيس وفرت كل الشياطين وسكنت أرجاء هذه المدينة لا تحب أن تبرحها بل تعلقت بها كل التعلق… وأحبتها كل الحب…وهامت بها أشد من هيام المجنون…وتعاهدت جميعا على الحياة بها وتقديم القرابين على مذبحها كل عام وسمتها المنجية.

واختلف الرواة في سبب فتح الكيس…

 

الرواية الأولى

قيل إن الكيس قد ثقل وإن الشيخ قد ضعف فسقط الكيس من يده وانبجس ففرت الشياطين وقد مردوا على الفرار…

 

الرواية الثانية

وقيل إن شياطين هذه المدينة قد علموا ما وقع لإخوانهم فتعاونوا على خيرهم واتخذ بعضهم بعضا ظهريا وفتحوا في الكيس ثقبا مكن  الشياطين من الفرار…

أصح الروايات

وأبلغ الروايات وأقربها للمنطق والعقل أن الشيخ الحكيم نسي أن الشياطين من نار وأن الكيس من خيش وأن النار تبتلع الخيش...  وما كادت الشياطين تتضاعف حتى اشتد أوارها وتسعرت نيرانها فأحرقت أسفل الكيس وجعلته رمادا تذروه الرياح كأن لم يغن بالأمس...   ومرقت آبقة.

 

عاقبة الشيخ

واختلفت الروايات في الشيخ الصالح…

قيل إن الشياطين قد أحرقته بنارها المتوهجة جزاء وفاقا وحتى يكون عبرة لأولي الألباب من الصالحين الذين يتعرضون سبيل الأبالسة...   فاعتبروا يا أولي الألباب…

وقيل إنها مسخته شيطانا رجيما وهذه رواية موضوعة…

وقيل إنه نجا منها بأعجوبة ثم رحل عن المدينة دون رجعة... 

بل قيل إنه اعتصم بالجبل وهو الشيخ المجذوب السيد مولانا…

وقيل إنه دعا بدعوات صالحات قال:

-اللهم اجعل هذا البلد خبيثا وارزق أهله من الخبائث واجنبني وبني أن نعبد الشياطين.

وقيل إن الغراب والسيد لعن أقصد نعل وأتباعهما إن هم إلا من مردة الشياطين وعتاة الأباليس مسخوا بشرا سويا.

 

الأحذية والموز

مازالت الشياطين أقصد الأحذية العسكرية تضرب الأرض بقوة ومازال الغراب والسيد نعل يقفان وخلفهما يقف أتباعهما في خشوع للوافدين الجدد؟؟

ولماذا جاءت هذه الأحذية العسكرية المدينة؟ لحمايتها؟ لتدنيسها؟ أم للمرور عبرها إلى غيرها؟؟؟

إن العساكر إذا دخلوا مدينة أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة…*

قال المجذوب معلقا لما سمع هذه المقولة:

 -وكذلك يفعلون…

قال أو لم يقل أو خيل إلي؟؟ وهو الأرجح لأن الشيخ المجذوب لا يؤمن إلا بزيتونة لا شرقية ولا غربية وبالعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا.

ارتفعت ضحكات الفأر وغدت قهقهات تردد صداها شوارع المدينة وأزقتها وحجاراتها وكل أنحائها وأحنائها…خشيت أن تستفزها الشهوة فتهجم علي تتهادى في ثوبها الشفاف… يتصافح ثدياها…شكوتاها…تضرب على الأرض بكعبها العالي وتدندن أغنيتها المفضلة في عشقي.

خشيت ذلك فانطلقت أعدو...  عند المبولة وجدت المدينة المومس منبطحة على ظهرها عارية تتوسد ساعديها تحت قفاها…ترفع رجليها في الهواء…تلوك علكتها…أما الأحذية العسكرية فقد اصطفت في طابور طويل خلف المدينة إنهم يضاجعونها بالتناوب… وكان الغراب يعطي لكل حذاء أكمل شهوته موزة…أما السيد نعل أقصد لعن فكان يأخذه إلى مكان مريح لينام.

 

(15)

هولاكو والأحذية الخشنة

 

همت على وجهي في المدينة لا أدري أي اتجاه أسلك لقد تشابهت علي الدروب والمسالك تضيق أو تتسع تعلو أو تنخفض كلها تفوح برائحة الكلاب المشردة المبللة.

الغيم المركوم يسعل سعالا جافا مرعبا حتى تهتز له رئتا المدينة المخروقتان.

النخلة ازدادت أذرعها تدليا فغدت أخطبوطا تم خنقه شنقا منذ أيام.

دهاليز مختلفة العمق والاتجاه غدت تمتد أمام قدمي وبصري ثعابين وحيات مرعبة.

المدينة خالية إلا مني ودخان راح يتسلق الجدران المهدمة كأنني خارج لتوي من معركة أقصد كأن المدينة قد رفع عنها القصف منذ لحظات…لا أثر للحياة فيها ولا أحد حي إلا أنا إذا كنت حيا طبعا، لست أدري ربما أنتم أدرى بالأمر، وإن كنتم لا تدرون فلا يهم أيضا…وسواء أكنتُ كذلك أم لم أكن فإن كل شيء حولي كان مفزعا ومرعبا ومخيفا…كل شيء قد انتهى…وكل شيء قد زال ولم يبق من أمل لهذه المدينة المومس…لقد حذرتها منذ البداية قلت لها ألف مرة:

-إن الطريق الذي سلكَتِه أمت…لغز…سيفقدك كل شيء…

 وهاهي تنتهي إلى مومس تضاجعها الأحذية في الخلاء، وفي وضح النهار وأمام مرأى ومسمع المئات، وعلى رأسهم جميعا الغراب والسيد لعن أقصد نعل، ولكن لماذا سمح الغراب والسيد نعل أقصد لعن بهذه الجريمة النكراء؟ لقد كانا وأتباعهما فرحين…سعيدين… مسرورين…وهما يقدمان شرف المدينة للأحذية الخشنة التي جاءت على حين غرة من الجميع ودخلت المدينة دون خوف أو وجل وضربت على أرضها ضربات التحدي الأكبر، ولم تكتف بذلك بل أمعنت في مضاجعة المدينة.

الأحذية ليست أحذيتنا لا نعبد ما تعبد ولا تعبد ما نعبد، ولا هي عابدة ما نعبد، ولا نحن عابدون ما نعبد لها دينها ولنا ديننا، وهي في الحقيقة شهادة للتاريخ لم تقل غير هذا، بل لم تكلمنا مطلقا ولا نحن كلمناها، لم تكلمنا هزؤا ولم نكلمها جبنا...  خوفا...  رعبا...  كانت الرؤوس التي تظهر من فتحاتها تجعل الجبال الرواسي دكا فتذرها قاعا صفصفا، وكانت عيونها التي تخرج من محاجرها ثم تعود تسلخ القلوب سلخا، ويشيب لهولها الولدان، وتنفرط السماوات والأرض فتغدو هباء منبتا.

والمهم أنها ضاجعتنا كما ضاجع هولاكو دار السلام ذات تاريخ، أقصد ضاجعت المدينة وتحملنا أقصد تحملت المدينة ذلك على مضض وسخط أو بفرح وسرور -وهو الغالب- لست أدري، ولم أفعل شيئا، وما عساني أفعل وما ينبغي لي إلا أن أكتب تنفيسا عن مكبوتاتي، هم سمحوا لي بالكتابة قالوا إن أردت أن تعيش بيننا سليما معافى في جسمك...  وجسدك… وبدنك...  وقدك...  وقوامك… يأتيك رزقك ما يسد رمقك...  ويستر عورتك...  فاسكت، فإن زفر بركانك وخشيت أن ينفجر ففجره على الصفحات البيضاء…تقيأ عليها واحذر أن تفتن الناس في دينهم…لك دينك ولهم دينهم، لا تعبد ما يعبدون ولا يعبدون ما تعبد، لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، وإلا عزلناك وما تعبد عن المدينة.

بور لا شية  فيه

قطعت الزقاق هرولة...  عدوا...  قفزا...  وثبا...  دخلت زقاقا...   ذراعا...  ثم آخر ساقا…كان ضيقا كالدهليز…كان مظلما… مقببا…محروثا…تنبعث منه رائحة عفن...  وعهر...  وانبطاح وأصوات عويل...  ونواح من ثعالب وغربان...  أغمضت عيني بقوة واندفعت أسير على غير هدى، المهم أن أخرج من هذه المغارة التي تتعثر فيها القطط المدربة…والخفافيش المروضة.

بدأت أرى شلال النور ينبعث من بعيد يبرق أمام الزاوية الضيقة المكشوفة من عيني اليمنى...  أسرعت حتى خرجت من الدهليز الزقاق...  الساق...  الذراع...  انبسط أمام بصري بور شاسع بكر لا شية فيه أحسست بالراحة، لأول مرة منذ زمن طويل أرى مكانا مفتوحا كهذا رغم الجثث المتعفنة المترامية على صدره مبعثرة هنا وهناك طورا، والمتهالكة فوق بعضها في كوم واحد طورا آخر، وقد اختلطت معها كتب...  ورايات...  وأسلحة...   ولوحات فنية مكسرة أو مشققة أو مخربة فلم يبق من ألوانها الجميلة إلا أطلال تذرف الدمع.

 

الفرار من لاهيه  ساهيه

لفت انتباهي جسد بشري حي ربما هو حي أو خيل إلي أنه حي يقف على رأسه ويسند رجليه إلى صخرة كبيرة طأطأت رأسي ونظرت أستجلي ملامحه من هو؟ ولماذا هو هنا؟ ولماذا هو على هذه الحال؟ كان عاريا إلا من ورقتين ستر بهما سوأتيه...  وكان شعره كثا يكاد يغطي رقبته...  ولكنه آدمي على كل حال رغم أني لم أر آدميا في المدينة منذ زمن طويل...  أعدت النظر فيه من جديد...  إنه هو لقد عرفته سنان الرمح...  أقصد عسل النحل...  عفوا ضياء الشمس...  لا هو سنان الرمح لن أشك في ذلك بعد الآن ولن أضطرب ولن أزيدكم معي اضطرابا اعذروني فأنتم تعرفون حالتي، المهم أنه واحد ممن ذكرت...  واحد من المغضوب عليهم...  واحد من الغاضبين عليهم...  لماذا جاء إلى هنا؟ أين كان؟ ألم يبرح المدينة المومس إلى غير رجعة؟ ألم يكن يعيب علي التخلف عن الركب؟

كان ينظر إلي بعينين محمرتين تلتهبان جمرا… سعيرا… حميما… غساقا...  وهو يقول:

- أنت من المخلفين.

 ثم غادر المدينة منذ ذلك اليوم ولم أره بعدها إلا في ذاكرتي.

 هو لم يطق البقاء في المدينة كان يمقتها… يكرهها...   يبغضها… يحتقرها... 

هي كانت تحبه...  تعشقه...  تهواه...  هو كان يقول:

- من هوى فقد هوى…

وكان يقول لي:

- إياك أن تهوى لأنك حين تهوى فإنك تهوى...  وإذا هويت فإنك هويت...  الهوى هوى...  ومن هوى فقد هوى.

وحين غادرني لم يشأ أن يعانقني ولا حتى أن يصافحني بل أشار لي بسبابته وقال:

-أنت هاو لهاويه...  وما أدراك ما هي...  مومس داهيه… لاعبة لاهيه…غافلة ساهيه…

لم أشأ أن أقطع عليه طقوسه التي وجدته عليها…لم أنبس بكلمة واحدة، بل جلست بجواره بهدوء تام رغم روائح العفن التي كانت تنبعث من المكان، تلج أنوفنا بشدة.

 

العري والصمت

لزمت الصمت انتظر منه ما يقول، يجب أن يقول شيئا، ربما سيحدثني عن نفسه، أو عن نفسي، أو عن الرفاق الذين خرجوا معه وغادروا المدينة...  وربما عن نون حبيبتي أين هم الآن؟ ماتوا كما كان يتوعد الغراب دائما:

- ستموتون كالكلاب في الشعاب ياكلاب ولن تبكيكم إلا الرياح والرعود اذهبوا فنحن برءاء منكم ومما تدعوننا إليه.

وهرول خلفهم مطلقا وابلا من رصاص ورائحةً كريهة قاتلة تشبه رائحة السنجاب...  وكذلك يفعل أتباعه…وقيل ساعتها أن النسور المختفية هي التي أوحت إليه بذلك.

لم يشأ الذي توهمته سنان الرمح أن ينطق...  هذه عادته...  ديدنه… سلوكه...  لا ينطق إلا بعد أن يُعدك للاستماع، كالطباخ الماهر يضع أمامك الصحون فارغة ولا يملأها طعاما حتى يهيج شهيتك.

أنا في الحقيقة كنت مستعدا، بل كانت شهيتي هائجة...   مائجة...   صائله...  جائله...  ولكني رغم ذلك لم أنطق وأحسست بدوي يأتي من بعيد عبر الأزقة...  والأذرع...   والسيقان...   والأصابع...  دوي يشبه الرعد… الموج… الانهيار...   الانبهار… الموت...  القلق...  نسيت كل ماحولي، تعلقت بالصوت وهو يزداد…يضخم…يشتد…ومن بين فرث وعفن انسلت المدينة المومس ترغي كالبعير في ثوبها الشفاف وقد تهلهل وتهرأ...   تلوك علكتها...  تضرب الأرض بكعبها العالي…تزفر غيظا...   حنقا...  حقدا...  تدور عيونها في محاجرها...  ترسل شواظا من حقد...  وضغناء... 

رأتني من بعيد أجلس القرفصاء مرعوبا وبجانبي الذي توهمته سنان الرمح مازال يمارس طقوس الصمت...   والاعتدال…والاستقامة… أقصد الانقلاب غير عابئ بها...  غير مكترث لها...  وحين رأتني ابتسمت…فتحت بوابة فمها عن أسنان عفنة...  متقيحة…مغلفة بشهوة التقبيل…وشبقية المص...  أدركتها أنها تبحث عني لأنها تحبني...   تهواني...   تتعشقني...  خيل إلي أنها تقبلني…تقيأت أحشائي... 

كأنما أدركتْ ما دار في خلدي...  قهقهت انتصارا...  واندفعت إلى البور...  تمططت...  غدت دورا...  أزقة...  دهاليز… أذرعا… سيقانا… أطلالا…إنها تحاصرني…تحاصرنا…تسد الأفق عنا والمنافذ، تنصب الحبائل هذه عملية توسعية…

 

(16)

وكر النسور*

 

قررت اليوم أن أكشف وكر النسور يجب أن أفضح أسرارهم من هم؟؟ وأين يسكنون بالضبط؟؟ وما هي طبيعتهم؟؟ وما هذا التأثير المغناطيسي القوي الذي يسلطونه على الغراب والسيد لعن أقصد نعل وأتباعهما؟؟  

قيل أن النسور تملك قوى سحرية خارقة لا نحيط بها خُبرا وحدهم في مكامنهم يوجدون الأسلحة…والألبسة...   والأطعمة...  والذهب...   والفضة...   والجواهر المختلفة الأنواع... 

ولكن أين مكمنهم الذي دوخ الجميع حتى نُسجت حولهم الأساطير والخرافات وألفت القصص والروايات؟ أهم تحت الأرض أم هم في البرج الصخري المقام في أقصى المدينة من حيث تعودت أن تأتي الثعالب تترى من أقصى المدينة تسعى…؟أم هم في فتحات القنوات القذرة التي أصبحت تملأ أزقة المدينة وتتقيأ في كل تضاريس جسدها عفنا…قيحا؟ أم…ومن أدراك أنهم موجودون أصلا لعل أمرهم لا يعدو أن يكون إلا أساطير الأولين ابتدعوها ثم تلاها أجدادنا من بعدهم…وتناقلتها الأجيال عبر القرون إلى أن وصلت إلينا، ولقد وجدنا آباءنا على ملة وإنا على آثارهم لمهتدون… مقتدون...  نرددها آناء الليل وأطراف النهار.

غير أن ما يجري في المدينة يوحي بشيء خفي لن أبرحها حتى أعرف من أين كسب الغراب كل هذه القوة السحرية؟ من أين جاءت الأحذية الخشنة؟ ما هذا الخراب الذي نلحظه في كل مكان؟ ما الذي حل بالمدينة إذن؟ لاشك في وجودهم المهم أنهم موجودون ثم هم بعد ذلك نسور أم غير ذلك لا يهم...  الواجب أن أكشفهم لن تطمئن نفسي حتى أراهم رأي العين...  ولن يكون الطريق بالسهولة التي أتصور لا شك أنهم يحيطون أنفسهم بالسرية التامة وبطرق تمويهية عجيبة...  ولا شك أنهم يستغلون من أجل ذلك وسائل لا تخطر على بال...  لم يكشفهم أحد من قبل فكيف أكشفهم أنا؟ وبأي وسيلة؟

وأضاءت في نفسي فكرة تتبع الغراب هو حلقة الوصل بين المدينة وما فيها وبين هؤلاء القابعين بعيدا عن الأضواء، سأستغل غفلة منه وأتسلل خلفه…لا بد أن أكتشف الحقيقة…لن أبقى مراقبا شاهدا على ما يجري…بل يجب أن أكون فاعلا في الأحداث...  لقد قررت ولا راد لما قررت.

اندفعت إلى الأمام دون أن أتأكد إذا ما كان هذا الأمام هو الطريق الواجب أم لا...  المهم أن رجلي اندفعتا إلى الأمام بدافع ما فاندفع جسدي خلفهما.

وفطنت من سبحاتي على قهقهات الفأر الملعون وهو يرقبني حتى أحرجتني قهقهاته لما فيها من سخرية لاذعة وتذكرت نصائحه الغالية التي كان يسديها إلي دائما:

-هذه مدينة الفئران…

 إما أن تمسخ فأرا فتكون منا، لك ما لنا وعليك ما علينا…

 وإما أن تغادر المدينة…تهجرها إلى غير رجعة.

وأكد لي أن هناك أمرا عظيما يطبخ في الخفاء سيمكن الفئران من اكتساح المدينة وتركيع كل ما فيها…الجميع سيغدون عبيدا.

تمنيت لو قدرت على مد أصابعي وخنقت هذا الفأر اللعين الذي غدا يطاردني في كل مكان، ويقف غصة في حلقي، ثم أعرضت عن الفكرة المقرفة ليس خوفا من الفئران أن يؤول إليها الأمر ولكن لأن أمر النسور كان يشغل بالي ولا يجوز أن أضيع الوقت لابد من اكتشاف الحقيقة.

 اندفعت عجلا أبحث عن الغراب لا بد من مراقبته مراقبة لصيقة دقيقة، ثم اتباع خطوات سيره للاطلاع على السر الأعظم.

 

(17)

الحيرة

 

تعبت اليوم من السير الذي كان على غير هدى في كثير من الأحيان… تقرحت قدماي…اشتد ألمهما…هل علي أن أذهب لأستريح أم أواصل التجوال على غير هدى؟ زلزال القلق اشتد يعصف بكل جوارحي…كل شيء في المدينة يزداد تعفنا… وتقيحا…وكل شيء فيها ينهار في جرف هار…ولم أستطع أن أفعل شيئا سوى أن أراقب الأحداث بصمت لقد فروا جميعا… مولاي الشيخ المجذوب…الأسمر ذو العينين العسليتين* وعسل النحل ونور الشمس* وشذا الزهر وسنان الرمح…كلهم حذروني ورحلوا إلى غير رجعة وبقيت وحدي لقد قبلت التحدي رغم صعوبته.

والمشكلة أنني لم أفعل شيئا حتى الآن، لا أنا وجدت حبيبتي نون، ولا أنا اكتشفت السر الخفي، وفي الوقت ذاته لم أغير سير الأحداث، أنا الآن مجرد متفرج سلبي تسخر مني حتى الفئران...  قطعت الزقاق الصدر…عبرت قريبا من المقهى… هرج ومرج ينبعثان منها…ولغط ومغط...  الجميع منشغل بنباح يلقيه السيد غراب لم أشأ أن ألفت الانتباه إلي، وحتى هم لن يتفطنوا لعبوري، مازالت المبولة تفتح فاها النتن القذر يبعث على التقزز والاشمئزاز في النفوس...  ودار في خلدي استفهام محير، هل المبولة وُضعت تمويها على فم المدخل السري إلى عالم النسور الخفي؟ ربما…

 وانتبهت من سرحاتي وأنا أسمع وقع أقدام المدينة توقع بكعبها العالي على الأرض، نظرت خلفي، انسلخ قلبي هلعا وأنا أشهد المدينة تهرول نحوي في ثوبها الشفاف يتهادى ثدياها…شكوتاها…في عينيها تبرق الشبقية… هرولت متناسيا آلام التقرح في رجلي لن أكون لقمة سائغة لها ولن أحقق مرادها.

في حضرة مولانا

حين أحسست بانصرافها عني وتخليها عن مطاردتي وجدت نفسي خارج المدينة ابتعد عن آخر زقاق فيها، تراءى الجبل منتصبا أمامي، تذكرت الشيخ المجذوب...  أحسست بالشوق إليه هي فرصتي لأزوره فاندفعت أقصد مكمنه.

لم أجده حيث تعودت، لا شيء هناك غير الصخرة الكبيرة وقد كثرت حولها الحشائش وتسلقتها من كل جانب فبدت خضراء اللون كمزار ولي صالح ما أشد الفرق بين الخصب والجدب...   بين النماء والانتهاء...  بين الاخضرار والاصفرار...  ولكن أين الشيخ المجذوب؟ الصخرة دونه لاتساوي شيئا ولا تعني شيئا إن هي إلا حجر لايضر ولا ينفع…طفت حولها علِّي أجده في بعض الزوايا الخفية وحين يئست من العثور عليه لفحني حرور الأسى…رفعت عقيرتي بالصياح حتى رددت الفجاج صداي…لا شيء سوى صمم يشل كل شيء…وحين تعبت قررت أن أعود لا بد من الرجوع إلى المدينة قبل أن تغزوها جحافل الظلام ومعها جحافل الثعالب تترى من كل فج عميق تسعى…

 خطوت مبتعدا خطوات وقد عصرت الفاجعة قلبي المكلوم…فجأة أحسست بحركة تشقق خلفي…انتبهت…رأيت الصخرة تشقق بعد أن كانت رتقا…وإن منها لما يشقق…إنه الفتق…الرتق… العتق…النتق…

اقتربت في وجل وقد طلع من الجوهر من الحجر...  يخرج الحي من الميت...  ويخرح الميت من الحي…واستوى الشيخ أمامي بشرا إنسا سويا...  إنه الشيخ المجذوب…لا إنه الشيخ مولانا...  بل المجذوب...  بل مولانا...  لقد تشابها علي...  أهو هو...  هو مزيج بين هو هو...  لا تكاد تجزم أنه هو...  حتى تميل إلى أنه هو...  أم هما لم يكونا إلا واحدا لا شريك له...  فلما نظرت إليهما بعيني القاصرتين رأيتهما اثنين.

دنوت من الشيخ المجذوب وقد استوى في مكانه المعتاد يستند الرحم...  الحضن...  العش الدافئ...  يرفع رأسه إلى السماء…لا يتحرك شيء من جسده إلا تمتمات كنت أرى شفتيه تتحركان بها...  دنوت منه في تحنان...  استعطاف… استلطاف...   استشفاق...  استرحام…لا بد أن يجيبني عما يحيرني عن المدينة…الفئران… الثعالب… النسور…الدود اللدود...   الأحذية الخشنة…ماء البحر...   الغراب...  السيد لعن أقصد نعل...   أنا…هو…وهو السر الأعظم*.

سألته عن كل ذلك... 

أقصد أني أدركت أنه قد فهم كل ما دار في خلدي لقد أوتي الحكمة...  الكشف...  الفضل…الرمز…غير أنه لم يزد على قوله:

- زيتونة لا شرقية ولا غربية...  والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا.

قال أو هكذا خيل إلي أنه قال، ولكن ما علاقة هذا بما سألت عنه...  ؟

الحيرة التي تنهشني لا يشفي غليلها هذا الكلام، وأحسست كأنه ينظر إلي شزرا…لقد أدرك سذاجتي فأغضبته، يجب إذن أن أرحل قبل أن أهلك…وانحدرت هرولة أهبط المدينة المومس…

اهبطوا فإن لكم فيها ما سألتم…

اهبطوا بعضكم لبعض عدو…ولكم فيها مستفر…مستقلق… مستحير… مستلذ…مستشهى…إلى المنتهى…

 

(18)

الشخير المالح

 

أصبحت المدينة اليوم نائمة تغط في شخير مالح يشوي طبلة الأذن بئس الشخير وساء نغما...  ظلل من الغواشي الغرابيب تغلف كل شيء حتى الجدران والأرصفة…غبش يشبه دخان احتراق المطاط المستهلك...  حرور يتثعبن ماردا يصفع الوجوه…

لم أستطع أن أسير مرفوع القامة كنت أمشي كالبطة مرة وحبوا مرات عدة…هذه بداية الانبطاح…الانفضاح وإذا استمر الأمر على هذا الحال فسيأتي علي لا محالة ولا يبقى أمامي حينها إلا أن أدفن نفسي.

المدينة تمتد خائرة مبعثرة الجوارح أمام المبولة وعلى صدرها يقف الغراب إنه يستعملها مصطبة...  منصة شرفية يخطب من فوقها وماذا في ذلك؟ إنها متعددة الصلاحيات بالنسبة إليه يركبها… يضاجعها…يلاعبها…يتدثرها…يلتهم منها إذا جاع…والمئات كانوا يقفون هنا وهناك في غير نظام…تشرئب أعناقهم للسيد غراب في إعجاب شديد...  ترتفع صيحاتهم وتصفيقاتهم وتهليلاتهم في كل لحظة وعند كل جملة مؤيدين ما يتفوه به الغراب.

كان يحدثهم أن المسار الديمقراطي يجب أن يستمر في المدينة فالمدينة للجميع وعلى الجميع أن ينعم بخيرها وفضلها ونعمائها وهذا حق يكفله الدستور الذي سنه السيد غراب وصادق عليه الآخرون بالإجماع، والمدينة الآن في حاجة إلى انتخابات ديمقراطية جديدة لتختار الكفء المناسب ليضاجعها أقصد ليرأسها خلفا للسيد غراب الذي استمر على رأسها عقودا من الزمن استطاع من خلالها أن يحقق كل هذه الرفاهية والإنجازات الضخمة العملاقة الجبارة للصالح العام طبعا ودون شك.

وأكد السيد غراب أنه لن يساير المدن الأخرى في طرائق اختيار الزعيم والقائد بل لابد من مخالفة الجميع في كل شيء فمخالفتهم واجبة واتباعهم بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار...  ونحن أمة الاختلاف والاختلاف رحمة وسعة وعبقرية .

 ضحكت المدينة المصطبة من تحته ببلاهة حتى سالت لعابينها وملأت الأرضية ثم خلدت شخيرا...  تقزز قلبي من المنظر الشنيع ومن مشهد أسنانها المتهرئة وتعالت الهتافات تملأ الساحة ويتردد صداها في فم المبولة النتن دون أن تفطن المدينة المومس المستسلمة إلى سبات عميق وحمدت الله كونها نائمة وإلا كانت الكارثة... 

وداهمني طوفان شهوتها وشبقيتها لم أتحرك من مكاني بقيت أجلس القرفصاء بعيدا أشهد ما يقع...  أعلم أن الغراب لا يحبني أن أحشر نفسي في مثل هذه الأمور ولا يحبني أن أحدث العامة من أخدانه ولا أن أعاملهم وإلا فالويل لي رغم أنه يظهر لي في كثير من الأحيان توددا وتعاطفا كأنما يريد أن يقول لي:

-إن أردت أن تتكلم وترغم أنفك فدونك صفوفنا وإلا فابق بعيدا.

وبالفعل هأنذا أبقى بعيدا متفرجا…مجرد متفرج سلبي لا يقدر على شيء.

وقطع الغراب تفكيري وهو يضرب بجناحيه وينعق بشدة في مكبر الصوت…

-أما الطريقة فهي أن يقف المترشحون للرئاسيات صفا واحدا، وتحت مرأى الجميع وسمعهم ستُرسل الأرواح الطاهرة الزكية من عالم الغيب بمباركة الإله قبحون طائرا لسنا ندري شكله ولونه وحجمه، وسيحط على من يرى فيه الصلاح، ومن حط عليه فقد اختاره الإله لقيادتكم وسياستكم وهكذا نكون قد فقنا كل المدن والقرى الأخرى في طريقة اختيار الأكفأ… الأجدر...  الأنسب…الأصلح…الأقدر ليواصل ما بدأناه من إنجازات عظيمة والتي صرنا بفضلها مضرب المثل في الكبائر أقصد أكبر الأشياء أي العظائم... 

لا بد أن يشهد العالم أن هذه المدينة قد أنجبت الفطاحل… العظماء...  العباقرة...  الأفذاذ، وستسجل هذه الطريقة باسم الطريقة الغرابية فليحي الغراب زعيما عظيما عبقريا، ولتحي المدينة رمز الكبرياء…الأنفة...   الشموخ...   العزة...   الكرامة...   الإباء... 

وتعالت الصيحات والهتافات والمكاء والتصدية، وأقعوا جميعا حول الإله قبحون، ثم استلقوا على ظهورهم ورفعوا أرجلهم، وراحوا يضربون بها التراب مرددين:

-سوحب … سوحب …

ربي ورب الغراب والرنس والغيهب …

رب اللظام واللكام والشيهب…

سوحب … سوحب…

رب الجفاء والجفاف … 

رب العجاف والرجاف …

سوحب … سوحب …

رب الشطاع واللعاع …

رب الضحيح والاترياع …

سوحب … سوحب …

 وفجأة اشرأبت الأعناق تنتظر الطائر الميمون وترقب رؤوس المترشحين الذين وقفوا صفا واحدا دون حركة كتماثيل عدا عليها الزمن ينتظرون أمر الطائر الغريب.

 

(19)

قصة الغراب والقمل والشياطين

 

كنت قد حدثتكم عن الغراب وهو طويل نحيل أطرافه ضعف جذعه المتكور ككرة مطاطية كبيرة...  الامتداد فيها إلى الأمام والخلف أكبر بكثير من امتداده وعرضه، يرتدي في العادة لباسا أسود صنع خصيصا من ريش الغربان، يظهر له في بعض الأحيان جناحان يستطيع أن يطير بهما حيث يشاء ويريد كما يتحول فمه وذلك أمر نادر إلى منقار أبيض حاد خاصة في عيد الغربان الذي سنه الغراب منذ سنوات ليصير العيد الرسمي في المدينة المومس…ويقال أن أظفار قدميه مخالب ولولا الحذاء الذي ينتعله معكوسا لانكشف أمره.

 ويحكى أن  السيد لعن أقصد نعل هو الذي صنعه له خصيصا لأنه مختص في صناعة النعال لأسياد هذه المدينة وأربابها، وهذا هو سر العلاقة الحميمية بين الغراب والسيد نعل.

وروي أن الغراب إنما سمي كذلك لشكله الذي يميل إلى الغراب بين حين وآخر...  لونه الأسود ومنقاره ومخالبه خاصة أثناء عيد الغربان.

ولتشكله هكذا قصة طريفة مفادها أن أحد الشياطين المردة الذين فروا من كيس الشيخ المجذوب وانتشروا في شرايين المدينة وتضاريسها قد تزوج أتانا سوداء، فكان أن أثمر هذا الزواج مخلوقا من نوع آخر تماما.

وأما أوثق الروايات فزعموا أن المدينة قد تعرضت لسنوات قحط وجفاف أكلت الأخضر واليابس…والفالح والتاعس… والمستيقظ والناعس...  والتهمت الزرع والضرع…والأصل والفرع…وصار الناس فيها في أسوإ حال، فلما بلغ ذلك الأرواح الطاهرة المطهرة قامت بإرسال صرة من ذهب وجواهر مع غراب، وطلبت منه أن يطير بها حتى إذا وصل المدينة قام بنشر ما حمل على رؤوس الجميع وحمل الغراب الصرة الكبيرة لكن نفسه الأمارة بالسوء حدثته شرا فأخذ تلك الصرة إلى مدن أخرى مجاورة وجاء منها بصرة كبيرة مملوءة قملا وفئرانا وحين حلق فوق المدينة صب كل ما حمل من قذارة على رؤوس الجميع، ثم أنه فقد توازنه بفعل اللعنة التي لحقت به فسقط على ما رمى وتداعى عليه الشياطين الذين سكنوا المدينة فحولوه خلقا آخر.

 

(20)

البحث عن الحبيبة

 

عدت إلى المدينة مع تجشؤ الفجر لقد ذقت بها ذرعا، وما كنت أستطيع أن أزيد فيها ليلة واحدة فوق ما قضيته، لقد كرهت كل شيء حتى نفسي وكانت نفسي قد تاقت لرؤية النجوم المتلألئة في صفحة السماء الصافية وبالفعل فقد نلت ذلك ونعمت به وناجيت النجوم بحثا عن الرفاق وعن حبيبتي نون وخلت النجوم قد اختلفت فيما بينها واختلطت أصواتها.

قالت بعض النجوم: إنها قد رأتها بين جبال شاهقات في وديان ساحقات تتهاوى عليها الصخور من كل فج عميق، وهي تستغيث فلا تغاث إلا بالإهمال واللامبالاة، وتستنجد فلا ينجدها إلا الصمت الرهيب المتوحش... 

لكن النجوم أفلت دون أن تحدد لي هذا المكان.

وقالت نجمات أخريات:

-لقد رأين أغرابا ذوي أعين من نار...  وأسنان من مسمار...  وأياد تشيع الدمار...  يجرُّون ياللعار حبيبة القلب من ذراعيها البلورتين ويغربون بها باتجاه عين ضمئة حيث تنتظرها أرض جدباء...  لخناء...  بكماء...   عرجاء… كَمْهَاء… لا شفاء لها من هذه الأدواء المستعصية إلا بالتهام حبيبتك نون…

وقالت نجمة وحيدة موردة الوجنتين:

-يالخيبتك أيها العاشق الفاشل تقعد مع القاعدين وتتخلف مع المخلفين وتدع حبيبة القلب للهمج المتوحشين؟؟!!

وخلتني سمعت المجذوب يقول بصوت يأتي من بعيد…بعيد

-حـاء … ميم … النهد رمانة حامضة…الحلمة زيتونة مرة…وهي لسيت بغيا…ليست مومسا…ليست عاهرا…

(21)

تجشؤ السيل

عدت إلى المدينة تجشؤ الفجر...  عدت مكرها أدفع نفسي دفعا شيء ما يقع هذا الصباح لقد استيقظت المدينة قبل الأوان على غير عادتها...  لم تغسل وجهها مازال العمش يتأرجح كالعنكبوت على أشفارها وأهدابها ورغم ذلك كانت تدندن بأغنيتها المفضلة تضرب الأرض بكعبها العالي وتزيغ بعينيها يمينا وشمالا كأنما تبحث عن ضالة...  ارتجفت ذعرا لعلها تبحث عني لن أظهر أمامها ولن أدعها تستولي علي لقد شاخت وتهرأ لحمها كالجيفة المنتنة وصارت مومسا محترفة أشد ما يغيظها أن يتعالى عليها فحل فلا يضاجعها.

كان الناس في هرج ومرج يندفعون جريا كحمر مستنفرة فرت من قسورة…ككلاب مسعورة...  ككوليرا الأدغال...  كانوا يندفعون صوب المبولة يخرجون من تحت الأرصفة...  من البالوعات...  من الجدران...  من الأزقة...  الأذرع...   الأصابع...   ومن كل حدب ينسلون...  ليس الأمر عاديا البتة هناك أمر يقع الساعة دون أن أدري لا بد أن أعرف لمجرد إشباع الفضول طبعا فأنا شاهد سلبي على الأحداث لا أقدر على تغييرها ربما لأن القدر قد رسم هذا وجف القلم وطويت الصحف وأنا قشة لا يمكن أن أصمد أمام التيار الجارف...  ألم يرو  أن حكماء هذه المدينة المومس قد قالوا وقولهم الحق:

-إذا رأيت السيل هادرا فقف بعيدا عنه، وانعم برؤيته.

وسواء أنعمت أم لم أنعم وسواء أباليت أم لم أبال تماما...  المهم أني لا أقدر على تغيير الواقع وشتان بين ما أحلم به أنا وما يريده هؤلاء.

 

(22)

سراب الأبالسة

ما زلت أرى الهدهد يظهر طيفا هنا وهناك هالة من الضوء…

واشتممت رائحة حبيبتي نون شذا وكأنني لمحت طيفها حوالي… فهرولت نحوها فقفزت مبتعدة كالحلم الجميل وزدت فزادت… وزادت فزادت…ووقع في خلدي أن ذلك سراب بقيعة من فعل الأبالسة…لا يتمثل بها الأبالسة ولكنها سراب من الشوق… التوق…

 

(23)

الارتواء يولد الظمأ

 

ويا صفصافتي يا زيتونتي…ياشفائف النور…ياساقية…جدولا فضيا...  ويا...  مهرة برية بيضاء…تعشقين التمرد… تعشقين الكبرياء... 

ويا...  حمامة بيضاء لا تحسن إلا أن تحلق في الفضاء…

إليك أهرع كطفل صغير أفزعته الذئاب…

ضميني إلى حضنك…هدهديني بجفون عينيك…ضميني إلى القلب الملتهب…

دعيني أكن قطرة حمراء تعدو متوهجة جذلى في شرايينك... 

خفقة حبلى في فؤادك...  صهيلا في كبريائك... 

ذوبيني فيك…

هأنذا أستجديك يا...  ضميني إليك... 

عطريني من وجنتيك...  من سنا شفتيك... 

اغمسيني في القلب…اللب…العمق…الجوهر…

امنحيني الحياة... 

يا...  إن الالتحام يولد الاحتراق... 

إن الارتواء يولد الظمأ.

(24)

نبأ الهدهد

 

و ركبني السعار فألفيت نفسي أندفع معهم عدوا حيث يعدون وصلنا المبولة وجدنا حشدا من المتطفلين قد سبقنا يضرب طوقا كبيرا يقف في المقدمة الغراب وعن يمينه كالظل السيد لعن أقصد نعل يحدقون بهدهد يقف على مرتفع من الأرض بألوانه الزاهية وتاجه المتوهج ويخطب بلسان فصيح صريح:

- يـــا أيها…يأيها الذين هم أخدان الغراب…اسمعوا وعوا إن كانت لكم آذان بها تسمعون وألباب بها تدركون وأبصار بها تشهدون فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور…

لقد جئتكم بنبإ عظيم أنتم عنه غافلون...  لقد حلت عليكم اللعنة الماحقة…والغضبة الساحقة…لا ينجو منها أحد أبدا.

يــا…هذه المدينة التي عليها تحيون وعليها تموتون وخلف فرثها تلهثون…التي تتهادى في ثوبها الشفاف… يتصافح… ثدياها…شكوتاها…تلوك علكتها…تدندن أغنيتها المفضلة وتضرب الأرض بكعبها العالي وتوزع شبقيتها وشهوتها… هذه المدينة زور وبهتان فلا الشوارع شوارعها ولا البنايات بناياتها ولا الأرصفة ولا البالوعات إنما يخيل إليكم من سحرها سحرهم أنها المدينة... 

ياهـاؤلائك إن في الأرض لعبرا وإن في السماء لخبرا، مابالكم تائهون…نائمون لا تستيقظون…في غيكم سادرون…

يا…ها…إن الغراب خرا…

وسكت...  صمت…سقط…لقد انطلقت رصاصة من رشاش الغراب فأصابت من الغراب مقتلا وهرع الجميع إليه حيث جروه قرب المبولة القذرة…

معذرة لقد زعزعتني الصدمة...  فأصابت من الهدهد مقتلا.

كان حيا لقد أصيب في ذراعه الأيمن ورغم غور الجرح وتدفق الدم الأحمر القاني إلا أن الهدهد مازال يصيح :

 -للكعبة رب يحميها إ...  

وزم الغراب والسيد لعن فمه بقوة وراحا يجرانه بعنف حتى يجرحانه بمخالبهما ولم يكن يصل سمعي إلا كلمة :

- الطوفان ……

صدع بها مرارا دون أن يبح صوته... 

علقوه وسط هرج ومرج على مدخل المبولة*…على فمها النتن القذر المسوس على شكل صليب مربوط الذراعين والساقين والرأس مكمم الفم…وقام الغراب هائجا مائجا…صائلا جائلا…يتطاير الزبد من بين شدقيه وخطب في الحاضرين…

- هـأْ…ذأْ…الملعون من العملاء الخونة المندسين الذين يمولهم أعداء المدينة وأنه بتشكيكه في حقيقة المدينة إنما يشكك في أقدس مقدساتنا التي ضحى من أجلها الملايين من أبنائنا عبر الدهور والحقب بكل غال ونفيس…تعسا لهم إن يقولون إلا إفكا وبهتانا مبينا…

وتعالت الأصوات منددة مطالبة بموت الغراب اللعين جزاء وفاقا عفوا أقصد بموت الهدهد جزاء وفاقا فكف الغراب عن ثرثرته وقصد الهدهد فجز رأسه وحمله من أذنه يتقاطر دما، ثم غرز رمحا في حلقومه ورفعه إلى الأعلى عند قمة المبولة ليراه الناس جميعا، وليكون عبرة لكل من تسول له نفسه المس بمقدسات الأمة وثوابتها ودين ربها قبحون…أما باقي الجسد فطرح أرضا تدوسه الأقدام الحانقة وتمزقه إربا إربا تتعالى بينهم صيحات الغضب والفرح، أما بعضهم فقد حمل المدينة المومس على الأكتاف واندفعوا يطوفون شوارعها… أزقتها…أذرعها… سيقانها… أصابعها منادين بدوام عزها...   سعدها...  مجدها…

زفرت بالوعة من دبرها نتانة وقالت حشرجة:

-مازلت تبحث عن حبيبتك نون؟! لن تجدها لقد توزعتها القنوات.

القهقهة الحامضة

التفت الغراب إلي…حك رأسه بأظفاره حتى غطاه الغبار…ثم قهقه ضراطا وقال:

- حييت حي بن يقظان

ودهمه موج القهقهة سخرية حامضة…

 

(25)

الشلال

 

بعد هذه الحادثة الغريبة ساد جو من الفزع الرهيب ومن الاستنفار الكبير ومن الترقب الشديد لم يعد الغراب وأتباعه يميلون للنوم ويركنون للدعة بل غدو يقضون ساعات نهارهم وليلهم يطوفون شوارع المدينة ويذرعون أزقتها مدججين بالأسلحة المرعبة...  دخول الهدهد إلى المدينة سابقة خطيرة وما قاله للناس يعد فعلة شنيعة تهدد الاستقرار وقد تعصف بكل شيء لابد من التصدي لكل المحاولات.

كانت الحيرة تتثعبن أمام الجميع وخاصة الغراب من أين جاء الهدهد؟ من أنبأه بكل تلك الأسرار؟ من كان وراءه؟

رأيت الغراب يصيح:

-أضع جسدي كله في النار إن لم يكن أولئك المارقون هم السبب ليس في ذلك شك ولا ريب الأسمر ذو العينين العسليتين وعسل النحل ونور الشمس وشذا الزهر وسنان الرمح...  ومن غيرهم بعد أن شردنا بهم وطاردناهم في الفيافي والصحارَى وضيعوا كل شيء هاهم يرسلون بسمومهم...   مازال الأوغاد يحلمون بكرسي الزعامة الدافئ لقد حرم عليكم مادمت حيا وستحيون صعاليك لا وزن لكم ولا قيمة.

كنت أستمع إلى الغراب وهو ينعق وأقارن بين كلامه وما حدث فعلا...  من هذا الهدهد؟ ومن أين جاء؟ أهو معروف لكنه جاء متنكرا في زي هدهد فلم نتفطن إلى حقيقته ومن أرسله؟ ومن أين له بتلك المعلومات الخطيرة أصحيح أن الناس جميعا واقعون تحت تأثير السحر فهم لا يعرفون ما صاروا إليه؟ وهل صحيح أن هذه المدينة التي أغوت الجميع وصارت مومسا محترفا ليست مدينتنا؟

أسئلة حيرتني إلى درجة أن زادت نبضات قلبي تسارعا ربما خوفا مما كنت أسمع لا بد أن أذهب إلى الشلال الآن خارج المدينة لقد جففوه…خربته الفئران مذ قدمت المدينة بمباركة الغراب وأتباعه إنهم يكرهون الماء يصابون بالسعار كلما رأوه، ولم يبق إلا نبع ضئيل حول مساره إلى مكان خفي لا يعرفه أحد سواي لا بد أن أغادر المدينة الآن لأتطهر سأقف الساعات الطوال تحت الشلال الضئيل…وسأدع ماءه يتسرب إلى عظامي يجب أن أبتل...  أن أرتوي.

الفئران والأحذية

قبل أن أغادر مكاني رأيت جمعا من الفئران يمر أمامي  يتبادلون النجوى كأنما يحملون هما عظيما…إنهم يتكاثرون كل يوم في شعاب المدينة…ينسلون من جوارحها…مصارينها… ومن مشاهدين للأحداث صاروا يرغمون أنوفهم في كل شيء.

كانوا في البداية يسخرون مني عن بعد لكنهم الآن صاروا يستفزونني مباشرة وفي عيونهم عواصف وأهوال يرتج لها بدني كله...  من كان يتصور أن الفئران ستكون لها كل هذه القيمة في هذه المدينة؟ والفأر مخلوق حقير قذر في حجم حبة البطاطا ولونها، وهذا بالطبع بيني وبينك فقط كي لا أقع في ورطة أنا في غنًى عنها.

تناهت إلى سمعي أصوات الأحذية العسكرية تضرب الأرض بقوة لقد عادت للمرة الثالثة تختفي فجأة وتظهر فجأة كأنما تتربص في مكان خفي قريب إنها تظهر كلما حوم على المدينة خطر.

وتراءت من بعيد تملأ فم الشارع كله تشكل لحمة واحدة ترتفع معا وتضرب الأرض معا محدثة زلزالا عنيفا إنه إنذار شديد.

ومن بعيد تراءى الغراب والسيد نعل مدججين بالأسلحة كأنهما قاعدتان عسكريتان أو مخزنان للذخيرة الحربية وخلفهما مئات الأتباع كلهم مسلحون وإن اختلفت أنواع أسلحتهم وحجمها...  وقرأت على ملامح الغراب ارتياحا كبيرا وهو يستقبل الأحذية الخشنة.

ولفتت انتباهي المدينة وهي تنهض متثاقلة من أمام المبولة وقد تبلل شعرها بالعفن والعطن…فركت عينيها تتأمل ما يقع في شوارعها وأزقتها...  وخشيت أن تفطن لوجودي فأسرعت أبرح المكان...  لقد داهمتني روائح كريهة مقرفة لابد أن أستحم.

 

(26)

الطائر الميمون

 

وغيم صمت رهيب يشبه الغيظ على الجموع الغفيرة التي احتشدت أمام المبولة تنتظر بفارغ الصبر مشاركتها الفاعلة في اختيار قائدها وفي الآن ذاته وقف المترشحون يتوسطهم الغراب وكالأتباع كانوا هم أيضا يلزمون الصمت…ينتظرون المعجزة…وظهور الطائر الميمون الذي سترسل به الأرواح الطاهرة بمباركة من الرب قبحون.

لا شك أن الجميع كان يتساءل مثلي قلت لا شك وربما هو مجرد تخمين لعلهم جميعا لم يكونوا مثلي بل كانوا على عقيدة سلفهم الصالح يؤمنون بما ورد عن الأجداد وما روته الأجيال عن الأجيال دون حيرة وهذا هو الإيمان الصادق الصافي الذي يدخل المؤمنين الصادقين والمؤمنات الصادقات جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وذلك هو الفوز العظيم.

أنا كنت أتساءل في حيرة واضطراب كبير...  هائل...  عظيم يضرب… يشلح… يشلخ…يشلط…أركان رأسي ومسالك مخي ما معنى الأرواح الطاهرة؟ وأين هي؟ وما نوع هذا الطائر الذي سيظهر وماذا يمكن أن يفعل؟

وفجأة رأيت الأنظار تشرئب إلى الأعلى ورأيت الغراب يتمتم بكلمات وقد تسارعت شفتاه في حين لزم الآخرون الصمت… ورنوت مع الجميع…إنه هو كان يحلق في الجو يهبط حتى يكاد يلامس الرؤوس ثم يرتفع فلا نكاد نراه…طائر غريب لم أره في حياتي…له جناحان ممتدان طويلان كجناحي الوطواط…وله رأس كالخنزير…وله ذنب كالحمار…ومخلب كالنسر…ويغطيه ريش أسود كثيف.

هبط الطائر العجيب بسرعة عجيبة أمام دهشة الجميع فحلق فوق رؤوس المترشحين مرفرفا...  ذاهبا...  آيبا...  وحط أخيرا على رأس لعن أقصد نعل، وما كاد يفتح فاه مقهقها مزهوا، و ما كادت الحناجر تصيح في حيرة حتى طار مرة ثانية، وحط على رأس الغراب وتنفس الجميع الصعداء لأنهم كانوا يدركون أن ذلك واقع لا محالة، لقد خلق الغراب ليكون حاكما وخلق البقية ليكونوا له أتباعا وخدما...  واهتز المكان بالهتاف والمكاء والتصدية.

ورأيت السيد لعن ينظر في الغراب نظرة شزراء فيها حقد وبغضاء…فلما أحس أن الغراب بدأ يتحرك ليواجهه ارتمى في حضنه يعانقه ويصيح بالمبايعة، ومثله فعل المترشحون الآخرون، وفعل الحشد الكبير، لقد حملوا السيد غراب على الأكتاف واندفعوا إلى الأمام عبر شوارع المدينة… وأزقتها…وأذرعها...  وسيقانها...  وأفخاذها...   وأصابعها… ودهاليزها… لكنها أقبلت من بعيد تتهادى في ثوبها الشفاف يتصافح ثدياها...  شكوتاها...  تضرب الأرض بكعبها العالي وتدندن أغنيتها المفضلة.

ترك الغراب الجميع واستوى على صدر المدينة التي شغفته عشقا… هياما…هوى…من هوى فقد هوى في هاوية سحيقة…وما أدراك ماهيه…نار حاميه…

أما الغراب فقد شرع لتوه يحتفل بنصره بطريقته الخاصة، وهي مضاجعة المدينة، أما المدينة المومس فكانت تحدق فيَ بنظرات شبقية فيها قحط شديد، أما أنا فقد تسللت بعيدا.

 

(27)

حكاية السيد نعل

 

والسيد نعل كثيرا ما صرح متشدقا أمام الجميع أنه ابن المدينة حقا وصدقا، وأن دماءها تجري في عروقه، وأن روحها تسري في جسده كله وكثيرا ما حاول أن يوجد نقاط التقاء وتشابه بينه وبين المدينة أمه ولذلك فهو يغار عليها حتى من ذرات الدخان المركوم الذي غدا ينخر كالسوس جهازها التنفسي ويؤكد للجميع أنه أحيا حفلا كبيرا عظيما غنى فيه حتى الصباح أشهر المغنين وحتى الغراب غنى وذلك بمناسبة انتصار أمه الرؤوم المدينة على القمر حين نجحت عجائز في المدينة في إسقاط القمر في قصعة وتشويه صفحة وجهه الوضيء فبات حزينا كظيما من سوء ما لحقه أيظهره على هون أم يتوارى خلف حجاب…؟ وهذا ما أفرح المدينة وأبل جراحاتها المدماة.

وكان الجميع إذا سمعوا مثل هذه الحكايات من السيد نعل يبتسمون موافقين وقد يعلقون تأييدا وتأكيدا لقوله، والعجب أنهم يدركون في قرارة أنفسهم أنه أفاك أشر، وأن كل كلامه الذي يعيده في كل مناسبة إن هو إلا زور من القول وإفك مبين، افتراه وأعانه عليه قوم ضالون.

يروى بالتواتر أن نعلا دخل المدينة على حين غفلة من أهلها سارقا في يوم ذي قر شديد فألقي عليه القبض يخطف لقمة العيش من يد أحد خدم الغراب، فلما قدم للمحاكمة حكم عليه بالقتل، وتطبيقا للقانون الذي سنه الغراب لإشاعة العدل والطمأنينة بين الناس، فلما التمس العفو من الحاكم باعتباره القاضي الأعلى في البلاد قبل الغراب ذلك فطبق عليه الحكم الأخف، وهو أن تجدع أرنبة أنفه ثم يسخر خادما للغراب عشرين سنة يفعل به ما يشاء وما يريد.

وفعلا ما زال أنفه المجدوع يشهد على ذلك، وقد أتم العشرين تقرب فيها من الغراب زلفى حتى صار خادمه الأمين وأمين سره الكتوم والمنفذ لكثير من مشاريعه، والمعين له في كثير من الأحيان على مضاجعة المدينة وابتزاز ماء الحياة منها ومن أوصالها.

والجميع في المدينة يدرك هذه الحقيقة ويعرفها ويرويها الكبار للصغار لكنها تختلج في صدورهم وتمور بها قلوبهم فإن خرجت على فلتات الألسنة خرجت سرا…وهمسا...   ونجوى...   وبين أولي الثقة من الأمر، والمتأمل لرأس السيد نعل من ناحية أذنه يراه في شكل قرص يمتد أنفه إلى الأمام، وفي جلدة وجهه ورقبته شبه كبير بجلد عنـز جاف غير مدبوغ.

 

(28)

الغربة

تجشأ كل شيء من حولي…يتسربل أسمال الفجيعة…

عجلت إلى الشيخ…البحر…

معذرة كثيرا ما يختلط الشيخ والبحر أقصد أنني قصدت الشيخ أي البحر لا بد أن أجد حبيبتي نون هناك…لابد أجدها على الشاطئ تفترش الذهب…الدفء…الإشراق…

هي هكذا تعودت أن تفعل أو لأغوصن خلفها…في أعماق الماء الشفاف…الرقراق…المتألق.

حين وقفت على الشاطئ صفعتني الخيبة…انغرزت…انغرست مدية صدئة في القلب…تذكرت قول المجذوب:

-في الرؤية ضيق تعرفه ولا تعبره فإذا جاءك فسح إنما جاءك لذلك…

تذكرت قوله:

-حـاء … ميم … النهد رمانة حامضة…الحلمة زيتونة مرة…وهي لسيت بغيا…ليست مومسا…ليست عاهرا …

ثم أردف: 

- أنت تطلب الارتواء…الارتواء ظمأ…عطش…سغب…

وداهمني الساعة موج الرغبة في الهجرة…الهجرة وحدها تكشف عن سر حبيبتي نون…

خلت شجر شوك الشاطئ وقد عرش أسلا…ضغثا…يشك حبة الجوهر ثم تمادى صواعق مركومة فوقي…أرعد…شخر ديناغولا له خوائير وقال لي:

- تغرب*…

عضت السخرية القلب المتورم وقلت:

-أنا الآن غريب…

 

(29)

الرسالة

الشارع…عتمة…حلكة…فجيعة…

وحدي أنا والشارع الفاغر فاه…

أحتسي على مضض حنظل الغربة... 

تتراماني حيرة تشلح القلب…تشلخ الكبد…تشلغ الأحاسيس…

فقدت حبيبتي نون وذهبت كل محاولاتي للبحث عنها أدراج العواصف الهوجاء…

ظمئت إلى النور المتوهج الذي تعود أن يشرق علي حينا وحينا يبحث عن حبيبته…

ظمئت إليه رغم قسوته معي وحق له أن يفعل…ليس سهلا أن يفقد الإنسان حبيبته…

ولكن من هي هذه الحبيبة؟ أتراه يبحث عما أبحث أنا ؟ ألعل حبيبته حبيبتي؟ ونحن نبحث معا عن جوهر واحد…

وهبت فجأة نسمة طازجة…فجة...  أيقظت فيَّ أحاسيسي الجميلة ودهمني موج من الشوق الحنون لحبيبتي الضائعة…

وهب شعاع رفرف حول القلب عصفورا من الجنة وحط على ربوة الفؤاد فربط عليه بردا وسلاما.

وانتظرته يستوي بشرا سويا من مدينة السلام…وطال انتظاري له…حتى ذبحت القلبَ شهقةُ اليأس

وتداعت ورقة من جلد…تمايست في الهواء واستقرت في حضني…نشرتها قد أكل الأرَضُ بعض أجزائها ولم أقرأ عليها إلا…

" وتضادها المدينة الجاهلية (الضرورية...  والبدالة والخسة والسقوط والتغلب)… والفاسقة… والمتبدلة...   والضالة………

أما التي تبحث عنها فإنها في السماء… …بعد أن اعتقدوا أنهم صلبوها رفعها……وما صلبوها وما قتلوها ولكن شبهت لهم……

ولقد أعطيناها الكوثر……إن شانئها هو  الأبتر..

الأفجر.

الأحقر…

 

(30)

الآلهة الحنجرة

 

حبست نفسي أمام المبولة منذ الصباح الباكر وهاهو النهار يأتي على آخره لاهثا...  باصقا...  متنخما…وهاهو الليل قد تكأكأ يفتح شدقيه بشهية كبيرة.

بعد أن شاهدت الغراب يسعى من بعيد نحو المبولة تنفست بعمق بعد أن كنت أكتم أنفاسي منذ الصباح خشية أن أفقد الوعي من شدة النتانة المركزة التي كانت تنبعث من المكان.

لقد حان الوقت الآن لأكشف السر الدفين...  وأعرف حقيقة النسور، دخلت خلف الغراب الذي كان يسير غير آبه بأحد على يقين أن لا أحد يدور بخلده مادار بخلدي…دلف فم المبولة المسوس…القذر…واندفع على عجل إلى عمقها حيث الظلام الداكن يغتال الرؤية يخيل إلي من بعيد وأنا أثب خلفه أن ذلك العمق يشبه حنجرة ديناغول ضخم…موبوء…

وفي لمح البصر عجلت على أثره فدخلت خلفه داهمتني روائح قذرة تشبه روائح الخيانة والنذالة…اندفع القيء هادرا من معدتي فصددته بقوة خشية أن يفضحني وكأنما شك الغراب في شيء إذ رأيته يتوقف من اندفاعه الشديد ويجول بعينيه الصغيرتين الضيقتين خلفه يمسح المكان ذهابا وإيابا...   يمينا ومشأمة…ترصدت عند نتوء صغير أدركت أنه اطمأن لأمره حين اندفع في طريقه فاندفعت خلفه بدأت المناظر تتغير أمامي شيئا فشيئا، وبدأ النور ينبعث خافتا يظهر  في جبن ثم يختفي خوفا من جبروت الظلام.

وصل الغراب عند مصعد من خشب أحمر نفيس فوقف أمامه تمثالا حجريا…باردا...  لا نفس فيه…خيل إلي أنه يؤدي طقوس الصلاة...  لمن؟ جلت ببصري رأيت هيكلا ضخما لفأر له جناحان كبيران إنه يصلي لهذا التمثال العجيب…

 وأخرجني من شرودي صوت أجش…أبح…يأمر الغراب بالصعود لقد أكمل صلاته ولقد قُبلت وهاهي الأبواب تفتح أمامه ووثبت لأضع قدمي على إحدى درجات السلم وإن هي إلا لحظات حتى بلغت حيث المنتهى قاعة كبيرة ضخمة خالية من الأثاث إلا من أرائك عند الجدران فارغة تماما وفوق كل كرسي صورة فأر له جناحان طويلان ووقف الغراب وسط الحجرة طويلا صامتا جامدا كتمثال حجري بارد، وفجأة انفتحت الجدران فتحات عند كل أريكة وخرج من الفتحات فئران ضخام الجثث تتنكر بزي النسور تضع أجنحة طويلة ومناقير حادة أدركت على التو أن الوكر هو وكر فئران لا نسور وأن ما يظهر للرائي إن هو إلا تنكر تخفي به حقيقتها.

اللعنة والنسور

وسمعت الغراب يقول بصوت خافت كأنه صوت راهب في محرابه:

- لك الولاء أيتها النسور الآلهة...  ولك الخضوع...  ولك الخنوع...  ولك الدموع...  ولك الشموع... 

سوحب … سوحب …

ربي ورب الغراب والرنس والغيهب …

رب اللظام واللكام والشيهب…

سوحب … سوحب…

رب الجفاء والجفاف … 

رب العجاف والرجاف …

سوحب … سوحب …

رب الشطاع واللعاع …

رب الضحيح والاترياع …

سوحب … سوحب …

ثم رأيت الغراب يرتجف بشدة كقشة في مهب الريح، ثم يتهاوى ساجدا، ومكث كذلك لا يرفع رأسه زمنا حتى ساورني شك في موته لكن صوت أحد الفئران النسور -وهو الذي يتوسطهم جميعا- قال بصوت أبح...  أجش…

-ومن جاء معك؟

 ارتعدت فرائصي هلعا وجمدت مكاني في الوقت الذي انتفض فيه الغراب كأن مسا قد لحقه…ولم يحر جوابا يرد به على الآلهة فنطق فأر آخر في كثير من السخرية والثقة بالنفس.

- ما دمت لا تشم الخيانة والغدر فإن أجلك قد حان لا يؤخر ساعة ولا يستقدم…الذي يفقد حاسة الشم لن يكون أهلا لثقة الآلهة لا بد أن نبحث عن غراب أكفأ.

وخر الغراب ساجدا للأذقان وقد عنا وجهه للفئران النسور وهو يجهش بالبكاء ثم رفع رأسه قليلا، وقال:

- عبدكم الذي لا حياة له إلا بصفحكم وإلا فالموت خير لي.

ونطق فأر آخر يوجه الحديث إلي:

- أيها الغراب لقد تسللت خلف الغراب وخدعته لتخدعنا فخدعت نفسك وآتيتها من حيث لا تدري أما نحن فكنا ندرك ما كان يدور بخلدك وكنا ننتظر مجيئك.

وأخذت مني الفجأة كل إدراكي فابتلعت ريقي وزاغت عيناي واهتز المكان بهم جميعا ينطقون معا وفي أصواتهم حشرجة الموتى

- لا تخف اذهب فلقد حلت عليك لعنتنا إلى يوم الدين.

فاندفعت دون شعور مني هبطت السلم ورحت أعدو في الممر الضيق الطويل وقهقهات الفئران...  النسور...  الآلهة تحاصرني تعبث بأذني حتى دلفت الحنجرة خارجا وروائح المبولة القذرة...  النتنة...   تلفني من كل جانب.

قالت المبولة لقذارتها وهي ترمقني شزرا

- ما لمدينتنا تسمح لمثل هؤلاء الأوباش يسعون في تضاريس جسدها المقدس…يفسقون عن حكمتها الخالدة

حملقت فيَّ القذارة قذارة وقالت:

-تقصدين هذا البغث ؟ إنه آخر البغاث

 

(31)

هئت لك

 

حين نطق سنان الرمح نطق دون أن يغير وضعيته المنقلبة رأسه إلى الأرض ورجلاه إلى الأعلى ساقاه طويلتان على الصخرة ولكنه رماني بوابل من عتاب حارق لست في نظره إلا هاو في مهاوي المدينة التي شغفتني حبا وعشقا وهياما ولم أعد معها أملك أمري البتة ولا أعرف الهاوية التي وقعت فيها، وحاولت أن أفهمه أن لا علاقة لي بها.

 صحيح هي مدينتي وأنا مازلت أعيش فيها أتنقل بين شوارعها… أزقتها…سيقانها…أفخاذها…وأغدو وأروح في كل شبر منها ولكن لا علاقة لي بها، ولا بما يدور فيها، أنا مخلوق سلبي لا يقدر إلا أن يرقب الأحداث ويشاهدها ويتأملها كما هي ولعله يستطيع أيضا أن يصفها ويسجلها على قراطيس ليقرأها في الوقت الذي يريد همسا…صمتا…أو لتقرأها الأجيال القادمة.

الحبيب الأول

ومع ذلك فأنا لا أحب المدينة، هي أجل تحبني...   تعشقني...   تراودني عن نفسها طال ما غلقت دوني الأبواب… والنوافذ...   والمداخن...   والمسامات...  قائلة:

- هيت لك…هئت لك…هنت لك.

وطال ما تعابثت أمامي تبدي زينتها، وتتبرج عن مفاتنها… ترقص ضاربة الأرض بكعبها العالي...  مدندنة أغنيتها المفضلة غير أني لم أكن أعبأ بها بل أزيد بعدا وازورارا عنها ثم هي بعد ذلك وقبل ذلك لم يبق فيها شيء يحب ويهوى هي في نظري اليوم عجوز شمطاء في الغابرين فقدت كل غوايات الأنوثة… امتص رحيقها الغراب وأتباعه فتركوها قاعا صفصفا.

وأجهدت نفسي أقنع سنان الرمح أن حبي الأوحد الذي لا حب غيره…والذي لا يتغير...  ولا يزول...  ولا يفنى...  ولا يندثر...  هو لـ نون حبيبتي وهو يدرك ذلك ويعلمه ويدرك مدى ما عانيت من الهجر والفراق ومدى الحزن الذي يقطع نياط قلبي كلما ذكرتها وذكرت ما حل بها واستشهدت له في آخر كلامي بقول شاعرنا :

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول

ضحك سنان الرمح من كل ما قلت بسخرية مريرة وأكد لي أن الحب لا يكون للحبيب الأول خالصا إلا في القلوب المخلصة الوفية أما قلوب الخائنين فـ…

وسكت فخلته أفرغ علي قلبي جبلا من الشتائم الذباحة ثم ما فتئ أن سكت عنه الغضب كالبركان يعيد حممه إلى جوفه…

 لم أستطع رغم ذلك أن أنبس لقد عض الصمت على رقبتي… أعرف أنه لا يعترف بكل أعذاري فما أنا إلا فاسق عن أمر المدينة… خائن في رأيه…

 وهو مخطئ طبعا…ولكن لماذا هو مخطئ؟ لماذا لا يكون مصيبا؟ من يضمن بقائي على الحياد مشاهدا للأحداث…التيار شديد هادر ولا تأمن على نفسك أن تبقى بمعزل فقد تنحرف في أية لحظة لتخوض في اللجة المتلاطمة…ولماذا لا أثق بنفسي ويقف المستقبل أمامي وحشا مرعبا؟

كانت المدينة قد حاصرتنا بأطلالها التي أقامتها وسدت علينا الرؤية من كل جانب فتغشانا الظلام الدامس…الطامس…لا بد من الفرار قبل أن يظهر شبحها اللعين…مددت يمناي أتلمس هيكل سنان الرمح فما وجدته لقد اختفى في لمح البصر…قمت فزعا…درت بالصخرة هنا وهناك لا أثر للرجل كأن الأرض ابتلعته رفعت صوتي أدعوه فكان الصوت مكتوما لا يخرج إلا ضعيفا كصوت امرئ يلفظ أنفاسه الأخيرة أو كالذي يصيح في حنجرة المبولة العليلة.

 

(32)

القمر الدري

هذه بداية السياحة المضمخة بندى الحيرة…وشذا القلق…

ماأحلى أن نبدأ…أن نسأل…أن نحتار…

ما أحلى أن نفتش ونستمر نفتش يتجاذبنا مد الحلم وجزر اليأس…

لكم تفزعنا النهاية…الرمادية…النهاية...   الترسانة...   الديناصورة…السلسلة…طولها سبعون ذراعا تطوقنا إلى الفناء.

ألمحك قمرا دريا متلألئا…أستحم في كوثره…أطَّوَفُ بكعبته… أرتوي من زمزمه…

 لاتسأليني لماذا؟ إن العاشق الولهان لا يؤمن بالسؤال…

عيناك زهرتان أينعتا في ربوة القلب…

كوكبان يسبحان في فضاء الفؤاد…

هاقد جئت أبحث عنك…أترجاك…أقسم لك بالعظيم أن تشفقي على حالي وتشرقي على القلب لقد شققه صقيع الهروب…

أن تهزي فوقي جذعك يسَّاقط علي الرطب جنيا…دنيا…

يا فيض الشوق…

ياصهيل العنفوان…

يارقرقة الصبا…هذه يدي بيضاء من غير سوء آية حبي طهرتها قبلاتك... 

يا التي في عينيها تتطهر الطهارة…تستحم النوارس…وفي أعماقهما يتشكل الجوهر…والدر…ونجوم السماء

يا التي قبض قبضة من أثرك ثم رماها في الكون ونفخ فيها فكان الإشراق

هاذه أنت ذي غريبة مثلي فلم لا يلتقي الغرباء؟؟

تعيسة مثلي فلماذا يا حبيبتي يعادي التعساء التعساء ؟؟

ضيعت في هذي السرادق كل أحلامي…

فقدت لساني وكلامي…

ورائي وأمامي…

خوفي وسلامي…

هفهافة روحي…تواقة منك للروح…

شراشيف ضوئها ملأى بالبوح…

رفقا بي أيا حبيبة…

هلمي…هلمي إلي…

كفكفي مني دموعي…

بلسمي مني الجروح…

ضمدي من قلبي القروح…

حدثني ليلي الطويل قال:

-لقد رأيتها تجلس عند الشاطئ الأزرق تمشط شعرها الذهبي عند كل شعرة نجمة مضيئة وبالنجم هم يهتدون في ظلمات القلب واللب وفي حوالك الفجاج العميقة…

لِشمس الفضاء أن تغرب إن شاءت...  لا تغربي أنت ياشمس السماء.

يجذبك الطين إلى حمأته فيرتجف القلب ويمتد اللسان طويلا… فتنكمش على نفسك وتضم ركبتيك إلى بطنك ويديك على ركبتيك كأنما تخاف أن تهرب منك نفسك.

أأنا نهر يجب أن يشق طريقه بقوة في الصلد؟ أم أنا قطرة في هذا النهر يدفعها الموج حيث يشاء؟ 

والرياح تجعل من فجاج الأرض نايات تعزف عليها لحنا مخيفا.

الشمس لاتشرق مرتين…القمر لايبزغ مرتين…البرق لايبرق مرتين…أنا لا أحيا مرتين…كل شيء فرد في الوجود…أنا وحدي لا شريك لي…لا نظير…لا مثيل…

الهوى مركبي…والهدى مطلبي…

فلا أنا أنزل عن مركبي…ولا أنا أصل إلى مطلبي... 

أنا بينهما مأخوذ عن حقيقة الخبر بتمويه العبارة.

 

(33)

العورة العوراء

 

لم أكن خائفا بشكل كبير فسنان الرمح كثيرا ما يختفي بشكل عجيب في لحظة عجيبة تاركا خلفه زوبعة من الحيرة.

حين اندفعت هاربا تناهى إلي صوت سنان الرمح سخرية ملحا أجاجا قائلا:  

 -استر عورتك العوراء.

من منا يجب أن يستر عورته؟ هو العاري أم أنا المكسو؟

 تعثرت في خطواتي من سوء ما لحقني…تلفت أبحث عن مصدر الصوت…ثم اندفعت إلى الأمام مبتعدا وفرائصي تصطك وتعالى الصوت من جديد والمدينة تدهمني كالموت.

 -استر عورتك العوراء.      

هكذا عاود فقال أو هكذا ردد الصدى؟ أو هكذا خيل إلي أنه قال؟ أو هكذا خيل إلي أنه قال وردد هو أوصداه؟ 

واختلطت علي الأمور فلم أعد أفقه شيئا…

تلمست لباسي لست على يقين من أنني أرتدي لباسي… واندفعت فارا*.

 

(34)

اللعنة اللعناء

 

حين دلفتُ خارجا من حنجرة الديناغول وقعت على مؤخرتي وسط المبولة ممدد الرجلين كانت الارتطامة قوية فانقلبت منبطحا على بطني ينغمس وجهي في الحمأة التي شكلت طبقة سميكة تسلل إلى أنفي وفمي من ذلك شيء…حاولت أن اغتال حاستي الذوق والشم لدي لكني عبثا حاولت وداهمني موج من الحيرة القاتلة لقد تغير عندي كل شيء فلا المذاق كريها ولا الرائحة كريهة…أين الخلل في الأمر؟ هل كان اعتقادي الأول خاطئا أم أن حواسي قد تغيرت…وتردد

صدى الفئران

- لا تخف اذهب فلقد حلت عليك لعنتنا إلى يوم الدين.

ثم أردفه صوت آخر بخشونة أشد

-اخرج منها فإنك رجيم وأن عليك اللعنة إلى يوم الدين.

المسخ

ضحكت ببلاهة وبلادة...  لقد فقدت كل شيء كان في ذاكرتي...   كل شيء غدا أمامي جميلا بديعا، وأحسست كأن طبقة الشعر التي كانت تغطيني قد ازدادت كثافة، وأن ذراعي قد بدأت تُنبت زوائد صغيرة تشبه إلى حد بعيد زوائد جناحي الوطواط، ودار في خلدي يقينا أنني روح خفاش…

 وفجأة أحسست إحساسا غريبا...  أحسست بالعطش الكبير… الظمإ العاتي...  السغب العظيم...  اللهفة المتسعرة المشبوبة إلى الدم… الدم الأحمر...  الفوار...  الحار...   الساخن… الدافئ… الملتهب… الآني… امتصه بشراهة… نهامة… من الشرايين والأوردة.         

 نهضت من سقطتي...  التجأت إلى ركن المبولة وتبولت كالحمار وخرجت أتلمس جدران المبولة كأنها مكان مقدس...  تجمع حولي حشد من الناس وقد تغيرت النظرات بيني وبينهم، لم أعد أنظر إليهم نظرة إشفاق بل نظرة تعال، ولم يعودوا ينظرون إلي احتقارا…بل تبعية…

وفجأة أقبل الغراب من بعيد وقد تغيرت سحنته، وقف أمامي وقفة جمع فيها بين المتناقضات العجيبة، في نظرته استعطاف وحقد، وفي وقفته خضوع وكبرياء .

لملم سرابيله البالية...  وكور نفسه…ثم حنذها…فلم يبق إلا منقاره يطل وتحركت شفتاه ليقول شيئا ولكنه لم يقل، وأردت أن أقول له وللجمع شيئا لكني لم أقل، أردت أن أؤكد لهم أنهم أنذال أوباش، وأني سأكون لهم من الآن فصاعدا السيد الذي يجب أن يبول في أفواههم لكي لا تبح بالهتاف تمجيدا لي وتعظيما، لكني لم أشأ أن أقول لأنهم يعرفون ذلك، وعلى ملامحهم قرأت آيات العبودية…

 كان يشغلني أمر آخر…كان حب المدينة ينهض في قلبي شعلة متقدة…أول ماصادفني ووقف أمام بصري يسد عني الرؤية الإله قبحون وفي نظرته غطرسة…قرأت على ملامحه الدعوة لتقديم الورد…جأرت منبطحا…

رفعت رجلي إلى الأعلى ورحت أردد :

 سوحب … سوحب …

ربي ورب الغراب والرنس والغيهب …

رب اللظام واللكام والشيهب…

سوحب … سوحب…

رب الجفاء والجفاف … 

رب العجاف والرجاف …

سوحب … سوحب …

رب الشطاع واللعاع …

سعار العشق

أين هي الآن؟ لن أهدأ حتى أجدها، واندفعت أبتعد عن الجموع صائحا، كان بي سعار، طفت الأزقة…والشوارع…والأذرع… والأفخاذ…والأصابع…وحين كاد التعب ينهكني وجدتها مستلقية على المزبلة المركزية تجمع يديها مشبكتين تحت رأسها تلوك علكتها…وتدندن أغنيتها المفضلة…

لم أستطع أن أزيد خطوة واحدة، لقد اغتال حسنها في قلبي كل شيء إلا الهيام، لا شيء إلا هي…وعجبت كيف لم أكن أراها هكذا؟ ما الذي عماني عن رؤية الحقيقة الساطعة...  إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور... 

وأخرجتني من سبحاتي بموسيقى عزفتها على شفتيها الفاتنتين

-جئت أخيرا أيها الضال الأكمه؟

وارتميت على صدرها الناهد أتمسح تائبا أعلن الإيمان بعقيدة الولاء والعشق الذي أشربته قلبي حتى الثمالة...  ولن أكون عاشقا فحسب بل أنا عابد ناسك لن أبرح صومعتها…سأعكف ما بقي لي من العمر في محرابها المقدس.

وأنست منها فيض الهوى غمرتني بدفئه، وصبته على فؤادي فأحسست بالراحة الكبرى.

خانتني اللغة…كل الكلمات أعجز من أن تعبر عن حبي لها، تذكرت قصائد كتبتها في حبيبتي نون أقصد التي كانت حبيبتبي أخرجتها من جيبي بسطتها ورفعت عقيرتي منشدا في حضرتها وهي تقعو على مؤخرتها كأنها بلقيس تستوي على عرشها.

دثريني

خبئيني في القلب الكبير خبئيني

دثريني بالرموش الظمأى دثريني

أنا ما عرفت دفء اليقين

ما ذقت شذا الحب…منذ سنين

منذ ولدت…منذ عصر الجنين…

لا تقولي باحتقار وتعالي

لا تفري من فؤادي وتعالي

ما حبنا يا رائعة العينين من محال

ما حبنا من لغو قيل وقالِ

إن أردت أن أموت…فاطرديني من قلبك الكبير

وارميني بعيدا قشة بين موج وهدير  

دمعة من جراح وزفير

ذرة بين كر ونفير…

آه ما أحلى الموت

إذا كان في الموت حياة الحب الكبير…

أعدت الورقة إلى جيبي وأنا أتعالى مزهوا وقد تسعر الحب في أعماقي بركانا يرمي بحممه…نشرت ورقة ثانية…اعتدلت في وقفتي ابتلعت ريقي…ورفعت عقيرتي مرة أخرى   

حسنائي

لم تكتمين ما تفضحه العينان؟

إني أراه يا حبيبتي…في بؤبؤيك...  أفراح وأحزان

أقرأه بالبنط العريض…يتحدى الناس…

يتحدى الأزمان

أنا يا حبيبتي…وأنت يا حبيبتي…واحد لا اثنان

حين أراك تسبح في دمي النجوم…

تورق في فؤادي الكروم…

تشرق البراءة...  وتبسم يا حسنائي الرسوم.

خبأت الورقة الثانية…اقتربت منها أستجديها…وأنا أتأمل عينيها الجميلتين الرائعتين…أخرجت ورقة ثالثة…وهتفت ملء المكان…  

أغنيتي الجريحة

اغتاليني…مزقي من قلبي شراييني

انحريني…فجريني…

اذبحيني من الوتين إلى الوتين…

حسناء…يا أغنيتني الجريحة

يا نورسا ميتا في كف يميني

يا دمعة حرى هاربة من عمري...  من سنيني

حسناء…عذبيني…اجلديني بالورد المزهر في عينيك

في شفتيك…في معصميك…واكويني

لا حبيبتي…إن كنت أعز عليك

فانسيني...  اتركيني...  أو فاقتليني

وارتميت على الأرض مذؤوما مدحورا…أتمرغ في التراب…ألعق رجليها المقدستين…أمارس طقوس العشق الخالد السرمدي

القبلة والحقد

حين آذن النهار علي الانقضاء قمنا…أ مسكتني من ذراعي سلمتني تفاحة حمراء لم أذق أحلى منها قط…التهمتها لمح البصر…ورحنا نتهادى في الشارع الكبير سكِّيرين…ثملين… وصلنا الهوينا أمام المبولة فسحبت ذراعها بلطف كالشعاع...   منحتني قبلة عميقة ملتهبة...   ودخلت…

أما أنا فقد وقفت لحظة كراهب يؤدي طقوس الصلوات، وحين فطنت لأمري وجدت قلبي يمور بالحقد على ذو العينين العسليتين وعسل النحل ونور الشمس وشذا الزهر وسنان الرمح  أين أجد كل هؤلاء الأنذال؟ لقد شردهم الغراب في الفيافي والقفار والجبال عساهم يموتون هناك…ولكن هذا لا يتناسب مع تطلعاتي لابد من القضاء عليهم قضاء مبرما، لا بد أن أسوقهم قطيعا أمام المبولة مهانين مذلولين، ثم أمص دمهم الواحد بعد الآخر، وسيكون ذلك اليوم عيدا يفرح به الجميع وتسعد فيه حبيبتي المدينة، بل سيكون ذلك أغلى هدية أقدمها إليها على طبق من ذهب.

 

(35)

النبع والمجذوب

 

علم كل الأخدان الأتباع بخروجي هذا الصباح بحثا عن أعداء المدينة الألداء فهاجوا جميعا عزين أمشاجا يحملون أسلحتهم ويعلنون سعادتهم بالمشاركة في هذا الأمر العظيم والشرف الكبير، وبعد أن كنت متحمسا تراجعت عما قررت لقد نسيت ما هو أدهى وأمر، ليس أخطر على المدينة ومن فيها من الشيخ المجذوب، لن يغمض لي جفن حتى أدفنه تحت صخرته وإلى الأبد، وأحسست بالنار تلتهب سعيرا في كل بدني... تزرع في أحشائي العزة والكبرياء... ورحت أصيح كالمسعور.

-      هـاو…أنا ربكم الأعلى…أنا ربكم الأعلى…أنا ربكم الأعلى…

وألفيت نفسي أعدو بسرعة نحو الشلال المتواري عن الأعين لا بد من تدميره عن آخره، المدينة عدوة الماء… الماء يعني الموت… يعني الزوال…التلاشي…الاندثار... الانتثار...   الانهيار… الانتشار… هباء منثورا.

لا بد من القضاء على آخر قطرة من ماء...  ضاعفت من سرعتي...   وثبت من صخرة إلى أخرى...  تسلقت فروع شجرة سنديانة كالقرد...   وقفت عند زيتونة عرشت على الأرض تخفي بمكر شديد منهل الشلال...  وقفت عنده...   انبسطت أساريري…دمعت الزيتونة زيتا يضيئ نورا على نور…لم أعبأ به وجأرت خوائير:

 -وأخيرا أيها القذر…الغادر…العتل…الزنيم…لا بد أن تنتهي إلى الأبد...  لم تعد لتخدعني أو تضللني عن الصراط المستقيم… يا مصدر الموت والفناء…يا منبع الشر والبلاء…

ومددت يدي حذرا أن تلمسني قطراته المتراقصة إلى صخرة كبيرة قدرت أنها ستسد المنهل وقبل أن أحتضنها وقف الشيخ المجذوب أمامي منتصب القامة لا ينطق بكلمة على عادته ولكنه ينظر إلي نظرة لم آلفها فيه كأنما هو يشفق علي أو يترجاني أو يحتقرني...  لقد كفاني تعب...   مشقة…جهد الذهاب إليه…وهاهو قد مشى…سعى…هرول… عدا…إلى حتفه… صرعة واحدة أتله بها…أسد به الفوهة بدل الصخرة…وضعتها في مكانها الذي حملتها منه، وأخذته من تلابيبه بقوة وفي لمح البصر وجدت نفسي عند مستقر الشلال في سفح الجبل وهو يقف فوقي صامتا لم أُمس بأذى البتة رغم السقطة العالية، ولكن كيف وقع الأمر وانقلب كل شيء.

الماء

مد يده ملفوفا في صمته المخيف فحملني كأرنب ثم رماني وسط حوض الماء...  ضغوت...  ثغوت...  لغوت...  داهمني موج الإغماء وأنا أستمع إلى صوت النار المشتعلة في أحشائي ينطفئ، وقفز الشيخ المجذوب فوقي برجليه وراح يدلكني دلكا شديدا وللماء مور شديد فأغدو تحت رجليه كالعهن يخرج مني عفن...  نتن…ومازال بي حتى رها ماء الشلال وعذب وانساب سلسبيلا فراتا فقفز من فوقي بعيدا.

لم أشأ أن أنهض كنت أريد للماء أن يتسلل أكثر إلى عظامي كل قطعة في جسدي تعاني القحط الشديد...  الظمأ العاتي…

تأملت الزيتونة تستوي على عرشها فوقي…تحتضنها هالة…ترفرف حولها ابتسامات حالمة…عذبة… بريئة… تدغدغ أفانين الزيتونة تبينت منها ابتسامة الهدهد وسنان الرمح* ونون حبيبتي…

ولم يشأ المجذوب أن يمد يده إلي ليوقظني بل أحسست أنه كان فرحا جدا بوضعيتي داخل الماء لكنه قال بصوت خافت حازم:

- حـاء…ميم…اصنع الفلك الطوفان قادم…اصنع الفلك الطوفان قادم...  اصنع الفلك الطوفان قادم…

وصمت ثم ثنى عطفه وابتعد عني تاركا إياي أتخبط في أمواج الحيرة العاتية.

 

(36)

الطوفان والفلك

 

دخلت المدينة أحمل على كاهلي ألواحا وأجر جذوعا خلفي مما أثار الغبار حولي فلفني من كل جانب حيث تراءى ذلك للناس فهرعوا من كل حدب وصوب ينسلون...  تجمهروا حولي عنت وجوههم إلي…في عيونهم دهشة كبيرة وابتسامات بلهاء هُونٌ…لعلهم لا حظوا تغيري أقصد عودتي إلى حالتي الأولى...  لعلهم لاحظوا نظرات الإشفاق التي كنت أوزعها عليهم...  لعلهم عجبوا لسيدهم يجر هذه الألواح وما كان فيهم الغراب إلا الآمر الناهي وإن هم إلا عبيد مناكيد.

صحت بملء فمي دون أن أتوقف... 

-إنه آت…

يا…ها…ؤلائك

الطوفان آت...  يـــا…أيها…أيتها…

 اسمعوا مني…

 الطوفان آت…آت

قد حذرت…

قد أنذرت…

 إني ذاهب لأصنع الفلك…

الطوفان آت…الطوفان آت…

واصنع الفلك بأعيننا ووحينا... 

كنت أصيح دون أن أتوقف في الوقت الذي بدأت حركاتهم تقل راحوا يتثاقلون حتى أركسوا…جمدوا أماكنهم وفغروا أشداقهم فغدوا جميعا تماثيل لمجموعة من البلهاء والحمقى…ثم هبت بينهم وشوشة...   وهمهمة...   وتمتمة… ولمس…وهمس…بدأ يتعالى رويدا رويدا حتى غدا قهقهات ترعد في المدينة المومس كلها.

وأقبلت المدينة من بعيد وقد نهضت لتوها من سباتها لم تكن في حاجة لأن تفرك عينيها لقد فركتهما الدهشة…مرت تصك وجهها في صرة…مرغدة...  مزبدة...  ترمي من عينيها شررا كأنه جمالات صفر...  ويل يومئذ للمغترين…ومن فمها شواظا من لهب ونتانة...  ويل يومئذ للمنبطحين... 

 

- سحقا للخونة الزنادقة المارقين…الطغام المرتدين... 

 هكذا قالت...  ؟ أو هكذا خلتها قد قالت…؟ قالت أو لم تقل…؟ أو خيل إلي من مكرها أنها قالت...  ؟ وسواء أقالت أم لم تقل فقد أحاط بها الجميع فاعتلوا كل جزء منها يمتصون دمها ويواسونها في المصاب الجلل الذي حل بها.

وأقبل الغراب من بعيد حسيرا يحجل في قيد مثقلا بصخرة كبيرة قيده فيها الفئران النسور جزاء...   نكالا...   وفاقا...  وخلفه السيد لعن أقصد نعل دون أنف يعين الغراب على المشي.

حتى إذا بلغا الجمع تعلقت بهما الأبصار الزائغة...   الحائرة… وهدأ خوار المدينة فارتفع نعيق الغراب مؤكدا أن لا مخلص للمدينة إلا هو…ولا عاشق موله إلا هو...  ولا صائن لكبريائها إلا هو...  عليها يحيا...  وعليها يموت...  وفي سبيلها يجاهد...   وعليها يلقى الفئران.

وما غيره إلا خونة تجب إبادتهم…قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر.

ومد يده فسلخ من ظهر السيد نعل جلدة نشرها وطلب من الحاضرين توقيع عريضة يطالبون فيها بوجوب إعادة الغراب إلى القيادة...   والسيادة…والريادة…لأنه الأنسب لتحقيق حلم المدينة المومس.

وتهافت الجميع يوقعون بحماس فياض وعلى رأسهم جميعا كانت المدينة المومس.

لم أتحرك من مكاني لقد انتحيت ركنا قصيا جمعت فيه الألواح وشحذت الآلات وشرعت في العمل...  الطوفان على الأبواب...  إنه

قادم لا بد أن أعجل ومع كل ضربة منشار أو مطرقة يتناهى إلي صوت المجذوب…

- الطوفان قادم…الطوفان قادم…

واصنع الفلك بأعيننا و وحينا ولا تخاطبني في الغافلين الضالين… السامدين…التائهين…المدهنين…

وتخيلته يهدر...  أمواجه كقطع الليل المتلاطمة يبتلع المدينة في طرفة عين كأن لم تكن بالأمس. 

-لا عاصم من الطوفان إلا الفلك…لا عاصم من الطوفان...    لاعاصم من الطوفان…

رواية أولى

قال الراوي قالت دنيازاد قال كليلة: واستمر يصنع الفلك وينتظر الطوفان والسنون تمضي وكلما مر به ملأ سخروا منه قال:

 - إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون…

 وقد أكمل عمله في بضع سنين ثم بقي حيث هو لايبرح… عاكفا على تنفيذ الأمر وانتظار النبإ العظيم الذي هم فيه يختلفون وبه يهزؤون...  يحسن من أمر السفينة ويزيد وينقص حتى اشتعل الرأس شيبا ووهن العظم…وأدركه الموت وترك خلفه السفينة يتيمة و هو على يقين لا يتزعزع بأن الطوفان آت لا محالة حين يحين الأوان.   

رواية ثانية

قال الراوي قالت دنيازاد قال دمنة بسند صحيح :

- إنه ما إن استوت السفينة كالطود العظيم وأخذت زخرفها و ازيَّنت وظن الخراصون أنها لعبة أطفال أتاها أمر الطوفان ففار التنور واندلقت صهاريج السماء بماء كالحميم يشوي الوجوه وساء مشربا…يتجمع ويتعالى…يهدر ويرغد…يعصف ويزبد…يغتا ل كل ما أمامه…يصهر الحجارة…ومسح المدينة كأن لم تغن بالأمس وهلك الجميع… الغراب… ولعن...  ووكر النسور أقصد الفئران...   والثعالب تترى من أقصى المدينة تسعى...  المدينة المومس… وأخدانها وقومها إنها وقومها كانوا خاطئين...  ظالمين...  جبارين...  مستكبرين...  مفسدين...   ضالين…مضلين ولم ينج من ذلك إلا هو وما آمن معه أحد.

رواية ثالثة

وروى ابن المقفع بسند متواتر أنه لم يُحمل في السفينة إلا النخلة وهي تكاد تلفظ أنفاسها.

رواية رابعة

وقيل إنه مل الانتظار فترك السفينة ولجأ إلى حصن الشيخ مولانا المجذوب ونذر نفسه لا عمل له إلا الصمت والدوران حول الصخرة

رواية خامسة

وقيل إنه لما غادر المدينة إلى الشيخ لم يجده ولم يجد الصخرة كأن الأرض انشقت وابتلعتهم فيمم وجهه نحو مغارة كانت في الغابة وفي نيته انتظار عودة الشيخ ولكنه خلد إلى النوم فسبته عن الحياة.

 

مقدمة

وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح…

حين ولى النهار وراح…

حين تثعبن الدامس الطامس وصاح…

حين ضل الزمان وجاح…

قالت دنيازاد أنا أقص عليك حكاية لم يسمعها إنسي ولا جان...   ولا طائر ولا حيوان فيما غبر وفي هذا الزمان…مليئة بالعبر… والعظات الكُثر…

وخشيت أن تكون دنيازاد هي المومس الغاويه...  الساهيه...   اللاهيه...  فلم أثق بها حتى جاءني كليلة ودمنة وكلاهما استعداد لرواية الحكاية عني...  وعن حبيبتي الحسناء نون…وعن حاء ميم وعن المدينة وما وقع فيها من غرائب وعجائب.

قالا: كان يا ما كان في قديم الزمان...  وسالف العصر والأوان...   كانت مدينة من أغرب البلدان...  عاش فيها خلق ليسوا من بني الجان...  ولا الحيوان...  ولا الإنسان…وقعت لهم فيها أحداث أقرب إلى البهتان...  يرويها لكم بطلها السيد فلان.

عين ولمان .سطيف. الجزائر من ليلة 03إلى30/12/1999بعد العاشرة ليلا

 

أضيفت في 20/03/2006/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية