أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: أنيس إبراهيم

       
       
       
       
       

القصة الساخرة في سورية

شموس الغجر... الرواية الشاهد

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

ولد في صافيتا- طرطوس 1948

عمل مدرساً في ثانويات ومدارس صافيتا وطرطوس.

نشر قصصه الأولى في الصحف والمجلات السورية.

فاز بعدة جوائز في مجال القصة القصيرة.

عضو جمعية القصة والرواية.

 

مؤلفاته:

1- التفاحة - قصص 1984.

2- أرض الديس - قصص 1993 .

3- النورس الأبيض - قصص أطفال 1997

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

لحظة وداع

طقوس التعري

 

طقوس التعرَّي

 

هي الكأس السابعة، أو السابعة عشرة لم أعد أدري، الكأس التي معها يعود الصفاء إلى رأسي، أو يغور العكر. " من يسكر لا يعدّ الأقداح ". أنا أعدّها ومع ذلك أسكر.‏

 

الليلة الأولى من تموز، في مثل هذه الليلة ولدتني أمي، ولدتني أغبش كليالي تموز، والسرّ كلّ السرّ أنها ولدتني في الليل و ليس في النهار، فكان عمري أدكن كالليل، ولكن بغير نجوم. ‏

 

الليلة الأولى من تموز هي الليلة التي تكرّرت سبعين مرّة في عمري، وأقسم أنني في هذه الليلة المباركة سأبدأ أشرب سبعين كأساً متواليات، ولو استمرّ الأمر ثلاث ليالٍ بنهاراتها، لأني موقن بأن هذا - وحده - طريق الخلود.‏

 

الكأس السابعة، أو السابعة عشرة لم أعد أدري، يا ربّ العزّة متى تأتي السبعون؟! لا شك هي آتية في الأسبوع السابع من تموز أي أنها في الأسبوع السابع من الشهر السابع من سنة ينسلخ فيها العدد السابع عشر مرّات ثمّ يستوي على عرش عمري، هذا العمر المبارك الذي يدخل القمر - معه - في البرج السابع مترافقاً مع زحل أو - ربّما - تأتي في ساعة تكون ساعة الخلاص.‏

 

الليلة لن تكون بغير طقوس، ما أظنّ قدّيساً يدخل ملكوت السموات إلا عارياً، صحيح أنني لست قدّيساً، ومع ذلك فسوف أمارس طقوس التعرّي، قذفت بي السماء من رحم أمي عارياً، وسوف أعود إلى السماء عارياً متجرّدا من متاع هذه الدنيا، لأنها ساقطة وسافلة وملعونة فيها يصلب الربّ كل يوم خمس مرات، أو خمساً وخمسين، أو مئة وخمساً، وفي ظنّي أنه لا يبارح الصليب حتى صار الصليب رباً أو الربّ صليباً، أو أنه صار بيرقاً، ولسوف يبقى حتى يوم القيامة.‏

 

إذن وبعد أن عقدت العزم على أن أحيي الليلة، أو ثلاث ليالٍ بنهاراتها، أو سبعاً، أو زد عليها، أو أنقص منها، ما دمت عقدت العزم فالليلة - ولأنها الأولى من تموز - سوف أمارس طقوس التعرّي.‏

 

المكان هو المقبرة، والزمان منتصف الليلة الأولى من تموز، هذه البلدة ملعونة ومن فيها، أمواتها أحياء، وأحياؤها أموات، أحسّ بأن القبور تتململ وربمّا تزقو من حولي، و لعلّها تتزاحم كي تحكم الطوق دوني، وقد تتعرى هي أيضاً وتشاركني الرّقص فالمشهد قد أثارها وحرّك الشهوة النائمة فيها، فيما البلدة قد انطفأت عيونها، أو أنها تنبش في العتمة عن رذيلة أو فضيحة، أو أنها تحوك دسائس كي تنشرها على صفحة الأفق الشرقي أوّل الفجر.‏

 

بلدة تتكاثر فيها الحرباوات علناً وتحت ضوء الشّمس، وتقّرب فيها القرابين حتى أن واحدها يتقرّب إلى الله بأخيه أو أخته أو أمه لا فرق، المهمّ أن يتبوّأ سدرة المنتهى ولو بنعل ملطخة بالدم.‏

 

السرّ كلّ السرّ أنها ولدتني في الليل وليس في النهار، لذا قدّر عليّ أن أرعى جواميس البلدة ردحاً من الزمن، والجاموس أسود كالليل والله قدّر لكل امرئ قدره، فلو أنني ولدت في النهار لكنت رعيت أغناماً بلقاً كتلك التي رعاها سيدّنا يعقوب، أنا أعرف أن أمه ولدته أول الفجر فكانت أغنامه رقطاء بين الأبيض والأسود، ولقد غلّت له رزقاً كثيراً.‏

 

الليلة غبشاء، والجواميس غبش، وكذلك عمري. صحيح أن الجاموس أحرث للأرض، وأقوى للجرّ، وأصبر على النطاح، والحمد لمن لا يجاوزه الحمد كذلك كنت أنا. قلت ردحاً من الزمن، الحقيقة هي السبعة السابعة في جدول الحساب، وكانت غلّتها أن امتلكت سبع جاموسات حلوبات حارثات صابرات على النطاح. وقال سيدّ مدين: " إني أنكحك إحدى ابنتيّ على أن تؤجرني ثماني حجج.." تمنيّت في سرّي لو أنها سبع حجج على عدّ الليالي وليس النهارات، لكنّ سيدّ مدين ولد في النهار بغير شك - لذا فقد اقتنى أجيراً.‏

 

وكان ما كان. عوّدتني الجواميس أن الأنثى تلقح كلّ عام مرّة، وأن الأرض تحرث كلّ عام مرّة، ما تكاد الجاموسة تشيل ذنبها حتى يأتيها الفحل وما يأتي الشهر التاسع حتى تتئم، ومن كلّ سبع توائم كان لي جاموسة واحدة حتى عددت سبع جاموسات، وصارت بنات القرية ترمقنني بشيء من الوداعة، أو شيء حسبته الحبّ.‏

 

ملعونة هذه البلدة ومن فيها، صارت الأنثى تتشّهى التلقيح بين المرّة والمرّة مرة، و صارت الأرض تخصب حتى تقيء ما في جوفها، والحقيقة إن ربّ الأرض قال لها: أفرزي نتناً وقيحاً، فكانت الفطريّات، والمحل، والليرة التي لا تساوي شيئاً.‏

 

سيدّ مدين كان زوجني ابنته على سبع، والمصيبة أنها كانت شقراء بلون القمح، كانت ضفائرها سنبلات، وكان خداها بلون القمح، او بلون التراب. خدّوج بدأت تبرم بالجواميس وتمقتها، فقد فطرت على غير عاداتها، وما اعترفت - يوماً - بأصالتها أو سبقها، وبدأت خدّوج تبرم بكلّ ما هو أغبش، بي، وبالجواميس، ولا عجب، فأمها تؤكد أنها ولدتها في رابعة النهار.‏

 

تشيل الجاموسة ذنبها كلّ عام مرة، أما خدّوج ففي كلّ ساعة مرتين مرّة ساعة تضاجع نفسها بنفسها، ومرة ساعة توزع الاشتهاء.‏

 

كنت غللت سبع بنات لسن بلون الجواميس، ولا بأشكال الجواميس لقد جئن إلى هذه الدنيا، إليّ، بأكفال ولكن من غير أذناب.‏

 

أكاد أقسم بالجاموس الأكبر - ولكن من غير خطيئة - الجاموس الذي تتربع الأرض فوق قرنه العظيم على أن هذه البلدة ملعونة ومن فيها فلا قدّ يسوها قدّيسون، ولا زناتها زناة .‏

 

أن أطلب أمراً من اللواتي هنّ بعرف السجل المدنّي بناتي يمددن ألسنتهنّ ويهزأن بي، يحتقرنني ويقلن بأنني نشأت على أخلاق الجواميس وعاداتها، و بأنني لا أصلح للحياة. حمداً للذي لا يجاوزه الحمد، و حمداً للسبعين وللجواميس، فالجاموس يبرأ من ابنته متى صارت على شاكلة أمها. وأجمل الصبر صبرك على ما تكره.‏

 

أيتها السيدات اللواتي طلعن على هذه الدنيا بأكفال ولكن من غير أذناب أيها السادة الذين لم يتقنوا صحبة الجواميس فلم يتعلموا كيف يدارون وقاحاتهم أيها السيدات والسادة أنتم لا تعرفون طقوس التعرّي.‏

 

لعلّ المسألة ابتدأت أوّل زمن التبرّج، حين صارت خدّوج تشيل ذنبها مع كلّ هبّة ريح، لا فرق، إن كانت رياح الخماسين الحارة، أو الريح الشمالية في أول زمن التبرّج الذي لا زمن له، عندما راحت توزّع الشهوات للغادي والصادي، وتصطنع اللباقات واللياقات، عندما صارت تبرز شفتها السفلى، وتنعس بعينيها، وتغنج وتتصابى، وتربأ بنفسها وبأصلها وببناتها عن الحرث والزرع والجواميس والحصاد، لقد وقفت خدّوج نفسها للعلاقات الخارجية، فصارت تغدو وتروح بشغل أو غير شغل، وصرنا - بحمد الله - مرموقين ومعروفين ومشهورين لنا معارف وعلائق وصداقات وقرابات لا يدري الله الأكبر من أين ولا كيف تمّت؟ وصار البيت مضافة ، فيه تولم الولائم وتقام العزائم ، بابه مشرع كصدر خدّوج وساقيها، أمام علية القوم و أسافلهم وبنعمة خدّوج صرنا بصاقاً حتى في أفواه أولئك الذين يشبهون المزابل.‏

 

أياماً. ليالي. سنوات. رحت أحرن كالجاموس، احرن وأنطح وأرفس حتى تكسّر قرناي، وشجّ رأسي، وشوّه وجهي، وتقطعت أوصالي، وصرت الذي يلبط النعمة، ويقطع الرزق، ويدفع بالبنات إلى الجوع والعري، فماذا لديّ للعيد أو للعرس أو للتهنئة أو للزيارة؟!.‏

 

ولماذا لا أكون كفلان؟ وليس بيتنا كالبيوت؟ وجاهنا كالجاه؟ ولماذا لا أعرف كيف أعيش، ولا أترك الناس يعيشون؟.‏

 

رويداً. رويداً انفلت الحبل وألقي على الغارب، وفكرت: أرض الله واسعة، " وهو الذي يرزق الدود في الحجر الجلمود ". غير أن هذه لم تنفع، فأنا الذي أتيت بهن إلى هذه الدنيا، وأنا مسؤول عنهن. وفهمت أنني ضرورة للبيت، ضرورة لا بدّ منها، فقد صرت بنعمة خدّوج سترة ولو أنها تكشف أكثر مما تغطي، ولكنها على الأقلّ سترة.‏

 

من على أطراف الموائد رحت ألتقط الفتات، ومن بقايا الكؤوس في الليالي الباردات رحت أتلمّظ برشفة عرق، وليلةً فليلةً رحت أعتاد الجلوس على الموائد، و أتقن عبارات المجاملة،والهزء، والسخرية والفحش، وأعرف كيف تقرع الكؤوس وترفع الأنخاب، وصارت تطيب بي السهرات أكثر فأكثر، لكنّما سرعان ما رأسي يدور وسرعان ما أهذي وأهذر، وسرعان ما أتكوّم في زاوية مهملة كمعطف مدعوك، و أمام عينيّ المغبشتين يحدث ما لا يحدث في مقاصير ألف ليلة وليلة.‏

 

في صباحات قليلة يعود إليّ الصفاء، فأصغر أمام نفسي وأتضاءل وأبكي، و لا ألبث أن أثور بأية بادرة مهما صغرت، فتعاودني روح الجواميس فأرفس وألبط و أهتاج، وما ألبث أن أخرج من المعركة - أمام أعين الجيران - سكيراً وسافلاً وقليل أصل، أخرج وأنا الذي سمح، أنا الذي فتح الباب، أنا الذي يعيش عالة على امرأته وبناته ، فأنكفئ لاعنا نفسي وعمري، وهذه البلدة ومن فيها، فلا قدّ يسوها قدّيسون، ولا زناتها زناة.‏

 

تناقصت الجواميس واحداً واحداً وواحدة واحدة، وبقيت الأرض بغير حرث ولا زرع، ويوم أولمت العجل الوحيد الباقي بكيت كما لم يبكِ أب فجع بابنه الوحيد، وقهقهات خدّوج تخترق أذنيّ كالمسامير. عرفت أن عمري انتهى، وأن طعم الحياة مرّ، وشيئاً فشيئاً صارت الأرض - قطعة قطعة وشجرة شجرة - في حوزة من يسمرون على المسفوح من دمها.‏

 

وشيئاً فشيئاً ما عادت تلوكنا الألسن كأنما صرنا مزبلة تراكمت، فتفسّخت فعافها الناس.‏

 

هي ذي السنون العجاف تطلّ برأسها، فالأجساد فقدت رواءها وأحابيل الغواية تقطّعت أو كادت، وصارت تمرّ المساءات ننتظر زائراً فلا يزور، وعلام يزور؟ فلا عجل يولم، ولا أرض تباع، ولا جسد يغوي، والبنات تباعدت بهنّ السبل، وخدّوج تشدّ على بطنها وتبصق في وجهي كلّ صباح وتخرج.‏

 

أيتها السيدات اللواتي بأكفال من غير أذناب، أيها السادة العراة من غير طقوس. من أجل الله والجواميس وأجلي تعلّموا كيف تمارس طقوس التعرّي.‏

 

إنها الكأس السابعة، او السابعة عشرة، أو السبعون ما أحد يدري، وها أنا عارٍ كما ولدتني أمي، ولسوف أبقى ثلاث ليال بنهاراتها، أو سبعاً، أوسبعين، أو ما يمدّ به العمر. نذراً عليّ وتكفيراً عن استهتاري بعهد الجواميس، فلا زال فيّ بعض القوة ولا زال في الكأس بقيّة، ولا زالت القبور تتابع أروع رقص غجريّ فقد تعرّيت من جلدي، ومن لون عينيّ، وها أنا الآن أنزع آخر قناع عن عقلي.‏

 

الكأس تتناقص، والرقص يتوانى، ومع آخر رشفة أنطفئ أنا والكأس، ونجوم السماء، وتبقى - وحدها - شواهد القبور.‏

 

 

لحظة وداع

 

 

مع السلامة.. مع السلامة. كان سلاماً وآنياً كأنما من قاع بئر، أو هو يخرج من قاع الروح؛ أم أنني –وحدي- التي سمعت ذلك؟! إذا كانت أذناي قد أوهمتاني فما بال عينيّ إذن؟! صحيح أنّ رأسي يدور، والغرفة تدور، والباب يدور، وقد اهتزّ جسد الأرض، وكلّ ما حولي بدأ يترنح، ويهمّ بالسقوط،؛ إلا أنها نهضت، بعينيّ رأيتها، استقام جذعها قليلاً، تمسّكت بأطراف التابوت، وقفت على قدميها، وربّما خطت خطوتين أيضاً، التمعت عيناها، وطاف بشفتيها شيء يشبه الابتسامة، ابتسمت، ومن يباس الشفتين خرجت: مع السلامة.. مع السلامة.‏

 

كان عليّ أن أفيق، دقّات قلبي تنقر أذنيّ ورأسي، أحسست اتساع حدقتي، وبرودة أشبه بالندى تتلبّس جسدي، تتلبّس روحي، أنا خائفة.. خائفة. تسمّرت وتداً لا حياة فيه، إلا أن عينيّ تريان، وأذنيّ تسمعان، تبّاً لكلّ عفاريت الأرض وشياطينها أهذا وقت التابع؟! أم أنه كابوس؟ غير إنني واثقة من أنّ الذي حدث قد حدث.‏

 

لقد عادت جدّتي إلى الصّبا، عادت ستين عاماً إلى الوراء. كانت تحكي دونما صوت، كانت تغنّي، وربما ترتّل صلوات خاصة بها حتى شرعها، استرسل فوق منكبيها المائلين إلى أمام، وكأنما رأيت خفوق صدرها، أو ارتجافة هزّت بدنها كلّه، وفي لحظة تجمّعت على نفسها ونطقت: مع السلامة.. مع السلامة.‏

 

وقفت أمام مشهد عجيب، كان أشبه بالسّحر، جدتي التي هي قعيدة وكأنها منذ ثلاثين عاماً –كما يقولون- والتي لا تقوى إلا على حركة اليدين والعنق، وربما رفّة الجفنين. جدّتي تقف –اللحظة- على قدميها وتخطو! يا ربّ كلّ الناس. ليس ثمة شيء بعجيب.‏

 

اختلّ توازن التابوت، ولولا أنّ بين الناس من لا يعرفونها إذن لسقط على الأرض، لأن الذين يعرفونها ذهلوا، ونسوا أنهم يسيرون بالتابوت صوب الباب الضيّق. يا ربِّ! أهي الروح وقد تطاولت على ضعف الجسد؟! أم أنك تحيي العظام وهي رميم؟!.‏

 

قال لها: يا خديجة يصعب عليّ أن أرحل وأتركك على هذه الحال، ولكن الله سوف يقضي بذلك، وفهمت خديجة، والعجيب أنها كانت تفهم دون أن تسمع، وكانت تجيب دون أن تنطق. نظرت في وجهه وقد طفرت من عينيها دموع، وكأنما قالت: لا. إلا أنه هز ّبرأسه، وغلالة من الحزن طافت بوجهه البشوش، وفتح يديه، ورفع وجهه وقال: هي إرادة الله وحرّكت شفتيها دونما صوت لتقول: لا. ونظر فيّ جدي وقال: اعتني بجدتك، فهي –وحدها- وهبتك الحياة، لن يعود لها إلا أنت، أما أنا فقد أشفقت ولم أقل شيئاً، جدي في منتصف السبعينات –كما أظن- لكنّ روح الشباب لا تزال ترفّ في كلّ حركة من حركاته. جسم قويّ منتصب، خطوات ثابتة رشيقة يقوم بجميع الأعمال التي تعوّد أن يقوم بها، يزور ويزار، ويقضي في مشاكل الجيران، ولا يزال بيتنا مضافة، وإني لأعجب كيف يرحل وليس هناك أيّ دليل يوحي بذلك، ومع ذلك فقد داخلني خوف عندما قرأت الحزن في ملامح وجهه بذلك، كلماته تلوّنت بالفقد، جدتي سوف تسبقه لأنها قعيدة ومريضة، وقد عزوت الأمر إلى قلق ينتاب الروح بين الحين والحين. لكن الذي يعرف جدّي لابد يركن إلى الخوف.‏

 

غريب هو أمر أسرتنا! عاش جدّي يتيم الأبوين، وكذلك جدّتي وأنا، لكأنما الأسرة إلى انقراض، وهذه هي السنن تقدّمت بي ولم أتزوج، ولا أخال ذلك سوف يحدث، فقد قدّر أن أبقى كي أرعي جدّي وجدّتي مثلما رعياني، والآن أتخيّل نفسي بعد حين نبتة مفردة ليس لها من يرعاها ولا من ترعاه.‏

 

هل قالت: مع السلامة؟! أحسب ذلك. أنا سمعتها، هل سمعها أحد غيري؟ لا أدري، التابوت ودّع العتبة، وقدّام الباب ارتفع على الأكف. الله أكبر، الله أكبر، وسار بطيئاً. أما أنا فعدت بجدّتي إلى بساطتها وهناك جلست. وجهها معلّق بالباب، بقيت بيننا نسوة من الحيّ بهمهمات ودموع ومناديل، كنّ جميعاً نادبات يترحّمن على جدّي، ويذكرن فضائله، كنّ يواسين جدّتي، يحكين لها، يعدن بها إلى الماضي، كأنما هي تعي وتسمع، أنا لم أبكِ ولم ينتبه إليّ أحد، أما جدتي فكانت بين ابتسامات وشجون أنا أعرفها، أعرفها من رفّة جفنيها إلى اختلاجة شفتيها، إلى خفوف صدرها، وهذا ما حدث.‏

 

كانت كمن فقد الإحساس بالموت ورهبة الموت، وكأنما حدث ذلك من زمان بعيد، لم يعد الموت –لديها حدثاً ولا فاجعة ولا فقداً. جدّتي تتواصل مع الأرواح، أرواح كلّ من عرفتهم وأحبّتهم وحفروا ذكريات في روحها، كانت تتواصل بهم عبر الماضي، وكأنما هم بين يديها أحياء يرزقون. لا أدري إن كانت هي تخطّت الحاجز بين الحياة والموت فمرقت إليهم؟ أما أنها استحضرتهم إليها من مكان بعيد؟. وكان هذا وقتها ما حدث.‏

 

مع السلامة.. مع السلامة. نطقت هي بذلك، أو بذلك رفّت روحها وودّع التابوت العتبة، وارتفع على الأكفّ. جلست جدّتي وعيناها على الباب، وطي ابتسامة يتشكل بين الغضون، ابتسامة لكنها ملوّنة بالارتعاش، مكمّمة بالخوف. وحكت خديجة:‏

 

دفعتنا أمي إلى ذلك البيت، أنا الكبرى، وهي الصغرى، وأوصتنا بالهدوء والطاعة، وأن نقول –دائماً- نعم، وأن نبقى كالنحلة في تلبية المطالب، لم يكن لدينا ما يستر العري. فرحت بفستان أختي أكثر من فرحي بفستاني: كانت صغيرة، صغيرة وجميلة، ومنذ اليوم الأول بدأنا نقوم بأعباء البيت، كان كبيراً وواسعاً ومن طابقين، وكانت أدراج وأقبية، وحظائر للخيول وللدوابّ، وكان فلاحون، وأجراء وطبّاخون وخدم، وكنا غريبتين في جسد كبير من البشر، وكلّ يلقي علينا الأوامر، حتى ما كنا ندري أحياناً ماذا نفعل.‏

 

أحسست كأنما ضبابة عبرت عيني جدّتي، تراقصت ظلال خوف فوق أهدابها، فعرفت أن المشهد قد تبدّل. وقالت خديجة:‏

 

أعادوني إلى بيت أبي، لم يكن بيتاً، كان أقرب إلى الخراب، أعادوني من غير ضجيج، لم أكن أعرف السبب، أقعدوني في البيت وقالوا: منذ الآن هذا بيتك، وبعد قليل يأتي ابن عمك، وهنا فهمت كلّ شيء، وداخلني رعب قاتل، واستبدّ بي دوار الموت. ما كنت أخشاه يحدث الآن، تركوني وذهبوا يبحثون عنه، كنت أكبره ببضع سنوات، كنت صبيّة ناضجة، وكان على عتبة الشباب. ماذا لو كان يدري؟! ماذا لو افتضح السّر؟! أمس أقسمت أن أظلّ بغير رجل طوال الحياة منطوية على مصابي وعاري فلا يطّلع عليه أحد، واليوم –ربّاه- ماذا يحدث؟!.‏

 

فكّرت بالهروب ولكن إلى أين؟ فكّرت بالموت ولكن كيف؟ وعلّلت نفسي: هو أصغر من أن يعرف مثل هذه الأمور، ولماذا لا أستحضر نقاطاً من الدم بأية طريقة كانت؟ لكنهم –فجأة- جاؤوا به، صبيّ نحيف العود، واسع العينين، أصفر الوجه، زائغ النظرات، يرتجف جسده تحت قميص لا يصل الركبتين. حائراً كان، مرتبكاً كان، وقالوا: هذا ابن عمك، وأغلقوا الباب.‏

 

في اليوم التالي نما خبر كالدخان بأن يوسف أفندي كان اتصل بخادمته، وكيلا يفتضح الأمر زوجوها لابن عمها. لكنني عرفت كيف أطمر الخبر، وأوصد دونه الباب.‏

 

بين الهمّ والابتسام كان يشفّ حزن عميق عميق، ظلال رعب تطوف فلا يهدأ بؤبؤ العينين، ولا تنبسط القسمات، وتابعت خديجة:‏

 

كنت أتذوّق لذّة العرس، لذّة الفوز بإخفاء واقع الحال، وكان ليل شديد العويل، تتقصف منه مفاصيل البيت، تلك اللذة انغرزت في كبدها مرارة. قبل أن أغادر كنت رأيت عينيّ الذئب تتشمّمان الفريسة الصغيرة، كنت أحسّ بأنه سوف يحدث لأختي ما حدث لي، تركتها وحيدة، وحيدة وصغيرة، أنا عرفت كيف أحتمل، ولعلّ جسمي ساعدني في ذلك؛ أما هي فيا ربّ! يا ربِّ كيف يتمّ الأمر؟! وفيما كان الصبيّ يرتعش فوق جسدي تقبّض الجسد وصرخت: يا الله صغيرة. صغيرة. الصرخة جمّدته. صفعته، وانتبهت فأعدته بالمدارة والتحبّب، أما الصرخة فبقيت سراً بعيد الغور.‏

 

 

تقبّض وجه خديجة، ونزّ ألم دفين، صار أقرب إلى تمثال لوجهٍ معذّب، ولا زالت تتابع نجواها خديجة:‏

 

السيدة أخته كانت علمت بالأمر، كانت بمثابة وصيّة، وقد تقدّم بها العمر، ولم يجرؤ أحد على مفاتحتها بأمر الزواج، كانت متغطرسة دنيئة وحقودة، تتشّهى الرجل وتحقد على جنس الرجال، طار صوابها وعجزت عن ردعه، فانصبّ سعارها كلّه عليّ. ذات ليلة أدخلتني غرفتها، وعرّتني من ثيابي، قتلني الخوف والخجل، ما كنت أعرف ما تريد، جاءت بإبر كبيرة وصغيرة وبدأت تتشفّى مني بكلام أحدّ من السكاكين، بدأت بثديّي غرزت إبراً في الحلمتين ثم حول السرّة، وفي العانة، حتى غدت عانة من الشوك، لم أستطع الحراك، خادماتها يضغطن على يديّ ورجليّ، ويكممن فمي، قلبنني على ظهري، كانت إبر في الفخذين، وفي الكفل والظهر والكتفين، ثم بدأن يدحرجنني ظهراً على بطن، وبطناً على ظهر، كانت تضحك حيناً وتعضّني، تنهشني في كلّ موضع، تصلّب جسدي في آخر قوة للمقاومة، وشيء ما حدث فتركنني بعد أن نزعن الإبر، والأمر الذي عزّاني قليلاً هو أن سجّادتها الثمينة شوّهتها الدماء.‏

 

وأنظر في وجه جدتي. صحيح أنه أقرب إلى وجه تمثال، لكنما بدأ يفارقه العذاب، هالة من الصفاء والضياء تنبض في العينين والشفتين وتشعّ حول الوجه، وقد بدأ يوحي بشيء من القداسة. رهبة تملّكتني حتى ما عدت أقوى على النظر في وسط تلك الهالة، بدأت تتشكّل ملامح وجه جدّي، تتشكّل وتتبدّل سريعاً سريعاً. صبيّ مرّة، وأب مرّة، وزوج ثالثة، ورفيق عمر في آخر محطّة للوداع رابعة وخامسة وسادسة. ملامح وجه جدّي تتبدّل وتتلاحق وتنطق كأنما على شاشة تلفزيون، شريط عمر يتتابع بخفوق عجيب، يتتابع ويحكي ويحكي، ثم لا تلبث الملامح أن تهدأ وتهدأ وتستريح، لقد توحّد الوجهان وجه جدي ووجه جدتي وبقي الوجهُ الواحدُ معلقاً بالباب، والعينان عالقتين في الماضي البعيد القريب.‏

 

وأنا ارتجافة حزن تغلغل في أوردة الروح، وعينان تغفيان دمعاً ما عدت بحاجة لأن أخفيه، لقد عرفت بأنني لن أكون مثل خديجة وإنما نبتة مفردة في بيداء العمر ليس لها من يرعاها ولا من ترعاه.‏

 

في هذه اللحظة يكون جدّي ارتدى تراب قبره، وتكون جدّتي قد استدرجت قرابة سبعين عاماً تستحضر ذكرياتها وأحبابها، وتعاود عيش عمرها لحظة لحظة ومفصلاً مفصلاً. وتحكي خديجة، وأنا أقرأ ما تقول خديجة.‏

 

أضيفت في 10/11/2004/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية