المسرح العربي
المعاصر
قضايا
ورؤى وتجارب
المُقَدِّمَة
يضم هذا الكتاب مختارات من
أبحاثي ومقالاتي عن المسرح العربي المعاصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة،
وهي مرحلة صعوده وانكساره في الوقت نفسه، فقد شهد نهوضه في ستينيات القرن
العشرين وسبعينياته، ثم عانى من عوامل التراجع تحت وطأة العلاقة مع
المتغيرات السياسية والاجتماعية والدولية. مثل شيوع العنف والإرهاب في
النظرية والممارسة وأنماط الحياة والمعيشة، ناهيك عن التأثير الباهظ للتطور
التقني وتفجر المعلوماتية وثورة الاتصالات مما ضيق على الثقافة الرفيعة
والأصيلة والحقة التي آلت في ظل العولمة الراهنة إلى مكانة أدنى من الإعلام
وقنواته المتعددة والمتنامية احتلالاً طاغياً لفاعلية الثقافة في التكوين
الإنساني القيمي النبيل. ومنها المسرح أبو الفنون، وأولها الأدب. فكان فحوى
هذه الأبحاث والمقالات شديد الاتصال بالشواغل العميقة والجوهرية في تطور
المسرح العربي المعاصر، ولاسيما قضايا الهوية والتقاليد والتجديد والتأصيل
والمسرح سبيلاً لوعي الذات والمثاقفة الحضارية المسرحية، مثلما نظرت في
قضايا أخرى ذات تأثير كبير في واقع المسرح العربي ومستقبله مثل قضية النقد
المسرحي والكتابة الموسوعية عن المسرح ومعاينة تطور المسرح وتقصي أشكال
الخطاب المسرحي لجمهوره العام والخاص، كما هو الحال مع مسرح الأطفال الذي
جاوز حدود التربية كثيراً إلى آفاق فكرية وفنية متعاظمة التأثير. وتوقفت
ملياً عند مكانة المسرح في التفكير الأدبي العربي المعاصر.
وتتبعت في الباب الثاني «رؤى»
عدداً من المنظورات النقدية حول الثقافة العربية دخولاً في شجون الحركة
المسرحية في أبعادها المختلفة: التأليف، النقد، الظاهرة المسرحية والظاهرة
الاجتماعية، نظرة الاستعراب إلى المسرح، الترجمة والتعريب، التبادل المسرحي
العربي والدولي، علاقته بالفنون الأخرى، الثقافة والتثقيف، مشكلات التواصل
المسرحي العربي، المسرح الغنائي، مسرح الأطفال، التراث، التظاهرات، الروافد
العلمية، على أن تناول هذه الأبعاد لا يخرج عن تأمل معضلات الهوية القومية.
وخصصت الباب الثالث للنظر في
بعض تجارب المسرحي العربي تأليفاً وعرضاً وبحثاً ونقداً، وهي تجارب منتقاة
دالة على سمات الإبداع المسرحي العربي المعاصر، وقد اخترتها من عشرات
الأبحاث والمقالات والمراجعات النقدية المكتوبة منذ عام 1970( ) حتى اليوم،
وتنتمي هذه التجارب إلى أقطار عربية متعددة من المغرب والجزائر وتونس إلى
مصر ولبنان وفلسطين وسورية والعراق. ولعل هذه التجارب أقرب إلى العلامات عن
حال المسرح العربي المعاصر، لأنها من تيارات مختلفة وأجيال متعاقبة
ومستويات متباينة في التأصيل والتجريب، وتستوعب الخصائص الأكثر تعبيراً عن
سعي المسرحي العربي للتحقق الذاتي.
وقد حرصت في كتابة هذه
الأبحاث والمقالات على البعد القومي بالدرجة الأولى الذي لا أراه مفترقاً
عن البعد الجمالي، ودأبت باستمرار على التزام المنهج العلمي في رؤية المسرح
العربي المعاصر على أنه السبيل للرؤية الفنية، ويتبدى ذلك في المقالات
المكتوبة لقنوات الاتصال الجماهيرية مثل الصحافة، فثمة عناية بالغة
بالتوثيق من جهة والبعد الاتصالي من جهة أخرى ضمانة لسيرورة الانتشار وجدوى
الكتابة.
دمشق آب 2002
البـــاب
الأول - قضــايــا
1
التقاليد والتجديد
في المسرح العربي المعاصر
مايزال المسرح العربي يبحث عن
صوته الذاهب في معضلة الصراع بين التقاليد والتجديد التي أفضت منذ طلائع
النهوض القومي في القرن الماضي إلى هاجس يؤرق المثقفين والمسرحيين العرب،
وقد أنجب هذا الهاجس المؤرق الكثير من التجارب والمحاولات، والقليل من
الإنجازات في إطار شاغل دال على القلق المتصل إلى وقتنا الحاضر، وأعني به:
هوية المسرح العربي( ).
-1-
ثم صار هذا الهاجس إلى حساسية
نامية فعلت فعلها في تطور الحركة المسرحية مما جعل المسرح يتبادل التأثير،
وغالباً على نحو مباشر، مع الحياة السياسية والاجتماعية العربية. وعبثاً
يستطلع المرء ملامح الحركة المسرحية بمعزل عن حاضنتها الاجتماعية
والثقافية، فقد امتزج حلم المسرح بأمل تحقيق الذات العربية، وغدت شواغل
الوجود العربي في تطلع رجال المسرح إلى نهوض مسرحي يواكب النهوض القومي،
ولاسيما مساعيه الوظيفية، حيث ارتبطت قضية التأصيل بإلحاح ملفت للنظر بقضية
المعاصرة. وهكذا، واجه المسرحيون العرب مشكلة بناء مسرحي متكامل المصادر
والطبيعة والوظيفة في أرض انقطعت عنها التقاليد منذ زمن طويل، وافتقدت صورة
مسرحها التاريخي بعد ذلك، لذا، أصبحت استعادة تلك الصورة القديمة في أساس
إشكالية التجديد المرجو. إن حاضر المسرح العربي اليوم هو نتاج إشكالية
تاريخية ونقدية استنفرت خلال أكثر من مائة عام المجهود المسرحي في التراث
العربي وتراث الإنسانية على حد سواء بقصد الإجابة عن سؤال تأصيل الظاهرة
المسرحية الملحاح: هوية المسرح العربي.
فأي تقاليد للمسرح العربي؟
وأي تجديد؟ أين ظهورها واختفاؤها؟
لعلنا نتابع البحث نفسه في
تلك التجارب والمحاولات الكثيرة، وفي تلك الإنجازات القليلة.
-2-
تظهر التقاليد المسرحية في
جماع العمل المسرحي: في الأدب المسرحي وعلى خشبة المسرح، وفي رأي غالبية
المسرحيين العرب أن المسرح العربي يكتشف أرضه بسرعة ويتطور، إلا أنه تطور
غير مرض. لقد جرى الإقرار تصريحاً أو تلميحاً بتواضع الحركة المسرحية
العربية تمهيداً للإقرار بحاجة المسرح العربي إلى تقاليد راسخة تجعل من
مسألة تطوره وتكوين شخصيته المستقلة بعد ذلك أمراً مقضياً. يقول ألفريد
فرج:
«نحن لا يمكننا أن نكون
قانعين بما أنجزه المسرح العربي، ونود أن نواجه مشكلاته الحقيقية في سبيل
إرساء هذه التقاليد المكونة لشخصيته. لقد خطا المسرح العربي خطوات صنع بها
تقاليد أو صنع بها قدراً من التقاليد، ولكني أحب أن أحدد حجم هذه التقاليد
وإيجابيتها بحجم الجمهور الذي استطاع أن يجتذبه وأن يؤثر فيه. أي بمقدار ما
يحقق فن المسرح حضوراً في المجتمع». ويؤكد الطيب العلج أننا بصدد البحث في
هوية. ويجب أن نقف وقفة تأمل عند واقعنا الحاضر، فلا نبخس أشياءنا، ولا
نغبن إبداعنا، فمسرحنا بالقياس إلى عمره الزمني القصير يمكن أن نقول وبلا
غرور: إنه طامح جامح، وبكل خير. ويرى وليد إخلاصي أنها مرحلة تجريب وعلينا
أن نتكلم في العقل المسرحي أو العمل المسرحي المعروض، والتجريب المستمر
سيقود إلى التفرد. ويقول هاني صنوبر:
«طبعاً لا، لم يستطع المسرح
العربي المعاصر أن يرسي تقاليد لهوية المسرح العربي».
ويلاحظ فرحان بلبل أن من
الادعاء القول بالإيجاب لأن التقاليد لا تنشأ إلا من خلال تراث مسرحي عريق،
ونحن أمة ما تزال جديدة على هذا الفن، وما زال كتّابنا وممثلونا ومخرجونا
يفتشون عن أنفسهم من خلال العمل المسرحي. ويؤكد جمال أبو حمدان الآراء
إياها مؤيداً أن تجربتنا ما زالت حتى الآن غير عربية في المسرح، ثم يؤثر
العودة إلى المقولة التي تفترض تكاملاً اجتماعياً عربياً يعزز ثقافة عربية
أصيلة، وفي سياقها مسرح عربي أصيل. أما رشاد أبو شاور فلا يرى هناك أهمية
لاستحداث شكل مسرحي عربي، «لأن المهم هو الاستمرار في البحث والتجريب الجاد
والالتحام بحياة الأمة».
ولكن هل الصورة مخيفة إلى هذا
الحد؟
تشير آراء المسرحيين العرب،
كما هي الحال في واقع التجربة المسرحية العربية، إلى ثلاثة تيارات تحيط
بآفاق النهوض المسرحي المرتجى، وتستند في الوقت نفسه إلى موروث أو تراث
حديث في الممارسة المسرحية العربية، الأول يدعو باستمرار إلى أشكال مسرحية
عربية كانت في الظاهرة المسرحية المتواترة في الشعائر والتقاليد والمأثورات
والأدب، وبرز هذا التيار فعالاً ومؤثراً في الستينات ومطلع السبعينات في
المغرب وتونس ومصر، ومن ممثليه الطيب الصديقي وألفريد فرج وعز الدين المدني
ومحمود دياب والطيب العلج وعلي الراعي.
والتيار الثاني لا يرى فائدة
تذكر في نبش الماضي، وعلينا أن نرسخ استخدام الشكل المسرحي السائد في الغرب
بوصفه شكلاً عالمياً ونتاجاً حضارياً سارت عليه الشعوب، وماتزال. ومن أبرز
ممثلي هذا التيار صلاح عبد الصبور الذي كتب مقالات عديدة تأييداً لدعوته،
وجمهرة عريضة من المسرحيين في لبنان عبر الممارسة.
والتيار الثالث اتجه إلى
عناصر المسرح باعتباره «فرجة» ووسيلة اتصال جماهيريةأصلاً، فمن المفيد أن
يخلق المسرح العربي تقاليده أثناء التجربة التي لابد أن تصقل جوهر الظاهرة
المسرحية، وهذا واضح في أعمال فنانين وفرق عربية معتبرة في سورية ولبنان
وتونس والمغرب والعراق مثل روجيه عساف (مسرح الحكواتي) وسعد الله ونوس،
والفاضل الجعايبي ورفاقه (المسرح الجديد) وعبد الكريم برشيد (الواقعية
الاحتفالية) وقاسم محمد. إلا أن العديد من هذه التجارب لم ينجز تقليده
المسرحي معتمداً على عرض أو موسم ثم ينتاب عمله الخذلان والكسل أو اليأس.
والحق، أن أزمة التجديد في
هذه التجارب من فكرة الاختبار المسرحي مع الجمهور الذي من شأنه أن يقود إلى
تثمير لغة الاتصال الفكري والفني ويضمن التأثير والإقناع في قلب المتعة
والتشويق، فكثرت «توابل» التشكيل المسرحي إلى حد «الفقر» حيناً، وإلى حد
«الإبهار» حيناً آخر، مما أدى إلى معاناة شديدة ظهرت جلية في الأمرين
التاليين:
1) غربة اللغة حيث يكتفي
العرض بالاستطراد اللغوي والتراكم المشهدي المستمد من اتساع اللهجة العامية
في هذا القطر أو ذاك، ومن أكوام السرد لنظرة تجزيئية تعالج الواقع خلل
الاعتماد الكلي على «الإحالات» إلى تاريخ ثقافي وسياسي موغل في محليته،
ومبالغ في تجريبيته، مما لا يتيح معه المجال لجمهور أوسع في التواصل مع
الخبرة المسرحية التي تنهض على مخزون التجربة البشرية بعد ذلك.
2) غربة المسرح عن طبيعته،
فالمسرح أولاً وأخيراً، هو شيء صالح للتمثيل أي التشخيص، وما رأيناه في هذه
التجارب لا يتعدى «التوليف» بين عناصر متعارضة أحياناً، ولا تتعدى مبالغة
الإيهام في نفي الصفة المسرحية بقصد إعادة نظرة شاملة في شروط التلقي سواء
بالنسبة للممثل أم المخرج أو المؤلف أو الجمهور.
لكن واقع التجربة المسرحية
العربية هو حصيلة الاتجاهات الفكرية التي كان لها تأثيرها البالغ على البحث
في تأصيل المسرح العربي المعاصر. وهنا سنكمل النظر في حاضر المسرح العربي
اليوم ثم ننتقل إلى شؤون التأصيل والمثاقفة وشجونها.
-3-
يشير أغلب دارسي المسرح
العربي ومؤرخيه إلى بدايته الحديثة في منتصف القرن التاسع عشر، وهذه
البداية تعني بالضرورة المسرح حسب تعريف الدراما الغربية. وحتى نهاية الحرب
العالمية الثانية، شهدت دور العرض نشاطاً ملحوظاً للفرق الفنية التي كان
المسرح بعض برامجها حين يضاف إلى مجموع فقرات العرض، ويكون اقتباساً أو
إحياء لحكايات التراث العربي، بمرافقة الموسيقا والغناء والرقص( ). أما
الكاتب المسرحي، والذي به تنتعش الحركة المسرحية فكان نادراً، وهذه القلة
القليلة من الكتّاب اتجهت إلى الأدب المسرحي ضمن دفتي كتاب وحده( ).
ومع مطلع الخمسينات، أنجبت
الحركة المسرحية كتّاباً ومخرجين وممثلين ومترجمين وفنيين، وكان لرعاية
الدولة في الأقطار العربية مكانة كبيرة في تشجيعها كي تصبح معبّرة حقاً عن
الواقع العربي الحديث.
ويفيدنا هذا التشخيص العجول
في أن مجاري المسرح العربي متعددة ومتعثرة في آن واحد، ففي كل قطر عربي ثمة
حركة مسرحية تعاني من الانفصال أو الخذلان. بينما يشير واقع الحال إلى
اتصال هذه الحركة وتماثلها في مواجهة المشكلات القائمة وفي إرادة التطور.
وسنختار في هذه المقالة أبرز ملامح الظاهرة المسرحية العربية المعاصرة في
السبعينات لنستخرج منها عناصر الصراع بين التقاليد والتجديد.
-4-
شغلت المشكلة الاجتماعية
غالبية كتّاب المسرح العربي على اختلاف مواقعهم وأساليبهم، بل أن هذه
المشكلة بعينها لتعتبر الأساس في برنامج عمل المسرحيين العرب بعد الحرب
العالمية الثانية عموماً، ومع منتصف الخمسينات على وجه الخصوص، وقد كانت
بمثابة رد فعل للكتابات المسرحية السابقة، الفكرية المجردة عند توفيق
الحكيم، والفكرية عند بشر فارس وسعيد عقل، والفكرية الدينية عند علي أحمد
باكثير، والفكرية الأخلاقية عند عزيز أباظة وخليل الهنداوي، ومن نهج نهجهم.
صحيح أن ضمور الحركة المسرحية وارتماءها في أحضان العرض المسرحي التجاري
الهزيل الذي يضمن شباك التذاكر بالدرجة الأولى، كان سبباً رئيساً أيضاً في
الحملة الشعواء التي قادها الكتّاب الجدد آنذاك، إما بدافع الالتزام بواقع
الطبقات الفقيرة، أو الشعور بالتخلف الحضاري الشمل، أو الإيمان بعقيدة وجدت
المسرح منبراً للدعاوة، وقد كانت سنوات الخمسينيات ميداناً فسيحاً لصراع
الأيديولوجيات في ظل نمو الحركة القومية وهزيمة الاستعمار وتراجع الاستعمار
الجديد. ففي مصر العربية، رافق إنجاز تأميم قناة السويس، نشوء الجيل الثاني
من كتّاب المسرح المصري مثل نعمان عاشور ويوسف إدريس ورشاد رشدي وسعد الدين
وهبة وألفريد فرج وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور ولطفي الخولي، وفي
سورية ظهرت مع الثورة طلائع المسرح الجديد مثل علي كنعان ووليد إخلاصي وعلي
عقلة عرسان وسعد الله ونوس ومحمد الماغوط. وفي الجزائر، شهدت حركة
الاستقلال ولادة رجال مسرحيين وكتّاباً مرموقين مثل كاتب ياسين.. الخ.
فانتقلت الحركة المسرحية شيئاً فشيئاً بريادة الكتّاب الجدد من المشكلة
الاجتماعية إلى القضية الوطنية، أو بتزواجهما أحياناً، ثم ازداد الحس
النقدي باتجاه التقدم الاجتماعي والتحرر الوطني مع الوعي السياسي لهؤلاء
الكتّاب أنفسهم، حتى أن بعضهم كان تمكنه الفني والفكري يترسخ مع تعدد
محاولاته وتجاربه، وربما كان هذا النمو ذا صلة بالواقع السياسي والاجتماعي
حيث يرتبط الفنان اليوم بحياة شعبه ارتباطاً وثيقاً، وبخاصة في حال
المسرحيين العرب كما أسلفنا، وقد نجم عن هذا النمو عدة مسائل تكاد تغطي
المشهد المسرحي العربي المعاصر، وفي مقدمتها انتعاش المسرح النقدي أو
الانتقادي باعتباره وجهاً من وجوه المسرح السياسي، والصحي، وأن السمة
الغالبة على حركة المسرح العربي في العقدين الأخيرين هي مباشرة العمل الفني
لصالح الأهداف السياسية، وهذا ما يفسره تنشيط مسرح بريخت وبيتر فايس
وكليفورد اوديتس ودورينمات وماكس فريش وسارتروكامي وكارل تشابك وشفارتس،
وهم جميعاً أصحاب مسرح قضية. لقد تنازع المسرح العربي طغيان الأفكار من
جديد في تغليب الهدف على طبيعة العمل الفني دون أن يرتبط هذا كله بالتأصيل
مما أدى إلى ما يشبه الانفصام بين العرض والنص والجمهور والثقافة المسرحية.
-5-
حين كتب سعد الدين وهبة
مسرحية «المسامير» وسعد الله ونوس مسرحية «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» قيل
آنذاك أنهما صدى مباشر للنكسة، والحقيقة أنهما لم تكونا أكثر من ذلك، ويبدو
من قبيل الادعاء القول إنهما تحتفظان بأكثر من هذا التقدير، فليس فيهما
أكثر من «تنفيس» للكرب العربي من فعل النكسة. إن المباشرة بدعوى التسييس أو
الالتزام، وما يشبه ذلك من مزاعم قيام المسرح بدوره الحقيقي، تبدو باطلة،
وكأن المسرح بلا دور أو وظيفة حتى جاءت النكسة، فمنحت مسرحيين عاديين
امتيازات خاصة في مجموع الثقافة العربية، مما أوقع المزيد من الخلخلة في
إنجاز تقاليد للمسرح العربي، وحين تسود الفوضى تختلط القيم، ولا تنبت سوى
الأشواك.
أما أبرز وجوه المباشرة فهي
استمرار مسرح الأفكار بأساليب أخرى عبر تحويل واقع الحال إلى مجرد افتراضات
من شأنها أن تنفي التاريخ وتعطل الفعالية الإنسانية، وهذا واضح لدى غالبية
الكتّاب في تونس ومصر والعراق وسورية.
يرى رشاد رشدي في مسرحيته
«بلدي يا بلدي» على سبيل المثال أن أسباب النكسة تعود إلى الجدار القائم
بين القائد والشعب، ومن افتراض آخر، يرى سعد الدين وهبة في «سكة السلامة»
أن تحالف قوى الشعب العامل هو المقدمة الأولى للبناء والتحرير ومن افتراض
ثالث، يرى يوسف إدريس في «المخططين» أن «الخطأ يكمن في النظم الشمولية لرفض
مساوئ التطبيق. ومن افتراض رابع، لا يرى محمد الماغوط إلا العتمة فتتحول
الشخوص إلى أشباح ورموز في «العصفور الأحدب».
لقد وجدت هذه الافتراضات لدى
أغلب المسرحيين ميلاً غريباً، فأصبح عدد المسرحيات المماثلة وافراً. وهذا
التقليد في الالتفات عن منبع الواقع إلى ميدان الافتراضات، دفع بأبناء
الجيل التالي إلى السير على هذه الخطى كما هو الحال مع محمود دياب وعادل
كاظم وعلي سالم ورياض عصمت ووليد إخلاصي الذين لا نجد في كتاباتهم إلا
«أطلال» الواقع أو صوره الشائهة. فمن افتراض، يؤكد محمود دياب في «باب
الفتوح» إن بناء الإنسان قبل بناء الوطن، وأن تحرير الإنسان قبل تحرير
الأرض. ومن افتراض آخر، يؤكد ميخائيل رومان في «ليلة مصرع غيفارا العظيم»
أن عطب الثائر المعاصر يعني عطب الثورة المعاصرة. إن ما أضعف الفعل المسرحي
هو هذه الافتراضات التي تؤثر سلباً على استنبات التقاليد المسرحية.
-6-
ينطلق المسرحيون في لبنان من
أرضيات سياسية محددة كما هو مع جلال خوري وعصام محفوظ وروجيه عساف. وفي
حماسة اتصالهم بطبيعة العمل المسرحي ينجحون، حيث الكاتب قائد في عملية
العرض المسرحي، ولكن أعمالهم لا تملك فضيلة المتابعة، فلا تؤسس لتقاليد بعد
ذلك. على أننا لا نستطيع أن نغفل عن أهمية المجهود المبذول في استمرار
تقاليد المسرح من الرواية ومعطيات الجماعة في اللقاء والتخاطب والتفكير
وآلية الفعل ورد الفعل، أي استمداد حلول فنية من حياة الشعب وأساليب تواصله
من شؤونه المختلفة وتأدية ذلك في سياق مسرحي ينشد الإقناع. وقد تجلى هذا في
عمل فرقة روجيه عساف «حكايات من عام 1936»، بينما تعاني أعمال جلال خوري
«سوق الفعالة» و«جحا في القرى الأمامية» من ذكاء الاتصال بالجمهور. إنه
يعتمد على تجربة بريخت المسرحية بقصد التواصل الحي مع الصالة ولكن سعيه إلى
التعليم أصيب بالاختناق لخلو عروضه من الشعر الغزير أساساً في روح موقف
بريخت من العالم، وهو ما استدركه في عرضه الأخير «زلمك يا ريس» مراهناً على
ذكاء الناس.
يزاوج عصام محفوظ وفي أعماله
«الديكتاتور» و«كارت بلانش»و «لماذا رفض سرحان ما قاله الزعيم فرج الله
الحلو في ستيريو 71» و«سعدون ملكاً» بين مباشرة السياسة ونداء الفن، ولكن
مسرحياته لا تخرج عن الجدليات المثالية، وهي تنازع التغير في البحث عن معنى
في فوضى القيم. وهذا ما دعاه في السنوات الأخيرة إلى دراسة التجربة
المسرحية العربية ومراجعة تجربته. وهكذا تتيح الحركة المسرحية في لبنان
أفقاً أرحب لرؤية عناصر التقاليد والتجديد في الممارسة.
-7-
الطابع الأوحد لأعمال كتّاب
المسرح في سورية هو لصوقها بالقضايا الطارئة التي تتسع لتشمل قضايا الوطن
والمجتمع والإنسانية. هناك غلبة للتجارب الموصوفة وغير الموصوفة، وقلة من
المسرحيين الذين يعملون بصبر وثقة، ففي وسط هذا الجو المحموم يعاد النظر في
قضية المسرح عموماً، والاقتراب من أفضل السبل للحديث مع الجماهير عن مسرحها
المفيد فتنمو زهرات تغالب عفن الواقع وتحيا. وفي هذه الانطلاقة الجديدة
يصبح الواقع أرض الرؤية المسرحية نحو التقليل من شأن المباشرة بوصفها
همَّاً ثقيل الوطأة على تطور الحركة المسرحية.
يوازي سعد الله ونوس في «سهرة
مع أبي خليل القباني» بين النضال الوطني من أجل التحرر والاستقلال ونضال
أبي خليل القباني من أجل قيام مسرح عربي، ولقد كان عصام محفوظ على حق حين
عدّ نضال أبي خليل القباني صلباً للمسرحية، إلا أن إلحاح المباشرة جرّه
لإيراد الخطوط العامة للنضال القومي في أواخر القرن التاسع عشر.
ويتناول فرحان بلبل في
«العشاق لا يفشلون» أكثر من موضوع في أكثر من حبكة، وهذا في جوهره إلحاح
مباشر. ثم تجاوزت رياح المباشرة المألوفة، فكان المسرح النقدي الذي لبى
بادئ الأمر رغبة صادقة في التصدي للأوضاع العربية الراهنة بعد النكسة، ولكن
تجار المسرح موضة الصالات والتجمعات الفنية التي لا تثبت للزمن فغلب التوجه
النقدي للمشكلات الصغيرة بعد نقد الإرهاب السياسي، وفي الحالين، لا يقدم
المسرح الحقيقة للجماهير، وقد يفرغ شحنة إحساسها بمنغصات الحياة دون أن
يبنيها البناء المطلوب. وهذا هو حال مسرح دريد لحام وبقية الفرق الخاصة.
- 8-
لقد أثار مهرجان دمشق للفنون
المسرحية والندوات التي أقيمت على هامشه مختلف المشكلات التي تواجه تقدم
المسرح العربي، وهو ما فعله مؤتمر المسرح في الوطن العربي (دمشق 15-
22/5/1973)، وندوة الحمامات بتونس (25- 30 أيار1970)( ). وفي حين أشار
بعضهم إلى أن بعض أزمة المسرح تكمن في تشابك الرؤى المسرحية، والعجز عن مثل
هذه الرؤى( )، نطر كثيرون إليها في إطار الأزمة العامة سواء في النص أو في
علاقة الدولة بالمسرح، والصحيح أن معاناة المسرح داخله وجه آخر لمعاناته
خارجه.
وإذا ما تجاهلنا الأمنيات
الكبيرة، فإن استمرار الحفاظ على ما تم إنجازه يبدو مهمة وطنية، إن المسرح
هو فن التواصل مع الجماهير قبل أن يكون فناً راقياً ومن شعبيته تنبع قيمه
الثقافية والتربوية. ويحدثنا أغلب المهتمين بشؤون المسرح عن هذه الشعبية
التي تجذب الجماهير إليه، وقد يغفل العاملون فيه زمناً عن الأهداف، ولكنهم
قطعاً سيعودون إليها بأساليب أكثر نجاعة وبحماسة فائقة، وبعد حرب تشرين عام
1973 اكتشفت المسارح العربية فجاءة أن ما تقدمه لا يصلح للجماهير، فغيرت
عروضها لتلائم الأوضاع الجديدة.
إن الحساسية السياسية
والاجتماعية تطغى على أعمال طلائع المسرح العربي، وتعطي بحث المسرح القومي
عن جذوره في تاريخ الشعب العربي وحياته أهمية تاريخية. وما الالتصاق بروح
الشعب أو تراثه إلا شكل من أشكال هذا البحث. إن المسرح العربي المعاصر
ظاهرة حية في حياتنا من خلال توجهه الوطني أولاً، ومن خلال بحثه الدؤوب عن
مسرح متميز ثانياً مما دعا فصيلة المسرح العالمي إلى القول: «وإذا كان رجال
المسرح في الوطن العربي يحاولون اكتشاف شكل في المسرح، بناؤه مختلف عن
القصائد والشعائر، فلأنهم يعملون في سرعة فائقة»( ).
-9-
إن حاضر المسرح العربي يعني
البحث في شؤون المثاقفة والتأصيل وشجونها أيضاً، وفي هذا المجال، سأكتفي
بالتعليق على مجهودين الأول لعبد الكريم برشيد والثاني لعلي عقلة عرسان
لأهميتهما في توضيح الموقف النقدي من قضية المسرح العربي نظرية وممارسة.
ينخرط مجهود عبد الكريم برشيد
في إشكالية المثاقفة، فهو ينظر للمسرح العربي من منطلق تجديد الظاهرة على
نحو تجريبي. بينما يتوجه علي عقلة عرسان إلى وضع الظاهرة في إطارها
التاريخي، لأن وعي الذات هو محك التأصيل والمعاصرة في الوقت نفسه.
يسمي برشيد اتجاهه بالواقعية
الاحتفالية، فالشيء الأساسي بالنسبة إليه هو خلق احتفال، خلق تظاهرة فنية
مسرحية. ويقول: «إنني أحاول أن أميز بين نوعين من التجريب هما: التجريب
المختبري، والتجريب الميداني، ذلك أن أوربا عرفت مجموعة من المسارح الصغيرة
التي تسع مائة كرسي والتي تقدم لجمهور نخبوي ضيق والتي تحاول أن تقدم تجارب
مخبرية على المستوى المحدود، ولكن هذه التجارب لا يمكن أن توافق المجتمع
العربي. وفي المقابل، فإني أدعو إلى تجريب آخر، تجريب ميداني ينزل إلى
الناس، يحاول أن يدرس لغة الشعب وتراثه وروحه وعقله من أجله أن يوجد هذه
القاعدة أو هذه القنطرة التي يمكن أن توصله إلى الآخرين، والشيء الذي يمكن
مشاهدته هو هذا الانفصام الحاصل بين المبدعين في العالم العربي وبين القراء
والجمهور بصفة عامة، وحتى نحدّ من هذه الهوة فلابد إذن من إعطاء فن يراعي
عقلية الشعب العربي ويراعي ظروفه التاريخية والمجتمعية والاقتصادية». ومن
جهة أخرى، يحاول برشيد أن يوظف التراث توظيفاً جديراً يعتمد على اتخاذ
الشخصيات التراثية مجرد أقنعة، تخفي خلفها مجموعة من القضايا وبذلك «نستطيع
أن نجد شخصيات مثل عطيل وقراقوش وشهريار وزرقاء اليمامة وسواها من
الشخصيات، هذه الشخصيات: التي تصبح كمعادلات مسرحية لأشياء أخرى، فعطيل هو
المعادل المسرحي لكل إنسان العالم الثالث، وهذا الإنسان الذي نجده حالياً
في المناجم الأوروبية، وفي معامل السيارات، وكأجير حقير في الغرب، والذي
وجدناه كمرتزق في الحرب العالمية الثانية عندما فرض الاستعمار الفرنسي على
أبناء أفريقيا أن يحاربوا في فيتنام أو ألمانيا. لذلك فقد وجد الإنسان
المغربي أو إنسان شمالي أفريقيا نفسه يحارب الفيتنامي ويحارب شعباً ينتمي
إلى قدره نفسه وإلى ظروفه التاريخية نفسها.
كذلك، فإنني أسعى إلى إيجاد
واقعية احتفالية، أي إلى نوع من السوريالية التي تحاول أن تصور الواقع من
خلال مجاوزته، لأن الفنون أساساً تقوم على هذا التحدي، تحدي قانون السببية،
قانون الجاذبية، تحدي القوانين السياسية، فالتحدي هو الشيء الأساسي في الفن
المسرحي أو في الاتجاه الذي أدعو إليه. إذا أخذنا الفنون الشعبية فإننا نجد
أن الساحر دائماً يحاول مجاوزة الواقع من خلال إعطاء صفات جديدة لأشياء
جاهزة فيحول الحمامة إلى منديل. من هنا، كان المسرح ينهض من عملية كيماوية
فيحول فيها الأشياء إلى أشياء أخرى باعتبار أن الكتابة المسرحية كالتخطيط
الخرائطي يقوم على تكوين نسبة معينة، إيجاد رموز معينة، لأن الجبال كما هي
في الواقع تتحول على الخريطة إلى مربعات أو دوائر أو مثلثات وغير ذلك. لابد
للمسرح أن يقوم على المعادل المسرحي، أي أن يحول الأشياء المادية إلى رموز
وأقنعة حتى يمكن أن تتواصل مع الجماهير.
إن مجهود برشيد يصب في موجة
اليأس الذي غمر غالبية المسرحيين العرب، فأشاحوا عن الماضي إلى الانخراط
الكلي في تجربة الغرب المسرحية المأخوذة عن إنجاز المسرح اليوناني، وهكذا،
انتصرت فكرة «المثاقفة» في تقديم مسرحيات حسب المفهوم الأوروبي، وخفت صوت
التأصيل قبولاً لواقع الحال، وشاع رأي مفاده أننا ندور في حلقة مفرغة،
واكتملت الدائرة في إعلان العجز هنا وهناك عن الهدف ألا وهو خلق مسرح عربي
أصيل( ). وما فعله برشيد هو تجميل واقع الحال بنبرة تراثية ممزوجة بإيقاع
عصري. على أن باحثين آخرين لم يركنوا إلى الصمت، فصدر كتاب لمستشرقة
سوفييتية رأينا فيه جهداً كبيراً هو دفاع عن الثقافة العربية وأصالة المسرح
العربي على الرغم من تكريسه لمتواتر القول لدى المسرحيين العرب، ومن
اشتغلوا في تاريخه، عن المسرح العربي، أمثال محمد يوسف نجم وسلمان قطاية،
فصح فيه القول: إن بضاعتنا ردت إلينا( ).
انتهى علي عقلة عرسان في هذا
الوقت بالذات، سنوات السبعينيات، من البحث في «الظواهر المسرحية عند العرب»
إسهاماً في تجلية الصورة الغائمة التي شاهت ملامحها على أقلام الدارسين،
وفي آراء الباحثين، إذ لم يتوافر لهذه القضية من يعود إلى الأصول ويستنطقها
المسار التاريخي الذي ينفع في وصل ما انقطع، وفي إقامة الدليل تلو الدليل
على مسيرة إمكانية مسرحية لا تزال غائصة في بطون الشواهد والمصادر
المختلفة. يؤكد عرسان وجود الظاهرة المسرحية، «ولكنها لم تتطور كما حدث
لبدايات ظاهرة المسرح في اليونان، التي شكلت بعد تطورها المسرحية اليونانية
من تراجيديا وكوميديا، وأصبحت الآن، الشكل الدرامي العالمي».
ويرى عرسان أن الأسباب كامنة
في طبيعة الثقافة العربية والإنسان العربي، «لأن لكل شعب أسلوبه في التعبير
والتوصيل والفرجة، في التأثر والتأثير والنقل، وفي الوصول إلى المتعة
والمعرفة.. وليس للفن قوانين العلم الصارمة التي لا يختلف عليها اثنان في
العالم.
وهكذا، استجلى عرسان الظواهر
المسرحية، محللاً حيناً، ومقارناً مع غيرها في تجارب الأمم والشعوب حيناً
آخر حيث ينكشف المسار النقدي عن التطور داخل الظاهرة إلى تكاملها
واستيعابها لعناصر المشهدية المسرحية من فئة المنذرين إلى فئة القصاصين
وأصحاب الحكاية وأهل المقامات إلى مسرحية الرؤيا في الإسراء والمعراج
ورحلات المتصوفة إلى حلقات الذكر الصوفية إلى الاحتفالات الجماهيرية
المتنوعة مثل عاشوراء والتعزية واحتفالات المولد النبوي، والسيارة وموسم
جمعة برزة أو خميس المشايخ، وأعياد النيروز، والقصاصين الشعبيين، والكرك أو
الكرج وهي استخدام لأنواع من المحاكاة والتمثيل( ). وبعد هذه التجلية
للأصول، تتضح حدود التراث المسرحي العربي، وتتضح قابلية التطوير، وهذا يعني
أن الوعي بالتاريخ في أساس النهوض المسرحي.
إن استعراض المشهد المسرحي
العربي يقودنا إلى النتيجتين التاليتين: الأولى: مجاوزة جهود التأصيل حدود
إعادة التراث إلى وعي جوهر استعادته لأن المهم هو وعي الظاهرة من أجل
تطويرها والثانية: اتساع الموقف النقدي الشامل من الغرب نحو تقويم العلاقة
معه (المثاقفة)، وهذا واضح في الحوار الدائر حول الاستشراق عموماً، وحول
تراجع المؤثرات الأجنبية لصالح المؤثرات الثقافية عن أصالة.
[مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق)
حزيران 1982]
2
المسرح العربي في المغرب
بيَن التقاليد والتجديد
-1-
يحتل المسرح في المغرب مكانة
خاصة في مجمل الحركة المسرحية العربية، ويجري باستمرار تقدير جهد الفنانين
المغاربة وهم يتقدمون المسرح العربي بحثاً وتجديداً وبخاصة في الممارسة
المسرحية حيث يتوفر على المسرح المغربي رجال مشهود لهم في التأليف
والإخراج. لقد فتّق هؤلاء المسرحيون مكامن المسرحية، وأضاؤوا ـ حيثما حلوا
ـ مكاناً مظلماً يخرج منه جمهور كبير يرضى وينتفع. ويروي لنا من عايش
مغامرة المسرح في المغرب ـ أمثال الدكتور سلمان قطاية ـ حكايات طويلة عن
صلابة الإرادة وقوة الانتماء من أجل بناء مسرحي شاهق باعتباره إسهاماً
حضارياً بالدرجة الأولى. وقد أجاب هؤلاء المسرحيون على بعض أسئلة المسرح
العربي مبكرين: استمداد عراقة الماضي ورؤيا المستقبل، وهذا كله لا يخفى على
عشاق المسرح. فقد شاهدنا عروضاً مغربية للطيب الصديقي وأحمد الطيب العلج
وعبد الكريم برشيد وغيرهم، وشاهدنا أيضاً عروضاً محلية لبعض المسرحيات
المغربية مثل «السعد» و«حليب الضيوف»، وكان استقبال الجمهور لها في المرات
جميعها باعثاً على الإعجاب والتقدير حتى غدا المسرح المغربي ماثلاً للعيان
حين يدور الحديث عن جديد أو نفيس في المسرح العربي. فهل هي صورة ناصعة حقاً
أن تتقدم الحركة المسرحية في المغرب العربي على مثيلاتها؟
إن الإجابة السريعة تفضي بنا
إلى حقيقة مفادها أن المسرح في المغرب، مثله مثل المسرح العربي عموماً،
مشغول بدواعي نهوضه، ومايزال يعاني من المشكلات نفسها، وهو ما يكشف عنه
كتابان حديثان عن المسرح المغربي، الأول لأديب السلاوي بعنوان «المسرح
المغربي، من أين وإلى أين»( )، والثاني لعبد الرحمن بن زيدان بعنوان: «من
قضايا المسرح المغربي»( )، والكاتبان من المغرب العربي، وقد طبع الكتاب
الأول بدمشق، بينما طبع الثاني في مكناس، وستكون لنا وقفة، من منظور بحثنا،
مع هذين الكتابين للتعرف على واقع المسرح المغربي عن كثب، لأنهما الأحدث في
معالجة تطور المسرح المغربي( )، على أن نستكمل مناقشة بقية الآراء، لنستخلص
من ذلك كله قضية المسرح العربي في المغرب بين التقليد والتجديد.
-2-
يفتتح السلاوي كتابه بإقرار
مشكلات ماتزال تؤرق العاملين في المسرح العربي، وفي مقدمتهم رجال المسرح
المغاربة، فيؤكد أن تاريخ المسرح العربي لا يتعدى قرناً من الزمن، ثم يقرر
أن «هذه حقيقة لا جدال فيها» مما يلقي بعض الظلال على دراسته، وإلا متى
أصبحت هذه المسألة حقيقة ولا جدال فيها أيضاً؟ أنه يقرر هذا كله في السطر
الأول من الكتاب، ثم يقرر حقائق أخرى كثيرة ماتزال موضع نقاش. هكذا ببساطة،
يصادر الباحث أفكار المتلقي عن فكرة المسرح العربي باعتباره هو مرجعاً لا
يرقى إليه الشك أو مجرد الجدال أو المناقشة أو الحوار، وهو أمر يجافي البحث
العلمي، عندما نعرف أن المسرح العربي مايزال ـ في أحسن أحواله ـ نبتاً
مهملاً في التاريخ، وفي الواقع، يحتاج إلى عون ورعاية القائمين عليه، وإلى
غيرة محبيه ممن هم على الخشبة أو بين صفوف الصالة. لذا، لن نفاجأ قط أمام
أحكام المؤلف القاطعة، وهي غالباً أحكام قيمة بشأن المسرحية والمسرحيين في
المغرب العربي، بينما النقد يسعى في مسعى آخر.
والحق، أن هذه الآراء تشير
إلى طوابع الكتابة النقدية في المغرب، ولا نستغرب في هذا المجال تباين
الرأي الواسع في تقويم «وجه» أو «اتجاه» أو «الحركة المسرحية» بعد ذلك.
يوزع أديب السلاوي كتابه إلى
الفصول التالية: ماذا لا نريد من المسرح، مسرح الهواة في تجربة المسرح،
المسرح الاحترافي: ما له وما عليه، التأليف المسرحي في المغرب، إطلالة على
اتجاهات الكتابة المسرحية، اتجاهات الإخراج المسرحي بين التراث والمعاصرة،
ما هو مستقبل المسرح في بلادنا، الوضعية المسرحية... بديلها. وهناك فاتحة،
ربط فيها بين موضوعه بواقع المسرح العربي، فتحدث عن النهوض المسرحي العربي
في القرن التاسع عشر، وانتقل إلى رافد آخر لهذه «المسيرة المظفرة» مسيرة
المسرح العربي، ويتمثل هذا الرافد بظهور مجموعة من الفرق المسرحية الشرقية
وبتأليف فرق وطنية عام 1923م، من قدماء تلاميذ مدينة فاس وسلا والرباط
بتشجيع من العلماء والأدباء، والوجهاء الذين رأوا في المسرح خدمة للغة
العربية، وتهذيباً للذوق الجميل» (ص8).
واليوم أصبح للحركة المسرحية
في المغرب «أعلامها وروادها، وتقوم على فرق هاوية ومحترفة، ومراكز للتخصيص
المسرحي، وكتاب ونقاد ومختصين في الإخراج والإنارة والديكور والملابس،
,مسارح وقاعات ومسؤولين». ثم يطرح السلاوي السؤال التالي: «هذه الحركة، هل
تحتاج إلى تقييم، وإلى وقفة تاريخية للنقد الذاتي، ولتركيزه؟».
ويجيب: «فإن البحث في
أغوارها، وتقييمها من الداخل أضحى مسؤولية تاريخية يتحملها النقاد قبل
غيرهم من الأدباء والمفكرين» (ص11). فكان هذا الكتاب هادفاً ـ كما يرى
مؤلفه ـ إلى خلق حوار جديد ورؤية جديدة لهذه الحركة ولمفعوليتها التاريخية
والفكرية بين رجال المسرح والنقاد من جهة وبين جمهور المسرح ورواده من جهة
أخرى.
يؤكد السلاوي على مصاعب
البداية المسرحية العربية من خلال التفاعل والتأثير المبكر بين المشرق
والمغرب، فالمسرح ابن أواخر القرن الفائت وأوائل هذا القرن، ويؤكد في الوقت
نفسه على حاجة المسرح العربي في المغرب إلى حوار الماضي والحاضر. ثم يكرس
غالبية صفحات كتابه للتنظير على حساب التحليل والتطبيق المراجعة، وهذا
الولع بالتنظير لا ينير الحركة المسرحية، ولا سيما مكرور القول دون تمحيص
كاف لأفق الممارسة المسرحية كما هو الحال عند السلاوي.
أن فصل «ماذا نريد من المسرح»
يعيد صياغة أسئلة الموسم المسرحي، ويستطرد، وهي أسئلة مبثوثة في ثنايا
الفصول الأخرى تعكس تعلق المؤلف بالكلمات الكبيرة وإصدار الأحكام القاطعة
كما هو الحال في قوله: «إن مسرحنا يتحرك في اتجاهات ثلاثة:
- اتجاه يهدف إلى إرضاء
الجمهور الكبير، فيعمل على إضحاكه، وضياع وقته بما لا علاقة له بالمسرح
ومفهومه.
- واتجاه، يقلد موجة التجديد
التي تعم العالم الغربي، فيفلسف الأشياء أو يشكلها بلغة بعيدة عن جماهيرنا،
وعن قضاياها، ونضالاتها.
- واتجاه ثالث: يعمل على
تزييف الواقع المغربي وتقديم صور مشوهة عنه، لا تمت له ولقضاياه ولواقعه
بصلة.
من هنا، من خلال هذه الحصيلة
التي تكررت خلال سنوات طوال، تتضح لنا صورة الأزمة التي يعيشها مسرحنا».
(ص17).
ولعل في هذه الكلمات الكبيرة
والأحكام القاطعة تشخيصاً للظاهرة: الولع بالتجديد على حساب التقاليد،
فهناك تقليد للمسرح في الغرب، وتجاهل مطلق لرؤية الواقع والتغيير، لذلك
كانت صرخة السلاوي: «هل يكون من الضروري أن يقوم أحد بإقناع كتابنا
المسرحيين بمسؤوليتهم؟ أعتقد جازماً أنه ليس من الضروري اليوم وغداً، من
وضع منبه على دماغ بعض المؤلفين والكتاب المسرحيين الذين لا ينفكون يتشدقون
بالتقدمية والوعي، وهم عن هذه المفاهيم بعيدون ورجعيون».
ويضيف على سجيته أو هكذا عفو
الخاطر:
«إن بداية عصور الانحطاط
العربية ترجع إلى فقدان الالتزام، ثم ليس ثمة تعارض بين حرية الكاتب ـ
مسرحياً كان أو روائياً أو قصصياً ـ وبين التزامه، لأن حرية الكاتب جزء من
حرية الوطن والمواطن... الخ» (ص26).
إن منطلقات كهذه لا توفر
للنقد حدوده في التعامل مع موضوع البحث، لأنها كتابة تغفل عن معطيات المسرح
المغربي في واقعه وفي مستقبله وفي انتمائه للمسرح العربي، وتؤثر في الوقت
نفسه الانصياع للمزاج السياسي أو الشخصي، لأن هناك شواهد عديدة في التأليف
والعرض وفي تطور الحركة المسرحية المغربية تنفي هذه الأحكام، وتؤكد حقيقة
التقدم الذي يشهده المسرح المغربي وحقيقة النضال الذي يخوضه الفنانون
المغاربة من أجل مسرح عربي.
ولعل أهمية كتابة السلاوي
تكمن في ملامستها المبكرة لمشكلات المسرح الغربي في المغرب، فقد يسرت له
فيما بعد ـ كما سنرى ـ سبل محاورة الحركة المسرحية.
-3-
بينما يرى عبد الرحمن بن
زيدان أن كتابه «من قضايا المسرح المغربي» محاولة نقدية تهدف ـ في أقصى
غاياتها ـ إلى إرجاع الحركة المسرحية المغربية إلى مصادرها الموضوعية في
حركة التاريخ والمجتمع. إنه يلفت النظر إلى عطاءات رجالات المسرح في المغرب
وما تثيره من إشكالات نقدية ولا سيما بحث هؤلاء المسرحيين الدائم والمستمر
عن هوية قومية لمسرح عربي أصيل يتغلب على معوقات مسيرته، وينتزع ـ على حد
تعبير المؤلف ـ الاعتراف بشرعيته، متجاوزاً حلقات التطويق التي أرادت
تكبيله لتعوق بذلك انطلاقته وتحرره. وهنا يفترق عبد الرحمن بن زيدان عن
أديب السلاوي، فقد زاوج السلاوي بين مهمتين الأولى التأريخ، والثانية
التنظير المشبوب بعاطفة تنصاع للمزاج السياسي حيناً، وللمزاج الشخصي حيناً
آخر، أما ابن زيدان فيجمع مقالات مكتوبة في فترات متقاربة خلال سنوات
السبعينيات ليقول فكرة أو يثير رأياً حول واقع المسرح المغربي قاصداً إلى
اعتبار الثقافة، والمسرح جهاز ثقافي، أحد القوانين الأساسية من أجل
التغيير، أي الاهتمام بوظيفة المسرح في إنضاع الوعي، وهكذا كانت إثارته
لمشكلات الممارسة المسرحية، وإغفاله لنسق تاريخي معين في اختيار المسرحيات
التي جرى تحليلها، وسنلاحظ أيضاً، مدى انطباق هذه الطريقة على كتابته
النقدية: سلامة المنهج في تحديد الإطار الاجتماعي والتاريخي والتعامل مع
المسرحيات من الداخل لبلورة بعدها الدلالي والمعرفي. في الكتاب فصول كثيرة
حول مسرحيات ومسرحيين وبعض الظواهر والقضايا، ومن الملاحظ أنها جميعاً
مقالات أو مراجعات أو متابعات في أحسن الأحوال. ولكنها على الرغم من طابعها
السريع في استخلاص الأحكام، تقدم صورة طيبة عن وضع المسرح المغربي اليوم:
استطلاع أبرز الأعمال ورؤيتها في تركيب يجمع الملاحظة على الملاحظة ليكون
بعد ذلك كله تعريف بالمسرح المغربي في مشكلاته الراهنة: صراع مستمر بين
التأصيل والتجديد، مع تركيز واضح على نبرات التجديد المسرحية لدى أبرز وجوه
السبعينيات على وجه الخصوص. إلا أن هذا لا يعفينا من الإقرار بأن رؤية عبد
الرحمن بن زيدان غائمة وعناصر تركيبها متباعدة، فلا ينتج في ظلها إلا تعريف
لا يفي بالحاجة، ولا يسعف الغرض.
في «إطلالة على هموم المسرح
المغربي»، ثمة مقالة حول تنشيط المسرح والحركة النقدية حيث يؤكد المؤلف
ظاهرة «فقدان يقين أيديولوجي، وشكل جمالي متقدم» (ص9). في الحركة المسرحية
المغربية. وفي الوقت نفسه، لا يفسر هذه الظاهرة أو يعللها من خلال المشهد
المسرحي. وهذا شأن المؤلف في غالبية مقالاته، فهو يبدي ملاحظات ولا يدعمها
وضوح الفكرة أو دقة الرأي، ولا تستند إلى تفاصيل واقعية. في حديثه عن
«ظاهرة الاقتباس في المسرح المغربي» يذكر نوعين من المسرح، النوع الأول
المسرح الذي يعيش على هامش المشكلات الحياتية عندنا، أما النوع الثاني فهو
الذي يتطرق إلى عرض المشكلات بجدية وعمق ويمثل هذا النوع فرق الهواة، ومن
الواضح أن هذا التصنيف لا علاقة له بالاقتباس. ومن جهة أخرى، يؤكد المؤلف
في صفحات تالية، أن الاقتباس أمر آخر يختلف عن تشخيص موضوع هذين النوعين من
المسرح، «فالمشكل ليس مشكل اقتباس وكفى، أنه بالضرورة التعبير عن عصر، عن
مجتمع، عن ظروف. مشكل ارتباط بالتراث ومحاولة اكتشاف ما هو إنساني وجديد،
وليس الاكتفاء بتحقيقه.. وما الاهتمام بالفنون الشعبية التي اهتم السيد
الطيب الصديقي بإحيائها ونفض الغبار عنها، وإغناء المسرح بها إلا من قبيل
التقدير لقيمة التراث المسرحي عند الشعب العربي» (ص23).
لقد عاد ابن زيدان في تقليبه
لمشكل المسرح إلى الهم المشترك للمسرحيين المغاربة: الأصالة أو التراث على
وجه التحديد، فلا تقاليد خارج تراث أو أصالة. ويضيف المؤلف: «فعملية
الاقتباس الجيدة، تعتبر محاولة لتطعيم مسرحنا باتجاهات جديدة وبدماء جديدة
متحررة من قيود الكلاسيكية ومن التأطيرات المتقولبة في الأفكار المغلقة
المتقوقعة. أن هذه العملية تحاول أن تؤقلم الأعمال العالمية مع مفهوم
مغربي. وهنا نذكر السيد الصديقي الذي يمتاز بخاصية الاقتباس الناجح:
«محجوبة»، «في انتظار مبروك»، «مذكرات أحمق» حيث يظل وفياً للمحتوى
الغوغولي للمسرحية، خلافاً لما هو مألوف في النوع الأول الذي يضم الفولكلور
والأساليب المبتذلة، واللغة التي لا تؤدي إلى أي وحدة تسهل فهم المحتوى»
(ص23).
وحين يدرس ظاهرة الهواة يكرس
المؤلف صفحات مقالته للعروض عموماً، ولأطروحاتها الفكرية خصوصاً، بينما
تستدعي دراسة هذه الظاهرة البحث في أساليب تنظيم عمل فرق الهواة وطبيعة
البرامج التي تقدمها موسمياً ومكانه ذلك كله في المسرح المغربي.
يقول المؤلف: لكن الذي يمكن
أن يؤخذ على أغلب الفرق المشاركة هو وضعها بعض الحلول النهائية للمسرحيات..
ونحن نعرف أن المسرح الآن يعتمد على طرح التساؤلات ليترك المجال للمتفرج
لاتخاذ قرارات تكون على ضوء التعرية للواقع كما أن المسرح وقبل أن يكون
عطاء فنياً وشريحة لمجتمع هو دراسة تكون على ضوء حاجيات المجتمع والإنسان
إذا نحن أردنا منه أن يكون ظاهرة فنية تخدم الوعي الشعبي بل ويكسب لنا
جمهوراً نعتبره شريكاً للممثل في المسرحية» (ص33).
وفي مقالة «حول التركيب
النظري للمسرح المغربي»، يواجه ابن زيدان المشكل صراحة ويرصد الجهود
الدائمة للبحث عن الهوية، «فقد جرب المسرح المغربي عدة أشكال تعبيرية بقصد
البحث عن هوية متميزة وشخصية متكاملة خصوصاً بعد أن لمس رجالاته فراغاً
مهولاً تشتكي منه الحياة الثقافية على هذه الواجهة» (ص81).
إن عبد الرحمن بن زيدان يضع
يده على بعض الحقائق، ولعل أبرزها انفصال الوعي السياسي عن الوعي الفني،
أولاً. إرساء وسائل تعبيرية ثانياً، غلبة طابع الإخراج الإيطالي (الكوميديا
ديلارتي) ثالثاً، تبني فكرية مسرح الاحتفال، وهو في جوهره إحياء تراثي في
إطار التجديد، رابعاً. انتعاش الأشكال التجريبية، خامساً. وعلى الرغم من
هذه الحالات التي تشير إلى وضعيات مختلفة، فإنها تمتزج بتطورات المسرح
العربي في المغرب، وتسهم إلى حد كبير في تكوين مسرح وطني.
وعن «المصادر الفكرية للمسرح
الاحتفالي»، يربط المؤلف الاحتفال بالظاهرة المسرحية أساساً كما تتجلى لدى
المسرحي عبد الكريم برشيد حيث السعي لتحقيق تركيب نظري ليس فقط لعدد من
المسائل التي يشتمل عليها موضوع بحثه، وإنما إدخال فكرة ـ وحدة الشعور ـ أي
وحدة الشعور بين المشهد والمشاهدين، بين الرمز المسرحي وحجمه ومساحته، في
إطار الكشف عن مأساة الإنسان والصراع الذي يدور بينه وبين براندللو. «إن
المسرح الاحتفالي هو في أساسه مسرح شامل ولذلك فهو بالضرورة يفترض جمهوراً
شاملاً (؟) ولقد توسل العمل الدرامي إلى ذلك عن طريق إيجاد قواعد وجسور
تربطه بالجمهور، وتمثيل هذه القواعد في توظيف مجموعة من الاحتفالات الشعبية
المحملة بأهازيج وتقاليد مختلفة» (ص102).
من الملاحظ، أن السلاوي وابن
زيدان لا يختلفان كثيراً في تشخيص الوضعية المسرحية في المغرب، فمايزال
هناك تناقض بين الواقع والرجاء مما لا يفضي إلى تركيب ناجز فيه هوية واضحة.
-4-
نستطيع أن نتلمس عناصر الواقع
وملامح التغيير في المواقف التالية:
1- الموقف من التراث أو
التأصيل.
2- الموقف من الغرب
أوالتجديد.
3- الموقف من التجربة كما
تمثلها معطيات المشهد الثقافي كالتأليف والاقتباس أو الاحتراف والهواية.
إن بداية المسرح العربي
الحديثة واحدة في المشرق والمغرب، وتكاد كلمة علي الراعي تلخص مشكلات
البداية المستمرة، فقد قال في معرض حديثه عن المسرح المغربي: «رغم تنوع
وغنى الفولكلور المغربي في ميدان الظواهر المسرحية، وهي مسرح الحلقة ومسرح
البساط واحتفال سلطان الطلبة، فإن المسرح بدأ في عشرينات القرن الحالي
بالطريقة ذاتها التي بدأ بها في الأقطار العربية الأخرى»( ) والنتيجة هي:
أن المسرح العربي يدير ظهره للتراث ويعتمد الصيغة الغربية للمسرح، وتتكرر
البدايات، وهو يردد ما يشكو منه العديد من الفنانين والباحثين، فهناك قلة
النصوص العربية المؤلفة، وظاهرة العودة إلى البداية بعد كل نهضة مسرحية،
فالمسرح العربي ـ في رأي عبد الله شقرون ـ ينهض ويزدهر ثم لا يلبث أن يخبو
فيعود إلى نقطة الصفر من جديد»( ).
-5-
يردد عدد من الباحثين ببساطة
أن «المسرح المغربي تراث واقتباسات وتنسيق وأخيراً تأليف»( ) أي أن جهده
الأساسي موروث موصول بالغرب، وهذا واضح أيضاً في طرق الأداء المكتوب،
وأشكال التجسيد الفني. أجل، إن النتيجة هي إحياء الأشكال التراثية في
التشخيص أو المشاركة الجماعية ضمن أضواء الغرب في إطار مفهوم «المثاقفة»
إياه، فكأننا نجتلب المسرح إلى أرديتنا وقلوبنا وعواطفنا اجتلاباً دون
تمييز بين استمداد مفهوم، أو دربة حرفة، أو إتقان تقنية، أو معرفة خبرة،
فكانت المزاوجة بين موروث وتجديد طلباً للتقاليد. وقد أوضح حسن المنيعي هذه
المعضلة لدى تقويمه لفن الطيب الصديقي في قوله: «فمن الأكيد أنه أول من
أتخمنا بفرجات عديدة، وجعلنا نساير مغامراته وتجاربه التي تستلهم تقنيات
الغرب وأشكاله الدرامية (المسرح العبثي والوثائقي والاستعراضي.. الخ)،
وتوظيف عناصر التراث (الحلقة - البساط - المقامات).
ثم يستدرك:
«ومع ذلك فإننا نؤاخذه نظراً
لما ينطوي عليه مسرحه من «مغالطة»، لأنه لا يتعدى جانب الإبهار الفني، ولا
يبدو سوى متعة جمالية كثيراً ما تخلو من التنوير الفكري والمضامين
الاجتماعية التي تنتقد الأوضاع، وتتلفظ بجوهر القضية».
إنه السقوط في وهدة المستوى
الشعاري، إذ يصير المسرح إلى مجانبة الطبيعة الفنية فلا يستوعب الأداء أو
التجسيد أكثر من ذلك التوجه المباشر للخطاب السياسي والاجتماعي. هو التناقض
بين تقليد وتجديد. في تاريخ موجز، المسرح يتلفع بالجديد ولا يفلح. وقد ذكر
باحث آخر أن المشكلة في الانطلاقة، «فليس مصادفة في شيء أن ينطلق المسرح في
المشرق العربي من موليير، ثم بعدها بمائة عام، يتبع المسرح المغربي النهج
نفسه ليعود إليه مرة أخرى خلال الموسم الأخير»( ).
ويضيف فاضل يوسف:
«تاريخ المسرح التقليدي
بالمغرب، لا يمكن الإشارة إليه لا عبر بعض الأسماء وبعض الأسماء التي تشكل
تحولاً من أي نوع بقدر ما كانت علامة على استمرار نمط معين من الإنتاج
المسرحي. لقد كتب الطيب العلج، على سبيل المثال ـ عشرات المسرحيات، أما عن
موليير أو عن غيره، وأما على المنوال نفسه، وقدم البدوي عشرات المسرحيات،
أما عن موليير أيضاً أو غيره وأما على النسق نفسه»( ).
هكذا تؤكد تجربة المسرح
الغربي في المغرب أن التقاليد هي وعي الممارسة المسرحية في بيئتها ومجتمعها
مستندة إلى خصوبة التعالم مع الأصيل والراهن، ما دام التطور سبيل المسرح
شأنه شأن النشاطات الإنسانية الأخرى، بينما لا يزال التناقض قائماً لدى
نقاد هذه التجربة بين النظرية والتطبيق، مما يضاف إلى التناقض الحاصل بين
التقليد والتجديد. يصوغ السلاوي رأيه على نحو نظري ممتزج بشهوة الخطاب
السياسي: «أن المسرح عندنا لا يستطيع أن يسمو لنفسه الآن بتقليد مسارح
التجربة في فرنسا، ولا مسارح «الحدوث» في أمريكا، لأن هذه الأنماط من
المسرح ما تزال تبحث لون تتبناه لنفسها، فليست لها بعد تقاليد، ولا فلسفة
ولا هدف، بينما نحن في مرحلتنا هذه نحتاج إلى مسرح له تقاليد ثابتة، وفلسفة
واضحة، وأهداف بعيدة».
ولكنه، لدى التطبيق على تجربة
المسرح الاحتفالي يبتعد عما رسمه ويختلف:
«من هنا، نرى أن المسرح
الاحتفالي العربي لابد له من هدم الإدراك الفولكلوري واستلابه وتحويله إلى
إدراك جديد، يقوم على أرضية المشاركة الوجدانية للإنسان العربي المعاصر،
وهذا لا يتأتى دون الاستفادة من تراث الإنسانية وتجاربها في الميدان
المسرحي»( ) فكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا. وتبقى الأسئلة مرتفعة: التلقي
أم المشاركة؟ الإيهام أم نفيه؟ التراث أم إدراكه؟
إنه الارتماء في وهدة المستوى
الشعاري الذي يحوّل التجربة إلى مجرد صياغة لفظية بمعزل عن ممارستها على
خشبة المسرح، وبين جماهيره، يتبدى الموقف من التراث على النحو التالي:
أولاً: استمداد نظري واسع من
أشكال التراث المختلفة، ولا سيما الشعبي، على نحو انتقائي حيناً، وتزييني
حيناً آخر، وباسم الاتصال بالجماهير حيناً ثالثاً.
وقد اختلف المسرحيون في تسمية
هذا الاستمداد، فهو استلهام للتراث حيناً، وإعادة للتقاليد حيناً آخر،
واقتباس حيناً ثالثاً. بهذا، لا نقع على استعادة للظاهرة المسرحية، فضلاً
عن صعوبة تحديد مفهومها وتباين النظر إلى استخدامها في المسرح الحديث. ثمة
حيرة بادية بين التراث بوصفه حاضن التقاليد من جهة، والتجديد من جهة أخرى.
لقد استفاد هؤلاء المسرحيون من جوانب الاحتفالية والمشاركة واللغة وأسلوب
التناول، ولكنهم لم يبلغوا الشأو المرجو في صياغة شخصية فنية مستقلة هي
السبيل للهوية المسرحية.
ولقد اتهم عدد كبير من النقاد
والباحثين عبد الكريم برشيد، وهو الكاتب الأبرز في اتجاه الاحتفالية،
بالتعامل الفج مع التراث لغلبة الاقتباس (الأخذ من الغرب) أولاً، والوقوف
عند حدود «الفرجة» ثانياً. وفي بحث للمسناوي أحمد ثمة عرض لمثل هذه الفجاجة
في قوله: «انبهر العالم الغربي بتنظيرات بريخت المسرحية وانطلقنا نردد
الصدى، ونلهث وراء عملية تجريبية أخرى متعلقين بجماليات الشكل المسرحي.
ورغم أن برشيد يحسن استغلال الأشكال الجديدة، وبناء الحدث الدرامي في مسرحه
الاحتفالي كبديل لغياب مسرح مغربي جاد المحتوى، رغم ذلك تبقى اطروحاته فجة،
ويظل تعامله مع التراث لا يخدم طبيعة المرحلة التي تتحدانا»( ).
والسبب هو أن احتفالية
بريختية (فكرة التواصل - تكسير الإيهام - مفهوم الاغتراب - إعادة عنصر
الدهشة) ومن يوسف إدريس (المسرح - احتفال - مهرجان - اجتماع كبير)، فهو إذن
مجرد توفيق لنظرة متواترة هيا لجمع الشكلاني بين الأصالة والمعاصرة، بينما
تبدو الحاجة شديدة لنقد الأشكال المسرحية الأوروبية، والاستيعاب الجيد
للتراث. «أن هذا التعامل الفج مع التراث، لا يساهم في تطوير وتأصيل الفن
المسرحي عندنا. ولا يخدم طبيعة المرحلة الحضارية الدقيقة التي تجتازها
أمتنا العربية»( ).
ويلخص السلاوي في دراسة أخرى
هذه الحيرة بين ماض وحاضر، بين اقتباس الماضي، واقتباس الحاضر (الغرب):
«ولا نشك في أن تلك
الاحتفالات، بما تمتاز به من أصالة ومن فنية، وحبكة، ودراماتيكية، تستحق من
المسرح المغربي وقفة طويلة، لا لكونها احتفالات شعبية، ولكن لأنها فنون
درامية أصيلة متجددة، على هذا المسرح أن يعانقها ويمسرحها بالمفهوم المعاصر
لكلمة مسرح».
لا يبتعد السلاوي عن مجمل
النظر إلى قضية التراث الذي يطمح إلى استعادة، ولكنه لا يظفر بأكثر من
إعادة لبعض الظاهرة أو الظاهرة كلها ثم لا يكون من الإعادة مشهدية أو
مسرحاً، لذلك يضيف السلاوي مسوغاً العجز عن الإنجاز، ومردداً لرغبة الطموح
القائم: «أن المسرح المغربي، كالمسرح العربي، ولد من النقل والاقتباس،
ولذلك فعلينا أن نحافظ على شكل هذا المسرح (يريد المقتبس)، أما روحه وأسسه،
فعلينا أن ننقله من تراثنا المتواصل المتواجد، الذي لا يخلو من العنصر
الدرامي المتحرك الذي يشكل الصورة النهائية للمسرح الحديث»( ).
يمتح هؤلاء المسرحيون من معين
مكرور القول حول النداء القديم الجديد نحو الطريق إلى الهوية المسرحية،
ويقضي النداء بإيلاء العناية للروافد الفنية القديمة ما دامت الهوية
المسرحية من الهوية القومية بعد ذلك. ولنتذكر في هذا المجال كلمة علي
الراعي التي اختتم بها بحثه عن المسرح المغربي في إطار المسرح العربي:
«وأول هذا الطريق وآخره أن
نجد لمسرحنا هوية عربية حقاً. وأن نكف عن النظر إليه على أنه أدب مسرحي في
المحل الأول. بل نعتبره امتداداً في الحاضر لروافد فنية أو حكائية وتمثيلية
بدأت من قرون وقوبلت بما لا تستحق من احتقار. روافد اعتمدت الفرجة أساساً،
وتوجهت إلى الشعب أولاً وأخراً، واعترفت به سيداً وأميراً ومالكاً للعرض،
وممولاً له. ثم سعت إلى جانب إمتاعه والترفيه عنه إلى تهذيبه ونصحه أيضاً،
وإلى إشاعة الأمل في نفوس أبنائه، فهل نحن فاعلون»( ).
ثانياً: التوكيد على حاجة
النهوض المسرحي للتراث مع الإقرار بالتنازع في تحديد مفهومه ومظانه ومكانته
في إنعاش المسرحية المغربية هناك حرص واضح على استلهام التراث أو اقتباسه
أو اعتماده في أساس العمل المسرحي، وربما كان اتجاه «الاحتفالية» ذروة
استعادة التراث بعد محاولات متعددة للصديقي والعلج والبدوي وسواهم. وفي
بحثه عن المسرح العربي بين الاحتفالية والتراث. يرى السلاوي أن التراث حاضن
للتقاليد التي لابد منها في النهوض المسرحي، وربما كان اتجاه «الاحتفالية»
ذروة استعادة التراث بعد محاولات متعددة للصديقي والعلج والبدوي وسواهم.
وفي بحثه عن المسرح العربي بين الاحتفالية والتراث، يرى السلاوي أن التراث
حاضن للتقاليد التي لابد منها في النهوض المسرحي على الرغم من التجربة
المرة والصعبة، ويذكر هذه العلامات لكي يكون المسرح ذا صلة بماضيه وأرضه:
1- من التحقيق المسرحي
البديل، فلابد لنا من الاستفادة من التراث العربي.
2- ولابد لنا من إعادة
تقويمنا لهذا التراث، وتعميق مفاهيمنا لأسس الفكر العربي ومنطلقاته (التراث
المدون والفولكلور الشعبي والمكتوب).
3- ولا محيد من توظيف مختلف
الظواهر المسرحية التي تزخر بها فنوننا الشعبية.
4- ولابد لنا من النظر إلى
هذه الظواهر على اعتبار أنها جزء من الوجدان العربي، والمسرح الذي لا
يعتمدها مقتبس ودخيل، ولا صلة له بالروح العربية.
5- ولابد أن يزاوج بين
التراثين الإنساني والعربي»( ).
-7-
وفي الموقف من الغرب، نلاحظ
ما يلي:
أولاً: ارتباط مفهوم
«المثاقفة» بحضور تراثي مدهش، فلا يستطيع المسرحيون أن ينظروا إلى الغرب،
مصدر المسرح الحديث ومعماره وتقنياته، بمعزل عن معاينة الذات الثقافية. لقد
اختلط مفهوم «المثاقفة» بمفاهيم التأثر والتأثير والتبادل الثقافي، ولم يعد
مقتصراً على علاقة ثقافة أرفع بثقافة أدنى، أو ثقافة الغازي بثقافة المغزو.
على أن التصدي لهذا المفهوم لا يستند إلى تواضع عامر أو إنجاز معلوم، بل
ينغمر بمفاخر ذاتية، ومماحكات ثقافية مطلقة أحياناً. وفي مناقشات
«الاحتفالية» الكثيرة، يدافع باحث هو أحمد سعود عن «المثاقفة» باعتبارها
خصوصية واقعية في مرحلة من مراحل التطور التاريخي، ويقول:
«تظهر لنا أهمية التعامل مع
الأشكال المسرحية التي تتميز بالطابع الجدي الهادف، وتظهر لنا كذلك خصوصية
الواقع المغربي الذي يطرح إمكانية المجاوزة، هذه الخصوصية التي تجعل من
مسرحنا مسرح مخالفاً بعد تعديل تلك الأشكال وتطويعها لتتلاءم وخصوصية
الواقع المغربي»( ).
لعل الكاتب يرى الاحتفالية
بشكلها المنسوب إلى عبد الكريم برشيد وكأنها تريد القيام على أساس انتقاد
البريشتية، فتطرح نفسها كبديل لها. ولكن الردود جدالية مترفة لا توافي
منطلق العمل المسرحي كخصوصية فنية إلا بوصفه عملاً اجتماعياً مباشراً ضمن
صيرورة تاريخية معينة، بينما للفن زمنه الخاص.
يؤكد واقع المسرح العربي في
المغرب التأزم: وضع الغرب كمنارة، والتصدي لمفهومه فحسب، ولو افترق المفهوم
عن تجلياته في واقع الحال. إذ يسبق وعي «المثاقفة» شؤون الكشف عن أقنعته
الكثيرة.
ثانياً: تبدو ملاحقة التجديد
مهمة يائسة، إذ ينبغي للتجديد أن ينبع من التطور النوعي لمسار المسرح، لأن
النقل سهل. وهكذا، لا نحصل على التقليد الذي يميت الإبداع، ويمنع المسرح من
ممارسة تأثيره الجماهيري. أما التقاليد فهي أزهى علامات الثقافة والتحضر
الدالة على حقيقة قومية وتاريخية، وقد حافظت على تأثيرها الحي والمضطرد.
لقد رأى المسرحيون أن المسرح
المغربي ـ بتعبير آخر ـ هو نتاج الاقتباس من الغرب بحجة التجديد والانتفاع
بالحداثة. ولدى دراسته للنص المسرحي في المغرب، يقول السلاوي:
«أننا بالرجوع إلى تلك
الأعمال، لا يمكن أن نقول سوى أنها محاولات في ميدان مطابقة النص، هي أقرب
إلى التشويه والتحوير منها إلى المطابقة الصحيحة، إذ أن أغلب «المقتبسين»
أخذوا فكرة المسرحية، وبعض شخصياتها وألبسوها فكرة مغربية مشوهة ولغة رثة.
إن إحصائية بسيطة عن الإنتاج
المسرحي الذي قدمته المسارح المغربية بعد الاستقلال تؤكد أن ستين في المائة
من هذا الإنتاج مقتبس، فهل ينبؤنا هذا بالخطر على ملكة الخطر»( ).
وعند تقويم الكتابة المسرحية
في المغرب، أشارت ندوة أقامها اتحاد كتاب المغرب (شارك فيها أحمد الطيب
العلج، وأحمد العراقي، وعبد الله شقرون، وأحمد بدري وأدارها محمد برادة)
إلى اتجاهين هما:
1- اتجاه كلاسيكي عاش على
موائد المقتبسات والمغربات (نسبة إلى الغرب).
2- اتجاه حديث ظهر مع بداية
السعبينات، وهو الذي وقع الولادة الحقيقية للنص المغربي، وما يجري الرهان
عليه اليوم»( ).
إن الحديث عن التجديد ملتبس
بالغرب، بالمثاقفة، وبشهوة التعبير السياسي المباشر، على أنه يظل تعبيراً
غامضاً يحتاج إلى موقع واضح فكرة وممارسة مما ينتظم في نشاط إنساني وفعالية
عامة وتقاليد قومية راسخة.
-8-
أما الموقف من تجربة العمل
المسرحي كما تمثله معطيات المشهد الثقافي كالتأليف والاقتباس، أو الاحتراف
والهواية، فنوجزه فيما يلي:
أولاً: يغلب الاقتباس على
النص المسرحي، وفي هذا يتساوى المحترفون والهواة، لأن رجل المسرح هو الذي
يتقدم الحركة المسرحية فالكاتب مخرج وممثل وفني أحياناً كما هو الحال مع
أبرز المسرحيين، ولأن المسرح المحترف وحركة الهواة تستندان إلى مبدأ عمل
الفرقة التي تؤلف عرضاً على سبيل الإعداد أو الاقتباس. أما التأليف الخالص
أو الترجمة الخالصة لنصوص المسرح العالمي فهي قليلة. وهذا ما دعا المسرحيون
والنقاد إلى مواصلة الحوار المستمر حول الاقتباس أولاً، والهواة ثانياً،
إزاء اختلاط المفاهيم والممارسة معاً.
ثانياً: يبرز الخلاف حول
مصطلح الاقتباس بالدرجة الأولى، فهو يعني الأخذ عن النصوص الغربية حيناً،
ويغني الأخذ عن التراث حيناً آخر، إلا أ، المرء يستخلص من الحوار الدائر أن
«الكتابة المسرحية» تقابل «توليف النص»، لأن الكاتب أو المسرحي يعيد إنتاج
الأدب المكتوب أو الشفهي أو المنقول أو المعرب ليناسب حاجات العرض في
الواقع( ).
أن السلاوي، على سبيل المثال،
يستنتج من بحثه للنص المسرحي في المغرب، أن كتاب المسرح ما زالوا يميلون
إلى السهولة واليسر، بل ما زال بعضهم عاجزاً عن خلق عمل مسرحي أصيل، وليد
حضارة المغرب وثقافته ومجتمعه في القاعدة، ومستوف لمتطلبات الكتابة
المسرحية في الآفاق. وإذا استثنينا بعض الإنتاجات التي قدمتها فرق الهواة،
فسنجد أن أغلب ما قدمته الخشبة للفرق الرسمية، أو لفرق المحترفين، إنتاجات
ضعيفة من الناحية الأدبية، ولو أن معظمها كتب بلغة دارجة سلسة، وبأسلوب
بسيط خفيف»( ).
ثالثاً: وهناك خلاف واضح
أيضاً حول مصطلح الهواة، ومكانة حركة الهواة في مسارح المسرح العربي في
المغرب. يقول عبد الكريم برشيد:
«أن هذه التسمية لا تعني
شيئاً لأنها تمس الشكل دون الجوهر، فهناك حقاً فرق بين المسرح الرسمي وهذا
الاتجاه، ولكنه فرق في نوعية الرؤية، وفي الزاوية المتميزة، وفي المضامين
الجديدة، وفي الأشكال المسرحية المتطورة والمواكبة لهذه المضامين»( ).
بينما يرى البدوي، في ندوة
حول «الآفاق الممكنة أمام المسرح المغربي»، أن ليس هناك احتراف بالمعنى
الصحيح للكلمة، كما أنه أيضاً ليس هناك هواية( ).
ويلاحظ باحث آخر هو اكويندي
سالم أن النصية أو الشكلية ليست إشكالية مسرح الهواة الأساسية، بقدر ما هي
عدم الوعي الصحيح لمحدداته وضوابطه الاجتماعية( ).
وفي رأي باحث آخر، أن ثمة
التباساً في الممارسة المسرحية يقود إلى خلاف في المصطلح، فلكي تكون
الانطلاقة صحيحة، ينبغي أن نقول «مسرح رسمي» عوض «مسرح محترف»، و«مسرح
جماهيري» عوض «مسرح الهواة» بغية إعطاء الصراع القائم أبعاده الحقيقية،
ورسم وظيفة الفن انطلاقاً من هذا الوضوح.
ويستفيض الباحث في نقده
للوضعية المسرحية، فيوزع المسرح إلى مستلب ونخبوي ونموذجي، كأن تضخم
الإنارة عند الصديقي لهدف أساسي هو تحطيم المعنوية النفسية للمتفرج، حتى لا
نستطيع فرز الخشبة عن الحانة، وتأكيداً للعبة الأيديولوجية كما هو الحال عن
الكغاط ووردة على سبيل المثال للنوع الأول (هكذا!). أو أن تتطرق لموضوعات
هامة، ولكنها لا تعي لمن تكتب فيغلب عليها طابع التعقيد اللغوي والرموز
الصارخة التي لا تفهمها إلا النخبة، أما الأغلبية الساحقة فتخرج ساخطة كما
هو الحال عند برشيد والكغاط أيضاً على سبيل المثال للنوع الثاني، أو أن
تنشغل بالتنفيس عن الكرب الجماهيري، وتشتم الأنظمة، واعتماداً لمنهج
البريشتي وتعديله، ومهمة نشر الوعي بين الجماهير، على سبيل تعريف النوع
الثالث الذي يراه مطمحاً. لنلاحظ هنا الجمع بين الصفات المتناقضة، ولكننا
لا نريد التعليق على مثل هذه الكتابة النقدية التي تخلط بين الأدب
والانتماء السياسي لكاتبه، لأن المطلوب هو أن نقيس الفن على قامة الموقف من
الكاتب، بينما يكون النقد على قامة الفن. ثم ما فائدة هذا الكلام في تشخيص
الظاهرة المسرحية أو توجيهها: «وضع خط فاصل بين المسرح التهريجي وإقامة
مسرح المناقشة والكلمة والفعل، أي تحويل قاعة المسرح إلى برلمان تطرح فيه
قضية الجماهير عامة».
أما النقد الأغلب الموجه
لمسرح الهواة فهو عجزه عن الإبداع. أنه محاولات مستعجلة للتأثير على
الجمهور طلباً لعملية العرض والاستهلاك. ثم «أن ـ كما يقول قاوتي محمد ـ
جميع المؤشرات الحالية لا تفيد أننا متجهون نحو تأصيل المسرح في بلادنا
وخلق عادة مسرحية»( )، أي أن المسرح العربي في المغرب - كما يؤكد البحث في
واقعه ونقده - مايزال يبحث عن تقاليده وسط مشكلات كثيرة.
[مجلة «الكاتب العربي» (دمشق)
ع5 - 1983]
3
قضية تأصيل المسرح العربي
في التفكير الأدبي العربي
الراهن
-1-
ليس جديداً أن نشير إلى أن
قضية تأصيل المسرح العربي تعني، فما تعنيه من حيث الأساس، البحث في هوية
المسرح العربي( ) توكيداً لأصالة الثقافة العربية، على أن الأصالة تفيد
تمثل روح العصر لاشتمالها على عناصر الديمومة والاستمرار في التقاليد
الثقافية الباقية. ونعيد القول إن قضية تأصيل المسرح العربي ليست بحثآ عن
مؤيدات مسرحية في التراث العربي وحده فحسب، بل تتعداها إلى صورة حاضر
المسرح العربي ومستقبله، لأن هوية المسرح في أصالته بالتأكيد. وإلى وقت
قريب، غمر اليأس أو كاد غالبية الباحثين والمسرحيين العرب، فالتفتوا عن
الماضي إلى انخراط كلي في تجربة الغرب المسرحية المأخوذة عن انجاز المسرح
اليوناني، فانتصرت فكرة «المثاقفة» في تقديم مسرحيات حسب المفهوم الأوروبي،
وخفت صوت التأصيل قبولأ لواقع الحال، وشاع رأي مفاده أننا ندور في حلقة
مفرغة، وكادت الدائرة تكتمل في إعلان العجز هنا وهناك عن الهدف المرجو ألا
وهو خلق مسرح عربي أصيل.( ) ولكن باحثين ومسرحيين قلة آخرين لم يركنوا إلى
الصمت، فكانت صولات وجولات ساهم فيها أيضاً مستعربون جدد، وربما كانت
بوتيتسفا هي صاحبة الجهد الكبيرفي الدفاع عن الثقافة العربية وأصالة المسرح
العربي على الرغم من تكريسها لمتواتر القول لدى المسرحيين العرب ومن
اشتغلوا في تاريخه عن المسرح العربي كما أشرنا في بحث سابق.
ولدى استعراض أبرز جهد لتأصيل
الثقافة العربية، نلاحظ أن المسرحيين فهموا القضية غالباً على أنها استمداد
أصول تراثية للمسرح العربي وبناء المسرحية العربية وفق تقاليد وأشكال
تراثية، مما هو أدخل في باب الأسس التراثية المسرحية العربية كالأشكال
التمثيلية أو الحوارية أو أشكال العرض والفرجة والمشاركة مثل المقامة
والمسامرة والليلة والاحتفالات الدينية والألعاب الشعبية وحلقات السمر
والمداح والحكواتي وخيال الظل والاراجوز وسوى ذلك.
وثمة حشد كبيرمن المسرحيين
والأدباء من ينكر معرفة العرب للمسرح، أو هم لا يجدون في هذه الأصول
المسرحية قرابة للمفهوم المسرحي أو نظرية المسرح لأسباب كثيرة دينية
وحضارية، فالأشكال التي يعرضون لها، ويعتمدونها غير كاملة أو مكتملة، أي لا
تنضبط في أطار السياق المعرفي والفني الغربي للمسرح مثل الحكواتي والقصاصين
الجوالين وأغاني الكلام الملحون والأغاني الشعبية والجمالية ومواكب الرقص
الجماعية والمواكب الدينية العربية والمقامات وخيال الظل( ).
والسبب أن هذه الأشكال،
برأيهم، لم تؤدِّ إلى ظهور المسرح العربي الحديث في القرن التاسع عشر الذي
نتج في رأيهم عن الاتصال بالمسرح الغربي والحضارة الغربية. ومن وجهة النظر
الأخرى، ثمة كثيرون يدعون إلى تأصيل المسرح العربي استناداً إلى هذا التراث
العربي المشهود، وقد بدأت شواغل التأصيل مبكرة مع اتصال العرب بالغرب،
ولعلنا ندرك اليوم أن جهود الرواد أمثال القباني والنقاش هي الأقرب لهذا
السعي، والأكثر تحقيقاً لمهمة استمرار التقاليد الثقافية العربية في
المسرح.
استمرت محاولات تعريب المسرح
وفق المفهوم الغربي والحضارة الغربية وقتاً طويلاً (تجارب جورج أبيض وخليل
مطران ويوسف وهي وأمين الريحاني وزكي طلمات في مصر، ولها ما يماثلها في
الأقطار العربية الأخرى)، ولكن الاستقلالات العربية أثارت على نحو عملي
ونظري قضية التأصيل، فظهرت التروعات التوفيقية انطلاقاً من هاجس التقليد
الغربي، فكانت إشكالية الأصالة والمعاصرة التي عولجت ظواهرها ونتائحها فيما
بعد، في مختلف وسائل التعبير العربي المعاصر( ).
ليست دعوات التأصيل مجرد بعث
شكل أو أشكال مسرحية تراثية، أو استلهام التراث العربي في المسرح، بل هي
صيانة التقاليد الثقافية وحضورها الفعال في تحقيق الوظيفة الاجتماعية وفي
تثمير الحوار الثقافي مع تراث الإنسانية استناداً إلى وعي الذات ووعي
الآخر. ولعلنا نميز هنا بين وجهات النظر العربية في التأصيل، ونوجزها فما
يلي:
ا- البحث عن قالب أو شكل
عربي، وغالباً ما فصل هذا القالب أو الشكل عن المفهوم (محاولات توفيق
الحكيم ويوسف إدريس ومحمود دياب... الخ).
2- البحث عن نص مسرحي عربي أو
عرض مسرحي (قادر على أن يتغير ويغير، وأن يفعل ويتفاعل) بتعبير عبدالكريم
برشيد، و (ان يرسم فيه شخصيات عربية، وأن يصف مواقف من الواقع العربي) على
حد تعبير عز الدين المدني( ) (محاولات الطيب الصديقي وقاسم محمد وعلي عقلة
عرسان وبرشيد والمدني...إلخ).
وقد صاغ بعض المهتمين قضية
التأصيل على أنها ضمانة المسرح العربي الاجتماعية من خلال أهمية الغوص في
المحلية وفرز أشكال تعبير موروثة ماتزال فاعلة في الوقت نفسه. ولاحظوا أن
مثل هذا يكون «بترويض» شكل المسرح الغربي، و«بترويض» أشكال المسرح المحلية
أو التراثية من أجل عروض تجمع «بين المسرح والمتطلبات الشكلية المحلية
الموروثة أو الحاضرة في أنماط العيش» (التعبير لرئيف كرم) لأن «أصالة
المسرح في أصالة اللقاء»( ).
إن قضية تأصيل المسرح العربي
هي الشاغل الأكثر إلحاحاً لدى المعنيين بتنمية الثقافة العربية وتطورها على
الرغم من تراجع الخطاب المسرحي العربي خلال العقد الأخير عرضاً وتأليفاً
ونقداً. ويكشف «كتاب العربي» المسمى «المسرح العربي بين النقل والتأصيل»( )
عن سخونة القضية خلال قرابة ثلاثة عقود من الزمن، ولاسيما العقد الأخير،
ويؤكد هذا الرأي أن غالبية المقالات مكتوبة بأقلام أدباء، أما مقالات
المسرحيين فهي تعرض لتجارب ومراودات لاختراق هيمنة مركزية الغرب الثقافية.
ويعبر هذا الكتاب بجلاء عن التفكير العربي الراهن بقضية تأصيل المسرح
العربي حتى تاريخ صدوره، نظراً لأهمية المشاركين فيه وطبيعة الزوايا
والمنظورات التي عالجوا من لخلالها هذه القضية، وهي في مجملها لا تختلف عن
حال الجهود العربية المبذولة التي أشرنا إليها. غير أنني سأتوقف عند ثلاثة
ملتقيات عربية هامة تتابع هذه الجهود وتكشف، ضمن رؤى فكرية وفنية وواقعية،
عن التفكير العربي الراهن بقضية التأصيل، وهذه الملتقيات هي:
1- الملتقى العربي الأول
للإبداع الأدبي والفني (أغادير 21-25 تشرين الأول 1988).
2- ندوة «الموروث الشعبي في
العالم العربي وعلاقته بالإبداع الفني والفكري: النص المسرحي» (الرياض
28/2-12/3/1990).
3- الندوة الفكرية لأيام
قرطاج المسرحية في دورتها الخامسة (تونس 3/10-2/11/1991)( ).
سننظر في أعمال هذه الملتقيات
ومكانتها في معاينة ظاهرة التأصيل.
-2-
كان الملتقى العربي الأول
للإبداع الأدبي والفني أوسع لقاء عربي بين المعنيين بقضية تأصيل المسرح
العربي، ويكتسب الملتقى أهميته من النواحي التالية:
1) ارتهان المشاركة في
الملتقى بإبداء رأي أو عرض تجربة أو تقديم محاضرة أو المساهمة في الحوار،
وهذا هو شأن المشاركين جميعهم. ونذكر منهم علي عقلة عرسان وأسعد فضة ومنى
واصف ومحي الدين صبحي وعبدالله أبوهيف (سورية) ونبيل حجازي وعلي سالم ومحمد
أبو العلا السلاموني وسمير العصفوري ومراد وهبة (مصر) وعبدالكريم برشيد
ومحمد عزيز الحبابي وعبدالحق الزورالي ومحمد زنيبر (المغرب) ومحمد الشرفي
(اليمن) وعبدالحميد الصادق المجراب وفوزي البشتي وعلي مصطفى المصراتي
(ليبيا) ومصطفى كاتب (الجزائر)... إلخ. وهؤلاء وسواهم جميعاً لهم مثل هذه
المشاركة المكتوبة أو المسجلة ضمن وثائق الملتقى.
2) وقف هذه المشاركة حصراً
على البحث في الطابع القومي للمسرح العربي وكيفية تطويره استناداً إلى هذا
الطابع، لأن موضوع الملتقى العام هو «قضايا الإبداع والهوية القومية».
وسنعرض هنا، من وجهة نظر نقدية، حصيلة الملتقى في مجال قضية تأصيل المسرح
العربي، كما وردت في ورقة المجلس القومي للثقافة العربية (منظم الملتقى)
ومحاضرات المشاركين ومداخلاتهم وتجاربهم ومناقشاتهم. لقد انعكست ظلال
الحوار في الإطار العام لقضايا الإبداع والهوية القومية على مناقشات الآداب
والفنون ومنها المسرح، وجرى تدعيم هذه الاتجاهات في الرأي من واقع الممارسة
الأدبية والفنية والنقدية. ولعل أبرز ما جاء في الإطار العام هو تباين
مواقف المثقفين العرب إزاء القضية: تشخيصها وتياراتها وسبل الخروج من
خناقها، وهو تعبير استخدم إزاء الاختلاف بين دعاة العدمية، ودعاة الهوية
القومية الذين طالبوا بتحديد الحديث عن القومية العربية وإمكاناتها
التاريخية الراهنة والهائلة في تمكين العرب المعاصرين من أسباب وجودهم وكسب
رهان الحضارة والمستقبل العربي.
ورد في ورقة المجلس القومي
للثقافة العربية وعنوانها «قضايا الإبداع المسرحي في الوطن العربي» رأي هو،
في اعتقادي، مصادرة على المطلوب وقطيعة مع التراث، أو هو تجاهل متعمد لمعنى
الظاهرة المسرحية العربية، قالت الورقة: «إن الجهود المبذولة عبثاً في
وطننا العربي للعثور في تاريخنا على ممارسات شبه مسرحية تقوم على الطقسية
أو الاحتفالية أو التراثية هي من قبيل ممارس السيمياء باسم الكيمياء. إنها
أصول تاريخية إما تعوزها النصوص أو المركبات الأخرى للمسرحية، باستثناء
محدود في دلالته وهو حالة القرقوز وخيال الظل». وقد عني واضعو الورقة
بالعرض المسرحي، وأبعدوا المسرحيات الموضوعة للقراءة، وهو فصل متعسف، لأن
المسرحية، أي مسرحية ولو وضعت للقراءة، فإنها مسرحية عرض إذا توفر لها من
يعرضها، وهذا هو حال مسرحيات توفيق الحكيم، وكان هو من أطلق هذا التعبير
الذي يجافي فهم الظاهرة المسرحية.
وهكذا: وببساطة تثير العجب
والطرافة المرة، قالت الورقة لاغية أي وجود للمسرح العربي في التراث: «وجد
العرب أنفسهم أمام الإبداع المسرحي وجهاً لوجه مع مقدم الاستعمار، فاضطروا
إلى تعاطي هذا الفن تحت ضغط خاص، ألا وهو أن يكون للعرب مسرح، مثلهم في ذلك
مثل غير العرب، دون خلفية تنظيرية أو تاريخية، أي القيام بتحقيق فلسفي
تاريخي عن سبب غياب المسرحية في أدبنا. إن الدافع لإنشاء المؤسسة المسرحية
العربية كان دافعاً وطنياً وتجارياً، وهذه حقيقة يعرفها الجميع عن المستورد
الأول للعمل المسرحي: مارون النقاش».
أما مراحل تطور المسرح العربي
الحديث فتقسمها الورقة إلى الفترات التالية، على الرغم من تداخلها الواضح:
1- فترة الاستعمارات، وهي
التي امتدت من استيراد المؤسسة المسرحية إلى احتلال مصر سنة 1882، وعرفت
جيل الرواد: مارون النقاش- يعقوب صنوع - عثمان جلال - سليم النقاش.
2- فترة توظيف الإبداع
المسرحي في النضال الوطني من أجل الاستقلال، بعد احتلال مصر، ومن رواد هذه
الفترة: عبد الله النديم- مصطفى كامل - أبو خليل القباني.
3- فترة ازدهار مسرحي مبكر
تنوعت فيه الأغراض وتجارب الكتابة مع مطلع القرن العشرين، حيث تألق في
المسرحيات العاطفية سلامة حجازي ومنيرة المهدية، وفي الكوميديات نجيب
الريحاني، وفي التراجيديات جورج أبيض وعبدالرحمن رشدي وفاطمة رشدي، وفي
الميلودرامات يوسف وهبي.
4- فترة الجولات العربية
الأولى، حيث زارت تونس فرق مسرحية متعددة. وقد لعبت هذه الزيارات دوراً في
تكوين الرواد الأوائل للمسرح التونسي (اللكودي - محمد بورقيبة- علي
الخازني)، وفي الجزائر (رشيد القسنطيني- علالو- محي الدين بشطرجي)، وفي
المغرب (محمد الزغاري- محمد بن الشيخ - محمد القري - عبد الواحد الشاوي -
المهدي المنيعي). وكذلك في ساحات عربية أخرى.
5- فترة ما بعد ثورة 1919،
وعرفت إنتاجاً مسرحياً أصيلاً متأثراً بالنزعة التي فرضت نفسها في الثقافة
العربية، وهي نزعة «فخورة» بالإرث الحضاري القومي ومتفتحة في الوقت نفسه
على الثقافات العالمية الأخرى. ازدهر في هذه الفترة المسرح المجتمعي
والمسرح المنوع ومن روادها أحمد شوقي وتوفيق الحكيم.
6- فترة ما بعد ثورة 1952،
التي عرفت ميلاد المسرح الملتزم إيديولوجياً. ونجد محاولات لإدماج عناصر
تقليدية في الإبداع المسرحي العرفي سعياً لتأصيله كالسامر والحكايات
الشعبية والمقالات. ومن أعلام هذه الفترة: محمود تيمور- محمود المسعدي-
سعيد عقل- الفريد فرج- يوسف إدريس- أحمد الطيب العلج- الطيب الصديقي- علي
بن عياد- الحبيب بو لعراس..
7- فترة ما بعد هزيمة 1967،
التي أفرزت مسرحاً قومياً قوياً وأصيلاً للتعبير عن غضبة الإنسان العربي
وفضح هزائم الأنظمة العسكرية والرجعية، وقد جعل هذا المسرح من القضايا
القومية التزاماً صريحاً وعلى رأسها قضيتا فلسطين ولبنان، ومظاهر التبعية
للعرب الاشتراكي أو الرأسمالي، والمخاطر التي تهدد الهوية الثقافية
العربية. وفي هذه الفترة اتسع نطاق محاولات التأصيل مشرقاً ومغرباً. نذكر
من رواد هذه الفترة على سبيل المثال لا الحصر: سعد الله ونوس- نجيب سرور-
سعد الدين وهبة- علي سالم- فوزي فهمي- عبد الكريم برشيد- محمود دياب- نعمان
عاشور.
8- فترة التأزم بعد
السبعينات- وهي التي نتجت عن الجرح الذي أصبح عميقاً في العقل العربي من
جراء سلسلة الهزائم القومية والخلافات العربية مما عمق التجزئة والتعصب
القطري وغياب الشروع الحضاري العربي. وقد تفاقم هذا التردي من جراء ظهور
الثراء البترو دولاري واكتساح الفيديو الذي صعّد نماذج المهندس ومدبولي
وأمام. أما الأصوات الأصيلة فقد آثرت الصمت أو الهجرة أو التقية من خلال
أعمال تجمع بين الالتزام والإلهاء (دريد لحام- زياد الرحباني) أو هي أعمال
تجريدية تنفي نفسها في التراثيات أو أبطال التاريخ العربي (المسرح
الاحتفالي).
يناسب هذا التقسيم تطور
الحركة المسرحية في مصرعلى وجه التقريب، ويحفل بإشاعة التأويلات التي لا
توافي التاريخ أو فهم الظاهرة المسرحية العربية كما في الحكم على المسرح
الاحتفالي أو إدخال سعدالدين وهبة وفوري فهمي ونعمان عاشور على سبيل المثال
ضمن محاولات التأصيل، أو اعتبار الحدث السياسي حدثاً فنياً فاصلاً. ولعل
مثل هذا العرض التاريخي المبتسر والمتعسف يجعل من مهمة كتابة تاريخ المسرح
العربي ملحة وعاجلة. وتتوقف الورقة عند أسئلة كثيرة: لماذا هذا التقطع
التاريخي؟ هل من سبيل للخروج من هذا النفق الذي يجتازه المسرح العربي؟ ما
هي الشروط الضرورية للإنقاذ الممكنة؟ كيف نجعل المسرح العربي مسرحاً
متناسباً مع العهد العلمي الذي نعاصره؟ كيف يجد المسرح العربي مدخله إلى
الكونية والخلود؟
ثمة إنشائية واضحة في صياغة
الأسئلة. ولكن المهم فيها هو تشخيصها لأزمة مستحكمة بالمسرح العربي اليوم.
لا تملك الورقة إجابات جاهزة على هذه التساؤلات المحيرة، وحتى لو كانت تملك
مقترحات حلول، فإن الظرف الموضوعي قد لا يساعد على أن تجد تلك المقترحات
طريقها إلى الممارسة المسرحية. وما ذكرت من عناصر وشروط يتلخص في مايلي:
- جماهيرية المسرح.
- تطلعات قومية حضارية.
- عمل جماعي.
أما كيف تتحقق هذه العناصر
والشروط فقد تجاوزتها الورقة إلى خطاب سياسي حول «فشل الدولة القطرية التي
اختارت لنفسها نموذج المجتمع السياسي المعزول»، وهجاء الواقع المسرحي
المهزول.
من الطريف في الأمر أن علي
عقلة عرسان، وهو المختص في مجال بحث الظواهر المسرحية العربية أو التراثية،
كان رئيساً لجلسة المسرح في الملتقى، فرفض ما جاء في الورقة، وعد هذا الرأي
تغييباً لأهم عناصر الهوية القومية في المسرح. ثم تواتر هذا النقد في
غالبية المداخلات. فقد أكد المشاركون أن فكرة المسرح ليست غربية، وأن أول
فهم للهوية القومية هو نفي القطيعة مع التراث العربي وضرورة رصد الظواهر
المسرحية انطلاقاً من إعادة النظر في فهم الظاهرة المسرحية عموماً،
تاريخياً واجماعياً وفنياً. ومما قاله عرسان: إذا كان المسرح الغربي قد نشأ
في أروقة الدين ورحابه ملتصقاً بطقوسه مبشراً بدعوته، فلماذا نستنكر على
الظاهرة المسرحية العربية لصوقها بالطقوس الدينية الإسلامية؟ وتساءل عن
التعارض المزعوم بين العروبة والإسلام، أما المهم فهو الأصالة الثقافية من
منطلق وعي التاريخ ووعي الإبداع في لحظته الحاضرة.
ورفدت التجارب المسرحية هذا
الحديث التأصيلي، فرأت منى واصف أن الأصالة توفر منظومة قيمية أخلاقية
للممثل والمسرحي على وجه العموم، وأول القيم الالتزام القومي والتمثل بروح
الفنان العربي. وربط مصطفى كاتب مسيرة الكفاح المسرحي بالأصالة النضالية
والثقافية للشعب العربي في الجزائر. ووجد علي سالم المسرح في وعي الإنسان
العربي بوجوده، فأن يركز على الاهتمام بالمسرح معناه الاهتمام بكبرياء
المجتمع نفسه، فالمسرح نبل، والتزامه صورة للحياة، وصورة للواقع أجمل. ورهن
أسعد فضة تطور المسرح العربي في سورية بهموم التأصيل ولخصها في العبارة
التالية: الإبداع يعني الهوية. وهذا ما دفعنا إلى إقامة مهرجان دمشق للفنون
المسرحية لتجد بحوث التأصيل وتجاربه أرضها العربية المشتركة. وعبّر سمير
العصفوري بحدة عن المشكلة بقوله: «أخفقنا لأن شكسبير لم يشاركنا همومنا
وقضايانا». وجدد محي الدين صبحي القول: «إن المسرح فعل مصيري، أي إنه فعل
قومي». ورأى مراد وهبة أن المطلوب هو مصادمة الجمهور، وليس مصادمة السلطة
فحسب، لأن الجمهور غارق في الخرافات والأساطير، والمسرح مناخ صدام للوعي.
ودعا في هذا الإطار علي المصراتي إلى تربوية المسرح، ولاسيما المسرح
المدرسي. وأعلن عبدالحق الزروالي نقمته على الكلام عن المسرح في غياب
المسرح، فقد أفسدنا الحب والكلام عن الحب. وكأننا إذا قدمنا مسرحية للشعب
(يقصد مسرحية غير نخبوية) فيجب أن تكون تافهة، وأفاد أن الطليعية لا تعني
فقدان الجماهيرية، ولا تعني الأصالة، فالتأصيل المسرحي يكون في الممارسة
الحقة مع الجماهير.
وكان عبد الكريم برشيد أثار
مشكلة الكتابة المسرحية العربية من أفق السؤال المشروع عن روح التأسيس، فإن
تكتب يعني أن تكون مسكوناً بتراثك كله، فالتراث في روح التأسيس دائماً،
لكونه ذاكرتها الحية والأصيلة.
إن حصيلة الملتقى العربي
الأول للإبداع الأدبي والفني في مجال المسرح، تشير إلى مايلي:
1- وضع قضية الهوية القومية
للمسرح العربي موضع الحوار على أنها القضية الفكرية والفنية الأولى في
وجدان المسرحيين العرب وفي ممارستهم المسرحية، وهو ما أكدته جلسات لجنة
المسرح.
2- وضع قضية الهوية القومية
للمسرح العربي في سياقها المعرفي والتاريخي العام للثقافة العربية، إذ
نوقشت هذه القضية لأول مرة من منظور اتصالها بالآداب والفنون العربية
الأخرى. ومن منظور شامل لقضية التأصيل.
3- وضع قضية الهوية القومية
للمسرح العربي في سياقها الفني والثقافي الذي يرى المسرح ظاهرة إبداعية
جماعية وظاهرة اجتماعية ثقافية، فحشد الملتقى لجلسة المسرح مسرحيين من صنوف
الإبداع المسرحي المختلفة: الإخراج- التمثيل- التأليف- النقد- البحث-
التعليم...إلخ.
4- أثبتت الحصيلة فقر
القائلين بانعدام المسرح في التراث العربي بتجارب وشهادات حية نظرت إلى
المسرح العربي في تطوره الحضاري والثقافي العام على أنه حاجة قومية وفن
قومي عرفته الشعوب شكلاً من أشكال التعبير، وإن اختلفت الظاهرة المسرحية من
شعب لآخر.
والمهم هو الانطلاق دائماً من
الظاهرة المسرحية القومية لأنها ضمانة الاتصال بالجماهير، وحصانة الإبداع
الأصيل. وهذا ما تبين في الموقف الناقد للورقة، وفي الحماسة البينة التي
أظهرتها خبرات مسرحية عربية أفصحت عن نفسها في ميدان الأصالة المسرحية.
-3-
تأتي أهمية ندوة الرياض
للاعتبارات التالية:
1- معالجة لموضوع ذي أهمية
وحساسية خاصة هو الموروث الشعبي المكتوب والشفهي في الإبداع العربي الحديث.
2- مشاركة عدد كبير من
المبدعين العرب من غالبية الأقطار العربية.
3- اقتران النظرية بالتطبيق
في بحوث الندوة ومناقضتها من منظورات قومية عربية لا تغفل الالتباس الكامن
في هذا الموضوع فكريا (ولاسيما العلاقة بالإسلام) وفنياً.
وعلى مدار أربعة أيام، وفي
خمس جلسات نوقشت أوراق الندوة، وناقش المشاركون ورقة عمل في كل جلسة،
بالإضافة إلى التعقيبات المعدة مسبقاً والمداخلات الآتية:
ترأس الجلسة الأولى منصور
الحازمي، وقدم ورقتها علي الراعي حول «الفن المسرحي في العالم العربي:
تاريخه وعوامل ظهوره»، وعرض فيها لاختلاف الرأي المتواتر في معرفة العرب
للمسرح شارحاً المواقف المتباينة للذين أنكروا هذه المعرفة، والذين سعوا
لإثباتها، والذين عملوا لتأصيلها على ما وصلهم من ظواهر وأشكال مسرحية
عربية أو قابلية للمسرح.
ولاحظ الراعي أن ثمة تيارين
غلباً على المشهد المسرحي العربي خلال أكثر من قرن من الزمن. دعا التيار
الأول إلى شعبية المسرح العربي أو المسرح الشعبي العربي منذ الرواد، مارون
النقاش وأبي خليل القباني ويعقوب صنوع، إلى المحاولات الأخيرة للطيب
الصديقي وعبدالكريم برشيد وعز الدين المدني وقاسم محمد ويوسف إدريس
وسعدالله ونوس وغيرهم. بينما بذل أصحاب التيار الثاني جهوداً كبيرة للكتابة
المسرحية على القالب الغربي. وقد صبت معظم مسرحيات توفيق الحكيم التي تنوف
على الستين مسرحية في هذا القالب. ثم ناقش علي الراعي أبرز الظواهر التي
رافقت تطور المسرح العربيى الحديث كالإلحاح على وظيفته الاجتماعية
والسياسية وغلبة الاتجاه الواقعي على ممارسته وعرضه وتأثير وسائل الاتصال
بالجماهير الأخرى على انتشاره، والفوائد الكبرى التي أداها المسرح للثقافة
العربية الحديثة كحمايته للغة العربية في الشمال الإفريقي، وتطويعه
لقابليات اللغة العربية في معركة الحضارة الحديثة...إلخ.
وقد قرر الراعي أنه بفضل هذه
الجهود جميعاً قام فن المسرح في أجزاء كثيرة من الوطن العربي، وأصبح جزءاً
من الحياة الاجتماعية والثقافية في البلاد التي مارسته وعقدت له المهرجانات
في كل من دمشق وبغداد والقاهرة وتونس والجزائر والمغرب، ورصدت له الحوافز
وشارات التكريم، ومنح فنانوه الاعتبار الاجتماعي الأكمل على شكل جوائز
وألقاب مختلفة. وعقب على الورقة ألفريد فرج وعبدالكريم برشيد. تساءل الفريد
فرج عن المدخل السليم لنشوء ظاهرة المسرح العربي، فنحن نتحدث عن مستوى معين
هو المستوى الأدبي، ثم نهمّش جانباً المسرحيات التي لا ترقى إلى هذا
المستوى مؤكداً أن المسرح ليس نصاً وحده، وهذا المدخل غير سليم، لأن
الظواهر المسرحية العربية منتشرة وموجودة قبل التقليد الغربي، مشيراً إلى
أن النشاطات شبه المسرحية تحولت في القرن الماضي إلى الساحة الكبيرة
للأدباء والمثقفين والجمهور العريض، وصار المسرح بعد ذلك قادراً على صناعة
التاريخ. أما عبدالكريم برشيد، وهو صاحب منهج خاص في «الاحتفالية
المسرحية»، فقد أعاد إلى الأذهان فكرته عن المسرح وفهمه لتاريخ التجربة
المسرحية العربية، فثمة انفصام بيننا وبين المسرح. فقد أرخوا لصيغة مسرحية
غربية تبنيناها من خلال الصدمة الحضارية، وبحثاً في المتغير ولم نبحث في
الثابت. اهتم الباحثون والمسرحيون بصيغة مسرحية واحدة كائنة، وأهملوا عشرات
أو مئات الصيغ المسرحية الأخرى الممكنة. ودلل على رأيه بأقوال المستشرقين
حول استعداد العرب للتعامل مع المسرح، وذكر بأنها نظرة فاشية تفرق بين
إنسان وإنسان، وأشار برشيد إلى أن الأبحاث قد انطلقت من فرضيتين خاطئتين،
أولاهما أن المسرح واحد موحد، وثانيهما هي أن المسرح غربي أو لا يكون
مسرحاً، وقال برشيد: حتى نبحث عن المسرح العربي يجب أن نبحث عن شروط
المؤسسة المسرحية، ورأى أن الشروط الأساسية لإيجاد مسرح حقيقي هي وجود
المدنية والديمقراطية والفكر. وعرض برشيد لأشكال من التلفيق والتوفيق في
بناء المسرح العربي ليعرّج بعد ذلك على جهود التأصيل كما تبدت في بحوث علي
الراعي وعلي عقلة عرسان. أما المناقشات للورقة والتعقيبات عليها فقد كانت
حادة وصاخبة حول النقاط التالية:
- الاتفاق حول وجود ظواهر
مسرحية عربية وبعض مظاهر التمثيل. ولكن العرب لم يعرفوا المسرح. فما حصل
خلال أكثر من قرن من النهوض المسرحي هو مقالات قابلة للمسرحة ووضعها في
قالب مسرحي أوروبي، بينما أكد كثيرون أيضاً أن العرب عرفوا المسرح، ولكن
المسرح ليس واحداً وليس أوروبياً فحسب، فلماذا نعترف بشعائر الفراعنة
والاغريق والكنيسة على أنها مسرح، وننكرعلى التراث العربي حقه؟
- الاختلاف حول تشخيص النهضة
المسرحية العربية ومراحل تأريخها والعوامل المؤثرة فيها كما وردت في ورقة
العمل، وعلى سبيل المثال ليس صحيحاً ما ذكره الراعي حول المسرح في سوريا،
وأنه بدأ في ندوة الفكر والفن بعد الاستقلال لأن بداءته كانت في
العشرينيات، وثمة ملاحظات أخرى كثيرة.
وفي الجلسة الثانية التي
رأسها عبد القادر طاش وقدم ورقتها علي عقلة عرسان كان الموضوع «لغة المسرح
بين الفصحى والعامية». وحملت الورقة دفاعاً مجيداً عن اللغة العربية
ومقدرتها على التطور وحمل الرؤى الفنية والتعبيرية الجديدة. واستغرق في
العرض التاريخي لمحاولات التقليل من شأن هذه اللغة وصلاحيتها لعلوم العصر
وآدابه وفنونه، ووجد أن منطلق هذه المحاولات هو الاستعمار والمستشرقون
والمتغربون الذين أرادوا إحداث الشرخ الثقافي في جسم الأمة العربية وتحويل
لغة القرآن الكريم والثقافة العربية كلها وكل ما تحمله إلى لغة متحفية
ومقبرة للمعلومات وللتراث العربي الإسلامي كله. وعززوا نهجهم ذاك بشكل
مستمر وبكل الوسائل. ورصد بعناية حجج أنصار الفصحى وآراءهم، وكذلك فعل مع
أنصار العامية، وانتقل إلى المسرح وطبيعته ولغته، وركز على موضوع لغة
الحوار في المسرح العربي بين الفصحى والعامية مستنداً في إيجاز للجانب
التاريخي من الموضوع إلى ما سبق وأوضحه من خلفيات وملابسات واجتهادات وآراء
في موضوع الفصحى والعامية ضمن الإطار الثقافي العام ومستفيداً منه في
الإشارة إلى الحجج والذرائع في إجمال القضية وشمولها، فعرض لتاريخ لغة
الحوار في المسرح العربي، ووجد أن الرواد في بلاد الشام قد اعتمدوا الفصحى
لغة للحوار المسرحي.
أما في مصر فقد لجأوا إلى
العامية، بينما اختار بعضهم المزج بين الفصحى والعامية أو اقتراح لغة وسيطة
بينهما، وأورد حجج الذين يعتمدون الفصحى لغة في الحوار المسرحي في بنود
واضحة مفصلة. فالمسرح أدب عماده الكلمة المجنحة، والفن والأدب جزء من
المعطى الثقافي ومجال من مجالات الإبداع النابع من الأمة والمتصل بها
تفكيراً وتعبيراً وانتماء واهتماماً، والعامية لا قواعد ولا معايير ولا
أصول ولا ثوابت لها، وكلها متغيرات على غير أساس أو معيار، وهي تتغير من
قطر إلى قطر ومن حي إلى حي، ومن ريف إلى ريف، ومن مدينة إلى أخرى، ومن قرن
إلى قرن. واللغ العربية الفصحى واسعة ومرنة ومفرداتها مبثوثة في أكثر من
خمسة وتسعين بالمائة من مفردات الدارجة، والعامية تراكيب غير سليمة، وعدم
أعراب، وحشو لبعض مفردات غير عربية محلية، أو لكلمات أنتجها خطأ السماع أو
الإبدال أو اللسان واعوجاجه عند بعض الأشخاص ونماها الجهل وعدم
التدقيق...الخ.
وختم ورقته بإظهار ميله إلى
الفصحى، فنحن ننشد السلامة التامة في المكتوب من لغة الحوار ونريد أن نربي
ملكة السمع على الفصحى سليمة في المسرح من خلال المنطوق من كلام شخوص
المسرح في بيان ينمي الذوق ويوصل المعنى، ولنعمل قولاً سديداً لابن خلدون
الذي قال (السمع أبو الملكات اللسانية)، وليصبح المسرح داراً للتربية
أيضاً.
وعقب على الورقة علي جعفر
العلاق ومحمد بن سعد بن حسين. وبدأ العلاق تعقيبه بالإشارة إلى خطورة هذا
الموضوع وحيويته، لأن المسرح حوار، ولا شيء سواه، وهو العلاج الوحيد للكاتب
المسرحي، وعن طريقه تتكشف المصائر عن شبكة العلاقات بين شخصيات المسرحية،
وعن طريقه تتكشف المصائر والأهواء، وتتجه صوب ذروة درامية.
وأشار إلى أنه بسبب انفصام
لغة الآداب والفكر عن لغة الحياة فنحن نواجه معضلة خاصة لا توجد في الأمم
الأخرى، ونحن حيارى بين اللغة الشفهية واللغة المكتوبة. وأكد العلاق أن
الصعوبة لا تكمن في الفصحى بحد ذاتها، بل تكمن في مستوى التعبير بالفصحى أو
طريق التعبير بها في المسرح العربي، وأن الفصحى يمكن بأن يكتب بها مسرحيات
جيدة. كما أكد أن القضاء على العامية لا يكون بالتوصيات، ولكن بتضييق
المسافة بين الفصحى والعامية والقضاء على التخلف.
وفي تعقيبه أثنى محمد بن سعد
بن حسين على ورقة عرسان، ولكنه أخذ على الباحث إطالته في التقديم الذي
استغرق نصف الورقة تقريباً وتساءل ابن حسين عن رسالة المسرح. وهل هي توجه
الناس أم لا؟ وأكد ذلك بنعم، وتساءل أيضاً عما إذا كان من رسالة المسرح
إصلاح لغة العرب؟ فمادام المسرح وسيلة إصلاح فإننا نطلب منه ذلك. وخلص إلى
أن المسرح قد رسخ لدى العرب. وإنه يجب على المثقف أن يوجه المجتمع إلى
الصالح، وإلا ينزل إلى حيث العامة.
ونوجز الملاحظات حول الجلسة
الثانية، فيمايلي:
- بروز الخلافات بين دعاة
الفصحى ودعاة العامية، فقد كشفت الندوة أن هناك كثيرين ممن يؤمنون بالعامية
لغة المسرح باسم الديمقراطية، وفي هذا خلط واضح، إذ يتجاهل هؤلاء أن خيار
وسائل الاتصال كالإذاعة والتلفزة والخيالة ليس خيار الشعب.
وثمة أطروحات أخرى دافعت عن
العامية باسم الواقعية، متجاهلة أيضاً أن الواقعية الفنية لا تعني النقل
الحرفي للواقع، لأن للغة المسرح مستويات تعبيرية وغيصالية ومجازية تختلف عن
لغة الناس في الحياة اليومية، والفن كله لا ينقل لغة واقعية مباشرة، وإلا
خرج عن طبيعته.
وفي الجلسة الثالثة التي
يرأسها محمد بن حسن الزير، كان الموضوع «الشكل والمضمون في المسرح العربي
وعلاقته بالتراث». وقدم ورقتها عزالدين إسماعيل. وقد طرح إسماعيل في مستهل
ورقته جملة من الأفكار لتكون بمثابة منطلقات أساسية للنظر في قضية المسرح
وعلاقته بالتراث الشعبي من حيث الشكل والمضمون. فبدأ بفكر التراث نفسه،
وتأمل قليلاً في مغزى أن علاقتنا بهذا التراث قد صارت منذ زمن غير قصير
موضوع بحث وجدل، واستخلص من هذا الموقف أننا صرنا نتحرك في هذا الجدال على
أساس من ثنائية «نحن» و«التراث». وهنا النحن تشير إلى وعي بالذات كما تشير
كلمة التراث إلى كيان خارجي له مقوماته الخاصة. والعلاقة بين طرفي هذه
الثنائية هي التي كانت منذ بداية النهضة حتى اليوم موضع التساؤل والفحص
والتحديد.
وانتهى إسماعيل إلى ضرورة
التفرقة بين مستويين عامين في موقفنا من التراث: المستوى الأول يتمثل في
الوعي به، ويتمثل المستوى الثاني في توظيفه، على أن تحقق هذا المستوى
الثاني مشروط بتحقق المستوى الأول، فلا توظيف للتراث دون وعي به. ولاحظ
أيضاً أن مفهوم توظيف التراث ينطوي في دلالته الأخيرة على حقيقة أن من يوظف
التراث لابد أن يكون قادراً على فعل الاتصال- الانفصال، الاتصال بالتراث
والانفصال عنه في الوقت نفسه. أما الاتصال فيحقق المعرفة، وإما الانفصال
فيسعف على التوظيف. ومع ذلك فإن خصوصية التراث الشعبي وتاريخيته تفرض له في
حياتنا وضعية خاصة. فالتراث الشعبي لا يتمثل فحسب في تلك المأثورات التي
أمكن تدوينها في حقب مختلفة من الزمن الماضي، وأصبحت بالنسبة إلينا في
زمننا الحالي مجرد مادة مقروءة، بل يمتد هذا التراث ليشمل كل أشكال الإبداع
الشعبي حتى زمننا الحالي نفسه. وهكذا وجدت المادة الشعبية العربية طريقها
إلى المسرح في يسر لأنها كانت المادة الحية في ضمائر عامة الناس القادرة
على تحريك مشاعرهم وجلب المتعة إلى نفوسهم، وقد أقبل كتاب المسرح على تلك
المادة مبكرين دون أن يستشعروا أدنى غضاضة في التعامل معها، وهم لا ينظرون
إليها على أنها مادة هابطة القيمة، كما قد يخيل إلى من يتوجسون خيفة من
التعامل مع التراث الشعبي على المستوى العامي، ناهيك عن توظيفه في الأعمال
الأدبية والفنية.
وعرض إسماعيل لتوظيف بعض
مصادر التراث الشعبي كألف ليلة وليلة والسير الشعبية والحكايات القصيرة
الطريفة المعروفة باسم النوادر ولاسيما حكايات جحا ونوادره.
وانتقل بعدئذ إلى محاولات
توظيف الشكل المسرحي، فهناك من ذهبوا إلى أن الشكل المسرحي الحقيقي المعتمد
هو الشكل الغربي بما حققه من نضج وتفوق على المستويات التقنية والفنية
والفكرية، وأن الأشكال المسرحية التي عرفها العرب وكانت تستهدف التسلية
الشعبية مثل «الحكواتية» و«المحبظين» و«وخيال الظل» و«الأرجواز» ليست من فن
المسرح في شيء، وإن احتوت على بعض عناصره الشكلية، وإنها، أي هذه الأشكال،
لم تكن نواة للفن المسرحي الحديث عندنا الذي لا يمكننا أن ننظر إليه على
أنه تطور عنها.
وذكر إسماعيل أن الجدل حول
مفهوم الهوية قد اشتد في الخمسينيات، وجرى الاعتراف بأهمية هذه الأشكال في
تحقيق مسرح عربي له خصوصيته وتميزه. وكانت هذه الجهود تتعلق في معظم
الحالات باستنباط الشكل المسرحي الذي يتأسس بصورة مباشرة على عنصر أساسي أو
مجموعة من عناصر الأداء الشعبي المشار إليها أو من غيرها.
وختم عزالدين إسماعيل ورقته
بالقول: «إذا كانت قضية الشكل المسرحي مازالت مطروحة ولم تحسم بعد، وكانت
لاتزال قابلة للتمحيص والتجريب، فإن هذا لا ينبغي أن يكون مصدر إزعاج لأنه
يأتلف وطبائع الأشياء. أما على مستوى المضمون فإن التجربة المسرحية العربية
مازالت تجد في التراث مجالاً واسعاً لا ينفذ للتفاعل والتأصيل». وقد عقب
على الورقة محمد يوسف نجم وعزالدين المدني وعبدالرحمن بن زيدان. رأى محمد
يوسف نجم أن الورقة تتميز بالنظرة الشاملة التي أحاطت بالموضوع من كل
جوانبه. أما عزالدين المدني فوجد البحث مشغولاً بالمسرح العربي في مصر
بالدرجة الأولى، وغفل عن تجارب عربية كثيرة في أقطار عربية أخرى كانت ستضيء
جوانب من توظيف التراث الشعبي في المسرح العربي، فخصّ تعقيبه تجربته المسرح
في تونس في مجال العلاقات بالتراث.
ثم عقّب عبدالرحمن بن زيدان
على البحث فتطرق بالنقد إلى مركزية التجربة النقدية بمصر على الرغم من أن
القضية المركزية للنقد المسرحي هي الشكل والمضمون والتراث في التجارب
العربية الأخرى، وناقش محاولات البحث عن قالب مسرحي عربي خارج مصر، وتوقف
عند اتجاهات تسييس المسرح بالتراث عند سعدالله ونوس وعلي عقلة عرسان
وعزالدين المدني.
وكان أشار إلى محاولات مسرحة
التراث لدى الطيب الصديقي، وتوقف مطولاً عند المسرح الاحتفالي عند
عبدالكريم برشيد، وفرّق بين تحقق الذات في الممارسة وتحقق الذات في
النظرية، وناقش بإيجاز دواعي استخدام التراث وحاجاته شكلاً ومضموناً، مما
أضاف إلى ورقة عزالدين إسماعيل كثيراً.
وهناك ملاحظات كثيرة حول
الورقة، نذكر منها:
- بروز الحاجة إلى تأريخ
المسرح العربي القومي الذي ينظر في مجموعة التجارب المسرحية في الأقطار
العربية كلها، وينظر إلى العوامل والمؤثرات الختلفة.
- ظهور اتجاهات قوية تؤكد أن
توظيف التراث العربي شكلاً ومضموناً ملاذ للخروج من أزمة المسرح العربي
وإجابة صريحة على مشكلاته الكثيرة، ولاسيما الهوية، والتوكيد على أن
التوظيف لا يعني أن إعادة خط أو مضمون، بل هو علاقة تستفيد من الشكل
والمضمون في تركيب مسرحي جديد.
وفي الجلسة الرابعة، عولجت
«التجربة المسرحية في المملكة العربية السعودية» وخصصت الجلسة الخامسة
والأخيرة لموضوع «نحو مسرح إسلامي»، ولا نعتقد أن ثمة فائدة في عرضها في
هذا السياق. هذه الندوة فائقة الأهمية، لأنها عقدت بالرياض أولاً، ولأنها
قاربت موضوعاً يمثل حافة حرجة في الثقافة العربية الإسلامية هو المسرح
ثانياً، وجمعت بين حشد من المفكرين والأدباء وفناني المسرح من تيارات
مختلفة، ومن أقطار عربية مختلفة، وذوي شأن في المسرح العربي ثالثاً.
-4-
ثم كانت الندوة الفكرية لأيام
قرطاج المسرحية في دورتها الخامسة التي عالجت مشكليات التلقي والتواصل في
الفعل المسرحي، وفيها اعترف المسرحيون بأن «اللاتواصل» أصبح هو القاعدة في
الفنون كلها، ومن ضمنها المسرح، فانكبوا على دراسة عوائق الاتصال في الفعل
المسرحي، فوجدوا أن قضية إهمال الهوية في المسرح العربي هي الأساس، فلابد
من فهم مشكليات التلقي وتطوير وسائله على ضوء الهوية القومية ليمكن تطوير
المسرح، فللتلقي سوسولوجيته وأنثروبولوجيته (الإناسة) وسيمولوجيته، وهي
مرتبطة بالتقاليد وقابليتها للتحديث. وقد لاحظ المشاركون أن الفعل المسرحي
يتحقق في إطار تاريخي وحضاري محدد، وضمن بنية ثقافية وسياسية واقتصادية
شاركت في إنتاجه وتعطيل هذا الانتاج أو إقصائه، كما يتحقق التواصل والتلقي
من خلال شبكة من الدلالات أو من الشفرات المنتجة داخل منظومة معرفية ينتمي
إليها المبدع والمتلقي. لذلك درسوا عوائق الاتصال في الفعل المسرحي على
مستوى مكونات العرض نفسه، وعلى مستوى ظروف إنتاجه وتوصيله. فعلى مستوف
مكونات العرض لاحظوا مايلي:
1- غربة فكرة العرض أو أحد
عناصره التعبيرية عن المتلقي حيث لاحظ المتدخلون أن إقبال المتفرج على
العرض يتناسب طردياً وألفته جمع فضاء العرض ووسائل التعبيرية الأخرى مثل
الهندسة المعمارية والمشهدية للمسرح والأزياء وغير ذلك.
2- انحراف الرسالة الاتصالية
وانقطاعها بسبب عدم تمكن المرسل من أدواته التعبيرية وتمرسه بها أو بسبب
خروجها عن النمط السائد وعدم تقليديتها.
3- عدم تقاطع المتلقي مع
الهموم والاهتمامات التي يطرحها العرض حيث لوحظ عدم إقبال المتفرج على
العروض التي لا يجد فيها نفسه. فالمعادلة ليست دائماً قائمة بين أهمية
العرض وطرحه لرؤى فكرية وفنية ذات قيمة إنسانية بالغة، وبين إقبال المتفرج
عليها، ودعوا إلى مزيد من الانكباب على الظاهرة التي تشكل حيرة كبرى
للباحثين.
4- انحراف الرسالة بسبب غياب
إطار دلالة واضح يشكل مرجعية مشتركة بين آليات الباث والمتلقي، ويسهل عملية
التقبل، حيث يضيع معنى العرض في فوضى من العلامات التي تنتمي لها أبنية
عصرية ومنظومات ثقافية وحضارية مختلفة، وأحياناً متعاركة.
وأشار المتدخلون على مستوى
المتلقي إلى أن المتفرج هو شريك أساسي في عملية الإبداع المسرحي، كما أن
التلقي المسرحي تلق من جنس فريد، لأنه ليس عملية أفقية تتم بموجبها توجيه
رسالة من الخشبة إلى الجمهور، بل أن المتلقي يتحول إلى باث. وهذه العملية
التواصلية الدائرية قد تصل إلى إدخال عمليات تغير هامة على الرسالة الأولى.
وقد توقف المتدخلون عند عناصر وظروف تلعب دوراً هاماً في صنع آليات التلقي
عند المتفرج والتأثير عليها، منها المستوى الثقافي للمتفرجين ومدى تجانسهم
ومستوى خبرتهم بعملية الاتصال المسرحي ومدى استعدادهم لتقبل آراء وأفكار
مخالفة لمرجعيتهم الفكرية والثقافية ومدى تحررهم من واحدية التفسير
والتركيب للرسالة المسرحية وفهمها ومدى تأثر الآراء والقواعد والخفايات
التي تضعها المؤسسات النقدية والإعلامية والتعليمية، التي توجه سلفاً عملية
التقبل فتعمقها، أو تنصرف بها، أو تشوهها.
لقد جرت الإشارة إلى تأثير
الانتماء الثقافي والاجتماعي والاقتصادي للفرد على عملية التلقي والتوكيد
على أهمية التنشئة المسرحية للمتفرج منذ سنوات الطفولة الأولى حيث لاحظوا،
على الأقل على المستوى العربي، تهميش مسرح الطفل والشباب سواء على مستوى
الإنتاج أو البرمجة، وطالبوا أن يكون المسرح مادة أساسية في مناهج الدراسة
حتى يلعب المسرح دوره لا فقط في إعداد متفرج صغير، بل في تحير طاقاته
الإبداعية وتنشئته على قيم فكرية وفنية جمالية إنسانية.
اعترف المسرحيون العرب،
أخيراً، أن من أهم المشكلات التي تواجه التلقي والتواصل في الفعل المسرحي
«انحراف الرسالة الاتصالية وانقطاعها بسبب عدم تمكن المرسل من أدواته
التعبيرية وتمرسه بها أو بسبب خروجها على النمط السائد وعدم تقليديتها»، أو
بتعبير آخر «بسبب انقطاعها عن التجربة الفنية ولاسيما التقاليد المسرحية»،
أو بتعبير مختصر دال هو القطيعة المعرفية والذاتية مع التقاليد القومية.
وإذا كان ثمة من يستنكر وجود المسرح أو الظاهرة المسرحية في التراث العربي
القديم، فإن تجربة أكثر من قرن من الزمن شكلت تراثاً عربياً حديثاً اختبر
الظاهرة المسرحية في المجتمع العربي، وتوصل إلى خيارات متعددة في الفعل
المسرحي تحمل خصوصية قومية لا يماري أحد في جدارة الأسئلة التي تطرحها على
المسرح العربي على وجه الخصوص، وعلى الثقافة العربية على وجه العموم.
إن عشرات الظواهر المسرحية،
الاتصالية، المشهدية، المنبثقة عن الاحتفالات والطقوس الاجماعية والدينية
أعيد اكتشافها واستخدامها في أجوبة الهوية القومية للمسرح العربي، ولعل آخر
هذه الاكتشافات قابلية «مسرحة» النصوص السردية في الثقافة العربية
والإسلامية، وهي هائلة وثرية بالمشهدية ولغة الحوار مع الجمهور، كما هو
الحال مع كتب القصة والمتصوفة والحكايات والرموز الشعبية والشعائر الدينية
وسوى ذلك من طقوس. أما آخر هذه الاستخدامات فهو شيوع اتجاه الاحتفالية الذي
يثمر بعض هذه الاكتشافات في تطويع المسرح لحاجات الاتصالية والإبلاغية
العربية، ومخاطبة جمهور عريض بأسلوب الفرجة.
يلاحظ في هذه الندوة استمرار
الشجن حول الشواغل القديمة الجديدة قي الوعي الثقافي القومي في أحد أجناسه
المقلقة، فعلى الرغم من حداثة موضوغ التلقي والتواصل في الفنون بتأثير
تحديات وسائل الاتصال بالجماهير وتقنياتها المتطورة، فإن الآراء المطروحة
في بحثها عن إجابة لم تخرج عن التساؤلات القديمة مثل: ما منزلة المسرح من
اهتمامات شعوبنا؟ ما المكانة التي تعطيها السياسة في بلداننا للثقافة
والمسرح، وضمن مشروعات التخطيط الثقافي على وجه الخصموص؟ وما دور الثقافة
ضمن سياق يفترض تفتحاً على ثقافات العالم من جهة، ويطرح قضية الهوية من جهة
أخرى؟ يظهر واقع المشكلة أن القضية ليست تقنية فحسب، بل هي موصولة الجذور
العريقة بالوجدان العربي وتحرك روحيته، وليس هنا فعل مسرحي يمكن نقله عن
ثقافة أخراى كلياً، لأن الفعل المسرحي ألصق بالفنون الجمعية الحركية
والاتصالية من الفنون المكتوبة، ونستطيع القول جازمين أن إنجاح التلقي
والتواصل دائماً، وحسب ما أظهرته الدراسات الخاصة بتأريخه هذه الظاهرة في
ثقافات الشعوب مرهون بتثمير تقاليد الفرجة المسرحية في الأبنية الثقافية
القومية بتجلياتها الانتروبولوجية والانثوغرافية والاجتماعية والدلالية
الرمزية لمعنى الثقافة الاتصالي لدى الجماعات البشرية. وبتعبير موجز، ليس
بمقدورنا أن نطور تجربتنا المسرحية دون الانطلاق من وعي طبيعة التلقي
والتواصل في هذه الأبنية الثقافية القومية، بحثاً وتطويراً في الممارسة
التي تلبي حاجات اتصالية نابعة من وجدان الناس ونمط تفكيرهم وطرائق عيشهم،
فالفعل المسرحي لا ينقل تقليداً لتجربة ثقافية مختلفة، بل يستعاد أو يصاغ
تقليداً للتجربة الثقافية القومية في وعيها العميق لذاتها، والذات لا تكون
بعد ذلك معزولة عن الثقافات الإنسانية الأخرى، لأنها تغتني وتغني تقاليدها
الثقافية بانفتاحها الواعي والواثق على التجارب الأخرى( ).
-5-
نستخلص من هذا العرض النقدي
للتفكير الأدبي العربي الراهن بقضية تأصيل المسرح العربي مايلي:
1) مواجهة التحكميات التي
تبتعد بالممارسة المسرحية عن تكوين تقاليدها الثقافية والفنية اللازمة
لتأصيل المسرح العربي أو الاستمرار بالتقاليد الأدبية والفنية العربية، ومن
هذه التحكميات:
أ- الجواب على سؤال المثاقفة،
بوصفها سبيل الرؤيا لدى المسرحي العربي، إذ يقيس تجربته وتاريخه الفني
عموماً، والظاهرة المسرحية العربية أو أشكال المسرح المتوارثة خصوصاً بمقاس
المسرح الغربي.
ب- الجواب على محنة موضوع
الهوية في العمل الثقافي العربي المشترك وفي الفكر الأدبي والتفكير الأدبي
العربي منه على وجه الخصوص.
2) البحث في الهوية القومية
للمسرح العربي، وهي أبعد من مجرد استعادة التراث أو تطويعه لقابليات العرض
المسرحي، وإن استند إليه في بعض المداخل، فالمهم هو تحقق الروح العربية،
ويكون هذا بالتراث أساساً مكيناً للإبداع، وليس التراث أشكالاً فحسب. لقد
جرت محاولات كثيرة للتأصيل من منطلق التراث داخل المسرح، أي استلهام التراث
في المسرح استدعاء لشخصيات، أو استحضار لموضوعات أو حضوراً لأفكار وقضايا،
أو استخداماً لجانب من شكل أو شكل، وفي هذا بدء مشروع ينبغي تنميته بتطويع
المكونات التراثية لاختيارات مسرحية معاصرة لا تنقطع عن التراث المسرحي
العالمي في تطوره الشامل، فالهوية لا تعني إعادة التراث بل استعادته في
عملية وجود حية تبرهن دائماً عن روح العصر، ولابد أن تواجه مثل هذه
الاختبارات الأسئلة التالية:
1- الموقف من الظاهرة
الإبداعية المسرحية العربية إزاء صلتها بالدين والطقوس الدينية، لأن المفيد
هو أن تتحول الطقوس واحتفالات جماهيرية.
2- الموقف من الظاهرة
الإبداعية المسرحية العربية إزاء صلتها مما يميزها من عناصر فرجة ومشاركة
شعبية، وهذا بحد ذاته عامل نجاح في التأصيل.
3- الموقف من الظاهرة
الإبداعية المسرحية العربية إزاء الروافد التراثية الهائلة، من القص
والحكاية، وهو عامل نجاح في التأصيل أيضاً، لأنها تدخل في الظاهرة من باب
قابليتها للمسرحة.
4- الموقف من الأشكال
المسرحية التراثية، وأشرنا إلى كثير منها، وإمكاناتها الطيبة في إغناء
البحث التأصيلي المسرحي.
إن هذه الأسئلة، وسواها،
تتطلب إجابة في العمل الثقافي العربي المشترك، وفي الممارسة المسرحية
العربية التي تستهدي بالهوية القومية في المسرح العربي. ولابد في هذا
المجال من اللقاء المنتظم بين المسرحيين العرب لمتابعة بحث قضية التأصيل
وتقويم الجهود المبذولة.
[مجلة «الوحدة» (الرباط)
تموز-آب 1992]
4
المسرح في مؤتمرات الأدباء
العرب
ظلت قضية المسرح، أو قضية
المسرح العربي، هامشية في مؤتمرات الأدباء العرب على الرغم من أهميتها
الفكرية والفنية، ولا سيما اتصالها بقضايا أخرى مثل الهوية والتبعية
والأصالة من منظورات طبيعة التفكير الأدبي العربي في انبثاق المسرح من
الشعائر والطقوس الدينية أو المسرح بوصفه شكلاً أدبياً مستحدثاً كما هو
شائع، أو الظواهر المسرحية الموروثة كأشكال مسرحية أو احتفالية.. الخ. أجل،
لقد ظلت مثل هذه المنظورات بعيدة عن الدرس الأدبي وعن التفكير الأدبي
العربي على نحو مباشر حتى مطلع السبعينات إذ ركن غالبية المشتغلين بالمسرح
العربي إلى أحد اطمئنانين، أولهما الاطمئنان إلى أن المسرح شكل عربي وعلى
هذا فهو مستحدث عندنا في الثقافة العربية، وثانيهما الاطمئنان إلى أن
الظواهر المسرحية العربية ـ إن وجدت ـ فهي لا تقيم مسرحاً ولا تندرج في
الثقافة العربية التقليدية من جهة، ولا تتيح أفقاً لنهوض مسرحي ذاتي من جهة
أخرى.
وعندما نوقشت قضية المسرح أو
قضية المسرح العربي في مؤتمرات الأدباء العرب، على قلتها، فإنها نادراً ما
التفتت إلى القضية بحد ذاتها، أو فيما تثيره من مشكلات واقعية في الثقافة
العربية الحديثة، أو التفكير الأدبي الحديث على وجه الخصوص، فقد عولجت قضية
المسرح العربي في علاقتها بموضوعات المؤتمرات الكبرى التي تركزت غالباً،
حتى المؤتمر الحادي عشر على الأبعاد المباشرة، القومية والأيديولوجية
والسياسية للأدب العربي المعاصر، بتأثير الشعارات التي توضع لكل مؤتمر،
استجابة للأحداث العربية التي كانت تعقد هذه المؤتمرات للتعبير عن التفاعل
معها، فتكتب المحاضرات أو الأبحاث على مقاسات محاورها لإعلان موقف تضامني
عربي مشترك غالباً.
ونشير إلى الأبحاث ـ
المحاضرات ـ التي تعرضت للمسرح في مؤتمرات الأدباء العرب، وهي على النحو
التالي:
- المؤتمر الرابع (الكويت
1958م):
- البطولة في الأدب المسرحي
عبد القادر القط (مصر)( ).
- المؤتمر العاشر (الجزائر
1975م):
- النضال في المسرح العربي
الباهي فضلاء (الجزائر)( ).
- المؤتمر الحادي عشر
(طرابلس ـ ليبيا 1977م):
- مشاكل الأدب الدرامي
العربي كمال عيد (مصر).
- المسرح العربي يبحث عن
المسرح العربي/ عبد الكريم برشيد (المغرب)( ).
- المؤتمر الثاني عشر (دمشق
1979م):
- المسرح الملتزم بين
القطاعين العام والخاص وليد إخلاصي (سورية).
- حول فاعلية المسرح العربي
الحديث وامتداده الجماهيري/ البوصيري عبد الله (ليبيا).
- المسرح الملتزم بين
القطاعين العام والخاص/ كمال عيد (مصر).
- السياسة في المسرح العربي
الحديث عمر البرناوي (الجزائر)( ).
وعلينا أن نشير أيضاً، إلى
الظاهرة الغالبة على هذه المؤتمرات، وهي أن المحاضرات أو الأبحاث لا تعالج
قضية المسرح أو المسرح العربي إلا من خلال قضية كل مؤتمر أو شعاره على حدة،
وقد كانت قضايا المؤتمرات المذكورة وفق ما يلي:
- المؤتمر الرابع: البطولة
في الأدب العربي.
- المؤتمر العاشر: الأديب
العربي وموقفه من قضايا التحرير والثورة في العالم.
- المؤتمر الحادي عشر: مشاكل
الأدب العربي المعاصر.
- المؤتمر الثاني عشر:
مشكلات التجديد والسياسة في القصة والمسرح والرواية.
المؤتمر الحادي عشر ـ نقلة
أولى:
ومن الواضح أن المؤتمر الحادي
عشر، بمثابة تمهيد، والمؤتمر الثاني عشر بهذا الإطار، يشكلان نقلة في
انصراف المؤتمرات إلى قضايا الأدب مقاربة أو مباشرة، وهذا متروك لجهد
الباحثين واهتماماتهم، ففي المؤتمر الحادي عشر نوقشت قضية المسرح العربي
بوصفه شكلاً أدبياً مستحدثاً في الأدب العربي المعاصر، وفي المؤتمر الثاني
عشر بحثت قضية المسرح في علاقتها بالسياسة فعولجت جوانب من تجليات هذه
العلاقة، وهي السياسة مباشرة في بحث البرناوي، والقطاع العام والخاص، أي
مكانة الدولة في رعاية المسرح وعمله في بحثي إخلاص وعيد، والانتشار
الجماهيري للمسرح في بحث عبد الله. أما بخصوص بحثي المؤتمرين الرابع
والعاشر فهما موجهان لاستجلاء جانب من جوانب موضوع المؤتمر في جنس أدبي
معين هو البطولة في المسرح عند القط، والنضال في المسرح عند فضلاء، أي أن
البحث هو قضية البطولة أو قضية النضال في المسرح، وليس قضية المسرح بحد
ذاتها، ومما يجدر ذكره أن المؤتمرات الأدبية التالية خلت من الاهتمام بقضية
المسرح أو قضية المسرح العربي الحديث، وعلى هذا فإننا سنمضي إلى أبحاث
المؤتمرين الحادي عشر والثاني عشر، والوقوف عندهما ملياً لمعاينة ما يطرحان
من رؤى وأفكار في إطار درسنا للتفكير الأدبي العربي المعاصر بالمسرح.
وضع كمال عيد عنواناً عريضاً
لبحثه هو «مشاكل الأدب الدرامي العربي»، وأوحى إلى متلقيه أنه سيقدم رؤية
واقعية للأدب الدرامي العربي، كما تشير بذلك كلمة «مشاكل»، والأصح مشكلات،
غير أنه شرق وغرب في بحثه فتحدث عن الأدب ولفظ الأدب، والتعبير عن لفظ
الأدب، وبزوغ الدراما من الأدب، ومقرراً نتائج هي موضع جدل وخلاف بين
النظريين والمسرحيين، كأن يقول في مطلع بحثه:
«الأدب الدرامي مختلف في
مشاكله عن الأدب، حتى وإن كان فرعاً منه، بل هو متضاد معه تضاد أرسطو مع
أستاذه أفلاطون، خاصة في عالمنا العربي المعاصر. ومع انتشار المسارح
العربية الناطقة بلغة الضاد، ومن خلفها الدراما معينها ومصدرها الأول في
الإنتاج المسرحي، إلا أن ذلك لا يعني إطلاقاً الآداب الدرامية العربية، أو
وجودها بغير مشاكل أدبية وفنية وتقنية. وكان عزاء هذه المسارح وتلك الآداب
أن المسرح كجهاز ثقافي فكري قد انبثق فيها مؤخراً، وعلى وجه التحديد في
منتصف القرن التاسع عشر وفي إطار النقل عن الآداب الدرامية الأوروبية وعبر
الاقتباس منها».
وهذا القول سيقوده إلى
الارتهان إلى فكرة المسرح بمفهومها المغربي وريث التقليد المسرحي اليوناني،
حاصراً المشهدية كلها بالحدث أو الفعل (الدراما مأخوذة من كلمة دراؤ أي
الفعل على خشبة المسرح وفي الحياة باللغة اليونانية)، وكمال عيد لم يذكر
هذا، ولكنه ذكر كلمة الألماني جيته: «في البداية كان الحديث». ثم تتبع عيد
تاريخ المسرح أو تاريخ التمثيل بوصفه حدثاً بدأ صامتاً دون حوار، إلى الحدث
فالكلمة أو النص المسرحي بالتعبير الحديث، وهذا يعني أن عيد جعل الظاهرة
المسرحية ظاهرة اجتماعية تكونت من التعبير الصامت غافلاً أو متغافلاً عن
انبثاق الظاهرة المسرحية من الطقوس والشعائر الدينية بالأساس.
ويستغرب المرء مثل هذا الرأي
من باحث أورد في بحثه المذكور تفسيرات لكارل جروس (Carl
Gross) ضمنها كتابه
«ألعاب الشعوب»، مفادها أن الظاهرة المسرحية موجودة لدى الشعور جميعها، وأن
الشعور في تفسيرها للأشياء وفي مغامراته التعبيرية والفكرية الأولى اكتشفت
المشهدية وقوامها التخيل الذي سيؤدي فيما بعد، إلى المحاكاة.
لقد توسع عيد إلى حد ما في
نشوء الظاهرة المسرحية لدى الشعوب مشيراً إلى تجارب مسرحية رافقت الطفولة
البشرية، لا ليثبت الظاهرة المسرحية لدى كل الشعوب، بل ليدلل على «سر وسحر
تأثير الأدب الدرامي على الجماهير وارتباطه بالجذور، وهو ما نطلق عليه
اليوم بالتعبير الحديث لفظ الأصالة».
وتوكيداً على نهجه عرف
الدراما بأنها «الحدث» باللغة اللاتينية، وميز بين المسرح والأدب على الرغم
من قوله: «إن الدراما والملحمة والشعر ثلاث حلقات لنوع أدبي واحد».
وبدا الاختلاط ظاهراً للعيان
في عبارة تالية هي: «الدراما هي النوع الأدبي المؤثر الذي يسمح بالتداخل في
التعبير» وفجأة ينتقل إلى نظرة تطبيقية تبدو ناشزة عن سياق البحث هي:
«ولا زلت متعارضاً مع يروجون،
القول إن دراما الأستاذ عبد الله القويري الأديب العربي الليبي قد خطت
للقراءة فقط وليس للتمثيل، حتى لو كان أستاذنا القدير هو صاحب الرأي نفسه
أو مؤيداً له».
ثم يعلل رأيه دون تحديد
إصلاحي على مثل هذا النحو:
«لماذا؟... تلك الدراما
بشكلها الفني مثلت أم لم تمثل، فإن عناصرها من منولوج إلى ديالوج لأحداث
وصراعات داخلية راقية تميزها عنده، وتحمل على كتفيها إيصال وجهة النظر
الدرامية، أو الأدبية درامياً، إضافة إلى مكملات فنية من مناظر وإضاءة
وموسيقى وأقنعة وحركة مسرحية، لا يمكن لها أن تقبع داخل كتاب للقراءة بغية
المتعة الذهبية الخالصة، استناداً لانتمائها حقيقة إلى المضمون والشكل
الدرامي وهي آراء تشطر الدراما ووظيفتها إلى شطرين على أساس غير سليم، إن
لم يكن أساساً متناقضاً مع الأسس العلمية لمفهوم الدراما، فضلاً عن أنه
يحجب أدباً درامياً نافعاً للساحة العربية عن كثير من مشاهدي وجماهير
المسرح العربي المعاصر، خاصة وهو مسرح يقوم على إحياء اللغة العربية
الفصحى، فإذا كانت مشكلة اللغة العربية ومنذ عشرات قليلة من السنين تقف حجر
عثرة في طريق تقدم الأدب الدرامي، فكيف يجوز لنا الاقتراب من مشكلة كهذه».
ونلاحظ أنه يجد اللغة العربية
عائقاً أمام نقل الواقع الحي في الأدب المسرحي العربي، حتى وإن كانت برأيه،
مترجمة عن أدب عالمي ويستند في ذلك إلى تجربة ثلاثين عاماً قضاها في ساحة
المسرح العربي، ويحاول أن يعلل ذلك فيقف عند الملاحظات التالية:
أولاً: قوة انتشار
اللهجات العامية، وصعوبة انتشار اللغة العربية.
ثانياً: استفحال هذه
المشاكل بسبب الجهود التي قامت، بحسن نية أ, بسوء نية، لإقصاء المسرحة
الشعرية عن خشبة المسرح العربي.
ثالثاً: فشل محاولات
اللغة الثالثة أو اللغة الوسط كما أطلق عليها.
رابعاً: مشكلة انتشار
الأمية.
خامساً: ثقل اللغة العربية
مسرحياً مما ينتج، برأيه، قضية من أهم القضايا المرتبطة باللغة يعني بها
المضمون، «وهو ما نسميه بلغة المسرح المضمون الدرامي للأدب المسرحي».
ويورد عيد بعد ذلك مؤيدات
لآرائه من خلال تجربة المسرح العربي في مصر، والإشارة إلى تجربة المسرح
العربي في المغرب، وينتقل بعد ذلك إلى مناقشة محاولتين متناقضتين، بتقديره،
مع نفسيهما الأولى تجربة توفيق الحكيم اللامعقولة، والثانية ظاهرة المسرح
الشامل التي يعاني منها المسرح والأدب الدرامي العربي، ويلاحظ أنها تجارب
تنخرط في التيار العربي الناقل الذي ساد المسرح العربي فترة طويلة من الزمن
ليخلص إلى نتيجة متشائمة على الرغم من إنكاره للتساؤل في قوله:
«فماذا فعل التيار العربي
الناقل؟ شيء من الأساسات الفكرية.. هرج ومزج، خلط للأنواع الفنية من رقص
وغناء، وإقحام بلا مبرر، وفي أعظم المواقف الدرامية مزيج شاذ من الطعام
الفني أشبه باستكشاف صالات الرقص القديمة. ومع استمرار ما أسماه العالم
العربي (المسرح الشامل). خاصة في المسارح الخاصة والأهلية، فإنه ـ وعبر
سنوات مضت ـ لم يستطع أن يقدم من خلاله شكلاً أدبياً درامياً له مدلولاته
وفوائده، وهو ما لا نستطيع اليوم أيضاً أن نصفه بالشكل المستحدث النافع،
لأنه ظل خاوي الوفاض من كل نفع، بعيداً عن الأصالة والجدية، والفنية
والقاعدة الراسخة.
من هذا أرى ـ وفي غير تشاؤم ـ
مستقبلاً غير محدد المعالم أمام أدبنا الدرامي ـ ما لم تقم هيئة علمية أو
جامعة الأقطار العربية بدراسة واعية لمشكل أدبنا الدرامي العربي، مستهدفة
العلمية طريقاً للتطوير، لوضع مشاكل المستقبل على مائدة البحث والنقاش،
أسوة بمعهد (أبحاث الجماهير)، الذي أنشأته حكومة النمسا منذ عامين لأمثال
هذه المشاكل الحيوية في طريق الأدب الدرامي بصفة خاصة والأدب المعاصر بصفة
عامة.
لقد حفل بحث عيد بتناقضات
كثيرة وبآراء غير دقيقة تتعلق بنشأة الظاهرة المسرحية وبنشأة المسرح العربي
الحديث أو ظهوره، وبتقديره للغة المسرحية وباللغة العربية وسيلة للتعبير
المسرحي، وبطبيعة تطور المسرح العربي من قطر لآخر، فهو لم يوضح حدود الجانب
الأدبي فيا لكتابة الدرامية أو مكانة الكلمة في المسرح وتجاهل خصوصية
الظاهرة المسرحية لدى كل شعب من الشعوب، وأنكر أن اللغة العربية، مثل أي
لغة في الفنون السردية والدرامية، تواضع في إطار المحاكاة، وليست نقلاً
للواقع على خشبة المسرح أو بين دفتي كتاب.
أما الأخطاء الكثيرة التي جرى
تعميمها في إطار المعلومات التاريخية فلابد من إيضاحها، فقد ذكر على سبيلا
لمثال عمر البرناوي من الجزائر في نقاشه لبحث عيد أن من المستغرب على باحث
عربي أن يؤرخ لقيام حركة مسرحية في الجزائر على يد قائد فرنسي في
العشرينات، ومن الجلي أن عيد تناول المسرح العربي الحديث من زاوية غربية
دون أن يعمل البحث في تقصي تشكل فن المسرح العربي الحديث من خلال القرن
الثالث، أي خلال المئة سنة الأخيرة، ولعل مناقشة رأيه في تصوره للمسرح
الشامل تكشف عن مثل هذا المنظور أيضاً.
إن الخلل يكمن في تقديري في
تلك النظرة التي وضعها المؤتمر عنواناً لبحوثه جميعها على «أن المسرح شكل
أدبي مستحدث في الأدب العربي المعاصر»، وليست القضية على هذا النحو تماماً.
ويقدم بحث عبد الكريم برشيد «المسرح العربي يبحث عن المسرح العربي» إضاءة
مغايرة لبحث عيد، على الرغم من إقراره بالقطيعة مع الثقافة العربية
التقليدية، فقد قال بصريح العبارة، في مطلع بحثه:
«وعندما نرجع البصر إلى الخلف
ونتأمل تراثنا الأدبي والفكري فإننا لا نجد غير مقامات وحكايات ونوادر
ورسائل وأشعار في مختلف الأغراض، وهي ـ أشياء ـ وإن كانت قابلة للتمسرح فهي
ليست مسرحاً، كما قد نجد أشكالاً فنية شبه مسرحية وألواناً في الفرجة تعتمد
على السرد والتشخيص والحوار وعلى تحقيق تجمع احتفالي في مكان عام، وداخل
ظرف زمني محدد، نرى هذا في القره قوز وخيال الظل والحلقة والسامر والتعازي.
فهذه الأشكال ليست مسرحاً بالمعنى الكلمة، ولكن دراسة أصولها الفنية قد
تساعدنا على فهم طبيعة الإنسان العربي وعقليته وروحه، ذلك لأنها صيغة
احتفالية أفرزها الوجدان الشعبي، ولكنها مع ذلك تبقى مجرد ألوان من الفرجة
الشعبية الشيء الذي لا يؤهلها لأن تكون بديلاً للتطلع إلى التراث الإنساني
في المسرح، ومن هنا كان لابد للمسرح العربي في المرحلة الراهنة أن يزاوج
بين النظر إلى التراث العربي والتراث الغربي، فالحاضر كما نعلم هو صورة
منقحة أو مشوهة من الماضي، وفي غياب هذا الماضي المسرحي كان لابد أن نسترق
النظر إلى ما حولنا، ولكن على شرط أن نتمثل ما نأخذ، وأن نلونه بأصباغ
جديدة تكشف عن واقع حضاري متميز».
لم يقطع برشيد القول بانعدام
المسرح العربي الحديث، «فالإبداع كما رأينا، لا يمكن أن يتم بداخل الزمن،
وبذلك كان المسرح (العربي)، والقوسان من وضع برشيد، موجوداً في الظرف
الحاضر كمشروع فقط، وليس كحقيقة عينية ثابتة. وعندما نصف مسرحنا بالعربي
فما ذلك إلا باعتبار ما سيكون، وما نريده أن يكون مستقبلاً».
ويؤرخ برشيد لنشأة المسرح
العربي الحديث بعبارة صارخة هي: «تجاربنا في ضوء الانبهار المسرحي» فقد مرّ
الآن أكثر من قرن على معرفة العرب للمسرح، لذلك كان لابد من أن يسترد
الإنسان العربي حريته، وأن يخلص نفسه من قيود أحكمها الانبهار والإعجاب. إن
المرحلة التاريخية الراهنة تفرض تعاملاً خاصاً مع التراث الإنساني العام،
تعاملاً واعياً ورزيناً وراشداً، لاحظوا قسوة الكلمات، يضع في حسابه
مشروعية تبادل التأثير والتأثر، ولكنه يستبعد كل تقليد أخرس. إن عقدة النقص
لا يمكن أن تفرخ أدباً ولا فناً«». ولا يجد برشيد كبير أهمية في محاولات
التأصيل المسرحي العربي كما هو الحال مع علي الراعي الذي حاول «أن يعمل على
استنبات هذه الدعوة في التربة العربية، وذلك على اعتبار أن المسرح المصري
عرف مرحلته المتقدمة نوعاً من المسرح الساذج الذي يقوم على الارتجال، نفس
هذا المسرح الارتجالي عرفه المغرب على يد كل من بوشعيب البيضاوي والبشير
العلج، كما عرف في الجزائر على يد القسطنطيني، ويحدثنا التاريخ المسرحي على
أن هناك ثلاث مراحل قطعها الفن الدرامي، مسرح الممثل، ومسرح المؤلف،
وأخيراً مسرح المخرج، مما يدل على أن الارتجال الذي يدعو إليه الراعي مرحلة
متقدمة في تاريخ المسرح، وأن الإخراج ـ وهو حديث العهد بالوجود ـ لم يظهر
إلا لينظم العلاقة بين النص والممثل من جهة وبين الممثل والوسائل
السينوغرافية الأخرى (ديكور ـ ملابس ـ إضاءة) من جهة ثانية».
ويعزو برشيد ذلك إلى أن
المسرح هو النص، ومن غيره لا يمكن قيام حركة مسرحية»، ويشخص حالة من حالات
الانبهار المسرحي بتقليد المسرح العربي لتيار اللامعقول، «ذلك الاتجاه الذي
شغل الناس في الخمسينات والستينات، والذي كان له مفعول السحر في نفوس
المسرحيين العرب»، بينما يراه برشيد من أكثر الاتجاهات خطراً على المسرح
العربي، ويعالج خطورته من خلال تجربة توفيق الحكيم وتجربة الطيب الصديقي.
ويوضح برشيد رأيه في نهوض
مسرح عربي من خلال أبحاث جادة ظهرت ابتداء من سنة 1964م في مجموعة من
المسرحيات تلتقي جميعها على محاور أساسية واحدة تتمثل في استلهام التراث
العربي، باعتباره مادة مسرحية فنية، ومحاولة للاستفادة، من حيث الشكل الفني
والبناء الدرامي، من مجموعة كبيرة من الفنون الشعبية العربية، التي قامت
على أساس مخاطبة الجمهور عن طريق استخدام الرواية والتشخيص في الوقت نفسه.
كما أنها قامت بمحاولات في التنظير من أجل إعطاء الفعل المسرحي ركائز نظرية
يقوم عليها. وأورد برشيد إشارات لجهود يوسف إدريس والطيب الصديقي وعلي
الراعي الهادفة إلى لغة مسرحية متميزة تفيد من التراث العربي والتراث
الإنساني بعامة، ويوجز بعض عناصر هذه اللغة فيما يلي:
- في اللغة وهي التجمع
والاحتشاد.
- في النفس وهي الإمتاع الذي
يوقظ الحواس.
- في الاجتماع وهي المشاركة
بالمشاعر حيناً وبالفكر حيناً وربما بالجسم أحياناً.
- في الفكر وهي الجدل السجال
بين القوى المتناقضة. والمتعارضة التي يعدو بعضها على بعض إلى بلوغ
التركيب.
- في الفن المسرحي وهي الخلق
الجماعي المتضافر الرفيع الذي يتوجه الانسجام الفني في كل جزئية من
جزئياته. ويختتم تطلعه في الطريق إلى المسرح العربي بدعوته إلى الاحتفالي
«في تعايش الفنون المختلطة داخل الفن المسرحي، الشيء الذي يجعل العرض يجمع
بين الشعر والغناء والرقص والزجل والموسيقى والجد والهزل والحكمة وكل ألوان
التعبير الأخرى، الشيء الذي يجل المسرح في هذا التيار، يصبح لغة شاملة
تخاطب جميع الحواس».
ويقرن برشيد قيمة تطلعه أو
تحققه في الواقع الثقافي العربي برعاية الدولة التي تضمن له الانتشار
والصيرورة، «من أجل هذا، كان لابد من توفير تربية مسرحية تساير عملية البحث
التجريبي من أجل مسرح عربي أصيل، يكون أكثر قرباً والتحاماً وتواصلاً
بالآخرين، وإذا كان التعليم إجبارياً في بعض الدول وإذا المسرح في الدول
النامية ـ وهي دول (تتميز) بتفشي الأمية ـ يلعب دوراً تعليمياً، فإنه في
هذه الحالة لا يصبح المسرح ضرورياً فقط بل إجبارياً، وذلك ما يجب أن تسلكه
الدول العربية في الظرف التاريخي الراهن، وهذا لا يعني بالطبع أن يصبح
المسرح وجهاً ثانياً لوسائل الإعلام، لأن الشيء الأساسي في المسرح هو
التعرية، تعرية الإنسان وتعرية الواقع».
على الرغم من النبرة الحادة
التي طبعت بحث برشيد، فإنه وضع يده على أس قضية المسرح العربي كيف ينطلق في
الواقع العربي المعاصر؟ وكيف يبني تقاليده؟ لقد عاين برشيد، على نحو ضيق،
عمليات تشكل الفن المسرحي العربي الحديث في اتجاهيه الغالبين: تقليد الغرب
(الانبهار المسرحي) والتقليد الذاتي التراثي الذي طلع برأيه في الستينات،
بينما بدأ هذا التقليد منذ أواخر القرن التاسع عشر على يد أبي خليل القباني
ومارون النقاش اللذين واءما على وجه الخصوص بين حاجات الفرجة ومسرحه التراث
العربي في إطار من المسرح الشامل الذي يعتمد على الأغنية الرقصة والتركيب
المشهدي... الخ.
مع بحث برشيد، يأخذ بحث قضية
المسرح العربي في مؤتمرات الأدباء العرب منحى أقرب إلى وضعية المسرح في
الثقافة العربية الحديثة، أي الالتفات إلى الجهود المسرحية العربية
المستمرة منذ مطلع النهضة العربية، والاعتراف بالشغل المسرحي العربي نحو
تأصيل فن شعبي في الحياة الاجتماعية والثقافية العربية. إن هنالك الكثير
مما يختلف فيه المرء مع برشيد غير أنه أفلح في وضع قضية المسرح العربي في
مسارها التاريخي من جهة، وفي مسارها الفكري والفني، مسار تطور الأجناس
الأدبية الحديثة، من جهة أخرى، وهي خطوة متقدمة في التفكير الأدبي العربي
الحديث بوعي الفن في تاريخيته وفي عي طبيعته الفكرية والفنية.
علينا أن نلاحظ أن الشغل
الأهم في تناول المسرح العربي هو مكانته في التراث وتأثره بمفاهيم الهوية
القومية في الأدب العربي الحديث. وعلى الرغم من انشغال المؤتمرات السابقة
على هذا المؤتمر بقضية التراث والغزو الفكري أو ما سمي الأصالة والتفتح،
وهو ما يصب في مفاهيم الهوية القومية، إلا أن بحوث تلك المؤتمرات لم تتطرق
إلى المسرح أو الأدب المسرحي، وقد آثر واضعوها أن يعنوا بهذه المفاهيم من
منظور شعاري غالب على لغة البحوث ومحتواها كما في أبحاث المؤتمر الخامس
(تراثنا بين التقدمية والرجعية ـ الأدب والغزو الجديد) وأبحاث المؤتمر
السابع وتوثيق الارتباط بتراثنا) وأبحاث المؤتمر التاسع (العروبة أرض وتراث
ومصير على سبيل المثال)، أو من منظور فكري عام مشوب باللفظ الشعاري كما في
أبحاث المؤتمر العاشر (السمات الثورية أو سمات ثورية في التراث الأدبي
العربي)، أو من منظور أدبي عام، أيضاً، كما في أبحاث المؤتمر الثامن
(الأديب العربي ـ بين التراث والمعاصرة)( ).
ولهذه الأسباب نعد المؤتمر
الحادي عشر تمهيداً ذا أهمية في النقلة الواضحة نحو النظر إلى قضية المسرح
والمسرح العربي في المؤتمر التالي.
المؤتمر الثاني عشر ـ نقلة
ثانية:
لا شك، أن المؤتمر الثاني عشر
هو الأوسع والأكثر عمقاً في تناول قضية المسرح العربي، وبعد المؤتمر الحادي
عشر تمهيداً له، فأبحاث المؤتمرين متصلة تحت وطأة هموم الهوية التي أخذت
صيغاً محددة مسبقاً هي أن المسرح شكل مستحدث في الثقافة العربية، غير أن
عنصر الجدة هو بحث هذه الهموم في إطار الواقع الثقافي العربي، لا سيما
مشكلات الانتشار أو الجماهيرية كما هو الحال في بحث البوصيري عبد الله،
ومشكلات الالتزام بين القطاعين العام والخاص كما هو الحال في بحثي وليد
إخلاصي وكمال عيد، ومن الملاحظ أن منطلق البحثين هو منظور المؤتمرات إياها
نحو ربط قضايا الفن بالشعارات السياسية على نحو أعم، وبصراع الأفكار على
نحو أضيق، فقد كان المحور العام للمؤتمر الثاني عشر هو «دور الأديب العربي
في مواجهة التحديات الراهنة»، وهكذا على أبحاث المسرح، مثل بقية الأبحاث أن
تفرد أطروحتها وتوسع مجال المسرح العربي إلى أفق الثقافة العربية مناضلة
والتزاماً بأهداف العمل العربي المشترك، التي يراد لها أن تمتد إلى العمل
الثقافي العربي المشترك لأنه على الغالب، تصور وتطلع أكثر منه ممارسة
واقعية فاعلية في الحياة العربية.
أما بحث عمر برناوي فهو صريح
ومباشر في توجهه ومغازيه مقاربة لشعار الموضوع، وقد حمل به التحديد التالي:
«السياسة في المسرح العربي الحديث». وعلينا أن نناقش هذه الأبحاث، تعريفاً
نقدياً في مسار جهدنا الرئيسي، وهو تقصي تطور التفكير الأدبي العربي الحديث
في قضية المسرح وقضية المسرح العربي.
يناقش كمال عيد المسرح على
الإطلاق، بينما لا يغادر وليد إخلاصي أرض تجربته في سورية، وعلى الرغم من
تباين استخدام المصطلح لدى الكاتبين، فإن ثمة اتفاقاً على أهمية رعاية
المسرح فقد شاهت ملامحه على أيدي المتاجرين بهذا الفن باسم السياسة مرة،
وباسم الجماهيرية مرة أخرى، أو بأسماء كثيرة مرات، ينطلق البحثان من اعتراف
مفاده أن دعاوى تثمير الصراخ قد اختفت، في التقدم في الأدب لا يقوم على
استثمار الشعارات أو المبالغة في العقائد والأفكار، إلا أن هذا الاعتراف لا
يمنعنا من الإقرار بأن كتابتهما تعاني من ذلك الاختلاط حيناً، والتداخل
أحايين كثيرة داخل حقل الممارسة الأدبية أو الفنية، وبخاصة بين آفاق
النظرية ومشكلات التطبيق، ففي البحثين مثال على التداخل بين حدود النظر
الفني لظاهرة المسرح الملتزم من جهة، وشؤون تدبير المسرح باعتباره جهازاً
ثقافياً من جهة أخرى، وفي البحثين معاً إغفال للمصطلح ولتمحيصه في إطار هذه
الظاهرة بعينها، وإذا كان لبحث وليد إخلاصي من ميزة فهي اعتماده على تجربة
المسرح في سورية منطلقاً لدراسة الظاهرة، على أن تعميم نتائج التجربة في
ختام بحثه يبعث على الحذر ويدعو إلى التأمل في طبيعة بحوث المؤتمرات فهي
تفي هذه البحوث باحتياجات دراسة قضية أو ظاهرة ما؟ أم تغلب عليها احتياجات
مناسبة؟
إن كمال عيد لا يهتم كثيراً
بتحديد مفردات بحثه، لأن «قضية الالتزام بين نوعين من المسرح: قطاع عام
وقطاع خاص أو حكومي يتبع الدولة أو يخضع لإشرافها، وأهلي يقدم ما يعرضه في
كثير من التحرر... قضية حديثة الزمن نسبياً، بمعنى أنها نشأت حديثاً ـ
وخاصة في أقطارنا العربية ـ بعد أن تشجعت بعض رؤوس الأموال عند بعض
الفنانين الذين هجروا المسرح، أو غيرهم ممن حولوا مكاسبهم السينمائية
ليحققوا فناً أو سمعة في الحياة المسرحية، ليؤلفوا مسارح خاصة بهم،
وأحياناً كثيرة بتأليف فرق مسرحية تحمل أسماءهم، كعلامة من علامات مسرح
الشباك».
لذا، عاد إلى جذور المسألة في
فن المسرح وليس في المسرح العربي على وجه التحديد، فدرس الوظيفة الاجتماعية
للفن، وتأمل على عجل في الإنسان مرة.. وفي الجماهير مرة أخرى، فانغمس في
المظاهر البيولوجية ووعي الذات والإنسان باعتباره بحثاً اجتماعياً شاملاً
ثم اعتمد على مقولة بريخت المشهورة «لا يمكن استبدال الجماهير» توضيحاً
لعلاقة المسرح بالجماهير، في محاذاة حاجة الإنسان للفن كونها حاجة المسرح
نفسه كمؤسسة، أي في إطار القيمة التبادلية للمسرح مع جمهوره، وهذه القيمة
قد تكون أصيلة أو زائفة، فليس نجاح شباك التذاكر قيمة فنية، إن العمل
المسرحي في طبيعته وفي غايته بالدرجة الأولى. لقد رأى كمال عيد أن
«الجماهير تغيرت ـ وبفعل الشباك ـ إلى حالات سيئة من التردي والتبذل
والابتذال، حالات لم تمر حتى على الأشكال المسرحية نفسها منذ وجد المسرح
طريقه إلى الانتظام في استمرارية معقولة عند اليونان القدامى.
إننا نصل إلى نتيجة نرى معها
أ، المسرح لم يتغير، وكذلك لم تتغير الجماهير، وإنما نرى التغيير هو في هذه
العلاقة بين المسرح وبين الجماهير».
والكاتب هنا ـ وهو رجل مسرح
من مصر العربية ـ لا يميز بين قطاع عام وخاص، لأن أزمة البساطة والسطحية
تكمن فيا مسارحنا الخاصة وقليل من مسارحنا العامة.
أما الحل فهو «شعار تقديم فن
العمل الجماعي في المسرح كأحد الفنون الجديدة التي تولد لصالح الإنسان
ولإمكانية تحقيق مقولة الفن ينبع من الشعب ويعود إلى الشعب».
وبالتأكيد، لا يفيد هذا
الكلام كثيراً أو قليلاً في حل. ربما اختلط الأمر على الكاتب حين خلط بين
رؤيا الفن وأساليب تدبيره في واقع شديد التعقيد.
أما تلمس مظاهر التجديد في
المسرح العربي، فقد اكتفى عيد بالإشارة إليها على عجل في فقرة عجلى، على
أهمية ملاحظته في تحقيق الجماهيرية والأصالة معاً في قلب التجديد الغالب
على البحث، فقد رأى المسرح احتياجاً ملحاً لجماهير متعددة الذهن بارعة
الذكاء عقلانية التفكير بكل معنى الكلمة، وأكد في الوقت نفسه أننا لن نحصل
عليها جاهزة بطبيعة الحال معولاً على تربية جماهيرنا المسرحية وإعدادها
إعداداً عربياً، بعد طول إهمال لوزنها ودورها، لتكون بعد ذلك على مستوى ما
نطمح إليه وما نطمح في تقديمه من فنون، ولتكون أيضاً على مستوى الالتزام
المطلوب من المسرحين العام والخاص. ومن هذا المنطلق أيضاً، ذكر ملاحظته حول
المحاولات التجديدية:
«لهذا أقدر كل المحاولات
التجديدية التي انبثقت من أماكن متفرقة في أقطارنا العربية منذ أكثر من عشر
سنوات، سواء كانت تجديدية في مضمونها أو شكلها، أو في استحداث معيار مسرحي
عربي تلتف حوله الجماهير في طبيعة وواقعية: درامات علي عقلة عرسان وسعد
الله ونون في سورية، والمحاولات الرائدة عند الطيب الصديق في التنقيب عن
التراث في المغرب، والإيحاءات الدرامية الجديدة عند عبد الكريم برشيد،
علامات الرفض والتمرد في مسرحيات عز الدين المدني في تونس، صراع الطبقة
الوسطى عند نعمان عاشور في واقعياته المسرحية، ويوسف العاني بكل ما أضافه
من أفكار وجهود لزلزلة واقع المسرح العربي الجامد بحثاً عن وجه مميز عربي
له، وغيرهم في أقطار عربية شقيقة أخرى. وتقديري يظل ثابتاً في مكانه، لأن
كل هذه الجهود لا تزال تعيش في الحياة المسرحية مستقطبةً الكثير من
الجماهير ومن الكتاب رغم فوات السنين وهو ما يدل على أصالتها وصدقها».
ومن الواضح، أن عيد لا يشخص
واقعاً مسرحياً ‘ربياً بعينه في مصر أو ليبيا أو سواهما مكتفياً بهذه
الخواطر التي لا تلتم على رؤية واقعية أو فنية محددة.
ومن جهة أخرى، يفصح وليد
إخلاص عن حدود مفرداته: الالتزام، المسرح الخاص أو العام، الواقعية وسوى
ذلك، ولتكوين أفكار حول الالتزام بمفهومه السائد حالياً في كلا المسرحين،
استعرض إخلاصي ذلك المفهوم من خلال علاقاته القائمة بالقيم التالية:
الواقعية، الإسقاط التاريخي، الأسلوب، المناسبات والإعلام، والسياسة،
المحصلة الفنية، لأنها تعتبر ـ برأيه ـ أبرز القيم التصاقاً وتفاعلاً مع
مفهوم الالتزام السائد، والتي يمكن من خلالها تلمس الطريق نحو مفهوم صيغة
الالتزام الرائجة في المشهد المسرحي المعاصر في سورية وفي كثير من مواطن
المسرح العربي أيضاً.
قدم إخلاصي، حسب عنوان الفقرة
الأولى في بحثه، أفكاراً حول المسرح الملتزم بين القطاعين العام والخاص
فكان الالتزام عنده ثوبان. «الأول ثوب فضفاض يمكن لنا تصوره على النحو
التالي:
التزام المبدع من كاتب وفنان
ومثقف بقضايا الإنسان والإنسانية، والنضال من أجلهما والدفاع عنهما من أجل
الأفضل.
والثوب الثاني ضيق يحاول
المتزمتون إدخال جسد الالتزام فيه. ويمكن تكثيف مواصفاته على النحو التالي:
1- ضرورة الحرفية في العمل
الأدبي.
2- ضرورة توفر أفكار حول
الصراع الطبقي في كل عمل أدبي وفني.
3- التعبير الواضح عن فكر
سياسي بعينه».
ولعل إخلاصي كان يقصد
القوميين والإنسانيين بأصحاب الثوب الأول، ويقصد الماركسيين ودعاة الواقعية
الاشتراكية بأصحاب الثوب الثاني، وقد وجد نقداً حيياً خجولاً، على عادته
لأصحاب الثوب الثاني حين وجه لديهم تضييقاً في فهم المصطلح وتطبيقه، مما
أدى إلى الفصل بين الكل والمضمون وشاع التعسف ظاهرة تسيء إلى تقويم الإبداع
الأدبي والفني، وكثيراً ما كانت النظرة أحادية للفن فضاقت المسافة ما بين
الخلق والجمود، وانتشر الميكانيك النقدي بضجيج مسنناته يطغى على حقائق فنية
بالغة الخطورة».
ولدى تعريفه لمصطلحي المسرح
العام والخاص، عاين إخلاصي تجربة المسرح العربي في سورية على وجه الخصوص،
واستخدم تعبير السلطة ومؤسساتها، وليس الدولة على سبيل المثال. ثمة مسارح
متعددة في سورية لا تنضوي تحت لواء الدولة، هي المسرح غير الرسمي أو الشعبي
لمنظمات وتنظيمات، لا تنضوي تحت لواء المسرح الخاص كذلك، على أنني أثني على
البحث المذكور لفضيلة لا ينبغي إغفالها هي معالجته لموضوعه من واقع تجربة
محددة بتضاريسها السياسية والفكرية والفنية مما لم يتوفر لغالبية البحوث
المقدمة لهذه المؤتمرات. وفي هذا الإطار وجه إخلاصي نقداً مهماً لتجربة
الالتزام في المسرح من خلال النتائج التالية:
1- لم تستطع الواقعية
بمفهومها السائد أن تحقق شكلاً متقدماً للالتزام المطلوب، كذلك الإسقاط
التاريخي الذي لجأ إليه المسرح.
2- وبينما يحاول المسرح العام
من خلال الأسلوب أن يتوصل إلى تقنية جيدة تحقق له شخصية متميزة، حقق مسرح
القطاع الخاص مسبقاً في دخول لعبة الإعلام والتوصيل الشعبي حقيقياً كان أم
مزيفاً.
3- وفشل المسرحيين في تحقيق
التزام سياسي أو اجتماعي محدد واضح المعالم.
ويبدو أنه من الصعب، إذا ما
اتكأنا على مفهوم الالتزام السائد، أن نقول بأن المسرح العام هو الملتزم
وأن المسرح الخاص غير ملتزم. فلا المسرح العام استطاع أن يكون حتى الآن
مؤسسة اجتماعية فنية قادرة على تشكيل صورة واضحة لرؤية الدولة والمؤسسات
القائمة، ولا المسرح الخاص كان قادراً على أن يكون البديل رغم نشاطاته
ومرونة حركته ومحاولاته التكتيكية في النزول إلى مستويات الفهم المسرحي
الشامل والقويم.
وما فعله إخلاصي هو اختبار
هذه القيم في الممارسة المسرحية، وعلى سبيل المثال، يؤكد أن المسرح أصيب
بحمى الانخراط في دوامة اليومي أو الواقع لتوه، فكأنما المسرح صورة عاكسة
لما يجري في المشهد اليوم، وليس هو ذلك الفن الجامع للفنون الأخرى المعبرة
عن توق الإنسان الدائم إلى المستقبل وإلى الخلق الموازي للرغبة في الكمال.
ثم يخلص الكاتب إلى نتيجة
مؤداها أن ليس هناك مسرح ملتزم، من وجهة نظر السياسة، إلا ذلك المسرح الذي
ينتمي إلى أيديولوجية معينة.
وهكذا، يمكن للالتزام أن يكون
حقيقياً وفعالاً ـ في اعتقاده ـ وفق التصورات التالية:
أولاً: أن يكون المسرح
مسرحاً في المقام الأول. أي أن يكون فناً منسجماً مع نفسه وتتوفر فيه
عناصره الأساسية والمقومات اللازمة دون النظر إلى مذهب أو مدرسة أو طريقة.
ثانياً: أن يكون المسرح
طقساً، نكهته تدل على منبته، فالمسرح العابر إلغاء لحضور الفن في الحياة،
أما المسرح الطقسي فهو ارتباط عضوي بين الخلق والتلقي.
ثالثاً: أن يكون المسرح
وظيفياً، أي أن يحقق وجوده من خلال:
1- المتعة الإنسانية
المشروعة.
2- أن يكون متقناً، ويخضع في
ذلك للشروط التي يجب أن تتوفر في أي عمل ثقافي أو مصنوع.
3- أن يكون الهدف من وظيفته.
إن وليد إخلاصي ينتصر لمسرح
القطاع العام، لأن المسرح يصبح حقيقة راهنة وحاجة ملحة وتصوراً حضارياً،
وأن المجتمع الذي يحاول أن يبني آماله بشكل جماعي وبرؤية مبرمجة، فإن
مؤسساته الفنية الكبرى هي القمينة بالوصول إلى مثل هذا الهدف، وتبقى
محاولات المسرح الخاص بالرغم من حيويتها ومرونتها عاجزة عن تحقيق المثل
الأعلى للفن.
أما البوصيري عبد الله فقد
عاد أيضاً إلى جذور المسرح الحديث دارساً أطواره من الحل التوفيقي
والامتداد التجاري مع أوبرا «عايدة» لفيردي عام 1971م حيث انتعش الغناء
والترويج والتهريج والحيادية، إلى ردة الفعل العاطفية تجاه سيطرة الأغنية
مما حد من فاعلية المسرح وامتداده أي انتشاره الجماهيري، فانتقل إلى دور
الدراما التاريخية والخبرة المسرحية والوعي الثقافي لرسالة الفن إلى احتراق
فاعلية المسرحية الاجتماعية بسبب الفراغ الشائع الذي يفصل بين النظرية
والتطبيق عبر سيادة المسرحية الاجتماعية الميلودرامية. وهذا هو حال المسرح
العربي حتى ثلاثينات هذا القرن.
ثم يعرض البوصيري لنمو
الشخصية الإبداعية في المسرح العربي الحديث كما ظهرت بعد الاستقلال إلى
الأقطار العربية، ويلاحظ أن هزيمة حزيران قد أنضجت الشخصية المسرحية بدافع
من حساسية حضارية متألمة ومداومة.
ويختم عبد الله بحثه بكلمة
أخيرة حول مسألة الامتداد أشبه بخطبة قال فيها: «إن الفنان مسؤول قبل غيره
عن خلو فنه من الفاعلية ومسؤول قبل غيره من عدم امتداد فنه لأن الفن
الناضج، الفن الثائر لا ينتظر تأشيرة التحرك من أحد ولكنه ينتزع هذا الحق
انتزاعاً وبكافة الوسائل الممكنة.
كل هذا الجهد المبذول من قبل
مسرحنا بأساليبه التقليدية أو الطليعية، وكل هذا الغضب المتراكم الذي
نلاحظه في مسرح ما بعد الهزيمة، وهذا النزوع إلى الانطلاق من أجل اللحاق
بالعصر والحرية ومواكبة المرحلة تظل فاعلية باهتة وذات ملامح شاحبة ما لم
تستجب لدعوة الالتحام بالجماهير وتكسر الطوق ويتم تحرير المسرح كلية من
مركزيته التي فرضت عليه عزلة تاريخية مخيفة.
إننا نؤكد من جديد على ضرورة
المسرح المتجول، والعروض المهرجانية كي يتحقق لنا شرف الالتحام العميق
بجماهيرنا الشعبية».
«ولو تخلينا قليلاً عن
التفسيرات التمويهية لوجدنا أن تعدد الأحزاب، والتطلع إلى الزعامة، والمعنى
البرجوازي لحرية الفكر والتعبير، هي العوامل الأساسية التي أفضت إلى هذا
القدر من الفوضى الفنية، وإلى هذا القدر من الارتباك في الحركة الثقافية في
الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى».
وثمة خلل آخر يتعلق بالمصطلح
وسريانه على البحث، ففي منتصف بحثه، طرح عبد الله سؤالاً عن «الفاعلية»،
ولاحظ أنه سؤال كبير وهام بلا ريب، والإجابة عليه يفترض أن تكون بمثابة
استهلال بحثنا هذا، ثم اعتذر عن الإجابة وخاض في مسائل أخرى لا علاقة لها
ببحثه.
ويصب بحر عمر البرناوي في
المصب نفسه. تدبير أفضل للحركة المسرحية العربية، لأن المسرح يحتاج إلى
تنظيم جماعاته لكي تنتج الأنفع والأرفع ثانياً، غير أنه ظل محكوماً بضغوط
التعبير الشاعري والسياسي على حركة المسرح العربي، مما أضر كثيراً بمعرفته
التاريخية والفنية بحركة المسرح العربي، ولا سيما تجربته في الجزائر، بل إن
معرفته تستند إلى خبرة بالحالة الثقافية في الجزائر.
عاين البرناوي السياسية في
المسرح العربي من خلال أمرين الأول تجربه في الجزائر، وثانيهما الحداثة
المسرحية، فتميز بحثه بذلك، لقد مضى مع العرض التاريخي ليحدد تجليات المسرح
السياسي، وأشار إلى أن الحركة المسرحية التي عاشت منذ العشرينات إلى أيام
الثورة المسلحة كانت تمتاز بما يلي:
1- الاهتمام بالمشكلات
اليومية المتناقضة.
2- الاهتمام بالأحداث
التاريخية الكبرى.
3- الكثافة في الإنتاج.
4- ربط المسرح بالغناء.
أما مسرح الثورة فكان مسرحاً
سياسياً ملتزماً، لا مجال فيه للنكتة أو الموضوع الفردي إلا بقدر ما تستلزم
الحاجة الفنية.
وأفرد البرناوي لمسرح
الاستقلال حيزاً أوسع في بحثه القصير، فوجه خصائص المسرح المحترف، مسرح
القطاع العام، التالية:
1- ندرة النص الجيد، مما ولد
ظاهرتين هما الترجمة والاقتباس.
2- احتواء الإدارة للعناصر
الفنية.
3- قلة إقبال الجماهير.
غير أن مسرح الهواة، أو
المسرح الخاص، ذهب بعيداً في الحداثة «فشاهدنا منه مسرحيات عديدة من تأليف
جماعي وإخراج جماعي وتمثيل جماعي بطبيعة الحال، ولم يسلم حتى المسرح
المحترف من هذه الظاهرة فقدمت لنا فرقة المسرح الجهوي بقسنطينة مسرحية من
هذا النوع وهو نوع من العمل المسرحي لا يختلف عن مسرح المنصف سويسي في تونس
الذي قال لي حرفياً أني أطمح إلى إيجاد مسرح يشترك فيه الجمهور مع
الممثلين، بالفعل في خلق عمل مسرحي».
كان البرناوي أميناً لمقاصده
من بحثه، وهي عرض صورة شديدة الاختصار عن الحركة المسرحية في الجزائر
وأساليب معالجتها للسياسة.
خلاصات:
إن بحوث محور المسرح في
المؤتمر الثاني عشر تفيد في وصف راهن الواقع المسرحي العربي وتبحث في سبل
تطويره، وتلقي أضواء جديدة عليه من منظور قومي وتغني هذا المنظور بتشخيصها
لتجارب عربية محددة، وهذه مأثرة في حد ذاتها.
ومن المفيد أن نورد بعض
الخلاصات حول قضية المسرح والمسرح العربي مؤتمرات الأدباء العرب في إطارها
التاريخي والثقافي والفني الذي يكشف في الوقت نفسه عن التباس قضية حساسة من
قضايا التفكير الأدبي العربي المعاصر، ونوجز هذه الخلاصات فيما يلي:
1) يشير الاهتمام المتأخر بفن
المسرح في مؤتمرات الأدباء العرب إلى ضعف أهميته في التفكير الأدبي العربي
المعاصر، فلم ينظر إليه جنساً أدبياً أو ضمن الإنتاج الأدبي العربي الحديث
حتى مطلع السبعينات، وهذا يستقيم مع النظرة السائدة إليه في مجرى الثقافة
العربية في هذا المجال تفصح أبحاث المؤتمر بجلاء عن الموقف الثقافي العربي
من المسرح، وما يزال الصراع إياه بين تقليد وتحديث في المسرح العربي يستند
إلى تغليب التحديث على التقليد، ويثير في عمق الصراع شواغل الهوية الطاغية،
وتخلل ذلك كله أسئلة مؤرقة ضاغطة على التفكير الأدبي العربي المعاصر مثل
التداخل في هموم المسرح جنساً أدبياً أم أدباً مسرحياً أو مسرحة تنهض على
الكلمة، بها أو دونها، في تضافر فنون أخرى، تعضيداً للاعتراف بأن المسرح
أبو الفنون، مما هو شائع في المسرح الشامل أو التجريب المسرحي النشط، أو
الاختلاف في نشوة الظاهرة المسرحية، فثمة إقرار بانبثاقها من الطقوس
والشعائر الدينية أو الاحتفالات الشعبية، بينما يرى بعضهم أن المسرح لا
يكون إلا بالتقليد الغربي... الخ.
2) أظهرت بحوث هذه المؤتمرات
أن ما دفع إلى إثارة قضية المسرح هو الممارسة المسرحية العربية الناهضة منذ
أكثر من قرن من الزمن ونموها وتطورها، ربما بمعزل عن مسار الأدب الغربي
الحديث، حيث المسرح فن شعبي لا يحظى باهتمام لائق في الثقافة العربية،
فانتشر المسرح، مما به إلى ضرورة حمايته من خطر الاستهلاك لدى القطاع الخاص
اللاهث وراء الربح وحده، فكانت حركة المسارح الوطنية والقومية في إطار
رعاية الدولة للمسرح، وكان التمييز بين القطاع العام والقطاع الخاص... الخ.
3) غلبت على البحوث هموم
تأصيل المسرح العربي، وهذا يستقيم مع تطور التفكير الأدبي العربي الحديث
فما كان داخل هذه المؤتمرات إلا صورة عن الشغل النقدي بقضية المسرح والمسرح
العربي في الثقافة العربية الحديثة، بل إن هذه المؤتمرات صاغت على استحياء
أسئلة التأصيل التي وجدت في الثمانينات والسبعينات اهتماماً موصولاً في
الملتقيات والمهرجانات والكتب والدوريات وفي رحاب الجامعات والمعاهد( ).
4) أشارت هذه المؤتمرات مبكرة
إلى القضايا اللاحقة التي تبحث عن إجابة، فثمة خلاف حول تأريخ المسرح عند
العرب وفهمه في القديم والحديث. وثمة خلاف أكبر حول تاريخية المسرح العربي
أي معنى المسرح بالنسبة للعرب المعاصرين.
وتسربل مثل هذه الخلافات في
سربالها ذلك التداخل بين الظاهرة الأدبية والظاهرة المسرحية، وعدم الاتفاق
على قيمة الظواهر المسرحية العربية ورفض أصالة الأشكال المسرحية القديمة
كخيال الظل والعرائس، على الرغم من انتشار النزوع إلى الإقرار بقيمة هذه
الظواهر القديمة كما في سفر علي عقلة عرسان الضخم «الظواهر المسرحية عند
العرب» (1981م)، أو الإقرار بقيمة هذه الظواهر الحديثة كما في كتاب سلمان
قطاية الوجيز «المسرح العربي من أين أو إلى أين؟» (1972م)( ).
وثمة ملموسية أخرى هي هيمنة
المثاقفة بمعناها السلبي أي الارتهان إلى الإقرار بالتبعية للغرب إنكاراً
لأي مظهر من مظاهر التأصيل على الرغم من أن الغربيين أنفسهم يؤمنون بأهمية
الظواهر المسرحية العربية كما في كتاب حسن بحراوي «المسرح المغربي، بحث في
الأصول السوسيوثقافية» (1994م)( )، وهذا الكتاب يستمد مادته الخام مما
كتبه الرحالة والأناسيون الأجانب حول الأشكال الفرجوية العربية القائمة على
التشخيص والتنكر والتعبير العفوي في الاحتفالات الدينية والدنيوية.
[مجلة «علامات» (جدة) يونيو
1996]
5
تجليات أخرى للهوية:
ملاحظات حول المسرح القومي
إن ثمة التباساً بين مصطلح
«القومي» و«الوطني»، وبالذات حين نعالج ظاهرة فنية أو أدبية، ولقد أظهرت
التجربة العربية في المسرح على وجه الخصوص مدى التداخل البين بين هذين
المصطلحين، ليس في حركة النشاط الثقافي، ثم الانتشار المسرحي بعد ذلك فحسب،
بل في توجيه هذه القنوات الجماهيرية الهامة التي تجعل من المسرح جهازاً
ثقافياً وقناة إعلامية ووسيلة اتصال فعالة.
وثمة مسارح عربية تسمي نفسها
وطنية، ولا يمكننا أن نبرئ هذه التسميات من تأثير هيمنة الدولة القطرية على
العمل الثقافي العربي. وقد شهدت الستينات والسبعينات نهوضاً مسرحياً عربياً
بفضل نجاح المسارح القومية أو الوطنية، فانتعش في ذلك الوقت الحديث عن
المسرح القومي أو الوطني، وتندرج هذه المقالة في إعادة الضوء على تلك
الحقبة، لأن مادتها الرئيسة كتبت في عام 1974، على أنني وجدت فائدة في
إعادة الحوار حول المسرح القومي أو الوطني، طارحاً بعض الأسئلة تمهيداً
لمناقشة بعض المسرحيات التي تصدت، بشكل أو بآخر لوظيفة المسرح، مما نشر من
مسرحيات عربية في مطلع السبعينات.
لقد كان فهم المسرح القومي أو
الوطني، منذ بداءة المحاولة، موجهاً إلى تثمير وظيفة المسرح، فالمسرح
القومي أو الوطني المراد انتماء نضالي لقضية الشعب العربي وانتصارها في وجه
موجات المسرح التجاري وقيم الثقافة الهابطة.
ينطلق التساؤل من الملاحظة
التالية:
هل يقدم ما يكتب من نصوص
مسرحية أو ما تعرضه المسارح العربية جواباً حول وظيفة المسرح؟ وهل كان
للمسرح العربي صفات خاصة استطاعت أن تسابق أو تزامن حساسية ما في حياتنا
السياسية والاجتماعية؟
لقد حدثت تطورات كثيرة،
وأضيفت إلى قاموس التعامل اليومي بين الناس مفاهيم وشعارات جديدة، فما
الأرض التي يدور معها المسرح العربي؟
في الخمسينات، برز الصراع
واضحاً بين دعاة الثقافة القومية والوطنية، ومناوئيهم. وقد تصدى جيل نعمان
عاشور للصراع في المسرح، فكانت مسرحية «الناس اللي تحت» (1956) تبشيراً
بطلائع المسرح التالي التي رأت أن المسرح القومي أو الوطني يعني بروز ظواهر
جديدة من أهمها:
- تعاظم الجهد الدائب لخلق
المسرحية العربية الأصلية.
- الإصرار على المشكلة
الاجتماعية وربطها بالمشكلة الوطنية.
- استلهام التراث العربي
موضوعياً وفنياً.
- شيوع مسرح التأرخة، ومنه
طرح قضية النكسة، على سبيل المثال، وتنوع استجابة المسرحين لها، وكذلك هو
الحال مع الأحداث والوقائع الكبرى في تاريخ العرب الحديث.
إن فكرة هذا البحث تركز على
ربط مفهوم المسرح القومي أو الوطني بتثمير وظيفة المسرح في زمنه، ويدل
تاريخ هذه التجارب المسرحية على أن مثل هذه الفكرة ارتبطت في الممارسة
برعاية الدولة للمسرح (المسارح القومية أو الوطنية)، وفي النظرية (الإبداع
المسرحي والنقدي) بالمبدعين والفن. ومن المفيد اليوم، وفي ظل تردي هذه
التجارب المسرحية وطغيان المسرح التجاري والنمط الفني الاستهلاكي، أن تعاد
معالجة الأسئلة القديمة –الجديدة:
- دعم رعاية الدولة للمسرح.
- تكريس الموضوع القومي في
الفن.
- تشجيع التبادل الثقافي
والمسرحي القومي.
- إضاءة التداخل بين وظيفة
المسرح وارتباطها باتجاهات محددة كالتسييس والدعاوة والتسجيلية والدعوة إلى
المسرح الشامل.
- التوكيد على فصحى اللغة
المسرحية.
- الحرص على ربط أصالة المسرح
العربي بانتشاره إلى أوسع قواعد الجماهير.
ولدى مناقشتي لبعض المسرحيات
العربية في مدى اقترابها من المسرح القومي أو الوطني، لاحظت أن عديد
الأسئلة الأخرى لابد من معاودة معالجتها مثل:
- تربوية المسرح وتحقيقه
للمنظومة القيمية المنشودة.
- مسألة التأرخة في المسرح
واحتفاظها بقيمة العمل المسرحي، إذ غالباً ما تفقد المسرحية قيمتها حين
تصبح مجرد وثيقة عن واقعة تاريخية.
إن هذه الأسئلة جميعها مطروحة
للنقاش، فموضوع المسرح القومي أو الوطني ما يزال راهناً وملحاً.
1- «رفاعة الطهاوي أو بشير
التقدم»:
التسجيلية بشيراً لتقدم
المسرح:
لنتابع الحوار من جملة ليست
بجديدة، ولكن الجديد فيها هو قبولها، هذه الجملة تقول: «إن فكرة المسرح قد
وصلت إلى الناس»، إذاً صار هناك توازن بين صراع الذات والموضوع في المسرح،
وصار بإمكاننا الحديث عن واقع مسرحي وعن مهمات مطلوبة من هذا المسرح، وهذه
المهمات المطلوبة هي ما نعنيه بالمسرح القومي.
أقول هذا الكلام في معرض
الحديث عن صدور مسرحية جديدة لأحد رواد المسرح العربي الجديد في مصر، وأعني
به نعمان عاشور، الذي سبق له أن كتب العديد من المسرحيات، وترجم بعضاً من
نصوص توافق مسرحه، وتحدث عن هذا المسرح كثيراً في الدوريات والندوات
والمؤتمرات، فكان يدعو لمسرح واقعي مشغول بالمشكلة الاجتماعية التي ترتبط
أحياناً بالمشكلة الوطنية. بعد «الجيل الطالع» (1972) المكتوبة إثر غيبته
عن التأليف المسرحي، عاد نعمان عاشور إلى مسرحه الأثير انطلاقاً من أسلوبه
المعهود «المسرح الواقعي» لكي يصل إلى الهدف نفسه «الحرية والتقدم عن طريق
المسرح».
قلت عن نعمان عاشور في أماكن
أخرى: نعمان عاشور هزه واقع الطبقات الدنيا فالتصق بالمشكلات المرحلية يكتب
عنها دون تزويق. ولهذا، يمكن أن تؤخذ مسرحياته وثائق بعد تاريخ.. ولكن
المسرح ظل يبحث عن دوره الصحيح ليساهم مساهمته المنتظرة في حياة الشعب،
وقلت: لقد تراجع مسرح نعمان عاشور وأمثاله لينتشي في إبداعهم وبشكل خارق ما
يسمى بالمسرح السياسي. ما الجديد إذاً عند نعمان عاشور مرة ثانية؟ ولماذا
الكتابة عنه هنا؟
أصدرت سلسلة «مسرحيات مختارة»
في أيار 1974 مسرحية نعمان عاشور «رفاعة الطهطاوي أو بشير التقدم –دراما
تسجيلية في ثلاثة فصول وعدة مناظر». ونجد فيها أن المسرحية تسجيلية، أي أن
المؤلف يستخدم الوثائق.. منبعه الأثير في مسرحياته السابقة، وهو حين كان
يستخدم مادته في عمل «درامي» أو «مسرحي» وفق عقيدته الفنية بحيث تبدو في
النهاية ليست أكثر من «تسجيل» أو «وثيقة» لم يغفل سعيه الحثيث أساساً
لتوظيف المسرح.. كان يريد الوصول إلى أن يصبح المسرح نفسه وثيقة، بينما هو
في عمله الجديد يمسرح الوثيقة. الفرق إذاً كامن بين «تسجيل» الدراما أو
«مسرحة» الوثيقة.
والآن، هل لهذا الفرق تطور
يذكر في مسرح نعمان عاشور؟! يقول نعمان عاشور:
«وقد يبدو للوهلة الأولى أنني
أخرج بذلك عن اللون المسرحي الذي أكتبه عادة شكلاً ومضموناً، ولكن الحقيقة
أن تناولي لهذه المسرحية التي أعرفها بأنها دراما تسجيلية، إنما يرتكز على
نفس الأسلوب الدرامي الذي أخذت به نفسي منذ البداية.. وهو أسلوب قوامه
تسخير اللغة لدواعي التعبير الدرامي أصلاً.. والتزام الحقيقة الموضوعية في
معالجة الواقع الحي، ثم تجربة تناول الحقيقة التاريخية بأسلوب واقعي خالص»
(ص5-6).
إن المتتبع لنشاط المسرح في
العالم بشكل عام، وفي الوطن العربي بشكل خاص، يلاحظ إلى حد بعيد غياب
«الدراما» منبع العمل المسرحي عن المسرح، والدراما هي الفعل.
غالباً ما يحيل رجال المسرح
وفنانوه المعاصرون الدراما إلى خارج العمل الفني.. إلى باطن الحقيقة
الأسطورية أو التاريخية التي عرفت بعض وجوهها أو إلى ظواهر الواقع المعاش
أو بعض جوانب مفهومة من قضاياه، ثم يبنى- ما يبنى –على هذه الحقائق من
أسئلة جديدة تنير غبش الأسئلة القديمة، وفي هذا جوهر وظيفة المسرح في أن
يعين الناس على حياتهم.
إن نعمان عاشور في «رفاعة
الطهطاوي» يلجأ إلى الحقيقة التاريخية ليستنطقها قيماً للمستقبل. وبذا،
يمكننا القول: أن الكاتب وفر موضوعه «التاريخ» ولم يبق إلا ما يبنى عليه من
بناء.
وعلى سبيل المثال أيضاً،
اعتمد ممدوح عدوان على وقائع جرت وعلى أعمال كتبت. في مسرحيته «كيف تركت
السيف» مع شخصية أبي ذر الغفاري فكانت المسرحية أقرب إلى الحوارات السياسية
المباشرة. وفي «الانتظار» مع نص بيكيت الشهير «في انتظار غودو» مثيراً بعض
أسئلة الوضع السياسي الراهن، وفي «ليلة القتل» مع نص ميخائيل رومان «ليلة
مصرع غيفارا العظيم» باحثاً عن أسباب العطب في الثورة المعاصرة، واعتمد سعد
الله ونوس مثله في «سهرة مع أبي خليل القباني» شخصية أبي خليل القباني
ونضاله من أجل قيام «مرسح» في الوطن العربي، ثم ربط هذا النضال بنضال
الجماهير من أجل الحرية والاستقلال.
وصنع مصطفى في عمله «أيها
الإسرائيلي، حان وقت الاستسلام» الحلاج هذا حتى في تقديم «دراما» باعتماده
على ما يمثل لقاء «الإسرائيلي» بعربية في ذهن المتفرج وخصوصاً العربي.
وقبلهم بنى عبد الرحمن الشرقاوي دعوته السلمية الباطلة إزاء حقيقة صراع
يدور فيغطي أرض الواقع باللجوء أيضاً إلى وقائع صراع قديمة في «الفتى
مهران». وما فعله عبد الرحمن الشرقاوي يطرح تلك المقولة الخطرة: ألا يجب أن
يكون هناك تناغم بين الحقيقة التاريخية والتوجه بها إلى واقع الحال.
إن ما يجري في المسرح العربي
اليوم هو التوجه إلى الواقع الحي المتحرك بكل ما يتبعه حتى الآن من فهم
وفرصة للتعامل. وما نص نعمان عاشور هذا إلا تقرب من هذا الفهم وهذه الفرصة،
ففي فهم «المنطلقات الحية» في تاريخنا ونضالنا مهمة نضالية أيضاً.
إن التفات نعمان عاشور إلى
«رفاعة الطهاوي» في مسرحية تسجيلية يعني أن الحقيقة التاريخية تلهم الفنان
قيماً نضالية تساعد مجدداً على الحياة أولاً، وإن البحث في ظواهر الحياة
الاجتماعية لتوثيقها أو تسجيلها –كما كان بفعل من قبل- لا يغني القيمة
الفنية ولا القيمة الفكرية، ولهذا يجب النظر في علائق قد تبدو خفية أو
مستورة في التاريخ أو الواقع و «رفاعة الطهاوي» أولى وجوب النظر هذا
ثانياً، وإن النظر في هذه العلائق يتيح للمتلقي فسحة من المشاركة لمواصلة
العمل المسرحي، وإن «مسرحة» الوثيقة على هذا تبدو أقرب للمتلقى من «تسجيل»
المسرحية ثالثاً.
2- «طائر الخرافة»:
طائر المسرح يذهب بعيداً
مجموعة مسرحيات رياض عصمت
«طائر الخرافة» تثير جانباً من الحوار حول المسرح الوطني، ففيها محاولة
لتكريس مطالب هذا المسرح باصاخة السمع لنبض حياتنا السياسية والاجتماعية
أولاً، ومحاولة للجواب في عالم كبير من المسرح. والأصح محاولة «سياحة» في
عالم المسرح الكبير ثانياً.
يقول الغلاف:
«تسجل المسرحيات التي يضمها
الكتاب تطور تجربة رياض عصمت ذات الاتجاهات المتعددة في المسرح خلال
السنوات ما بين 1967و1970، وهي بذلك ترسم للقارئ مفترق الطرق في رؤيا
المؤلف والناقد المسرحي وتخوض به في غمار التجريب عبر أشكال تتنقل من
الميلودراما إلى المسرح الشامل إلى المسرح الملحمي وحي مسرح العبث، محاولة
البحث عن وسيلة تعبير متميزة ومؤثرة في قراء ومشاهدي المسرح العربي».
في المجموعة أربع مسرحيات هي
«القنبلة 1967»و «طائر الخرافة 1968»و «الخسوف 1969»و «والذي لا يأتي 1970»
وهناك أيضاً أربع مقدمات.
وتأتي مسرحية رياض عصمت
«القنبلة» لتصور إنساناً يعيش في الأرض المحتلة، يتهمه العدو بإلقاء قنبلة
بينما هو بريء، وبفعل المصير الذي يواجهه هذا الإنسان يصل إلى شجاعة غريبة
هي الاعتراف بإلقاء القنبلة.
والمسرحية فيها خصائص مسرحيات
المقاومة التي رأيناها بدءاً من «النار والزيتون- الفريد فرج» حتى «زهرة من
دم- سهيل إدريس»، فهي تفترض وقوف الفلسطيني أمام الصهيوني ثم مجادلته بحقه
في الأرض والحياة، إضافة إلى إلصاق حوار عن صراع طبقي يمكن أن يدور في
المدينة بالنضال ضد الصهيونية وكأن المسألة مسألة بيت جميل ومتطلبات
معيشية.. الخ.
المسرحية فيما تقوله لم يطرأ
عليها جديد، الجديد هو مقدمتها التي تثير الحوار.
إنه يستعير رأياً للناقد
المعاصر «اريك بنتلي» في الميلودراما (المشجاة) بقصد الوصول إلى «احتواء
جاد وملائم» لما يريد التعبير عنه، ويدافع عن الميلودراما قائلاً:
«في الواقع إن الميلودراما لا
تزيد عن افتعال الرومانسية ولا عن مبالغة الكلاسيكيات، ولا عن تهويل
الكوميديات أو الفانتازيا ». هذا كلام لا يجانبه الصواب، ولكن الصواب أيضاً
هو أن الفن، ومنه المسرح يقوم على الصدق والإقناع وغيرهما من الشروط الواجب
توفرها في طبيعة الفن.
إن كلام رياض عصمت عن
الميلودراما يفضي بالمسرح بأشكاله ومذاهبه واتجاهاته خاضعاً إلى المبالغة
والتهويل، أما مسرحيته «القنبلة» ففيها المبالغة والتهويل.
«طائر الخرافة» مثلها مثل
«القنبلة». مع الاختلاف في الأسلوب المسرحي، هنا يعتمد رياض عصمت، شأنه شأن
أغلب الكتاب المسرحيين العرب، على الكلمات الكبيرة ذات الضجيج المعروف، وهي
غالباً ما تكون إنشائية تتوجه إلى رصيد العاطفة المتأجج لدى المتلقي. فتغدو
المسرحية صراخاً متوجعاً ومتأملاً من أجل الأرض والوطن والحب وكل القيم
الجميلة.
هناك مناظر لا تخلو من شاعرية
وجمال تصل إلى أجمل الشعر الغنائي المكتوب، أما الحديث عن «تفاؤل الأدب
والفن- طرح الحلول في نهاية كل عمل- رصد المجتمع والعصر بصدق» فتلك مسائل
لا تثيرها المسرحية إلا في الحدود التي قامت عليها مسرحيته السابقة
«القنبلة».
في المسرحية الثالثة «الخسوف»
خمسة رجال يعزفون كما يحدث أيضاً في أغلب المسرحيات العربية على لحن
الهزيمة والانتصار في حياتنا العربية، ثم ما تلبث أن تنحدر هذه المعزوفة
إلى مستوى الحوارات اليومية حول الطبقات والفئات الشعبية في موقفها مما
تواجهه الأمة العربية من محن. وعلى الرغم من أن رياض عصمت ليس «مع الذين
ينادون بتفاؤل الأدب والفن» (ص 68) فإن مسرحيته هذه «الخسوف» تنتهي بتفاؤل
عجيب لا يمكن تفسيره. يقول الرجال الأربعة (ص 137- 138):
«سنذيب الحديد والحجر بلحم
أيدينا، بعظم أضلعنا، بنور أعيننا، ورغم خسوفك يا قمر سنصمد أيها القدر،
ونظهر الجرح بالسكين يا بلدي. رغم الخسوف، سندق الحديد والحجر دون خوف.
بأفواهنا إلى النور، سنأكل الحديد والحجر».
وتجيء مسرحيته الأخيرة «الذي
لا يأتي» عملاً جديداً يستند إلى مسرحية بيكيت الشهيرة «في انتظار غودو»،
لتعبر عن ذلك النزاع في نفس رياض عصمت بين موقعين في الحياة، إن «الأول» هو
«الثاني» في المسرحية، وما دام الرجل الأول قد انهال على الثاني بعشرات
الطعنات القاتلة في نصله اللامع وهو يردد «إني أكرهك»، فهل انتهى النزاع
عند رياض عصمت. إن الرجل الأول يصرح ببعض الأفكار التي ربما قتل من أجلها
رجلاً آخر مقيماً في داخله، ولا يفارقه هو الرجل الثاني. فهل قتل الرجل
الثاني لاكتشاف جديد عرفه، أو رآه الرجل الأول ثم غفل عنه. يبدو أن النزاع
عند رياض عصمت لم ينته: الوحدة ما تزال.. الخوف ما يزال.. الحب مات منذ زمن
طويل.. الوحشة تملأ الدروب.. الحاجة إلى الرجل الثاني ما تزال. عند هذا كله
يكون الحل هو الانطلاقة مع صاحبه «الرجل الثاني الذي مات» إلى الغابات،
ولكن الميت لا يتحرك، عندئذ ينطلق الرجل الأول وحيداً نحو الغابات، وقد شهر
السكين المضرجة بالدم وهو يطلق صرخة طويلة ثاقبة. إنه اليأس.. منتهى اليأس
إذاً. هذه هي مسرحية رياض عصمت الفضلى في مجموعة مسرحياته.
من هنا، تكون الحصيلة من
حديثنا عن مسرحيات رياض عصمت ما يلي:
- التفاؤل أو اليأس ليسا
بخلاصتين فنيتين، إنهما مسألتان تدخلان في نسيج الحياة التي يطمح العمل
الفني في النسج على منوالها.
- التنقل بين الأساليب
المسرحية مشروع.
- الموضوع ضروري للفن،
وللمسرح، والموضوع ليس أن «تحكي عن شيء»، ولكن أن «يحكي هذا الشيء» فيتحول
إلى مادة فنية عن التاريخ.
3- «رشاد رشدي»:
وقضية الصراع العربي
الإسرائيلي:
يتراوح المسرح، كما هي الفنون
جميعها، بين التحديد واللاتحديد.. بين التاريخي واللاتاريخي، وفي تعيين أحد
هذين الطرفين في مسرحية ما، نستطيع أن نعرف فكر الكاتب السياسي وموقفه من
الصراع الدائر على سطح الأرض عموماً، وبين بني قومه خصوصاً، وفي مسرحنا
العربي اقتراب كبير من التحديد.. من التاريخي، اقتضته التطورات في علاقة
الكاتب بالسلطة وفي مدى تحسسه للواقع مما ألح عليه أن يقف موقف المجابهة!
ورشاد رشدي الكاتب المسرحي العربي نفسه ألحت عليه الحساسية الجماهيرية في
طلب المسرح السياسي أو الملتزم، والحساسية الفنية في التبسيط والتقرير
واللغة اليومية وتسهيل المفاهيم الكبيرة فكتب مسرحيتيه الأخيرتين «حبيبتي
شامينا» (مطبوعات الجديد 1972) و «محاكمة عم أحمد الفلاح» (مختارات الجديد
1974)، والمسرحيتان تتنطعان للقضية الوطنية الأولى، قضية التحرير كما تتمثل
في الصراع العربي- الإسرائيلي ثم تدعيان تقديم الحلول. ماذا يقول هذا الرجل
في مسرحيتيه؟ وأين هما من المسرح الوطني أو القومي؟
لقد كتب قبل المسرحيتين
المذكورتين عدة مسرحيات أذكر منها:
«لعبة الحب» و«رحلة خارج
السور و«خيال الظل» و«حلاوة زمان» و«نور الظلام». وفي جميعها يتصدى رشاد
رشدي للذات المنقسمة، والضائعة، والمغتربة، وفي جميعها أيضاً يبحث رشاد
رشدي عن تلك الذات. المتوافقة ثم لا يجدها، فتظل شخصياته في أوهامها وفي
خوفها وقلقها سجينة لا تلوي على شيء ولا تنتظر شيئاً، أما علاقتها بمجتمعها
فتلك مسألة يطول بحثها، وخلاصتها أن الصراع داخل شخصياته نفسي بحت وفي
الغالب هو نتيجة افتراضات، والمحور هو فقدان الحب من قبل الآخر بتعبير
أوضح، لذا فهو يقيم علاقات متعامدة –متوافقة: أكثر من علاقة متشابهة مع
تغير الأطراف في كل مرة.
وبقي عالمه هكذا حتى كتابة
المسرحيتين الأخيرتين، عدا مسرحية واحدة أراد لها أن تكون صدى مباشراً
لواقع النكسة، فكانت «بلدي يا بلدي» ليرى فيها أن أسباب النكسة تعود إلى
الجدار القائم بين القائد والشعب، تلك النغمة التي عزف عليها أغلب كتاب
المسرح في مصر العربية، أمثال يوسف إدريس في «المخططين» وسعد الدين وهبه في
«يا سلام سلم، الحيطة بتتكلم» وعلي سالم في «أنت يللي قتلت الوحش». وعلى
الرغم مما تثيره هذه القضية من حوار مع الواقع العربي، فإنها تنطوي على عجز
واضح في التوجه إلى الصراع القائم وفي مدى وعيه تاريخياً وفنياً، ودون هذا
الوعي تظل الأعمال الفنية قاصرة، وتفتقد للصدق والإقناع.
تتحرك مسرحيتاه الأخيرتان
«حبيبتي شامينا» و«محاكمة عم أحمد الفلاح» في هذا الإطار تماماً فهما
تعتمدان الوصفات الجاهزة بحجة تقريب هذا النبض من جماهير المسرح. في
«حبيبتي شامينا» هناك شامينا أو سوسنة التي يحبها الراعي الشاب «راعين»،
وفي الوقت نفسه يريدها الملك سليمان زوجة له، وهنا يقوم الصراع بين الحب
والسلطان. وفي النهاية ينتصر الحب فبعدما أصبحت «شامينا» ملكاً لسليمان
يتدخل راعين، ويدخل أرض سليمان ليعيدها، وتعود دون مقومة تذكر، لأن أيدي
الحراس تصبح مشلولة، وهكذا تعود شامينا.. هكذا ببساطة.. الحب وحده يرجع
الحبيب: وببساطة أيضاً تتضح الرموز فشامينا هي فلسطين، وسليمان هو العدو،
وراعين هو الفدائي العربي أو ابن فلسطين. لكم هو الحل معقول وواقعي.
أما مسرحيته الأخيرة «محاكمة
عم أحمد الفلاح» (تشرين أول 1974) فقد كتبها من وحي 6 أكتوبر (تشرين أول)
1973، أي من وحي الحرب مع العدو. وتقع في أربعة فصول، وتخلو من حدث
اعتماداً على غنائيات الصراع مع العدو الإسرائيلي ومعطيات الحياة العربية
على ضفاف النيل من خلال تكنيك مسرحي هو الفلاح العربي في مصر من قبل قضاة
لا نعرف من هم تماماً، ثم تأتي حرب 6 تشرين لينسحب القضاة، ويتركوا منصة
القضاة لعم أحمد ومن ورائه الشعب (المرأة والفتاة والراوي والشاعر إلخ..)
ليبدأوا المحاكمة. ثم نفهم أن المحاكمة ستقام من أجل بناء الوطن وتحريره.
هكذا أيضاً، وببساطة. إذاً المسرحية غناء لحرب تشرين باسم الفلاح.
تخلو قاعة المحاكمة في الفصل
الثاني من القضاة لتنطلق مونولوجات الراوي والمرأة والشاعر وغيرهم بينما
تتخللها بعض أحداث الحرب أو المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، وما هو معروف
منها كحكاية تقديم الأم ولدها للعدو بدلاً من الفدائي فقد استخدمه غيره
بنجاح لم يحققه هو (وليد إخلاصي في «يوم أسقطنا طائر الوهم» على سبيل
المثال) وما هو غير معروف فمبالغ فيه وممجوج (مثال: حين يغضب عم أحمد من
الطيار الإسرائيلي يتحداه بدون سلاح، أما الطيار الإسرائيلي فيجري مذعوراً
وهو يصيح مصري.. مصري.. مصري).
لقد ظل في مسرحياته عدا «بلدي
يا بلدي» أميناً للاتاريخي، ولذلك تعرفنا على عالمه وأفكاره، أما
المسرحيتان الأخيرتان فيلجأ فيهما إلى «الغناء» لكي لا يواجه تفاصيل واقع
شديد الغنى والإثارة والتعقيد.
4- «بيت الجنون»:
خطوة إلى القضية الفلسطينية:
كتب توفيق فياض مسرحيته «بيت
الجنون»، في الأرض المحتلة عام 1965 وهذه المسرحية بالذات تثير مسائل عديدة
حول طبيعة المسرح الوطني لعل أبرزها ما يكتسبه مثل هذا الفن الذي يكتب تحت
سمع وبصر العدو أولاً، والأدوات التي يتوصل إليها الفنان المناضل لتوصل
فنه، ثانياً، ثم الموضوعات ومدى علاقتها المباشرة بالصراع مع العدو ثالثاً.
إن رؤيا الفنان حين تستشرف
الواقع من خلال ذلك الصراع الخالد بين الإنسان وقوى الظلم والعدوان، هذه
الرؤيا هي المقاومة بحد ذاتها، ولكن ثمة أدب مقاومة يوظّف جهوده لقضية
سياسية أو اجتماعية. مباشرة، هذا الأدب هو الأدب الوطني، وعلى الغالب،
يتحول بعد انتصار القضية التي دافع عنها إلى (وثيقة) مثل البيانات وكتابات
الشهود إبان موقعة ما.
كتب توفيق فياض مسرحيته في
الأرض المحتلة، وطبعها لأول مرة هناك، وهذا ما جعله يختار أدوات فنية ربما
تكون غير متجانسة، وعلى الرغم من ذلك كله استطاع أن يوصل ما يريد أن يقوله،
وأن تكون مسرحيته لبنة من لبنات رفض الواقع القائم على الظلم والعدوان، لقد
سبق للكاتب الفلسطيني «عفيف سالم» أن قال عن مثل هذه النماذج إنها «ابنة
شرعية للوضع الاجتماعي السياسي للشعب العربي في إسرائيل» وهذا صحيح. ومن
هنا، تجيء خطورة ما هو مطلوب منها، أن تكون أشبه بالمنشورات ولكن بشكل
علني، باعتبارها عملاً فنياً لا يتخذ صورة المنشورات المباشرة.
«بيت الجنون» ليس فيها سوى
شخص واحد هو سامي الذي كان يعمل مدرساً للتاريخ والأدب، ووحده يتوسط خشبة
المسرح مع تعليمات وإرشادات مسرحية كثيرة تكاد تحيل العمل إلى قصة حوارية
تعتمد أسلوب/ المونولوج –حديث الشخص لنفسه- سامي عن ذلك الحصار الذي يبقيه
في «قبر» الاحتلال، وهو لا يتأخر عن تسميته بالكابوس الرهيب، وهذه التسمية
هي أول كلمات المونولوج –المسرحية. ثم لا يتوانى عن بسط حالته ومخلوقات
عالمه: وحدته، ملاحقته الدائمة من قبل أصحاب الأحذية الوحشية والقبعات
السوداء، الريح الشديدة الهبوب، لبنى الملاك التنين، الناس الغرباء في
داره.. الخ..
أما كيف يتعامل مع عالمه،
وكيف يفهمه فهذه بعض حالاته:
- السلام العالمي يساوي ناقص
الإنسانية (ص13).
- بل شبح المالك ذلك المغتصب
الوقع (ص16).
- ولكنني، لن أستسلم.. لن
أستسلم أبداً!! (ص28).
- العالم بأسره، هو المسؤول
عن هذه المأساة الأليمة، مأساة ولادتي! (ص57).
- هناك، هل تسمع..
فإنني لا أخافكم.. (يندفع نحو
الباب بجنون يحاول فتحه).
لا أرهبكم.
سأتحداكم جميعاً.
وسأنتصر عليكم جميعاً.
جميعاً..
وحدي..
وحدي.. (ص 80 وبذا تنتهي
المسرحية).
المسرحية –كما نلاحظ- تخلو من
حدث إلا من وجدان سامي الذي يتحرك على طول المسرح وعرضه محاصراً من كل
الجهات، حتى الصالة تحاصره، مؤكداً توجهه نحو أهدافه من كتابة المسرحية،
حين يلتفت إلى الجمهور «العدو الإسرائيلي» ويقول:
يا إله السماء!
أنتم!..
ماذا تفعلون هنا؟
كيف دخلتم داري بحق الشيطان!؟
كيف استطعتم ذلك؟! (ص29).
لقد أراد توفيق فياض لبطله أن
يكون ممثل العرب تحت ظل الاحتلال الإسرائيلي رمزاً ومرموزاً له، ثم يوسع
استخدامه لهذا الأسلوب حين يقدم رموزاً أخرى مثل «لبنى» و«الريح» الأول
للدلالة على قيمة ما، والثاني للدلالة على موقع بيت سامي- فلسطين- في
التاريخ.. وإن البيت معرض في كل حين للثورة، وما يجدر ذكره هنا هو نجاح
توفيق فياض في توصيل أفكاره لجمهوره رغم انتهاجه الرموز التي عطلت بعض
الدلالات لتنافيها مع الأسلوب المباشر في مواقع كثيرة –لاحظ المنطق
والمحاكمة في مونولوج سامي- وهو في هذا معذور، كونه يكتب تحت ظروف الإرهاب
والبطش.
وقد كان توفيق فياض أميناً
للممارسة النضالية لشعبه، إذ لم يتجاوز حدود التفاؤل المتاح حين جعل سامي
(الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة) يرفض الاستسلام، ويقرر المواجهة
بالكفاح المسلح «1965».
إته، ببساطة، يكتب مسرحاً
وطنياً يلبي احتياجات شعبه حين يهتم اهتماماً بالغاً بمسألة التوصيل، وحين
يعالج موضوعات متغيرة هي موضوعات النضال العربي الفلسطيني، وبذا يقدم
المثال على أن المطلوب من الأدب والفن الوطنيين ما يزال كثيراً، «وإن
القضية الفلسطينية ما زالت أكبر بكثير من الفعل الفلسطيني» كما يقول توفيق
فياض نفسه، ومنه الفعل الفني.
5- «النسر الأحمر»:
الواقع والقيم الفاضلة:
ربما كان عبد الرحمن الشرقاوي
الكاتب الوحيد بين كتاب جيله الذي واكب التطورات السياسية والاجتماعية في
بلاده في مختلف الوسائل التي يمارس فيها العمل الفني (الشعر والقصة القصيرة
والمسرحية والرواية والمقال الأدبي والسياسي). فهو ينتمي إلى الجيل الثاني
من كتاب المسرح العربي في مصر مع نعمان عاشور ورشاد رشدي وسعد الدين وهبة
ويوسف إدريس والفريد فرج، هذا الجيل الذي نضجت تجربته الأدبية في مطلع
الخمسينيات، وكان بدأ الكتابة في أواخر الأربعينيات.
صحيح، إن اهتمام كتاب الجيل
الثاني من المسرح العربي كان منصباً على مسألتين: الأولى معالجة الطبقة
المتوسطة في المجتمع المصري، والثانية التزاوج بين المشكلة الاجتماعية
والمشكلة الوطنية، إلا أن عبد الرحمن الشرقاوي يتميز عن أبناء جيله بميزات
منها:
أولاً: توجهه نحو المسرح
الشعري، وقد كتب مسرحيات عديدة شعراً هي «مأساة جميلة» عام 1959 و«الفتى
مهران» عام 1963 و«ثأر الله –الحسين ثائراً وشهيداً» عام 1967 و«النسر
الأحمر» عام 1974 وهي مدار إشارتنا الآن، وله أيضاً ثلاث مسرحيات هي
«الأسير» عام 1953، و«تمثال الحرية» عام 1967، و«وطني عكا» عام 1969.
ثانياً: توجهه نحو معالجة
البيئة الريفية، فالفلاح حاضر في مسرحياته أبداً.
وما يمنح مسرحه خصوصية هو
فكره الذي يتوصل له في أساليب فنية معينة. لقد ظل أميناً للأهداف الوطنية
الواسعة لفترة طويلة. ففي «مأساة جميلة» تمجيد للدفاع عن حرية البلاد، وفي
«الفتى مهران» إدانة لسقوط الفارس أو المقاتل في التواطؤ مع السلطة
العميلة، وفي «الحسين ثائراً وشهيداً» غناء للشهادة من أجل الدفاع عن الوطن
والقيم النبيلة. ولكنه في مسرحيته «النسر الأحمر» (نشرت أولاً مسلسلة في
روز اليوسف خريف عام 1974) يلح إلحاحاً غريباً على مشروع للسلام إزاء
الدفاع عن الوطن أو تحريره. رغم أن مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي قريبة
الصلة بالتطور السياسي والاجتماعي لبلاده، حتى لتجد دائماً في مسرحياته ما
يوازي الشخصيات والأحداث، إلا أنها تتجاوزها في مفاهيم لا تخضع للمتغيرات،
إن صح التعبير.
في «وطني عكا» على سبيل
المثال يناضل العرب الفلسطينيون من أجل تحرير بلادهم، ولا تمنعهم من هذا
النضال ظروف القهر التي تحيط بهم من كل جانب، وحين يتنازل «الفتى مهران»
للسلطة العميلة لا يرحمه أحد من الشعب، وتنتهي المسرحية وإرادة الشعب تدعو
للبناء والتحرير. وفي «ثأر الله»، كتب أكثر من 400 صفحة يغني للشهادة في
سبيل القضية، وقد وصل به الغناء حداً لم يميز معه بين ما يفصل الخير عن
الشر. هناك الشر، وهناك الخير، ولا شيء بدونهما، ونتيجة لهذا، بدت شخصياته
«مسطحة» لا تحيي فكرة بقدر ما تحييها الفكرة ذاتها، وهذا كله بدافع
الالتفات إلى القيم الفاضلة وحدها ضد ما يدنسها ويزيفها ويلغيها.
كان عبد الرحمن الشرقاوي ينظر
إلى الواقع من خلال القيم الفاضلة، وفي مسرحيته الأخيرة صار ينظر إلى القيم
الفاضلة من خلال الواقع، كيف؟
«النسر الأحمر» ثنائية
مسرحية، مثلها مثل «ثأر الله»، تتألف من مسرحيتين هما: «النسر والغربان»
و«النسر وقلب الأسد».
«النسر» هو صلاح الدين
الأيوبي، القائد العربي البارز وصاحب الانتصارات المشهورة على الصليبيين،
وعبد الرحمن الشرقاوي اختار له اسم «النسر» في مسرحيته، لأن النسر «أمير
الجو وملك الطير.. يصعد القمم الشماء، لا يعرف نسر كيف يسف، لا يهوي لحضيض
الأرض، ولا يغتال فريسته غدراً، ويواجهها بشرف، إن النسر شباب خالد». (ص
34).
تعريف النسر وسبب تسمية صلاح
الدين به مفتاح المسرحية، إن أخلاق النسر الفاضلة هي معيار التعامل مع
الأصدقاء ومع الأعداء أيضاً، وهي معيار النمو الدرامي كذلك. لعل «النسر
الأحمر» هي مسرحية الشرقاوي الوحيدة التي تكاد تكون نتاجاً للحظة الخلق
الرائعة إذ تخلو من التفاصيل في الأحداث ومن الشخصيات الهامشية لحساب النمو
المسرحي، هذا النمو الذي يلاحق أخلاق «النسر» أو «صلاح الدين» وحدها حتى
أننا لا نعرف له علاقات خاصة (زوجة- أم- أقارب..الخ). إن النسر هنا أخلاق
تسمو على الصراعات الكبيرة والصغيرة، وهذا السمو ينتصر في النهاية على
المعتدين والغزاة.
هناك أعداء في الداخل (محاولة
انقلابية يقوم بها نائب السلطان) وأعداء أشقاء (تحالف أمير المغرب مع
الغزاة وخصوصاً ريتشارد قلب الأسد) وأعداء الوطن في الخارج (الغزو
الصليبي)، ولكن النصر يكون في النهاية لأخلاق الفارس العربي، أخلاق النسر.
بعد تصفية أعداء الداخل والأعداء الأشقاء ينتصر النسر على الغزاة، وبالفعل
يتعاهد وريتشارد على «ألا يغزوا هم منذ اليوم أية أرض عربية»، فالفضائل قوة
العرب، «هي قلعتنا، هي أسوار مدينتنا» (ص 125). وهكذا يقوم السلام. لنقرأ:
«صلاح: (يعانق ريتشارد) عد
بجنودك يا ريتشارد.. عد لبلادك فاملأها يا قلب الأسد بأمن القلب ودفء
البيت. عد بالفرحة للزوجات عد بالبسمة للأطفال وللأبناء.. فلنتعاون عبر
البحر لنصنع فجر زمان الخير.. زمن يشرق فيه العدل ويحكمه سلطان العقل..
ويظلل فيه هذا العصر السلم الدائم.. ليصير به الإنسان الحر أخا الإنسان» (ص
128).
ولكن إلى أيّ حدّ يُرى الواقع
من خلال القيم الفاضلة؟ إن إجابات الواقع مختلفة بالتأكيد عن رؤى الفن
المفرقة في المثالية.
[مجلة «الموقف الأدبي»
(دمشق)، ع227-228، 1990]
6
المسرح سبيلاً لوعي الذات:
إبداع الفريد فرج نموذجاً
ينتمي الفريد فرج إلى كوكبة
من المسرحيين العرب في مصر ممن انعطفوا بالكتابة المسرحية انعطافة هامة
صارت إلى تحول واضح في الإبداع المسرحي مختلف عن المسرح الذهني الذي مثّله
منذ عشرينيات القرن العشرين توفيق الحكيم (1902-1987) وأقرانه أمثال محمود
تيمور (1894-1968) وعزيز أباظة (1898-1973) وعلي أحمد باكثير (1910-1969)،
ومختلف أيضاً عن المسرح التجاري أو المتغرب عند نجيب الريحاني (1891-1949)
ويوسف وهبي. وقد شكلت هذه الكوكبة حساسية فكرية وفنية مغايرة نهضت بالمسرح
العربي نهضة شاملة في فهم المسرح وفي ممارسته، ومن أعلامها البارزين، على
تباين اتجاهاتهم وطرائقهم، الفريد فرج ونعمان عاشور ويوسف إدريس (1927-199)
وصلاح عبدالصبور (1931-1981) وعبدالرحمن الشرقاوي (1920-1987) وسعدالدين
وهبة ومحمود دياب وميخائيل رومان.
1ـ التفكير الأدبي والمسرحي:
برز الفريد فرج أديباً
ومسرحياً واعياً بشؤون إبداعه نظرياً وتطبيقياً، ولعله من الكتاب القليلين
الذين يصدرون عن رؤية إبداعهم وفهمه في مصادره وطبيعته ووظائفه، فرافق
الإبداع اشتغال يقظ على ترشيد الممارسة الأدبية والمسرحية في زمنها وفي
تطلعاتها الفكرية والفنية، بل إن فرج طمح إلى ترسيخ المسرح جنساً أدبياً
حديثاً ليصير مثل الشعر والرواية ديوان العصر، وقد حرص على أن يؤصل هذا
الجنس الأدبي في الثقافة العربية بوعي التقاليد الحكائية والمسرحية في فنون
العرض والفرجة والأداء الصوتي والحركي مما ميز الظاهرة المسرحية العربية
طقساً أو شعيرة ما لبثت أن انغمرت بالأعراف والتقاليد الاجتماعية، محتفظة
غالباً بمنشئها الديني ونزوعها الاتصالي شفاهاً أو كتابة. ونتلمس في هذا
البحث عناصر التفكير الأدبي والمسرحي عند فرج للتعرف إلى طوابع التأصيل في
تجربته العريضة والعميقة والثرية.
بدأ فرج مسرحياً معنياً
بتجسيد نصوصه على خشبة المسرح، وقضى قرابة عقدين من الزمن مخلصاً لإبداعه
المسرحي، تأليفاً وبحثاً وإدارة ومخاطبة للراشدين والناشئة في آن واحد، ثم
لتأليفه في أجناس أدبية أخرى راسخة في الحياة الثقافية العربية مثل الرواية
والقصة القصيرة والمقالة، على أن فعالية الأديب أو الكاتب أو الفنان لا
تقتصر على خطاب جنس أدبي بعينه، وعلى أنّ الأجناس الأدبية متعددة أساليب
البلاغة والإبلاغ.
أما أبرز شواغل التأصيل عند
فرج فهي:
1ـ1ـ فهم الأصالة من خلال
التقليد القومي:
أدرك فرج مبكراً وهم التليد
الغربي والانهماك فيه، على أن أهمية الأدب والفن تنبع من طوابعه القومية،
ولاسيما جماع الخصائص المعبرة عن هويته، فرأى أننا نختلف عن أوربا:
«لذلك كله، فإن التطلع إلى أن
يكون لنا مسرح يزدهر على النمط الأوربي هو من أوهام الواهمين» (م12 ص38).
وثمة من يناهض الدعوة إلى
الهوية في الأدب والفنّ من منطلق أن المسرح ظاهرة أوربية ونتاج عمليات
التحديث، وعلى الرغم من مجاوزته لمثل هذا النقاش، إذ ربما كان صحيحاً
بتقديره، إلا أنه يعمل النظر والمحاججة في استمرار التقليد العربي للأدب
والفن وفي تطوره الكبير مع النهضة القومية:
«فقد كان المسرح العربي يتكون
في منتصف القرن التاسع عشر في جو من الفنون الشعبية الجماهيرية في المقهى
وفي السوق.. فنون الأراجوز والمحبظين والشاعر والحكواتي وحفلات الطرب
والرقص وطقوس الاحتفالات ومغاني الأفراح والأعياد» (م12 ص43).
لقد تكون المسرح العربي عند
فرج من تقاليده في مناخ التأثير الأوربي، واستنكر المغالاة في قول القائلين
إن المسرح العربي «مبادرة من مبادرات التحديث الاجتماعي على النسق الغربي»
(م12 ص33)، مثلما رفض مقايسة المسرح العربي على ما يجري فوق منصات المسارح
الأوربية: «لهذا ينبغي دحض هذا المعيار والكشف عن عيوبه، مهما كان ذلك
محفوفاً بالمزالق، أو خارجاً عن المألوف» (م12 ص35).
وأورد فرج اختلافات بينة بين
المسرح الأوربي المستقر والمسرح العربي الناهض، وأولها نزوع الأول إلى
العالمية ومخاطبة الإنسانية الشاملة ومجاوزة الفوارق المحلية، بينما ينزع
الثاني إلى تكريس القومية وتوكيد عناصر الشخصية الوطنية بمعناها الضيق الذي
يصل في أقصى تطرفه إلى الطائفية المحدودة، لأنه يتحرك بدواعي الهوية:
«وإن تأكيد الهوية الوطنية في
حياتنا الفكرية والاجتماعية، حياتنا الفردية والجمعية، قوة نافذة لا تدع
لجماهيرنا مجالاً كما في أوربا لأولوية الشعور بالعالمية أو أولوية الإحساس
بالشمولية الإنسانية» (م12 ص37).
وأوضح فرج أن أولى المحاولات
المسرحية في القرن التاسع عشر كان تأطيرها العربي على أيدي الرواد أمثال
القباني والنقاش، وهو ما كان في صلب ازدهار المسرح في ستينيات القرن
العشرين باكتشاف الصلة بين المسرح العربي والفنون الشعبية العربية تذكر
جهود التأصيل النظرية مثل كتاب توفيق الحكيم «قالبنا السمرحي» ودراسة يوسف
إدريس في مقدمة مسرحية «الفرافير» عن مسرح السامر الريفي والمسرح الشعبي
عموماً، وكتب علي الراعي المتعددة، ولاسيما كتابة «الكوميديا المرتجلة»
.ورهن فرج تطور المسرح العربي بجمهوره ضمن التنمية الثقافية الأعم
وجماهيرية الثقافة التي تستند، فيما تستند إليه، إلى الخصوصيات الثقافية
وتأصيلها:
«المسرح العربي يجب أن يقوم
بالرحلة إلى جماهيره، ليكتسب أسلوبه الأمثل وشرعيته القومية، ولينطلق في
مسار تطوره الطبيعي، ويصبح الشكل والمضمون واللغة موضوعاً اختياراً
جماهيرياً واستفتاءً شعبياً واسعاً وانتخاباً طبيعياً حقيقياً» (م12 ص46).
1ـ1ـ1ـ الأدب قومي:
عزز فرج فهمه للظاهرة الأدبية
والفنية بأنها قومية واجتماعية في الوقت نفسه، فقد دلت الدراسة النظرية
والجمالية على أن «اكتشاف الشكل الفولكلوري البدائي للمسرح هو الشكل
الضروري للمسرح الطليعي في بلادنا» (م12 ص21).
ثم ربط فرج جماليات الأدب
والفن بمثل هذاالاندغام بين بعدي المسرح الاجتماعي والقومي، ودعا إلى تأصيل
فن المسرح اجتماعياً، «أي إلى مداومة البحث من أجل تحقيق هذه العلاقة بين
المسرح والجمهور ـ أوسع ما تكون، وأوثق ما تكون ـ فهي الأساس لكل نهضة
مسرحية حقيقية، وهي حجر الزاوية في جماليات فن المسرح» (م12 ص31).
وجعل فرج البعد القومي
للظاهرة الأدبية والفنية محك النظر في التجربة الغربية، وهو منطلق كتابة
«شرق وغرب: خواطر من هنا وهناك» الذي يرهن فيه على أن وعي الآخر مرتهن بوعي
الذات حين أعاد إلى الذاكرة حقيقة أن العلوم العربية هي التي أضاءت ظلمات
أوربا، مما يستدعي دوام التفاعل الثقافي: «وأفكارنا التي أنارت أفكارهم،
فلا محل للتحوط أو النكوص عن استردادها وأن ننعم بثمارها وبتطوراتها. إن
ذلك ليس تغريباً أو اغتراباً، فقد نبعت العلوم من أصالتنا، وأصالتنا قديرة
على استيعابها واستقبالها بقلب مفتوح» (م12 ص220).
إن وعي الآخر مرتهن بوعي
الذات، ولعل كتابه «دائرة الضوء» تعبير عن محاولات هذا الوعي من خلال
شخصيات ثقافية مؤثرة أسهمت، العربية منها، في تأصيل الأدب والفن في الحياة
العربية مثل الحديث عن أول وزير للثقافة (فتحي رضوان) وأول أوبرا عربية
(جهود كامل الرمالي) والموقف من الفولكلور (يحيى حقي) ومسيرة الواقعية
بوصفها مسيرة الصدق (نعمان عاشور) والتماس قيمة الفنان من جمهوره (يوسف
وهبي) وأهمية ترسيخ دور الخواص في التنمية الثقافية (الموقف الرائد لمحمد
محمود خليل وحرمه) والتوكيد على أن تقدير الفن نابع بالدرجة الأولى من بعده
القومي والمحلي (نوبل نجيب محفوظ)..الخ. وثمة موقف أو حالة شديدة الدلالة
في التعبير القومي للفن فيما انتاب صلاح جاهين من اكتئاب بتأثير الهزيمة
العربية في عام 1967 حين قال: «كانت هزيمة 67 قد ألقت بي في هاوية من الحزن
لا قرار لها»، ولقد أمعن مرض الاكتئاب في تعطيل إبداع هذا الفنان المتألق:
«إنني أشعر بالحزن والأسف
مضاعفاً، لأننا نحن أصدقاءه لم نستطع أن نواسيه، ونخفف عنه بقدر ما أسعدنا
وواسانا» (م10 ص167).
ويؤيد نظرة فرج لقومية الأدب
والفن حفاوته البالغة بتجربة شيخ البنائين حسن فتحي الذي خصص له أول فصل من
كتابه «دائرة الضوء»، لأنه انطلق في العمارة، وهي مجموعة طوابع ثقافية
وفنية، من التزام الخصائص القومية والمحلية فيما سماه «المعمار التقليدي»،
ورآه معبراً عن اشتغال عام بالهوية القومية في الأدب والفن:
«وهكذا مثلت العمارة بصورة
فصيحة حوار الفكر المصري في فترة النهضة الوطنية واختلاف تياراته حول
الأصول والانتماء. وفي دراما هذا الحوار كانت إضافة المهندس حسن فتحي رائدة
إذ أنه توجه إلى الفولكلور، واعتبره خلاصة الطابع العربي للتاريخ المصري
بكل مراحله. وبذلك التحق حسن فتحي فكرياً، وكان رائداً للمدرسة التي ضمت
سيد درويش في الموسيقى، وكمال سليم في السينما، وبيرم التونسي في الشعر،
ويحيى حقي في القصة، ورشدي صالح في الدراسات الأدبية، وعلي الراعي في
الدراسات الفنية» (م10 ص26).
1ـ1ـ2ـ مواجهة الأجنبي:
ندد فرج بالأجنبي، على أنه
مناقض للوجود، فخص مسرحيات كثيرة لفعل مقاومته وتحرير الذات القومية، كما
في «سقوط فرعون» و«صوت مصر» و«سليمان الحلبي» و«النار والزيتون» و«عودة
الأرض» و«وألحان على أوتار عربية»، ولم يقف تنديده بالأجنبي عند الاستعمار
أو احتلال الأرض أو العدوان السملح، بل نبه إلى مخاطر الغزو الثقافي مبكراً
وما يشيعه من مشاعر الاستلاب والاغتراب، ولم يصدر في تنديده عن تعصب قومي،
فالعربي، كما تؤشر ملاحمه الشعبية، يميز بين الأجنبي والقومية الأخرى:
«والقاريء يلحظ أن القصص
تنتظمها مسحة سخرية ظاهرة بالعجم والترك والروم، بينما لا تتجه القصص إلى
التنديد بالقوميات الأخرى كالهنود أو الصينيين، فالعجم والترك والروم كانوا
هم التحدي التاريخي في ذلك الوقت للقومية العربي» (م12 ص57).
وأعمل فرج مبضع النقد في
التغريب الذي أثر طويلاً على تطور المسرح العربي في مصر: «وبدلاً من أن
يكون المسرح مرآة تعكس حياة الناس، أصبح مرآة تعكس نزوع قياداته إلى
التغريب والانبهار بالنموذج الفني الأوربي» (م12 ص79).
وقد فهم فرج الأصالة على أنها
نبذ للتبعية، فحكايتنا مع العالم هي حكايتنا مع النفس ومع الماضي الحي
بصراع الأصالة مع معوقاتها الاستعمارية الخارجية والداخلية:
«إن الغاية والمطلب هما
اكتشاف الذات، وتحرير القدرة الذاتية القومية والاجتماعية مع كافة الظروف
المقيدة والمعوقة ـ تحرير الروح.. من الواقع الذي نعيش فيه ضعفاء متخلفين ـ
من رواسب الانقياد لثقافة قوية جعلها الاستعمار في مركز عالمي قوي ومؤثر
بالضرورة، ومن رواسب ماضٍ ضعيف ومظلم مع ذلك» (م8 ص302-303).
وآلت مواجهة الأجنبي وكشف
مخاطر الغزو الثقافي من خلال الاستلاب والتغريب والتبعية وسواها إلى ضرورة
التعريب والتفكير باللغة العربية:
«فالتعريب ليس مجرد عملية
تهدف إلى تسهيل التعليم. إنه حجر الزاوية في انطلاق هذه الأمة إلى آفاق
العصر. اللغة أداة تفكير. يستحيل التفكير بغير اللغة» (م8 ص326).
1ـ2ـ استلهام التراث:
عدّ فرج استلهام التراث حجر
الأساس في تحقيق الهوية القومية في الأدب والفن، ووجد ذلك في سحر القصّ
الشهرزادي أو سّرد الليالي معبراً إلى وعي الخصوصيات الثقافية في الممارسة
الأدبية والفنية، فاستلهم الليالي في عدة مسرحيات، هي «حلاق بغداد» و«بقبق
الكسلان» و«علي جناح التبريزي وتابعه قفه» و«رسائل قاضي إشبيلية» و«الطيب
والشرير والجميلة»، ثم مدّ مجال استلهام الليالي إلى الرواية «أيام وليالي
السندباد» والقصة «ليالي عربية»، على أنه استلهم التراث العربي في المقامة
والسرد الأدبي الجاحظي والملاحم والسير الشعبية، ونفى في هذا المجال التأثر
بالتقليد الغربي عندما اتجه المسرح العربي إلى الملحمية بتأثير التراث،
ولاسيما الليالي، «فهو أقرب إلى سرد الحكايات منه إلى تركيز الموقف،
وتأثرنا في هذا المجال كان بالقصة العربية وليس ببريخت. وإذا تشابه توجهنا
مع نظرية بريخت، فليس معناه أننا استلهمنا أسلوبنا من بريخت، ولكن توجهنا
جاء من باب ألف ليلة» (م12 ص67).
وحدد فرج بدقة خصائص استلهام
التراث الملتصق بالبعد القومي للأدب والفن، «فالرجوع إلى التراث العربي
العام كان هو التوجه القومي العربي. حيث أن الفنان لم يقنع بالتراث القطري،
وإنما امتد نظره إلى التراث القومي الذي يجمع الأمة العربية، لا التراث
الذي يجزؤها. ومن ثم كان استلهام التراث مرتبطاً باللغة العربية الفصحى»
(م12 ص66).
لا يتوقف استلهام التراث لدى
فرج عند الشكل وحده، بل يجعل المحتوى الفكري بما هو منظومة قيمية تتصدرها
قيم الجوهر العربي الأساس، لأن الطرح الفكري الواقعي والعصري شديد الالتصاق
بإطاره الجمالي، «فحين نتحدث عن فكرة الحرية والعدالة الاجتماعية، أو نطرح
رأياً عصرياً ومستقبلياً في إطار من ألف ليلة وليلة إنما نوحي للجمهور
بأصالة فكرة الحرية والعدالة في تاريخنا وأصولنا الثقافية، ونضفي على
الفكرة مصداقية تاريخية وتراثية» (م12 ص69).
ورأى فرج في استلهام التراث
سبيلاً تربوياً للتلقي الثقافي مما يعين على شؤون التأصيل، وقد ثمّر هذا
السبيل في مسرحياته، وفي روايته وقصصه التي تستلهم الليالي، من مفهوم
الكتاب القصصي الذي ينوع الأشكال السردية إلى مزايا التشكيل وجماليات اللغة
وتعبيرها عن الجوهر العربي والمنظومة القيمية وفي مقدمتها مواجهة الأجنبي:
«وألف ليلة حافلة بهذا المعنى
الكبير، وهو معنى المواجهة بين العربي وغير العربي سواء في السندباد أو في
غيرها من القصص تجد دائماً ذلك اللقاء مع الروم والهند والزنج وأهل الصين
العجم» (م12 ص73).
ويفيد تثمير هذا البعد القومي
رشاد الموقف من التراث، لا إعادته أو الانتقاء منه، بل استعادته بروح نقدية
مؤمنة بالمستقبل:
«إن استخدام التراث كإطار
مسرحي أو انتهاج الأسلوب الشعبي القديم في ضرب الأمثولة ينطوي على قصد واضح
لإعادة صياغة الحاضر عن طريق إعادة صياغة التراث. وهو بذلك موقف نقدي وجدلي
من التراث، كما أنه موقف نقدي وجدلي من الواقع. هو موقف للواقع ناقد
للماضي، وموقف للماضي ناقد للحاضر.. هو موقف نقدي وحر من الواقع ومن الماضي
معاً. ولعل هذه هي حكاية الأدب التقدمي مع الماضي ـ المسرح والقصة
والشعر... إنه، كان في فنّ الأقنعة الزنجي استخدام لقناع الماضي بفرض
التطهر من سطوة الماضي ومن سلطة الماضي». (م8 ص221).
واللافت للنظر أن فرج واع
لمعاني الاستلهام ووظائفه من مستوى الحكاية في المسرحية وأصلها الروائي أو
الشفاهي إلى مستوى الخطاب، وقد قال في نهاية سبعينيات القرن العشرين عن
زياراته الأربع آنذاك لليالي:
«حلاق بغداد» مسرحية في
حكايتين الأولى يوسف وياسمينة من ألف ليلة. والثانية زينة النساء من
المحاسن والأضداد للجاحظ؟
شخصية أبو الفضول التي تربط
بين المسرحيتين هي إحدى شخصيات ألف ليلة وليلة، وهي شخصية مزين بغداد (في
الجزء الأول من ألف ليلة).
المسرحية الأخرى من فصل واحد
(بقبق الكسلان) وهي مسرحية للأطفال وهي أيضاً مستوحاة من ألف ليلة وليلة.
«على جناح التبريزي وتابعه
قفه» مسرحية مستوحاة من ثلاث حكايات، وفيها طابع تركيبيي من الحكايات
الثلاث وليست استحياء مباشراً من قصة واحدة. الحكاية الأولى هي المائدة
الوهمية وهي قصة مزاح بين صاحب قصر وطفيلي فقير. وصاحبي الجراب التي
أوردتها بين الفصلين في إطار مستقل لتؤكد المغزى العام للمسرحية على منوال
الكوميديا (ديلارتي) التي تتصف بفاصل بين الفصلين، وهذا الفصل هو لحظة
تنوير بالنسبة للمسرحية.
الحكاية الثالثة هي معروف
الإسكافي، وهي قصة رجل فقير في بلد غريب ادعى الغنى لكي يحظى بكرم أهل
المدينة. وهذا جزء من قصة معروف الإسكافي. وقد عملت على تركيب هذه القصص
الثلاث في قصة واحدة ذات مغزى جديد تتعلق، أو تصور حدود الوهم وحدود
الحقيقة أو الواقع، وهي قصة نقدية للعقل البشري.
المسرحية الرابعة التي
استلهمتها من ألف ليلة هي مسرحية «رسائل قاضي إشبيلية»، وتتضمن ثلاث حكايات
مستوحاة من ألف ليلة وليلة وليس لها علاقة مباشرة بألف ليلة، وهي قصص
مبتدعة ومتأثرة جمالياً وشكلياً بألف ليلة. وهذا أسلوب مختلف وحالة متقدمة
متدرجة في مسيرة الاستلهام من التراث (حيث أن التأثر والاستيحاء قد أخذ
شكلاً تدريجياً من التأثر المباشر ونقل القصة كما هي مع إضافة الرؤيا أو
فكرة فلسفية، إلى استغلال قصص عديدة ومزجها في تركيبة واحدة مكونة مسرحية
واحدة، إلى التأثر بالأسلوب فقط من الناحية الشكلية والجمالية في الليالي.»
(م12 ص62-64).
ثم رهن فرج خلاص المسرح من
أزمته ومواصلته لازدهاره ولفاعليته في الثقافة الجماهيرية باستمرار وعيه
لهويته، ولاسيما استلهامه للتراث، بوصفه ينبوع التقاليد وحصن الأصالة في
اللغة والسرد المفتوح على التجربة القومية جمالياً ومعرفياً:
«التغيير في الفكر السائد
أيضاً كان بذاته سبباً في ظهور التناقضات.. في مجال المسرح مثلاً..
«الصفقة» مسرحية الحكيم كانت بشرى بظهور اللغة الثالثة التي ستحافظ على
مقومات اللغة القومية الفصحى مع الالتزام بلغة الناس الواقعية، حلاً لمشكلة
الازدواج اللغوي في المسرح والحياة. و«فرافير» يوسف إدريس كانت علامة كبرى
في طريق الأصالة المسرحية القومية والشعبية لإبداع مسرح عصري قومي يستند
إلى تقاليد السامر الريفي والمسرح الشعبي» (م8 ص345).
1ـ3ـ التحديث:
انطلق فرج في تحديثه من
التقاليد القومية لأن «اكتشاف الذات هو اكتشاف علاقة الذات بالآخرين،
اكتشاف الذات القومية هو تحديد موقفها من العالم وموقعها في الزمن» (م8
ص283)، وهذا ما دعاه لوضع كتب برمتها عن فهم الحداثة والتحديث داخل التجربة
الذاتية، فكان كتابه الأول «دليل المتفرج الذكي إلى المسرح» وقد استهدف فيه
القاريء من أجل يحب المسرح، وليضيف إلى خبرة المتفرج وعياً بفن أصيل وحديث
هو المسرح، فحوى شروحاً تعريفية موجزة لأهم عناصر العمل المسرحي: فنّ
المسرح، الديكور، الخلفية التشكيلية، الممثل، أدواته، تيارات فن التمثيل،
فن اللعب، فن الضحك، أنواع الملهاة، المحلية والإنسانية، الملهاة الواقعية
الحديثة المأساة، المسرحية، عناصر التأليف المسرحي، الحوار، لغة الحوار،
الفصحى في المسرح، النجوى، الحائط الرابع، المسرح من زاوية نظر حديثة،
العقل المحض، شكل المنصة، المخرج، العنصر الفكري للمسرحية. ومن الملحوظ أن
كتابة فرج عن هذه العناصر الحديثة في تكوينها الناجز اقترنت بأمثلة واقعية
من التجربة المسرحية العربية (ص23- ص41 - ص54 - ص57 - ص75 - ص101 - ص105-
ص126 - ص127 - ص176 - ص177 - ص193 - ص200 - ص225 - ص227)، مثلما خصص فصولاً
برمتها عن التجربة المسرحية العربية (ص76 - ص93 - ص109 - ص119 - ص151)،
وختم رؤيته بحوار مع الحكيم حول مسرحه وفكره وفنه.
لقد بات جلياً أن فرج ينظر
إلى الحداثة والتحديث من واقع التجربة المسرحية العربية، كما في افتتاحيته
عن الخلفية التشكيلية:
«إذا كان الحديث قد ساقنا
لمقارنة عابرة بين مزاج وفن كل من نبيل الألفى وحمدي غيث، فلا بأس من أن
نسترسل في هذه المقارنة بعض لاسترسال بقصد التفريق بين اتجاهات طليعة
مخرجينا المسرحيين في صدد تكوين الخلفية التشكيلية المسرحية.
الديكور يصممه رسام بالطبع.
ولكن عمل الرسام محدد بعدة اعتبارات:
أولها: أسلوب المسرحية، سواء
أكانت رمزية أو سيريالية أو واقعية أو طبيعية أو خيالية «فانتازيا». إلى
آخر هذه الألوان..» (م8 ص22).
ولطالما استغرق فرج في
التطبيق العربي على فهمه للمسرح، كما هو الحال مع تأملاته حول أصل الملهاة
وأصولها:
«إن القدرات الخلاقة لممثلينا
في مجال الكوميديا قد دفعت مسرحنا خطوات إلى الأمام. ونجومنا الساطعة:
عبدالمنعم ابراهيم في «حلاق بغداد» وشفيق نور الدين في «القضية» و«السبنسة»
وحسين رياض في «تاجر البندقية» وسعيد أبوبكر في «مسمار جحا» وفؤاد شفيق في
«مضحك الخليفة» وتوفيق الدقن وعبدالسلام محمد في «الفرافير» وفؤاد المهندس
في «السكرتير الفني» وصلاح منصور ومحمد توفيق في «الزلزال».. وغيرهم من
الأبطال الموموقين دعموا فن الكوميديا في بلادنا وأتاحوا له بجدارة
إمكانيات وآفاقاً لا حدود لها.
إن فن الكوميديا قد سبق
الفنون المسرحية الأخرى في بلادنا، من حيث الرواج، فنحن شعب يحب النكتة،
ولا جديد في ذلك. ولكن الجديد هو ما يقرره الفيلسوف الفرنسي برجسون من أن
الشعب المولع بالنكتة شعب مولع بالمسرح..
إن الصلة بين الاثنين ظاهرة
وهي صلة ـ كما هي جديرة بالتأمل ـ فهي مثيرة للأمل جداً..
أما الأمل فهو في قلوبنا. أما
التأمل فهو يشحذنا لمزيد من البحث في أصول الكوميديا في بلادنا..» (م8
ص75).
ثم تتبع في فصل آخر تحديث
الكتابة المسرحية الواقعية الملهاوية في ممارسة جيل المؤلفين المسرحيين
الذي ينتمي إليه فرج نفسه:
«بعد أن أشرنا إلى المنحى
الخاص الذي تتميز به مسرحية الفرافير، لابد أن نصل إلى وصف تيار فن التأليف
المسرحي المصري الحديث، ذلك التيار الذي أثر طابعه على ذوق الجمهور وعلى
الحركة الثقافية بوجه عام في السنين الأخيرة. ومع أن كلا من مؤلفينا يتميز
بطابعه الخاص، فإننا نستطيع أن لمس في مسرح نعمان عاشور وسعدالدين وهبة
ولطفي الخولي بشكل خاص تلك الصفات الخاصة التي تميز تيار الكوميديا
الواقعية الحديثة..
إننا نريد هنا فقط أن نطل على
هذا التيار الجديد الممتع، أن نتقصى خطوطه العامة، أن نكشف مزاياه الشعبية
والفنية، ليكون هذا الفصل دليلاً للمتفرج إلى العالم المسحور الذي يصفه
معظم الكتّاب الجدد في المسرح.. ومعيناً على الاستمتاع والفهم لفنهما الذي
لاقى ويلاقي رواجاً عظيماً من الجمهور..» (م8 ص101).
وعندما تكلم عن المسرح من
زاوية نظر حديثة، فإنه احتكم إلى تجربة المسرح العربي وتجربته بالذات:
«رأينا اتجاهاً للمدارس
الحديثة يعمد إلى اختزال الحوائط والأبواب والإكسسوار والاقتصاد في زخرفة
تفاصيل الأشياء والملابس فوق المنصة، والاستغناء عن تفاصيل التفاصيل بقصد
تخفيف ثقل التركيبات في بناء الديكور، وضمان أن يكون الممثل البشر ركيزة
التكوين التشكيلي كله فوق المنصة.
ورأينا أن هذا الاتجاه في
الوقت الذي يضمن التوازن التشكيلي بين الممثل وبين الأشياء الجامدة فوق
المنصة، إنما يصدر عن فهم عميق دقيق لحقيقة جلية: هي أنه لا يمكن خداع
المتفرج عن مكانه (في مسرح الأزبكية مثلاً) وزمانه (في الساعة العاشرة
مساء) وإيهامه إيهاماً كاملاً بأنه في عاصمة الدانمرك حيث سقط هاملت
مطعوناً بسيف مسموم.
ورأينا أن الإيهام والتوهم في
المسرح ليس إلا عقد اتفاق غريب بين الفنان والمتفرج تكلفه الإشارة المقتصدة
من الديكورست إلى المكان والزمان المفترضين واستعداد طيب من المتفرج
للتصديق بالإشارة المقتصدة والاندماج في الموضوع.» (م8 ص193).
لقد وضع فرج عدة مؤلفات عن
متابعته الدؤوبة للمسرح الحديث والتفاعل الثقافي العربي مع اتجاهاته
وتياراته المتعددة، مثل «أضواء على المسرح الغربي» و«شرق وغرب: خواطر من
هنا وهناك».
1ـ4ـ اللغة:
شغل فرج باللغة في المسرح منذ
بداءة تجربته فدعا إلى توافر شروط جمالية وتعبيرية للغة الحوار تنفع في
تحقق الوظيفة الاتصالية والإبلاغية، ويستلزم لذلك أن تكون اللغة فصيحة أو
مفصحة:
«ولغة المسرح لها غير هذه
الشروط الأدبية العامة، شروط خاصة أخرى كلغة لفن من نوع خاص.
يذهب بعض الباحثين إلى أن
الشعر أوفق للمسرح من النثر. وبغض النظر عن صحة هذه الدعوى، فإنها تصدر عن
نفس المفهوم القائل أن المسرح يقتضي لغة فنية من نوع خاص ـ سواء في اللهجة
العامية أم الفصحى.
إن المسرح يقتضي لغة ذات طابع
مركز ومعبر تعبيراً مباشراً بلا تعقيد أو لف أو دوران.. بلا استطراد أو
تطويل، لغة تنأى عن التراكيب المتداخلة المعقدة.. فالمتفرج لا يملك الفرصة
ليلاحق المعاني في مثل هذا اللون من التعبير..» (م8 ص163-194).
2ـ التأليف المسرحي:
وضع الفريد فرج سبعاً وعشرين
مسرحية متفاوتة الطول، ومتباينة الموضوعات والاهتمامات والأشكال والتقانات،
هي:
صوت مصر (فصل
واحد) 1956
سقوط فرعون
1957
حلاق
بغداد 1964
سليمان
الحلبي 1965
الفخ (فصل
واحد) 1965
بقبق الكسلان
(فصل واحد) 1966
عسكر وحرامية
1966
الزير
سالم 1967
علي جناح
التبريزي وتابعه قفه 1969
النار
والزيتون 1970
الزيارة (فصل
واحد) 1970
زواج على ورقة
طلاق 1973
الحب
لعبة 1975
أغنياء فقراء
ظرفاء 1977
رسائل قاضي
إشبيلية 1975
رحمة وأمير
الغابة المسحورة (للأطفال) 1975
الغريب (فصل
واحد) 1993
العين السحرية
(فصل واحد) 1978
دائرة التبن
المصرية (فصل واحد) 1979
ألحان على أوتار
عربية 1988
هردبيس الزمار
(للأطفال) 1989
الشخص (فصل
واحد) 1989
عودة
الأرض 1989
مي زيادة
(تمثيلية تلفزيونية) 1986
غرابيات عطوة
أبو مطوة 1993
اثنين في
قفة 1993
الطيب والشرير
والجميلة 1994
ولعلنا نتلمس علامات هذا
التفاوت وهذا التباين في الملاحظات التالية:
2ـ1ـ الاستجابة للواقع:
شغل الفريد فرج، مثل أبناء
جيله من المسرحيين الآخرين، بالمتغيرات السياسية والاجتماعية، فصارت
مسرحياتهم، في الغالب الأعم حتى مطالع سبعينيات القرن العشرين، وهي المرحلة
الناصرية وامتدادداتها في مدّ وجزر على وجه التقريب، استجابة مباشرة أو غير
مباشرة للأحداث والتبدلات التاريخية القومية والوطنية السياسية والاجتماعية
العاصفة والغامرة حركة الواقع وشروط التاريخ، فكتب «صوت مصر» احتفاء بفعل
المقاومة في بورسعيد (حازت ميدالية الفنّ في المعركة)، وضع مسرحيته
التاريخية «سقوط فرعون» لمعالجة فكرة الحياد الإيجابي والسلام المسلح، وهي
إحدى أطروحات النظام آنذاك تساوقاً مع مؤتمر باندونغ، وكتب «حلاق بغداد» في
مناخ فانتازي يستلهم الموروث السردي وبعض المؤثرات التعبيرية والانطباعية
والملهاوية لمعالجة سياسة الحكم، ووضع «سليمان الحلبي» في فترة انتشار قيم
الشعبية وتصاعد المدّ الثوري العالمي والعربي إشاعة للفكر الثوري القومي في
مصر عبدالناصر وانطلاقة رصاصة المقاومة الفلسطينية واشتداد عود الإرادة
العربية على أن المسرحية بتعبير الفريد فرج نفسه «إجابة شافية على أول
تحديات الاستعمار الأوربي للشرق في عصرنا الحديث» (م2 ص18)، كتب «عسكر
وحرامية» عن تحالف قوى الشعب العاملة والنضال من داخل «الاتحاد الاشتراكي»،
تنظيم السلطة الحاكمة، لمواجهة الفساد والإفساد، وكانت مسرحية «الزير سالم»
دعوة لمجاوزة الخلافات القومية والجراح العربية النازفة في أكثر من بقعة
والانخراط في ائتلاف قومي ينفع في مواجهة التحديات، ووضع مسرحية «علي جناح
التبريزي وتابعه قفه» عن حتمية الحل الاشتراكي وانتصار الأفكار الاشتراكية
وأفكار العدل الاجتماعي وإشاعة حلم التغيير، بالعدل المادي، وألف «النار
والزيتون» إيماناً بانتصار المقاومة الفلسطينية وبالحل النضالي المقاوم
سبيلاً لهذا الانتصار، ووضع مسرحية «زواج على ورقة طلاق» استتباعاً لمعالجة
الحل الاشتراكي والتلاقي بين الطبقات المتصارعة.
وتميزت كتابة الفريد فرج
بالاستجابة غير المباشرة، بينما كانت الاستجابة لدى مسرحيين آخرين مباشرة
يظهر فيها صوت الأحداث والوقائع والأطروحات والشعارات مما يستعصي على
التجلي الفكري والفني أحياناً، وقد تعاضدت صيغ التعبير عن الاستجابة
المباشرة بعناصر الصوغ المسرحي، ولاسيما التحقق الفني لأفكاره ورؤاه بين
التاريخي والراهن، بين المطلق والمتغير، بين الجوهري والعرضي...الخ.
2ـ2ـ الأفكار والموضوعات:
عني فرج في مسرحياته بأفكار
تاريخية لطالما تناقضت مع أفكار وجودية، إذ عاين في مسرحيات كثيرة أفكاراً
سياسية واجتماعية شديدة الارتباط بالتاريخ العربي في مصر وفلسطين وبقاع
أخرى.
شغل على الدوام بأفكار العدل
الاجتماعي والمقاومة والتحرير والاشتراكية على إطلاقها ثم ما لبث هذا
المطلق إن انتابته أو تناوشته وطأة المتغير، وهذا واضح في مسرحياته «علي
جناح التبريزي» و«سليمان الحلبي» و«الزير سالم»، ثم دخلت هذه الأفكار
اشتراطات أو استحقاقات هذا المتغير مثل أن يكون السلام مسلحاً في «سقوط
فرعون»، أو أن يمايز بين حلم العدالة ووهمها أو توهمها في «علي جناح
التبريزي»، أو أن يتداخل الزمان والتاريخ في فهم العدالة المستحيلة في
مسرحية «الزير سالم»، أو أن يتوارى الخلاص الفردي الممكن وراء الخلاص
الجماعي المفترض في مسرحية «عسكر وحرامية»، أو أن يُغطى اللقاء الطبقي
بشعاره في مسرحية «زواج على ورقة طلاق»، أو أن تربط الديمقراطية بتطبيقها
وبظرفها تمييزاً بين الزمن المطلق والزمن المتصل أو الراهن في مسرحية «حلاق
بغداد»، أو أن يربط الصراع بين الخير والشّر بالمواضعات الاجتماعية والوضع
البشري في مسرحية «الطيب والشرير والجميلة».
وقد اختار فرج لأفكاره
موضوعات متعددة قومية واجتماعية من منظورات سياسية وأخلاقية وإنسانية
صريحة. وقد بدأ كتابته المسرحية بالموضوع القومي الذي عولج بأشكال متعددة
وبرؤى ثرية عن الوجود العربي الكريم في مراحل حاسمة للتأزم الذاتي القومي
ومعضلات مجاوزته وتحققه، كما في مسرحياته: «صوت مصر» و«سقوط فرعون» و«عسكر
وحرامية» و«النار والزيتون» و«سليمان الحلبي» و«ألحان على أوتار عربية»
و«عودة الأرض».
وثمة مسرحيات ذات طابع
احتفالي يستجيب للموضوع القومي مثل «صوت مصر» المكتوبة تحية لفعل المقاومة
ضد العدوان الثلاثي على مصر، و«عودة الأرض» المكتوبة حفاوة بالوفاق الوطني
حول النصر في حرب تشرين الأول عام 1973.
وغالباً ما اندغم الموضوع
القومي بالاجتماعي، عندما تُرى القضية الاجتماعية في بعدها العام كما في
رؤية التطبيق الاشتراكي للأفكار المطلقة كالعدل والديمقراطية في بناء
المجتمع وإنتاجه.
2ـ3ـ استلهام التراث:
نظر فرج إلى استلهام التراث
مجالاً رحيباً للأصالة ووعي الذات القومية، فاستعمل السرد الشهرزادي في عدة
مسرحيات، إذ زاوج لأول مرة في مسرحية «حلاق بغداد» بين حكايات من «ألف ليلة
وليلة» وإحدى قصص الجاحظ في كتابه «المحاسن والأضداد»، ثم استوحى مسرحية
«علي جناح التبريزي» من حكايات ثلاث من الليالي، هي حكاية المائدة الوهمية
وحكاية الجراب وحكاية معروف الإسكافي، وبنى مسرحيته القصيرة «بقبق الكسلان»
من فضاء حكائية الليالي، وتأثر في مسرحيته «رسائل قاضي إشبيلية» بحكائية
الليالي وحوافزها السردية الواقعية الممتزجة بالفنتازيا. وكانت آخر
مسرحياته «الطيب والشرير والجميلة» مستوحاة من إحدى حكايات الليالي أيضاً.
ويلاحظ أن اشتغال فرج على
التراث موصوف بالطوابع التالية:
ـ التصرف في البنية الحكائية
على سبيل التأثر النفسي والذهني، فلا يعاد المتن الحكائي في الحكايات
المستلهمة، بل يستعاد نسقها في الفضاء السردي وعلاقاته الجمالية والدلالية،
وتبدو مسرحيتا «حلاق بغداد» و«علي جناح التبريزي» مثالاً لهذا التصرف الذي
يوائم في الأولى بين حكايات من الليالي ومن السرد الأدبي الجاحظي.
ـ النزوع النقدي والتعليمي في
استعادة التراث السردي، فتصبح المسرحية مداراً للنقد والتأمل النقدي لأفكار
الأرض والعقاب والسوق في مسرحية «رسائل قاضي إشبيلية»، بينما تلح المسرحية
على التعليم وتقدير العمل والعطاء، وهو ما توجزه نبرة الختام في مسرحية
«بقبق الكسلان»، وكأنه صوت الجوقة:
«الجميع: (يتقدمون ناحية
الجمهور) رأيتم بأنفسكم أيها السادة هذه الصورة التي صاغها المؤلف الشعبي
العظيم في ألف ليلة وليلة منذ ألف سنة. ومغزاها أن أحلام اليقظة تحطم النفس
كما حطمت الأباريق. وأن الكسلان يعوض فشله وقلة الحيلة، وأن الحياة والرخاء
والسعادة أبناء العمل لا الأحلام. ونشكركم» (م1 ص216).
ـ الصوغ على نسق حكائية
الليالي دون الالتزام بالبنية السردية تثميراً لقابليات حكايات الليالي
الثرة، ولاسيما الدوران في شكل التحفيز الحكائي وخصائصه التخييلية مثل
منطقها الخاص وتداخله المدهش بين الواقع والفنطزة، فلا تخفي الغرائبية أو
العجائبية معقوليتها الخاصة، كما في مسرحية «الطيب والشرير والجميلة» التي
تمتح من معين حكائية الليالي سيرورة تقليدية لمعاينة فكرة الصراع الرئيسة
في المسرحية بين الخير والشّر، وقد كشف فرج عن أسلوبية مثل هذا الاستلهام
في افتتاحية المغني في الشهد الأول من الفصل الأول الذي يحمل عنوان «دكان
الحلاق» بقوله:
«المغني: كل جيل كتب حكايات
ألف ليلة وليلة على هواه.. ألف ليلة هي هذه وتلك من الحكايات.. ألف ليلة هي
صيغة تروى بها الحكايات.. كل جيل روى بهذه الصيغة حكايات جيله على مقتضى
احتياجاته الأخلاقية والروحية، واستخلص منها الحكمة التي يريدها ويطلبها..
ألف ليلة سفينة أحلام ركبها الناس من كل الأجيال.. وكل من ركب فيها حملته
إلى ما يريد من البلدان.. فقد ذهبت بالراكبين إلى كل زمان ومكان وعلى كل
المقامات الموسيقية وبكل الألحان (موسيقى مصاحبة)، ولو كان الأجداد يكتبون
النوتة الموسيقية، ويدونون الموسيقى بالنقط كما نفعل اليوم.. لكانوا قد
كتبوا حكايات ألف ليلة وليلة على أوراق الموسيقى المسطرة بالخطوط الخمسة كل
سطر، كما تكتب الأوبريتات والمسرحيات الغنائية، فحكايات ألف ليلة مزينة
دائماً بالصور والأشعار والأغاني والرقصات التي غناها وخيّلها الراوي
دائماً لمستمعيه، ليجذبهم للدخول من أبواب الخيال والتصور إلى العالم
الجميل الساحر لألف ليلة وليلة.. وسنبدأ حكايتنا كما كانت تبدأ القصيدة
العربية في الزمن الخالي بالإنشاد للحب والغزل.. فنقول: هذه هي الليلة
السابعة والعشرون بعد التسعمائة.. فاضرب الوتر» (الطيب... ص22).
وثمة تجربة فريدة في استلهام
التراث الشعبي في مسرحية «الزير سالم» تتبدى في إعمال المخيلة إنطلاقاً من
الوقائع المتداولة عن الراوي الشعبي المجهول، فتُبنى المسرحية على هدي نسق
تنضيد جديد للحوافز تضيئه عملية الاشتغال على تفسير خاص، لتلتحم بعد ذلك
جمالية التكوين المسرحي بمضاء الدلالية أو ما نسميه وحدة الأغراض أو فاعلية
القصد، لأن المعول دائماً هو «الفكر في المسرح» بتعبير فرج نفسه (م2 ص166)،
فاستبعدت التفاصيل أو الوقائع غير الدالة أو الوظيفية، وأُمعن ملياً في
تركيب شبكة العلاقات السردية نفوراً من الاستطراد أو الحشو، مما يسعف ضبط
البنية وإحكام نسيجها بالأغراض المتعددة من الإضمار إلى التصريح، ولعل هذا
الولع بتمتين المنظور السردي هو مسوغ اختيار البناء الدائري حين تبدأ
المسرحية بمشهد هجرس وتردده في الاقتراب من كرسي العرش بعد مخاض الدم
والانتقام والكراهية الطويل، فيوجز هجرس القصد في المشهد الأخير الذي كانت
المسرحية مسوغ البنية برمتها انتظاماً في تعليل الحوافز وإشباعها بدلالات
التجربة:
«هجرس: وهكذا تدور اللعبة
فتشملني أنا أيضاً في إعصارها الدوار. أين الفكاك من الدم؟ هاأنذا أتقدم
إلى العرش برئياً من كلّ ذنب. صافي النفس نظيف اليد، بدافع الشرف، ورغم
تحذيرات الشرف، لأجلس فوق المستنقع مزمعاً أن أتجنب التلوث جهد طاقتي، وأنا
غير متأكد أني أستطيع. وقاني الله ارتداد بصركم أن يدفعني. أن يزجني في
أيام مقبلة.. اللهم اجعلني رحمة ولا تجعلني لعنة على قومي» (م2 ص282).
2ـ4ـ التاريخ:
عمد فرج إلى الاشتغال المسرحي
على التاريخ في بعض مسرحياته على سبيل المسرحية التاريخية في مسرحيتيه
«سقوط فرعون» و«سليمان الحلبي»، وعلى سبيل التخييل للوقائع التاريخية في
تمثيلية «مي زيادة»، وعلى سبيل الاستخدام التسجيلي المطلق في المسرحيته
«النار والزيتون»، والاستخدام التسجيلي المحدود في مسرحيتيه «ألحان على
أوتار عربية» و«عودة الأرض».
استند في المنحى الأول على
التاريخ الفرعوني القديم استناداً رئيساً إلى كتاب سليم حسن «الأدب المصري
القديم» قاصداً إلى معالجة أفكاره الفلسفية عن الصمود في وجه الغزاة
والأعداء والمتآمرين خلال مرحلة أخناتون التي صارت إلى رحابة الأسطورة في
رؤية التنازع بين الطبائع المتعارضة أو المتناقضة داخل الذات الواحدة.
يتركز الاشتغال التاريخي في
المسرحية على فهم الحساسية السياسية واتبعات الرفق المروع بالمصائر
المأساوية لشخوصه في ظل عنتهم الصارخ لمراودة الفعالية العامة بوصفها محط
رهان الرؤية كقوله:
«وفرعون مصر يأبى أن يشنّ
الحرب، والصلوات في معابدك، تترنم بكلمة السلام» (م6 ص320).
تستند فكرة المسرح عند فرج
إلى تحويل الواقعة التاريخية إلى مدار طقس هو تخييله لمتتالية الحوافز في
عملية الصراع نشداناً للقصد النهائي: بطولة سليمان الحلبي في مواجهة
الأجنبي المحتل باعثاً في هذه البطولة المرامي البعيدة والعميقة لتكوينه
العربي الأزهري (اندغام العروبة بنسق ثقافي تقليدي) فرداً من جماعة معبراً
عن تطلعها مدركاً لخياراتها ضمن لحظة تاريخية حاسمة، محكماً وعيه حين يغوص
في تشابك مكوناته الأصلية ومؤثراته الراهنة والضاغطة انطباقاً لمدى العقل
على الخنجر، فليس فعل البطولة طارئاً يندرج في المصادفة، بل هو نتاج تصميم
العارف «بمصيره طول الوقت، يخوضه بعيون مفتوحة وذهن حاضر ممتليء بالتوقعات»
(م2 ص18)، ولعل الكناية الدالة عن أفق البطولة في إمكانية مقاومة العين
لمخرز هي التعليل الأقرب للدوران في مدار الطقس، ونسيجه تلك الحوافز
التاريخية التي يُعاد تنضيدها وكأن التاريخ مؤطر لاستعارة فعل الفداء عن
سابق تصميم، أي أن المسرحية تغدو وعياً بالتاريخ في اشتغال عقلاني ووجداني
داخل ذوات خاصة ما تلبث أن تصير إلى وعي الذات القومية العامة.
ويمضي فرج عميقاً في تخييل
الوقائع التاريخية في تمثيليته التلفزيونية «مذكرات لم تكتبها مي زيادة»،
فقد مازج بين ما كتبته وما توميء إليه هذه الكتابات استبطاناً لسيرة مناضلة
مؤثرة في مجتمعها نداء متواصلاً لحربة الفكر وشجاعة الرأي، وقد وازى فرج
بين الوقائع التاريخية وتعليقه عليها بصوت الكاتب الذي يستنطق هذه الوقائع
الدلالات الأعمق للمعنى الوجودي الغامر لهذه الأديبة المبدعة الشجاعة، كمثل
تثميره لحديثها عن رسالة الأديب في المشهد ما قبل الأخير الذي أفلح فرج في
ألا يكون مقحماً على السياق، ونقتطف منه هذا المقطع:
«رسالة الأديب تعلمنا أن
العالم العربي على تعدد أقطاره من المحيط إلى الخليج وحدة واحدة. رسالة
الأديب تعلمنا أن نفاخر بلغتنا العربية الممتازة على سائر اللغات. رسالة
الأديب تعلمنا ألا نخشى كارثة، ولا نتهيب مغامرة. فكل زمن خطير في التاريخ
كان زمن اضطراب وكوارث. وأعظم فوائد الإنسانية تجمعت عن عصور العذاب
والخطر. العاصفة لا تقتلع إلا ضعيف الأغراس أما الأشجار ذات الحيوية العصية
فالأعاصير لا تزيدها إلا قوة ومناعة» (م11 ص296).
ولجأ فرج إلى الاستخدام
التسجيلي المطلق في مسرحية «النار والزيتون»، على أن تسجيل وقائع حياة فرد
لا تكفي لتسجيل حياة شعب، فعاد إلى الوثائق التاريخية لبعث نضال الشعب
الفلسطيني من خلال التفاصيل الدالة في مجرى الصراع العربي ـ الصهيوني:
«العنف الصهيوني، العذاب الفلسطيني، المقاومة الصلبة، التآمر البارد للقوى
الإمبريالية العالمية» (م6 ص149).
وقد جمع فرج مادة المسرحية من
مصادر متعددة ودعمها بالمشاهدة من خلال زيارة مواقع العمل الفدائي والاتصال
عن قرب بأبطال المقاومة الفلسطينية وضحايا العدوان الصهيوني، على أن فرج
حوّل هذه المادة إلى غناء شعبي للقضية الفلسطينية استخداماً أوفر وأوسع
لمعطيات المسرح الشامل من أشعار وأغان وحركات إيقاعية وتشكيلية ومعروضات
وسواها، ليقل بعد ذلك استعمال الوثائق التاريخية كالأقوال والإحصاءات
والنصوص والمذكرات وسواها، وثمة ملاحظة هو العناية بوثائق شائعة ومتداولة
والاشتغال الغنائي عليها بأقل من الاشتغال الدرامي بالاعتماد على وثائق من
الشعر الفلسطيني أو الغناء الشعبي الفلسطيني، كمثل استقبال جثمان الشهيد
حيث نجوى الأم المفجوعة وصوت الجميع يردد الأغنية الشعبية:
«الأم: لا تقولوا لي ولدي
مات. ولدي حي.. اتبرع بنفسه. الله يرضى عليه. الله يجعله فدو عن فلسطين.
الله يجعله فدو عن كل فدائي. أنا غاب عني ولد واحد، وربنا أعطاني كل فدائي
ولد لي. كلكم أولادي. الله يرضى عليه. الله اختاره من بيننا لها الموتة
الشريفة. وأخواته يتزفه. (تزغرد وهي تمسح دموعها)
(يلتف الفدائيون حولها
والقائد يسلم لها وسام أم الشهيد والأغنية يرددها الجميع)
الجميع: هاتوا الشهيد هاتوه
هاتوا العريس هاتوه
وبعلم الثورة لفوه
يا فرحة أمه، وأبوه
أنا أمه يا فرحة أمه
يا عرسه في ليلة دمه
يا تراب الحرية ضمه
يا أخواته للثورة انضموا
زغروته ياللا حييوا
هاتوا الشهيد هاتوه
هاتوا العريس هاتوه
وبعلم الثورة لفوه
يا فرحة أمه وأبوه.» (م6
ص138-139)
وستخدم فرج بعض تقانات المسرح
التسجيلي على نحو جزئي، مستحضراً وقائع من التاريخ القريب مثل موكب اللورد
البني غداة اقتحام القدس ودمشق سنة 1917، وخريطة الوطن العربي وبجانبها
سايكس وبيكو يؤشران إلى الاتفاقية السرية لتقاسم الأرض العربية واحتلالها،
ومائدة اجتماعات الأمم المتحدة وقائمة قرارات الحقوق الفلسطينية، واستعراض
القوة بشخص كيسنجر، واستعادة صورة زنوبيا التي تأبت على الاحتلال الروماني
وقاومته، واستعراض أطراف المؤامرة الاستعمارية المستمرة بحق العرب، وإسناد
نبوءة النصر إلى إحياء ذكرى صلاح الدين، لتكون هذه الوقائع التاريخية
جميعها تعضيداً لموقف المقاومة الباسلة لزنوبيا ذلك المثل الحي للبطولة
العربية:
«أصوات العامة: زنوبيا ملكة
العرب.. الساحرة. ارجموها. اخفضي رأسك يا امرأة، انظري تحت قدميك يا أسيرة
الرومان واذرفي الدموع في موكب النصر للأمبراطور أورليان..
الفتاة: بل انظر في الشمس وفي
ضياء السماء. وأرى بالعين واللب والفؤاد ما ينتظر موكب الأمبراطور من
خسران. فمن زرع الجريمة لا يحصد إلا الثأر، ومن بدأنا بالعدوان لا يجني غير
الهوان في آخر المطاف، ومن رمى الناس بظلامه أعماه نور النهار.. انظر في
عين الشمس أنا وأرى ملء عيوني ضياء عربياً آتيا من المشرق، أرى شمساً ساخنة
تنبت الرجال في رحم الرمال.. وأرى روما! ويلاه.. تضج تحت أقواس نصرها تطلب
من أعدائها رحمة هي بددتها! ويلاه أرى بدراً في الشمال وبدراً في اليمين
يحملان سياط عذابهم فوق رؤوس ومعذبيهم. أرى دماً يجري على سلم الكابيتول
يكتب على بلاطة بألسنة ساخنة: ويلك روما فقد زرعت الرياح ولا تحصدين غير
العواصف.. زرعت النار لا تحصدين غير الطوفان.. أرى رجالاً فوق التلال وعلى
ضفاف الأنهار.. أخوتي وأبنائيوآبائي حياة وعمراناً عربياً من قبلي ومن
بعدي، فيا عرب.. هاأنذا أنتظر. أتعذب على أبواب بيوتكم، وفي بيوتكم وفي
جلودكم أتعذب، وأنتظركم. امنحوني قدرتي وقدري وأيامي وشمساً في سمائي تبدد
الظلمات امنحوني وحدة أمتي وحرية القرار وشرف الانتصار.. هاأنذا أصيح
ليصلكم صوتي في كل البقاع: واعروبتاه!..» (ألحان على ص60).
وقد استعاد فرج طريقته
الجزئية في استخدام المسرح التسجيلي وتقانات تطويع الوثيقة التاريخية
لمعطيات المسرح الاستعراضي الشامل في مسرحية «عودة الأرض» مثلما فعل في
«ألحان على أوتار عربية»، بل إنه أعاد بعض مشاهد بنصها مثل مشهد سايكس
وبيكو واتفاقية تقسيم الوطن العربي بين المستعمرين، ومشهد صلاح الدين
محاوراً العزيمة العربية للاستنهاض والمقاومة إشارة إلى دروس التاريخ
العربي ذاته:
«صلاح الدين: ويزعزع ثقتكم في
قدرتكم وفي عزائمكم، ويقعد بكم عن استفار رجال زمنكم.
الفتاة: لقد تصورناك كما
أحببناك.
صلاح الدين: حب الضعيف وهيام
العاجز وتعلقه بالتعاويذ والخرافات. وكان أولى بكم أن يكون حبكم للحياة
والأحياء. وأن تكون نجدتكم لهم وأن يكون صمودكم بهم. ومن ثم تصنعون
التاريخ.
الفتاة: علمني مولاي. كيف
نصنع التاريخ؟
صلاح الدين: وهل تصنعون
التاريخ إلا بالرجال المعاصرين؟ اطلبوا رجالكم واحتشدوا حولهم. اصنعوا
أيامكم برجالكم. لن تصنعوها برجالي. التاريخ قد يكون فيه لكم حكمة أو
تجربة. ولكن ليس فيه لكم فرسانكم وجندكم. فاطلبوا رجالكم واحتشدوا حولهم.
اطلبوا رجال زمانكم واحتشدوا حولهم.» (م11 ص33).
وأضاف إلى الوثائق التاريخية
المستخدمة مسرحة وصية الملك الصالح أيوب الداعية إلى النصر أو الموت، ثم
مزج ذلك كله ببناء مسرحي يبعث فيه الأمل بالنصر الذي تحقق في حرب تشرين
الأول 1973 والمقدرة على تحققه محدداً فيما سماه «عودة الذاكرة».
«المصور: عودة الأرض. عودة
الروح. عودة الذاكرة. عودة العزة والكبرياء الوطني يرجع الفضل فيه إلى حكمة
القيادة وشجاعة الجند وصلابة الشعب المصري العريق.. هم صنعوا النصر وأحنا
صورنا الصورة» (م11 ص79).
2ـ5ـ التنوع والتجريب:
لا يكاد نص مسرحي عند فرج
يشابه نصاً آخر في بنيته وشكله، فهناك المآسي مثل «سليمان الحبي» و«الزير
سالم» و«سقوط فرعون»، وهناك الملاهي مثل «حلاق بغداد» و«على جناح التبريزي
وتابعه قفه» و«عسكر وحرامية» و«أغنياء.. فقراء.. ظرفاء» و«الحب لعبة»،
وثمة الدراما الحديثة مثل «زواج على ورقة طلاق» و«الطيب والشرير والجميلة»
أو المصاغة بروح التراث مثل «رسائل قاضي إشبيلية»، وثمة المسرح التسجيلي
والسياسي القائم على تقانات المسرح الشامل والوثائق المختلفة، مثل «النار
والزيتون» و«ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض»، مما تتوسع فيه المسرحية
لستارة الضوء والموسيقى والأغاني والحركة الإيقاعية التشكيلية والمعروضات
المساعدة.
وهناك المسرحية الطويلة
وعددها خمس عشرة مسرحية أولها «سقوط فرعون» وآخرها «الطيب والشرير
والجميلة»، وثمة مسرحيات قصيرة من ذوات الفصل الواحد هي: «صوت مصر» و؛الفخ»
و«الغريب» و«العين السحرية» و«دائرة التبن المصرية» و«الشخص»، وثمة ثلاث
مسرحيات للأطفال هي «بقبق الكسلان» و«رحمة وأمير الغابة المسحورة» و«هردبيس
الزمار»، وهناك تمثيلية تلفزيونية واحدة يتوازى فيها السرد الروائي والسرد
الدرامي.
ومثلما استلهم التراث العربي
في مسرحيات كثيرة، استوحى بعض مسرحياته من تراث الإنسانية، فصيغت «أغنياء
فقراء ظرفاء» على غرار فكرة المسرح الشعبي كما هو الحال في صياغة الإسباني
«بينا فنتي»، ومثلها مسرحية «الحب لعبة» التي تستند إلى قصة شعبية أيضاً،
وكان سبق إلى صياغتها الفرنسي ماريفو في مسرحيته «لعبة الحب والمصادفة».
وبلغ التجريب شأواً عالياً في
مسرحية «الشخص» المبنية على تقانات مسرح اللامعقول ولاسيما لعبة الوقت
تعبيراً عن ضيعة الأحلام وخناق الوحشة، كمثل قول الشخص في لوحة «الساعة
اتناشر»، وهي المشهد الأخير:
«الشخص: أنا تهت. وقبل ما
أتوه نسيت. وقبل ما أنسى ماكنتش عارف.. الساعة كام الميعاد. الإنسان منا
دايماً أحلامه في ناحية ودنيته في الناحية التانية. إن مشى في سكة الأحلام
مش ممكن يوصل للدنيا، وإن مشلا في دنيته مهما طال بيه الطريق مش ممكن يحصّل
أحلامه. لكن أقسى شيء ممكن يبتلي بيه هو الوحدة.. العزلة. الانقطاع..
وعلشان كده اللي بيوصل خير من اللي بيقطع، لكن يعمل إيه بني آدم في انقطاع
دنيته عن أحلامه، وانقطاع سكته عن غرضه، وانقطاع اللغة عن التعبير، وانقطاع
الذاكرة، وانقطاع المعرفة عن الفهم، وانقطاع الذكاء عن المصلحة، وانقطاع
الوالد عن ولده.» (م11 ص178-179).
وتستفيد على العموم مسرحيات
الفصل الواحد وبعض المسرحيات الاستعراضية والموسيقية والسياسية من تقانات
المسرح التعبيري مثل تجريد الوقائع والتسمية بالصفة أو بالدلالة، لا
بالاسم، فلا تحمل أي شخصية في مسرحية «الشخص» أي اسم، لتقتصر التسمية على
«الشخص»، و«الشبية»، و«الطبيب»، و«الشابين مفتولي العضلات»، و«الممرضة»
و«الثري» و«الراقصة» و«البواب» و«البوسطجي» و«الشرطي».
أما شخصيات مشرحية «الغريب»
فهي «الغريب» والسيدة وضابط الشرطة والممرضان، ولا تفترق التسمية في مسرحية
«العين السحرية» عن عدم تسميته وكأن التسمية هنا علامة أو رمز، مثل «حسن»
و«حسنين» «وشلضم»، لأن التسمية لا تعيّن صاحبه بعلامات فارقة كالنسب
والماضي والهيئة والتكوين الخاص..الخ، لتنتهي المسرحية إلى تأمل بعض الشروط
الإنسانية القاهرة، في مآل المسرحية:
«حسين: أنا حسين حسين
المحامي، أثريت من حسن الدفاع عن جرائم شخصية، أعلم أسبابها الاجتماعية
وأسخط عليها، ويلح على شرفي وكبريائي بفكرة الدفاع عن الإصلاح وحل
التناقضات الاجتماعية.. أنفي الفكرة المفزعة التي تلاحقني من أيام الصبا
والدراسة.. الفكرة تقتحمني.. فتسخر منها نفسي وتقول: أنت كالبكتريا لا تحيا
ولا تسمن إلا في الجروح فكيف تداوى أنت الجروح؟! أحس بغربة قاسية وهذا
جنوني..
حسن: أنا حسن حسن، الممثل،
النجم السينمائي.. في صباي تدربت على أداء الأدوار التمثيلية المجيدة،
وأطلقت أسراباً من الكلمات الشريفة.. اليوم ألهث وراءة الكلمات المزيفة.
أنافق التفاهة والغباء والثراء. ألفق للجمهور في كل يوم قصة، بينما لا أعبأ
بالاستماع إلى قصة كومبارس حقيقية وأليمة، وأنكرها. الناس في الشارع وجوههم
ناطقة تقول وتحكي، ولكني أحيا حياتي بوجه يلفقه الماكياج.. أعمى وأبكم
وأصم.. وأحس بقلق يدمرني. وهذا جنوني.» (م11 ص140-141).
2ـ6ـ اللغة:
شكلت اللغة إحدى معضلات
التأليف المسرحي لدى جيل فرج، غير أنه حسم خياره باتجاه الكتابة بالفصحى أو
بلغة مفصحة، وعدّ هذا الخيار علامة تأصيل ينفع في تعضيد الهوية القومية في
الأدب؛ ثم جاوز هذا الانشغال إلى تثمير الفصحى أو المفصحة في مسعاه
الإبداعي، فاللغة حاجة فكرية وفنية، وليست مجرد زينة أو التزام خارجي، فعني
فرج بمواءمة اللغة لطبيعة المسرحية في نوعيتها، تاريخية أم سياسية أم
تسجيلية أم مأساوية أم تجريبية..الخ، وفي خطاب شخوصها وبيئاتهم...الخ،
ولعله صدر في ذلك الخيار أو الاحتياج الفكري والفني عن فهم اللغة في العمل
المسرحي تواضعاً متفقاً عليه، لا نقلاً عن واقع، لأننا في الفن محاكاة
صريحة ومباشرة للواقع أو استغراقاً في اتجاهات حداثية وسواها لا نصف الواقع
أو ننقل عنه، بل نعيد إنتاج علائقه، نصوغ مجتمعاً خاصاً هو مجتمع المسرحية،
فاستفادت اللغة من نصوص الأدب المصري القديم في مسرحية «سقوط فرعون»، وهي
لغة تقارب الشعر في مواقع كثيرة، وتألقت اللغة الأدبية التي تستفيد من
فخامة التراث الأدبي العربي القديم في مسرحيات متعددة مثل «علي جناح
التبريزي» و«الزير سالم» و«سليمان الحلبي» و«رسائل قاضي إشبيلية» و«الطيب
والشرير والجميلة»، فطاعت اللغة الفصحى لحاجات المسرح.
[مجلة «الكاتب العربي»
(دمشق)، ع53، 2001]
7
قضية النقد المسرحي:
حول النقد الخاص بعلي عقلة
عرسان
-1-
ارتبط النقد الخاص بعلي عقلة
عرسان بفعاليته الثقافية والإبداعية، أي أنه انطبع بآثار الموقف منه منتجاً
فاعلاً ومبدعاً في الحياة الثقافية، إذ يندر، حتى وقت قريب جداً، أن ظهرت
كتابة نقدية عنه تعزل إبداعه عن موقعه وموقفه الفكري والسياسي في آن معه.
ولما كان النقد الأدبي نتاج الشروط التاريخية والثقافية التي أنجبته، فإنه
مرهون في سورية، وفي الوطن العربي، بهذه العوامل والشروط، التي جعلت منه
ميداناً للصراع الفكري والأيديولوجي ومجالاً لم يهدأ أواره حتى اليوم بين
التيارات المعبرة عن القضايا الساخنة. وليس مبالغة، أن يصير هذا الميدان
إلى أي جبهة قتالية، استعملت فيها الأفكار وغير الأفكار. وقد رافقت مسيرة
عرسان منذ آواخر الستينات في معركته الثقافية والنضالية، مشاركاً وناقداً
لهذه الفعالية الثقافية والإبداعية، فكتبت عنه أكثر من أربعين بحثاً ومقالة
وحواراً.
عمد عرسان منذ بداءته انغماره
في الحياة الثقافية وانشغاله الانتاجي مخرجاً، والابداعي كاتباً مسرحياً
وشاعراً، والنقابي نقيباً للفنانين، والإداري مديراً للمسارح والموسيقى،
إلى إعلان توجهاته الفكرية، مفكراً قومياً معنياً بالتأصيل الأدبي والفني
للفنون المستحدثة، برأي الأغلبية، مثل المسرح، يرى في الأدب والفنّ
والثقافة عموماً رسالة نبيلة هي سلاح في معركة الوجود العربي، وكسب الرهان
الحضاري. وطوال فترة هذه الانشغالات حتى عام 1978، تخليه عن مسؤولية معاون
وزير الثقافة، ربما بتأثير هذه التوجهات الفكرية، اتصل النقد الخاص بعرسان
كاتباً ومخرجاً مسرحياً، وإلماحات إليه شاعراً بفضل القصائد القليلة التي
نشرها في الدوريات العربية، ولا سيما «الآداب» (البيروتية)، وبفضل الأمشاج
الشعرية الكثيرة في مسرحياته.
وقد كتب عرسان في هذه الفترة
مسرحياته «ثلاث مسرحيات: زوار الليل - الشيخ والطريق- الفلسطينيات» (1971)،
و«السجين رقم 91» (1974)، و«الغرباء» (1974)، و«رضا قيصر» (1975)، و«عراضة
الخصوم» (1976، و«الأقنعة» (1987)، وأخرج عشرات المسرحيات العالمية
والعربية، ومنها مسرحياته، للمسرح القومي، ومسرحية واحدة له لمسرح الشبيبة
المركزي، ومسرحية أخرى له، لفرقة خاصة تابعة لنقابة الفنانين، ولم يخرج سوى
هذه المسرحية «رضا قيصر» (1975). ولذا فقد تركز النقد حول الكتابة
والإخراج، وبفعاليته غالباً، ما تحدث عن كتابته وإخراجه، بالنظر إلى هذه
الفعالية، ولاسيما إدارته للمسارح والموسيقى.
كتب آنذاك متابعات صحفية
ومراجعات نقدية كثيرة، وقليل من البحوث النقدية والنقد، وكان هذا طبيعياً
إزاء حركة مسرحية تتأسس من جديد، مع رعاية الدولة للمسرح عام 1960،
ومحاولات تشجيع المسرح الذي شهد نهوضه المعتبرفي مطلع السبعينات بإرادة
عرسان نفسه، كما أوضحت ذلك ويشير البث الذي أعدته، ناهد رضا، إحدى طالبات
الدكتور فهد عكام عن المقالات التي كتبت عن أعمال عرسان حتى عام 1985م، إلى
هذه الملاحظات جميعها في المرحلة الأولى حتى نهاية السبعينيات، على الرغم
من أن هذا البث لا يغطي الكتابات العربية عن عرسان جميعها، غير أنه مفيد في
شموله لغالبية الكتابات المحلية، وسأورد بعض هذه الكتابات بعد تصحيحها
وتبويبها، لتوكيد الملاحظات السابقة:
1- المقالات عن المسرحيات
التي أخرجها عرسان:
- الوهم والحقيقة يتلاقيان
في مسرحية «الحياة حلم»:
بقلم أحمد قنوع، في «الموقف
العربي» (دمشق) العدد 50، 1/4/1965م.
«موتي بلا قبور»: لماذا في
افتتاح موسم المسرح القومي مسرحية ذهنية ومتخاذلة؟
في «البعث» (دمشق)،
20/10/1965م.
- صباح الخير «العنب الحامض»
كاف، في «البعث» (دمشق)،
25/1/1967م.
- ما الجديد في «المأساة
المتفائلة»؟
بقلم موفق نعال، في «الثورة»
(دمشق) العدد 1461، 24/2/1968م.
- «المدنسة» بين ليبرالية
الكاتب والتزام المخرج:
بقلم عبد الله أبو هيف. في
«الثورة» (دمشق)، العدد 1634، 17/8/1968م.
- «المدنسة» توجيه تربوي
واجتماعي ملتزم:
بقلم جلال خيربك. في
«الثورة» (دمشق) 1968م.
- النقد المسرحي أم العمل:
في «العروبة» (حمص). العدد
1531، 23/5/1969م.
- عالم «المدنسة»:
في «البعث» (دمشق)،
8/2/1970م.
- بين «السعد» و«العنب
الحامض»:
بقلم فاروق عبد القادر، في
«روز اليوسف» (القاهرة)، العدد 2263، 25/10/1977م.
- كوميديا «الملك لير» أمام
مأساته:
بقلم عصمت رشيد. في «جيش
الشعب» (دمشق)، العدد 1025، 23/2/1972م.
- «أوديب» مسرحية سياسية:
بقلم محمد عمران في «الثورة»
(دمشق)، العدد 3049، 4/3/1973م.
- مسرح اخناتون و«أوديب»:
بقلم محمد غازي جريدة، في
«الطليعة» (دمشق)، 1/2/1973م.
- «أوديب» لا يتحمل المزاح
السياسي:
بقلم ممدوح عدوان: في
«الطليعة» (دمشق)، العدد 34، 17/2/1973م.
- النهاية التي صنعتها
البداية:
بقلم د. نجاح العطار، في
«البعث» (دمشق)، العدد 3065، 5/3/1973م.
- «احتفال ليلي خاص
لدريسدن»:
بقلم رياض عصمت، في «جيش
الشعب» (دمشق)، 13/3/1973م.
- «حفل ليلي خاص لدريسدن»:
بقلم محمد عمران، في
«الثورة» (دمشق) العدد 3057، 13/3/1973م.
- «احتفال ليلي خاص لدريسدن»
أو الوقوف ضد الحرب الإمبريالية:
قسم التحقيقات، في «الشبيبة»
(دمشق)، العدد 36، نيسان 1973م.
- «أيها الإسرائيلي حان وقت
الاستسلام»:
بقلم رياض عصمت، في «بيروت
المساء» (بيروت)، العدد 16، 1/3/1974م.
- «انتيجون» وآخرون في
المسرح القومي:
بقلم عرفان عبد النافع. في
«جيش الشعب» (دمشق)، العدد 1171، 14/1/1975م.
- «الأشجار ماتت قبل أن
تقف»:
بقلم يوسف أحمد المحمود. في
«الثورة» (دمشق)، العدد 3923، 2/12/1975م.
- لعلي عقلة عرسان نصفق
بحرارة لاحترامه للمسرح وببرود لعدم الشك بهذا المسرح:
بقلم نهالة كامل. في
«الثورة» (دمشق) العدد 4023، 28/3/1976م.
- المذاهب المسرحية وغياب
المعنيين:
بقلم حيدر علي في «الثورة»
(دمشق) العدد 3972، 29/1/1976م.
- «الأشجار تموت واقفة»:
خاطرات حول موقف الفنان:
بقلم عبد الله أبو هيف في
«الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 63، تموز 1976م.
2- المقالات عن المسرحيات
والكتب التي ألفها عرسان:
- ملاحظات حول مسرحية «الشيخ
والطريق»:
في جريدة «البعث» (دمشق)،
27/11/1968م.
- «الشيخ والطريق»: موسم
68-1969م.
بقلم غسام ماهر الجزائري. في
«الثورة» (دمشق) العدد 1750، 11/12/1968م.
- صدى نحو مسرح حقيقي:
بقلم حسن صفدي في «العروبة»
(حمص)، العدد 1525، 15/5/1969م.
- لمسات في «زوار الليل»:
بقلم محمد ياسر شرف. في
«العروبة» (حمص)، العدد 1528، 19/5/1969م.
- حصاد الطلبة مع علي عقلة
عرسان و«الفلسطينيات»:
بقلم رياض عصمت. في
«الثورة»، 17/7/1969م.
- مسرح علي عقلة عرسان: من
شفافية الشعر إلى الوضوح السياسي:
بقلم خالد محي الدين
البرادعي، في «الرسالة» (الكويت)، العدد 753، السنة 18، 8/5/1970م.
- ثلاثة أثواب مسرحية لعلي
عقلة عرسان:
بقلم نهلة كامل، في
«الطليعة» (دمشق)، العدد 286، 22/1/1972م.
- «الغرباء» خلاص فردي أم
جماعي؟
بقلم عبد اللّه أبو هيف، في
«صوت فلسطين» (دمشق)، نيسان 1974م.
- مسرحية «الغرباء» في حوار
مع علي عقلة عرسان:
«صوت فلسطين» (دمشق)، أيار
1974م.
- رأيان في «الغرباء»:
بقلم نصر الدين البحرة ورشاد
أبو شاور. في «الطلائع» (دمشق)، 12/7/1974م.
- قراءة جديدة لأربع مسرحيات
سورية:
بقلم عيسى الناعوري. في
«الرأي» (عمان)، العدد 1522، 1975م.
- مسرحيات علي عقلة عرسان:
بقلم عيسى الناعوري. في
«الموقف الأدبي» (دمشق)، تشرين الأول 1975م.
- «عراضة الخصوم» في مفترق
الطرق:
بقلم عبد الإله الرحيل في
«تشرين» (دمشق)، 20/6/1976م.
- عراضة الخصوم: فضائل كبرى
وفضائل صغرى:
بقلم عبد الله أبو هيف. في
«الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 63، تموز 1976م.
- مسرح السبعينيات: «رضا
قيصر»:
بقلم إلياس طعمة. في
«المسيرة» (دمشق) العدد 86، 12/8/1976م.
- علي عقلة عرسان: «السجين
95» بين المباشرة والبعد الاجتماعي المدمر:
بقلم حسين حموي. في
«المسيرة» (دمشق) العدد 86، 20/8/1976م.
- «رضا قيصر» و«مشحر يا جوز
التنتين»:
بقلم عبد الله أبو هيف في
«المسيرة» (دمشق) العدد 86، 20/8/1976م.
- «السجين 95» مسرحية لعلي
عقلة عرسان:
بقلم إلياس طعمة. في
«الشبيبة» (دمشق) العدد 68، تشرين الثاني 1976م.
- مقال الأسبوع: «عراضة
الخصوم»:
بقلم سمر روحي الفيصل، في
«جريردة حمص» (حمص)، العدد 1231، 21/1/1977م.
- «الغرباء» لعلي عقلة
عرسان:
بقلم أحمد المعلم، في جريدة
«العروبة» (حمص)، 6/2/1977م.
- مسرحية «الغرباء» للمسرح
القومي السوري:
إنها مسرحية ضعيفة نجحت في
تقديم صورة مشوهة للقضية:
بقلم محمود الريماوي، في
جريدة «الوطن» (الكويت)، 13/4/1977م.
- سقوط أقنعة الخصوم:
بقلم عبد الله عبد، في جريدة
«الثورة» (دمشق)، العدد 4437، 9/8/1977م.
- مسرح طليعي أصيل:
بقلم عدنان بن ذريل، في
«الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 83، آذار 1978م.
- قراءة في كتاب «سياسة في
المسرح»:
بقلم وهيب سراي الدين في
«الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 91، تشرين الثاني 1978م.
- سياسة في المسرح:
بقلم أديب عزت، في «البعث»
(دمشق) العدد 4799، 13/11/1978م.
- علي عقلة عرسان وهموم
المسرح: دراسة في 400 صفحة تقرأ الخلاصة العالمية سياسياً:
بقلم سمير الصايغ. في
«الأنوار» (بيروت)، العدد 6448، 30/11/1978م.
- «الأقنعة» دعوى صريحة
للقيم ونداء جاد للضمير:
بقلم حسين حموي في «البعث»
(دمشق) العدد 4835، 3/12/1978م.
- أقنعة عرسان:
في مجلة «المرصاد» (بيروت)،
العدد 43، كانون الثاني 1979م.
- «سياسات في المسرح» من علي
عقلة عرسان:
بقلم أديب عزت في «البعث»
(دمشق)، العدد 13777، 16/1/1979م.
- جلسة «مع الأقنعة»:
بقلم عادل عبد الجبار. في
«الثورة» (دمشق)، 8/2/1979م.
- الأديب بين الإلزام
والالتزام:
بقلم عيسى الناعوري. في
«الدستور» (عمان)، العدد 4483، 1/2/1980م.
- مسرحية «الأقنعة» بين
هندسة الواقع و«هندسة الحلم»:
بقلم عبد الفتاح رواس قلعه
جي. في «الموقف الأدبي» (دمشق)، العدد 94، شباط 1979م.
- نظرات في كتاب «سياسة في
المسرح»:
بقلم ياسر الفهد في «الموقف
الأدبي» (دمشق)، العدد 97، أيار 1979م.
- «الشيخ والطريق»:
بقلم عدنان بن ذريل. في
جريدة «الثورة» (دمشق)، 24/8/1979م.
- «السجين 95»:
بقلم عبد الفتاح قلعة جي. في
مجلة «فنون» (بغداد)، العدد 53، 3/9/1979م.
- مسرح علي عقلة عرسان:
عدنان بن ذريل:
بقلم أديب عزت. في «الموقف
الأدبي» (دمشق)، العدد 116، كانون الأول 1980م.
- علي عقلة عرسان ومسرحياته:
بقلم محمد الخطيب. في
«الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 118، شباط 1981م.
- «صخرة الجولان»:
بقلم محمود منقذ الهاشمي. في
مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق)، العدد 140، كانون الأول 1982م.
- في «صخرة الجولان» : علي
عقلة عرسانيفتح طريق الرواية:
بقلم نزار بهاء الدين الزين.
في جريدة «الوطن» (الكويت). 29/11/1983م.
- رأي في «صخرة الجولان»:
بقلم محمد حيدر. في «الكاتب
العربي» (دمشق) العدد 5، السنة الثانية 1983م.
- علي عقلة عرسان و«سياسة في
المسرح»:
بقلم محي الدين صبحي. في
«الكاتب العربي» (دمشق) العدد 6، السنة الثانية 1983م.
- الحب الكبير في رواية
«صخرة الجولان»:
بقلم مقبولة الشلق. في
«الموقف الأدبي» (دمشق)، العدد 171، تموز 1985م.
- الرواية العربية ورؤية
الموضوع القومي: دراسة في «صخرة الجولان»:
بقلم عبد الله أبو هيف. في
«الموقف الأدبي» (دمشق)، العدد 173-174، أيلول، تشرين الأول 1985م.
وثمة ملاحظة، هي أن البث معد
عن المقالات والمواد التي تجمعت في حوزة كاتبنا علي عقلة عرسان نفسه،
وبالنظر إلى زهده في متابعة ما يكتب عنه، وإلى قلة عنايته بالتوثيق، فإن
عشرات المقالات والمواد غير موثقة، واذكر منها:
الإرادة والقدرة:
إن كلاً من الأبطال الثلاثة،
الرجل، وعازف الناي، والمرأة كان يعمل لتجاوز الاغتراب، لأنه (يريد) أن
يكون شيئاً، ويقيم مصالحة مع العالم، ومع الذات، يستعيد صلته بالمجتمع،
والآخرين.. و(الرجل) حين يقول لعازف الناي ليتها تزول غمامة روحي... يجيبه
(عازف الناي): ـ وما الذي يمنعها من الزوال؟.. إنك لا تحاول كما ينبغي. ـ،
ص270.
ناهيك بأن (الرجل) صريح
الروحانية، ويستعين بالله، ويستجير به من الرحم: ـ يا خالق الناس، اجل عن
قلبي الغمّ، وعن روحي الوهمـ، ص210؛ إلا أنه يشعر أنه عاجزٌ في محنته عن
استرداد ذاته، أو تدعيم تماسكه، وتذكره، ولذلك يتوجه إلى الله، ضارعاً
مستجيراً، يعترف بأنه لا قدرة له بدونه: ـ لا أقدر من دونك على شيء... لا
أقدر من دونك على شيء. ـ، ص210 أيضاً.
وهذا يعني، أن الأبطال
الثلاثة الرجل، وعازف الناي، والمرأة (أرادوا) تجاوز اغترابهم؛ كما (أرادوا
تفويت مطاردة السلطة للرجل؛ إلا أن (قدرتهم) كانت محدودة جداً، بل معدومة
في كثير من الملابسات..
فمثلاً، عندما يلقى (عازف
الناي) خنجره، ليدافع الرجل عن نفسه في الطبيعة، يقول له (الرجل): ـ لماذا
أدافع عن نفسي، وضدّ من؟.. بعد أن (تركت) الذين كان يجب أن توجه لهم
(القوة)؟ـ، ص286..
كما يقول لممثل الدولة (رئيس
المنصة): ـ بأي حق تمارس ضدي ما تمارسه؟. إن شهرة السلطة هي التي جعلت مني
في عينيك (عدواً)، وشيطاناً؛ وجعلتك تقتل الآخرين. ـ، ص320.
لقد كان الأبطال الثلاثة:
الرجل، وعازف الناي، والمرأة (مدهوسين)، ولا اقتدار لهم على مقاومة ظلم
السلطة.. فكيف تكون الحال، والمؤلف آثر أن يجعل (الدولة) نعادي الأفراد،
وتلبسهم الجرائم تلبيساً، ولا تترك لهم حيلة في مقاومة، أو مصالحة، أو
اقتدار.
المغالطات انتقاء فوق واقعي:
وفي الحقيقة أن مغالطات ممثل
الدولة (رئيس المنصة) للأبطال الثلاثة، وتلبيسهم الجرائم تلبيساً شيء
تعبيري تماماً؛ لأنه شيء غير طبيعي.. ولذلك يرجح أنه (انتقاء) فوق واقعي
لزاوية، آثر المؤلف رسمها للدولة؛ وهي زاوية ممكنة التحقق، والحصول في
الواقع..
فمثلاً، عندما يسأل ممثل
الدولة (رئيس المنصة) الرجل، هل هو يعرف. (عازف الناي).. يقول له (الرجل):
ـ كنت جثة سقطت، فحاول مساعدتي على استعادة صلتي بالعالم ـ، ص327.
فيقول (رئيس المنصة) لزميله:
ـ سَجّلْ، ساعده على الهرب، وكان دليله في عملياته ضدّ أمن الدولة. ـ،
ص327.
ثم يسأل ممثل الدولة (رئيس
المنصة) الرجل: ـ وماذا أيضاً. ـ، فيجيبه (الرجل): ـ كان أحياناً أيضاً
يعزف لي..، ص327.
فيقول (رئيس المنصة) لزميله:
ـ سَجّلْ، كان يقوم بأعمال شيفرة، ويرسل رسائل على الشبابة. ـ، ص328.
ثم يسأله هل كان يعزف فقط، أم
يقوم بالعزف، والغناء، ص329، فيجيب (الرجل) ـ عزف فقط!!.
فيقول (رئيس المنصة) لزميله:
ـ سَجّلْ ذلك.. شيفرة لحن، دون كلام. ـ، ص329.
والأنكى من هذه المغالطات، إن
(الرجل) عندما صار يتلكأ في الإجابة على أسئلة رئيس المنصة، يتهدده (رئيس
المنصة) ويتهدد المرأة زوجته قائلاً:
- إذا لم يجد الأجوبة
الملائمة فوراً، سوف يعرف كيف نعيد له الإحساس، والشعور بالخوف.. سنبدأ بك،
ونصل إليه.. وعند ذلك سيفرد كالعليل. ـ، ص315.
هذا التحريف لصورة (الدولة)
في المسرحية، وجعلها عدواً للأفراد عمل على التحولات (لأمشاج) محاور
الدلالة، وتكييفها عند الأبطال (النظر بعد قليل)؛ وهو ما آثره المؤلف
ليتسنى له رسم (مشهدية عامة) للاغتراب..
يستفاد من استعراض هذه
الكتابات ما يلي:
- إن غالبية الكتابات بأقلام
صحفيين أو أدباء لا يمارسون النقد أو النقد المسرحي عادة، مثل ممدوح عدوان
ومحمد عمران ونجاح العطار وعبد الفتاح قلعه جي وهاني الراهب وأحمد قنوع
وحسين حموي وخالد محي الدين البرادعي وإلياس طعمة ووهيب سراي الدين ومحمد
حيدر ومقبولة الشلق وغيرهم.
- ظهور نغمة التشكيك والتقليل
من قيمة الجهد الإخراجي لعرسان في مرحلته المبكرة لدى غالبية وسائل الإعلام
وكتابها الصحفيين، حتى إن بعضهم لم يوقع على الكتابة، على أنه رأي الوسيلة
الإعلامية.
- تجاهل الكتاب المتخربون من
الماركسيين على وجه الخصوص جهد عرسان وإبداعه كما يظهر من هذا البث، وإن
كتبوا مادة أو مقالة، فليست إيجابية، ولا فائدة من الإشارة إلى كتابات
بعينها.
- لم تؤثر مواقف الكتابات
المتخربة وأصحابها على الكتّاب خارج سورية، على الرغم من انعقاد مهرجان
دمشق للفنون المسرحية بانتظام حتى أواخر السبعينيات بجهد عرسان نفسه
بالدرجة الأولى، فظهرت كتابات كثيرة موضوعية في الدوريات العربية، كما هو
الحال مع كتابات عيسى الناعوري ورشاد أبو شاور ونزار بهاء الدين الزين
وفاروق عبد القادر.
- بروز الناقد والناقد
المسرحي الموضوعي منذ أواخر الستينيات ممن لم يتأثروا «بالفبركة» الإعلامية
المتخربة، كما في كتابات رياض عصمت ونصر الدين البحرة وعبد الله أبو هيف
وسمر روحي الفيصل ومحمود منقذ الهاشمي وعدنان بن ذريل. وقد صارت بعض مقالات
هؤلاء عن المسرح إلى كتب نقدية تأسيساً لحركة النقد المسرحي في سورية.
- لوحظ أن كتابة عرسان في
الأجناس الأدبية الأخرى مثل الرواية، بصدور رواية «صخرة الجولان»، قد عمقت
اتجاهات البحث في أدبه، إذ كتب خلال السنوات الثلاثة الأولى لصدورها عشرات
المقالات والمراجعات والأبحاث عنها، كما هو الحال مع كتابات محمد حيدر
ومحمود منقذ الهاشمي ومقبولة الشلق وعبد الله أبو هيف وغيرهم.
- كان للسفر الضخم «الظواهر
المسرحية عند العرب» أهمية كبرى في تعزيز مكانة عرسان فكرياً ونقدياً
مؤصلاً للمسرح العربي، إذ وسع دائرة الاهتمام العربي بجهوده وإبداعه.
في كتابي «التأسيس: مقالات في
المسرح السوري» (1979). على أن هذه القضية بالذات التي لايماري فيها أحد،
لقيت النكران وسوء التقدير من جانب نقاد وإعلاميين ناصبوا عرسان العداء
بتأثير الشروط أو التحكميات التي طبعت النقد بطوابعها، مثل الإيديولوجيا
والتخرب والقبلية.
بيد أن المرء لا يستطيع أيضاً
أن يعول على الحركة النقدية في تلك الفترة، فلم يصدر كتب تناولت المسرح
العربي في سورية كلياً أو جزئياً تزيد عن أصابع اليدين، وهي في غالبيتها
تجمع مراجعات أو مقالات سبق أن نشرت في الدوريات المحلية، مثل «أحاديث
وتجارب مسرحية» (1977) لنصر الدين البحرة، و«المسرح السوري منذ أبي خليل
القباني إلى اليوم» (1971) و«مسرح وليد مدفعي» 01971) لعدنان بن ذريل،
و«الأدب والموقف القومي» (1976) لمحي الدين صبحي، و«بقعة ضوء» (1975) لرياض
عصمت، و«القصة في سورية» (1958) لشاكر مصطفى، و«مسرحيات في الوهج والظل»
(1976) لعلاء الدين وحيد، ومما يجدر ذكره أن هذه الكتب لم تخصص أبحاثاً عن
عرسان ومسرحياته. ويعكس هذا الوضع موقفاً ضمنياً هو دأب أمثال أولئك النقاد
والإعلاميين على تجاهل عرسان بحكم تغلغلهم في الأجهزة الثقافية والمؤسسات
الإعلامية، وقد جاهر بعضهم بهذا التجاهل المقصود، والترويج لنوع آخر من
أضواء لا تستحقها غالباً، وكنت ألقيت في كتابي السالف الذكر «التأسيس» نظرة
على النقد المسرحي في سورية في تلك الفترة، وقلت في ختام بحثي:
«الصحيح أيضاً، أن النقد
مناخ، ولايمكن له أن يزدهر إلا في ظل استنبات التقاليد المسرحية والثقافية،
وفي ظل الروافد العلمية التي تغني الحركة المسرحية، وهذان المطلبان ما
يزالان أملاً، فلم ترس تقاليد بعد، ولم يقم بعد ذلك الاهتمام الكافي
بالروافد العلمية في حياتنا. إن النقد المسرحي في سورية، مثله مثل الحركة
المسرحية عندنا، لا يزال في البداية» (ص78).
وأرد ثبتاً ببعض المقالات
الدالة على ذلك مما نشر في «الأسبوع الأدبلي» (دمشق) وحدها:
المادة الكاتب
العدد التاريخ
- قراءة في تحولات «عازف
الناي» عبد الرحمن سليمان 601 7/3/1998م
- القومية في كتابات الدكتور
علي عقلة عرسان صلاح مفلح أسعد 624 29/9/1998م
- الانطباعية في مسرح علي
عقلة عرسان: مسرحية «الأقنعة» وليد فاضل
25/12/1999م
- «وجه الماس»: البنيات
الجذرية في أدب علي عقلة عرسان. زياد محمد مفاس 676 8/9/1999م
- التشكيلية في مسرح الدكتور
علي عقلة عرسان: «تحولات عازف الناي» أو البحث عن الذات. وليد
فاضل 675 11/9/1999م
- ميثاق المثقفين العرب
محمد قرانيا 685 20/11/1999م
-2-
وتمتد المرحلة الثانية من عام
1978 إلى عام 1992، وتضاعفت فيها مسؤوليات عرسان، وتقلد فيها مناصب في صلب
الحركة الأدبية العالمية والعربية والمحلية المعاصرة، رئيساً لاتحاد الكتاب
العرب، وأميناً عاماً للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، ونائباً للأمين
العام لاتحاد كتاب آسيا وأفريقيا، ولاشك، أن هذه المناصب والمسؤوليات تجعل
فعالية عرسان أكبر بعمقها وبامتدادها إلى ساحات وميادين جدالية ونقدية،
حملت في السنوات كلها صراعات لم تفتر، مثلما تعددت مجالات الإبداع العرساني
إلى أجناس أدبية أخرى، فظهر له كتاباه الهامان والكبيران في البحث
المسرحي:«سياسة في المسرح» (1978)، و«الظواهر المسرحية عند العرب» (1981)،
وروايته «صخرة الجولان» (1982)، وديوانه الشعري الأول «شاطئ الغربة»
(1986)، وكتبه الفكرية «آراء ومواقف» (جزءان 1989 و1990)، و«أيام في شرق
أسيا» (1990)، و«دراسات في الثقافة العربية» (1988). وقد احتدمت فيها
الصراعات الفكرية حول مسرح عرسان، وحول كتابته الروائية والشعرية، والأهم
حول فكره. ويمكننا أن نوجز الملاحظات حول هذه المرحلة فيمايلي:
ـ ظهور كتب وأبحاث حول عرسان،
بعضها سلبي، وبعضها إيجابي، ومفهوم السلب أو الإيجاب لايتجه إلى فكر عرسان
وأدبه، بل إلى مواقف النقاد والباحثين. فثمة نقاد خصصوا مقالات وأبحاثاً في
كتبهم غير منصفة ومحكومة بالقبليات النقدية أمثال نديم محمد في كتابيه
«الجدران الأربعة ـ دراسات تطبيقية في المسرح» (1980)، و«الأدب المسرحي في
سورية» (1982). غير أن المقالات والأبحاث المنصفة كثيرة، ومنها «مسرح علي
عقلة عرسان» (1980) لعدنان بن ذريل، و«التأسيس» (1979)، و«الإنجاز
والمعاناة: حاضر المسرح العربي في سورية» (1988) لعبد الله أبو هيف، ومن
ذلك كتاب اسماعيل مروة الذي ظهر فيما بعد وهو «الأرض والإنسان في مسرح علي
عقلة عرسان» (1989). ثم ظهرت مقالات مهمة حول رواية عرسان وشعره وأبحاثه
لأهم النقاد في سورية.
ـ تبدل الحساسية النقدية حول
عرسان على المستوى العربي، فانكسر الطوق الذي أشاعه النقاد الأيديولوجيون،
وشرع النقاد العرب يهتمون بأدب عرسان في مصر وتونس وبقية الأقطار العربية.
ويعد ما كتبه على الراعي في كتابه «المسرح في الوطن العربي» (1980) نموذجاً
لذلك، إذ خصص له خمس صفحات من أصل ثلاثين صفحة عن المسرح العربي في سورية
(ص ص 188-220).
ـ اتساع حجم النقد الخاص
بعرسان لفعاليته الثقافية والابداعية كلّها، مما يحتاج إلى ثبت طويل
لاستقصائها.
ـ أسهمت المتغيرات الدولية في
تبدل الحساسية النقدية بعامة، مما بدّل كثيراً في مواقف بعض النقاد
والباحثين أنفسهم إزاء عرسان وسواه من المبدعين في سورية أمثال عبد السلام
العجيلي ووليد إخلاصي ممن مسّهم غبن شديد من النقدية المتخربة على وجه
الخصوص.
كان دخول الجامعة والنقد
الأكاديمي ساحة النقد المسرحي والأدبي الحديث في سورية من العوامل الهامة
في تغير المفاهيم النقدية باتجاه المناهج العلمية، بينما تراجع النقد
الإيديولوجي المتحزب أو كاد يغيب، بل إن بعض ممثلي هذا النقد شهدوا على مثل
هذا التغير في شهادات معلنة، أو في ممارستهم النقدية.
ـ وفرة الكتابات النقدية في
هذه المرحلة حول الأجناس التي كتبها عرسان، كمياً ونوعياً: مسرحه
ومسرحياته، روايته، أبحاثه المسرحية ولاسيما كتابه «الظواهر المسرحية عند
العرب»، فكره، شعره، مما يحتاج إلى تصنيف وفهرسة.
-3-
أما المرحلة الثالثة، فتمتد
من عام 1993 حتى الآن (1998)، ويتميز النقد الخاص بعرسان بميزات الحركة
النقدية نفسها، ومن ملامحها:
ـ تقلص مساحة النقد المضموني
والإيديولوجي وسيادة الاتجاهات النقدية الحديثة بتأثير العلوم اللسانية
والإنسانية، وأبرزها النقد البنيوي واللساني والعلاماتي والاجتماعي
والتفسي.
ـ غلبة التأليف الفكري
والنقدي على الابداعي عند عرسان. إذ كتب في هذه المرحلة مئات المقالات التي
لم يجمعها كتاب بعد، وكتابيه «العار والكارثة» (جزءان كبيران 1992) «المثقف
العربي والمتغيرات» (1995)، وديوانه الشعري الثاني «تراتيل الغربة» (1993)،
و«دراسته النقدية وقفات مع المسرح العربي» (1996).
ـ تغير الجدل والنقاشات من
الواقعية والإيديولوجية والسياسية والالتزام إلى النظرية الأدبية والنقدية.
وقد كان الحيز الكبير من نقد عرسان يتجه إلى موقفه وممارسته من هذه
القضايا، لأن فكرته عنها اختلفت عن أطروحات الواقعية الاشتراكية، باتجاه
واقعية تعبيرية والتزام بالعقيدة القومية ووحدة الثقافة العربية.
ـ بروز قضايا جديدة، راهنة
وخطيرة في الساحة الثقافية مثل مناهضة الصهيونية للأمة العربية والعولمة،
وقد كان عرسان من الفرسان المدافعين عن هذه القضايا في ممارسته الثقافية
والنقدية والابداعية.
وقد زاد من أوار هذه المعارك
السياسية والفكرية مسؤولية عرسان في قيادة، أو الاسهام، العديد من الجمعيات
والتنظيمات الأهلية والشعبية الثقافية في سورية والوطن العربي، من اتحاد
الكتاب العرب إلى الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، إلى جمعية مناهضة
الصهيونية، إلى لجنة مقاومة الغزو الثقافي والتطبيع.. الخ.
وقد واجه عرسان هذه المعارك
بعقل نير ووعي عميق بالتاريخ العربي وبالثوابت القومية. وكتبت مئات الأبحاث
والمقالات والتعليقات والردود على كتابات عرسان ومواقفه:
ـ انكشاف الكثير من الأقنعة
الثقافية والنقدية التي مارست التضليل والتزييف في ظل انتشار قيم ثقافية
ونقدية جديدة داخل المؤسسات العلمية والأجهزة الثقافية ووسائل الإعلام،
وخفتت أو شحبت أصوات الترويج الكاذب والرخيص لظواهر الإدعاء والتعسف الذي
بلغ في مراحل سابقة مبلغاً بعيداً في الإرهاب الفكري والمزاعم الباطلة،
فليس ثمة مقالات صريحة في هذا الاتجاه في نقد عرسان.
ـ تنامي الاتجاه العلمي
والأكاديمي الناقد للتجربة الأدبية والمسرحية، وفي مقدمة كتابات عرسان
المسرحية بالدرجة الأولى. وثمة عشرات الأبحاث في حلقات البحث في كليات
الآداب والمعهد العالي للفنون المسرحية والمعهد العالي للعلوم السياسية عن
إبداع عرسان وفكره. وثمة عشرات أطروحات الماجستير والدكتوراه، التي عالجت،
فيما عالجت، أدب عرسان.
ـ عناية الدوريات العربية
الفكرية بإبداع عرسان وفكره مما يحتاج إلى فهرسة تحليلية.
ـ صدور عدد من الكتب النقدية
المخصصة لأدب عرسان، منها «تحولات عازف الناي: قراءة ألسنية، نقدية،
تحليلية للمسرحية» (1997) لعدنان بن ذريل، و«وجوه الماس: البنيات الجذرية
في أدب علي عقلة عرسان» (1998) لمحمد عزام.
-4-
وسأعرض بإيجاز للكتابين
الأخيرين نموذجاً للنقد الخاص بعرسان في تجلياته الأنسب بعد رحلته الطويلة
مع نقد ونقد.
وضع عدنان بن ذريل كتابه
الثاني عن عقلة عرسان، وخصصه لمسرحيته الأخيرة «تحولات عازف الناي». تهدف
الدراسة إلى تحليل ألسني للمسرحية، وتتضمن فصولاً سبعة حول المسرودية
ومحاور الدلالة، وتجارب الأبطال، ومقولات المضامين، والبناء المسرحي،
والمكان والزمان، والمفردات والمصطلح، والأحاديث الفردية والأناشيد،
والبلاغة والأسلوبية، وتحليل الديباجة الكتابية.
يلجأ ابن ذريل إلى استخدام
تقانات المنهج الألسني على نحو مبسط وشارح، يقارب النزوعات البنيوية
والشكلانية، وما شاع مؤخراً من دراسة للملفوظية. غير أن النقد الموجه إلى
هذه الدراسات وهذا المنهج هي تقليله من قيمة التأويل والمعنى في النص
الأدبي الذي أنجزه النقد العلاماتي فيما تلا ذلك من مناهج، ولذلك لا نقع في
نقد ابن ذريل على معاني المسرحية ورؤيتها الفكرية والتاريخية للاغتراب أو
عطب الذات القومية، كأن يقول عن تحليل الديباجة الكتابية:
«تميزت الديباجة الكتابية في
مسرحية «تحولات عازف الناي» بعفويتها، وشفافيتها، فعكست الملاءمة بين السبك
والمضمون، في إيقاعه ظلت هي أيضاً ملاءمة لعرض مسرحي، يقوم على تجميع مشاهد
عن الاغتراب، وتحولاته...» (ص93).
ولعلنا نختلف مع ناقدنا منذ
شروعه في إيراد براهينه، حين رأى المسرحية تجميعاً لمشاهد حياتية، بينما هي
أميل إلى طبيعة المسرح التعبيري ولوازمه.
ويتساءل المرء عن مناسبة هذه
الأحكام لمسرحية «تحولات عازف الناي»، إذ نفى عنها «الدرامية» و«الحبكة»
بقوله:
- تحولات عازف الناي ـ،
للكاتب المسرحي النابه (علي عقلة عرسان) مسرحيةٌ ذهنيةٌ في (الاغتراب)، أو
فقدان الذات؛ وخاصة من (الاغتراب الاجتماعي) الذي يصيب الإنسان نتيجة القهر
السياسي؛ وقد عمل المؤلف على تنميط إبطاله فيها، فعمد إلى صيغة (الجلاّد
والضحية)، جعلها وراءهم كضحايا لظلم الدولة، واستبدادها؛ فكانت الدولة هي
(الجلاد)، وكان الأبطال هم (الضحايا)؛ وبذلك برزت في المسرحية تلقينات
مختلفة، لازدواجيّات بليغة، ومعبّرة، مثل ازدواجيّة (الرمز والواقع)، أو
ازدواجيّة (الواقع وما فوق الواقع)، نصادفها في تجارب هؤلاء الأبطال..
- تجميع مشاهد حياتية ـ
وليس في مسرحية: ـ تحولات
عازف الناي ـ (درامية نضالية)، وبالتالي، ليس فيها (حبكة) سردية لتأزم
أحوال تصير إلى حلٍ ملائم.. وإنما هي تقوم على (تجميع) مشاهد حياتية، عن
الاغتراب، يعيشها الأبطال، ويحاولون تجاوزها، هي (ذروات وجودٍ، وفعلٍ)؛ إذْ
يستمر (القهر السياسي) في المسرحية، وتستمر السلطة في مطاردتها لمناضل
هارب؛ وتستطيع في النهاية إلقاء القبض عليه، وعلى رفيقيه عازف الناي،
والمرأة، وتسوقهم إلى المحاكمة، فالموت.. وذلك بالفعل مجتلى الأصالة؛ إذّ
هو مجتلى تركيزٍ على قهرٍ سياسي يؤدّي إلى اغتراب اجتماعي، استطاعت
المسرحية أن تقدم (مشهديةً عامةً) عنه.
وضع ناقدنا للفصل الأول عنوان
«المسرودية ومحاور الدلالة» انسجاماً مع قراءته الألسنية الممتزجة
بعلاماتية/ سيميائية، غير أنه ما جاوز أفق الملفوظية بتحويله الدراما/
الفعلية إلى مجرد علاقة لغوية، بل إنه لم يوضح مصطلحاته النقدية في مفتتح
كتابه، وهذا نموذج من تحليله:
هنا قصير المسرودية إلى
(الحديث الفردي) يشكو فيه الرجل أحواله، وعذاباته؛ ثم يندلع (لحن) لناي
رقيقٍ، وتندلع معه (أناشيد)؛ إذ يظهر (عازف الناي) ص46، وتصير المسرودية
إلى (مكاشفات) جدّ صميميّة بين الرجل وبين عازف الناي؛ يث يسأل (عازف
الناي) الرجل: من يكون؟. ومن أين هو؟. فيجيبه (الرجل) إنه فوق هذا الكوم من
العتمة الذي يسمّى سفح الجبل، هو الآن. كلّ الأمكنة، والاتجاهات، والأين..
وإن كل شيء يتداخل، وإنه فاقد ومفقود، كما أنه في حالة بحثٍ، وخوف، ص49-50.
ثم خص «محاور الدلالة» بعنوان
جزئي، واستعان بالمشترع الدلالي غريماس، وقد حددها الأخير بالرغبة والاتصال
والمشاركة بين الأبطال لتحقيق هدف معين، ولكنه لم يجد في المسرحية إلا
أمشاج أمرين: أحدهما مساعدة الرجل في استعادة ذاته، والثاني تفويت المطاردة
للرجل على الدولة. ولعله من نافل القول أن نشير إلى التضييق على المسرحية
تحت وطأة الارتهان للمناهج المجتلبة، فثمة استغراق في التحليل الألسني/
اللغوي في مستواه السطحي البسيط، كما في مثل هذا المقطع الجزئي الذي يحمل
عنوان «المغالطات انتقاء فوق واقعي»، ولا يخفى الارتباك وقلق التعبير في
صوغ العنوان أيضاً:
المغالطات انتقاء فوق واقعي
وفي الحقيقة أن مغالطات ممثل
الدولة (رئيس المنصة) للأبطال الثلاثة، وتلبيسهم الجرائم تلبيساً شيء
تعبيري تماماً؛ لأنه شيء غير طبيعي.. ولذلك يرجح أنه (انتقاء) فوق واقعي
لزاوية، آثر المؤلف رسمها للدولة؛ وهي زاوية ممكنة التحقق، والحصول في
الواقع..
فمثلاً، عندما يسأل ممثل
الدولة (رئيس المنصة) الرجل، هل هو يعرف. (عازف الناي).. يقول له (الرجل):
ـ كنت جثة سقطت، فحاول مساعدتي على استعادة صلتي بالعالم ـ، ص327.
فيقول (رئيس المنصة) لزميله:
ـ سَجّلْ، ساعده على الهرب، وكان دليله في عملياته ضدّ أمن الدولة. ـ،
ص327.
ثم يسأل ممثل الدولة (رئيس
المنصة) الرجل: ـ وماذا أيضاً. ـ، فيجيبه (الرجل): ـ كان أحياناً أيضاً
يعزف لي..، ص327.
فيقول (رئيس المنصة) لزميله:
ـ سَجّلْ، كان يقوم بأعمال شيفرة، ويرسل رسائل على الشبابة. ـ، ص328.
ثم يسأله هل كان يعزف فقط، أم
يقوم بالعزف، والغناء، ص329، فيجيب (الرجل) ـ عزف فقط!!.
فيقول (رئيس المنصة) لزميله:
ـ سَجّلْ ذلك.. شيفرة لحن، دون كلام. ـ، ص329..
والأنكى من هذه المغالطات، إن
(الرجل) عندما صار يتلكأ في الإجابة على أسئلة رئيس المنصة، يتهدده (رئيس
المنصة) ويتهدد المرأة زوجته قائلاً:
- إذا لم يجد الأجوبة
الملائمة فوراً، سوف يعرف كيف نعيد له الإحساس، والشعور بالخوف.. سنبدأ بك،
ونصل إليه.. وعند ذلك سيفرد كالعليل. ـ، ص315.
هذا التحريف لصورة (الدولة)
في المسرحية، وجعلها عدواً للأفراد عمل على التحولات (لأمشاج) محاور
الدلالة، وتكييفها عند الأبطال (النظر بعد قليل)؛ وهو ما آثره المؤلف
ليتسنى له رسم (مشهدية عامة) للاغتراب..
انطلق عدنان بن ذريل في نقده
من مقدمة فكرية وفنية قابلة للرأي، ثم وسع تحليله الألسني إلى أمداء فكرية
بما يشبه المغامرة النقدية، فقد أوجز موضوع المسرحية بإطلالة نقده، بينما
يعمد النقد إلى مثل هذه الإطلالة على سبيل النتيجة إنه ولع ناقدنا
بالاتجاهات النقدية الحديثة، فكأن نقده بعد ذلك تطبيق مبسط لهذا الاتجاه أو
ذاك. لقد ذكر في مقدمته استخلاصاً ناجزاً لموضوع المسرحية، واستتبعه
ببراهينه من خلال التحليل:
- تحولات عازف الناي ـ،
للكاتب المسرحي النابه (علي عقلة عرسان) مسرحيةٌ ذهنيةٌ في (الاغتراب)، أو
فقدان الذات؛ وخاصة من (الاغتراب الاجتماعي) الذي يصيب الإنسان نتيجة القهر
السياسي؛ وقد عمل المؤلف على تنميط إبطاله فيها، فعمد إلى صيغة (الجلاّد
والضحية)، جعلها وراءهم كضحايا لظلم الدولة، واستبدادها؛ فكانت الدولة هي
(الجلاد)، وكان الأبطال هم (الضحايا)؛ وبذلك برزت في المسرحية تلقينات
مختلفة، لازدواجيّات بليغة، ومعبّرة، مثل ازدواجيّة (الرمز والواقع)، أو
ازدواجيّة (الواقع وما فوق الواقع)، نصادفها في تجارب هؤلاء الأبطال..
- تجميع مشاهد حياتية ـ
وليس في مسرحية: ـ تحولات
عازف الناي ـ (درامية نضالية)، وبالتالي، ليس فيها (حبكة) سردية لتأزم
أحوال تصير إلى حلٍ ملائم.. وإنما هي تقوم على (تجميع) مشاهد حياتية، عن
الاغتراب، يعيشها الأبطال، ويحاولون تجاوزها، هي (ذروات وجودٍ، وفعلٍ)؛ إذْ
يستمر (القهر السياسي) في المسرحية، وتستمر السلطة في مطاردتها لمناضل
هارب؛ وتستطيع في النهاية إلقاء القبض عليه، وعلى رفيقيه عازف الناي،
والمرأة، وتسوقهم إلى المحاكمة، فالموت.. وذلك بالفعل مجتلى الأصالة؛ إذّ
هو مجتلى تركيزٍ على قهرٍ سياسي يؤدّي إلى اغتراب اجتماعي، استطاعت
المسرحية أن تقدم (مشهديةً عامةً) عنه.
ووضع ناقدنا للفصل الثاني
عنواناً مثيراً، يكاد يتفق مع عنوان الفصل الأول، وهو «تجارب» الأبطال
ومقولات المضامين» مما يشي بلفظية التحليل وشكلانيته وانغماره بالعلاقة
اللغوية، فقد حكم على المسرحية بغلبة المباشرة، والعفوية، ليصبح محصول
المسرودية «مجموع تلقينات اغترابية عن تجارب الأبطال الثلاثة: الرجل وعازف
الناي والمرأة» (ص21).
وفصل هذه التلقينات
الاغترابية بما يلي:
«الرجل: جسّد الجانب الجسدي
والنفسي للاغتراب. وعازف الناي: جسّد الجانب الاجتماعي.. والمرأة: جسّدت
التموضع بالمعنى الصحيح» (ص21).
لا تنتمي المسرحية إلى مستوى
واقعي مباشر لاندغامها بمبنى رمزية تتيحه تعبيريتها ورؤيتها الوجدانية
العميقة، وقد جاوز ناقدنا ثراء هذا المبنى الرمزي إلى واقعية مباشرة،
واستدعى ذلك أنه جعل المسرحية ميداناً مباشراً لتطبيق أفكار فلسفية محددة،
مثل «التموضع» عند هيجل و«الاغتراب الوجودي» عند كيركجورد كما في قوله:
المقولات الفكرية، وملامح
المسرودية.
ومسرحية: ـ تحولات عازف الناي
ـ، رغم أنها تهدف إلى رسم (مشهدية عامة) للاغتراب الاجتماعي، الذي سببه
القهر السياسي؛ إلا أنها تقوم على (روحانية) صريحة، ظل الأبطال الثلاثة
الرجل، وعازف الناي، والمرأة يعيشونها، ويلهجون بها.. وتشكل (الروحانية)
مقولة أساسية في المسرحية، وشتى فترات المسرودية فيها؛ ولذلك ظلت مهيمنةً
على سلوكات الأبطال، وأقوالهم، إلى جانب (المقولتين) الآخريين في المسرحية،
المقولة الهيجلية، والمقولة الكيركجاردية..
أوغل ناقدنا في التحليل
الشارع المبسط، وهذا جلي في الفصل الثالث: «البناء المسرحي: المكان
والزمان»، وأوضح في شرحه للمكان على نحو خاص أنه موظف توظيفاً تعبيرياً،
و«هذا الأمر هو الذي يسمح للمؤلف بتشغيل هذا التوظيف، في صالح التعبيرية
والتلقين» (ص32). وربما لا يقصد ناقدنا من التعبيرية معناها الاصطلاحي،
مكتفياً بالمعنى اللغوي أيضاً.
وثمة حيرة في التحليل بين
مدار علاقة لغوية وعلاقة رمزية مجازية، تتبدى في نظرته للزمان على أنه
«زمان فيزيائي» بينما عالجه واقعياً في الفصل الأول، ومرد هذا التداخل إلى
ارتهان التحليل للاتجاهات الجديدة على نحو مطلق.
ويظهر هذا الارتهان في حديثه
عن «المفردات والمصطلح» في الفصل الرابع، لأن اختياره للتحليل الألسني
وميله العلاماتي يقرّب النقد من آلية علمية اختبارية، بينما تشير أوصاف
اللغة والرأي فيها في ممارسته النقدية إلى مستوى إنشائي بسيط، ثم تأتي
البرهنة عليه في المتن، وهذا هو دأبه، والأنسب هو العكس، وأن يستخلص الرأي
من التحليل بعدئذ، كقوله:
(لغة) المسرودية، في مسرحية:
ـ تحولات عازف الناي ـ تميزت بالرشاقة، والشفافية؛ فجاءت خطاباتها معبّرة،
ودقيقة، ولا عجب. فنجاح (الخطاب) في تلاؤمه مع فحوى مضامينه، وخدمته
إيصالها.. فكيف تكون الحال، والخطاب هنا (خطاب مسرحي) يعالج تجارب رهيفة
وشائكة..
و(الخطاب) في مسرحية: ـ
تحولات عازف الناي ـ خطاب استكشافي؛ وقد تميز بميزتين: (الحيوية)،
و(الذكاء).. فهو من جهة، كله التوهج، والمباشرة، والعفوية، ومن جهة ثانية
هو يحاول الكشف عن حقيقة (الاغتراب) في مشهدية عامة له..
رأى ناقدنا أن المسرودية
استهلكت عدة مصطلحات فكرية وسلوكية، مثل الغربة والضياع والطبيعة والروح
والحب والفرح واليأس والأمل وسواها، ثم حلل ثلاثة منها هي الغربة والضياع
والفرح. وأحصى في الفصل الخامس «الأحاديث الفردية والأناشيد»، ويقصد
بالأحاديث الفردية النجوى، وبلأناشيد ذلك النثر الفني الحياتي والتأملي،
وهذه التعريفات متعسفة لا يتفق على حدودها بيسر.
وعالج ناقدنا «البلاغة
والأسلوبية» في الفصل السادس، ضمن حدود بلاغية مباشرة مثل التشبيهات،
بأدواتها: الكاف، وكما، وكهذا، وكذا، وكذلك، وهكذا، وكأن، وكأنما، ومثل،
ومثلما، ومثل هذا، ومثلك، والاستعارات بوجوهها: التصريحية والمكنية
واستعارة الإضافة، والإضافيات البسيطة والمركبة، والنعوت الرمزية، ثم انتقل
إلى مستويات أعمق في حديثه عن الشكل والموضوع، والتوهج والانزياحات،
ومستويات التجربة والتعبير.
وختم ناقدنا كتابه بفصل سابع
«في تحليل الديباجة الكتابية»، وأراد من هذا المصطلح «الملاءمة بين السبك
والمضمون في إيقاعية ظلت هي أيضاً ملاءمة لعرض مسرحي، يقوم على تجميع مشاهد
عن الاغتراب وتحولاته» (ص93).
ولا يخفى أن المصطلح شائه
الملامح،فهل صحيح أن المقصود من التحليل الألسني والأسلوبي هو إظهار
الذبذبات الإبداعية في المسرودية، وانعكاساتها على لغة المسرحية وديباجتها
كافة» (ص93).
يظهر هذا الكتاب ولع ناقد
متمكن وراسخ بالاتجاهات الجديدة، وسعيه لتطبيقها على المبدعات الأدبية
العربية، وكان تعامل منذ إقباله على النقد في الأربعينيات مع مناهج متعددة:
الرمزية، الإتباعية، التحليل النفسي.. الخ. وما هذا الكتاب إلا اجتهاد يضاف
إلى اجتهاداته الأخرى في تطبيق التحليل الألسني في ميله العلاماتي.
-5-
جاءت تسمية الكتاب «وجوه
الماس» دالة ـ برأي مؤلفه ـ «على وجوه إبداعه في مختلف الأجناس الأدبية.
ومن المعروف أن الماس
DIAMOND حجر شفاف شديد
الصلابة. وهو صورة من صور الكربون يشتد بريقه حين ينعكس الضوء عليه، ولهذا
يُتخذ حلية وزينة. والماس ملك الأحجار الكريمة، وهو شديد اللمعان بحيث
يستعمل في قطع الأحجار الكريمة الأخرى ويرمز الماس إلى عدم القابلية
للفساد، وإلى الفكر المتحرر من كل إكراه» (ص ص5-6).
ووضع عزام كلمة مفتاحية لعلي
عقلة عرسان تقول:
«الكلمة مصباح، فلنوقد ذلك
المصباح» (ص9).
وجعل الفصل الأول مداراً
لإيضاحات تمهيدية حول المنهج الموضوعاتي «الثيمي» في النقد الأدبي، واستعرض
تجلياته عند غاستون باشلار وجان بيير ريشار وشارل مورون وجان بول فيبر،
وانطلق في بحثه من مصطلحات هذا المنهج النقدي لدى نقاد آخرين، وهي:
1) هناك التباس بين
(الموضوعية)، و(المواضيعية)، و(الموضوعاتية)، ذلك أن كلاً من هذه الألفاظ
الثلاثة تدل على معنى محدد: فـ (الموضوعية) تدل على الموضوع
OBJECT
الفكري أو التأملي. وهي عكس (الذاتية). وقد اعتمدتها الدراسات النقدية
التقليدية في بيان أفكارها الرئيسية، ثم أصبح منهجاً نقدياً مستقلاً في
العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين في بريطانيا وأمريكا، ومن أشهر
رواده: أ.أ.رتشاردز، وت. س. إليوت، وكلينت بروكس (انظر كتابنا: المنهج
الموضوعي في النقد الأدبي).
و(المواضيعية) نسبة غير موفقة
إلى (الموضوع).
وأما (الموضوعاتية) فهي
(الثيمية)، وتدل على (الموضوعات) الكامنة في الأثر الأدبي. و(الثيمة)
THEME
هي الجذر لهذه الموضوعات. وهذا الجذر يتصف بصفات محددة هي: القرابة السرية
في العلاقات الخفية التي تنسجها عناصر (الموضوع)، والثبات الذي يعني أن
الموضوع هو النقطة التي يتشكل حولها العالم الأدبي، والدينامية الداخلية في
العلاقات الجدلية بين عناصر الموضوع وغيره من الموضوعات، في النص
الأدبي.ومنعاً لهذا الالتباس بين هذه المصطلحات الثلاثة، فإننا نؤثر
استخدام مصطلح الجذرية بمعنى الموضوعاتية (الثيمية).
2) استخدم مصطلح (الجذرية) من
قبل النقاد الفرنسيين الذين بحثوا في شبكة الأفكار الملحّة في نصوص كاتب
ما، بمعنى (الموضوع) الذي عالجه، أو (الفكرة) المسيطرة على كتاباته كلها.
وقد انفرد بهذا المنهج الناقد الفرنسي المعاصر: جان بول فيبر، فوضع فيه
كتابين: مجالات جذرية (1963م)، وستاندال: البنيات الجذرية في أدبه وحياته
(1969م).
3) النقد الموضوعاتي (الثيمي)
منهج نقدي، ظهر في الخمسينيات من القرن العشرين في النقد الفرنسي الذي
تطوّر في ظل الألسنية والبنيوية، وحاول أن يحافظ على استقلاله تجاه المناهج
النقدية التقليدية والحداثية.
والجذر (أو الثيمة) عند فيبر
يعني موقفاً أو حادثاً معيناً، يظهر بصورة شعورية أو لا شعورية، في أثر من
آثار الكاتب، أو في مجموعة آثاره الأدبية، إما بصورة رمزية، أو بصورة
واضحة.
وأوضح عزام أن النقد
الموضوعايت عني بتيارين فكريين، هما الألسنية والتحليل النفسي، رفدا
بمصطلحاتهما، كما تأثر بالشكليين الفرنسيين، وبين تطوره لدى بعض أعلامه
الفرنسيين، وعرف بجهد ناقد عربي هو عبد الكريم حسن (سورية)، عني بهذا
المنهج، في كتابه «الموضوعية البنيوية» (1983م) بخاصة. ثم عقد العزم على
تطبيق هذا المنهج على نتاج عرسان، ليتجلى «في استعراض هذا النتاج، كل جنس
على حدة، واستنباط الجذر التي تدور حولها الموضوعات والمضامين، وبيان
أسبابها التي دفعت إلى التركيز عليها» (ص34).
عالج عزام في الفصل الثاني
«عرسان مسرحياً»، وكانت المسرحيات هي:
1- الشيخ والطريق.
2- زوار الليل.
3- الفلسطينيات.
4- الغرباء.
5- السجين رقم 95.
6- رضا قيصر.
7- عراضة الخصوم.
8- الأقنعة.
9- تحولات عازف الناي.
وأغفل مسرحياته القصيرة
الأولى، ورأى أن مسرحياته «جميعها تدور حول جذر «ثيمة» واحد هو الظلم
الواقع على المواطن والوطن ففي مسرحيته «الشيخ والطريق» يصوّر (الظلم)
الواقع على الفقراء من قبل الأغنياء. وفي مسرحيته (زوّار الليل) يصوّر
(الظلم) الذي أوقعه فتى بفتاة عندما أغراها بمعسول الكلام حتى استكانت له،
فافترسها، ثم هرب عنها، تاركاً إياها تواجه وحدها مصيرها الفاجع. وفي
مسرحيته (الفلسطينيات) و(الغرباء) يصوّر (الظلم) الذي وقع على السكان
العرب. وفي (السجين 95) يصوّر الصراع على السلطة بين المسؤولين، والظلم
الواقع على المواطنين. وفي مسرحيته (رضا قيصر) و(تحوّلات عازف الناي) يصوّر
علاقة الفنان بالسلطة، و(ظلم) هذه السلطة له، من أجل أن يظل يسبّح بحمدها
صباح مساء. وفي مسرحيته (الأقنعة) يصوّر (الظلم) الذي يقع على كاهل جندي
عاد من الحرب فوجد الفساد قد عمّ مجتمعه، ووصل إلى زوجته وبيته.
وأطلق حكماً لا يوافي طبيعة
البناء المسرحي عند عرسان، إذ عده كاتباً تقليدياً واقعياً، وليس الحال
كذلك، فهو كاتب تعبيري بالدرجة الأولى، يستخدم أمشاجاً رومانسية حيناً،
ورمزية حيناً آخر، وواقعية قليلاً حيناً ثالثاً. ثم حلل المسرحيات، واحدة
واحدة ليصل إلى جذورها «ثيماتها» العميقة، كما في هذه الاستخلاصات الموجزة:
الشيخ والطريق:
والجذر (الثيمة) الأسايس في
المسرحية هو تصوير (الظلم) والقمع، في مجتمع طبقي لا ينال فيه الفقراء
شيئاً رغم أنهم يعملون ليل نهار، وينال فيه الأغنياء كل شيء رغم أنهم لا
يعرقون ولا يتعبون.
زوار الليل:
إن (الظلم) هو الجذر (الثيمة)
الأساسي في المسرحية: ظلم المجتمع لهند، وظلم حبيبها لها، وظلمه لزوجته
سعاد، وظلم سعاد له، وظلم هند لجنينها... والواقع أن هذا الحل (المثالي)
ليس مناسباً لقضية اجتماعية ما تزال موجودة في أريافنا ومجتمعاتنا. ولكنه
يظل عقاباً وتكفيراً عن ذنب اقترفه صاحبه، واعترافاً بأن الضمير لم يمت عند
بعضهم بعد.
الفلسطينيات:
وبالطبع فإن الجذر (الثيمة)
الأساسي في هذه المسرحية هو أيضاً (الظلم) الذي مارسه اليهود والإنكليز
والقيادات العربية على الفلسطينيين.
الغرباء:
ومع ذلك فإن مسرحية
(الغرباء) تظل مسرحية جادة. صحيح أنها قالت ما هو معروف تماماً، ولكنها
عبّرت عنه من خلال غلالة الرمز الشفاف الذي منحها بعداً فنياً وجمالياً.
وواضح أن (الظلم) هو الجذر
(الثيمة) الأساسي في المسرحية: ظلم جماعة أبي داود للفلسطينيين.
السجين رقم 95:
وواضح أن الجذر (الثيمة)
الأساسي في هذه المسرحية هو (الظلم) الواقع على المواطن. ظلم السلطة
الطاغية، سواء كانت (ثابتاً) أم (مثبوتاً).
رضا قيصر:
والواقع أنه لم يكتب في
المسرح العربي ـ إلا ما ندر ـ مسرحية بمثل هذه القوة في تصوير قمع السلطة
للأدباء والكتّاب، ذلك أنه لا يمكن للكاتب أن يكون صادقاً مع نفسه، مؤثراً
في مجتمعه، دافعاً إياه نحو الأفضل، دون أن يثير غضب السلطة.
عراضة الخصوم:
أما الجذر (الثيمة) الأساسي
في المسرحية فهو (الظلم) الذي وقع على أم الشهيد (أم سليم) من قبل مجتمعها
عندما اسشهد ابنها، ومن قبل أدعياء الوطنية والنضال. و(الظلم) الذي وقع على
الوطنيين الشرفاء من قبل المتاجرين بالوطنية والسياسة.
الأقنعة:
ولكن كيف يستطيع مقاومة
الفساد وهو إطار عام أكبر منه ومن الفرد بشكل عام. وصحيح أن الفساد كان
محصلة لتحوّل المجتمع نحو الاستهلاك. ولكن الذي استفاد من ترويج شعارات
الاستهلاك واقتصاد السوق هي البورجوازيات المتاجرة بكل شيء حتى بالقيم؟.
أما العودة إلى (الأصالة) فهي
دعوة مشروعة ما دامت حداثة الأيديولوجيات التي غزتنا طويلاً قد تهاوت وسقطت
حتى على الصعيد العالمي. وما دامت حداثة الغرب الليبرالي ما تزال تفتك
يومياً بالملايين من الشعوب المقهورة.
تحولات عازف الناي:
ولا شك أن (الثيمة) التي
استبطنت أغوار الكاتب هي (الغربة): غربة (الرجل) عن مجتمعه، ومدينته، وحتى
عن نفسه، وغربة (المرأة) عن زوجها ومدينتها، وغربة (العازف) عن الآخرين
وحياتهم. ثم غربة هؤلاء في مجتمع القهر والطغيان، مما جعلهم يهربون من
مدينة الفساد والقهر إلى أحضان الطبيعة، بعد أن أصبحت القيم النبيلة جرائم
يعاقب عليها الطغاة.
أما سبب الغربة فهو العسف
والقمع السلطوي الذي يمارس على المواطنين. وأما نتيجة هذه الغربة فهو
المزيد من التمسك بالحق والعدل والخير والمعرفة في عالم انعدمت فيه هذه
القيم النبيلة.
ومن الواضح، أن عزام قد ضيق
المنهج الموضوعي إلى حدود استنباط جذر واحد أو رئيس لكّل مسرحية، على أنه
لم يفعل ذلك في تحليل المسرحيات جميعها، فقد نأت «رضا قيصر» عن الموضوع
الرئيس لتحليله، وهذا هو حال التعسف في التحليل أو تضييقه لحدود شكلية،
مثلما فهم عزام المنهج الموضوعي، بيد أن تجليات هذا المنهج في النقد
الأنجلوسكسوني بعيدة عن الشكلية، وأكثر عناية بالموضوعات والصوغ الفني لها
من خلال معايير أكثر دقة، كما هو الحال عند ف. ر. ليفز ومن ذكرهم عزام نفسه
أمثال أ. أ. ريتشاردز وت. س. اليوت وكلينث بروكس.
وخصص عزام الفصل الثالث
لعرسان منظراً مسرحياً، من خلال كتبه الثلاثة:
1- سياسة في المسرح.
2- الظواهر المسرحية عند
العرب.
3- وقفات مع المسرح العربي.
وقد اكتفى عزام بعرض بعض
أبحاث الكتاب الأول دون تحليل أو التزام بمنهج موضوعي وسواه، أما الرأي
الختامي الوحيد فهو: «والواقع أن الباحث عرسان قد استطاع أن يجمع في كتابه
هذا قمم المسرح العالمي مكتفياً بقمة واحدة تمثل بلاداً أو مذهباً أدبياً.
والمطلوب هو وضع كتاب مثيل له عن المسرح العربي» (ص117).
ما فعله عزام في هذا الفصل هو
الشرح والتلخيص، وكذلك فعل في عرض كتابيه الثاني والثالث، فليس ينفع أن يصف
الكتاب الثاني بأنه هام (ص139)، وليس صحيحاً أن منهج عرسان في كتابه الثالث
هو الحديث عن حياة كل علم من أعلام المسرح العربي، ثم الحديث عن أعمالهم
المسرحية. «أما مشكلات المسرح وقضاياه فقد استأثرت بجهوده لأنه عاد فيها
إلى مصادرها الأساسية» (ص146).
ومن المستغرب أن يعد مثل هذا
الحديث منهجاً، ناهيك أن منهج عرسان بعيد عن مثل هذا التبسيط، لأنه منهج
تقويمي يعالج الظاهرة الفنية في سياقها التاريخي العام وسياقها الفني
الخاص.
ولعل عزام لا يجد نفسه في نقد
المسرح، لأن الفصل الرابع «علي عقلة عرسان شاعراً» يحفل بثراء التحليل
للبنى الشعرية عند عرسان في ديوانيه «شاطئ الغربة» و«تراتيل الغربة»:
البنية السطحية، والبنية التشكيلية، والبنية العميقة، والبنية الجذرية
(الثيمية)، حتى صار هذا التحليل الثري إلى متعة ذوقية وفكرية في مستوياته
المتعددة، ولا سيما تحليله لجذر الغربة، وتشير خاتمة تحليله إلى خلاصة
رأيه:
وهكذا تعددت أنواع الغربة عند
الشاعر عرسان، وأسبابها: فمن غربة ذاتية، إلى غربة اجتماعية، وسياسية،
وكلها مما يزيد في حزن الشاعر وأساه. ويجعل (الغربة) سيفاً مصلتاً على
الضمير والعنق، وجذراً (ثيمة) مركزياً وأساسياً في شعره.
ونوّع عزام تقانات التحليل
وإجراءات النقد إلى أبعد من المنهج الموضوعي في الفصل الخامس «علي عقلة
عرسان روائياً»، وهو مخصص لدراسة روايته الوحيدة «صخرة الجولان»، إذ شرح
رواية تيار الوعي، وأوضح تكون مصطلحها وفرسانها وجذورها وتقنيتها، ثم حلل
رواية عرسان من جوانب مختلفة:
1- المونولوج الداخلي.
2- الإحساس بالزمان.
3- البنية الروائية.
4- الشعرية والصور البلاغية.
5- الجذر الدلالي (الثيمة).
ولربما كان هذا الفصل،
بالإضافة إلى الفصل السابق عن شعر عرسان، مما يميز هذا الكتاب في مقاربة
موضوعية لإبداع عرسان، ومما يجعل استخلاصاته النقدية ملائمة لأطروحته
المركزية:
وهكذا نجد أن الجذر الدلالي
(أو الثيمة الأساسية) في هذه الرواية هو الظلم الذي يؤدي إلى الغربة: الظلم
الاجتماعي الذي تعيشه الطبقة الفقيرة، وتمارسه عليها الطبقات الغنية.
والغربة عن الأهل، وعن الوطن. ومن خلال هذين الجذرين تعرّض الكاتب للفوارق
الطبقية، مصوّر إياها على حقيقتها، وواقفاً إلى جانب المقهورين والمظلومين
ضد الظالمين والطغاة.
وخصص عزام الفصل السادس لعلي
عقلة عرسان مثقفاً، وتناول فيه كتبه:
1- دراسات في الثقافة
العربية.
2- آراء.. ومواقف.
3- أيام في شرق آسيا.
4- العار والكارثة.
5- المثقف العربي والمتغيرات.
وعمد فيه إلى تلخيص هذه الكتب
وعرضها، ولا أعتقد أن التلخيص والعرض بنافع، لأنها كتب جدالية في أدق
القضايا العربية الراهنة وأكثرها خطورة.
وعلى العموم، يظل هذا الكتاب
تعبيراً ساطعاً عن تعامل النقد مع أدب عرسان بمناهجه الجديدة، ويشير في
الوقت نفسه إلى ناقد خبير متذوق يكشف بناء المسرحية وخطابها الفكري والفني
بلغة نقدية بصيرة وثاقبة على الرغم مما شاب التطبيق من شوائب الارتهان لهذه
الاتجاهات الجديدة.
ويستخدم محمد عزام في كتابه
المذكور منهجاً حديثاً أيضاً هو المنهج البنيوي الذي سماه «المنهج
الموضوعاتي/ الثيمي» مستهدياً بأعمال نقاد أمثال غاستون باشلار وجان بيير
ريشار وشارل مورون وجان بول فيبر، وهو منهج يستعين بالألسنية والتحليل
النفسي والشكلانية الروسية أيضاً. وتكمن أهمية الكتاب في أنه تعريفي جامع
لوجوه إبداع عرسان ومكانته الأدبية وفعاليته الثقافية، بل إنه الكتاب
النقدي الأول شمولية وعمقاً. يلتزم الناقد بالمنهج الموضوعاتي مع ميل لا
يخفى إلى البنيوية والشكلانية الألسنية، لمناسبة هذا المنهج في إظهار مكامن
الإبداع عند عرسان، إذ اتجه أدبه غالباً إلى التعبير القيمي والموضوعي عن
القضايا القومية والإنسانية والأخلاقية ومآلها في المصير الإنساني والعربي.
وزع عزام كتابه إلى فصول تدرس
فعالية عرسان وأدبه وفكره، وهي:
المنهج الموضوعاتي «الثيمي»
في النقد الأدبي.
علي عقلة عرسان مسرحياً.
علي عقلة عرسان منظراً
مسرحياً.
علي عقلة عرسان شاعراً.
علي عقلة عرسان روائياً.
علي عقلة عرسان مثقفاً.
ومن هذا الباب، يعد كتاب عزام
مرجعاً متقصياً لفكرعرسان وإبداعه بتدقيق واختزال لا يضعف مدى التعريف
النقدي، فيأتي الناقد كثيراً في الإحاطة بجوانب الإبداع العرساني، شارحاً
وناقداً للطوابع الأساسية في فنه وتفكيره الأدبي.
إن هذا الكتاب النقدي هام من
وجوه متعددة، فهو جهد كبير لناقد جاد متتبع ودؤوب، وهو مرجع لا غنى عنه عن
أدب كاتب فاعل في الحياة الثقافية العربية الحديثة، وهو أنموذج نقدي يبين،
متعاضداً مع كتاب ابن ذريل الثاني، ما آل إليه النقد الخاص بعرسان من
مقاربة منهجية موضوعية تسعى تجربته الفكرية والفنية العريضة.
8
المثاقفة الحضارية المسرحية:
انطونيو بويرو باييخو وسعد
الله ونوس نموذجاً
يتناول هذا البحث المثاقفة
الحضارية المسرحية الإسبانية ـ العربية عن طريق النقل والتناص، للبرهنة على
فاعلية النص المسرحي في تحقق هذه المثاقفة، ويحاول أن يضع بعض الممهدات مثل
محاولة تحديد مفهوم المثاقفة الحضارية إزاء ما يجاوره من مفاهيم مثل
المثاقفة والمثاقفة المعكوسة من جهة، والمؤثرات الأجنبية والمكونات
الموروثة من التقاليد الثقافية القومية من جهة ثانية، ووعي الذات والآخر من
جهة ثالثة، وقد أظهر البحث تطور هذا المفهوم إلى المثاقفة الحضارية التي
تعترف بطرفي التثاقف: الثقافات الغربية والثقافة العربية. وينتقل إلى
ممهدات أخرى تتصل بالنموذج المدروس، فيؤطر المثاقفة الحضارية المسرحية،
لاختلاف النظر إلى هذا الفن تقليدياً أم حديثاً أم مستحدثاً في الثقافة
العربية المكتوبة والتقليدية أو الشفاهية والشعبية، أو الثقافة العربية
الحديثة واعتمالها بأشكال الاغتراب والاستلاب والاستتباع لمركز الآخر
المهيمن، ويتوقف عند المثاقفة العربية ـ الإسبانية الموغلة في القدم، ويشير
إلى مكانة المسرح الإسباني في هذه المثاقفة الحضارية، من خلال تجربتها
الخاصة في سورية، فلطالما عني المسرحيون، مؤلفين ومخرجين، على إنتاج المسرح
الإسباني أو إعادة إنتاجه، وبخاصة تجربة المبدع الكبير علي عقلة عرسان الذي
أخرج عدة مسرحيات إسبانية وفق رؤيته الفكرية والفنية. ويصدر الباحث عن
معايشة دؤوبة لهذه المثاقفة الحضارية المسرحية الإسبانية ـ العربية في
سورية، من خلال متابعتها بالنقد خلال العقود الأربعة الأخيرة.
ويعاين البحث نموذج المثاقفة
الحضارية لدى أنطونيو بويرو باييخو وسعدالله ونوس في مسرحيتين محددتين هما
«القصة المزدوجة للدكتور بالمي» (1968) و«الاغتصاب» (1989)، ويؤشر إلى
ظاهرة جلية في مسرح ونوس هي اعتماده الكلي على النقل أو التناص، على أنه
يثمّر هذا النقل أو التناص معالجة فكرية وفنية تتيح لنصوصه رؤية إبداعية
غالباً، وقد ألمح البحث إلى مصادر النقل أو التناص في جلّ مسرحياته.
ويعرّف البحث بباييخو ومسرحه
ومسرحيته، وأهمية هذا المسرح في المثاقفة الحضارية لثراء رؤاه في وعي
التاريخ الحضاري ومعنى الوجود والتبصير بالمصائر الإنسانية. ويحلل البحث
مسرحيتي باييخو وونوس توصيفاً وإضاءة لمطاويهما وبناهما الجمالية
والدلالية.
ويفرد البحث حيزاً واسعاً
لتفصيل القول في أشكال النقل والتناص بين المسرحيتين، ولاسيما الموضوع
والموضوع الواقعي والمبنى الرمزي والأحداث والوقائع والأقوال، ويورد بعض
الملاحظات العامة. ويختتم البحث بذكر خلاصته.
1- نحو مفهوم للمثاقفة
الحضارية:
تعني «المثاقفة»، فيما تعنيه،
التفاعل وتبادل التأثير والتحاور والتواصل في ميلاين الثقافة والاتصال،
فظهرت مفاهيم متعددة لها تاريخياً ووظيفياً، إذ يعسر النظر إليها معزولة عن
سياقها التاريخي ودلالاتها الوظيفية كالقصدية بدوافع تبشيرية أو عقائدية أو
غير القصدية مما ينغمر به المنتج الثقافي بتأثير فضاء ثقافة أو ثقافات
أخرى، ويصعب في هذه الحال أن يؤطر مفهوم «المثاقفة» دون جواره من مفاهيم
تتداخل معه إلى حدّ التمازج المطلق مثل التبعية والاستعلاء والاغتراب
والغزو والهيمنة والعولمة.
لقد نُظر إلى «المثاقفة» في
مراحل نشوء المصطلح الأولى على أنها تأثير ثقافة غازية قاهرة قوية في ثقافة
مغزوة مقهورة وضعيفة، وكان ذلك التوصيف أقرب إلى وضع الثقافة العربية
المستلبة والمقهورة والضعيفة أمام الثقافة الغريبة المستعمرة والقاهرة،
فُرهن نشوء المنتج الثقافي العربي بالغرب وبالتقليد الغربي، وإذا كان
المسرح أو الظواهر المسرحية العربية أو المسرحةِ بذاتها شاحبة الظهور دون
التعبير الديني أو الشعبي الشفاهي والمسموع( )، فإن القصة، وهي فنّ عربي
عريق ضارب الجذور في الثقافة العربية، عُدت تقليداً للغرب أو هي نتاج
المؤثرات الأجنبية الغربية بصريح العبارة، وشاعت في النقد الأدبي والمؤسسات
التربوية والتعليمية العبارات التي تقايس الأعمال الأدبية في اكتسابها
لمشروعيتها الفنية وفق المعايير الغربية، فكانت رواية «زينب» (1914)، على
سبيل المثال، أول رواية فنية بالمعيار الغربي، ثم تلمس الباحثون والنقاد
العرب في كلّ قطر عربي رواية تنطبق عليها هذه المعايير لتغدو رواية فنية(
).
ثم انتعش مفهوم «المثاقفة»،
واكتسب أبعاداً جديدة مع التعويل على الثقافة في عمليات صراع الأفكار أثناء
الحرب الباردة، وصارت الورة واضحة في احتوائها لثنائيات مفرطة في تعبيرها
عن الصدام أو الصدمة مثل تهميش الثقافة العربية في ثنائية المركز والأطراف،
ومثل نفي الثقافة العربية أو تشويهها في ثنائية الذات والآخر، ولعلنا لا
نستطيع أن ندرس تجليات المثاقفة في الأدب العربي الحديث بريئة من هذه
الأبعاد القصدية أو غير القصدية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إذ
بدأت صارخة سلبية فيما بعد الحرب العالمية الثانية في ظل الاستقطاب العالمي
لقطبي الصراع بين الاتحاد السوفييتي في النظرية الماركسية اللينيية
(والستالينية أحياناً، كم هو عدد القصائد والنصوص العربية التي مدح أصحابها
ستالين؟!) ومذهب الواقعية الاشتراكية، والولايات المتحدة في النظرية
الليبرالية ولوازمها المتعددة (ألم تدخل منظمة حرية الثقافة التابعة
للمخابرات المركزية الأمريكية في توجيه مسارات الأدب العربي الحديث منذ
ستينينات القرن العشرين على نحو صريح ومباشر مع مجلة «حوار» إلى الأشكال
الأخرى الكثيرة غير الصريحة والمباشرة المستمرة إلى يومنا هذا؟!)( ).
ولما كانت «المثاقفة» بالنسبة
للثقافة العربية سلبية واستلابية لتعبيرها عن أبعاد الاستتباع ونفي الهوية
وإلغاء الخصائص الثقافية وتهميش التقاليد القومية في الفكر والأدب، فإن
المناهضين للهيمنة الغربية ودعاة الهوية القومية في الأدب العربي الحديث
وجدوا في مصطلح «المثاقفة المعكوسة» إيجابية واعترافاً بمكانة الثقافة
العربية والأدب العربي في تراث الإنسانية، فانتشر الحديث عن مؤثرات عربية
في الثقافة الغربية، رافقت النهضة الأوروبية، وأسهمت فيها، ولم تقتصر هذه
المؤثرات على الأدب وحده، بل كان الإسلام في قلب هذه المؤثرات أيضاً( ).
ولربما كانت إشارة المستعربة الألمانية روتراود فيلاندت تعبيراً عن منعطف
درس «المثاقفة» و«المثاقفة المعكوسة» إلى مفهومها الجديد الذي يتشكل بقوة
في مفهوم «المثاقفة الحضارية» بنفي الاستتباع والإقرار بالحوار الحضاري،
فقد ختمت بحثها عن «صورة الأوروبيين في أدب المسرح والقصة العربي الحديث»
بالعبارة التالية:
«وإذا أراد الأوروبيون جدياً
أن يضعوا أساساً سليماً للتفاهم مع العرب في المستقبل، فعليهم أن يكفوا
نهائياً عن التكبر السياسي والاستعلاء الثقافي، وكلاهما فيما مضى ركيزة
الاستعمار الحديث»( ).
ولعلنا نلاحظ أن مفهوم
«المثاقفة الحضارية» تشكل خلال العقدين الأخيرين موازياً لأطروحة «حوار
الحضارات» بديلاً عن السعي المحموم للمتسيدين على قوى العولمة في مآل
الاستتباع الأخير، وهي اتصالية ومعلوماتية وتقنية بالدرجة الأولى، والداغين
إلى «صراع الحضارات»، وهي في جوهرها مناهضة للعروبة والإسلام. و«المثاقفة
الحضارية» بالنظر إلى التطور التاريخي والوظيفي تفيد تبادل التأثير بين
ثقافة وأخرى على أن تراث الإنسانية مشترك بين الشعوب جميعها، وهذا ما جعل
خلدون الشمعة يعرّف المثاقفة بأنها «استحواذ فرد أو جماعة على خصائص حضارية
من خلال الاتصال الثقافي المباشر والتفاعل الذي يعقبهُ. وأما عناصرها
فتشتمل على القيم والتقنيات والاستراتيجيات النصية والتعديلات التي تطرأ
عليها، عندما توضع في سياق تجربة حضارية مغايرة»( ).
وبهذا المعنى، يغدو مفهوم
«المثاقفة الحضارية» تفاعلاً ثقافياً ناهضاً على الحوار والتواصل القيمي
والفكري خدمةً للتفاهم والتقدم والعمران البشري.
2- المثاقفة الحضارية
المسرحية:
نظر إلى المسرح العربي الحديث
على أنه تقليد غربي، بينما كانت نهضته الأولى مع رواده، القباني والنقاش
وصنوع، تركيباً من المعمار الغربي وتقاليد الفرجة والمشهدية والاحتفالية
الحكائية العربية، ولا يماري أحد اليوم في أن المسرح كلّه، من الهند ومصر
القديمة إلى اليونان والرومان، قد خرج من الشعائر والطقوس الدينية، وتختلف
هذه التقاليد من تجربة قومية وشعبية إلى أخرى. وهذا ما دفع النقاد
والباحثون العرب المعنيون بالهوية القومية إلى تمحيص هذا التركيب لتحديد
المكونات التراثية والمؤثرات الأجنبية في مراحل تشكل المسرح العربي، وهو ما
سميته حتى ستينيات القرن العشرين «بالتأسيس»( )، ثم شرعوا بدرس السمة
الأبرز في تعضيد حركات التأسيس المسرحي، وأعني به التأصيل في الممارسة
المسرحية من جهة، وفي التأليف المسرحي من جهة أخرى، فتعددت التجارب، واغتنت
بالتقاليد الأدبية والفنية العربية. وقد أنكر الكثير من المسرحيين معرفة
العرب بهذا الفن المحدث حسب متواتر وصفهم لهم، بل إن صلاح عبد الصبور دعا
إلى مجاوزة هذه الإشكالية: التقليد والتأصيل، والإبداع من الإنجاز المسرحي
الغربي والراهن، فكانت مسرحياته شروعاً في المثاقفة الحضارية بأكمل
تجلياتها الغربية «مأساة الحلاج»، و«مقتلة في الكاثدرائية» لاليوت، و«مسافر
ليل» ومسرح العبث.. الخ.
بينما عمد كثيرون في الوقت
نفسه إلى ابتعاث التقليد المسرحي العربي في شغلهم، وغلب على هذا الشغل
اتجاهات الأول مسرحة الموروث مثلما فعل الطيب الصديقي وقاسم محمد، وعبد
الكريم برشيد الذي أدغم مسرحة الموروث بمذهبه الخاص: الاحتفالية والثاني هو
التأصيل بالمضي في التركيب الذي اجترحه الرواد كما هو الحال عند الفريد فرج
وعز الدين المدني وسعد الله ونوس، فقد يعنى التأصيل بالاستفادة من تقليد
بعينه، الحكائية أو الفرجة أو المشهدية أو الموروث الأدبي أو التاريخي
متعاضداً مع المعمار الغربي.
وقد اتسعت عمليات التأصيل،
وتعددت أشكالها، وبات تعبيرها عن مسعى الهوية وشجونها ومشكلاتها واضحاً( ).
3- المثاقفة الحضارية
المسرحية الإسبانية:
تحتفظ المثاقفة الحضارية
الإسبانية موقعاً خاصاً في الثقافة العربية الحديثة بالنظر إلى تاريخية هذه
العلائق التي رسخت تجربة أندلسية كثيفة الحضور في الثقافتين، وما تزال
مستمرة على أكثر من صعيد، فكتب خيسوس رويو ساليد عام 1990م عن «الأسطورة
الإسلامية في إسبانيا بعد خروج المسلمين منها»، وختم بحثه بكلمات الشاعر
مانويل ماتشادو في قصيدته «أشجار الدفلى» عن حضور شخصية العربي الإسباني،
ولا سيما الأندلسي على مر الزمان والقرون:
«روحي من طيب ذاك العربي
الأندلسي»( ).
استقبل العرب الأدب الإسباني
بعد الحرب العالمية الثانية على نحو منهجي تعريفاً كما هو الحال في تعريب
بهيج شعبان لكتاب جان كامب «الأدب الإسباني»( )، الذي تلاه تعريب عشرات
الكتب والأعمال الأدبية الإسبانية، وعلى رأسها تعريب عبد الرحمن بدوي
(1957م) للملحمة العظيمة «دون كيشوت» لسرفنتس (1547) ثم عُربت أهم الأعمال
المسرحية الإسبانية، ولاسيما مسرحيات للوب دي فيغا (1562-1635م) وكالديرون
(1600-1681) وخوسيه اتشيغاراي (1832-1916م) وميكائيل دي اونامونو
(1864-1936م) ورامون دلفال ـ انكلان (1869-1936م)، وفدريكوغارسيا لوركا
(1898-1936م)، وبينا بينتي (1866-1954م) واليخاندرو كاسونا (1903- م)
والفونسو شاستري ( - م) وانريكي خارديل بوثيلا
(1901-1952م) وانطونيو بويرو باييخو.
يقرّ غالبية الباحثين الإسبان
والعرب المختصين بالثقافة الإسبانية بالمثاقفة الحضارية الإسبانية ـ
العربية منذ قيام الحكم العربي في الأندلس إلى يومنا هذا، وحوى كتاب
«الثقافة العربية ـ الإسبانية عبر التاريخ» على أكثر من خمسة وعشرين بحثاً
حول استمرار هذه المثاقفة، فكتب على سبيل المثال مرثيلينو بيليغاس عن
«شخصيات عربية في الأدب القروسطي الإسباني» وكتب محمد اليعلاوي عن «روايات
خوان غويتسولو المغربية»، وعبد الله حمادي عن «الحضور العربي في رواية
«المقبرة» للروائي الإسباني غويتيسولو»، وقد عدّ أدب هذا الروائي مثل أدب
آخرين تمثيلاً لإشكالية التقاطع الحضاري، فاضطلع بحضور كوني للمثاقفة
الحضارية العربية ـ الإسبانية في مغامرته الأدبية مما يؤدي عنده إلى «إفراز
إبداعي من نوع جديد، وبهذا يكون المسعى الفني والإنساني، مع التشكيل اللغوي
الجديد الموافق لتلك اللحظة بمثابة التأسيس لتجليات أو تقليعات جديدة وخاصة
إذا كانت دعامة مثل هذه التطلعات هي هاجس العودة إلى الأصول، أو إلى
الشفهية كذاكرة جماعية أو كأحد حراسي الإقلاع صوب تلك الأناشيد الإنسانية
الكبرى التي بُصمت بمسحة الديمومة وأبدية المعاصرة»( ).
وقدم المسرح الإسباني في
تجارب عدد من المبدعين في المسرح السوري، واقتصر في هذا المقام على الإشارة
إلى تجربة المخرج والمؤلف المبدع علي عقلة عرسان الذي أخرج خلال عقد من
الزمن مسرحيتين إسبانيتين على خشبة «المسرح القومي» في سورية، هما
«المدنسة» لبينا بنيتي عام 1969م، و«الأشجار تموت واقفة» لاليخاندور كاسونا
عام 1976م.
وقد اختار عرسان المسرحيتين
لبعدهما الإنساني والأخلاقي العميق، ولعلي اختار شيئاً مما كتبته عن عرضي
المسرحيتين في حينه لتبيان دلالة المثاقفة الحضارية المسرحية الإسبانية في
هذه التجربة، ومما لا يخفى أن اختيار عرسان للمسرحيات التي يخرجها ينطوي
على معنى فكري وفني، لأنه مخرج فنان صاحب رؤيا، وهذه المسرحيات تندرج في
صوغ هذه الرؤيا، وقد أجرى على هاتين المسرحيتين بعض التعديلات المناسبة
لتجربته.
ولعلي أذكر قبل اقتطاع شيء
مما كتبته لدى عرض المسرحية أن عرسان اختار مسرحية بينا بينتي (جائزة نوبل
للآداب 1922م) بالنظر إلى أخلاقيات الكاتب واستقلاله الفكري:
«كتب بيناينتي سيلاً من
المسرحيات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.. «عش الآخرين» أو «ناس
معروفون» و«ليلة السبت» و«السيدة» و«الدنيا مصالح» و«بيبا دونثيل»
و«المدنسة» وغيرها، ولكنه في مسرحياته كلها كان كاتباً أخلاقياً من نوع ما،
فقد بدا هازئاً من الدين، ساخراً من ظواهر الحياة الاجتماعية، وكانت
العلاقات بين الناس ليست سوى مقالب.. قد تقطع البطن، وقد تبعث على الضحك،
وانتهى واعظاً ذلك الوعظ الحزين الذي نجد مثاله في الكتاب القديم. فلم تظهر
في كتاباته ما نسميه بروح العصر، فعلى الرغم من التيارات الكثيرة والجديدة
التي رافق ظهورها سير حياته، لم يتأثر بها من قريب إلا البعيد الذي يخطر
على البال كآخر من يضحك، فيكون ضحكه كثيراً، يثير الفزع والخضية، والتجمد
في الرؤيا، والاكتفاء بما يمكن أن يكون. والمدنسة في النهاية عرض مسرحي ظل
محافظاً على رؤى كاتبه الليبرالية»( ).
أما مسرحية «الأشجار تموت
واقفة» فكانت ذروة متألقة في بعث معناها الإنساني والقيمي والأخلاقي:
«تفضي «الأشجار تموت واقفة»
في دفاع ماجد عن كرامة الإنسان إلى خلاصة مفادها أن السوء يمكن أن يهزم،
وأن الخير كل الخير في إدراك العلاقة، ما دامت الحياة، مثل الفن تماماً
علاقة، وقد قالت الجدة «ايوخينيا» بصراحة لا يعوزها الإعلان إن الحياة
مسألة احتمال في مواجهة الفكرة حيث تغدو مجابهة أو لا مجابهة. وهكذا دافعت
الجدة عن آلامها المبرحة في وجه الظلم المستشري داخل الروح القذرة. أما ما
تعنيه الروح فهو تأكيد علي عقلة عرسان المخرج (عن نص اليخاندرو كاسونا)
المستمر على انتهاك القيم النبيلة، مادة خلاص البشر، بدأب وإخلاص لا يعرفان
الكلل، ولا نغفل هنا جانباً سياسياً ساطعاً في موقفه الأخلاقي ـ أن صح
التعبير. وقد تعاور على هذا الموضوع منذ زمن تأليفاً وإخراجاً ونقداً في
سلسلة أعماله حتى الآن.
ومن أتيحت له فرصة متابعة هذه
الأعمال فقد تعرف على مدى حساسيته لمحنة القيم النبيلة في التعامل مع الظرف
التاريخي، وخصوصاً في عروض صراع الأسطورة (أوديب ـ اتنيجون) أو المأثورات
الشعبية (العنب الحامض ـ المدنسة) أو الأمثولة في إطار الانتقال من التخصيص
إلى التعميم (زيارة السيدة العجوز) أو دراسة المصائر الفردية (الملك لير).
وإذا كان قد أخضع تأليفه المسرحي لنبض المتغيرات والسياسية منها على وجه
الخصوص، فإنه توسل المباشرة خلل الرمز والمرموز له في «الغرباء» والإشارة
لوقائع راهنة في «السجين رقم 95» و«رضا قيصر» بعد تمرسه الفني الطويل في
مسرحياته الأولى «الشيخ والطريق» و«زوار الليل» و«الفلسطينيات». وفي هذه
الأعمال جميعها، مثل مقالاته هنا وهناك، يستخرج علاقة أفضل لنضال البشر.
إنه يختلف إلى حقيقة واحدة هي صراع الحياة بين من يحفلون بآثار هذا الصراع
على مسار حياتهم فيتدمرون ويدمرون أو يكدحون نحو أمل خلاب ينطوي على أفق
جديد فيضيء ظلام نفوسهم من جهة، وبين من لا يحفلون سوى بطلاء العلاقات
فيستثمرون حياتهم وحياة الآخرين، أو يرزحون تحت وطأة قبول الاستثمار من جهة
أخرى، وفي الحالين ينجلي الصراع عن محنة القيم، تماماً كما يحدث في مسرحية
«الأشجار تموت واقفة»( ).
وتفيد هذه الإشارة إلى تجربة
عرسان في إعادة إنتاج المسرح الإسباني إلى واحدة من التجارب الكثيرة في
مجالها تفعيلاً للمثاقفة الحضارية بين هذا المسرح والمسرح العربي الناهض.
4- نموذج المثاقفة الحضارية
لدى باييخو وونوس وسبيله:
ويتبدى هذا النموذج في مسرحية
باييخو «القصة المزدوجة للدكتور بالمي» ومسرحية ونوس «الاغتصاب»( )، فقد
عمد سعد الله ونوس (1941-1997م) إلى تمثل المثاقفة الحضارية في مسرحياته
كلها عن طريق التناص الذي يصل حدّ النقل أو الاقتباس أو الإعداد أو التوليف
غالباً، وهي نقطة موضع خلاف بين ونوس ونقادّه حتى إنه ردّ على منتقديه
القائلين بذلك مراراً، وكان آخرها مقدمة مسرحيته التي نحن بصدد دراستها
«الاغتصاب». وقال فيها:
«لقد تعمدت إيراد هذه
الملاحظة لأن عدداً من نقادنا لم يفهموا جوهر المسرح: وهم يعتقدون خطأ أن
العنصر الأساسي في النص، وفي العمل المسرحي كلّه هو الحكاية. ولذا فإنهم
يمسخون المسرح وإلهامه الأصلي إلى تلخيصات سقيمة للحكايات، ويمسخون عملهم
إلى مطاردة عقيمة لتقصي أصل الحكاية»( ).
على أننا سنعمد إلى تقصي سبيل
المثاقفة الحضارية في مسرحه، إشارة، وفي مسرحيته «الاغتصاب» تفصيلاً التي
تتناص تناصاً كاملاً إلى حدّ النقل مع مسرحية انطونيو بويرو باييخو «القصة
المزدوجة للدكتور بالمي».
4-1- التناص في مسرح ونوس:
تستند بعض مسرحيات «حكاية
جوقة التماثيل» (1965م) على التناص مع الأساطير والمسرحيات اليونانية،
ولاسيما «الرسول المجهول في مأتم انتيجونا». وقبلها وضع مسرحية «ميدوزا
تحدق في الحياة» (1963م).
ومزج في مسرحيته «حفلة سمر من
أجل 5 حزيران» (1968م) التناص بين مسرحية بيراندللو «ست شخصيات تبحث عن
مؤلف» ومسرحية أروين شو «ثورة الموتى» ومنهج بريخت الملحمي، ولاسيما كسر
الإيهام.
وتتناص مسرحية «الفيل يا ملك
الزمان» (1969م) مع الموروث الشعبي، ومسرحية «رأس المملوك جابر» (1971م) مع
التاريخ الغربي وكتابة المؤرخين والقصاصين الشعبيين عنها.
ونهضت مسرحية «سهرة مع أبي
خليل القباني» (1972م) على التناص بين وقائع حياة هذا الفنان وبعض مسرحياته
في إطار مسعى ونوس إلى ملحمية المسرح كما صاغه بريخت مثل الروائية وكسر
الإيهام وتدعيم الاتصال بين الفنون أو الاستفادة من تقانات المسرح الشامل.
وأعدّ مسرحية «الدروايش
يبحثون عن الحقيقة» (1972م) لمصطفى الحلاج للمسرح القومي، ولم تعرض حتى
الآن، وأعد «توراندوت» عن مسرحية بريخت التي تحمل العنوان نفسه (1976م)،
ولم تعرض أيضاً، وأعد «يوميات مجنون» (1976م) لجوجول، وعُرضت في المسرح
التجريبي بإخراج فواز الساجر وتمثيل أسعد فضة عام 1977م.
وكتب «الملك هو الملك»
(1977م) تناصاً مع «رجل برجل» لبريخت ومسرحية مارون النقاش. وأعاد تأليف
مسرحية بيتر فايس «موكنبوت» في مسرحيته «رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة»
(1978م). وكتب مسرحية «الاغتصاب» (1989م) تناصاً مع مسرحية انطونيو بويرو
باييخو «القصة المزدوجة للدكتور بالمي». ووضع مسرحية «يوم من زماننا»
(1993م) تناصاً مع مسرحية «كل شيء في الحديقة» لجايلزكوبر، وأعدتها من قبل
نضال الأشقر وروجيه عساف في عرضهما «كارت بلانش» عام 1969م. وكتب مسرحية
«منمنمات تاريخية» (1993م) تناصاً مع الوقائع التاريخية والنص الخلدوني
التأليفي والسيري.
وألف مسرحية «طقوس الإشارات
والتحولات» (1994م) تناصاً مع يوميات البديري الحلاق ووقائع التاريخ
الدمشقي القريب. وكتب مسرحية «ملحمة السراب» (1995م) تناصاً مع أسطورة
فاوست. وثمة تناصات كثيرة في مسرحيته الأخيرة «الأيام المخمورة» (1997) مع
مسرحية شكسبير «هاملت» وسواها.
4-2- باييخو ومسرحه ومسرحيته:
أتيح للقراء العرب أن يتعرفوا
إلى باييخو ومسرحه في وقت مبكر بفضل صلاح فضل الناقد، فقد كانت أطروحته
للدكتوراه في إسبانيا عام 1972م عن «مسرح باييخو»( )، وما لبث أن عرّب
غالبية مسرحياته مزودة بمقدمات هي دراسات للمسرح الإسباني الجديد بعامة
ولمسرح باييخو بخاصة.
وكانت أولاها مسرحيته «القصة
المزدوجة للدكتور بالمي» (المؤلفة عام 1968م والمترجمة عام 1974م) ثم تلتها
مسرحيته «وصول الآلهة» وعرضت لأول مرة عام (1971م) والمترجمة عام 1976م.
وضع صلاح فضل لمسرحية «القصة
المزدوجة للدكتور بالمي» مقدمة موسعة عن المسرح الإسباني ما قبل الحرب
الأهلية، وعرّف بشخصية باييخو وخصائص مسرحه التي تتوزع إلى أربعة اتجاهات
هي: المسرحيات ـ الوثائق الاجتماعية التي نشهد على عصرها، ومنها مسرحية
«القصة المزدوجة...»، وأبرزها «تاريخ سلم» (1949م)، و«دون خوان تنوريو»
(1952)، و«اليوم عيد» (1956م)، و«الكوة» (1967م). و«وصول الآلهة» (1971م).
والمسرحيات التي تقع داخل الإطار التاريخي وأبرزها «حالم من أجل الشعب»
(1058م) و«الوصيفات» (1960م) و«حلم العقل» (1970م).
والمسرحيات التي تدور حول
الطبيعة الإنسانية وشروطها الخاصة، وأبرزها «في الظلمة المتوقدة» (1950م)
و«كونشرت سان اوبييدو» (1962م)، و«العلامة المنتظرة» (1952م) و«الفجر»
(1953م) و«الأوراق المغطاة» (1957م).
والمسرحيات التي تدور عن
الحلم في صلته بالواقع وتمثيله للحقيقة، وأبرزها «غازلة الأحلام» (1952م)
و«شبه حكاية خرافية» (1953م) و«ايريني أو الكنز» (1954م) و«مغامرة فيما هو
رمادي» (1963م) و«أسطورة كتاب للأوبرا» (1968م).
وقد كان صلاح فضل مدركاً
لأهمية مسرح باييخو في المثاقفة الحضارية المسرحية، إذ ختم مقدمته الطويلة
بالقول:
«ونحن إذ نقدمها للقارئ
العربي نرجو أن يتجاوز الهيكل الظاهري للأحداث، وأن يعايشها في أعمق
تحولاتها النفسية وأزخر دلالاتها الاجتماعية، كدرس مسرحي أصيل يقودنا إلى
النضج الشخصي والسياسي معاً، ويفتح عيوننا على تجارب هامة تستحق أن
يستلهمها أدباؤنا في التعبير الفني عن المرحلة الحضارية التي نمرّ بها»( ).
وهذا ما أكده أيضاً في مقدمته
الطويلة لمسرحية «وصول الآلهة»، بوصفها «مسرحية تعدّ بعد ذلك درساً في
الأداء الدرامي بما فيها من مواقف رائعة في شاعريتها وواقعيتها في نفس
الوقت»( ).
وتابع صلاح فضل تعريب مسرحيات
باييخو مثل «أسطورة دون كيشوت» (1979م) و«حلم العقل» (1979م)..الخ.
5- القصة المزدوجة للدكتور
بالمي:
تتوجه المسرحية إلى تشريح
التعذيب السياسي وعدوانه الإنساني وتخريبه للجسد والنفس والروح، وتدور
أحداثها في بلدة إسبانية قصية تدعى «سوريليا»، وتتناول حياة رجل أمن
(دانييل بارنيس) في لحظة تأزمه، ومن يتصل بهذه الحياة وهذا التأزم:زوجه
ماري بارنيس وأمه (الجدة) ورئيسه باولوس (بابا) وزملاؤه في ممارسة التعذيب
مارسان وبوثنر ولويخي، وهذا هو الوجهُ الأول من القصة، أما الوجه الثاني
فهو من يتلقى التعذيب حتى التشويه والعجز والإعاقة والموت (انيبال مارتي)
وزوجه التي اعتدي عليها وعُذبت واغتصبت (لوثيلا مارثي).
وثمة مستوى ثالث للمسرحية
والخشبة، ويمثله الدكتور بالمي وسكرتيرته، الذي يمازج بين وجهي القصة، ويشي
بمقاصدها الفاجعية من تأثير رعب التعذيب السياسي على وأد الحياة، وقدم
للمسرحية بمثابة «البرولوج» رجل يلبس سترة الهرة وامرأة تلبس ملابس السهرة
الذي يفضي إلى صوت الضمير (ومنه وظيفة الكورس)، وهو الدكتور بالمي.
سعى باييخو في «البرولوج» أو
التقديم إلى إضفاء الطابع الملحمي على معالجته المسرحية بمخاطبة النظارة أو
المتلقي مباشرة في أن «القصة ـ مع احتمال أنها زائفة ـ قد وصلتنا من بلاد
بعيدة، ولا تمسنا في قليل أو كثير» (ص32). ودعوتهم إلى تعلم الابتسام مهما
كانت الظروف، «لأن البسمة هي أجمل ما اكتشفته البشرية، فلا تفقدوها» (ص33).
ثم عوّل على صوت الضمير في إملاء الدكتور بالمي لوقائع وجهي القصة
وتحليلهما على سكرتيرته، فيؤدي التدمير الذاتي والجسدي للمعذب السياسي
(مارتي) إلى مثيله لدى المعذب (دانييل بارنيس)، وهذا ما وجهه الدكتور
دانييل بادئ الأمر:
«الدكتور: بالرغم من أنك قد
جئت، هناك شيء وفي أعماقك يقول لك أن ما فعلته لا يصح أن يعمل، مع أنك تؤكد
أنه كان واجباً عليك، ولكي تشفى... عليك أن تقر بأنك ارتكبت جرماً رهيباً
لا يمكن أن يبرر. وحتى لو اعترفت بذلك لا أعتقد أنه يمكنك أن تشفى، اللهم
إلا إذا وصلت إلى الاقتناع المطلق. بأن هذا وما يشبهه من أعمال القسوة إنما
هو أمر عادل وجدير بالاحترام والتقدير، ولا أظن أن أحداً في العالم يمكن أن
يقتنع في أعماقه بشيء مثل هذا. وأنت ـ بطبيعة الأمر ـ لست مقتنعاً بذلك»
(ص72).
ثم أوضح الدكتور ذلك بجلاء
وصراحة مطلقين:
«الدكتور: لأن ما حدث لا يمكن
إصلاحه، فأنت لا يمكنك أن ترد لهذا الرجل المسكين رجولته، ولهذا فقد قضيت
أيضاً على رجولتك، قد يكون هذا من المتناقضات الغريبة. ولكنها حقيقية،
شفاؤك يكمن في مرضك، ولعله من صالحك... لكن.. مع ذلك.. (صمت)» (ص76).
وتتطور الأحداث في المسرحية
بزيارة لوثيلا إلى أستاذتها السابقة ماري وفضحها لجرائم زوجها بحقّ
المعتقلين السياسيين وأسرهم، وأولهم زوجها انيبال مارتي، غير أن ماري تكذّب
أقوالها، فتخرج لوثيلا مطرودة، بينما أعلنت ماري أنها ستنسى زيارتها،
وجاوبتها لوثيلا بأنها ستعرف الطريقة التي تجعلها لا تنساها (ص89). وترسل
لها كتاباً عن التعذيب السياسي وفنونه، مما يدعوها لمكاشفة زوجها الذي
يعترف لها بجرائمه بحقّ المعتقلين:
«ماري: ماذا فعلت فيه؟
دانييل: أسوأ ما يمكن أن يفعل
في رجل.
ماري: لا أفهم ماذا تعني؟
دانييل: تصوري أسوأ شيء،
ولأنني فعلت هذا، فقد تكفل في داخلي بمعاقبتي.. وتركني في نفس الحالة التي
تركته فيها.. أو تكفل بهذا أحد، لأنه يوجد إنسان آخر في داخلنا، يتولى
عقابنا.. إنسان آخر!!» (ص113-114).
ثم طلب منها أن تساعده على
الخلاص، وتوضح له أمه إكمالاً للمبنى الرمزي، علاقتها بباولوس الذي أحبها،
وتزوجت غيره، وظل يطاردها حتى اضطرت ذات يوم إلى طرده، ثم عرض عليها بعد
أعوام طويلة أن يخدمها بإلحاق الابن دانييل بالأمن القومي، وكشف دانييل
الأبعاد الأخرى للمبنى الرمزي بالمكاشفة بين باولوس ودانييل عندما طلب
الابن من رئيسه إعفاءه من عمله بإرساله إلى وظيفة في الخارج تحت أي اسم
كان، وإلا فليضعه في السجن، وتتبدى آلية التعذيب الفظيعة في مثل هذا الحوار
بينهما:
«باولوس: (ناظراً إلى الباب
المواجه) لحسن الحظ، نحن وحدنا، ومع ذلك سأبذل مجهود آخر لصالحك، والآن
اسمع يا أحمق: أنا لم أخترع التعذيب: .. فعندما جئت أنا وأنت في هذا العالم
كان يوجد فيه التعذيب كما توجد فيه الآلام والموت، ربما كان شيئاً همجياً..
ولكننا نعيش في غابة، ولهذا فهي همجية عادلة!
دانييل: ضد كائنات بشرية.
باولوس: ما أشد قلقك من أجل
هذه الكائنات البشرية!! لقد رأيتهم هنا.. معظمهم لا يساوي شيئاً على
الإطلاق، وليس هنا في التاريخ أي تقدم لم يقم على حساب جرائم لا تحصى»
(ص155-156).
على أن العلاقة بين دانييل
وماري بتفاقم بتأثير روعها المعذب من بقائه في مسرح الجريمة، مما يدفعها
لإطلاق الرصاص عليه، بينما يُعاود الظهور وجه القصة الأخرى مقتاداً إلى
الجريمة من جديد:
لويخي وهو يقتاد لوثيلا. أما
الصوت الجنائزي الفاجع فيختتم المسرحية بقول الجدة على سبيل المفارقة
المروعة:
«الجدة: (بصوت لا يكاد يسمع)
كان يا ما كان.. ولد صغير، أجمل من الشمس، اسمه دانييليتو.. ودانييليتو كان
جميلاً جداً وطيباً للغاية.. وكانت له أم تعبده، وتخاطبه قائلة: ولدي
دانييليتو سيكبر، ويصبح قوياً مثل الربان في السفينة.. ودانييليتو يبتسم..
ولأنه غاية في الطيبة فسيحبه الجميع ويصيرون أصدقاءه.. ودانييليتو
يبتسم...» (ص175).
6- الاغتصاب:
بنى سعد الله ونوس مسرحيته
وفق مستويين المستوى الفلسطيني، وتمثله الفارعة مع دلال زوجة إسماعيل
المناضل المعتقل تحت التعذيب، وابنها محمد، وسمى مشاهده «سفر الأحزان
اليومية»، ويقع في خمسة مقاطع:
- المقطع الأول: (ص14-21)
الفارعة ودلال والشجن الفلسطيني ومداهمة الإسرائيليين للقبض على دلال.
- المقطع الثاني: (ص36-38)
عمل محمد ابن الفارعة لدى اليهود الإسرائيليين وحواره معها حول تبعاته.
- المقطع الثالث: (ص58-61)
الفارعة تحاور دلالاً وتدعوها للوعي، بينما صيحة دلال: «إما نحن أو هم».
- المقطع الرابع: (ص67-68)
نجوى الفارعة عن شراسة القتل الصهيوني وموت إسماعيل والفلسطينيين وصيحتها
أيضاً: «إما نحن وإما..».
- المقطع الخامس: (ص89-91)
الفارعة ومحمد وحديثهما عن المقاومة.
والمستوى الثاني هو
الإسرائيليون الصهاينة، ويمثله الدكتور منوحين في الجانب الأول، واسحق
بنحاس وزوجته راحيل بنحاس وأمه، ورئيسه في الأمن وممارسة التعذيب مائير
(بابا)، وزملاؤه جدعون وموشي، وسمّى مشاهده «سفر النبوءات»، ويقع في تسعة
مقاطع:
- المقطع الأول: (ص22-24)
الدكتور وراحيل بنحاس عن معالجته لها وسكناهم في حي واحد.
- المقطع الثاني: (ص25-35)
راحيل واسحق وهدهدة الطفل واتصال من جدعون، وطلب بابا مائير له، فثمة عمل
كثير ينتظره، ولا ينسى جدعون أن يتغزل بامرأة اسحق: راحيل.
- المقطع الثالث: (ص39-57)
التحقيق والتعذيب مع إسماعيل ودلال، والمواجهة بين الدكتور واسحق.
- المقطع الرابع: (ص62-66)
يُدعى إسماعيل، ويحاورهم راضياً بدولة مشتركة، ثم يموت تحت التعذيب.
- المقطع الخامس: (ص69-73)
يغتصب جدعون راحيل، ويخبرها عن عمليات التعذيب والاغتصاب بمشاركة زوجها.
- المقطع السادس: (ص74-88)
الولوغ في الإرهاب الصهيوني وشرح التربية الإسرائيلية، وحبّ مائير لأم اسحق
ومصارحةمقززة مشتركة عن الاغتصاب، واغتصاب جدعون لراحيل.
- المقطع السابع: (ص92-94)
افتراق راحيل واسحق ورجاؤه أن تساعده على الخلاص، بينما تردد الأم ما في
التوراة والعهد القديم من عنصرية.
- المقطع الثامن: (ص95-101)
مواجهة بين مائير واسحق ليقتل الأول بعد ذلك الثاني بعدة رصاصات.
- المقطع التاسع: (ص102-103)
حوار بين راحيل والدكتور عن قتل اسحق.
ويضع ونوس تقديماً موازياً
للبرولوج في المسرحية اليونانية سمّاه «ترتيلة الافتتاح»، ويتداول فيه
الكلام الدكتور ابراهام منوحين من جهة، والأم ومائير وجدعون وموشي الذين
يرددون نصوصاً وأقوالاً توراتية عن قتل العرب وتحقيق حلم الدولة
الإسرائيلية بالقضاء على العرب والثقافة العربية من جهة أخرى.
ويختتم المسرحية بمشهد ختامي
سمّاه «سفر الخاتمة» يتحاور فيه ونوس مع الدكتور منوحين عن فرص التفاهم بين
الفلسطينيين وإسرائيل الذاهبة في الإرهاب والعنف المتبادل، فالمشكلة برأي
ونوس مزدوجة، فللصهيونية امتدادات في الجسد العربي، وأن الورطة على الضفة
العربية معقدة، و«إن الخروج منها يقتضي نضالاً مركباً وصعباً» (ص107). ثم
يتفقان على تبادل الإشفاق من الجانبين و«ربما الأمل» بتعبير ونوس أيضاً
(ص108).
7- التناص بين المسرحيتين:
ثمة خلاف في طبيعة التناص لدى
ونوس، فيعده نقاد نقلاً، وآخرون إعداداً أو توليفاً، وآخرون اقتباساً، بل
إن ناقداً رأى في التناص بين المسرحيتين أشبه بالصوت والصدى( ). ويندر أن
مرّت مسرحية ونوس دون خلاف مع نقاده حول نقلها أو إعدادها أو توليفها أو
تناصها مع أعمال أخرى( ).
والحق إننا نغالي كثيراً إذا
أغفلنا استغراق نص ونوس في نص باييخو، لأن التناص بينهما يجاوز معطياته
الجزئية إلى إعادة إنتاج شمولية تجمع بين المعطيات الجزئية (الشخصيات
بعلاماتها وأقوالها، العلائق الثقافية بما هي إحالات أو إشارات إلى قضية أو
موضوع أو مناخ) إلى المبنى برمته والمعنى برمته بوصفهما اشتغالاً على
الرؤيا في صوغ مغاير للأصل ـ فضاء التناص، وما مسرحية ونوس، بهذا المفهوم،
سوى إعادة إنتاج لنص سابق هو مسرحية باييخو، ولا يرى نقاد الحداثة وما
بعدها غضاضة في ذلك، لأن النص تناص بحدّ ذاته عندهم، وهو جلي في مسرحية
ونوس، ولا سيما مباشرته لإنتاج الدلالة من فيض النص المفرع أو الممنهل،
فكانت إدانة التعذيب السياسي محور الدلالات الصغرى الناجمة عن تلاقي
الموضوع الرئيس بتحولاته المتفرعة داخل اشتغال استعاري قوامه تعدد الرموز
والإشارات والمجازات. وقد أضاف ونوس إلى التناص ـ إعادة إنتاج نص باييخو،
ما سمّته كريستيفا «نصية واصفة»( ) يحيط فيها النص الجديد بما يعين على
فضائه المغاير أو المختلف، كما هو الحال مع تناصه العميم استدعاء لنصوص من
العهد القديم، ولا سيما المزامير وأسفار الملوك، وقد أراد ونوس في
الاستشهاد بها ما هو أبعد من مجرد التفسير والتعليق نحو إسعاف إعادة إنتاج
المعنى بتراكم الدلالات، مثل دلالة التوسع والعنصرية و العنف وإبادة الآخر
(الغوييم ـ غير اليهودي) وتثميرها في سياق نشدانه للمعنى وما وراء المعنى:
توصيف عدوانية الإسرائيلي وهمجيته وإرهابه وعنفه ضد العربي الفلسطيني إلى
حدّ الإبادة، وهو ما أظهرته آلية التعذيب حتى الموت في المعتقلات والسجون
ممن وقعوا في القيد الإسرائيلي، ونورد نموذجاً لمثل هذه النصية الواصفة في
«ترتيلة الافتتاح»، فقد تعاور الإسرائيليون القتلة على ترديد نصوص من أسفار
الملوك على لسان الأم ومائير وجدعون وموشي، لتؤول إلى أفناء العرب وثقافتهم
وبناء حضارتهم «الصهيونية» على أنقاض الحضارة العربية:
«الأم: كل مكان تدوسه بطون
أقدامكم يكون لكم. من البرّيّة ولبنان، من النهر، نهر الفرات إلى البحر
الغربي يكون تخمكم.
مائير: وأما مدن هؤلاء الشعوب
التي يعطيك الرب إلهك نصيباً، فلا تسْتبقِ منا نسمة ما، بل تحرّمها
تحريماً.
جدعون: أبسلهم إبسالاً.
موشي: أذبحهم ذبحاً.
الأمّ: ولا تعفُ عنهم. بل
اقتل رجلاً وامرأة. طفلاً ورضيعاً. بقراً وغنماً جملاً وحماراً.
مائير: عليكم ألاّ ترحموا حتى
تدمّروا نهائياً ما يسمّى بالثقافة العربية التي سوف نبني حضارتنا على
أنقاضها» (ص12-13).
وتتكرر مثل هذه النصية
الواصفة في مواقع عدة، نذكر منها:
- هدهدة الجدة لحفيدها:
«لا تغضب يا ملكي... شغلني
أبوك قليلاً.. تعال نشرب حليبنا بهدوء (تدفع المهد، وتخرج به، وهي ترتّل)
تقلَّد سيفك على فخذك. وبجلالك اقتحم. شعوب تحتك يسقطون. اسمعي يا بنت
وانظري. انسي شعبك وبيت أبيك. الملك يشتهي حسنك، فاسجدي له» (ص29).
وثمة هدهدات أخرى فيم واقع
أخرى (ص82-83).
- تشبيه اسحق ومائير للعرب
بما ورد في «البروتوكولات»:
«اسحق: هناك.. نحن نتعامل مع
حثالات.. قرود تسير على قائمتين ولا تحسن إلا الشرّ والكذب» (ص45).
«مائير: (عن إسماعيل) نعم..
لقد مات فعلاً.. والميت فيهم أفضل من الحي» (ص65).
ويستعين بمثل هذه النصية
الواصفة في تدعيم أطروحات المستوى الفلسطيني عن ضراوة العدو الإسرائيلي
وإرهابه وتقتيله وتدميره للفلسطيني، بالتناص الصريح مع قصة «البيت» لزكريا
تامر المكتوبة للناشئة:
«الفارعة: سأخبرهم. ارفعي
رأسك، وإذا ضايقوك ابصقي في وجوههم. إني أنتظرك هناك. كلّنا ننتظرك هنا. كم
خاف عليك.. وكم حاذر أن يوقظك. ولكن اليقظة الآن ستكون خشنة ومرعبة. أمدّك
الله بالقوة والحكمة. وأنت يا أميري. لا.. لم أنسك. من أجل عينيك نقاسي ما
نقاسيه.. يا الله.. ها هو الحليب. هل تستطيع أن تعي حكايتك منذ الآن؟ إذن
اسمع. هذه هي حكايتك. الدجاجة لها بيت. بيت الدجاجة اسمه القنّ. الأرنب له
بيت. بيت الأرنب اسمه الحجر. العصفور له بيت. بيت العصفور اسمه العشّ.
(تبدأ الإضاءة بالخفوت والصوت بالتلاشي). الفلسطينيّ لا بيت له. والخيام
والبيوت التي يحيا فيها، ليست بيت الفلسطينيّ. بيت الفلسطينيّ يحيا فيه
عدوّ الفلسطيني. من هو عدوّ الفلسطيني؟» (ص21).
وقد بثّ ونوس مغزى تراكم
الدلالات في هذه النصية الواصفة على لسان الدكتور منوحين الذي يصور ذاته
مفعمة الإنسانية متأذياً من ممارسة الإرهاب الإسرائيلي ومتعاطفاً مع
الفلسطينيين وداعية سلام، ويظهر المعنى وما وراء المعنى في أكثر من موقع
مثل:
- «الدكتور: ويل لي يا أمي
لأنك ولدتني إنسان خصام ونزاع للأرض كلها. لم تزرعي في قلوب أبنائك إلا
الكبر وكراهية الأغيار. كيف ينسى المرء تلك الرهبة المليئة بالبغضاء التي
تغذَّى بها طفلاً! وحين يكبر كيف ينقذ روحه من الاعتلال، أو يتفادى القسوة
والهوان! دفعت الكثير من الوقت والعناء كي أتخلّص من غذاء طفولتي. ولكن
هؤلاء الذين يحرصون على غذاء طفولتهم يدفعون ثمناً أغلى.. ذلك اليوم جاء
إسحق بنحاس إلى عيادتي، وتدبّرت الأمر كيلا ينتظر طويلاً»(ص39).
- «الدكتور: نعم يا سيد
بنحاس.. في تربيتنا الصهيونية يعلّموننا الكراهية بصورة دؤوبة، ولكنهم لا
يبالون بالحدود التي يمكن أن تتحمّلها بنيتنا الإنسانية. إن الكراهية
المطلقة هي الحدّ الذي يمكن أن يسوّغ كل شيء، ويمنع الاختلال، ولكن من هو
الإنسان الذي يصير كراهية مطلقة ولا يتداعى؟» (ص54).
- «الدكتور: اسمع يا سيد
بنحاس. لا تظن أني أخاف من إعلان رأيي. إن ولائي ليس للقانون بل للعدالة.
وليس فيما تفعلونه أيّ عدل. وليس في احتلال الأراضي أيّ عدل. وليس في
التزّمت الصهيوني الذي تأسّست عليه دولة إسرائيل أيّ عدل. نعم.. إني من
هؤلاء المخنّثين أمثال موشي منوحين وجوليوس كاهن وإينشتاين ودويتشر. ونحن
نفخر بوساوسنا، لأنها حمتنا من البؤس الروحي الذي تغرق فيه دولتنا المعجزة.
لا.. لا أقبل ما تفعلونه مهما كانت ذريعته.. والآن يمكنك أن تشي بي، أو
تتخذ ما تراه من الإجراءات» (ص56).
وتتكشف عملية تزجية المعنى من
تراكم الدلالات في هذه النصية الواصفة في «سفر الخاتمة» بالنظر إلى اعتقاد
ونوس بوجود يهود رفضوا الصهيونية وقاوموها:
«سعد الله: بل مؤكد. إذا لم
يوجد أمثالك يصبح التاريخ أفقاً مظلماً.
الدكتور: لعلك تفرط في الثقة.
سعد الله: لا تبدو ثقتي
مفرطة، إذا ما تذكر المرء قائمة المفكرين اليهود الذين رفضوا الصهيونية،
وقاوموها.
الدكتور: ومع هذا.. هل تعتقد
أن بوسعي أن أكون نزيهاً إلى هذا الحدّ؟
سعد الله: من اختار الولاء
للعدالة لا للقانون لابد أن يكون نزيهاً» (ص104).
أما التناص الصريح الذي
يتعاضد مع النصية الواصفة فهو إعادة إنتاج نص باييخو «القصة المزدوجة..» في
نص «الاغتصاب»، ولعلنا نفصل القول في مظاهر هذا التناص وعلائقه:
أ- الموضوع:
يتصدى نص باييخو للتعذيب
السياسي وجرائمه بحقّ الإنسان، وتوريث ممارسيه العقاب نفسه بتأثير الولوغ
في الجريمة الإنسانية، وقد استعان النصان بالدكتور النفسي (كاشف المرض
الداخلي وباعث الحكمة وسط جنون القتل والتدمير الشامل) لتحليل عقابيل
الممارسة الإجرامية لدى أفراد أجهزة الأمن، فقد وصف الدكتور لدانييل الثمن
الباهظ الذي يصاب به هؤلاء الإجراميون:
- «الدكتور: تحذير أخبر يا
سيد بارنيس (يلتفت دانييل إليه) ربما يحدث في يوم من الأيام أن تظن أنك قد
شفيت، نتيجة لقرار تتخذه وتعتقد حينئذ أنّ فيه الكفاية.. لكن. حاول ألا
تخدع نفسك! وأكرر لك أن الثمن الذي لابدّ لك من دفعه يجب أن يكون فاحش
الغلاء.. وإلا.. فهذا الشفاء الظاهر لن يدوم» (ص78).
ويوجه الدكتور في «الاغتصاب»
تحذيره أيضاً لمريضه اسحق، وأنه لن يكون بمنجاة من دفع الثمن الباهظ إياه:
«الدكتور: لا يمكن إصلاح ما
حدث. أنت لا تستطيع أن تردّ لتلك المرأة كرامتها، أو لذلك الرجل المسكين
رجولته.. ولهذا فقد قضيت على رجولتك. إنها مفارقة غريبة، ولكن هي الحقيقة.
شفاؤك يكمن في مرضك. ولعلّه من صالحك.. لكن..
إسحق: أكمل يا دكتور.
الدكتور: لا شيء.. لا يمكنني
متابعة حالتك. كان يجب أن تدفع ثمناً غالياً لنما فعلت. ولكي تكفّ عن دفع
هذا الثمن ينبغي أن تدفع ثمناً آخر لا يقلّ عنه جسامة» (ص55).
ب- المبنى الواقعي:
بنى ونوس مسرحيته وفق مبنى
مسرحية باييخو الواقعي، قصة دانييل بارنيس الذي يقوم بالتعذيب، ثم يلوذ
بالطبيب النفسي في جانبها الظاهر، وثمة قصة أخرى في جانبها الخفي تضيئها
وتكشف عن الفظاعة والجريمة الإنسانية، ويمثلها نيبال مارتي الذي يشوهه
التعذيب، ويميته مثلما يشوه زوجته، وتتحرك هذه القصة المزدوجة في فضاءات
ثلاثة هي فضاء الدكتور في عيادته، وفضاء الأمن وممارسة التعذيب، وفضاء
مارتي وبقية المعذبين.
واختار ونوس مبنى واقعياً
مماثلاً، هو فضاء الدكتور وعيادته وتحليله ومواجهته للجريمة الإسرائيلية
إزاء الفلسطيني الذي يقتلع من أرضه، وينتزع من تاريخه، ويُخنق حصاراً
وتعذيباً وقتلاً، فيصير هذا الفضاء إلى محاولة وعي الجريمة لدى الإسرائيلي
المتعقل والمسالم.
وهناك فضاء المستوى الفلسطيني
حيث الفارعة الأم المجاهدة راعية المعذبين الفلسطينيين (دلال وإسماعيل)
والصابرة والمصابرة على البلاء والنهم الإسرائيلي إلى الإبادة والواعية
لمصائر الفلسطينيين المقهورة تحت آلة التعذيب والإفناء الإسرائيلية، فتنطلق
من محاولة وعي الشرط التاريخية في محاورة دلال وابنها محمد، ولكنها ما تلبث
أن نخرط في إدراك فاجع للجحيم الإسرائيلي وآتونه الملتهب الذي يلتهم
الفلسطينيين، فتقف في صف المقاومة التي ترى في العدوان الإسرائيلي صراعاً
على الوجود.
جـ- المبنى الرمزي:
استعان باييخو ببعض لوازم
المبنى الرمزي عن طريق أسطرة التعذيب السياسي جريمة مروعة ضد الإنسانية من
جهة، وترميز علائقه من خلال الاستفادة من كشوف التحليل النفسي من جهة
ثانية، وحشد الدلالات وتنظيمها الواعي من جهة ثالثة.
وقد جعل دانييل مثار تشريح
ينهض بالمبنى الرمزي، في علاقاته بالأطراف جميعها، أسرة مارتي المعذب،
زوجته، أمه، رئيسه وزملائه، وأضفى على التشريح نبرة مأساوية حول تبعات
التعذيب والقتل في تخريب الإنسان، جلاداً قبل أن يكون ضحية، كما في قول
الدكتور لمارتي:
«لكن عندما يصل هذا الإنسان
المسكين إلى أقصى حدود العذاب يجرفه تيار رهيب، ولا تبقى لديه رغبة إلا في
أن يغلق عينيه.. دون أن يريد التفكير بما سيحدث فيما بعد» (ص170).
ثم أمعن في تشريح مآل التخريب
بما لا يختلف عن الجنون الذي يدمر العالم كلّه:
«ففي عالمنا هذا البالغ
الغرابة، لا زلنا لا نستطيع أن نصف هذا الخلط المريب بأنه جنون. فهناك
ملايين مثلهم، ملايين الأشخاص الذين يقررون تجاهل العالم الذي يعيشون فيه،
لكنه لا يخطر لأحد أن يسميهم مجانين» (ص172).
على أن ونوس بالغ في مبناه
الرمزي من العنوان إلى مجمل بنية النص، فالاغتصاب الجسدي موجود في النصين
لجسد المعتقل وزوجته، ويضيف إليه ونوس اغتصاب جدعون لجسد راحيل، ثم يمدّ
الدلالة إلى اغتصاب الأرض والتاريخ، بل إنه جعل لحفلات الاغتصاب نشوة دينية
(ص51)، وترافقت هذه الحفلات مع ممارسة التعذيب والتمثيل بجسد الضحية،
كاستخدام الشفرة في تثليم الجسد.. الخ (ص53) أو كسر الأعضاء وقطعها (ص72).
وأعطى العجز الناجم عن هول
التعذيب لدى الجلاد مفهوم عقاب النفس من جهة على مستوى الفرد، ومفهوم العنة
التاريخية من جهة أخرى على الجماعة الدينية اليهودية، فقد شرح اسحق لزوجته
راحيل رهاب أسطورة التعذيب التي صارت إلى عقاب له:
«إسحق: هل بلغ النفور هذا
الحدّ.! ذهبت إلى الدكتور موحين. لقد شخّص لي مرضي. إنه نوع من عقاب النفس.
إنه تعبير جسديّ عن ندم خفيّ. طبعاً لا تستطيعين أن تفهمي ذلك. فأنت
كالجميع تعتقدين أن كل ما يحقّق نجاحنا هو نظيف ومشروع. وإذن فعلامَ
الندم.! كان علينا أن نقوم بعمل رهيب يا راحيل. هناك مخرِّب عنيد لا يريد
أن يعترف. وطلب مائير أن نضغط عليه بطريقة مفزعة جئنا بزوجته، و.. حطَّمنا
رجولته. إنه الآن في داخلي يعاقبني ويعوّق رجولتي.. أو هناك إنسان في داخلي
يتولى عقابي.. إنسان آخر» (ص85).
ثم واجه رئيسه مائير بعقم
علاقته مع أمه التي استمرت على أنقاض ذكرى أبيه، مثلما يفصح هذا الحوار عن
أبعاد العلاقة الرمزية:
«إسحق: وهل كان أبي عقبة تجب
إزالتها بلا رحمة؟
مائير: ماذا تخرّف؟ إنك مخيّب
جداً أيّها الشاب. كم تعبنا، أنا والمسكينة أمّك كي نصوغ منك رجلاً
حقيقياً.!
إسحق: وهل تظنّ أن علاقة
عقيمة غذاؤها الكراهية والقتل يمكن أن تصوغ رجالاً؟
مائير: صدق جدعون.. ما أنت
إلا عنّين يبول على نفسه.
إسحق: وأنت.. ما أنت؟ أتظن أن
القتل يصنع رجالاً. قتلت أبي، وتريد أمي بلا طمث.
مائير: توقف.
إسحق: لا.. لن أتوقف. أأنت
تتحدث عن العنَّة. أتظن أننا لا نرى عنَّتك؟ تلك العنَّة الفخمة.. العنَّة
التاريخية التي تتلألأ خلف أقنعة الترفّع والعزلة والقسوة» (ص99).
وقد تعامل ونوس مع عناصر بنية
نصه رمزياً فجعل الفارعة ومن معها ممثلين لفلسطين والفلسطينيين، واسحق ومن
معه ممثلين لإسرائيل ونزعتها العنصرية العدوانية التوسعية الإرهابية، إلى
الحدّ الذي تزول معه، أو تخمل، الصفات الفردية، فنطق الفلسطينيون بحقّهم
وبالعنت الذي يلقونه في مداه الأبعد: التعذيب والقتل والإبادة، ونطق
الإسرائيليون بمنطق التوراة والبروتوكولات التي ترى في «الأغيارـ غير
اليهود» الشر والجحيم، وهم العرب الفلسطينيون، فكانت الأسرة الفعلية عند
مائير هي «الدولة لا الزوجة» (ص97)، وعندما سمعت الأم بقتل مائير لابنها
إسحق، صدقت دعوى القاتل الظالمة، لأنها وحدها تخدم إسرائيل:
«مائير: كان ثمرة فاسدة يا
حبيبتي.
الأم: وقطعت الثمرة.
مائير: لم يكن هناك مجال.
الأم: أحقاً لم يكن هناك
مجال.! أصدّقك.. أصدّقك فأنت أدرى.
مائير: هل أستطيع أن أقف إلى
جانبك؟
الأم: وكيف أفعل إن لم تقف
إلى جانبي..» (ص100).
د- الأحداث والوقائع:
أعاد ونوس في نصّه الأحداث
والوقائع إياها غالباً من حيث موقع الدكتور كاشفاً لطابع المأساة، وضميراً
حيّاً لمواجهة الظلم الناجم عنها، فكان عند باييخو باعثاً لأسئلة العدالة
الحقة ومضيئاً لها (ص79) حتى بلغ الحوار بين الدكتور ومريضه دانييل مرحلة
الصدام واتهام المريض له وكأنه يستجوبه مثل المعتقلين أو الضحايا الآخرين:
«دانييل: (بعد هنيهة) لا. أنت
تصرفني لأنني أثير اشمئزازك، لكن هل أنت متأكد بدورك من معرفة السبب في
نفورك مني؟.. هيا! اعترف أنت الآخر! اعترف بأنك كنت تجادلني وتثلب عملي كي
تجرني إلى الحقل المعارض.. الذي هو حقلك!
الدكتور: لو كنت توجه لي هذا
السؤال بصفتك البوليسية فلتتذكر أنك لم تأت إلى هنا لتستجوب أحداً.
دانييل: (وهو يضحك بعصبية)
لعلك تعترف بأنك مستعد لتتغاضى عن بعض الأعمال. لو كان النظام الحاكم
مختلفاً في سياسته عن الحالي!
الدكتور: هذا لا يعنيك في
شيء، لكن إذا كنت تريد أن تعرف الحقيقة فسأقولها لك: لا. لا أقبل هذه
الأعمال تحت ظل أي نظام!» (ص77-78).
ويتصادم الدكتور مع مريضه
إسحق أيضاً، ويبلغ الأمر عنده حدّ اتهام الدكتور بعرقلة قيام إسرائيل
وازدهارها:
«اسحق: أنت تصرفني لأني أثير
نفورك. ولكنك هلاّ تساءلت عن سبب نفورك؟ هيا اعترف، اعترف أنك كنت تجادلني
وتقبّح عملي، كي تجرّني إلى الموقف المتشكك. موقف هؤلاء المخنثين الذين لا
يكفّون عن التذمر. إذا انتصرنا تذمّروا، وإذا حرّرنا أراضينا خافوا. وفي
النهاية ليس لديهم ما يقدمونه لدولة إسرائيل إلا الوساوس والشكوك. طبعاً
أنت لست صهيونياً، وأنت تعيش في إسرائيل، ولم تفعل إلا عرقلة قيامها
وازدهارها» (ص55-56).
وتعاد في نص ونوس علاقة رئيس
دانييل المدعو باولوس (بابا) بأمه، إذ عشقها، ولكنها تزوجت غيره، ثم ظلت
علاقة الحب بينهما قائمة، وهو الذي ألحق دانييل بجهاز الأمن، فتظهر علاقة
رئيس إسحق المدعو مائير (بابا) بالأم ثانية بتفاصيلها لتغدو وثوقية بلبوس
الرمز الإسرائيلي الصهيوني فتفضي علاقة الحبّ إلى خدمة إسرائيل، وهي كانت
عند باييخو خدمة النظام:
«إسحق: وضحّي لي يا أماه...
أيّ نوع من العلاقة كانت تربطك بمائير؟
الأم: أحبّني كما أحب الربّ
إسرائيل. وأحببته كما يحب اليهوديّ المسيح. كان حبّنا صياماً ومكابدة.
إسحق: لم أفهم شيئاً.
الأم: كان مائير يفكر أن
حلمنا لا يحقّقه إلا جيل مفعم بالوجد والطهارة: كان يقول ينبغي أن نكون
روحاً شفّافة كالفجر، صلبة كالنصل كي تكتمل المعزة.
إسحق: أية معجزة؟
الأم: إسرائيل ومجدها. نحن
جيل تعهّد أن يصحّح تاريخاً طويلاً من الخطأ والآلام. وعلينا أن نكتشف في
أعماقنا ينابيع قوة بكر. لأن المعجزة لا تبنيها إلا قوة بلا خطيئة. هكذا
كان يتكلّم.. وكنت أحسّ أني كائن أثيريٌّ يطفو فوق حلم» (ص79-80).
وثمة أحداث ووقائع أخرى كثيرة
تُعاد في نصوص ونوس بصيغتها أو معدلة قليلاً، مثل تطورات العلاقة بين
دانييل وماري (اسحق وراحيل) والعلاقة بين ماري وزميله مارسان (راحيل وزميله
جدعون) وموقع طفل دانييل بالنسبة لأمه ولجدته (موقع طفل اسحق بالنسبة لأمه
ولجدته أيضاً)، والتحليل النفسي لدانييل في تنامي الفعلية (وكذلك التحليل
النفسي لإسحق).. الخ.
هـ- الأقوال:
يعيد ونوس في نصه كثيراً من
الأقوال بنصها أو معدلة، واكتفي بذكر بعض الأمثلة:
ڈ باييخو: «الدكتور: (يتنهد)
كان قد مرّ وقت طويل وأنا مستقر في عاصمة سوريليا. وكان دال باء يعيش على
مقربة من عيادتي» (ص35).
ونوس: «الدكتور: إن مريضي
رجل عادي يسكن على مقربة من عيادتي. أعرف زوجته جيداً» (ص23).
ڈ باييخو: «ماري: هل تستطيع
أن تأتي لنتعشى معنا ذات ليلة؟
الدكتور: هذا لطف بالغ يا
سيدتي.
ماري: سأحدثك بالتليفون لأحدد
معك موعد الدعوة.
الدكتور: اتفقنا إذن.
ماري: إلى اللقاء يا دكتور»
(ص37)
ونوس: «راحيل: .. هل
أستطيع أن أدعوك للعشاء ذات يوم؟
الدكتور: هذا لطف بالغ.
راحيل: سأتلفن لك قريباً.
الدكتور: اتفقنا.
راحيل: إلى اللقاء إذن.
الدكتور: إلى اللقاء» (ص24).
ڈ باييخو: «دانييل: .. أنا
دائماً مشغول بطريقة فظيعة، وليس عندي لحظات فراغ إلا هذا المساء.. نعم..
سأنتظر (سكتة) آلو.. اتفقنا في الساعة الرابعة.. شكراً جزيلاً.. هه؟»
(ص52).
ونوس: «إسحق:.. يا آنسة
إني مشغول جداً، ولا أستطيع المجيء إلا اليوم.. الساعة الخامسة.. اتفقنا..
شكراً.. إلى اللقاء» (ص32).
ڈ باييخو: «مارسان: (وهو
يقترب منها أكثر) لا يمكن لك أن تتصوري مدى سعادتي لو لم تخضعي لهذه
الاعتبارات!
ماري: (وهي تبتعد قليلاً عنه)
لا أفهم قصدك.
مارسان: أعرف أنك تفهمين،
فأنت تدركين مقصدي منذ اليوم الأول الذي جئت فيه إلى هذا المنزل؟» (ص97).
ونوس: «جدعون: منذ رأيتك
أول مرة عرفت أني عاجز عن مراعاة أي اعتبار فيك شيء لا يقاوم. شيء تفتقده
كل النساء الأخريات» (ص33).
ڈ باييخو: «دانييل: ... وذهبت
بثقة بالغة مع امرأة أخرى. كنت أحبها كثيراً من قبل.. كان شيئاً مذلاً
ومهيناً.. ومن بعدها والخوف يستبد بي» (ص57).
ونوس: «إسحق: .... وذهبت
بثقة بالغة إلى امرأة كنت أحبها كثيراً من قبل.. كانت تجربة مذلة ومهينة..
وبعدها استبد بي الخوف» (ص41).
ڈ باييخو: «دانييل: ... لكن..
لا أفهم العلاقة بين هذا.. و..» (ص58).
ونوس: «اسحق: ... إلا أنني
لا أرى العلاقة بين هذا و..» (ص45).
ڈ باييخو: «باولوس: سيأتون به
الآن. لهذا أريدك إلى جانبي فعلينا أن نحمله على الاعتراف، مهما كلفنا
الأمر!» (ص64).
ونوس: «مائير: سيأتون به
الآن. وسنحمله على الاعتراف مهما كلف الأمر» (ص46).
ڈ باييخو: «باولوس: ... هل
كانت ضيقة؟
بوثنر: لا، لكن أي احتكاك
يوجعه بسبب الحروق» (ص64).
ونوس: «مائير: .... هل
كانت القيود ضيقة؟
دافيد: ليست ضيقة. لكن أي
احتكاك يؤلمه بسبب الحروف» (ص47).
ڈ باييخو: «باولوس: لا تتباك،
فنحن حتى الآن لم نمس يدك اليمنى، إذ يجب أن نحتفظ بها سليمة للتوقيع»
(ص65).
ونوس: «مائير: لا تتباك..
فنحن لم نمس بعد يدك اليمنى. إننا نحتفظ بها سليمة للتوقيع» (ص47).
ڈ باييخو: «باولوس: ... الرجل
لا يهزّه حقيقة إلا ما يمس رجولته، ويؤذيه في أعضائه الحيوية، هذه حقيقة لا
تخطئ أبداً» (ص70).
ونوس: «مائير: ... لا يهزّ
المرء إلا ما يمس رجولته..» (ص51).
و- ملاحظات حول النقل أو
التناص:
- المبالغة الرمزية لدى ونوس،
إذ صارت الشخوص جميعاً إلى رموز مما يقلل من نبض المحاكاة والصدق الفني
والصدق الواقعي.
- المبالغة الروائية، فقد
استغرق نص ونوس في الوصف الروائي الجمالي دون العناية الواجبة بالتحفيز
الواقعي عناية بتنامي الفعلية.
- يكاد الجانب الفلسطيني يخلو
من الدرامية، فالفارعة تطلق نجواها أو تحاور دلال أو ابنها فيما لا يسهم في
تنامي الفعلية (التحفيز).
- اختلاط دور الدكتور في نص
ونوس بين التعاطف مع المريض حرصاً على سلامته، وبين مواجهته.
- غلبة الإعداد والاقتباس في
نقل نص باييخو، ليصبح نص ونوس منقولاً أكثر منه متناصاً، فليس ثمة ابتعاد
عن التناص الصريح المطلق، ولا سيما استغراقه في النصية الوصفية اجتلاباً
لصياغة باييخو نفسه أو لاستمداد نصوص التوراة والبروتوكولات وغيرها.
- إدخال نص باييخو الإنساني
إلى الدعاوة والتبشير السياسي، مثل الميل إلى التطبيع، كمثل السؤال: لماذا
اللقاء بين سعد الله والدكتور؟.
8- خاتمة:
يقدم التناص بين مسرحيتي
باييخو وونوس نموذجاً طيباً للمثاقفة الحضارية المسرحية التي تصدر عن رؤية
فكرية جعلت من المتعالية النصية لتثمير المعنى وما وراء المعنى، ولو بلغ
حدّ النقل، وعاء للتحاور والتواصل الحضاري بين الثقافات، إذ أعمل ونوس
تفكيره المسرحي في صوغ فيض الدلالات من إدانة إنسانية شاملة للتعذيب
السياسي حتى الموت بحق سجناء الرأي أو المعارضة، إلى إدانة سياسية للتعذيب
الإسرائيلي بحق الفلسطينيين حتى الموت أيضاً.
9
قضية موسوعات الأدب والفن
نحو قاموس عربي للمسرح
-1-
ثمة قضايا تلح على المثقف بين
الحين والآخر، لعل في مقدمتها قضية المعاجم أو الموسوعات أو القواميس لما
لها من تأثير في الحياة الثقافية. وأجد الحديث مفيداً عن هذه القضية،
وبخاصة لدى ظهور هذا المعجم أو هذا القاموس في بابه، وأعود اليوم إلى ذلك
الحديث( )، لأن المكتبة العربية بأمس الحاجة اليوم إلى قاموس أو معجم أو
موسوعة في مختلف العلوم والفنون والآداب، لأن انتشار القواميس والمعاجم
والموسوعات يعني –أول ما يعنيه- أن ثمة رسوخاً في الظاهرة الثقافية
وتاريخها مما يعين القارئ العادي والمتخصص. ويتجلى الرسوخ في أن حدّ
المصطلح قد توفر له من سعة الأفق وعمق الخبرة وتجاذب الاطلاع ودلائل
المعرفة ما يمكنه من التأثير المضطرد في شؤون الثقافة والحياة. وتبدو أهمية
المصطلح وتعريفه وتنهيجه –وهو مادة المعاجم والقواميس والموسوعات- في أساس
اختزال المعرفة الإنسانية وإنضاجها على نحو عميق ومؤثر لتدل بعد ذلك دلالة
حية ومتنامية على الجهد البشري في تنظيم التراث الإنساني والاستفادة منه
وانتشاره المأمول، ليكون أيضاً علاقة تضيء ما يخفض من تداخل أو اختلاط أو
تماثل أو تشابه في المفاهيم والأفكار والمعاني والكلمات.
وقد عرفت اللغة العربية مثل
هذه الكتب الموسوعية وليدة الدواعي المختلفة، وهذه الكتب الموسوعية التي
تعتمد على مبدأ الاستطراد المعرفي وتكويم المعلومات والأفكار التي تقترب من
طبيعة المعجم أو القاموس أو الموسوعة كثيراً، مثل «الأمالي» لأبي علي
القالي، و«الحيوان» للجاحظ، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وسوى ذلك، ولاشك في
أن القواميس والمعاجم، كما قلت، وليدة دواعي الحاجة إليها حتى أصبحت في
عصرنا الحاضر متنوعة واختصاصية في مجالاتها المتعددة، فهناك قواميس ومعاجم
في الفكر والسياسة والاقتصاد والعلوم الطبيعية والعسكرية، وهناك مثيلها في
المسرح والرواية والفن التشكيلي والفنون الشعبية والرقص، وهي تزداد عاماً
إثر عام تنوعاً وتخصصاً وتعمقاً واحترازاً في موضوعاتها.
لذا، يكتسب صدور قاموس أو
معجم جديد أهميته الخاصة في امتلاك مفاتيح الثقافة وتمحيص مكنوناتها
وعناصرها، وسأتناول في هذه المقالة الجهود العربية المبذولة في ميدان
المسرح عرضاً وتعريفاً ومقارنة قاصدين إلى إبداء الرأي في أهمية كتابة
قاموس أو معجم أو موسوعة عربية للمسرح. ويمكننا أن نصنف هذه الجهود على
النحو التالي:
- معجم المسرحيات العربية
والمعربة _1848- 1975)- تأليف يوسف أسعد داغر- طبعة وزارة الثقافة والفنون
–بغداد 1978.
- معجم المصطلحات الدرامية
والمسرحية –تأليف إبراهيم حماده- القاهرة- دار الشعب- دون تاريخ (المقدمة
مكتوبة عام 1971).
- فلسفة الأدب والفن –تأليف
دكتور كمال عيد- الدار العربية للكتاب –ليبيا- تونس- 1978.
- قاموس المسرح- مختارات من
قاموس المسرح العالمي- تأليف جون غاسنر وادواردكون- ترجمها وقدم لها مؤنس
الرزاز- راجعها رشاد بيبي- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 1982.
-2-
لا ينتمي «معجم المسرحيات
العربية والمعربة» إلى فصيلة عنوانه، فهو فهرس أو ثبت موزع إلى المواد
التالية:
- بيبلوغرافيا المسرح العربي،
وتضم معلومات موجزة تشير إلى مصادر ومراجع محددة.
- جولة حول تأريخ المسرح
العربي في أقطاره وبيئاته.
- المسرحيات العربية مرتبة
عناوينها قاموسياً وفق الأحرف الأبجدية، وهذا مثال:
«3214: من فوق سبع سماوات-
سبع تمثيليات إسلامية- تأليف علي أحمد باكثير- القاهرة- دار المعارف- 1973-
في 159ص» (ص558).
أو:
«3458: وادي موسى- مسرحية
تأليف الأديب السوري أمين الكيلاني الحموي- تدور حوادثها حول الثورة
العربية بقيادة الملك فيصل- حلب، 1920» (ص 592- 593).
ويشير الرقم الأول إلى رقم
المسرحية في الثبت، وقد بلغ عدد المسرحيات العربية والمعربة 3611 مسرحية أو
تمثيلية.
- فهارس الكتاب، وتضم فهارس
أعلام المؤلفين والمترجمين، والمسرحيات الشعرية، والمسرحيات النثرية،
الأجواق والفرق التمثيلية، والمسارح في الوطن العربي، وكواكب المسارح
التمثيلية من ممثلين وممثلات، والمجلات العربية المشار إليها في هذا الثبت.
ومن الملاحظ، أن هذا المعجم
أدخل في علم التوثيق والفهرسة منه في ميادين المعاجم والقواميس التي تتطلب
تعريفاً أوسع ومعرفة أعمق من منظورها التاريخي والفني، على أن مكانة عمل
الأستاذ داغر جليلة وعظيمة، فهي عون لمن يقبل على بحث أو دراسة أو نقد
للمسرح العربي.
-3-
يبدأ كمال عيد في قاموسه
«فلسفة الأدب والفن» من الصفر في التأليف المعجمي، إنه يجمع ما يخطر له
مصطلحات أدبية وفنية وفلسفية مركّزاً على فن المسرح، ويرى في عمله تلبية
لاحتياجات راهنة في الحياة الثقافية العربية من جهة، وارضاء لشهوة الكتابة
عنده من جهة أخرى. وفي مقدمته ثمة إيضاح:
«تبدأ الجهود المضنية من
لحظات وومضات قصيرة جداً، في إحدى ليالي الشتاء الماضي 1975، حضرت ندوة
مسرحية بمسرح الكشاف بطرابلس، اختلفت فيها الآراء كثيراً، حول كلمة بسيطة
هي «الرمز»، ومرت الأيام لم أستطع أن أتخلص فيها من هذه الآراء التي أخذت
تدق في أذني وبصوت كل صاحب لها، حتى جلست لأخط هذا الكتاب».
يضم قاموس كمال عيد أبجدية
بالعربية وحدها، وثبتاً بالمراجع الأجنبية والعربية، ثم يفرد مصطلحاته على
صفحات الكتاب تعريفاً موجزاً حيناً، وشرحاً وتحليلاً حيناً آخر، ويورد
أحياناً أخرى الكلمة الإنجليزية إلى جانب العربية دون ترقيم عددي للصفحات.
ويلاحظ أن «للأعلام» مكانة خاصة في هذا القاموس، فلهم فهرس، ولأعمالهم
تفصيل وتصريح في التعريف بالمصطلحات أو ذكر وجهة نظر. هذا مثال «مكسيم
جوركي (الاسم بالإنجليزية) 1868- 1936.
أول كلاسيكي الواقعية
الاشتراكية. وأحد الكتّاب الذين قدموا العبء الكبير لنشر الآداب الاشتراكية
بعد الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي. كتب المقالة، والقصة،
والدراما، ودراسات عن طرق تطوير آداب بلاده الشابة يرجع إليه الفضل في
إبداع الشخصية (الكبيرة) في الأدب السوفييتي» (ص 292).
وثمة ملاحظات أخرى نوجزها
فيما يلي:
1) يشكو القاموس من التخصص في
فن أو جنس أدبي بعينه، فالاتساع والشمول يفترضان ما يوازيهما على مستوى
الإحاطة والدقة، فهو يكتب ستة أسطر عن أفلاطون (ص 29) بينما يكتب مثلها عن
لوناتشارسكي، وضعفها عن جيته (ص 118).
ويكتب عن «الباليه التجريدي»
بلغة التعميم، بينما يقترب من الدقة العلمية في الكتابة عن «الباليه
السمفوني» (ص 62- 63).
2) يشكو القاموس من المنهج،
حيث تختلط المصطلحات بوجهات النظر من جهة، وحيث تتنازع الأفكار من جهة
أخرى.
إن المؤلف يكتب عن «أسطورة»
و«أسطورة شعبية» (ص 27) و «الباروك» (ص 57) و«العواطفية» (ص 206)، ويكتب عن
«الدور الاجتماعي في الفن» (ص 141)، و«آداب فنون المشرق» (ص 21) بالطريقة
نفسها، وبالحجم نفسه، وبنظرة مختلفة أحياناً إذ يغلِّب المنهج الموضوعي
حيناً، والابتداعي حيناً آخر، والاجتماعي حيناً ثالثاً.
ويستغرب المرء هنا إلحاح
المؤلف على تميز آداب وفنون الشرق باعتبارها تتعرض لأجواء شرقية ذات طابع
خاص، بينما يرى في الدور الاجتماعي للفن نقطة ارتكاز كونه يحقق التصورات
للمواقف الاجتماعية المختلفة وفق سلوك الشخصية أو الإنسان الفنان، في
متابعة للقواعد السائدة في مجتمع من المجتمعات. وهذا يعيد وظيفة الفن إلى
نوع من الشخصانية أو الفردانية. ولا نبالغ هنا في تقدير إسهام المؤلف
ولاسيما في تأكيده على مصطلحات علم النفس مثل التصورات للمواقف أو السلوك
أو التصرفات أو تعدد وجوه الإنسان المعاصر. لقد صار الدور الاجتماعي (أو
الوظيفة الاجتماعية) للفن إلى سلوك شخصي للفنان. لاحظوا!
3) يشكو القاموس من النزعة
الانتقائية وما يستتبعها من تغليب مصطلح فرعي على آخر رئيسي. ويستغرب المرء
هنا أيضاً تخصيص «تاريخ الفن» (ص75) بأسطر قليلة، بينما يخص «رتابة» (ص147)
أو «موضة» (ص 298) بالأسطر الكثيرة، إلا أن الاهتمام بالمصطلحات المسرحية
نظري خالص لا يراعي على سبيل المثال، يفرّق بين «التميز» في المسرح وغيره
من الفنون، ولكنه يغفل رؤيا الفنان لصالح الظاهرة أو إعمال الذات:
«التميز هو هذه اللحظات التي
تنتشر هنا وهناك على طريق التكوين الفني، التي تكوّن الحقائق التاريخية
والاجتماعية للبطل وتصرفاته وسلوكه في مباشرة صالحة.
.. وفي العرض المسرحي يتجسد
التمييز في مناصفة بين حوار الكاتب وتأويل وتفسير وترجمة المخرج «وسائل
العرض». وفي فن الرقص يتحدد التمييز في الفن الصامت «البانتوميم» والحركة
الجسدية والفنية» (ص 96- 97).
وفي حديثه عن الواقعية
الاشتراكية، يؤكد أنها تعني التزام العقيدة الاشتراكية أو المبادئ
الاشتراكية، ولا يسمي الالتزام صراحة، نافياً عنها معنى المذهب فكرياً
وفنياً في الوقت نفسه (ص 322- 324).
لنسأل إذن: ما أهمية قاموس
«فلسفة الأدب والفن»؟ للوهلة الأولى، نقول: إن هناك قواميس ومعاجم كثيرة
مترجمة أو معدة أصبحت في متناول القارئ، وبعضها اعتمد عليه المؤلف نفسه،
وهي تقترب من اختصاصها، ولا تفارق أمانة شموليتها المرسومة. إن عمل عيد
مسبوق، والسابق أفضل، ويكفي أن نتذكر «معجم مصطلحات الأدب» للدكتور مجدي
وهبة فقط.
-4-
يؤكد إبراهيم حماده أن معجمه
ليس ترجمة أو تعريباً حرفياً لكتاب أجنبي في الاصطلاح الدرامي والمسرحي،
ولكنه خلاصة خبرة شخصية واحتكاك مباشر تخصصي بفنون المسرح ومراجعها
الأصلية. ويضيف: «والكتاب –بكل فخر- لا نظير له في لغة أخرى، وقد يكون هناك
ما يفوقه، ولكن ليس شبيهه» (ص 10).
أما أبرز خصائص هذا المعجم
فهي الإيجاز أو الاختزال وسريان المصطلح على ألسنة المسرحيين ولو جرى
الاعتماد على «تفصيح العامية».
الترجمة:
ترجمة الكلمة الأجنبية إلى
العربية مع استشارة قواميس العربية وبعض القواميس الإنجليزية والفرنسية
التي تبحث في مصادر الكلمات وتطورات معانيها مع الميل الشديد إلى تفصيل ما
هو جار فعلاً في محيطنا المسرحي.
الاستنباط من الشكل أو المعنى
أو الوظيفة:
أي تصور خصائص ووظائف الشيء
موضوع الاصطلاح، ثم محاولة «استيلاد» معنى يمكن أن يدل على الشيء كله.
تفصيح العامية:
إذا كانت اللغة العامية قادرة
على مدّنا بالمصطلح فإنها –كمصدر خير من اللجوء إلى تعريب الكلمة الأجنبية،
ما دامت الفصحى عاجزة عن الإتيان بالقرين الصحيح (وهذه وحدها تحتاج إلى
بحث).
التعريب:
وهو نهج شرعي انتهجه أسلافنا
العرب. وإن لم يتوسعوا فيه، فإنهم اضطروا تحت ضغط الحاجة في بعض الأحيان-
إلى تعريب ألفاظ ثقيلة المبنى والمخرج.
النحت:
كان هو المصدر الأخير الذي
أمدني بأقل القليل من المصطلحات. ومع أن اللغة العربية لغة اشتقاقية قبل كل
شيء، فإن العرب قد عرفوا النحت. ومايزال مصدراً هاماً في العصر الحاضر من
مصادر إثراء اللغة ومدّها بمصطلحات العلوم والفنون.
من الواضح، إنني أعمد إلى
تفصيل القول في طريقة حمادة في كتابه مواد معجمه، لأن عمله ريادي وتأسيسي،
فيورد المؤلف بعد «مدخل منهجي موجز» كشافاً عربياً ويتبعه بكشاف إنجليزي
آخر. وهذا يختلف عما هو سائد حيث تقتصر معاجم المصطلحات التي تصدر في مصر
لشتى فروع المعرفة الإنسانية على إيراد المصطلح الإنجليزي أو الفرنسي إلى
جانب قرينه في اللغة العربية.
وثمة ملاحظة أخرى هي التزام
المؤلف بشرح طبيعة كل مصطلح شرحاً مكثفاً يستجلي معناه، ويضيء حواشيه
التاريخية كلما أمكن ذلك. ثم يوضح المؤلف الفرق بين المعجم والقاموس،
فالقاموس شمولي في المعالجة، يتناول كل ما ينتمي إلى عالم الدراما والمسرح
–سواء كان هذا الانتماء متمثلاً في شخص أو كتاب أو فرقة مسرحية أو مكان
تمثيلي أو نوعية درامية أو مصطلح –بالتفسير أو بشيء من التفصيل في بعض
المواقع. أما المعجم فهو معالجة المصطلحات الدرامية والمسرحية فحسب، وفق
تعريف مركز جداً يحدد –ما أمكنه- الملامح الشخصية المميزة للمصطلح.
ويشير حمادة إلى مسألتين
الأولى هي صعوبة التعريف لدى العاملين في مجالات المعرفة الإنسانية، لذلك
جرى تدعيم كثير من المصطلحات بسطور تاريخية تلقي ضوءاً على دلالات المصطلح.
والثانية هي صعوبة التمثيل أو الاستشهاد بالمسرحيات العربية، لأن تراثنا
المسرحي لم يؤرخ له التاريخ الذي يجعله قريباً من ذهن القارئ أو حتى الباحث
المتخصص.
لقد لجأ حمادة إلى توثيق
مصطلحه إحاطة وتاريخاً واحتمالاً للمعنى وهذه أمثلة:
- «الاختتامية المسرحية
(المصطلح بالإنجليزية).
مشهد تمثيلي، أو خطبة يلقيها
الممثل في نهاية العرض المسرحي. ففي نهاية مسرحية «كما تهوى- 1600» لوليم
شكسبير تلقي الممثلة البطلة روزالند الاختتامية» (ص 69).
- «مسرحية راكدة (المصطلح
بالإنجليزية)».
يستعمل بعض النقاد نفس
المصطلح الإنجليزي في حروف عربية، وبعضهم يقول: مسرحية «استاتية». والمقصود
هو المسرحية التي لا تتطور شخصياتها، أو مواقفها، وتعتمد على الحوار دون
عناية بالحركة المسرحية. والمثل على ذلك مسرحية «الأعمى –1890» لمترلنك» (ص
266).
ولا ننسى أيضاً أن حمادة يزود
مصطلحه بالرسوم التوضيحية مما يفيد رجل المسرح أو المتخصص كذلك. وثمة فائدة
أخرى هي ترقيم المصطلح، وقد بلغ عددها 600 مصطلحاً يختلف «قاموس المسرح»
عما سبقه من أعمال، لأنه يدخل في باب «الترجمة» أو «الترجمة بتصرف» كما
عرفت لدى مؤسسات ثقافية عربية كثيرة قبل انتشار الترجمة، وشيوع تعلم اللغات
الأجنبية مثل كتاب «المختار» أو مطبوعات ودوريات «كتابي» أو كتاب «الجيل»
أو «الكتاب اللبناني» وسوى ذلك كثير.
يسلط هذا القاموس الضوء على
عشرات المسرحيات العالمية وعشرات المؤلفين المسرحيين. وقد اعتمد المعد أو
المترجم على أكثر من مرجع، وهي مراجع معروفة وموصوفة القيمة تأريخاً
ونقداً، ولكنه يتصرف في النقل أو الترجمة، فلا تكون الفائدة مجزية.
يحدد المعد طريقته على النحو
التالي:
- رصد عدد كبير من المسرحيات
المترجمة إلى اللغة العربية لتعريف القارئ بأغلب ما عرّب من مسرحيات.
- ذكر بعض المسرحيات الهندية
واليابانية والتركية وغيرها من المسرحيات التي وجد صعوبة في ترجمة
عناوينها.
- الاضطرار لاعتماد ترجمة
حرفية لبعض الأسماء والعناوين منعاً للتشويش، ولاسيما إزاء المسرحيات
المترجمة.
- الاضطرار لاعتماد ترجمة
بديلة أقرب إلى الصواب والدلالة الأصلية، لأن بعض هذه الترجمات غير دقيقة
أو حرفية منحلة أو عامية.
- اعتماد النقل الحرفي في بعض
الحالات، وبالتحديد في حالة العنوان- الاسم كما في بعض مسرحيات ابسن على
سبيل المثال.
- اللجوء إلى نقل أحرف أسماء
بعض المسرحيين نقلاً تصويرياً إلى العربية- أي كما تكتب باللغة الأصلية لا
كما تلفظ بالعربية.
- اللجوء إلى الترجيح،
ولاسيما إزاء ما لم يترجم من قبل إلى اللغة العربية.
يتسم «قاموس المسرح» بالسهولة
والاستسهال وقلة الدراية المسرحية، وضعف الإلمام بالتاريخ المسرحي. وسأوضح
ذلك كله من خلال الملاحظات التالية:
1) يخلو القاموس من كشاف عربي
أو آخر أجنبي شأن مختلف القواميس والمعاجم.
2) يخلو القاموس من ترقيم
المصطلح أو المادة المذكورة، ومن أي دليل يعين القارئ، ويشير إلى موقع
المصطلح أو المادة.
3) يوجز المعد أحياناً إلى حد
الفقر، أو يفصّل القول حين لا ينفع التفصيل. وهذه أمثلة للنوع الأول:
«ترويض السليطة (1592-
1593)».
من تأليف وليم شكسبير.
وجذورها موجودة في «ألف ليلة وليلة» وبالتحديد في حكاية «النائم يستيقظ»(
). كما أن شكسبير استمد العقدة من قصيدة قصصية غنائية ظهرت في أواسط القرن
السادس عشر» (ص 57).
«بينا، مارتنز (1815- 1848)»:
مؤلف مسرحي كوميدي برازيلي،
من أهم أعماله: «المهندس الإنجليزي» كتبها في العام 1945 و«رجل الحانة»
كتبها في العام 1946».
وهذه أمثلة من النوع الثاني:
«سكيلر، فردريك فون (1759-
1805) » (ص 105- 106) وقد كتب عنه والي صفحتين، وسكيلر هو شيللر. ويقاس
التفصيل إلى ما ورد عن سواه من كبار المسرحيين.
4) تجاهل الجهود العربية
المبذولة في تداول أسماء مسرحيات وأعلام وشيوعها على أقلام المسرحيين العرب
وجمهورهم عن عمد أو جهل، مثل اسم شيللر كما رأينا، ومثل «السيارة المقبرة»
بدلاً من «رغبة تحت شجرة الدردار»، و_«أنت على حق» بدلاً من «حسب تقديرك»،
و «انريكو» بدلاً من «هنري الرابع»، و«براون الإله العظيم» بدلاً من «الإله
العظيم براون» و«البطة الطائشة» بدلاً من «البطة البرية» و«بيت الدمى»
بدلاً من «بيت الدمية» وغيرها كثير.
ومن الواضح، إن الاسم الأسبق
أو الترجمة المتداولة أقوى وأصح كما هو الحال مع مسرحية أرابال، أو مسرحية
أونيل أو مسرحيات براندلو وابسن. ولنا أن نذكر أن الترجمة الأصح هي «البطة
البرية» و«هنري الرابع» على سبيل المثال لا كما فعل المعد.
ومن الواضح أيضاً، إن معرفة
بسيطة بالتاريخ المسرحي قمينة بإزالة مثل هذه الالتباسات. وإلا كيف يصبح
اسم مسرحية بيراندللو «انريكو» ويتجاهل الرقم 4 في العنوان؟
والحق، إن غالبية الأسماء
المستخدمة في هذا القاموس لا تخرج عن مثل هذه الالتباسات التي تصب في قلة
الدراية المسرحية.
5) اكتفاء القاموس بالمسرحيات
والمؤلفين المسرحيين، وتجاهل العلامات البارزة في المشهد المسرحي الحديث
والمعاصر على أقل تقدير مثل المسارح والمراحل التاريخية والاتجاهات ورجال
المسرح، ونظرياته وغير ذلك. إن مثل هذا القاموس قاصر عن المستوى المتقدم
الذي بلغته الثقافة المسرحية باللغة العربية من خلال الدوريات الكثيرة
المنتظمة أو التي توقفت عن الصدور، مثل:
- روائع المسرح العالمي-
القاهرة (متوقفة).
- مسرحيات عالمية- القاهرة
(متوقفة).
- من المسرح العالمي- الكويت
(مستمرة في سلسلة إبداعات عالمية).
- المسرح- القاهرة (متوقفة).
- الحياة المسرحية. دمشق
(مستمرة).
- السلسة المسرحية- دمشق
(مستمرة).
- عيون الأدب المسرحي- حلب
(متوقفة).
- مكتبة الفنون الدرامية-
القاهرة (متوقفة).
-5-
لابد لنا، بعد استعراض هذه
الجهود العربية المبذولة ونقدها ومقارنتها، أن نخلص إلى أن التأليف المعجمي
أو القاموسي أو الموسوعي في صلب النهوض الثقافي المرتجي حيث ماتزال أسباب
التطوير المسرحي ماثلة وشاخصة تحتاج إلى جهد عربي مشترك وبرعاية قومية
خالصة، لأن جهود الأفراد والمؤسسات ودور النشر محكومة باعتباراتها التجارية
الخاصة وبمقدرة العاملين أو المتعاونين معها. ولعلنا نذكر في هذه المناسبة
توصيات ندوة اللجنة الدائمة للمسرح العربي في دورتها الأولى( )، وفي
مقدمتها تأليف المعجم متعدد اللغات للمصطلحات المسرحية. وهنا نص المسرحية:
- «نظراً لما لمسته اللجنة من
حاجة ماسة إلى توحيد المصطلحات المسرحية الشائعة في الوطن العربي، فإنها
تقرر تكليف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالعمل على تشكيل
لجنة فنية من خبراء المسرح العربي لوضع هذا المعجم».
ثم أوصت اللجنة المنظمة
العربية للتربية والثقافة والعلوم بالاتصال بجهات الاختصاص في الحكومات
العربية للعمل على تنفيذ المقترحات القيمة المقدمة من الدكتور محمد يوسف
نجم ممثل فلسطين في اللجنة، وتتلخص المقترحات فيما يلي:
1- تاريخ المسرح:
لقد بذلت محاولات قليلة
لكتابة تاريخ المسرح العربي، بعضها منهجي جاد ملتزم، وبعضها لا يلتزم في
المنهج السليم، ولا يعتمد على المصادر الموثوق بها، وما تزال هناك حاجة
ماسة لكتابة تاريخ كهذا.
2- موسوعة المسرح العربي:
بالإضافة إلى تاريخ المسرح،
يحتاج العاملون في المسرح العربي إلى موسوعة تتناول النشاط المسرحي العربي
منذ أول ظهوره حتى اليوم، وتكون مرجعاً شاملاً للباحث ورجل المسرح، وينبغي
أن تتناول هذه الموسوعة التعريف بالفرق والممثلين والمخرجين والمؤلفين
والمخرجين والمؤلفين والنقاد ومهندس الديكور ومؤلفي الموسيقى، وكل ما له
علاقة بالنشاط المسرحي العربي.
3- سلسلة أوراق المسرح
العربي:
تضم هذه السلسلة الدراسات
الجزئية التي تتناول جانباً من جوانب النشاط المسرحي أو شخصية من الشخصيات
العاملة فيه. وتنشر فيها الوثائق والقوانين التي تتصل بالمسرح العربي.
4- بيبلوغرافية المسرحية في
الأدب العربي الحديث:
وهي كشاف للمسرحيات العربية
موضوعة أو مقتبسة أو مترجمة، ما مُثّل منها وما لم يُمثّل.
5- تعميم الثقافة المسرحية
وانتشارها:
وتتمثل جوانب الثقافة
المسرحية في إصدار سلسلة نصوص التراث المسرحي العربي، وإصدار الكتب الخاصة
بالأدب المسرحي وفنون المسرح، وترجمة النصوص المسرحية العالمية وتنظيم هذه
العملية.
إن ما قام به إبراهيم حمادة
في معجمه، ويوسف أحمد داغر في فهرسه يلبي احتياجات أساسية في المعجم
المسرحي العربي المنشود. أما صنيع كمال عيد ومؤنس الرزاز فلا يبعد عن شهوة
التأليف عند الأول، وقصد السوق عند الثاني. ومانزال، في الأحوال جميعها،
نتطلع إلى إنجاز قاموس عربي شامل للمسرح. ولا يخفى أن مثل هذا العمل الكبير
يحتاج إلى جهد عربي مشترك يكفل له التنظيم والنجاح( ).
[مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق)
نيسان-حزيران 1982]
10
مسرح الأطفال في سورية
مسرح الأطفال في سورية حديث
شأن مبدعات أدب الأطفال الأخرى. فقد كان حتى نهاية الستينات داخل جدران
المؤسسة التربوية، ولم يلتفت إليه الأدباء إلا متأخرين ضمن اهتمامهم الذي
يكاد يكون مفاجأة بأدب الأطفال بعد حرب حزيران 1967 حين أعلن الشاعر الكبير
سليمان العيسى باسم الضمير الأدبي عن الإيمان بالمستقبل العربي من خلال
تنشئة الأجيال الجديدة بالقيم القومية والشعبية والأصلية، وكان المسرح أحد
قنوات الاتصال الهامة بجماهير الأطال، فانطلق مسرح الأطفال خطاباً قومياً
وتربوياً بالدرجة الأولى، وهو ما جسدته مسرحيات سليمان العيسى، ومن ساروا
على منواله، آنذاك أـمثال مصطفى عكرمة وعيسى أيوب.
ويفصل هذا البحث القول في
مسرح الأطفال في سورية خلال السبعينيات والثمانينيات على أنها الفترة
الخصيبة في تطور هذا الفن الذي وجد إقبالاً، فراحت أعماله، ودارت على أقلام
الكتاب وإبداعات الفنانين دوراناً ملحوظاً، غير أننا سننظر قبل ذلك في
مفاهيم مسرح الأطفال لتبيان أهمية النقلة التربوية والفكرية والفنية التي
شهدها هذا الفن في العقدين الأخيرين، ولتفهم ثراء تجربة مسرح الأطفال في
سورية ويتصدى البحث بعد ذلك لعرض إطار عام لتطور مسرح الأطفال في سورية، ثم
يتوقف ملياً عند الممارسة المسرحية والوعي به.
1- مسرح الأطفال:
يختلف مسرح الأطفال عن مسرح
الكبار أو الراشدين، وتتجلى في قضية مسرح الأطفال معضلة التربية والفن أكثر
من بقية مبدعات أدب الأطفال الأخرى كالقصة والشعر، فقد عومل مسرح الأطفال
إلى وقت قريب على أنه المسرح المدرسي أو استخدام المسرح لغايات الدرس أو
التعليم أو التربية، ولم يعترف بانتماء مسرح الأطفال إلى الفن أو الأدب إلا
متأخراً، فقد غاب مسرح الأطفال عن الأدب طويلاً وصار بالنسبة للمؤسسة
التربوية مادة للمناشط الاحتفالية ورافداً للمنهاج المدرسي، إغفالاً لطبيعة
الممارسة المسرحية الطفلية التي تتسع لتشمل مشاركة الطفل نفسه في الفرجة
والمشهدية، وتضيق لتقارب مفهوم الخطاب المسرحي للراشدين، حين يصبح الطفل
متلقياً، وهو ما اصطلح على تسميته بمسرح الكبار للصغار.
إن مسرح الأطفال، بهذا
الإطار، نوعان، نوع أول هو وسيلة تربوية وتثقيفية يشترك فيه الطفل بالتمثيل
والمشهدية. وأشهر أشكاله «الدراما الخلاقة » وهي استثمار طاقة الطفل
الحركية والتعبيرية في إدراك العالم وتنمية الشخصية وتربية الذوق وتعزيز
التثقيف الذاتي والصحة النفسية، أما سبيل «الدراما الخلاقة» فهو المسرحة من
الحكايات والقصص والأحاديث والتجارب وتنامي ذلك عبر استنفار مقدرة الطفل
الحركية والتعبيرية في الأحاسيس والتخييل واللغة والوعي.
وثمة نوع ثان هو مسرح موجه
إلى الأطفال، ويستند إلى اعتبارات مخاطبتهم الفنية والتربوية حيث تتعدد
أشكال المسرحة من التجسيد الآدمي، كمسرح الكبار للصغار التمثيلي أو الغنائي
أو التسجيلي إلى الاستخدام المادي لعناصر عرض كالعرائس أو خيال الظل أو
الضوء وغير ذلك.
ومايزال الالتباس قائماً في
تحديد نوعية مسرح الأطفال، غير أنه يستلزم مراعاة عناصر لابد منها تتمثل في
«دراما الطفل» التي تمنح مسرح الأطفال خصوصيته، بما تعنيه من استعادة
الطفولة في فضائها الفريد وقد وضعت على المسرح، وغدت ناجزة لتلقي الطفل،
كما تتبدى أيضاً في «الموقف الأدبي» الذي يستوعب فعالية الطفل نفسه على
التلقي الموضوعي، والابتعاد ما أمكن عن التلقي الانفعالي أو التلقي
المزاجي. ويؤدي هذا التلقي الموضوعي إلى شروط في البناء المسرحي ولغته
وتخييله أيضاً.
وهكذا نلاحظ أن مفهوم مسرح
الأطفال مختلف عن مسرح الكبار أو الراشدين، ومختلف عن محاولات تبسيطه في
المسرح المدرسي، فهو أبعد من مجرد وسيلة تربوية للإيضاح أو التعليم أو
الوعظ أو الإرشاد أو التوعية، وهي تسميات متشابهة لممارسة مسرحية طفلية
حصرت مسرح الأطفال في مفهوم المسرح المدرسي الذي يعني بالتبشير والدعاوة
والتعليم والشروح والشعارات بالدرجة الأولى، وهو حال غالبية نماذج مسرح
الأطفال في ممارسته التربوية المباشرة.
ولعلنا نتعرف أكثر إلى طبيعة
مسرح الأطفال في تجربته وتطوره لدى عرضنا لإطاره التاريخي ومعاينتنا
لممارسته وشؤون الوعي به فناً هو وسيط ثقافي راق، ووسيلة اتصال فعالة، قبل
أن ننظر في قضايا مسرح الأطفال وموضوعاته وأهم مؤلفيه كما ظهرت جلية في
العقدين الأخيرين.
2- لمحة تاريخية:
اقتصرت مسرحية الأطفال في
سورية حتى نهاية الستينات على التمثيليات المدرسية، فقد التف حول المسرح
المدرسي مربون بارزون بحكم الحاجة لنصوص تغذي احتياجات المهرجانات
والاحتفالات المدرسية، نذكر منهم رضا صافي الذي طبع مؤخراً بعض المشاهد
التمثيلية في كتابه «صرخة الثأر» (1980) وكأن كتبها في الخمسينيات «معلم
يعتقد أن واجبه في توعية أبنائه وبناته وتوجيههم وطنياً وقومياً، مقدم على
واجبه في تعليمهم» كما جاء في تقديمه، ونصري الجوزي الذي نشر أكثر من عشر
مسرحيات في «السلسلة المسرحية للطلبة» (1970-1971-1974). ومن الواضح أن هذه
التمثيليات تعتمد على إشاعة القيم التعليمية ولاسيما الوطنية في نفوس
الناشئة من خلال أسلوب مباشر واضح وغنائي أحياناً، مما يفسر ضعف الفعلية في
بناء النصوص، وغلبة العبارات المأثورة، وغالباً ما استمد هؤلاء الأدباء
نصوصهم من التاريخ تقديساً للروح الوطنية ودفاعاً عن الأرض واعتزازاً
بالانتماء للأمة العربية ونضالاً في سبيل فلسطين والقضايا القومية.
وكان ظهور مجموعة مسرحيات
سليمان العيسى الغنائية «المستقبل» (1969) تطويراً واضحاً. إذ كرس منذ ذلك
الوقت جل إبداعه للأطفال.
ويتجلى هذا التطوير في
الاقتراب من عالم الطفولة من حيث تنوع الموضوعات الأليفة كالبيت والمدرسة
والطبيعة والوطن والكفاح في سبيل حياة أفضل، ومن حيث تطويع الأسلوب الفني
للخصائص التربوية مثل تقبل الأطفال للإيقاعات والأوزان الشعرية، ومقدرتهم
على تلحينها بأنفسهم، ومثل بساطة التراكيب ودقة الألفاظ وسهولة جريانها في
منطوق الأطفال.
ويحفل كتابه الكبير «مسرحيات
غنائية للأطفال» (وهو يجمع مسرحياته حتى عام 1982) بنصوص كثيرة تضع الطفل
أمام عصره، وتجعله أقرب المتطلعات المنشودة في انخراطه المبكر بمجتمعه
وصيانة مستقبل البشرية.
تحدث سليمان العيسى للأطفال
بلغتهم. من خلال مشاعرهم الدافئة، عن التزامهم بأهم القضايا المصيرية
لأمتهم العربية، وأحيا في نفوسهم الأمجاد الغابرة والنزوع الإنساني للتعاطف
مع الشعوب الأخرى المحبة للعدل والسلام، ودعاهم إلى الكفاح بلا هوادة من
أجل الوحدة العربية التي سماها «الحلم العظيم» في مسرحية بالعنوان نفسه.
جسّد العيسى في مسرحياته أبهى
الصور العربية إيماناً بالحرية والكرامة والطفولة والمستقبل، وأعطى الأطفال
أدواراً رائدة في بناء الحياة، وربط ذلك كله بتراث أمتهم وتراث الإنسانية،
كما هو واضح في عناوين مسرحياته «الأطفال يزورون المعري» و«الأطفال يحملون
الراية» و«المتنبي والأطفال»و «سندريلا» و«الأطفال يزورون تدمر».
وتعد سنوات السبعينيات
الأخيرة منطلق انتشار الكتابة لمسرح الأطفال وفق الاعتبارات التربوية
المدروسة والملموسة، فمع ميلاد منظمة طلائع البعث (1974) وقيام مهرجانها
القطري السنوي (اعتباراً من عام 1975)، أقبل عدد من الكتاب على الكتابة
لفرق الأطفال الكثيرة المنتشرة في مختلف المحافظات مثل فرحان بلبل وعيسى
أيوب ومحمد أبو معتوق وإبراهيم جرجي وصالح هواري ومحمد معشوق حمزة.
ويقدم المهرجان القطري لطلائع
البعث سنوياً عروضاً في إطار مسرح العرائس وخيال الظل ومسرح الأطفال (مسرح
الكبار للصغار) ومسرح المنوعات والمسرح الغنائي الاستعراضي ومسرح الفنون
الشعبية وأغنية الطفل العربي، وتصدر المنظمة نصوص هذه العروض ضمن مطبوعاتها
منذ المهرجان القطري السادس (طرطوس 1981). وهذه الكتب وثائق هامة عن تطور
العمل المسرحي للأطفال في سورية. أما عمل وزارة الثقافة والإرشاد القومي
فقد اقتصر على مسرح العرائس (منذ عام 1959) الذي قدم حتى نهاية (1985)
قرابة 22 مسرحية، غالبيتها مترجمة أو معدة.
وجرت محاولة لتأسيس مسرح
الطفل في وزارة الثقافة وبدأ عمله عام (1983) بمسرحية هي «علاء الدين
والمصباح السحري» أعدها عدنان جودة عن قصص ألف ليلة وليلة والمسرحية
العرائسية السوفيتية (طبعت عام 1984 ضمن منشورات الوزارة).
وهناك نشاط ملحوظ في التأليف
للنشر أو التكليف المباشر للمهرجانات القطرية، وقد بلغ عدد النصوص المسرحية
في مطبوعات المنظمة أكثر من 460 نصاً مسرحياً. تكاد المسرحية المكتوبة على
لسان الحيوانات من باب «الأنسنة» أو تعليل صفات الطبيعة وأشكالها هي
الغالبة على مسرحية الأطفال في سورية، بل إن كتاباً كثيرين وظفوا هذا
الأسلوب لحاجات بناء مسرحيات رمزية تباشر القضايا الأساسية كقضية فلسطين
والاحتلال الصهيوني وقضية التجزئة والتعلق بالوحدة العربية وقضية العدالة
الاجتماعية وقضية تنمية العادات السلوكية الحميدة. وهذا جلي في مسرحيات
صالح هواري «قتلوا الحمام» (1984) ومسرحيات محمد أبو معتوق «ثلاث مسرحيات
للأطفال» (1984) و«أوهام حارس الغابة» (1986)، ومسرحيات عيسى أيوب الكثيرة
وخصوصاً «الملك والربيع« (1981) و«الحسون في عيد الزينة» و«الرغيف» (1985)
ومسرحية أحمد يوسف داود «محكمة في الغابة» (1980). ومسرحية جمانة نعمان
«سيدة ثمار الصيف» (1983).
وثمة كتاب آخرون يؤثرون
الصياغة الواقعية المستمدة من بطون التاريخ أو الحكايات الشعبية أو
الأساطير أو حركة الواقع بقصد التركيز على قيم سلوكية أو اجتماعية أو قومية
كما في مسرحيات فرحانبلبل «ثلاث مسرحيات للأطفال» (1983) ومسرحية نصر الدين
البحرة «أغنية المعول» (1978) ومسرحيات عبد الفتاح رواس قلعه جي «ملكة
القطن والشمس» (1979) و«أوبريبت قلعة حلب» (1983) وأكرم شريم «ممتاز يا
بطل» (1981).
وهناك كتاب كثر صاغوا
مسرحياتهم من خلال حياة الأطفال اليويمة، ولا سيما داخل المعسكرات والمناشط
الطليعية تركيزاً على مشاركة الطفل وتثير النزعات الإبداعية والبطولة لديه،
مثل محمد بري العواني «الفنانون الصغار» (1983) وإبراهيم جرجي «الأطفال
ينشدون على الشاطئ موج البطولة» (1983) وكمال عبد الكريم «أهلاً بكم»
(1982).
إن أعوام 1975 و1985 هي
الأوفر انتجاً والأكثر تطوراً في مسرحية الأطفال في سورية، سواء في ضبط
التجربة الفنية، أو في مراعاة الاعتبارات التربوية الواجب توافرها في كل
أدب للأطفال.
3- مسرح الأطفال في
الممارسة:
من الواضح، أن مسرح الأطفال
في سورية، شأنه شأن بقية مسارح الأطفال الأخرى، قد انطلق من المدرسة ملبياً
لحاجات تربوية بالدرجة الأولى رافداً للمناشط التربوية في المدرسة وخارجها،
ولا سيما الاحتفالات التي اتسعت مكانتها في حياة التلاميذ والطلاب بعد
الاستقلال (1946)، وربط التربية بالأبعاد الوطنية والقومية، ويشير إلى ذلك
تعدد منسباتها على مدار العام الدراسي. وتشهد سنوات ما بعد الوحدة بين
سورية ومصر (1958) إلى إشراك المدرسة بالاحتفالات العامة، وقد كان المسرح،
بعروضه واستعراضاته الفنية والجماهيرية الشكل المفضل لمشاركة الناشئة
بالأعياد الوطنية والقومية.وبهذا المعنى، غلب على النشاط المسرحي للناشئة
غرض تعليمي شديد الاتصال بمعاني هذه الأعياد، بل إن غالبية العروض المسرحية
هي أشبه بالدروس التي تسعى إلى وضع الناشئة في الحالة الوطنية والقومية
الناهضة.
وليس مستغرباً أن تمثيليات
نصري الجوزي هي الأكثر أداء على خشبة المسرح المدرسية وفي احتفالات
التلاميذ والطلاب ومهرجاناتهم، حتى أنه أعاد طبعها في مطلع السبعينات، فجمع
خمسة فصول مسرحية منها مع مقدمة لعجاج نويهض هي: «أمة تطلب الحياة» و«حفلة
عشاء» و«باسم الحداد وهارون الرشيد» و«معجون الحب» و«على الباغي تدور
الدوائر» (1974). وأصدر ست تمثيليات في السلسلة المسرحية للطلبة، هي «ذكاء
القاضي» و«العدل أساس الملك» و«عيد الجلاء» (1970) و«فلسطين لن ننساك» و
«وفاء الأصحاب» و«حطموا الأصنام» (1971). ويذكر أن غالبية هذه المسرحيات أو
التمثيليات قد طبعت لأول مرة في مطبعة «بيت المقدس_» بالقدس في منتصف
الأربعينيات. ثم أعيد طبعها لمرات في القدس ودمشق في الخمسينيات، ومثلت على
مسارح معظم مدن فلسطين وسورية والأردن ولبنان وقراها، وأذيعت في برامج
الأطفال من محطات عربية عديدة.
أما نصري الجوزي بشهادة
الكثيرين فهو «أول من كتب الفصول التمثيلية على النمط الجيد جداً للأطفال
والطلاب ابتداء من سنة 1945»، ويؤكد إقبال المدارس على إعادة عرض تمثيلياته
إلى استجابة للذوق التربوي والتعليمي السائد حتى مطلع السبعينيات في بلاد
الشام، وعلى إيمان المربين بفكرة الجوزي عن المسرح المدرسي بأنه «نواة
صالحة لإعداد جيل عربي يتذوق الفن الرفيع، ويتقن لغة آبائه وأجداده، ويعمل
على خلق مسرح قومي تتجمع فيه جميع العناصر الفنية والأدبية والوطنية، كما
أنه يساهم في تقديم برامج إذاعية وتلفزيونية على مستوى رفيع». وكان الجوزي
قد ضمّن إحدى مجموعات مسرحياته للطلبة فهمه للمسرح المدرسي، فوجد «أن
الرواية المدرسية، يقصد المسرحية، أفضل بكثير من جل الكتب المدرسية الجامدة
التي تدرس في مدارسنا، فالطالب مليء بالحياة زاخر بالحركة والنشاط،
والرواية تحقق رغبته، وترضي حيويته، وتعبر عن كثير من ميوله الأخلاقية
والأدبية والوطنية». وركز في محاسن المسرحية المدرسية على وظائفها المباشرة
في تعلم اللغة العربية بالدرجة الأولى، ثم تلا ذلك وظيفة زرع محبة فن
التمثيل، مشيراً إلى تطور المسرحية في البلاد الأوروبية، إذ خصتها وزارات
المعارف هنالك «بقسط وافر من اهتمامها، وأدمجتها في برامج التعليم، حتى
باتت قبلة أنظار الطلاب ومحج أمانيهم ونوازعهم»، ويورد الجوزي معلومات عن
تنوع مسرحيات الطلاب، كالرواية الأخلاقية التي تحلي حياة الطالب وتجعله
يتمسك بأرقى المثل الإنسانية والرواية الأدبية الفكاهية التي تزيل عن النفس
كآبتها وآلامها.
إن هذا الفهم للمسرحية
الطفلية ظل سائداً حتى الستينيات، ويتلخص في أن المسرح سبيل للوعظ والإرشاد
والتوعية القومية، ويعد تعلم اللغة العربية عن طريق المسرح من أبرز عناصر
التوعية القومية. ومن مظاهر تعليمية هذه الممارسة المسرحية الطفلية اقتصار
الموضوعات على إعادة القيم التراثية الأصلية كالعدل والوفاء، وتقريب حوادث
التاريخ العربي ومغازيه من أذهان الناشئة وقد وضع في مقدمة مسرحيته «العدل
أساس الملك» العبارة التالية: «الاحتفاظ بتراث الآباء سنة فرضتها الطبيعة
وساندتها الديانات الملوك تحكم فترة من الزمن وتمر، أما الأرض فباقية،
دائمة خالدة».
وقد طبع الجوزي مسرحياته
بالشكل الكامل والحرف الكبير، وزودها بالمقدمات الشارحة والعبارات
المفتاحية الدالة على مغزى النص، وذيّلها بقوائم تشرح الكلمات الصعبة. وفي
مسرحيته «عيد الجلاء»كتب عن دلالة المسرحية:
«وإني لعلى يقين بأن ذلك
اليوم، الذي تتخلص فيه سائر البلاد العربية من ربقة الأسر والعبودية لقريب،
فتعيد الأمة العربية جمعاء عيدها القومي، عيد الاستقلال عيد الجلاء، لأن ظل
الاستعمار بات بغيضاً ممجوجاً، وأصبحت الشعوب الواعية تعمل جادة من أجل أن
تحطم قيد الاستعمار وتستنشق نسيم الحرية صافياً. ولن يكون الوقت بعيداً
حينما نسترد فلسطين، ذلك الوطن السليب، ونطهر تلك الأراضي المقدسة من شذاذ
الآفاق، وعصابات اللصوص».
وبغض النظر عن مناقشة تفكير
الجوزي، نلاحظ أنه يكتب مسرحياته التعليمية لتكون دروساً في الوطنية
والقومية والأخلاق، ويؤيد دروسه بشواهد وعبارات مفتاحه على المغزى المنشود،
ففي مطلع فصول «عيد الجلاء» أختار أبياتاً شعرية لأحمد وشفيق جبري تدعو إلى
الشهادة والتضحية والفداء، ويختتم مسرحيته على النحو التالي:
«وهنا يتراجع الرمز إلى
الوراء شيئاً فشيئاً، بينما تتصاعد في الفضاء قصيدة «الجلاء» لآمال حسين:
هو يوم ما سجل الدهر مثله
يوم
قامت دمشق تقرع طبله»
إن مسرحيات نصري الجوزي صورة
مثلى للكتابة المسرحية الطفلية السائدة حتى الستينيات كما أشرنا من قبل،
ولعل الإشارة إلى كتاب «التربية المسرحية للمدارس الابتدائية»، وكان أيضاً
معيناً للمسرح المدرسي في سورية، توكيد على هذا التفكير المسرحي الموجه
للناشئة، والكتاب مطبوع بمصر أكثر من طبعة ودون تاريخ، وألفه محمد حسين
المخزنجي وإسماعيل رسلان وأحمد شوقي قاسم، ولا يبتعد مؤلفوه عن تفكير
الجوزي فهم يرون أن «أسلوب التربية باللعب والتمثيل هو خير الأساليب
وأحدثها –وأهم من هذا وذاك أن هذه المسرحيات تحقيقاً للفلسفة التي تقوم
عليها التربية المسرحية، من صميم المنهج المقرر على تلاميذ المدرسة
الابتدائية حتى تكون أداة تعليمية أساسية يستخدمها المعلمون والمعلمات في
فصول المدرسة فتفيد في توصيل المعلومات إلى التلاميذ في صورة شيقة عملية
محببة إلى نفوسهم متفقة مع طبيعتهم فضلاً عن أنها تعتبر بحق خير وسيلة
لإيضاح وتفسير ما لا يمكن توضيحه أو تفسيره بالطريقة الشفوية والإلقاء
المعتاد».
ثم يوضح هؤلاء المؤلفون قصدهم
الذي يباشر المسرح المدرسي سبيلاً للوعظ والإرشاد والتوعية القومية نفسه.
ويكتبون:
«والأمر الذي لاشك فيه أن
التربية المسرحية تعمل على تكوين شخصيات التلاميذ وبناء أخلاقهم وتربية
أذواقهم وتصفيتها، كما أن التمثيل خير وسيلة للنهوض بالمواد الدراسية
بطريقة عملية ناجحة تتفق مع أساليب التربية الحديثة، فهي تعالج موضوعات
المنهج المقرر التي يلمسها الطفل ويحسها في حياته الاجتماعية والوطنية، كما
توضح له دروس الدين واللغة والتاريخ وغيرها بطريقة جذابة مشوقة محببة إلى
نفوسهم تساعد على حسن فهمهم واستيعابهم للمواد الدرسية دون مشقة أو عناء
كما تساعد على تعليم التلاميذ منذ صغرهم على إجادة الإلقاء وحسن الأداء».
وهكذا ضم كتاب «التربية
المسرحية للمدارس الابتدائية» مسرحيات في التربية الدينية مثل «سيدنا
إبراهيم» و«سيدنا موسى» و«حفر زمزم» و«والد الرسول» و«عام الفيل» و«زواج
الرسول»، ومسرحياته في التربية الاجتماعية مثل: «الحب الكبير» و«الوطنية»
و«في الحظيرة» و«موكب الحرف»، ومسرحيات في منهج اللغة العربية مثل: «حلم
البخيل» و«الأسد والثيران» و«من يأخذ الذهب» و«الثعلب المكار» و«الصديق
الخائن». والمسرحيات بالشكل الكامل والحرف الكبير ومزودة بالرسوم الإيضاحية
أيضاً كما هو الحال عند نصري الجوزي.
وإلى هذا النوع من التأليف أو
الإعداد المسرحي، تنتمي غالبية التمثيليات والمسرحيات الموجهة للأطفال،
ونشير في هذا المجال إلى كتاب «تمثيليات كليلة ودمنة» لمؤلفها أو معدها
إبراهيم غز الدين إسماعيل (في أواخر الستينيات غالباً). وقد صدرت ضمن
«السلسلة المدرسية للمطالعة والتمثيل»، تقريباً لهذا السفر التراثي من
الأطفال، «في مسرحيات ممتعة أبطالها في الظاهر من عالم الحيوان في حين
واقعهم من صميم واقع الإنسان». وقد أعد المؤلف خمس تمثيليات للأطفال هي
«النمام» و«المحاكمة» و«حلم الأسد» و«خطة محكمة» و«أسلحة الكفاح».
وعلى مثال هذه المسرحيات صاغ
مصطفى عزوز (من تونس) مجموعاته التي تحمل اسم «المسرح الصغير» (1979)،
وتنحو هذه التمثيليات منحى «الأنسنة» واندغامه بالشخوص الإنسانية بقصد بث
الحكمة والقيم على ألسنة الحيوان وعلاقتها مع الإنسان.
ومن الملحوظ، أن مسرح الأطفال
اقتصر على أمثال هذه التمثيليات المدرسية، التي كانت مادة العروض المسرحية
في المدارس ومادة الاحتفالات والمهرجانات، وأبرزها مهرجان المسرح المدرسي
الذي أقامته وزارة التربية والتعليم عام 1960، واستمر حتى مطلع السبعينيات،
حين تسلمت المنظمات التربوية الشعبية مهام التنشيط المدرسي والتعليمي
والتربوي، «منظمة طلائع البعث» في المرحلة الابتدائية، و«اتحاد شبيبة
الثورة» في المرحلتين الإعدادية والثانوية و«الاتحاد الوطني لطلبة سورية»
في المعاهد والجامعات.
غير أن صيف عام 1960، شهد
تطوراً في الممارسة المسرحية للأطفال في سورية حين تأسس مسرح العرائس
برعاية وزارة الثقافة والإرشاد القومي وإشرافها وتمويلها، وهو مسرح موجه
للأطفال قدم حتى نهاية الثمانينيات أكثر من ثلاثين عرضاً، كانت مجالاً
للتسلية والتوجيه في آن معاً. وقد أوكلت الوزارة إدارة المسرح لأول مرة
للفنان الشعبي المعروف عبد اللطيف فتحي الذي ضمن له الإقبال. وقدم مسرح
العرائس عرضاً أو عرضين يومياً، وحضره سنوياً أكثر من ستين ألف طفل، ووظفت
الوزارة له ملاكاً من الأطر الفنية المؤهلة، واستقدمت له الخبراء من
يوغسلافيا ورومانيا، وجهزت له صالة دائمة في معهد الحرية بدمشق، وضمنت له
إمكانية العرض الموسمي في المحافظات، حتى صار مسرح العرائس حافز تجديد
لمسرح الأطفال بأنواعه الأخرى، حيث دربت فيه العناصر المحلية، وجربت
التقنيات الحديثة، ونوّهت بأن مسرح الأطفال ليس منبراً للوعظ والإرشاد فقط،
بل هو قناة ثقافية شديدة التأثير على وجدان الناشئة إذا أحسن الخطاب
المسرحي الموجه للأطفال والفتيان.
ونجد أن مسرح العرائس قد ساهم
في جذب الكتاب إلى الكتابة المسرحية للأطفال، فظهرت أعمال مسرحية لكتّاب لم
يلتفتوا إلى مسرح الأطفال من قبل أمثال عبد اللطيف فتحي ونجاة قصاب حسن
ونجاح المرادي ويوسف حرب ويوسف دهني وعرفان عبد النافع وتيسير هلال الدين
ودلال حاتم وحسن م. يوسف.
أما الدور الأهم لمسرح
العرائس فهو تعريف العاملين في ثقافة الأطفال وتربيتهم بالتقنيات الحديثة
في مسرح الأطفال كعروض عرائس الخيوط «الماريونيت»والدمى القفازية والمسرح
الأسود والأقنعة والحقيبة المدرسية والتسجيل الضوئي والفانوس السحري. وفي
مسرح العرائس، أقيمت دورات كثيرة لمنشطي مسرح الأطفال في المدارس لتوسيع
مجال استخدام هذه الخبرات المتطورة.
ثم قامت وزارة الثقافة
والإرشاد القومي بخطوة هامة أخرى في مجال مسرح الطفل حين أنشأت «مسرح
الأطفال»عام 1983، وأسندت إدارته إلى الفنان عدنان جودة الذي ألف وأخرج
مسرحياته كلها: وهي «علاء الدين والمصباح السحري» (1983) و«خطيبة الأمير»
(1984) و«القط أبو الجزمة» (1985) و«بدور والأقزام السبعة» (1986) و«علي
بابا والأربعين حرامي_» (1987). وخصصت وزارة الثقافة صالة القباني بدمشق
مكاناً لعروض «مسرح الأطفال»، وفرغت له أطراً تمثيلية مؤهلة ومتخصصة،
وأتاحت لمديره والعاملين فيه تنفيذ تصور متطور لمسرح الأطفال، حين اعتمدوا
على الحكايات والأساطير العالمية، وراعت خصائص مخاطبة الأطفال عن طريق
المسرح، ولا سيما اللغة والخيال وطبيعة التلقي ورحابة الموضوع الإنساني.
أما التطور الأهم في الممارسة
المسرحية للأطفال فهو تأسيس منظمة طلائع البعث عام 1974، وتنظيمها للمهرجان
السنوي الذي يقام في نيسان أو أيار من كل عام في إحدى المحافظات. وقد أقيم
المهرجان السادس عشر باللاذقية (نيسان 1991) وتكمن أهمية المنظمة
ومهرجاناتها في المناحي التالية:
- تطور النظرة لمسرح الأطفال،
فلم يعد تطبيقاً مباشراً للمنهج المدرسي، بل صار تعبيراً فنياً وتربوياً عن
إدراك الناشئة للعالم من حولهم، ويتبدى ذلك في تعدد أنواع مسرح الأطفال
التي تمارس باتساع مثل المسرح الغنائي الاستعراضي، مسرح الفنون الشعبية،
مسرح الكبار للصغار (مسرح الأطفال)، مسرح العرائس، مسرح خيال الظل، أغنية
الطفل العربي.
وهناك الآن حصيلة ضخمة من
المسرحيات المقدمة في هذه الأنواع تضمها الكتب التي بدأت تطبعها المنظمة عن
الأعمال المسرحية المقدمة للأطفال كل عام منذ 1981 (دورة المهرجان
السادسة). ويبلغ عدد المسرحيات المقدمة أكثر من 600 مسرحية للأطفال في
أنواعه المتعددة.
ولا يتوقف الأمر عند الكم
وحده، فقد أقامت المنظمة دورات اختصاصية تأهيلية سنوية للعاملين في مسرح
الأطفال في المدارس والمدارس التطبيقية ومراكز الأنشطة ومعسكرات الطلائع
التي تقام سنوياً على مدار ثلاثة أشهر خلال الصيف، وتستقبل سنوياً حوالي
200 ألف طفل يمارسون فيها هواياتهم الكثيرة ومنها المسرح.
ومن أجل ممارسة سليمة لمسرح
الأطفال في التربية والمؤسسات التربوية وفي تجمعات الأطفال، أقامت المنظمة
حلقة بحث اختصاصية عن «مسرح وسينما الأطفال» (دمشق 1980) شارك فيها عدد
كبير من الأدباء والفنانين والفنيين المعنيين بثقافة الأطفال، وطبعت
حصيلتها في كتاب، هو مرجع الآن في المدارس الابتدائية. كما نظمت ندوة خبراء
حول «أدب الأطفال في وسائل الاتصال بجماهير الأطفال» (دمشق 1981) ومنها
المسرح كوسيط ثقافي وتربوي ووسيلة اتصال هامة بجماهير الأطفال، (وطبعت
أعمال الندوة في كتاب أيضاً)، ثم أقامت المنظمة حلقة بحث اختصاصية حول
«جمهور الأطفال والثقافة» (الرقة 1980) جرى فيها اختبار أشمل لعلاقة
الأطفال بالمسرح.
ولا نبالغ إذا قلنا، إن
غالبية كتاب مسرح الأطفال في الثمانينات قد خرجوا من مهرجانات الطلائع
أمثال عيسى أيوب وفرحان بلبل ومحمد منذر لطفي وسلام اليماني ونور الدين
الهاشمي وإبراهيم جرجي ومحمد معشوق حمزة وشريف ناصيف وخيري عبد ربه وكمال
عبد الكريم ومحمد أبو معتوق وصالح هواري وجودت أبو بكر وجمانة نعمان وعلي
مزعل وأحمد خنسا وغيرهم.
ثم شجعت المنظمة الكتابة
المسرحية من خلال مسابقة التأليف المسرحي للأطفال عام 1978، وفاز فيها عدد
من الكتاب طبعت أعمالهم في كتب عام 1982 أمثال جان الكسان وأحمد يوسف داود.
لم يعد مسرح الأطفال والتأليف
له على هامش ثقافة الأطفال منذ مطلع الثمانينيات في سورية، إذ غدا فناً من
أهم فنون أدب الأطفال. بفضل الوسائط الثقافية ووسائل بالجماهير التي أفردت
له حيزاً كبيراً من مساحات النشر والبث في الصحافة والكتاب وفي الإذاعتين
المرئية والمسموعة. وعلى خشبات المسارح في المؤسسات التربوية والثقافية.
ولعل المقارنة الإحصائية
مفيدة في هذا المجال، فقد ألف في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات حوالي
40 مسرحية للأطفال، بينما ألف في الثمانينيات وحدها أكثر من 160 مسرحية
مطبوعة.
ولا شك في أنه رقم كبير يشير
إلى رواج الكتابة المسرحية للأطفال، أما الوعي بمسرح الأطفال وقيمة هذه
الكتابة فسنتعرف إليهما لاحقاً.
4- وعي مسرح الأطفال:
كانت الممارسة المسرحية أسبق
من الوعي بأهمية مسرح الأطفال تربوياً وفنياً وتثقيفياً، فثمة اتفاق على
إلحاق المسرح بالمؤسسة التعليمية، وحين بادرت وزارة الثقافة والإرشاد
القومي عام 1960 من خلال تأسيس مسرح العرائس، كان عمل هذا المسرح محكوماً
بعاملين:
الأول هو التعاون مع المؤسسة
التعليمية من أجل انتشار عروضه إلى أوسع جماهير الأطفال، فنظمت المدارس
زيارة أطفالها إلى صالة المسرح، وأحيت اللقاءات بين الأطفال والعاملين في
المسرح أثر بعض العروض، وساعدت على إيصال المسرح إلى الأطفال في المحافظات،
والثاني هو اعتماد المسرح على العاملين فيه من الفنانين والإداريين في
تأليف عروضه، ولم يكسب المسرح على وجه العموم، كان على هامش الأدب والمؤسسة
الثقافية، واقتصر التأليف له على جهود بعض المربين أمثال نصري الجوزي ورضا
صافي.
ثم رافق تأسيس مسرح العرائس
محاولة للتأليف والترجمة، كان أولها صدور كتاب «فن العرائس وتحريكها»
(1963)، وهو من تأليف بوجو كوكوليا، الخبير اليوغسلافي في وزارة الثقافة
والإرشاد القومي وترجمة نجاة قصاب حسن مدير الفنون في الوزارة آنذاك
ومراجعة جوليان ماركوفيتا (وربما كان أحد الخبراء العاملين في مسرح
العرائس). وحفل الكتاب بصور إيضاحية كثيرة، وكتب ليلبي حاجة مسرح العرائس
الناهض في سورية. ويكشف إهداء المؤلف عن السعي الحثيث لتطوير مسرح الأطفال
في سورية، فقد قال مؤلفه: «إلى مساعدي الأولين. . إلى المؤسسين الأولين
لمسرح عرائس دمشق، إلى لاعبيه الناشئين، وموسيقيه، وجميع من عاونوا في
تحقيق تقدمه السريع من كتاب وفنانين، أقدم كتابي هذا راجياً أن يكون دليلاً
لكثيرين غيرهم من العاملين على تحقيق هدفهم السامي النبيل: ترفيه أطفال
الأمة العربية». وربما كانت هي المرة الأولى التي يعترف فيها بمكانة ترفيه
الأطفال في العمل المسرحي الموجه إليهم، إذ لا يجد المتتبع لتاريخ مسرح
الأطفال في المؤسسة التعليمية في سورية ولاسيما المنهاج ومفرداته، إلا
التوكيد على الوظائف التربوية والسياسية والأخلاقية المباشرة للنشاط
المسرحي من خلال الحواريات والتمثيليات في الكتاب المدرسي التي يصاغ على
منوالها حواريات وتمثيليات. أخرى، ومن خلال تدريب المربين على «مسرحة»
القصص، وهو الأمر الذي سيتطور كثيراً في تعليم أدب الأطفال برمته، حين
اعتمد كتاب «أدب الأطفال» (1978)، وهو الكتاب الذي يدرس في معاهد إعداد
المعلمين والمدرسين على مبدأ التحويل بغية تأمين نصوص أدب الأطفال من أقرب
طريق، وهو المعلم والمربي، وثمة عشرات الأمثلة التي تعلم لتحويل أي نص أدبي
إلى مسرحية أطفال بأنواعها المختلفة. وغني عن القول، إن الهدف الواضح
والصريح لهذا الكتاب هو تأهيل المربين العاملين في مسرح الأطفال في المؤسسة
التعليمية ليكون بمقدورهم أن يعدوا مسرحيات أطفالهم بأنفسهم.
أنا الانعطافة الهامة في وعي
مسرح الأطفال، فكانت مع صدور كتابين، الأول هو: «الأطفال والمسرح» لمحمد
شاهين الجوهري (1966)، والثاني هو «مسرح الأطفال» لمؤلفته وينفريد وارد،
ومترجمه محمد شاهين الجوهري نفسه (1968). والكتابان يقدمان توضيحاً مقنعاً
لإمكانية نقل المسرح إلى الأطفال وتحويل قاعات التعليم إلى مسارح بسيطة
تستثمر قابليات الأطفال ومكان التعليم وتوفر لهم فرص تعليم المسرح.
ويتألف الكتاب الأول من
ثمانية فصول تشرح المنطلق وهو المسرح في حجرة الدرس، ثم تفصل القول في
القواعد الصحيحة لتعليم المسرح كالدخول إلى المسرح والخروج منه والتعبير
بالحركة والإشارة، والإحساس وكيفية تصوير الانفعالات، والإلقاء، وكيفية
تقديم تمثيلية كاملة، وما يجب أن يعرفه المعلم عن المسرح، ويخصص الفصل
الثامن والأخير لمسرحة القصة مع نماذج تطبيقية. وقد مهد المؤلف لنماذجه
بوصف الخطوات المتبعة لهذه المسرحية كاختيار القصة، ومعرفة حوادثها
وشخصياتها وتقسيمها إلى فصول، ودرس الحوار واختيار اللغة المناسبة. ودرس
الحبكة المسرحية والتفكير بالحل، والتزام طابع القصة في المسرحية.
وحوى الكتاب الثاني تجربة
أوسع وأعمق في مسرحية القصص وإنتاج مسرحيات فنية وجميلة للترويح عن
المتفرجين الأطفال بمشاركتهم غالباً. وهو المفهوم الذي ألفت فيه المؤلفة
كتاباً سابقاً سمته الدراما الخلاقة وأشارت المؤلفة بتواضع جم، إلى أنها
وضعت نصب عينيها أثناء إعداد هذا الكتاب «أولئك الذين تعوزهم الخبرة في
إخراج مسرحيات للأطفال، سواء للمسرح أو المدرسة أو المعسكر أو غيرها، أما
ذوو التجارب فليسوا في حاجة إلى هذا الكتاب، لأنهم يتبعون الطريقة التي
توصلوا إليها بتجاربهم». والكتاب دليل موجه إلى المعلمين في المدارس
الحكومية والخاصة وفي الاستديوهات. وإلى مديري المسارح، والمشرفين على
المعسكرات والعاملين في المدارس والخاصة ورواد الأندية وجمعيات الناشئة وكل
من يخرجون مسرحيات للأطفال.
يتألف الكتاب من أربعة عشر
فصلاً تتناول نشأة مسرح الأطفال، والتفكير بمسرح الأطفال، وتنظيم العمل
بمسرح الأطفال، وكيفية كتابة مسرحية للأطفال، وبناء مسرحية للأطفال،
والعثور على المسرحية المطلوبة، ووضع المسرحية في الممارسة (الحياة تدب في
القصة)، ودعوة الممثلين، والملابس وتجهيز العرض المسرحي، ودور الستارة،
والإعلان عن المسرحية، وتمويل المسرح، والمسرح في الملاعب والمعسكرات
والأندية وقاعات الاجتماعات واللقاء، ودور الجمهور.
وربما كان الفصول (4و5و6و7)
من أكثر فصول الكتاب إمتاعاً وتشويقاً وثراء بالخبرة المتحصلة من العمل في
مسرح الأطفال، وهي تضع أمام العاملين في مسرح الأطفال إمكانيات هائلة
لإنجاز مسرح أطفال يلبي حاجاتهم النفسية والأخلاقية، ويضمن مشاركتهم
الإيجابية الفعالة.
لقد كان تأثير هذين الكتابين
كبيراً على نمو وعي جديد بمسرح الأطفال ينبع من عالم الأطفال ويتوجه إليهم
بخطاب فني أولاً وتربوي وقيمي ثانياً، ويعترف بأنواع مسرح الأطفال،
وتحديثها واستنباط شروط فرجة خاصة تستند إلى ينابيع الطفل الثقافية أيضاً.
إن مفهوم «الدراما الخلاقة» على سبيل المثال لا يمكن استثماره على نحو جيد
بمعزل عن اتصال الطفل بينابيعه الثقافية وتقاليد الثقافة الوطنية الشفهية
والمكتوبة.
وقد أشارت حلقة البحث
المتخصصة «مسرح وسينما الأطفال» (دمشق 1980) إلى مثل ذلك. وظهر هذا في
أبحاث كثيرة عن مسرح الأطفال في الثمانينيات وربما كانت كلمة نجلا حريصاتي
خوري في مقدمتها لترجمة كتاب دني بوردا. «الدمى المتحركة وعالم الأطفال»
(1981) الأكثر تعبيراً عن بزوغ الخصوصية بمعزا الهوية أيضاً في مسرح
الأطفال، أي الاعتراف بخصوصية التجربة العربية أو التجارب العربية في
تاريخها، وضمن بيئتها وثقافتها، كتبت:
«هكذا نرى أن التجربة ما تزال
في بدايتها، وأننا لا نزال نحتاج إلى الكثير من العمل والتعلم، قبل أن نصل
إلى بناء تجربة كاملة. ولعل هذا الكتاب، الذي نضعه بين أيدي المختصين
والقراء، يكون فاتحة حوار مثمر، وفاتحة مجموعة من الكتب، حول تقنيات مسارح
الدمى وخيال الظل، آملين أن نختتم هذا المجهود بكتاب عن تجربتنا العربية
الحديثة، في مجال مسرح الأطفال».
وفي إطار تنامي الوعي بمسرح
الأطفال، زادت المساهمات النظرية والتنظيرية والتطبيقية لمسرح الأطفال،
ونكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاث مساهمات. ويعد كتاب فيصل المقدادي «المسرح
المدرسي» (1984) من أهم الكتب التي تقرن النظرية بالتطبيق في مسرح الأطفال،
وإن غلب على رؤية المؤلف المنظور التربوي مركزاً على مسرحة المناهج أو
القصص والحكايات. ثمة في الكتاب أربعون صفحة تنظيرية، أما بقية الكتاب (160
صفحة) فللنماذج التطبيقية الممسرحة للأطفال أو مسرحية الأطفال.
والكتاب الثاني هو «الطفل
العربي والمسرح» (1984) لمؤلفتيه عواطف إبراهيم محمد وهدى محمد قناوي،
وحرصت مؤلفتاه، كما أعلنتا في المقدمة، على كسر الجمود الذي يكتنف التأليف
لمسرح الطفل. والحق أن الكتاب في منطلقاته النظرية متطور في عمليات الوعي
بمسرح الأطفال العربي، وقد دافعت المؤلفتان عن وظيفة مسرح الأطفال
الترفيهية في وجه طغيان التجهم وتحويل المسرح إلى منبر للدعاوة والوعظ
والإرشاد والتوعية، ونقتطف الاستشهاد التالي مثالاً لما آلت إليه فكرة مسرح
الأطفال في وعي المهتمين به من المربين والكتاب:
«فإذا كان الهدف الأول من
مسرح الطفل هو الترويح عن الصغار، والتنفيس عن رغباتهم المكبوتة وتحريرهم
بعض الوقت من القيود الاجتماعية المفروضة عليهم في حياتهم العصرية التي
يعيشونها، فإن لمسرح الطفل هدفاً ثقافياً وتربوياً، باعتباره وسيلة للصراع
من أجل حياة أفضل، بجانب اعتباره وسيلة للترفيه، والهروب أيضاً وبقدر
محدود، من صراعات الحياة».
وتضيف المؤلفتان منعاً
للالتباس حول هدف الترفيه: «ولا نعني الترفيه الذي يمتهن عقل الطفل وقدراته
الخلاقة، ولكن الترفيه الهادف الذي يساعد الطفل على تمثيل ثقافة بيئته،
وإدراك قدراته هو حتى يستطيع أن يتكيف مع ثقافة مجتمعه».
ضم الكتاب ثمانية فصول، عالجت
تطور تاريخ مسرح الطفل، وأهداف مسرح الطفل، ومقومات مسرحية الطفل كعمل
أدبي، والأطفال والمسرح، والابتكار وعلاقته بمسرح الطفل، ومسرح أطفال
الثالثة والتأليف وعلاقته بمسرح الطفل، ومسرح الطفولة المبكرة من الرابعة
حتى السابعة، ومسرح الطفولة المتوسطة من السابعة حتى التاسعة، ومسرح
الطفولة المتأخرة من الثامنة إلى الثانية عشرة.
وقد غلب على الفصول الأربعة
الأولى طابع التنظير، بينما خصصت الفصول الأربعة الأخيرة للتطبيق، حيث وضعت
المؤلفتان نصوصاً مسرحية تناسب كل مرحلة عمرية. وروعي في «كتابة المسرحيات
جميعها أن تكون بالعربية البسيطة حتى يكون هناك وحدة فكر بيننا وبين قرائنا
في الوطن العربي».
إن الوعي بمسرح الأطفال بلغ
شأواً متطوراً في الإقرار بخصوصية هذا المسرح، واعتباراته التربوية والفنية
وفهم فكرته كوسيلة تربوية تثقيفية في تلقي الطفل لها وفي مشاركته في
أدائها، وكفن من فنون أدب الأطفال. وينطوي الكتاب الثالث «مقدمة في مسرح
الأطفال» (1985) لمؤلفه حسب الله يحيى على هذا الفهم، فهو محاولة لتشكيل
«نظرة شاملة وتصور لماهية المسرح، ومسرح الأطفال بالذات، وهو يتوجه إلى كل
المعنيين والعاملين في مسرح وثقافة الطفل. ليكون خبرة متواضعة جداً، يستهدف
الكاتب إضافتها إلى معلوماتهم وثقافتهم المتخصصة وتجاربهم العميقة
والأصيلة، وهم على تماس مباشر وعلاقة حميمة وتفاعل تام مع عالم الأطفال».
وينفي المؤلف مهمة الإرشاد
والتوجيه، لأنه ناقد مسرحي ومحاضر سابق لطلبة قسم المسرح في نعهد الفنون
الجميلة ببغداد، وهكذا، ضم الكتاب فصولاً عن ماهية المسرح وعلاقته بالفنون
الجميلة والموضوعية في المسرح والعرض المسرحي والمضمون والشكل والمتعة
والمعرفة واللعب والتمثيل والتجريد والمسرح والتعليم والخيال والرموز
والخوارق والبحث عن الحلول والعدالة في المسرح وبناء الذاكرة والحرية في
المسرح والأصوات والأنسنة وكيفية مخاطبة الأطفال في المسرح ومسرح العرائس
والممثلون الصغار والكبار والمسرح المدرسي ومسرح لاحق للأطفال. ويختتم
كتابه الصغير الموجز باقتراحاته نحو مسرح متخصص للأطفال.
ومن الجلي، أن فكرة حسب الله
يحيى عن مسرح الأطفال تعبر عن ذروة وعي المسرحيين العرب بمسرح الأطفال
وتعليمية من المنظور الفني أولاً، ومن عالم الطفولة ثانياً، ثم تتحصل بعد
ذلك المنظومة القيمية. لقد اعترف بالطفل، وبمسرح الطفل، وهذا ما يؤشر إليه
كتاب حسب الله يحيى باختصار.
وهناك مؤشرات أخرى لنمو الوعي
بمسرح الأطفال في سورية اتساع حركة التأليف المسرحي للأطفال، وقد أسهم في
هذه الحركة كتاب عرب كثيرون أمثال عبد المجيد القاضي «من مسرح الطفل
اليمني» ومحمد الركانة من المغرب «البجعات» وخلف أحمد خلف من البحرين
«العفريت ووطن الطائر» وفخري قعوار من الأردن «وطن العصافير». كما نشطت
حركة تعريب مسرحيات الأطفال عن الروسية والإنجليزية والفرنسية.
[مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق)
أيلول-تشرين الأول 1991]
5- قضايا مسرح الأطفال في
سورية:
5-1- استلهام التراث:
كان استلهام التراث، ولا سيما
التراث الشعبي هو الأبرز في مسرحيات الأطفال، وغالباً ما توقف المسرحيون
عند حدود إعادة أو إعداد الحكايات والأساطير والأخبار والسير الشعبية كجحا
وأشعب وأبطال المقامات وأهل الكدية، وهذا واضح في التمثيليات المدرسية
الكثيرة، ثم طور المسرحيون الإعداد إلى نوع من الاستعادة عالجوا فيها السرد
التراثي بأشكال جديدة، وتطلعوا إلى التعبير عن قيم جديدة، وكان عادل أو شنب
من أوائل المسرحيين الذين طوروا التمثيليات والحواريات المسندة إلى ثراء
التراث الشعبي العربي والعالمي كما في حواريات ومسرحيات كتابيه «السيف
الخشبي» (1975م)، و«معطف الإخفاء» (1976م)، فقد استفاد في كتابه الأول من
حكايات «كليلة ودمنة» لتقديم درس في دور العقل وأهمية الذكاء في مجابهة
العدو، وفي تدعيم التعاون والصبر من أجل الفوز (ملك الغابات)، ولتقديم درس
آخر عن ربط القول بالعمل (أهل التفكير وأهل التدبير)، ولجأ في حواريات
كتابه الثاني إلى حكايات الشعوب لتمجيد العمل والطيبة والتسامح (البنت
الذهبية)، وإعلاء شأن الذكاء وحسن التصرف (القسمة)، والتحذير من ألاعيب
المخادعين (بائع الأسماء)، وتوظيف الذكاء في خدمة الناس (معطف الإخاء).
وعاد نصر الدين البحرة في
مسرحيته «أغنية المعول» (1978م) إلى التراث الشعبي أيضاً، فقدم أمثولة دفع
من خلالها ابن الأمير إلى العمل ومشاركة العمال في حياتهم وهمومهم، وحين
يقتل الملك على يد النبلاء يلتف الشعب حول الفتى، ويؤازرونه، ويستعيد معهم
عرشه. «تفبرك» المسرحية جملة قيم في حكايات مفترضة لا تنطبق على مرحلة
تاريخية، وتجعل العمال يدافعون عن عروش الملوك، ولكن المسرحية تحفل بالأهم،
وهو تمجيد العمل والتواضع و رضى النفس والمحبة.
وتستند مسرحية كوليت خوري
«أغلى جوهرة في العالم» (1975م) إلى موضوع تراثي، فتعرض أمثولة أخرى، فقد
طلبت الأميرة مهراً لها من خطابها وعرسانها أغلى شيء في العالم، فيتوزع
العرسان باحثين عن هذا الشيء، ثم يجلب الشاعر قطرة من دم شهيد روى تراب
الوطن، فترى الفتاة الأميرة وتبارك العرس، فالشهادة قيمة اليم مقدسة وأصيلة
وحية في وجدان كل مواطن.
كان عيسى أيوب أوسع المسرحيين
استعادة لشخوص التراث الشعبي كما في مسرحياته التي عالجت جحا وأشعب وعباس
بن فرناس وعروة بن الورد مثل «جحا في عيد المناشط» (1981م) و«الحسون في عيد
الزينة» (1985م) و«جحا يزن أفكاره» (1987م) و«في المطار» (1987م) و«عروة بن
الورد» (1988م). أما المسرحيات التي استلهمت موضوعات التراث الشعبي لدى
عيسى أيوب فهي كثيرة أيضاً مثل «الملك والربيع» (1981م) و«أسرار الكروم»
(1983م) و«الأميرة وقطرة الماء» (1984م) و«زهرة الصحراء» (1988م).
لقد كان التراث الشعبي معيناً
لا ينضب للمسرحين، وتبدو مسرحيات فرحان بلبل في كتابه «ثلاث مسرحيات
للأطفال» (1982م) معالجة جديدة لبعض الحكايات المتوارثة، وليست «الصندوق
الأخضر» سوى صياغة أخرى لحكاية شعبية معروفة في أرجاء الوطن العربي،
واقتبسها مسرحيون آخرون، ومنهم يوسف العاني في مسرحيته «المفتاح» (1980م)،
فقد انتظر الأب حسن والأم وعد زهرة التي عادت من مدرستها ناجحة وبيدها
هدية. ثم يطرد صاحب العمل حسن وأخاه سميح، ويطلب منهما أن تعمل زهرة خدامة،
فتقترح زهرة أن يغنوا معاً أغنية الأجداد:
يا خشيبة حودي حودي
وديني على جدودي، وجدودي بطرف
عكا
بيعطني ثوب وكعكة.. الخ
وبالفعل يسافرون جميعاً إلى
عكا موطن الأغنية، فيقوم الأجداد من قبورهم، ويعطي الجد الثاني الصندوق
الأخضر. ويظهر العفريت الذي نكتشف أنه الجار اللئيم صاحب العمل، ويطلب
الصندوق ولا يفلح في الحصول عليه، وتبدأ رحلة النضال في البحث عن مفتاح
الصندوق، ويتعرضون لمساوات وصعوبات، ويمتثل سميح بينما يحلم حسن بالخلاص،
وتكون النتيجة هي الدرس: من يزرع القمح ويأخذ قنديل العلم يأخذ المفتاح. إن
المفتاح هو العمل والعلم بتعبير آخر.
أما مسرحية «البئر المهجورة»
فهي تطوير لحكاية شعبية أخرى، إذ نرى قرية يفقد أهلها الماء، بينما الماء
هو الحياة، وما تلبث القصة أن تتكشف عن صراع خافت بين أهل القرية وصاحب
الماء المتسلط الذي يوهمهم بوجود عفاريت في البئر ليمنعهم من الحصول على
الماء. ثم يجمع العجوز الأطفال وأهلهم، فيما بعد، لمواجهة المستغل، عدو
القرية، وينتصرون على الخوف والعجز.
وينغمر هيثم يحيى الخواجة
بالتراث الشعبي، ويصوغه وفق مقاصد تعليمية جلية، ففي مسرحيته الثالثة
«الفرسان الثلاثة» من كتابه «ثلاث مسرحيات للأطفال» (1990م)، يبني حكايته
من مأثور التراث الشعبي داعياً إلى ضرورة الاعتماد على الذات والنهوض
بالإمكانات المتوفرة نحو تحقيق الوعي والقضاء على الفقر والمرض والتخلف
وثالوث يؤرق السلطان الذي يسعى لسعادة شعبه، فيشير عليه الحكيم أن يعلن عن
مسابقة وجائزة لمن يأتي بحلول ناجعة لهذا الخطر المقيم، فيتقدم ثلاث شبان
للمسابقة هم وعد وفراس وعلاء، ويطلب منهم السلطان الرحيل عن البلاد للبحث
عن الحلول في جهات متعددة، وتكون مهلة أداء المهمة خمس سنوات. وقيل عودة
الفرسان الثلاثة وعد وفراس وعلاء، كان الأعداء الطامعون بالمملكة قد أحدقوا
بها، نظراً لضعفها، غير أن السلطان مؤمن بقوة شعبه المستمدة من الإيمان
بالحق وحب الأرض والصراع على المواجهة.
وصل علاء ومعه صندوق من الذهب
جمعه من التجارة بين البلدان، وبعد أن وضع الصندوق بين يدي السلطان أعلن أن
المال قادر على حل مشكلات السلطنة جميعها، إلا أن السلطان يدرك أن المال
ينفذ بسرعة دون أن يقضي على المرض والتخلف، ثم عاد فراس ووعد، وكان فراس قد
تدرب على فنون القتال والسيوف والدروع، وأعلن أن القوة قادرة على حل
المشكلات، أما وعد فقد استطاع أن يضع يده على أسباب المرض، وأن يجد الدواء
وسبل الوقاية من المرض بالتوعية والنظافة، ويعلن أن العقل وحده قادر على حل
المشكلات التي تواجه المملكة، وهكذا يطمئن السلطان إلى مصير شعبه، ويعين
وعداً سلطاناً وفراساً وزيراً للحربية وعلاء وزيراً للاقتصاد. ومن الواضح
أن المسرحية درس ولكنه غير مباشر، حول قيمة العقل والوعي في حياة الناس.
ويعالج عبدو ومحمد في مسرحية
«الفتى والحظ» (1986م) حكاية شعبية من منظور تعليمي أيضاً، حين يغادر فتى
أمه طلباً للحظ، غير أنه ما يلبث أن يقتنع بكلام أمه، ويبدأ العمل في أرضه.
5-2- التاريخ:
واهتم المسرحيون بالتاريخ على
سبيل التبسيط وتقريبه من مدارك الناشئة، ولا شك، أن غالبية المسرحيات
المدرسية تاريخية، ومثالها البارز ما كتبه رضا صافي في كتابه «صرخة الثأر»
(1980م)، ويضم الكتاب مسرحيات كتبت ومثلت مراراً في الأربعينيات
والخمسينيات والستينيات، ففي مسرحية «حماة الطريد» تساعد أسرة من حمص
إبراهيم هنانو، بقصد تمجيد الحالة الوطنية في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وفي
مسرحية «بطولات في الأرض الحرام» دفاع مسمر ضد الصهاينة، وتعاون بين الجيش
والمواطنين أدى إلى النصر في معركة التوافيق عام 1960م، وفي مسرحية «جيش
الأطفال» يتعلم أطفال دور الحضانة العد والانضباط، ويتحدثون عن مهامهم في
تحرير الأرض من الصهاينة اليهود.
ولا تختلف مسرحية «جند
الكرامة» لمصطفى عكرمة (1975م) عن هذا السعي في مسرحية الحوادث والوقائع
التاريخية حيث تصور الدفق العاطفي في تسجيل معركة الكرامة بين الفدائيين
والعدو الصهيوني. وهذا ما فعله جان ألكسان في مسرحيته «عصافير الجليل»
(1982م) التي تسجل بطولة الفدائيين داخل الأرض المحتلة في عملية دلال
المغربي.
وقد كان سليمان العيسى سباقاً
إلى مثل هذه الاستجابات المباشرة للعمليات الفدائية وتوثيقها وتخليدها في
ذاكرة الناشئة، ومن أبرز مسرحياته في هذا المجال مسرحيته «قنبلة وجسد»، وقد
بناها على حادثة الفدائي العربي عرفان عبد الله الذي سقطت منه قنبلة يدوية
وهو يبتاع الطعام لرفاقه في عمان، فصاح بالناس ليبتعدوا، وارتمى فوق
القنبلة فغطاها بجسده كي لا تؤذي أحداً. وتصبح المسرحية بعد ذلك تمثلاً في
ذاكرة الأطفال لفعل الفداء والتضحية، ونشيداً لتكريم الشهادة والشهداء:
عرفان عبد الله
يظل في الشفاه
أنشودة رائعة
تجدد الحياة
تبارك الحياة
وتربط الإنسان بالإله
عرفان عب الله
مواكب تسير
وشعلة تنير
في جنبات الوطن العربي
في الزحف
في معركة المصير
عرفان سطر خالد
في قصة التحرير
ووسع عبد الفتاح رواس قلعه جي
تصوير التاريخ إلى مهارة الانتقال بين الأزمنة والأمكنة في مسرحيته «قلعة
حلب» (1979م)، وهي تعليمية محببة عن تاريخ سيف الدولة وأبي فراس والعدوان
على قلعة حلب مستنفراً إرادة البقاء والحماسة لدى الأجيال الجديدة. وكذلك
فعل عبد الغني عون في مسرحيته «هنانو» (1983م) التي تصور مأثرة أبطال
الجلاء في جبل الزاوية والمناطق الأخرى من رحاب سورية، وتبث الناشئة ملحمة
الكفاح العنيد من أجل الاستقلال.
5-3- الأنسنة:
غير أن غالبية المسرحيين
عالجوا موضوعاتهم من خلال أسلوب «الأنسنة» أي إضفاء صفات الإنسان على
الحيوان، ومن أبرز المسرحيين في هذا المجال محمد أبو معتوق الذي صدرت له
مجموعتان مسرحيتان هي «ثلاث مسرحيات غنائية للأطفال» (1984م) و«أوهام حارس
الغابة» (1986م).
يوجه أبو معتوق مسرحياته
لتعليل صفات الأشياء أو لتعريف الأطفال ببعض المعلومات، أو لبث القيم
تلميحاً أو تصريحاً، فمسرحية «أوهام حارس الغابة» عن التعاون ومسرحية
«الفزاعة» معنية باكتشاف الوهم، و«الأصدقاء والغابة» عن التعاون ضد الذئب،
عدو الحيوانات الأليفة، و«عودة الشمس الغائبة» عن فوائد الشمس، و«أنشودة
الطائر» عن صداقة الطيور والأطفال، و«أحزان الزنابق» عن الحفاظ عن البيئة،
و«أنشودة الزنابق» عن حماية الطبيعة.
واستخدم خيري عبد ربه أسلوب
الأنسنة مبكراً. ففي مسرحيته الأولى «الفصول» (1979م)، جعل الفراشات والنحل
تحادث الأطفال عن الطبيعة ودورة الفصول معللاً التغيرات الطبيعية
والمناخية، وأهميتها في ديمومة الحياة ورخاء الإنسان، وطور أسلوبه كثيراً
مستفيداً من «الأنسنة» في مسرحيته التالية «مملكة النحل» (1987م)، ويقدم
فيها شرحاً مبسطاً لعالم النحل المنظم والمبني على حبّ العمل والجهد وتوزيع
المهمات والوظائف الدقيقة من أجل تشكيل أقراص العسل واستكشاف حقول الزهور
ذات العبير والرحيق.
تستضيف مملكة النحل الأطفال،
ويتعرفون على مهمات الخلية والعلاقة بالطبيعة، ويشهدون دفاع النحل عن خليته
عندما يتطفل الدب للحصول على العسل، وينال الدب ما يناله من اللسعات
والهجمات القوية، لتؤكد المسرحية بعد ذلك حب النظام والتعاون والعمل
والطبيعة. ويشرح محمد علي المصري في مسرحيته «الغيمة» كيفية تشكل المطر،
والعلاقة بين الماء والينابيع.
5-4- الحياة اليومية:
أما المسرحيون الذين التفتوا
إلى الأطفال في حياتهم اليومية، وفي مناشطهم، فهم قلة، ومنهم محمد منذر
لطفي في مسرحيته «الحقل السعيد» (1984م) حيث يواجه الأطفال مسؤولياتهم في
الحفاظ على المحصول الزراعي وحمايته بالعلم والمعرفة والتعاون. يفاجأ
الأطفال بذبول جوزات القطن في الحقل الذي أتوا إليه فرحين يأملون بموسم
وفير، وبعد حوار مع الجوزات والحكيم (الحقل) يعرفون أن سبب رداءة الموسم هو
قلة المياه وانتشار الدودة، فيهرع الأطفال لحفر بئر مستخدمين التقنيات
الحديثة لسقاية الحقل، مثلما تبادر طفلة أخرى إلى دعوة الأطفال لرش الحقل
بالمبيدات.
واستطاع إبراهيم جرحي أن يدمج
الأطفال في الموضوعات المختلفة تثقفاً بمحتواها المعرفي القيمي والسلوكي،
فتنبثق أصوات الأطفال من رغبتهم المتجددة في التعرف واكتشاف العالم من
حولهم، وربما لم يوفق دائماً، وبالمقدرة إياها، في مخاطبة روع الأطفال،
ولكنه يخوض مع الأطفال وهم يلعبون ويحركون ويرقصون ويغنون ويعزفون رحلة
البحث عن معنى الأشياء وصفات الكائنات والقيم الأساسية، وقد حقق بعض
تطلعاته في مسرحياته «الأطفال ينشدون على الشاطئ موج البطولة» (1981م)،
و«لوحة الغابة» (1982م) و«لوحة الميناء» (1983م) و«الأطفال في دورة ألعاب
المتوسط» (1988م) و«اللاذقية والتاريخ» (1989م). تحفل مسرحيات إبراهيم جرجي
بالمعلومات التاريخية والصور الحضارية لمدينة اللاذقية وعراقتها ومعالمها
وأوابدها من خلال اقتراب وعي الأطفال منها.
ويؤثر هيثم يحيى الخواجة وضع
الأطفال في مواجهة الحياة اليومية والممارسة القيمية التي يتعرف فيها
الأطفال إلى معنى القيم بأنفسهم من خلال مواقف مباشرة وحسب النظرية
التربوية القائلة بلعب الأدوار، حيث يتمثل الأطفال المعاني السامية
للمنظومة القيمية، ففي مسرحية «القاضي الصغير» توكيد على ضرورة الحذر من
الوقوع فيم كائد المحتالين، وعلى مناصرة الصدق والحق، ودعوة إلى حسن التصرف
والتدبير، وإدانة الغش والكذب والاستغلال.
وفي مسرحيته «القطة السوداء»
يلتقي الصديقان «فادي» و«رامي» ليحكي أحدهما للآخر حكاية جميلة، فتكون
حكاية «القطة السوداء» يرويها فادي إثر سماعها من العم درويش، لترميز
الحكاية إلى ضرورة التضامن العربي والتعاون الاقتصادي لمواجهة الأطماع
الأجنبية، وتؤكد على العمل المشترك من أجل البناء السليم والحياة السعيدة.
وإلى هذا النوع من المسرحيين،
كتب محمد معشوق حمزة مسرحياته «شجرة الأصدقاء» (1983م) و«الأطفال يلعبون»
(1985م) و«البستان للأطفال» (1986م) وفي هذه المسرحيات، يضع معشوق حمزة
الأطفال في مواقف التنمية الشخصية والاجتماعية مما يدعوهم إلى الإسهام في
حل مشكلات تنمية مجتمعهم، وتكون هذه المواقف في الوقت نفسه سبيلاً لاكتساب
الأطفال القيم الأخلاقية والسلوكية والاجتماعية الحميدة.
6- ملاحظات فكرية وفنية
وتربوية:
أما الملاحظات الفكرية
والفنية والتربوية على التأليف المسرحي للأطفال في سورية فنوجزها فيما يلي:
6-1- اللغة:
ثمة ميلان، الأول يقارب
الاعتبارات التربوية والفنية في مخاطبة الأطفال حسب المراحل العمرية، وفي
مقدمة هؤلاء المسرحيين عيسى أيوب وصالح هواري ومحمد معشوق حمزة وعادل أبو
شنب.
والثاني يوافي هذه
الاعتبارات، ولكن آثار الكتابة للكبار ما زالت عالقة، كما عند فرحان بلبل
ومحمد أبو معتوق، قد دافع عن الميل بعض الشعراء أمثال مصطفى عكرمة وحامد
حسن بسبب صعوبة توصيف لغة الأطفال من جهة، وبسبب ضرورة حفظ الطفل للغة
صغيراً ثم يفهمها كبيراً، وهي نظرية تربوية تبنتها المؤسسة التربوية في
سورية، ومنظرها الرئيسي سليمان العيسى، حيث يجد الأطفال صعوبات لا تخفى في
تفهم مفردات أدب الأطفال وتراكيبه.
ومما يجد ذكره أن الكتابة
المسرحية للأطفال بالفصحى هي السائدة، وكانت حالة نادرة أن طبعت كوليت خوري
كتابها المسرحي بالعامية. أما معظم المسرحيين فيرون الكتابة بالفصحى عاملاً
نضالياً، بالإضافة إلى ضرورتها الاتصالية.
6-2- الشعر:
كتب غالبية المسرحيين
مسرحياتهم شعراً يغنى، وقد كسب مسرح الأطفال كثيراً بانضمام الشعراء إلا
قائمة منتجيه. إن عدد المسرحيات الشعرية الغنائية يفوق عدد المسرحيات
النثرية وهذا ما يجعل إقبال الأطفال على المسرحيات متنامياً. ويستطيع المرء
أن يختار مجموعة مسرحيات شعرية جيدة مما كتب خلال العقدين الأخيرين. وثمة
مزية أخرى لهذه المسرحيات هي اختبارها من خلال عروضها المستمرة في
المهرجانات والمناشط وقنوات التلفاز.
6-3- التبسيط والأسلوب:
تعاني غالبية مسرحيات الأطفال
في سورية من ولع كتابها بالتبسيط من جهة، والترميز من جهة أخرى، ولعل مرد
ذلك كلّه إلى التبعات الثقيلة التي أراد هؤلاء الكتاب أن تحملها هذه
المسرحيات، فاتصفت المسرحيات بالجدية، وغالباً ما تكلم الصغار مثل الكبار،
وفكروا بحلول أكبر من عمرهم للمشكلات المطروحة، ونطقوا بالحكمة والآراء
السديدة في حصيلة المواقف التي تعرضوا لها. وهذا أمر طالما قلل من مكانة
الكتابة العربية للأطفال.
قد يكون وراء ذلك حرص على
التوجيه القيمي والتربوي، ولكن متى كانت الكتابة للأطفال كلها بالأساس
دروساً في التربية والقيم؟. إن ثمة اعتبارات تربوية لابد منها، وتتبادل
التأثير مع الاعتبارات الفنية، غير أن الوعي بمخاطبة الأطفال يعني فهم
الطفل وفهم عالمه ومكونات هذا العالم اللغوية والتخييلية والنفسية بالدرجة
الأولى. إن الكتابة للأطفال تنبثق من عين الطفل ووجدانه ومداركه النامية،
بما يجعلها أرب إلى ذوب التجربة الحياتية والفكرية تضعها في ذلك السهل
الممتنع من التأليف الأدبي للأطفال.
وقد لاحظنا أن غالبية مسرحيات
الأطفال ترمز لمنظومة أسلوبية «كالأنسنة» برمتها إلى قيم مباشرة وصريحة،
وهناك اليوم عشرات المسرحيات التي تبني أطروحتها المرمزة إلى الاحتلال
الصهيوني لفلسطين من خلال أسلوب «الأنسنة» كما عند سليمان العيسى وعيسى
أيوب وصالح هواري وعلي مزعل ومحمد أبو معتوق ورضا صافي وغيرهم.
ليس التبسيط أو الترميز كله
مما يفسد الكتابة المسرحية للأطفال، ولكنه بالتوكيد يقلل من قابليات نداوة
المسرحية ويحصرها بفكرة غير قابلة للتجسيد أو الملموسية في بعض الأحايين.
ولعل ذلك كله من آثار التعلق بشرف الموضوع على حساب التعبير الفني وتجسيدها
على المسرح.
6-4- الموضوع:
اعتنى المسرحيون بالموضوعات
قبل كلّ شيء، ولا سيما الموضوع القومي والوطني. وتكاد تكون غالبية
المسرحيات، تلميحاً أو تصريحاً، واقعية أو تاريخية، أو تسجيلية، أو على
لسان الحيوانات، أو سرداً يستفيد من التراث، معنية بهذا الموضوع، إن إبداع
سليمان العيسى موجه إلى زرع قيم الأصالة والقومية والوحدة العربية في وجدان
الأطفال. أما مسرحيات عيسى أيوب ورضا صافي وصالح هواري وخيري عبد ربه
ومصطفى عكرمة ومحمد أبو معتوق وجمانة نعمان فهي تعالج الموضوع القومي
والوطني بالدرجة الأولى. ولا يفترق بقية المسرحيين عن هذا الاتجاه. ويعتقد
غالبية المسرحيين أن معالجة هذا الموضوع هو الأقرب لتمثل المنظومة القيمية
والشعبية، عندما تصير قيم الدفاع عن الوطن والتشبث بالأرض والفداء والتضحية
والشهادة مقاربة للقيم الأخلاقية والسلوكية والاجتماعية، بل إن القيم
المعرفية، أي تحصيل المعارف والمعلومات والأفكار، تلبس لبوس القيم القومية
في كثير من المسرحيات وهذا واضح في نصوص عيسى أيوب وخيري عبد ربه ومحمد أبو
معتوق وجان ألكسان ونور الدين الهاشمي وسلام اليماني وإبراهيم جرحي وشريف
ناصيف.
إنّ شرف الموضوع ونبله من
علامات الكتابة الجيدة للأطفال، وليس هناك أشرف وأنبل من الموضوع القومي
والوطني، وقد أنجز المسرحيون في سورية مسرحيات مهمة في هذا الميدان، لا
يقلل من قيمتها إلا تلك التبعات الثقيلة التي تبهظ المسرحيات بالتوجيه
القيمي والتربوي الصريح والمباشر.
7- المؤلفون:
كتبت تمثيليات مدرسية كثيرة
من قبل المربين حتى نهاية الستينات، ولم يطبع منها إلا القليل جداً أو
النادر، كما فعل رضا صافي ونصري الجوزي ثم بدأ إقبال الأدباء على الكتابة
لمسرح الأطفال منذ نهاية الستينيات، ومن أوائل هؤلاء المؤلفين عادل أبو شنب
وسليمان العيسى وعيسى أيوب ومصطفى عكرمة.
وشهدت السبعينيات إقبال أدباء
آخرين على التأليف لمسرح الأطفال مثل نصر الدين البحرة وفرحان بلبل (له
ثلاث مسرحيات) وخيري عبد ربه (له أربع مسرحيات).
أما فترة الثمانينيات، وبفضل
منظمة الطلائع ومهرجانها السنوي، فزاد عدد المسرحيين إلى أكثر من عشرين
كاتباً وفي مقدمتهم صالح هواري (له أربع مسرحيات) ومحمد أبو معتوق (له أكثر
من 15 مسرحية) ومحمد معشوق حمزة (له أكثر من ست مسرحيات) ومحمد منذر لطفي
(له أربع مسرحيات) وشريف ناصيف (له أكثر من عشر مسرحيات) وإبراهيم جرجي (له
أكثر من عشر مسرحيات) ونور الدين الهاشمي (له خمس مسرحيات) وسلام اليماني
(له خمس مسرحيات) وكمال عبد الكريم (له أكثر من سبع مسرحيات)، وهيثم يحيى
الخواجة (له أكثر من سبع مسرحيات)، وهيثم يحيى الخواجة (له أكثر من خمس
مسرحيات). وثمة ملاحظة مهمة في هذا المجال، وهي أن مسرح الأطفال، باستثناء
«مسرح العرائس» و«مسرح الأطفال» في وزارة الثقافة، قد اعتمد على المسرحيات
المؤلفة المحلية والعربية، والمعدة عن قصص عربية قديمة أو حديثة (لزكريا
تامر وطالب عمران وليلى صايا على سبيل المثال).
وكانت هناك حالات قليلة قدمت
فيها مسرحيات مترجمة، ولم أقع إلا على أسماء أجنبية قليلة أعدت مسرحيات عن
أعمال لهم أمثال بوشكين وانييد بلايتون وك. م. فالو ورونالدجو.
ونعرف هنا بأبرز كاتبين لمسرح
الأطفال وهما سليمان العيسى (له أكثر من 25 مسرحية) وعيسى أيوب (له أكثر من
35 مسرحية). وكنا أشرنا إلى أكثر أعمال المسرحيين الآخرين في البحث:
7-1- سليمان العيسى:
نقل سليمان العيسى التأليف
المسرحي للأطفال من تبسيط ومحدودية المسرح المدرسي وتمثيلياته التعليمية
الشارحة إلى فضاء مسرح الأطفال الفسيح، ورسخ، في جهد ريادي أصيل، لبنات
مسرح الأطفال في سورية فناً رفيعاً يحمل رسالة قومية صريحة بلغة راقية
معتنى بها قابلة للتمثيل والغناء ومشاركة الأطفال أنفسهم. كتب سليمان
العيسى منذ عام 1969م حتى مطلع الثمانينات أكثر من عشرين مسرحية غنائية
للأطفال أولها «المستقبل» وآخرها «الغربان في بستان العم أبي سلمى»
(1981م)، وبينها مسرحيات طويلة هي من تراث مسرح الأطفال العربي اليوم،
أمثال: «أحكي لكم طفولتي يا صغار» (1977م)، والحلم الصغير، القطار الأخضر»
(1975م)، «والصيف والطلائع» (1977م) و«المتنبي والأطفال» (1978م).
خصّ العيسى مسرحياته كلّها
بالموضوع القومي، ولا سيما الوحدة العربية، وربما كانت مسرحيته «الحلم
العظيم، القطار الأخضر» نموذجاً لتأليفه المسرحي، فهي عن حلم الوحدة
العربية، حلم الوطن العربي الواحد، ويذكر العيسى بعبارة توكيدية:
«إنه حلمي العظيم الذي وقفت
له العمر، وتجربتي القومية التي أتنفس بها، وأعيش من أجلها يا أصدقائي
الصغار» ويصارح العيسى أصدقاءه الصغار، وهو يكسر جدار الإيهام معهم، أن
يتحركوا «ليحطموا الحواجز والسدود التي أقامها الاستعمار الأسود بين شرايين
هذا الجسد العربي الواحد، هذا الوطن العربي العظيم، ويبنوا الوحدة» وحدة
الملايين الفقيرة المحرومة الضائعة، التي تنقذنا وحدها من كلّ ما تعانيه و
تجعلنا بشراً».
إنها كلمات كبيرة قد لا تصل
إلى وعي الأطفال إلا في سن معينة، ولكن العيسى، كما هو الحال في شعره، يؤمن
بأن الأطفال يحفظون الكلام، ويدركونه مع الدربة والمران واغتناء التجربة
وتقدم السن، ولا خوف من ذلك.
وكان أشار العيسى في تعليماته
لمسرحياته، إن مقدماته وتعليقاته النثرية جزء لا يتجزأ من هذه المسرحيات،
وهو حريص أن يوضح أهداف ومغازي مسرحياته، والقيم التي يتوخاها، ويشرح
جانباً من أسلوبه التعبيري أو الرمزي، ففي كلمة على هامش مسرحيته «الصرصور
والنملة» كتب ما يلي:
«قصة الصرصور والنملة
معروفة.. حفظناها ونحن صغار..
كان الصرصور رمزاً للكسل.
لماذا؟
لأنه يقضي الصيف كلّه في
الغناء. وكانت النملة رمز الجد والعمل.
لماذا؟
لأنها تجمع باض الحب من وراء
مناجل الحصادين..»
ويضيف شارحاً: «الصرصور في
هذه المسرحية رمز الشاعر.. رمز الفنان الذي يهب الناس حياته كلّها، لا يحسب
لغد حساباً. إنه شاعر الحصاد، وصديق الفلاحين، يضاعف بغنائه نشاطهم، ويزيد
من إنتاجهم، ويسكب البهجة والمرح في نفوسهم، فإذا الصيف أفراح والحقل كنوز
تتدفق».
أما طريقته في التأليف، فإنه
يحافظ على موقف درامي للطفل، يتفاعل مع جو المسرحية وأحداثها، فتبدأ مسرحية
«الحلم العظيم ـ القطار الأخضر» من مماثلة طفلية حين يطلب الطفل نزار إلى
أبيه أن يشتري له، في عيد ميلاده قطاراً أخضر، يسميه قطار الوحدة، يربط
جناحي الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وتبدأ رحلة نزار، وتبدأ معها
أناشيد المسرحية، ويصل القطار إلى دمشق، ويحط في لبنان، ويطل على حدود
فلسطين، ويتلقى برقية من أطفال غزة، ويغني للأطفال، ويتوقف في الخليج
العربي، ويتلقى برقية من أطفال القدس العربية.
ثم يؤلف أطفال القطار الأخضر
قيادة عربية جماعية، بعد مجاوزتهم محطات عربية أخرى، ويصل القطار الأخضر
إلى القاهرة، ويتكلم في ليبيا، ويتلقى ثلاث برقيات هامة من أطفال الصومال
وأطفال أريترية المناضلة ومن أطفال اليهود الفقراء في فلسطين المحتلة الذين
يفضحون أكاذيب دولة العدوان والغزو النازية «إسرائيل»، ويتوقف القطار
الأخضر في الجزائر والمغرب العربي ويعود إلى بغداد.
تعرف الأناشيد في مشاهد
المسرحية الأطفال على خارطة وطنهم العربي، وتكشف لهم عن زيف الحدود، وتغني
معهم عن مآثر البطولة والحرية والمجد في كل أرض عربية مرددين بصيغ متعددة
وهج حلم الوحدة المنقذ من التخلف إلى الحياة العربية الكريمة، كما في هذا
النشيد:
ونحن قادمون
بالشمس قادمون
بالحب قادمون
بالوحدة الخضراء قادمون
يا رملنا العظيم
أخرج بما في صدرك العظيم
أخرج إلى الغرب
وجدد النسب
وأدفق دماً وقوة
في الجسد العظيم
وظف العيسى مسرحياته كلّها
للتطلع القومي الوحدوي، فهي نوع من الموثبات التي تحفز الأطفال إلى بعث
أمجاد الأمة العربية، والإيمان بها والعمل في سبيل نصرة قضاياها، حتى بدت
مسرحياته أقرب إلى نص واحد صيغ عدة صياغات، يختزله حيناً، ويسترسل فيه
حيناً آخر، ويغنيه بهمس شجي حيناً، وبصوت متفائل غالباً، ففي ختام مسرحية
«المتنبي والأطفال» على سبيل المثال، ينشد الأطفال جميعاً مع المتنبي:
نحن طلائعك الثورية
يا أرض الأحرار
نرفع رايات الحرية
نهتف للأحرار
عاشت ثورتنا العربية
ولتخضر الدار
ولتخضر الدار
ولتبث الشمس العربية
ساطعة الأنوار
ساطعة الأنوار
ساطعة الأنوار
أجل، مسرحيات سليمان العيسى
الغنائية للأطفال مسرحية واحدة في نشيد طويل عن العروبة والأمل بالنصر
وتحقيق الوحدة يغنيها الأطفال في مستوى واحد من اللغة والأداء وحدود الخيال
الموجه، وإن وزعت إلى أحداث وشخوص وتوهم موضوعات متباينة.
7-2- عيسى أيوب:
برز عيسى أيوب شاعراً للأطفال
منذ عام 1969م حين عرضت مسرحيته الغنائية للأطفال «زنوبيا» في المهرجان
الثاني للمسرح المدرسي بحمص، وفي هذه المسرحية تبرز اهتماماته وطريقته في
التأليف المسرحي، فهو يستفيد من التاريخ والتراث لينفح الأطفال نبرة قومية
تبعث الاعتزاز بالماضي، وتستجلي صورة الناصعة، وهي في كتابته يمزج الشعر
بالنثر، ويستخدم الأوزان الراقصة حيث يرافق الأداء عروض للرقص الشعبي
والإيقاعي، ثم يتداخل التعبير الجدي مع الروح الفكاهية الخفيفة التي ستتوسع
في أعماله القادمة.
وكان عمله المهم الثاني
مسرحية «القطار» (1971م) التي قدمت في المناشط المدرسية بحمص، وفي عام
1975م عرض التلفزيون العربي السوري مسرحية للأطفال «ساعي البريد» (1975م)،
وهي تعالج مساعدة الأطفال لذويهم في الريف، وتلتها مسرحية «القنيطرة»
(1979م) التي قدمها الأطفال بأنفسهم، وسجلها التلفزيون أيضاً، وفازت بجائزة
قومية في مهرجان مسرح الطفل بتونس في العام الدولي للطفل.
ثم اغتنت تجربة عيسى أيوب
فنياً و فكرياً ولغوياً. وتعد مسرحية «القلعة» (1982م)، وهي تطوير لمسرحيته
«زنوبيا»، وهي من المسرحيات القليلة التي تخاطب الأطفال بلغة مناسبة،
وتستنهض وجدانهم من أقرب المدارك لوعيهم. إنها رؤية جديدة معاصرة تستثير
خيال الأطفال حول مواقف زنوبيا ملكة تدمر، وتثمن إرادة القتال دفاعاً عن
الوطن بأبسط الأدوات (الخيل والحجارة والمقالع)، وهي إرادة تجلت فيا لملاحم
بين الجيش والشعب، وتشرح المسرحية أفعال المستعمرين، وتنادي قيم مواجهة
الاستعمار والمحتلين الذين لا تتغير أساليبهم، وإن تغيرت أسماؤهم.
واستطاع عيسى أيوب بمسرحياته
أن يقرب قيم التراث من وعي الأطفال كما هو واضح في مسرحيته «عروة بن الورد»
وهي سيرة شاعر عربي معروف بتمرده على واقع سيء، فالتف حوله الفقراء
والبسطاء من الناس في عملية تنوير جذرية لمجتمعهم.
ويتأمل عيسى أيوب مصير الفعل
الثوري في مسرحيته في لحظة تأزمه، عندما يعرض عم عروة عليه المواشي والمال
مقابل أن يتخلى عن قيمه الثورية، لكنه يرفض، ويحرم من الثروة والإرث، ويضيق
الخناق عليه. غير أنه ينتصر في النهاية، وتترسخ المبادئ التي دافع عنها في
ضمير البؤساء الذين يأملون بالخلاص من واقعهم السيء.
ومنذ ذلك العام، أصبحت
مسرحيات عيسى أيوب الأكثر تجسيداً على خشبات مهرجان الطلائع السنوي، فقدم
له أكثر من 22 مسرحية بين عامي 1981م و1990م، من أبرزها «صوت الطفل العربي»
و«الملك والربيع» و«جحا في عيد المناشط» (1981م). و«أسرار الكروم»
و«الأميرة وقطرة الماء» (1984م) و«الحسون في عيد الزينة» و«الرغيف» (1985م)
و«المصباح» (1986م) و«جحا يزن أفكاره» و«في المطار» (1987م)، و«زهرة
الصحراء» و«هدية الهدايا» و«عروة بن الورد» (1988م). و«الحرية» (1990م).
«السجادة» (1990م)، وهي تجسد قيمة العمل وضرورة ربط عطاء الإنسان بمجتمعه،
ولعل قيمة معالجة أيوب لهذه الحكاية تكمن في أنه لا يقحم أفكاره على النص،
بل يجعل المقاصد والمغازي في مقدرة الأطفال على تلقيها. وتتحدث المسرحية عن
شاب أراد أن يتعلم مهنة القضاء، وهي مهنة والده، لكن والده، القاضي فضلون
رهن ذلك بإتقانه لحرفة أو صنعة السجاد، ويتعرض ابن القاضي لمآزق عديدة
تنجيه منها سجادة صنعها بيده، وتنتهي المسرحية بتوكيد المغزى.
وساهم عيسى أيوب في
الثمانينات بتأسيس فرق فنية اختصت بتقديم عروض مسرح الأطفال منذ عام 1985م
بالتعاون مع مخرجين وممثلين أمثال محمد سعيد الجوخدار وسمير الشمعة وسمير
الحكيم ورامز عطا الله وزيناتي قدسية وقدمت له مسرحيات «الصندوق والأقفال
الثلاثة» (1985م)، و«المزرعة» و«الاعتذار» (1986م) و«الديك الطائش» (1987م)
و«الاحتفال» (1988م) و«فروة الثعلب» (1989م) و«أنشودة المحبة» و«السجادة»
(1990م) وعرضت هذه المسرحيات في غالبية المحافظات وفي بعض الأقطار العربية،
وهناك أكثر من عشرين مسرحية منها مطبوعة ضمن الكتب الصادرة عن منظمة
الطلائع. وللتعرف إلى موضوعات أيوب وطريقته في التأليف، نعرف لهذه
المسرحيات، ففي مسرحية «الصندوق والأقفال الثلاثة» على سبيل المثال، يستعيد
صورتي جحا وأشعب وطرائفهما المسلية في إطار هدف قومي هو محبة الوطن والدفاع
عنه والاستشهاد في سبيله.
وفي مسرحية «المزرعة» يجمع
الحيوانات في مواجهة صاحب المزرعة، ويعرض مقولات تربوية أخلاقية وسلوكية
قومية لقد قرر صاحب المزرعة أن يبيع الحيوانات، ولكنه عدل عن قراره، لأنها
تضامنت ووقفت في وجه اللصوص الذين يسرقون المزرعة.
ويعالج في مسرحيته «جحا في
عيد المناشط» قيماً أخلاقية وسلوكية داعياً إلى التعاون والوفاء وإسعاد
الآخرين، من خلال حكاية مؤلفة يزور فيها جحا ساحة العيد. ومعه حماره
المعروف بمشاكسته، وكان هناك شرط للمشاركة في العيد لا ينطبق على حمار جحا،
فيلجأ الأخير للمغامرة مستعملاً ذكاءه لتحقيق هذا الشرط لأنه، لوفائه، لا
يريد أن يفرح بالعيد وحده، بعيداً عن حماره، وهكذا يسعد الجميع وهم يشاركون
الأطفال عيدهم.
ويحسن عيسى أيوب إعادة
موضوعات الحكاية الشعبية بروح جديدة تنبع من التركيب الجديد للحكاية وتشيع
القيم المرجوة، في مسرحيات أيوب، تتنوع سبل الأداء وأساليب التأليف، من أجل
قيم واضحة لا تخلو من مباشرة، وتدعو الأطفال إلى المحبة والتضامن وإعلان
شأن الدفاع عن الوطن والتشبث بالأرض، وتنطلق مسرحياته من الخبرة في مخاطبة
الأطفال تراعي في صياغتها الاعتبارات الفنية، وإن غالت كثيراً في التوجيه
التربوي على حساب عفوية دراما الطفل في بعض المواقع. ويعتمد غالباً على
أسلوب «الأنسنة»، ويخالط مسرحياته على وجه العموم مناخ من التراث الشعبي
ليبني منه مشهدية تقترب من روح الفكاهة.
يفلح أيوب في تنظيم المشهدية
وتنامي الفعلية والانتقال من مشهد لآخر، ويصنع شخصيات مقنعة قريبة من عالم
الأطفال، ويلوذ بغنى التحليل النفسي، وهو يستند إلى خبرة عملية لا تخفى في
بناء الحركة المسرحية.
8- الخاتمة:
وفي ختام هذا البحث، يلاحظ
المرء أن تطوراً كبيراً طرأ على مسرح الأطفال في سورية في العقدين الأخيرين
جعلت المسرح في صلب الجهود المبذولة للتنمية الثقافية والتربوية، ولا شك في
أن المسرحيين الذين نهضوا بهذا المسرح فيما بين 1975 و1985م، وأغلبهم
مربون، قد أنجزوا قدراً غير قليل من مسؤوليتهم إزاء ثقافة الأطفال. وقد
لاحظنا أن عمل المؤسسات الثقافية، كوزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب،
والتنظيمات التربوية هو الأكثر رسوخاً في نماء هذا المسرح وتشجيعه وانتشاره
بين جماهير الأطفال. وبيّنا، من جهة أخرى، أن مسرح الأطفال لم يترسخ بعد في
التقاليد المسرحية والتربوية في آن معاً. ومن المأمول أن يؤدي هذا التطور
الكبير إلى النهوض المرجو بمسرح الأطفال، وثمة علامات طيبة كثيرة كشف عنها
البحث تبين ذلك بجلاء.
المصادر والمراجع:
1-المسرحيات:
1.
أبو شنب، عادل: «الفصل الجميل»، منشورات دار مجلة الثقافة، دمشق، 1960.
2.
أبو شنب، عادل: «السيف الخشبي» (قصص ومسرحيات للأطفال)، منشورات وزارة
الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1975، (وفيه مسرحيتان هما «ملك الغابات»
و«أهل التفكير وأهل التدبير».
3.
أبو شنب، عادل: «معطف الإخفاء» (حكايات وحواريات للأطفال)، منشورات وزارة
الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1976. وفيه أربع حواريات عن حكايات من
ألمانيا وروسيا وأفغانستان واليابان).
4.
أبو معتوق، محمد: «ثلاث مسرحيات غنائية للأطفال» (الأصدقاء والغابة - عودة
الشمس الغائبة - أنشودة الطائر)، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي،
دمشق، 1984.
5.
أبو معتوق، محمد: «أوهام حارس الغابة» (وفيه مسرحيات أخرى: أنشودة الثلج -
الفزاعة - أنشودة الزنابق - الجدة - أحزان البحر)، منشورات وزارة الثقافة،
دمشق، 1986.
6.
أبو معتوق، محمد: «أنشودة الخوذة ومسرحيات أخرى» (وفيه 8 مسرحيات) الدار
الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، الجماهيرية الليبية، 1990.
7.
إسماعيل، إبراهيم عز الدين: «تمثيليات كليلة ودمنة»، مكتبة النهضة، بغداد،
دار الكاتب العربي، بيروت، (د.ت).
8.
ألكسان، جان: «عصافير الجليل»، منشورات منظمة طلائع البعث، دمشق، 1984.
9.
أيوب، عيسى: «القلعة» (أوبريت)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1983.
|