أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 02/09/2022

دراسات أدبية للكاتب: د.عبد الله أبو هيف

المسرح العربي المعاصر

إلى صفحة الكاتب

لقراءة الدراسات

 

 

الدراسات

الباب الثالث - تجارب

الباب الثاني - رؤى

الباب الأول - قضايا

المقدمة 

الخاتمة

 

المسرح العربي المعاصر

 قضايا ورؤى وتجارب

 

المُقَدِّمَة

 

يضم هذا الكتاب مختارات من أبحاثي ومقالاتي عن المسرح العربي المعاصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهي مرحلة صعوده وانكساره في الوقت نفسه، فقد شهد نهوضه في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، ثم عانى من عوامل التراجع تحت وطأة العلاقة مع المتغيرات السياسية والاجتماعية والدولية. مثل شيوع العنف والإرهاب في النظرية والممارسة وأنماط الحياة والمعيشة، ناهيك عن التأثير الباهظ للتطور التقني وتفجر المعلوماتية وثورة الاتصالات مما ضيق على الثقافة الرفيعة والأصيلة والحقة التي آلت في ظل العولمة الراهنة إلى مكانة أدنى من الإعلام وقنواته المتعددة والمتنامية احتلالاً طاغياً لفاعلية الثقافة في التكوين الإنساني القيمي النبيل. ومنها المسرح أبو الفنون، وأولها الأدب. فكان فحوى هذه الأبحاث والمقالات شديد الاتصال بالشواغل العميقة والجوهرية في تطور المسرح العربي المعاصر، ولاسيما قضايا الهوية والتقاليد والتجديد والتأصيل والمسرح سبيلاً لوعي الذات والمثاقفة الحضارية المسرحية، مثلما نظرت في قضايا أخرى ذات تأثير كبير في واقع المسرح العربي ومستقبله مثل قضية النقد المسرحي والكتابة الموسوعية عن المسرح ومعاينة تطور المسرح وتقصي أشكال الخطاب المسرحي لجمهوره العام والخاص، كما هو الحال مع مسرح الأطفال الذي جاوز حدود التربية كثيراً إلى آفاق فكرية وفنية متعاظمة التأثير. وتوقفت ملياً عند مكانة المسرح في التفكير الأدبي العربي المعاصر.

 

وتتبعت في الباب الثاني «رؤى» عدداً من المنظورات النقدية حول الثقافة العربية دخولاً في شجون الحركة المسرحية في أبعادها المختلفة: التأليف، النقد، الظاهرة المسرحية والظاهرة الاجتماعية، نظرة الاستعراب إلى المسرح، الترجمة والتعريب، التبادل المسرحي العربي والدولي، علاقته بالفنون الأخرى، الثقافة والتثقيف، مشكلات التواصل المسرحي العربي، المسرح الغنائي، مسرح الأطفال، التراث، التظاهرات، الروافد العلمية، على أن تناول هذه الأبعاد لا يخرج عن تأمل معضلات الهوية القومية.

وخصصت الباب الثالث للنظر في بعض تجارب المسرحي العربي تأليفاً وعرضاً وبحثاً ونقداً، وهي تجارب منتقاة دالة على سمات الإبداع المسرحي العربي المعاصر، وقد اخترتها من عشرات الأبحاث والمقالات والمراجعات النقدية المكتوبة منذ عام 1970( ) حتى اليوم، وتنتمي هذه التجارب إلى أقطار عربية متعددة من المغرب والجزائر وتونس إلى مصر ولبنان وفلسطين وسورية والعراق. ولعل هذه التجارب أقرب إلى العلامات عن حال المسرح العربي المعاصر، لأنها من تيارات مختلفة وأجيال متعاقبة ومستويات متباينة في التأصيل والتجريب، وتستوعب الخصائص الأكثر تعبيراً عن سعي المسرحي العربي للتحقق الذاتي.

 

وقد حرصت في كتابة هذه الأبحاث والمقالات على البعد القومي بالدرجة الأولى الذي لا أراه مفترقاً عن البعد الجمالي، ودأبت باستمرار على التزام المنهج العلمي في رؤية المسرح العربي المعاصر على أنه السبيل للرؤية الفنية، ويتبدى ذلك في المقالات المكتوبة لقنوات الاتصال الجماهيرية مثل الصحافة، فثمة عناية بالغة بالتوثيق من جهة والبعد الاتصالي من جهة أخرى ضمانة لسيرورة الانتشار وجدوى الكتابة.

دمشق آب 2002

 

 

البـــاب الأول - قضــايــا

1

التقاليد والتجديد

في المسرح العربي المعاصر

مايزال المسرح العربي يبحث عن صوته الذاهب في معضلة الصراع بين التقاليد والتجديد التي أفضت منذ طلائع النهوض القومي في القرن الماضي إلى هاجس يؤرق المثقفين والمسرحيين العرب، وقد أنجب هذا الهاجس المؤرق الكثير من التجارب والمحاولات، والقليل من الإنجازات في إطار شاغل دال على القلق المتصل إلى وقتنا الحاضر، وأعني به: هوية المسرح العربي( ).

 

-1-

ثم صار هذا الهاجس إلى حساسية نامية فعلت فعلها في تطور الحركة المسرحية مما جعل المسرح يتبادل التأثير، وغالباً على نحو مباشر، مع الحياة السياسية والاجتماعية العربية. وعبثاً يستطلع المرء ملامح الحركة المسرحية بمعزل عن حاضنتها الاجتماعية والثقافية، فقد امتزج حلم المسرح بأمل تحقيق الذات العربية، وغدت شواغل الوجود العربي في تطلع رجال المسرح إلى نهوض مسرحي يواكب النهوض القومي، ولاسيما مساعيه الوظيفية، حيث ارتبطت قضية التأصيل بإلحاح ملفت للنظر بقضية المعاصرة. وهكذا، واجه المسرحيون العرب مشكلة بناء مسرحي متكامل المصادر والطبيعة والوظيفة في أرض انقطعت عنها التقاليد منذ زمن طويل، وافتقدت صورة مسرحها التاريخي بعد ذلك، لذا، أصبحت استعادة تلك الصورة القديمة في أساس إشكالية التجديد المرجو. إن حاضر المسرح العربي اليوم هو نتاج إشكالية تاريخية ونقدية استنفرت خلال أكثر من مائة عام المجهود المسرحي في التراث العربي وتراث الإنسانية على حد سواء بقصد الإجابة عن سؤال تأصيل الظاهرة المسرحية الملحاح: هوية المسرح العربي.

 

فأي تقاليد للمسرح العربي؟ وأي تجديد؟ أين ظهورها واختفاؤها؟

لعلنا نتابع البحث نفسه في تلك التجارب والمحاولات الكثيرة، وفي تلك الإنجازات القليلة.

 

-2-

تظهر التقاليد المسرحية في جماع العمل المسرحي: في الأدب المسرحي وعلى خشبة المسرح، وفي رأي غالبية المسرحيين العرب أن المسرح العربي يكتشف أرضه بسرعة ويتطور، إلا أنه تطور غير مرض. لقد جرى الإقرار تصريحاً أو تلميحاً بتواضع الحركة المسرحية العربية تمهيداً للإقرار بحاجة المسرح العربي إلى تقاليد راسخة تجعل من مسألة تطوره وتكوين شخصيته المستقلة بعد ذلك أمراً مقضياً. يقول ألفريد فرج:

«نحن لا يمكننا أن نكون قانعين بما أنجزه المسرح العربي، ونود أن نواجه مشكلاته الحقيقية في سبيل إرساء هذه التقاليد المكونة لشخصيته. لقد خطا المسرح العربي خطوات صنع بها تقاليد أو صنع بها قدراً من التقاليد، ولكني أحب أن أحدد حجم هذه التقاليد وإيجابيتها بحجم الجمهور الذي استطاع أن يجتذبه وأن يؤثر فيه. أي بمقدار ما يحقق فن المسرح حضوراً في المجتمع». ويؤكد الطيب العلج أننا بصدد البحث في هوية. ويجب أن نقف وقفة تأمل عند واقعنا الحاضر، فلا نبخس أشياءنا، ولا نغبن إبداعنا، فمسرحنا بالقياس إلى عمره الزمني القصير يمكن أن نقول وبلا غرور: إنه طامح جامح، وبكل خير. ويرى وليد إخلاصي أنها مرحلة تجريب وعلينا أن نتكلم في العقل المسرحي أو العمل المسرحي المعروض، والتجريب المستمر سيقود إلى التفرد. ويقول هاني صنوبر:

«طبعاً لا، لم يستطع المسرح العربي المعاصر أن يرسي تقاليد لهوية المسرح العربي».

 

ويلاحظ فرحان بلبل أن من الادعاء القول بالإيجاب لأن التقاليد لا تنشأ إلا من خلال تراث مسرحي عريق، ونحن أمة ما تزال جديدة على هذا الفن، وما زال كتّابنا وممثلونا ومخرجونا يفتشون عن أنفسهم من خلال العمل المسرحي. ويؤكد جمال أبو حمدان الآراء إياها مؤيداً أن تجربتنا ما زالت حتى الآن غير عربية في المسرح، ثم يؤثر العودة إلى المقولة التي تفترض تكاملاً اجتماعياً عربياً يعزز ثقافة عربية أصيلة، وفي سياقها مسرح عربي أصيل. أما رشاد أبو شاور فلا يرى هناك أهمية لاستحداث شكل مسرحي عربي، «لأن المهم هو الاستمرار في البحث والتجريب الجاد والالتحام بحياة الأمة».

 

ولكن هل الصورة مخيفة إلى هذا الحد؟

تشير آراء المسرحيين العرب، كما هي الحال في واقع التجربة المسرحية العربية، إلى ثلاثة تيارات تحيط بآفاق النهوض المسرحي المرتجى، وتستند في الوقت نفسه إلى موروث أو تراث حديث في الممارسة المسرحية العربية، الأول يدعو باستمرار إلى أشكال مسرحية عربية كانت في الظاهرة المسرحية المتواترة في الشعائر والتقاليد والمأثورات والأدب، وبرز هذا التيار فعالاً ومؤثراً في الستينات ومطلع السبعينات في المغرب وتونس ومصر، ومن ممثليه الطيب الصديقي وألفريد فرج وعز الدين المدني ومحمود دياب والطيب العلج وعلي الراعي.

 

والتيار الثاني لا يرى فائدة تذكر في نبش الماضي، وعلينا أن نرسخ استخدام الشكل المسرحي السائد في الغرب بوصفه شكلاً عالمياً ونتاجاً حضارياً سارت عليه الشعوب، وماتزال. ومن أبرز ممثلي هذا التيار صلاح عبد الصبور الذي كتب مقالات عديدة تأييداً لدعوته، وجمهرة عريضة من المسرحيين في لبنان عبر الممارسة.

 

والتيار الثالث اتجه إلى عناصر المسرح باعتباره «فرجة» ووسيلة اتصال جماهيريةأصلاً، فمن المفيد أن يخلق المسرح العربي تقاليده أثناء التجربة التي لابد أن تصقل جوهر الظاهرة المسرحية، وهذا واضح في أعمال فنانين وفرق عربية معتبرة في سورية ولبنان وتونس والمغرب والعراق مثل روجيه عساف (مسرح الحكواتي) وسعد الله ونوس، والفاضل الجعايبي ورفاقه (المسرح الجديد) وعبد الكريم برشيد (الواقعية الاحتفالية) وقاسم محمد. إلا أن العديد من هذه التجارب لم ينجز تقليده المسرحي معتمداً على عرض أو موسم ثم ينتاب عمله الخذلان والكسل أو اليأس.

 

والحق، أن أزمة التجديد في هذه التجارب من فكرة الاختبار المسرحي مع الجمهور الذي من شأنه أن يقود إلى تثمير لغة الاتصال الفكري والفني ويضمن التأثير والإقناع في قلب المتعة والتشويق، فكثرت «توابل» التشكيل المسرحي إلى حد «الفقر» حيناً، وإلى حد «الإبهار» حيناً آخر، مما أدى إلى معاناة شديدة ظهرت جلية في الأمرين التاليين:

1) غربة اللغة حيث يكتفي العرض بالاستطراد اللغوي والتراكم المشهدي المستمد من اتساع اللهجة العامية في هذا القطر أو ذاك، ومن أكوام السرد لنظرة تجزيئية تعالج الواقع خلل الاعتماد الكلي على «الإحالات» إلى تاريخ ثقافي وسياسي موغل في محليته، ومبالغ في تجريبيته، مما لا يتيح معه المجال لجمهور أوسع في التواصل مع الخبرة المسرحية التي تنهض على مخزون التجربة البشرية بعد ذلك.

 

2) غربة المسرح عن طبيعته، فالمسرح أولاً وأخيراً، هو شيء صالح للتمثيل أي التشخيص، وما رأيناه في هذه التجارب لا يتعدى «التوليف» بين عناصر متعارضة أحياناً، ولا تتعدى مبالغة الإيهام في نفي الصفة المسرحية بقصد إعادة نظرة شاملة في شروط التلقي سواء بالنسبة للممثل أم المخرج أو المؤلف أو الجمهور.

لكن واقع التجربة المسرحية العربية هو حصيلة الاتجاهات الفكرية التي كان لها تأثيرها البالغ على البحث في تأصيل المسرح العربي المعاصر. وهنا سنكمل النظر في حاضر المسرح العربي اليوم ثم ننتقل إلى شؤون التأصيل والمثاقفة وشجونها.

 

-3-

يشير أغلب دارسي المسرح العربي ومؤرخيه إلى بدايته الحديثة في منتصف القرن التاسع عشر، وهذه البداية تعني بالضرورة المسرح حسب تعريف الدراما الغربية. وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، شهدت دور العرض نشاطاً ملحوظاً للفرق الفنية التي كان المسرح بعض برامجها حين يضاف إلى مجموع فقرات العرض، ويكون اقتباساً أو إحياء لحكايات التراث العربي، بمرافقة الموسيقا والغناء والرقص( ). أما الكاتب المسرحي، والذي به تنتعش الحركة المسرحية فكان نادراً، وهذه القلة القليلة من الكتّاب اتجهت إلى الأدب المسرحي ضمن دفتي كتاب وحده( ).

 

ومع مطلع الخمسينات، أنجبت الحركة المسرحية كتّاباً ومخرجين وممثلين ومترجمين وفنيين، وكان لرعاية الدولة في الأقطار العربية مكانة كبيرة في تشجيعها كي تصبح معبّرة حقاً عن الواقع العربي الحديث.

 

ويفيدنا هذا التشخيص العجول في أن مجاري المسرح العربي متعددة ومتعثرة في آن واحد، ففي كل قطر عربي ثمة حركة مسرحية تعاني من الانفصال أو الخذلان. بينما يشير واقع الحال إلى اتصال هذه الحركة وتماثلها في مواجهة المشكلات القائمة وفي إرادة التطور. وسنختار في هذه المقالة أبرز ملامح الظاهرة المسرحية العربية المعاصرة في السبعينات لنستخرج منها عناصر الصراع بين التقاليد والتجديد.

 

-4-

شغلت المشكلة الاجتماعية غالبية كتّاب المسرح العربي على اختلاف مواقعهم وأساليبهم، بل أن هذه المشكلة بعينها لتعتبر الأساس في برنامج عمل المسرحيين العرب بعد الحرب العالمية الثانية عموماً، ومع منتصف الخمسينات على وجه الخصوص، وقد كانت بمثابة رد فعل للكتابات المسرحية السابقة، الفكرية المجردة عند توفيق الحكيم، والفكرية عند بشر فارس وسعيد عقل، والفكرية الدينية عند علي أحمد باكثير، والفكرية الأخلاقية عند عزيز أباظة وخليل الهنداوي، ومن نهج نهجهم. صحيح أن ضمور الحركة المسرحية وارتماءها في أحضان العرض المسرحي التجاري الهزيل الذي يضمن شباك التذاكر بالدرجة الأولى، كان سبباً رئيساً أيضاً في الحملة الشعواء التي قادها الكتّاب الجدد آنذاك، إما بدافع الالتزام بواقع الطبقات الفقيرة، أو الشعور بالتخلف الحضاري الشمل، أو الإيمان بعقيدة وجدت المسرح منبراً للدعاوة، وقد كانت سنوات الخمسينيات ميداناً فسيحاً لصراع الأيديولوجيات في ظل نمو الحركة القومية وهزيمة الاستعمار وتراجع الاستعمار الجديد. ففي مصر العربية، رافق إنجاز تأميم قناة السويس، نشوء الجيل الثاني من كتّاب المسرح المصري مثل نعمان عاشور ويوسف إدريس ورشاد رشدي وسعد الدين وهبة وألفريد فرج وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور ولطفي الخولي، وفي سورية ظهرت مع الثورة طلائع المسرح الجديد مثل علي كنعان ووليد إخلاصي وعلي عقلة عرسان وسعد الله ونوس ومحمد الماغوط. وفي الجزائر، شهدت حركة الاستقلال ولادة رجال مسرحيين وكتّاباً مرموقين مثل كاتب ياسين.. الخ. فانتقلت الحركة المسرحية شيئاً فشيئاً بريادة الكتّاب الجدد من المشكلة الاجتماعية إلى القضية الوطنية، أو بتزواجهما أحياناً، ثم ازداد الحس النقدي باتجاه التقدم الاجتماعي والتحرر الوطني مع الوعي السياسي لهؤلاء الكتّاب أنفسهم، حتى أن بعضهم كان تمكنه الفني والفكري يترسخ مع تعدد محاولاته وتجاربه، وربما كان هذا النمو ذا صلة بالواقع السياسي والاجتماعي حيث يرتبط الفنان اليوم بحياة شعبه ارتباطاً وثيقاً، وبخاصة في حال المسرحيين العرب كما أسلفنا، وقد نجم عن هذا النمو عدة مسائل تكاد تغطي المشهد المسرحي العربي المعاصر، وفي مقدمتها انتعاش المسرح النقدي أو الانتقادي باعتباره وجهاً من وجوه المسرح السياسي، والصحي، وأن السمة الغالبة على حركة المسرح العربي في العقدين الأخيرين هي مباشرة العمل الفني لصالح الأهداف السياسية، وهذا ما يفسره تنشيط مسرح بريخت وبيتر فايس وكليفورد اوديتس ودورينمات وماكس فريش وسارتروكامي وكارل تشابك وشفارتس، وهم جميعاً أصحاب مسرح قضية. لقد تنازع المسرح العربي طغيان الأفكار من جديد في تغليب الهدف على طبيعة العمل الفني دون أن يرتبط هذا كله بالتأصيل مما أدى إلى ما يشبه الانفصام بين العرض والنص والجمهور والثقافة المسرحية.

 

-5-

حين كتب سعد الدين وهبة مسرحية «المسامير» وسعد الله ونوس مسرحية «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» قيل آنذاك أنهما صدى مباشر للنكسة، والحقيقة أنهما لم تكونا أكثر من ذلك، ويبدو من قبيل الادعاء القول إنهما تحتفظان بأكثر من هذا التقدير، فليس فيهما أكثر من «تنفيس» للكرب العربي من فعل النكسة. إن المباشرة بدعوى التسييس أو الالتزام، وما يشبه ذلك من مزاعم قيام المسرح بدوره الحقيقي، تبدو باطلة، وكأن المسرح بلا دور أو وظيفة حتى جاءت النكسة، فمنحت مسرحيين عاديين امتيازات خاصة في مجموع الثقافة العربية، مما أوقع المزيد من الخلخلة في إنجاز تقاليد للمسرح العربي، وحين تسود الفوضى تختلط القيم، ولا تنبت سوى الأشواك.

أما أبرز وجوه المباشرة فهي استمرار مسرح الأفكار بأساليب أخرى عبر تحويل واقع الحال إلى مجرد افتراضات من شأنها أن تنفي التاريخ وتعطل الفعالية الإنسانية، وهذا واضح لدى غالبية الكتّاب في تونس ومصر والعراق وسورية.

يرى رشاد رشدي في مسرحيته «بلدي يا بلدي» على سبيل المثال أن أسباب النكسة تعود إلى الجدار القائم بين القائد والشعب، ومن افتراض آخر، يرى سعد الدين وهبة في «سكة السلامة» أن تحالف قوى الشعب العامل هو المقدمة الأولى للبناء والتحرير ومن افتراض ثالث، يرى يوسف إدريس في «المخططين» أن «الخطأ يكمن في النظم الشمولية لرفض مساوئ التطبيق. ومن افتراض رابع، لا يرى محمد الماغوط إلا العتمة فتتحول الشخوص إلى أشباح ورموز في «العصفور الأحدب».

لقد وجدت هذه الافتراضات لدى أغلب المسرحيين ميلاً غريباً، فأصبح عدد المسرحيات المماثلة وافراً. وهذا التقليد في الالتفات عن منبع الواقع إلى ميدان الافتراضات، دفع بأبناء الجيل التالي إلى السير على هذه الخطى كما هو الحال مع محمود دياب وعادل كاظم وعلي سالم ورياض عصمت ووليد إخلاصي الذين لا نجد في كتاباتهم إلا «أطلال» الواقع أو صوره الشائهة. فمن افتراض، يؤكد محمود دياب في «باب الفتوح» إن بناء الإنسان قبل بناء الوطن، وأن تحرير الإنسان قبل تحرير الأرض. ومن افتراض آخر، يؤكد ميخائيل رومان في «ليلة مصرع غيفارا العظيم» أن عطب الثائر المعاصر يعني عطب الثورة المعاصرة. إن ما أضعف الفعل المسرحي هو هذه الافتراضات التي تؤثر سلباً على استنبات التقاليد المسرحية.

 

-6-

ينطلق المسرحيون في لبنان من أرضيات سياسية محددة كما هو مع جلال خوري وعصام محفوظ وروجيه عساف. وفي حماسة اتصالهم بطبيعة العمل المسرحي ينجحون، حيث الكاتب قائد في عملية العرض المسرحي، ولكن أعمالهم لا تملك فضيلة المتابعة، فلا تؤسس لتقاليد بعد ذلك. على أننا لا نستطيع أن نغفل عن أهمية المجهود المبذول في استمرار تقاليد المسرح من الرواية ومعطيات الجماعة في اللقاء والتخاطب والتفكير وآلية الفعل ورد الفعل، أي استمداد حلول فنية من حياة الشعب وأساليب تواصله من شؤونه المختلفة وتأدية ذلك في سياق مسرحي ينشد الإقناع. وقد تجلى هذا في عمل فرقة روجيه عساف «حكايات من عام 1936»، بينما تعاني أعمال جلال خوري «سوق الفعالة» و«جحا في القرى الأمامية» من ذكاء الاتصال بالجمهور. إنه يعتمد على تجربة بريخت المسرحية بقصد التواصل الحي مع الصالة ولكن سعيه إلى التعليم أصيب بالاختناق لخلو عروضه من الشعر الغزير أساساً في روح موقف بريخت من العالم، وهو ما استدركه في عرضه الأخير «زلمك يا ريس» مراهناً على ذكاء الناس.

 

يزاوج عصام محفوظ وفي أعماله «الديكتاتور» و«كارت بلانش»و «لماذا رفض سرحان ما قاله الزعيم فرج الله الحلو في ستيريو 71» و«سعدون ملكاً» بين مباشرة السياسة ونداء الفن، ولكن مسرحياته لا تخرج عن الجدليات المثالية، وهي تنازع التغير في البحث عن معنى في فوضى القيم. وهذا ما دعاه في السنوات الأخيرة إلى دراسة التجربة المسرحية العربية ومراجعة تجربته. وهكذا تتيح الحركة المسرحية في لبنان أفقاً أرحب لرؤية عناصر التقاليد والتجديد في الممارسة.

 

-7-

الطابع الأوحد لأعمال كتّاب المسرح في سورية هو لصوقها بالقضايا الطارئة التي تتسع لتشمل قضايا الوطن والمجتمع والإنسانية. هناك غلبة للتجارب الموصوفة وغير الموصوفة، وقلة من المسرحيين الذين يعملون بصبر وثقة، ففي وسط هذا الجو المحموم يعاد النظر في قضية المسرح عموماً، والاقتراب من أفضل السبل للحديث مع الجماهير عن مسرحها المفيد فتنمو زهرات تغالب عفن الواقع وتحيا. وفي هذه الانطلاقة الجديدة يصبح الواقع أرض الرؤية المسرحية نحو التقليل من شأن المباشرة بوصفها همَّاً ثقيل الوطأة على تطور الحركة المسرحية.

 

يوازي سعد الله ونوس في «سهرة مع أبي خليل القباني» بين النضال الوطني من أجل التحرر والاستقلال ونضال أبي خليل القباني من أجل قيام مسرح عربي، ولقد كان عصام محفوظ على حق حين عدّ نضال أبي خليل القباني صلباً للمسرحية، إلا أن إلحاح المباشرة جرّه لإيراد الخطوط العامة للنضال القومي في أواخر القرن التاسع عشر.

ويتناول فرحان بلبل في «العشاق لا يفشلون» أكثر من موضوع في أكثر من حبكة، وهذا في جوهره إلحاح مباشر. ثم تجاوزت رياح المباشرة المألوفة، فكان المسرح النقدي الذي لبى بادئ الأمر رغبة صادقة في التصدي للأوضاع العربية الراهنة بعد النكسة، ولكن تجار المسرح موضة الصالات والتجمعات الفنية التي لا تثبت للزمن فغلب التوجه النقدي للمشكلات الصغيرة بعد نقد الإرهاب السياسي، وفي الحالين، لا يقدم المسرح الحقيقة للجماهير، وقد يفرغ شحنة إحساسها بمنغصات الحياة دون أن يبنيها البناء المطلوب. وهذا هو حال مسرح دريد لحام وبقية الفرق الخاصة.

 

- 8-

لقد أثار مهرجان دمشق للفنون المسرحية والندوات التي أقيمت على هامشه مختلف المشكلات التي تواجه تقدم المسرح العربي، وهو ما فعله مؤتمر المسرح في الوطن العربي (دمشق 15- 22/5/1973)، وندوة الحمامات بتونس (25- 30 أيار1970)( ). وفي حين أشار بعضهم إلى أن بعض أزمة المسرح تكمن في تشابك الرؤى المسرحية، والعجز عن مثل هذه الرؤى( )، نطر كثيرون إليها في إطار الأزمة العامة سواء في النص أو في علاقة الدولة بالمسرح، والصحيح أن معاناة المسرح داخله وجه آخر لمعاناته خارجه.

 

وإذا ما تجاهلنا الأمنيات الكبيرة، فإن استمرار الحفاظ على ما تم إنجازه يبدو مهمة وطنية، إن المسرح هو فن التواصل مع الجماهير قبل أن يكون فناً راقياً ومن شعبيته تنبع قيمه الثقافية والتربوية. ويحدثنا أغلب المهتمين بشؤون المسرح عن هذه الشعبية التي تجذب الجماهير إليه، وقد يغفل العاملون فيه زمناً عن الأهداف، ولكنهم قطعاً سيعودون إليها بأساليب أكثر نجاعة وبحماسة فائقة، وبعد حرب تشرين عام 1973 اكتشفت المسارح العربية فجاءة أن ما تقدمه لا يصلح للجماهير، فغيرت عروضها لتلائم الأوضاع الجديدة.

 

إن الحساسية السياسية والاجتماعية تطغى على أعمال طلائع المسرح العربي، وتعطي بحث المسرح القومي عن جذوره في تاريخ الشعب العربي وحياته أهمية تاريخية. وما الالتصاق بروح الشعب أو تراثه إلا شكل من أشكال هذا البحث. إن المسرح العربي المعاصر ظاهرة حية في حياتنا من خلال توجهه الوطني أولاً، ومن خلال بحثه الدؤوب عن مسرح متميز ثانياً مما دعا فصيلة المسرح العالمي إلى القول: «وإذا كان رجال المسرح في الوطن العربي يحاولون اكتشاف شكل في المسرح، بناؤه مختلف عن القصائد والشعائر، فلأنهم يعملون في سرعة فائقة»( ).

 

-9-

إن حاضر المسرح العربي يعني البحث في شؤون المثاقفة والتأصيل وشجونها أيضاً، وفي هذا المجال، سأكتفي بالتعليق على مجهودين الأول لعبد الكريم برشيد والثاني لعلي عقلة عرسان لأهميتهما في توضيح الموقف النقدي من قضية المسرح العربي نظرية وممارسة.

 

ينخرط مجهود عبد الكريم برشيد في إشكالية المثاقفة، فهو ينظر للمسرح العربي من منطلق تجديد الظاهرة على نحو تجريبي. بينما يتوجه علي عقلة عرسان إلى وضع الظاهرة في إطارها التاريخي، لأن وعي الذات هو محك التأصيل والمعاصرة في الوقت نفسه.

 

يسمي برشيد اتجاهه بالواقعية الاحتفالية، فالشيء الأساسي بالنسبة إليه هو خلق احتفال، خلق تظاهرة فنية مسرحية. ويقول: «إنني أحاول أن أميز بين نوعين من التجريب هما: التجريب المختبري، والتجريب الميداني، ذلك أن أوربا عرفت مجموعة من المسارح الصغيرة التي تسع مائة كرسي والتي تقدم لجمهور نخبوي ضيق والتي تحاول أن تقدم تجارب مخبرية على المستوى المحدود، ولكن هذه التجارب لا يمكن أن توافق المجتمع العربي. وفي المقابل، فإني أدعو إلى تجريب آخر، تجريب ميداني ينزل إلى الناس، يحاول أن يدرس لغة الشعب وتراثه وروحه وعقله من أجله أن يوجد هذه القاعدة أو هذه القنطرة التي يمكن أن توصله إلى الآخرين، والشيء الذي يمكن مشاهدته هو هذا الانفصام الحاصل بين المبدعين في العالم العربي وبين القراء والجمهور بصفة عامة، وحتى نحدّ من هذه الهوة فلابد إذن من إعطاء فن يراعي عقلية الشعب العربي ويراعي ظروفه التاريخية والمجتمعية والاقتصادية». ومن جهة أخرى، يحاول برشيد أن يوظف التراث توظيفاً جديراً يعتمد على اتخاذ الشخصيات التراثية مجرد أقنعة، تخفي خلفها مجموعة من القضايا وبذلك «نستطيع أن نجد شخصيات مثل عطيل وقراقوش وشهريار وزرقاء اليمامة وسواها من الشخصيات، هذه الشخصيات: التي تصبح كمعادلات مسرحية لأشياء أخرى، فعطيل هو المعادل المسرحي لكل إنسان العالم الثالث، وهذا الإنسان الذي نجده حالياً في المناجم الأوروبية، وفي معامل السيارات، وكأجير حقير في الغرب، والذي وجدناه كمرتزق في الحرب العالمية الثانية عندما فرض الاستعمار الفرنسي على أبناء أفريقيا أن يحاربوا في فيتنام أو ألمانيا. لذلك فقد وجد الإنسان المغربي أو إنسان شمالي أفريقيا نفسه يحارب الفيتنامي ويحارب شعباً ينتمي إلى قدره نفسه وإلى ظروفه التاريخية نفسها.

 

كذلك، فإنني أسعى إلى إيجاد واقعية احتفالية، أي إلى نوع من السوريالية التي تحاول أن تصور الواقع من خلال مجاوزته، لأن الفنون أساساً تقوم على هذا التحدي، تحدي قانون السببية، قانون الجاذبية، تحدي القوانين السياسية، فالتحدي هو الشيء الأساسي في الفن المسرحي أو في الاتجاه الذي أدعو إليه. إذا أخذنا الفنون الشعبية فإننا نجد أن الساحر دائماً يحاول مجاوزة الواقع من خلال إعطاء صفات جديدة لأشياء جاهزة فيحول الحمامة إلى منديل. من هنا، كان المسرح ينهض من عملية كيماوية فيحول فيها الأشياء إلى أشياء أخرى باعتبار أن الكتابة المسرحية كالتخطيط الخرائطي يقوم على تكوين نسبة معينة، إيجاد رموز معينة، لأن الجبال كما هي في الواقع تتحول على الخريطة إلى مربعات أو دوائر أو مثلثات وغير ذلك. لابد للمسرح أن يقوم على المعادل المسرحي، أي أن يحول الأشياء المادية إلى رموز وأقنعة حتى يمكن أن تتواصل مع الجماهير.

 

إن مجهود برشيد يصب في موجة اليأس الذي غمر غالبية المسرحيين العرب، فأشاحوا عن الماضي إلى الانخراط الكلي في تجربة الغرب المسرحية المأخوذة عن إنجاز المسرح اليوناني، وهكذا، انتصرت فكرة «المثاقفة» في تقديم مسرحيات حسب المفهوم الأوروبي، وخفت صوت التأصيل قبولاً لواقع الحال، وشاع رأي مفاده أننا ندور في حلقة مفرغة، واكتملت الدائرة في إعلان العجز هنا وهناك عن الهدف ألا وهو خلق مسرح عربي أصيل( ). وما فعله برشيد هو تجميل واقع الحال بنبرة تراثية ممزوجة بإيقاع عصري. على أن باحثين آخرين لم يركنوا إلى الصمت، فصدر كتاب لمستشرقة سوفييتية رأينا فيه جهداً كبيراً هو دفاع عن الثقافة العربية وأصالة المسرح العربي على الرغم من تكريسه لمتواتر القول لدى المسرحيين العرب، ومن اشتغلوا في تاريخه، عن المسرح العربي، أمثال محمد يوسف نجم وسلمان قطاية، فصح فيه القول: إن بضاعتنا ردت إلينا( ).

 

انتهى علي عقلة عرسان في هذا الوقت بالذات، سنوات السبعينيات، من البحث في «الظواهر المسرحية عند العرب» إسهاماً في تجلية الصورة الغائمة التي شاهت ملامحها على أقلام الدارسين، وفي آراء الباحثين، إذ لم يتوافر لهذه القضية من يعود إلى الأصول ويستنطقها المسار التاريخي الذي ينفع في وصل ما انقطع، وفي إقامة الدليل تلو الدليل على مسيرة إمكانية مسرحية لا تزال غائصة في بطون الشواهد والمصادر المختلفة. يؤكد عرسان وجود الظاهرة المسرحية، «ولكنها لم تتطور كما حدث لبدايات ظاهرة المسرح في اليونان، التي شكلت بعد تطورها المسرحية اليونانية من تراجيديا وكوميديا، وأصبحت الآن، الشكل الدرامي العالمي».

 

ويرى عرسان أن الأسباب كامنة في طبيعة الثقافة العربية والإنسان العربي، «لأن لكل شعب أسلوبه في التعبير والتوصيل والفرجة، في التأثر والتأثير والنقل، وفي الوصول إلى المتعة والمعرفة.. وليس للفن قوانين العلم الصارمة التي لا يختلف عليها اثنان في العالم.

 

وهكذا، استجلى عرسان الظواهر المسرحية، محللاً حيناً، ومقارناً مع غيرها في تجارب الأمم والشعوب حيناً آخر حيث ينكشف المسار النقدي عن التطور داخل الظاهرة إلى تكاملها واستيعابها لعناصر المشهدية المسرحية من فئة المنذرين إلى فئة القصاصين وأصحاب الحكاية وأهل المقامات إلى مسرحية الرؤيا في الإسراء والمعراج ورحلات المتصوفة إلى حلقات الذكر الصوفية إلى الاحتفالات الجماهيرية المتنوعة مثل عاشوراء والتعزية واحتفالات المولد النبوي، والسيارة وموسم جمعة برزة أو خميس المشايخ، وأعياد النيروز، والقصاصين الشعبيين، والكرك أو الكرج وهي استخدام لأنواع من المحاكاة والتمثيل( ). وبعد هذه التجلية للأصول، تتضح حدود التراث المسرحي العربي، وتتضح قابلية التطوير، وهذا يعني أن الوعي بالتاريخ في أساس النهوض المسرحي.

 

إن استعراض المشهد المسرحي العربي يقودنا إلى النتيجتين التاليتين: الأولى: مجاوزة جهود التأصيل حدود إعادة التراث إلى وعي جوهر استعادته لأن المهم هو وعي الظاهرة من أجل تطويرها والثانية: اتساع الموقف النقدي الشامل من الغرب نحو تقويم العلاقة معه (المثاقفة)، وهذا واضح في الحوار الدائر حول الاستشراق عموماً، وحول تراجع المؤثرات الأجنبية لصالح المؤثرات الثقافية عن أصالة.

[مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق) حزيران 1982]

 

 

2

المسرح العربي في المغرب

بيَن التقاليد والتجديد

-1-

يحتل المسرح في المغرب مكانة خاصة في مجمل الحركة المسرحية العربية، ويجري باستمرار تقدير جهد الفنانين المغاربة وهم يتقدمون المسرح العربي بحثاً وتجديداً وبخاصة في الممارسة المسرحية حيث يتوفر على المسرح المغربي رجال مشهود لهم في التأليف والإخراج. لقد فتّق هؤلاء المسرحيون مكامن المسرحية، وأضاؤوا ـ حيثما حلوا ـ مكاناً مظلماً يخرج منه جمهور كبير يرضى وينتفع. ويروي لنا من عايش مغامرة المسرح في المغرب ـ أمثال الدكتور سلمان قطاية ـ حكايات طويلة عن صلابة الإرادة وقوة الانتماء من أجل بناء مسرحي شاهق باعتباره إسهاماً حضارياً بالدرجة الأولى. وقد أجاب هؤلاء المسرحيون على بعض أسئلة المسرح العربي مبكرين: استمداد عراقة الماضي ورؤيا المستقبل، وهذا كله لا يخفى على عشاق المسرح. فقد شاهدنا عروضاً مغربية للطيب الصديقي وأحمد الطيب العلج وعبد الكريم برشيد وغيرهم، وشاهدنا أيضاً عروضاً محلية لبعض المسرحيات المغربية مثل «السعد» و«حليب الضيوف»، وكان استقبال الجمهور لها في المرات جميعها باعثاً على الإعجاب والتقدير حتى غدا المسرح المغربي ماثلاً للعيان حين يدور الحديث عن جديد أو نفيس في المسرح العربي. فهل هي صورة ناصعة حقاً أن تتقدم الحركة المسرحية في المغرب العربي على مثيلاتها؟

إن الإجابة السريعة تفضي بنا إلى حقيقة مفادها أن المسرح في المغرب، مثله مثل المسرح العربي عموماً، مشغول بدواعي نهوضه، ومايزال يعاني من المشكلات نفسها، وهو ما يكشف عنه كتابان حديثان عن المسرح المغربي، الأول لأديب السلاوي بعنوان «المسرح المغربي، من أين وإلى أين»( )، والثاني لعبد الرحمن بن زيدان بعنوان: «من قضايا المسرح المغربي»( )، والكاتبان من المغرب العربي، وقد طبع الكتاب الأول بدمشق، بينما طبع الثاني في مكناس، وستكون لنا وقفة، من منظور بحثنا، مع هذين الكتابين للتعرف على واقع المسرح المغربي عن كثب، لأنهما الأحدث في معالجة تطور المسرح المغربي( )، على أن نستكمل مناقشة بقية الآراء، لنستخلص من ذلك كله قضية المسرح العربي في المغرب بين التقليد والتجديد.

 

-2-

يفتتح السلاوي كتابه بإقرار مشكلات ماتزال تؤرق العاملين في المسرح العربي، وفي مقدمتهم رجال المسرح المغاربة، فيؤكد أن تاريخ المسرح العربي لا يتعدى قرناً من الزمن، ثم يقرر أن «هذه حقيقة لا جدال فيها» مما يلقي بعض الظلال على دراسته، وإلا متى أصبحت هذه المسألة حقيقة ولا جدال فيها أيضاً؟ أنه يقرر هذا كله في السطر الأول من الكتاب، ثم يقرر حقائق أخرى كثيرة ماتزال موضع نقاش. هكذا ببساطة، يصادر الباحث أفكار المتلقي عن فكرة المسرح العربي باعتباره هو مرجعاً لا يرقى إليه الشك أو مجرد الجدال أو المناقشة أو الحوار، وهو أمر يجافي البحث العلمي، عندما نعرف أن المسرح العربي مايزال ـ في أحسن أحواله ـ نبتاً مهملاً في التاريخ، وفي الواقع، يحتاج إلى عون ورعاية القائمين عليه، وإلى غيرة محبيه ممن هم على الخشبة أو بين صفوف الصالة. لذا، لن نفاجأ قط أمام أحكام المؤلف القاطعة، وهي غالباً أحكام قيمة بشأن المسرحية والمسرحيين في المغرب العربي، بينما النقد يسعى في مسعى آخر.

 

والحق، أن هذه الآراء تشير إلى طوابع الكتابة النقدية في المغرب، ولا نستغرب في هذا المجال تباين الرأي الواسع في تقويم «وجه» أو «اتجاه» أو «الحركة المسرحية» بعد ذلك.

 

يوزع أديب السلاوي كتابه إلى الفصول التالية: ماذا لا نريد من المسرح، مسرح الهواة في تجربة المسرح، المسرح الاحترافي: ما له وما عليه، التأليف المسرحي في المغرب، إطلالة على اتجاهات الكتابة المسرحية، اتجاهات الإخراج المسرحي بين التراث والمعاصرة، ما هو مستقبل المسرح في بلادنا، الوضعية المسرحية... بديلها. وهناك فاتحة، ربط فيها بين موضوعه بواقع المسرح العربي، فتحدث عن النهوض المسرحي العربي في القرن التاسع عشر، وانتقل إلى رافد آخر لهذه «المسيرة المظفرة» مسيرة المسرح العربي، ويتمثل هذا الرافد بظهور مجموعة من الفرق المسرحية الشرقية وبتأليف فرق وطنية عام 1923م، من قدماء تلاميذ مدينة فاس وسلا والرباط بتشجيع من العلماء والأدباء، والوجهاء الذين رأوا في المسرح خدمة للغة العربية، وتهذيباً للذوق الجميل» (ص8).

 

واليوم أصبح للحركة المسرحية في المغرب «أعلامها وروادها، وتقوم على فرق هاوية ومحترفة، ومراكز للتخصيص المسرحي، وكتاب ونقاد ومختصين في الإخراج والإنارة والديكور والملابس، ,مسارح وقاعات ومسؤولين». ثم يطرح السلاوي السؤال التالي: «هذه الحركة، هل تحتاج إلى تقييم، وإلى وقفة تاريخية للنقد الذاتي، ولتركيزه؟».

 

ويجيب: «فإن البحث في أغوارها، وتقييمها من الداخل أضحى مسؤولية تاريخية يتحملها النقاد قبل غيرهم من الأدباء والمفكرين» (ص11). فكان هذا الكتاب هادفاً ـ كما يرى مؤلفه ـ إلى خلق حوار جديد ورؤية جديدة لهذه الحركة ولمفعوليتها التاريخية والفكرية بين رجال المسرح والنقاد من جهة وبين جمهور المسرح ورواده من جهة أخرى.

 

يؤكد السلاوي على مصاعب البداية المسرحية العربية من خلال التفاعل والتأثير المبكر بين المشرق والمغرب، فالمسرح ابن أواخر القرن الفائت وأوائل هذا القرن، ويؤكد في الوقت نفسه على حاجة المسرح العربي في المغرب إلى حوار الماضي والحاضر. ثم يكرس غالبية صفحات كتابه للتنظير على حساب التحليل والتطبيق المراجعة، وهذا الولع بالتنظير لا ينير الحركة المسرحية، ولا سيما مكرور القول دون تمحيص كاف لأفق الممارسة المسرحية كما هو الحال عند السلاوي.

 

أن فصل «ماذا نريد من المسرح» يعيد صياغة أسئلة الموسم المسرحي، ويستطرد، وهي أسئلة مبثوثة في ثنايا الفصول الأخرى تعكس تعلق المؤلف بالكلمات الكبيرة وإصدار الأحكام القاطعة كما هو الحال في قوله: «إن مسرحنا يتحرك في اتجاهات ثلاثة:

- اتجاه يهدف إلى إرضاء الجمهور الكبير، فيعمل على إضحاكه، وضياع وقته بما لا علاقة له بالمسرح ومفهومه.

- واتجاه، يقلد موجة التجديد التي تعم العالم الغربي، فيفلسف الأشياء أو يشكلها بلغة بعيدة عن جماهيرنا، وعن قضاياها، ونضالاتها.

- واتجاه ثالث: يعمل على تزييف الواقع المغربي وتقديم صور مشوهة عنه، لا تمت له ولقضاياه ولواقعه بصلة.

 

من هنا، من خلال هذه الحصيلة التي تكررت خلال سنوات طوال، تتضح لنا صورة الأزمة التي يعيشها مسرحنا». (ص17).

 

ولعل في هذه الكلمات الكبيرة والأحكام القاطعة تشخيصاً للظاهرة: الولع بالتجديد على حساب التقاليد، فهناك تقليد للمسرح في الغرب، وتجاهل مطلق لرؤية الواقع والتغيير، لذلك كانت صرخة السلاوي: «هل يكون من الضروري أن يقوم أحد بإقناع كتابنا المسرحيين بمسؤوليتهم؟ أعتقد جازماً أنه ليس من الضروري اليوم وغداً، من وضع منبه على دماغ بعض المؤلفين والكتاب المسرحيين الذين لا ينفكون يتشدقون بالتقدمية والوعي، وهم عن هذه المفاهيم بعيدون ورجعيون».

 

ويضيف على سجيته أو هكذا عفو الخاطر:

«إن بداية عصور الانحطاط العربية ترجع إلى فقدان الالتزام، ثم ليس ثمة تعارض بين حرية الكاتب ـ مسرحياً كان أو روائياً أو قصصياً ـ وبين التزامه، لأن حرية الكاتب جزء من حرية الوطن والمواطن... الخ» (ص26).

 

إن منطلقات كهذه لا توفر للنقد حدوده في التعامل مع موضوع البحث، لأنها كتابة تغفل عن معطيات المسرح المغربي في واقعه وفي مستقبله وفي انتمائه للمسرح العربي، وتؤثر في الوقت نفسه الانصياع للمزاج السياسي أو الشخصي، لأن هناك شواهد عديدة في التأليف والعرض وفي تطور الحركة المسرحية المغربية تنفي هذه الأحكام، وتؤكد حقيقة التقدم الذي يشهده المسرح المغربي وحقيقة النضال الذي يخوضه الفنانون المغاربة من أجل مسرح عربي.

 

ولعل أهمية كتابة السلاوي تكمن في ملامستها المبكرة لمشكلات المسرح الغربي في المغرب، فقد يسرت له فيما بعد ـ كما سنرى ـ سبل محاورة الحركة المسرحية.

 

-3-

بينما يرى عبد الرحمن بن زيدان أن كتابه «من قضايا المسرح المغربي» محاولة نقدية تهدف ـ في أقصى غاياتها ـ إلى إرجاع الحركة المسرحية المغربية إلى مصادرها الموضوعية في حركة التاريخ والمجتمع. إنه يلفت النظر إلى عطاءات رجالات المسرح في المغرب وما تثيره من إشكالات نقدية ولا سيما بحث هؤلاء المسرحيين الدائم والمستمر عن هوية قومية لمسرح عربي أصيل يتغلب على معوقات مسيرته، وينتزع ـ على حد تعبير المؤلف ـ الاعتراف بشرعيته، متجاوزاً حلقات التطويق التي أرادت تكبيله لتعوق بذلك انطلاقته وتحرره. وهنا يفترق عبد الرحمن بن زيدان عن أديب السلاوي، فقد زاوج السلاوي بين مهمتين الأولى التأريخ، والثانية التنظير المشبوب بعاطفة تنصاع للمزاج السياسي حيناً، وللمزاج الشخصي حيناً آخر، أما ابن زيدان فيجمع مقالات مكتوبة في فترات متقاربة خلال سنوات السبعينيات ليقول فكرة أو يثير رأياً حول واقع المسرح المغربي قاصداً إلى اعتبار الثقافة، والمسرح جهاز ثقافي، أحد القوانين الأساسية من أجل التغيير، أي الاهتمام بوظيفة المسرح في إنضاع الوعي، وهكذا كانت إثارته لمشكلات الممارسة المسرحية، وإغفاله لنسق تاريخي معين في اختيار المسرحيات التي جرى تحليلها، وسنلاحظ أيضاً، مدى انطباق هذه الطريقة على كتابته النقدية: سلامة المنهج في تحديد الإطار الاجتماعي والتاريخي والتعامل مع المسرحيات من الداخل لبلورة بعدها الدلالي والمعرفي. في الكتاب فصول كثيرة حول مسرحيات ومسرحيين وبعض الظواهر والقضايا، ومن الملاحظ أنها جميعاً مقالات أو مراجعات أو متابعات في أحسن الأحوال. ولكنها على الرغم من طابعها السريع في استخلاص الأحكام، تقدم صورة طيبة عن وضع المسرح المغربي اليوم: استطلاع أبرز الأعمال ورؤيتها في تركيب يجمع الملاحظة على الملاحظة ليكون بعد ذلك كله تعريف بالمسرح المغربي في مشكلاته الراهنة: صراع مستمر بين التأصيل والتجديد، مع تركيز واضح على نبرات التجديد المسرحية لدى أبرز وجوه السبعينيات على وجه الخصوص. إلا أن هذا لا يعفينا من الإقرار بأن رؤية عبد الرحمن بن زيدان غائمة وعناصر تركيبها متباعدة، فلا ينتج في ظلها إلا تعريف لا يفي بالحاجة، ولا يسعف الغرض.

 

في «إطلالة على هموم المسرح المغربي»، ثمة مقالة حول تنشيط المسرح والحركة النقدية حيث يؤكد المؤلف ظاهرة «فقدان يقين أيديولوجي، وشكل جمالي متقدم» (ص9). في الحركة المسرحية المغربية. وفي الوقت نفسه، لا يفسر هذه الظاهرة أو يعللها من خلال المشهد المسرحي. وهذا شأن المؤلف في غالبية مقالاته، فهو يبدي ملاحظات ولا يدعمها وضوح الفكرة أو دقة الرأي، ولا تستند إلى تفاصيل واقعية. في حديثه عن «ظاهرة الاقتباس في المسرح المغربي» يذكر نوعين من المسرح، النوع الأول المسرح الذي يعيش على هامش المشكلات الحياتية عندنا، أما النوع الثاني فهو الذي يتطرق إلى عرض المشكلات بجدية وعمق ويمثل هذا النوع فرق الهواة، ومن الواضح أن هذا التصنيف لا علاقة له بالاقتباس. ومن جهة أخرى، يؤكد المؤلف في صفحات تالية، أن الاقتباس أمر آخر يختلف عن تشخيص موضوع هذين النوعين من المسرح، «فالمشكل ليس مشكل اقتباس وكفى، أنه بالضرورة التعبير عن عصر، عن مجتمع، عن ظروف. مشكل ارتباط بالتراث ومحاولة اكتشاف ما هو إنساني وجديد، وليس الاكتفاء بتحقيقه.. وما الاهتمام بالفنون الشعبية التي اهتم السيد الطيب الصديقي بإحيائها ونفض الغبار عنها، وإغناء المسرح بها إلا من قبيل التقدير لقيمة التراث المسرحي عند الشعب العربي» (ص23).

 

لقد عاد ابن زيدان في تقليبه لمشكل المسرح إلى الهم المشترك للمسرحيين المغاربة: الأصالة أو التراث على وجه التحديد، فلا تقاليد خارج تراث أو أصالة. ويضيف المؤلف: «فعملية الاقتباس الجيدة، تعتبر محاولة لتطعيم مسرحنا باتجاهات جديدة وبدماء جديدة متحررة من قيود الكلاسيكية ومن التأطيرات المتقولبة في الأفكار المغلقة المتقوقعة. أن هذه العملية تحاول أن تؤقلم الأعمال العالمية مع مفهوم مغربي. وهنا نذكر السيد الصديقي الذي يمتاز بخاصية الاقتباس الناجح: «محجوبة»، «في انتظار مبروك»، «مذكرات أحمق» حيث يظل وفياً للمحتوى الغوغولي للمسرحية، خلافاً لما هو مألوف في النوع الأول الذي يضم الفولكلور والأساليب المبتذلة، واللغة التي لا تؤدي إلى أي وحدة تسهل فهم المحتوى» (ص23).

 

وحين يدرس ظاهرة الهواة يكرس المؤلف صفحات مقالته للعروض عموماً، ولأطروحاتها الفكرية خصوصاً، بينما تستدعي دراسة هذه الظاهرة البحث في أساليب تنظيم عمل فرق الهواة وطبيعة البرامج التي تقدمها موسمياً ومكانه ذلك كله في المسرح المغربي.

 

يقول المؤلف: لكن الذي يمكن أن يؤخذ على أغلب الفرق المشاركة هو وضعها بعض الحلول النهائية للمسرحيات.. ونحن نعرف أن المسرح الآن يعتمد على طرح التساؤلات ليترك المجال للمتفرج لاتخاذ قرارات تكون على ضوء التعرية للواقع كما أن المسرح وقبل أن يكون عطاء فنياً وشريحة لمجتمع هو دراسة تكون على ضوء حاجيات المجتمع والإنسان إذا نحن أردنا منه أن يكون ظاهرة فنية تخدم الوعي الشعبي بل ويكسب لنا جمهوراً نعتبره شريكاً للممثل في المسرحية» (ص33).

 

وفي مقالة «حول التركيب النظري للمسرح المغربي»، يواجه ابن زيدان المشكل صراحة ويرصد الجهود الدائمة للبحث عن الهوية، «فقد جرب المسرح المغربي عدة أشكال تعبيرية بقصد البحث عن هوية متميزة وشخصية متكاملة خصوصاً بعد أن لمس رجالاته فراغاً مهولاً تشتكي منه الحياة الثقافية على هذه الواجهة» (ص81).

 

إن عبد الرحمن بن زيدان يضع يده على بعض الحقائق، ولعل أبرزها انفصال الوعي السياسي عن الوعي الفني، أولاً. إرساء وسائل تعبيرية ثانياً، غلبة طابع الإخراج الإيطالي (الكوميديا ديلارتي) ثالثاً، تبني فكرية مسرح الاحتفال، وهو في جوهره إحياء تراثي في إطار التجديد، رابعاً. انتعاش الأشكال التجريبية، خامساً. وعلى الرغم من هذه الحالات التي تشير إلى وضعيات مختلفة، فإنها تمتزج بتطورات المسرح العربي في المغرب، وتسهم إلى حد كبير في تكوين مسرح وطني.

 

وعن «المصادر الفكرية للمسرح الاحتفالي»، يربط المؤلف الاحتفال بالظاهرة المسرحية أساساً كما تتجلى لدى المسرحي عبد الكريم برشيد حيث السعي لتحقيق تركيب نظري ليس فقط لعدد من المسائل التي يشتمل عليها موضوع بحثه، وإنما إدخال فكرة ـ وحدة الشعور ـ أي وحدة الشعور بين المشهد والمشاهدين، بين الرمز المسرحي وحجمه ومساحته، في إطار الكشف عن مأساة الإنسان والصراع الذي يدور بينه وبين براندللو. «إن المسرح الاحتفالي هو في أساسه مسرح شامل ولذلك فهو بالضرورة يفترض جمهوراً شاملاً (؟) ولقد توسل العمل الدرامي إلى ذلك عن طريق إيجاد قواعد وجسور تربطه بالجمهور، وتمثيل هذه القواعد في توظيف مجموعة من الاحتفالات الشعبية المحملة بأهازيج وتقاليد مختلفة» (ص102).

 

من الملاحظ، أن السلاوي وابن زيدان لا يختلفان كثيراً في تشخيص الوضعية المسرحية في المغرب، فمايزال هناك تناقض بين الواقع والرجاء مما لا يفضي إلى تركيب ناجز فيه هوية واضحة.

 

-4-

نستطيع أن نتلمس عناصر الواقع وملامح التغيير في المواقف التالية:

1- الموقف من التراث أو التأصيل.

2- الموقف من الغرب أوالتجديد.

3- الموقف من التجربة كما تمثلها معطيات المشهد الثقافي كالتأليف والاقتباس أو الاحتراف والهواية.

 

إن بداية المسرح العربي الحديثة واحدة في المشرق والمغرب، وتكاد كلمة علي الراعي تلخص مشكلات البداية المستمرة، فقد قال في معرض حديثه عن المسرح المغربي: «رغم تنوع وغنى الفولكلور المغربي في ميدان الظواهر المسرحية، وهي مسرح الحلقة ومسرح البساط واحتفال سلطان الطلبة، فإن المسرح بدأ في عشرينات القرن الحالي بالطريقة ذاتها التي بدأ بها في الأقطار العربية الأخرى»( ) والنتيجة هي: أن المسرح العربي يدير ظهره للتراث ويعتمد الصيغة الغربية للمسرح، وتتكرر البدايات، وهو يردد ما يشكو منه العديد من الفنانين والباحثين، فهناك قلة النصوص العربية المؤلفة، وظاهرة العودة إلى البداية بعد كل نهضة مسرحية، فالمسرح العربي ـ في رأي عبد الله شقرون ـ ينهض ويزدهر ثم لا يلبث أن يخبو فيعود إلى نقطة الصفر من جديد»( ).

 

-5-

يردد عدد من الباحثين ببساطة أن «المسرح المغربي تراث واقتباسات وتنسيق وأخيراً تأليف»( ) أي أن جهده الأساسي موروث موصول بالغرب، وهذا واضح أيضاً في طرق الأداء المكتوب، وأشكال التجسيد الفني. أجل، إن النتيجة هي إحياء الأشكال التراثية في التشخيص أو المشاركة الجماعية ضمن أضواء الغرب في إطار مفهوم «المثاقفة» إياه، فكأننا نجتلب المسرح إلى أرديتنا وقلوبنا وعواطفنا اجتلاباً دون تمييز بين استمداد مفهوم، أو دربة حرفة، أو إتقان تقنية، أو معرفة خبرة، فكانت المزاوجة بين موروث وتجديد طلباً للتقاليد. وقد أوضح حسن المنيعي هذه المعضلة لدى تقويمه لفن الطيب الصديقي في قوله: «فمن الأكيد أنه أول من أتخمنا بفرجات عديدة، وجعلنا نساير مغامراته وتجاربه التي تستلهم تقنيات الغرب وأشكاله الدرامية (المسرح العبثي والوثائقي والاستعراضي.. الخ)، وتوظيف عناصر التراث (الحلقة - البساط - المقامات).

 

ثم يستدرك:

«ومع ذلك فإننا نؤاخذه نظراً لما ينطوي عليه مسرحه من «مغالطة»، لأنه لا يتعدى جانب الإبهار الفني، ولا يبدو سوى متعة جمالية كثيراً ما تخلو من التنوير الفكري والمضامين الاجتماعية التي تنتقد الأوضاع، وتتلفظ بجوهر القضية».

 

إنه السقوط في وهدة المستوى الشعاري، إذ يصير المسرح إلى مجانبة الطبيعة الفنية فلا يستوعب الأداء أو التجسيد أكثر من ذلك التوجه المباشر للخطاب السياسي والاجتماعي. هو التناقض بين تقليد وتجديد. في تاريخ موجز، المسرح يتلفع بالجديد ولا يفلح. وقد ذكر باحث آخر أن المشكلة في الانطلاقة، «فليس مصادفة في شيء أن ينطلق المسرح في المشرق العربي من موليير، ثم بعدها بمائة عام، يتبع المسرح المغربي النهج نفسه ليعود إليه مرة أخرى خلال الموسم الأخير»( ).

 

ويضيف فاضل يوسف:

«تاريخ المسرح التقليدي بالمغرب، لا يمكن الإشارة إليه لا عبر بعض الأسماء وبعض الأسماء التي تشكل تحولاً من أي نوع بقدر ما كانت علامة على استمرار نمط معين من الإنتاج المسرحي. لقد كتب الطيب العلج، على سبيل المثال ـ عشرات المسرحيات، أما عن موليير أو عن غيره، وأما على المنوال نفسه، وقدم البدوي عشرات المسرحيات، أما عن موليير أيضاً أو غيره وأما على النسق نفسه»( ).

 

هكذا تؤكد تجربة المسرح الغربي في المغرب أن التقاليد هي وعي الممارسة المسرحية في بيئتها ومجتمعها مستندة إلى خصوبة التعالم مع الأصيل والراهن، ما دام التطور سبيل المسرح شأنه شأن النشاطات الإنسانية الأخرى، بينما لا يزال التناقض قائماً لدى نقاد هذه التجربة بين النظرية والتطبيق، مما يضاف إلى التناقض الحاصل بين التقليد والتجديد. يصوغ السلاوي رأيه على نحو نظري ممتزج بشهوة الخطاب السياسي: «أن المسرح عندنا لا يستطيع أن يسمو لنفسه الآن بتقليد مسارح التجربة في فرنسا، ولا مسارح «الحدوث» في أمريكا، لأن هذه الأنماط من المسرح ما تزال تبحث لون تتبناه لنفسها، فليست لها بعد تقاليد، ولا فلسفة ولا هدف، بينما نحن في مرحلتنا هذه نحتاج إلى مسرح له تقاليد ثابتة، وفلسفة واضحة، وأهداف بعيدة».

 

ولكنه، لدى التطبيق على تجربة المسرح الاحتفالي يبتعد عما رسمه ويختلف:

«من هنا، نرى أن المسرح الاحتفالي العربي لابد له من هدم الإدراك الفولكلوري واستلابه وتحويله إلى إدراك جديد، يقوم على أرضية المشاركة الوجدانية للإنسان العربي المعاصر، وهذا لا يتأتى دون الاستفادة من تراث الإنسانية وتجاربها في الميدان المسرحي»( ) فكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا. وتبقى الأسئلة مرتفعة: التلقي أم المشاركة؟ الإيهام أم نفيه؟ التراث أم إدراكه؟

إنه الارتماء في وهدة المستوى الشعاري الذي يحوّل التجربة إلى مجرد صياغة لفظية بمعزل عن ممارستها على خشبة المسرح، وبين جماهيره، يتبدى الموقف من التراث على النحو التالي:

أولاً: استمداد نظري واسع من أشكال التراث المختلفة، ولا سيما الشعبي، على نحو انتقائي حيناً، وتزييني حيناً آخر، وباسم الاتصال بالجماهير حيناً ثالثاً.

 

وقد اختلف المسرحيون في تسمية هذا الاستمداد، فهو استلهام للتراث حيناً، وإعادة للتقاليد حيناً آخر، واقتباس حيناً ثالثاً. بهذا، لا نقع على استعادة للظاهرة المسرحية، فضلاً عن صعوبة تحديد مفهومها وتباين النظر إلى استخدامها في المسرح الحديث. ثمة حيرة بادية بين التراث بوصفه حاضن التقاليد من جهة، والتجديد من جهة أخرى. لقد استفاد هؤلاء المسرحيون من جوانب الاحتفالية والمشاركة واللغة وأسلوب التناول، ولكنهم لم يبلغوا الشأو المرجو في صياغة شخصية فنية مستقلة هي السبيل للهوية المسرحية.

 

ولقد اتهم عدد كبير من النقاد والباحثين عبد الكريم برشيد، وهو الكاتب الأبرز في اتجاه الاحتفالية، بالتعامل الفج مع التراث لغلبة الاقتباس (الأخذ من الغرب) أولاً، والوقوف عند حدود «الفرجة» ثانياً. وفي بحث للمسناوي أحمد ثمة عرض لمثل هذه الفجاجة في قوله: «انبهر العالم الغربي بتنظيرات بريخت المسرحية وانطلقنا نردد الصدى، ونلهث وراء عملية تجريبية أخرى متعلقين بجماليات الشكل المسرحي. ورغم أن برشيد يحسن استغلال الأشكال الجديدة، وبناء الحدث الدرامي في مسرحه الاحتفالي كبديل لغياب مسرح مغربي جاد المحتوى، رغم ذلك تبقى اطروحاته فجة، ويظل تعامله مع التراث لا يخدم طبيعة المرحلة التي تتحدانا»( ).

والسبب هو أن احتفالية بريختية (فكرة التواصل - تكسير الإيهام - مفهوم الاغتراب - إعادة عنصر الدهشة) ومن يوسف إدريس (المسرح - احتفال - مهرجان - اجتماع كبير)، فهو إذن مجرد توفيق لنظرة متواترة هيا لجمع الشكلاني بين الأصالة والمعاصرة، بينما تبدو الحاجة شديدة لنقد الأشكال المسرحية الأوروبية، والاستيعاب الجيد للتراث. «أن هذا التعامل الفج مع التراث، لا يساهم في تطوير وتأصيل الفن المسرحي عندنا. ولا يخدم طبيعة المرحلة الحضارية الدقيقة التي تجتازها أمتنا العربية»( ).

ويلخص السلاوي في دراسة أخرى هذه الحيرة بين ماض وحاضر، بين اقتباس الماضي، واقتباس الحاضر (الغرب):

«ولا نشك في أن تلك الاحتفالات، بما تمتاز به من أصالة ومن فنية، وحبكة، ودراماتيكية، تستحق من المسرح المغربي وقفة طويلة، لا لكونها احتفالات شعبية، ولكن لأنها فنون درامية أصيلة متجددة، على هذا المسرح أن يعانقها ويمسرحها بالمفهوم المعاصر لكلمة مسرح».

 

لا يبتعد السلاوي عن مجمل النظر إلى قضية التراث الذي يطمح إلى استعادة، ولكنه لا يظفر بأكثر من إعادة لبعض الظاهرة أو الظاهرة كلها ثم لا يكون من الإعادة مشهدية أو مسرحاً، لذلك يضيف السلاوي مسوغاً العجز عن الإنجاز، ومردداً لرغبة الطموح القائم: «أن المسرح المغربي، كالمسرح العربي، ولد من النقل والاقتباس، ولذلك فعلينا أن نحافظ على شكل هذا المسرح (يريد المقتبس)، أما روحه وأسسه، فعلينا أن ننقله من تراثنا المتواصل المتواجد، الذي لا يخلو من العنصر الدرامي المتحرك الذي يشكل الصورة النهائية للمسرح الحديث»( ).

 

يمتح هؤلاء المسرحيون من معين مكرور القول حول النداء القديم الجديد نحو الطريق إلى الهوية المسرحية، ويقضي النداء بإيلاء العناية للروافد الفنية القديمة ما دامت الهوية المسرحية من الهوية القومية بعد ذلك. ولنتذكر في هذا المجال كلمة علي الراعي التي اختتم بها بحثه عن المسرح المغربي في إطار المسرح العربي:

«وأول هذا الطريق وآخره أن نجد لمسرحنا هوية عربية حقاً. وأن نكف عن النظر إليه على أنه أدب مسرحي في المحل الأول. بل نعتبره امتداداً في الحاضر لروافد فنية أو حكائية وتمثيلية بدأت من قرون وقوبلت بما لا تستحق من احتقار. روافد اعتمدت الفرجة أساساً، وتوجهت إلى الشعب أولاً وأخراً، واعترفت به سيداً وأميراً ومالكاً للعرض، وممولاً له. ثم سعت إلى جانب إمتاعه والترفيه عنه إلى تهذيبه ونصحه أيضاً، وإلى إشاعة الأمل في نفوس أبنائه، فهل نحن فاعلون»( ).

 

ثانياً: التوكيد على حاجة النهوض المسرحي للتراث مع الإقرار بالتنازع في تحديد مفهومه ومظانه ومكانته في إنعاش المسرحية المغربية هناك حرص واضح على استلهام التراث أو اقتباسه أو اعتماده في أساس العمل المسرحي، وربما كان اتجاه «الاحتفالية» ذروة استعادة التراث بعد محاولات متعددة للصديقي والعلج والبدوي وسواهم. وفي بحثه عن المسرح العربي بين الاحتفالية والتراث. يرى السلاوي أن التراث حاضن للتقاليد التي لابد منها في النهوض المسرحي، وربما كان اتجاه «الاحتفالية» ذروة استعادة التراث بعد محاولات متعددة للصديقي والعلج والبدوي وسواهم. وفي بحثه عن المسرح العربي بين الاحتفالية والتراث، يرى السلاوي أن التراث حاضن للتقاليد التي لابد منها في النهوض المسرحي على الرغم من التجربة المرة والصعبة، ويذكر هذه العلامات لكي يكون المسرح ذا صلة بماضيه وأرضه:

1- من التحقيق المسرحي البديل، فلابد لنا من الاستفادة من التراث العربي.

2- ولابد لنا من إعادة تقويمنا لهذا التراث، وتعميق مفاهيمنا لأسس الفكر العربي ومنطلقاته (التراث المدون والفولكلور الشعبي والمكتوب).

3- ولا محيد من توظيف مختلف الظواهر المسرحية التي تزخر بها فنوننا الشعبية.

4- ولابد لنا من النظر إلى هذه الظواهر على اعتبار أنها جزء من الوجدان العربي، والمسرح الذي لا يعتمدها مقتبس ودخيل، ولا صلة له بالروح العربية.

5- ولابد أن يزاوج بين التراثين الإنساني والعربي»( ).

 

-7-

وفي الموقف من الغرب، نلاحظ ما يلي:

أولاً: ارتباط مفهوم «المثاقفة» بحضور تراثي مدهش، فلا يستطيع المسرحيون أن ينظروا إلى الغرب، مصدر المسرح الحديث ومعماره وتقنياته، بمعزل عن معاينة الذات الثقافية. لقد اختلط مفهوم «المثاقفة» بمفاهيم التأثر والتأثير والتبادل الثقافي، ولم يعد مقتصراً على علاقة ثقافة أرفع بثقافة أدنى، أو ثقافة الغازي بثقافة المغزو. على أن التصدي لهذا المفهوم لا يستند إلى تواضع عامر أو إنجاز معلوم، بل ينغمر بمفاخر ذاتية، ومماحكات ثقافية مطلقة أحياناً. وفي مناقشات «الاحتفالية» الكثيرة، يدافع باحث هو أحمد سعود عن «المثاقفة» باعتبارها خصوصية واقعية في مرحلة من مراحل التطور التاريخي، ويقول:

«تظهر لنا أهمية التعامل مع الأشكال المسرحية التي تتميز بالطابع الجدي الهادف، وتظهر لنا كذلك خصوصية الواقع المغربي الذي يطرح إمكانية المجاوزة، هذه الخصوصية التي تجعل من مسرحنا مسرح مخالفاً بعد تعديل تلك الأشكال وتطويعها لتتلاءم وخصوصية الواقع المغربي»( ).

 

لعل الكاتب يرى الاحتفالية بشكلها المنسوب إلى عبد الكريم برشيد وكأنها تريد القيام على أساس انتقاد البريشتية، فتطرح نفسها كبديل لها. ولكن الردود جدالية مترفة لا توافي منطلق العمل المسرحي كخصوصية فنية إلا بوصفه عملاً اجتماعياً مباشراً ضمن صيرورة تاريخية معينة، بينما للفن زمنه الخاص.

 

يؤكد واقع المسرح العربي في المغرب التأزم: وضع الغرب كمنارة، والتصدي لمفهومه فحسب، ولو افترق المفهوم عن تجلياته في واقع الحال. إذ يسبق وعي «المثاقفة» شؤون الكشف عن أقنعته الكثيرة.

 

ثانياً: تبدو ملاحقة التجديد مهمة يائسة، إذ ينبغي للتجديد أن ينبع من التطور النوعي لمسار المسرح، لأن النقل سهل. وهكذا، لا نحصل على التقليد الذي يميت الإبداع، ويمنع المسرح من ممارسة تأثيره الجماهيري. أما التقاليد فهي أزهى علامات الثقافة والتحضر الدالة على حقيقة قومية وتاريخية، وقد حافظت على تأثيرها الحي والمضطرد.

لقد رأى المسرحيون أن المسرح المغربي ـ بتعبير آخر ـ هو نتاج الاقتباس من الغرب بحجة التجديد والانتفاع بالحداثة. ولدى دراسته للنص المسرحي في المغرب، يقول السلاوي:

«أننا بالرجوع إلى تلك الأعمال، لا يمكن أن نقول سوى أنها محاولات في ميدان مطابقة النص، هي أقرب إلى التشويه والتحوير منها إلى المطابقة الصحيحة، إذ أن أغلب «المقتبسين» أخذوا فكرة المسرحية، وبعض شخصياتها وألبسوها فكرة مغربية مشوهة ولغة رثة.

 

إن إحصائية بسيطة عن الإنتاج المسرحي الذي قدمته المسارح المغربية بعد الاستقلال تؤكد أن ستين في المائة من هذا الإنتاج مقتبس، فهل ينبؤنا هذا بالخطر على ملكة الخطر»( ).

 

وعند تقويم الكتابة المسرحية في المغرب، أشارت ندوة أقامها اتحاد كتاب المغرب (شارك فيها أحمد الطيب العلج، وأحمد العراقي، وعبد الله شقرون، وأحمد بدري وأدارها محمد برادة) إلى اتجاهين هما:

1- اتجاه كلاسيكي عاش على موائد المقتبسات والمغربات (نسبة إلى الغرب).

2- اتجاه حديث ظهر مع بداية السعبينات، وهو الذي وقع الولادة الحقيقية للنص المغربي، وما يجري الرهان عليه اليوم»( ).

إن الحديث عن التجديد ملتبس بالغرب، بالمثاقفة، وبشهوة التعبير السياسي المباشر، على أنه يظل تعبيراً غامضاً يحتاج إلى موقع واضح فكرة وممارسة مما ينتظم في نشاط إنساني وفعالية عامة وتقاليد قومية راسخة.

 

-8-

أما الموقف من تجربة العمل المسرحي كما تمثله معطيات المشهد الثقافي كالتأليف والاقتباس، أو الاحتراف والهواية، فنوجزه فيما يلي:

أولاً: يغلب الاقتباس على النص المسرحي، وفي هذا يتساوى المحترفون والهواة، لأن رجل المسرح هو الذي يتقدم الحركة المسرحية فالكاتب مخرج وممثل وفني أحياناً كما هو الحال مع أبرز المسرحيين، ولأن المسرح المحترف وحركة الهواة تستندان إلى مبدأ عمل الفرقة التي تؤلف عرضاً على سبيل الإعداد أو الاقتباس. أما التأليف الخالص أو الترجمة الخالصة لنصوص المسرح العالمي فهي قليلة. وهذا ما دعا المسرحيون والنقاد إلى مواصلة الحوار المستمر حول الاقتباس أولاً، والهواة ثانياً، إزاء اختلاط المفاهيم والممارسة معاً.

ثانياً: يبرز الخلاف حول مصطلح الاقتباس بالدرجة الأولى، فهو يعني الأخذ عن النصوص الغربية حيناً، ويغني الأخذ عن التراث حيناً آخر، إلا أ، المرء يستخلص من الحوار الدائر أن «الكتابة المسرحية» تقابل «توليف النص»، لأن الكاتب أو المسرحي يعيد إنتاج الأدب المكتوب أو الشفهي أو المنقول أو المعرب ليناسب حاجات العرض في الواقع( ).

 

أن السلاوي، على سبيل المثال، يستنتج من بحثه للنص المسرحي في المغرب، أن كتاب المسرح ما زالوا يميلون إلى السهولة واليسر، بل ما زال بعضهم عاجزاً عن خلق عمل مسرحي أصيل، وليد حضارة المغرب وثقافته ومجتمعه في القاعدة، ومستوف لمتطلبات الكتابة المسرحية في الآفاق. وإذا استثنينا بعض الإنتاجات التي قدمتها فرق الهواة، فسنجد أن أغلب ما قدمته الخشبة للفرق الرسمية، أو لفرق المحترفين، إنتاجات ضعيفة من الناحية الأدبية، ولو أن معظمها كتب بلغة دارجة سلسة، وبأسلوب بسيط خفيف»( ).

 

ثالثاً: وهناك خلاف واضح أيضاً حول مصطلح الهواة، ومكانة حركة الهواة في مسارح المسرح العربي في المغرب. يقول عبد الكريم برشيد:

«أن هذه التسمية لا تعني شيئاً لأنها تمس الشكل دون الجوهر، فهناك حقاً فرق بين المسرح الرسمي وهذا الاتجاه، ولكنه فرق في نوعية الرؤية، وفي الزاوية المتميزة، وفي المضامين الجديدة، وفي الأشكال المسرحية المتطورة والمواكبة لهذه المضامين»( ).

 

بينما يرى البدوي، في ندوة حول «الآفاق الممكنة أمام المسرح المغربي»، أن ليس هناك احتراف بالمعنى الصحيح للكلمة، كما أنه أيضاً ليس هناك هواية( ).

ويلاحظ باحث آخر هو اكويندي سالم أن النصية أو الشكلية ليست إشكالية مسرح الهواة الأساسية، بقدر ما هي عدم الوعي الصحيح لمحدداته وضوابطه الاجتماعية( ).

وفي رأي باحث آخر، أن ثمة التباساً في الممارسة المسرحية يقود إلى خلاف في المصطلح، فلكي تكون الانطلاقة صحيحة، ينبغي أن نقول «مسرح رسمي» عوض «مسرح محترف»، و«مسرح جماهيري» عوض «مسرح الهواة» بغية إعطاء الصراع القائم أبعاده الحقيقية، ورسم وظيفة الفن انطلاقاً من هذا الوضوح.

 

ويستفيض الباحث في نقده للوضعية المسرحية، فيوزع المسرح إلى مستلب ونخبوي ونموذجي، كأن تضخم الإنارة عند الصديقي لهدف أساسي هو تحطيم المعنوية النفسية للمتفرج، حتى لا نستطيع فرز الخشبة عن الحانة، وتأكيداً للعبة الأيديولوجية كما هو الحال عن الكغاط ووردة على سبيل المثال للنوع الأول (هكذا‍!). أو أن تتطرق لموضوعات هامة، ولكنها لا تعي لمن تكتب فيغلب عليها طابع التعقيد اللغوي والرموز الصارخة التي لا تفهمها إلا النخبة، أما الأغلبية الساحقة فتخرج ساخطة كما هو الحال عند برشيد والكغاط أيضاً على سبيل المثال للنوع الثاني، أو أن تنشغل بالتنفيس عن الكرب الجماهيري، وتشتم الأنظمة، واعتماداً لمنهج البريشتي وتعديله، ومهمة نشر الوعي بين الجماهير، على سبيل تعريف النوع الثالث الذي يراه مطمحاً. لنلاحظ هنا الجمع بين الصفات المتناقضة، ولكننا لا نريد التعليق على مثل هذه الكتابة النقدية التي تخلط بين الأدب والانتماء السياسي لكاتبه، لأن المطلوب هو أن نقيس الفن على قامة الموقف من الكاتب، بينما يكون النقد على قامة الفن. ثم ما فائدة هذا الكلام في تشخيص الظاهرة المسرحية أو توجيهها: «وضع خط فاصل بين المسرح التهريجي وإقامة مسرح المناقشة والكلمة والفعل، أي تحويل قاعة المسرح إلى برلمان تطرح فيه قضية الجماهير عامة».

 

أما النقد الأغلب الموجه لمسرح الهواة فهو عجزه عن الإبداع. أنه محاولات مستعجلة للتأثير على الجمهور طلباً لعملية العرض والاستهلاك. ثم «أن ـ كما يقول قاوتي محمد ـ جميع المؤشرات الحالية لا تفيد أننا متجهون نحو تأصيل المسرح في بلادنا وخلق عادة مسرحية»( )، أي أن المسرح العربي في المغرب - كما يؤكد البحث في واقعه ونقده - مايزال يبحث عن تقاليده وسط مشكلات كثيرة.

[مجلة «الكاتب العربي» (دمشق) ع5 - 1983]

 

3

قضية تأصيل المسرح العربي

في التفكير الأدبي العربي الراهن

-1-

ليس جديداً أن نشير إلى أن قضية تأصيل المسرح العربي تعني، فما تعنيه من حيث الأساس، البحث في هوية المسرح العربي( ) توكيداً لأصالة الثقافة العربية، على أن الأصالة تفيد تمثل روح العصر لاشتمالها على عناصر الديمومة والاستمرار في التقاليد الثقافية الباقية. ونعيد القول إن قضية تأصيل المسرح العربي ليست بحثآ عن مؤيدات مسرحية في التراث العربي وحده فحسب، بل تتعداها إلى صورة حاضر المسرح العربي ومستقبله، لأن هوية المسرح في أصالته بالتأكيد. وإلى وقت قريب، غمر اليأس أو كاد غالبية الباحثين والمسرحيين العرب، فالتفتوا عن الماضي إلى انخراط كلي في تجربة الغرب المسرحية المأخوذة عن انجاز المسرح اليوناني، فانتصرت فكرة «المثاقفة» في تقديم مسرحيات حسب المفهوم الأوروبي، وخفت صوت التأصيل قبولأ لواقع الحال، وشاع رأي مفاده أننا ندور في حلقة مفرغة، وكادت الدائرة تكتمل في إعلان العجز هنا وهناك عن الهدف المرجو ألا وهو خلق مسرح عربي أصيل.( ) ولكن باحثين ومسرحيين قلة آخرين لم يركنوا إلى الصمت، فكانت صولات وجولات ساهم فيها أيضاً مستعربون جدد، وربما كانت بوتيتسفا هي صاحبة الجهد الكبيرفي الدفاع عن الثقافة العربية وأصالة المسرح العربي على الرغم من تكريسها لمتواتر القول لدى المسرحيين العرب ومن اشتغلوا في تاريخه عن المسرح العربي كما أشرنا في بحث سابق.

 

ولدى استعراض أبرز جهد لتأصيل الثقافة العربية، نلاحظ أن المسرحيين فهموا القضية غالباً على أنها استمداد أصول تراثية للمسرح العربي وبناء المسرحية العربية وفق تقاليد وأشكال تراثية، مما هو أدخل في باب الأسس التراثية المسرحية العربية كالأشكال التمثيلية أو الحوارية أو أشكال العرض والفرجة والمشاركة مثل المقامة والمسامرة والليلة والاحتفالات الدينية والألعاب الشعبية وحلقات السمر والمداح والحكواتي وخيال الظل والاراجوز وسوى ذلك.

 

وثمة حشد كبيرمن المسرحيين والأدباء من ينكر معرفة العرب للمسرح، أو هم لا يجدون في هذه الأصول المسرحية قرابة للمفهوم المسرحي أو نظرية المسرح لأسباب كثيرة دينية وحضارية، فالأشكال التي يعرضون لها، ويعتمدونها غير كاملة أو مكتملة، أي لا تنضبط في أطار السياق المعرفي والفني الغربي للمسرح مثل الحكواتي والقصاصين الجوالين وأغاني الكلام الملحون والأغاني الشعبية والجمالية ومواكب الرقص الجماعية والمواكب الدينية العربية والمقامات وخيال الظل( ).

 

والسبب أن هذه الأشكال، برأيهم، لم تؤدِّ إلى ظهور المسرح العربي الحديث في القرن التاسع عشر الذي نتج في رأيهم عن الاتصال بالمسرح الغربي والحضارة الغربية. ومن وجهة النظر الأخرى، ثمة كثيرون يدعون إلى تأصيل المسرح العربي استناداً إلى هذا التراث العربي المشهود، وقد بدأت شواغل التأصيل مبكرة مع اتصال العرب بالغرب، ولعلنا ندرك اليوم أن جهود الرواد أمثال القباني والنقاش هي الأقرب لهذا السعي، والأكثر تحقيقاً لمهمة استمرار التقاليد الثقافية العربية في المسرح.

استمرت محاولات تعريب المسرح وفق المفهوم الغربي والحضارة الغربية وقتاً طويلاً (تجارب جورج أبيض وخليل مطران ويوسف وهي وأمين الريحاني وزكي طلمات في مصر، ولها ما يماثلها في الأقطار العربية الأخرى)، ولكن الاستقلالات العربية أثارت على نحو عملي ونظري قضية التأصيل، فظهرت التروعات التوفيقية انطلاقاً من هاجس التقليد الغربي، فكانت إشكالية الأصالة والمعاصرة التي عولجت ظواهرها ونتائحها فيما بعد، في مختلف وسائل التعبير العربي المعاصر( ).

 

ليست دعوات التأصيل مجرد بعث شكل أو أشكال مسرحية تراثية، أو استلهام التراث العربي في المسرح، بل هي صيانة التقاليد الثقافية وحضورها الفعال في تحقيق الوظيفة الاجتماعية وفي تثمير الحوار الثقافي مع تراث الإنسانية استناداً إلى وعي الذات ووعي الآخر. ولعلنا نميز هنا بين وجهات النظر العربية في التأصيل، ونوجزها فما يلي:

ا- البحث عن قالب أو شكل عربي، وغالباً ما فصل هذا القالب أو الشكل عن المفهوم (محاولات توفيق الحكيم ويوسف إدريس ومحمود دياب... الخ).

2- البحث عن نص مسرحي عربي أو عرض مسرحي (قادر على أن يتغير ويغير، وأن يفعل ويتفاعل) بتعبير عبدالكريم برشيد، و (ان يرسم فيه شخصيات عربية، وأن يصف مواقف من الواقع العربي) على حد تعبير عز الدين المدني( ) (محاولات الطيب الصديقي وقاسم محمد وعلي عقلة عرسان وبرشيد والمدني...إلخ).

 

وقد صاغ بعض المهتمين قضية التأصيل على أنها ضمانة المسرح العربي الاجتماعية من خلال أهمية الغوص في المحلية وفرز أشكال تعبير موروثة ماتزال فاعلة في الوقت نفسه. ولاحظوا أن مثل هذا يكون «بترويض» شكل المسرح الغربي، و«بترويض» أشكال المسرح المحلية أو التراثية من أجل عروض تجمع «بين المسرح والمتطلبات الشكلية المحلية الموروثة أو الحاضرة في أنماط العيش» (التعبير لرئيف كرم) لأن «أصالة المسرح في أصالة اللقاء»( ).

 

إن قضية تأصيل المسرح العربي هي الشاغل الأكثر إلحاحاً لدى المعنيين بتنمية الثقافة العربية وتطورها على الرغم من تراجع الخطاب المسرحي العربي خلال العقد الأخير عرضاً وتأليفاً ونقداً. ويكشف «كتاب العربي» المسمى «المسرح العربي بين النقل والتأصيل»( ) عن سخونة القضية خلال قرابة ثلاثة عقود من الزمن، ولاسيما العقد الأخير، ويؤكد هذا الرأي أن غالبية المقالات مكتوبة بأقلام أدباء، أما مقالات المسرحيين فهي تعرض لتجارب ومراودات لاختراق هيمنة مركزية الغرب الثقافية. ويعبر هذا الكتاب بجلاء عن التفكير العربي الراهن بقضية تأصيل المسرح العربي حتى تاريخ صدوره، نظراً لأهمية المشاركين فيه وطبيعة الزوايا والمنظورات التي عالجوا من لخلالها هذه القضية، وهي في مجملها لا تختلف عن حال الجهود العربية المبذولة التي أشرنا إليها. غير أنني سأتوقف عند ثلاثة ملتقيات عربية هامة تتابع هذه الجهود وتكشف، ضمن رؤى فكرية وفنية وواقعية، عن التفكير العربي الراهن بقضية التأصيل، وهذه الملتقيات هي:

1- الملتقى العربي الأول للإبداع الأدبي والفني (أغادير 21-25 تشرين الأول 1988).

2- ندوة «الموروث الشعبي في العالم العربي وعلاقته بالإبداع الفني والفكري: النص المسرحي» (الرياض 28/2-12/3/1990).

3- الندوة الفكرية لأيام قرطاج المسرحية في دورتها الخامسة (تونس 3/10-2/11/1991)( ).

سننظر في أعمال هذه الملتقيات ومكانتها في معاينة ظاهرة التأصيل.

 

-2-

كان الملتقى العربي الأول للإبداع الأدبي والفني أوسع لقاء عربي بين المعنيين بقضية تأصيل المسرح العربي، ويكتسب الملتقى أهميته من النواحي التالية:

1) ارتهان المشاركة في الملتقى بإبداء رأي أو عرض تجربة أو تقديم محاضرة أو المساهمة في الحوار، وهذا هو شأن المشاركين جميعهم. ونذكر منهم علي عقلة عرسان وأسعد فضة ومنى واصف ومحي الدين صبحي وعبدالله أبوهيف (سورية) ونبيل حجازي وعلي سالم ومحمد أبو العلا السلاموني وسمير العصفوري ومراد وهبة (مصر) وعبدالكريم برشيد ومحمد عزيز الحبابي وعبدالحق الزورالي ومحمد زنيبر (المغرب) ومحمد الشرفي (اليمن) وعبدالحميد الصادق المجراب وفوزي البشتي وعلي مصطفى المصراتي (ليبيا) ومصطفى كاتب (الجزائر)... إلخ. وهؤلاء وسواهم جميعاً لهم مثل هذه المشاركة المكتوبة أو المسجلة ضمن وثائق الملتقى.

 

2) وقف هذه المشاركة حصراً على البحث في الطابع القومي للمسرح العربي وكيفية تطويره استناداً إلى هذا الطابع، لأن موضوع الملتقى العام هو «قضايا الإبداع والهوية القومية». وسنعرض هنا، من وجهة نظر نقدية، حصيلة الملتقى في مجال قضية تأصيل المسرح العربي، كما وردت في ورقة المجلس القومي للثقافة العربية (منظم الملتقى) ومحاضرات المشاركين ومداخلاتهم وتجاربهم ومناقشاتهم. لقد انعكست ظلال الحوار في الإطار العام لقضايا الإبداع والهوية القومية على مناقشات الآداب والفنون ومنها المسرح، وجرى تدعيم هذه الاتجاهات في الرأي من واقع الممارسة الأدبية والفنية والنقدية. ولعل أبرز ما جاء في الإطار العام هو تباين مواقف المثقفين العرب إزاء القضية: تشخيصها وتياراتها وسبل الخروج من خناقها، وهو تعبير استخدم إزاء الاختلاف بين دعاة العدمية، ودعاة الهوية القومية الذين طالبوا بتحديد الحديث عن القومية العربية وإمكاناتها التاريخية الراهنة والهائلة في تمكين العرب المعاصرين من أسباب وجودهم وكسب رهان الحضارة والمستقبل العربي.

 

ورد في ورقة المجلس القومي للثقافة العربية وعنوانها «قضايا الإبداع المسرحي في الوطن العربي» رأي هو، في اعتقادي، مصادرة على المطلوب وقطيعة مع التراث، أو هو تجاهل متعمد لمعنى الظاهرة المسرحية العربية، قالت الورقة: «إن الجهود المبذولة عبثاً في وطننا العربي للعثور في تاريخنا على ممارسات شبه مسرحية تقوم على الطقسية أو الاحتفالية أو التراثية هي من قبيل ممارس السيمياء باسم الكيمياء. إنها أصول تاريخية إما تعوزها النصوص أو المركبات الأخرى للمسرحية، باستثناء محدود في دلالته وهو حالة القرقوز وخيال الظل». وقد عني واضعو الورقة بالعرض المسرحي، وأبعدوا المسرحيات الموضوعة للقراءة، وهو فصل متعسف، لأن المسرحية، أي مسرحية ولو وضعت للقراءة، فإنها مسرحية عرض إذا توفر لها من يعرضها، وهذا هو حال مسرحيات توفيق الحكيم، وكان هو من أطلق هذا التعبير الذي يجافي فهم الظاهرة المسرحية.

 

وهكذا: وببساطة تثير العجب والطرافة المرة، قالت الورقة لاغية أي وجود للمسرح العربي في التراث: «وجد العرب أنفسهم أمام الإبداع المسرحي وجهاً لوجه مع مقدم الاستعمار، فاضطروا إلى تعاطي هذا الفن تحت ضغط خاص، ألا وهو أن يكون للعرب مسرح، مثلهم في ذلك مثل غير العرب، دون خلفية تنظيرية أو تاريخية، أي القيام بتحقيق فلسفي تاريخي عن سبب غياب المسرحية في أدبنا. إن الدافع لإنشاء المؤسسة المسرحية العربية كان دافعاً وطنياً وتجارياً، وهذه حقيقة يعرفها الجميع عن المستورد الأول للعمل المسرحي: مارون النقاش».

 

أما مراحل تطور المسرح العربي الحديث فتقسمها الورقة إلى الفترات التالية، على الرغم من تداخلها الواضح:

1- فترة الاستعمارات، وهي التي امتدت من استيراد المؤسسة المسرحية إلى احتلال مصر سنة 1882، وعرفت جيل الرواد: مارون النقاش- يعقوب صنوع - عثمان جلال - سليم النقاش.

2- فترة توظيف الإبداع المسرحي في النضال الوطني من أجل الاستقلال، بعد احتلال مصر، ومن رواد هذه الفترة: عبد الله النديم- مصطفى كامل - أبو خليل القباني.

3- فترة ازدهار مسرحي مبكر تنوعت فيه الأغراض وتجارب الكتابة مع مطلع القرن العشرين، حيث تألق في المسرحيات العاطفية سلامة حجازي ومنيرة المهدية، وفي الكوميديات نجيب الريحاني، وفي التراجيديات جورج أبيض وعبدالرحمن رشدي وفاطمة رشدي، وفي الميلودرامات يوسف وهبي.

4- فترة الجولات العربية الأولى، حيث زارت تونس فرق مسرحية متعددة. وقد لعبت هذه الزيارات دوراً في تكوين الرواد الأوائل للمسرح التونسي (اللكودي - محمد بورقيبة- علي الخازني)، وفي الجزائر (رشيد القسنطيني- علالو- محي الدين بشطرجي)، وفي المغرب (محمد الزغاري- محمد بن الشيخ - محمد القري - عبد الواحد الشاوي - المهدي المنيعي). وكذلك في ساحات عربية أخرى.

5- فترة ما بعد ثورة 1919، وعرفت إنتاجاً مسرحياً أصيلاً متأثراً بالنزعة التي فرضت نفسها في الثقافة العربية، وهي نزعة «فخورة» بالإرث الحضاري القومي ومتفتحة في الوقت نفسه على الثقافات العالمية الأخرى. ازدهر في هذه الفترة المسرح المجتمعي والمسرح المنوع ومن روادها أحمد شوقي وتوفيق الحكيم.

6- فترة ما بعد ثورة 1952، التي عرفت ميلاد المسرح الملتزم إيديولوجياً. ونجد محاولات لإدماج عناصر تقليدية في الإبداع المسرحي العرفي سعياً لتأصيله كالسامر والحكايات الشعبية والمقالات. ومن أعلام هذه الفترة: محمود تيمور- محمود المسعدي- سعيد عقل- الفريد فرج- يوسف إدريس- أحمد الطيب العلج- الطيب الصديقي- علي بن عياد- الحبيب بو لعراس..

7- فترة ما بعد هزيمة 1967، التي أفرزت مسرحاً قومياً قوياً وأصيلاً للتعبير عن غضبة الإنسان العربي وفضح هزائم الأنظمة العسكرية والرجعية، وقد جعل هذا المسرح من القضايا القومية التزاماً صريحاً وعلى رأسها قضيتا فلسطين ولبنان، ومظاهر التبعية للعرب الاشتراكي أو الرأسمالي، والمخاطر التي تهدد الهوية الثقافية العربية. وفي هذه الفترة اتسع نطاق محاولات التأصيل مشرقاً ومغرباً. نذكر من رواد هذه الفترة على سبيل المثال لا الحصر: سعد الله ونوس- نجيب سرور- سعد الدين وهبة- علي سالم- فوزي فهمي- عبد الكريم برشيد- محمود دياب- نعمان عاشور.

8- فترة التأزم بعد السبعينات- وهي التي نتجت عن الجرح الذي أصبح عميقاً في العقل العربي من جراء سلسلة الهزائم القومية والخلافات العربية مما عمق التجزئة والتعصب القطري وغياب الشروع الحضاري العربي. وقد تفاقم هذا التردي من جراء ظهور الثراء البترو دولاري واكتساح الفيديو الذي صعّد نماذج المهندس ومدبولي وأمام. أما الأصوات الأصيلة فقد آثرت الصمت أو الهجرة أو التقية من خلال أعمال تجمع بين الالتزام والإلهاء (دريد لحام- زياد الرحباني) أو هي أعمال تجريدية تنفي نفسها في التراثيات أو أبطال التاريخ العربي (المسرح الاحتفالي).

 

يناسب هذا التقسيم تطور الحركة المسرحية في مصرعلى وجه التقريب، ويحفل بإشاعة التأويلات التي لا توافي التاريخ أو فهم الظاهرة المسرحية العربية كما في الحكم على المسرح الاحتفالي أو إدخال سعدالدين وهبة وفوري فهمي ونعمان عاشور على سبيل المثال ضمن محاولات التأصيل، أو اعتبار الحدث السياسي حدثاً فنياً فاصلاً. ولعل مثل هذا العرض التاريخي المبتسر والمتعسف يجعل من مهمة كتابة تاريخ المسرح العربي ملحة وعاجلة. وتتوقف الورقة عند أسئلة كثيرة: لماذا هذا التقطع التاريخي؟ هل من سبيل للخروج من هذا النفق الذي يجتازه المسرح العربي؟ ما هي الشروط الضرورية للإنقاذ الممكنة؟ كيف نجعل المسرح العربي مسرحاً متناسباً مع العهد العلمي الذي نعاصره؟ كيف يجد المسرح العربي مدخله إلى الكونية والخلود؟

ثمة إنشائية واضحة في صياغة الأسئلة. ولكن المهم فيها هو تشخيصها لأزمة مستحكمة بالمسرح العربي اليوم. لا تملك الورقة إجابات جاهزة على هذه التساؤلات المحيرة، وحتى لو كانت تملك مقترحات حلول، فإن الظرف الموضوعي قد لا يساعد على أن تجد تلك المقترحات طريقها إلى الممارسة المسرحية. وما ذكرت من عناصر وشروط يتلخص في مايلي:

- جماهيرية المسرح.

- تطلعات قومية حضارية.

- عمل جماعي.

أما كيف تتحقق هذه العناصر والشروط فقد تجاوزتها الورقة إلى خطاب سياسي حول «فشل الدولة القطرية التي اختارت لنفسها نموذج المجتمع السياسي المعزول»، وهجاء الواقع المسرحي المهزول.

 

من الطريف في الأمر أن علي عقلة عرسان، وهو المختص في مجال بحث الظواهر المسرحية العربية أو التراثية، كان رئيساً لجلسة المسرح في الملتقى، فرفض ما جاء في الورقة، وعد هذا الرأي تغييباً لأهم عناصر الهوية القومية في المسرح. ثم تواتر هذا النقد في غالبية المداخلات. فقد أكد المشاركون أن فكرة المسرح ليست غربية، وأن أول فهم للهوية القومية هو نفي القطيعة مع التراث العربي وضرورة رصد الظواهر المسرحية انطلاقاً من إعادة النظر في فهم الظاهرة المسرحية عموماً، تاريخياً واجماعياً وفنياً. ومما قاله عرسان: إذا كان المسرح الغربي قد نشأ في أروقة الدين ورحابه ملتصقاً بطقوسه مبشراً بدعوته، فلماذا نستنكر على الظاهرة المسرحية العربية لصوقها بالطقوس الدينية الإسلامية؟ وتساءل عن التعارض المزعوم بين العروبة والإسلام، أما المهم فهو الأصالة الثقافية من منطلق وعي التاريخ ووعي الإبداع في لحظته الحاضرة.

 

ورفدت التجارب المسرحية هذا الحديث التأصيلي، فرأت منى واصف أن الأصالة توفر منظومة قيمية أخلاقية للممثل والمسرحي على وجه العموم، وأول القيم الالتزام القومي والتمثل بروح الفنان العربي. وربط مصطفى كاتب مسيرة الكفاح المسرحي بالأصالة النضالية والثقافية للشعب العربي في الجزائر. ووجد علي سالم المسرح في وعي الإنسان العربي بوجوده، فأن يركز على الاهتمام بالمسرح معناه الاهتمام بكبرياء المجتمع نفسه، فالمسرح نبل، والتزامه صورة للحياة، وصورة للواقع أجمل. ورهن أسعد فضة تطور المسرح العربي في سورية بهموم التأصيل ولخصها في العبارة التالية: الإبداع يعني الهوية. وهذا ما دفعنا إلى إقامة مهرجان دمشق للفنون المسرحية لتجد بحوث التأصيل وتجاربه أرضها العربية المشتركة. وعبّر سمير العصفوري بحدة عن المشكلة بقوله: «أخفقنا لأن شكسبير لم يشاركنا همومنا وقضايانا». وجدد محي الدين صبحي القول: «إن المسرح فعل مصيري، أي إنه فعل قومي». ورأى مراد وهبة أن المطلوب هو مصادمة الجمهور، وليس مصادمة السلطة فحسب، لأن الجمهور غارق في الخرافات والأساطير، والمسرح مناخ صدام للوعي. ودعا في هذا الإطار علي المصراتي إلى تربوية المسرح، ولاسيما المسرح المدرسي. وأعلن عبدالحق الزروالي نقمته على الكلام عن المسرح في غياب المسرح، فقد أفسدنا الحب والكلام عن الحب. وكأننا إذا قدمنا مسرحية للشعب (يقصد مسرحية غير نخبوية) فيجب أن تكون تافهة، وأفاد أن الطليعية لا تعني فقدان الجماهيرية، ولا تعني الأصالة، فالتأصيل المسرحي يكون في الممارسة الحقة مع الجماهير.

 

وكان عبد الكريم برشيد أثار مشكلة الكتابة المسرحية العربية من أفق السؤال المشروع عن روح التأسيس، فإن تكتب يعني أن تكون مسكوناً بتراثك كله، فالتراث في روح التأسيس دائماً، لكونه ذاكرتها الحية والأصيلة.

 

إن حصيلة الملتقى العربي الأول للإبداع الأدبي والفني في مجال المسرح، تشير إلى مايلي:

1- وضع قضية الهوية القومية للمسرح العربي موضع الحوار على أنها القضية الفكرية والفنية الأولى في وجدان المسرحيين العرب وفي ممارستهم المسرحية، وهو ما أكدته جلسات لجنة المسرح.

2- وضع قضية الهوية القومية للمسرح العربي في سياقها المعرفي والتاريخي العام للثقافة العربية، إذ نوقشت هذه القضية لأول مرة من منظور اتصالها بالآداب والفنون العربية الأخرى. ومن منظور شامل لقضية التأصيل.

3- وضع قضية الهوية القومية للمسرح العربي في سياقها الفني والثقافي الذي يرى المسرح ظاهرة إبداعية جماعية وظاهرة اجتماعية ثقافية، فحشد الملتقى لجلسة المسرح مسرحيين من صنوف الإبداع المسرحي المختلفة: الإخراج- التمثيل- التأليف- النقد- البحث- التعليم...إلخ.

4- أثبتت الحصيلة فقر القائلين بانعدام المسرح في التراث العربي بتجارب وشهادات حية نظرت إلى المسرح العربي في تطوره الحضاري والثقافي العام على أنه حاجة قومية وفن قومي عرفته الشعوب شكلاً من أشكال التعبير، وإن اختلفت الظاهرة المسرحية من شعب لآخر.

والمهم هو الانطلاق دائماً من الظاهرة المسرحية القومية لأنها ضمانة الاتصال بالجماهير، وحصانة الإبداع الأصيل. وهذا ما تبين في الموقف الناقد للورقة، وفي الحماسة البينة التي أظهرتها خبرات مسرحية عربية أفصحت عن نفسها في ميدان الأصالة المسرحية.

 

-3-

تأتي أهمية ندوة الرياض للاعتبارات التالية:

1- معالجة لموضوع ذي أهمية وحساسية خاصة هو الموروث الشعبي المكتوب والشفهي في الإبداع العربي الحديث.

2- مشاركة عدد كبير من المبدعين العرب من غالبية الأقطار العربية.

3- اقتران النظرية بالتطبيق في بحوث الندوة ومناقضتها من منظورات قومية عربية لا تغفل الالتباس الكامن في هذا الموضوع فكريا (ولاسيما العلاقة بالإسلام) وفنياً.

وعلى مدار أربعة أيام، وفي خمس جلسات نوقشت أوراق الندوة، وناقش المشاركون ورقة عمل في كل جلسة، بالإضافة إلى التعقيبات المعدة مسبقاً والمداخلات الآتية:

ترأس الجلسة الأولى منصور الحازمي، وقدم ورقتها علي الراعي حول «الفن المسرحي في العالم العربي: تاريخه وعوامل ظهوره»، وعرض فيها لاختلاف الرأي المتواتر في معرفة العرب للمسرح شارحاً المواقف المتباينة للذين أنكروا هذه المعرفة، والذين سعوا لإثباتها، والذين عملوا لتأصيلها على ما وصلهم من ظواهر وأشكال مسرحية عربية أو قابلية للمسرح.

 

ولاحظ الراعي أن ثمة تيارين غلباً على المشهد المسرحي العربي خلال أكثر من قرن من الزمن. دعا التيار الأول إلى شعبية المسرح العربي أو المسرح الشعبي العربي منذ الرواد، مارون النقاش وأبي خليل القباني ويعقوب صنوع، إلى المحاولات الأخيرة للطيب الصديقي وعبدالكريم برشيد وعز الدين المدني وقاسم محمد ويوسف إدريس وسعدالله ونوس وغيرهم. بينما بذل أصحاب التيار الثاني جهوداً كبيرة للكتابة المسرحية على القالب الغربي. وقد صبت معظم مسرحيات توفيق الحكيم التي تنوف على الستين مسرحية في هذا القالب. ثم ناقش علي الراعي أبرز الظواهر التي رافقت تطور المسرح العربيى الحديث كالإلحاح على وظيفته الاجتماعية والسياسية وغلبة الاتجاه الواقعي على ممارسته وعرضه وتأثير وسائل الاتصال بالجماهير الأخرى على انتشاره، والفوائد الكبرى التي أداها المسرح للثقافة العربية الحديثة كحمايته للغة العربية في الشمال الإفريقي، وتطويعه لقابليات اللغة العربية في معركة الحضارة الحديثة...إلخ.

 

وقد قرر الراعي أنه بفضل هذه الجهود جميعاً قام فن المسرح في أجزاء كثيرة من الوطن العربي، وأصبح جزءاً من الحياة الاجتماعية والثقافية في البلاد التي مارسته وعقدت له المهرجانات في كل من دمشق وبغداد والقاهرة وتونس والجزائر والمغرب، ورصدت له الحوافز وشارات التكريم، ومنح فنانوه الاعتبار الاجتماعي الأكمل على شكل جوائز وألقاب مختلفة. وعقب على الورقة ألفريد فرج وعبدالكريم برشيد. تساءل الفريد فرج عن المدخل السليم لنشوء ظاهرة المسرح العربي، فنحن نتحدث عن مستوى معين هو المستوى الأدبي، ثم نهمّش جانباً المسرحيات التي لا ترقى إلى هذا المستوى مؤكداً أن المسرح ليس نصاً وحده، وهذا المدخل غير سليم، لأن الظواهر المسرحية العربية منتشرة وموجودة قبل التقليد الغربي، مشيراً إلى أن النشاطات شبه المسرحية تحولت في القرن الماضي إلى الساحة الكبيرة للأدباء والمثقفين والجمهور العريض، وصار المسرح بعد ذلك قادراً على صناعة التاريخ. أما عبدالكريم برشيد، وهو صاحب منهج خاص في «الاحتفالية المسرحية»، فقد أعاد إلى الأذهان فكرته عن المسرح وفهمه لتاريخ التجربة المسرحية العربية، فثمة انفصام بيننا وبين المسرح. فقد أرخوا لصيغة مسرحية غربية تبنيناها من خلال الصدمة الحضارية، وبحثاً في المتغير ولم نبحث في الثابت. اهتم الباحثون والمسرحيون بصيغة مسرحية واحدة كائنة، وأهملوا عشرات أو مئات الصيغ المسرحية الأخرى الممكنة. ودلل على رأيه بأقوال المستشرقين حول استعداد العرب للتعامل مع المسرح، وذكر بأنها نظرة فاشية تفرق بين إنسان وإنسان، وأشار برشيد إلى أن الأبحاث قد انطلقت من فرضيتين خاطئتين، أولاهما أن المسرح واحد موحد، وثانيهما هي أن المسرح غربي أو لا يكون مسرحاً، وقال برشيد: حتى نبحث عن المسرح العربي يجب أن نبحث عن شروط المؤسسة المسرحية، ورأى أن الشروط الأساسية لإيجاد مسرح حقيقي هي وجود المدنية والديمقراطية والفكر. وعرض برشيد لأشكال من التلفيق والتوفيق في بناء المسرح العربي ليعرّج بعد ذلك على جهود التأصيل كما تبدت في بحوث علي الراعي وعلي عقلة عرسان. أما المناقشات للورقة والتعقيبات عليها فقد كانت حادة وصاخبة حول النقاط التالية:

- الاتفاق حول وجود ظواهر مسرحية عربية وبعض مظاهر التمثيل. ولكن العرب لم يعرفوا المسرح. فما حصل خلال أكثر من قرن من النهوض المسرحي هو مقالات قابلة للمسرحة ووضعها في قالب مسرحي أوروبي، بينما أكد كثيرون أيضاً أن العرب عرفوا المسرح، ولكن المسرح ليس واحداً وليس أوروبياً فحسب، فلماذا نعترف بشعائر الفراعنة والاغريق والكنيسة على أنها مسرح، وننكرعلى التراث العربي حقه؟

- الاختلاف حول تشخيص النهضة المسرحية العربية ومراحل تأريخها والعوامل المؤثرة فيها كما وردت في ورقة العمل، وعلى سبيل المثال ليس صحيحاً ما ذكره الراعي حول المسرح في سوريا، وأنه بدأ في ندوة الفكر والفن بعد الاستقلال لأن بداءته كانت في العشرينيات، وثمة ملاحظات أخرى كثيرة.

 

وفي الجلسة الثانية التي رأسها عبد القادر طاش وقدم ورقتها علي عقلة عرسان كان الموضوع «لغة المسرح بين الفصحى والعامية». وحملت الورقة دفاعاً مجيداً عن اللغة العربية ومقدرتها على التطور وحمل الرؤى الفنية والتعبيرية الجديدة. واستغرق في العرض التاريخي لمحاولات التقليل من شأن هذه اللغة وصلاحيتها لعلوم العصر وآدابه وفنونه، ووجد أن منطلق هذه المحاولات هو الاستعمار والمستشرقون والمتغربون الذين أرادوا إحداث الشرخ الثقافي في جسم الأمة العربية وتحويل لغة القرآن الكريم والثقافة العربية كلها وكل ما تحمله إلى لغة متحفية ومقبرة للمعلومات وللتراث العربي الإسلامي كله. وعززوا نهجهم ذاك بشكل مستمر وبكل الوسائل. ورصد بعناية حجج أنصار الفصحى وآراءهم، وكذلك فعل مع أنصار العامية، وانتقل إلى المسرح وطبيعته ولغته، وركز على موضوع لغة الحوار في المسرح العربي بين الفصحى والعامية مستنداً في إيجاز للجانب التاريخي من الموضوع إلى ما سبق وأوضحه من خلفيات وملابسات واجتهادات وآراء في موضوع الفصحى والعامية ضمن الإطار الثقافي العام ومستفيداً منه في الإشارة إلى الحجج والذرائع في إجمال القضية وشمولها، فعرض لتاريخ لغة الحوار في المسرح العربي، ووجد أن الرواد في بلاد الشام قد اعتمدوا الفصحى لغة للحوار المسرحي.

 

أما في مصر فقد لجأوا إلى العامية، بينما اختار بعضهم المزج بين الفصحى والعامية أو اقتراح لغة وسيطة بينهما، وأورد حجج الذين يعتمدون الفصحى لغة في الحوار المسرحي في بنود واضحة مفصلة. فالمسرح أدب عماده الكلمة المجنحة، والفن والأدب جزء من المعطى الثقافي ومجال من مجالات الإبداع النابع من الأمة والمتصل بها تفكيراً وتعبيراً وانتماء واهتماماً، والعامية لا قواعد ولا معايير ولا أصول ولا ثوابت لها، وكلها متغيرات على غير أساس أو معيار، وهي تتغير من قطر إلى قطر ومن حي إلى حي، ومن ريف إلى ريف، ومن مدينة إلى أخرى، ومن قرن إلى قرن. واللغ العربية الفصحى واسعة ومرنة ومفرداتها مبثوثة في أكثر من خمسة وتسعين بالمائة من مفردات الدارجة، والعامية تراكيب غير سليمة، وعدم أعراب، وحشو لبعض مفردات غير عربية محلية، أو لكلمات أنتجها خطأ السماع أو الإبدال أو اللسان واعوجاجه عند بعض الأشخاص ونماها الجهل وعدم التدقيق...الخ.

 

وختم ورقته بإظهار ميله إلى الفصحى، فنحن ننشد السلامة التامة في المكتوب من لغة الحوار ونريد أن نربي ملكة السمع على الفصحى سليمة في المسرح من خلال المنطوق من كلام شخوص المسرح في بيان ينمي الذوق ويوصل المعنى، ولنعمل قولاً سديداً لابن خلدون الذي قال (السمع أبو  الملكات اللسانية)، وليصبح المسرح داراً للتربية أيضاً.

 

وعقب على الورقة علي جعفر العلاق ومحمد بن سعد بن حسين. وبدأ العلاق تعقيبه بالإشارة إلى خطورة هذا الموضوع وحيويته، لأن المسرح حوار، ولا شيء سواه، وهو العلاج الوحيد للكاتب المسرحي، وعن طريقه تتكشف المصائر عن شبكة العلاقات بين شخصيات المسرحية، وعن طريقه تتكشف المصائر والأهواء، وتتجه صوب ذروة درامية.

 

وأشار إلى أنه بسبب انفصام لغة الآداب والفكر عن لغة الحياة فنحن نواجه معضلة خاصة لا توجد في الأمم الأخرى، ونحن حيارى بين اللغة الشفهية واللغة المكتوبة. وأكد العلاق أن الصعوبة لا تكمن في الفصحى بحد ذاتها، بل تكمن في مستوى التعبير بالفصحى أو طريق التعبير بها في المسرح العربي، وأن الفصحى يمكن بأن يكتب بها مسرحيات جيدة. كما أكد أن القضاء على العامية لا يكون بالتوصيات، ولكن بتضييق المسافة بين الفصحى والعامية والقضاء على التخلف.

 

وفي تعقيبه أثنى محمد بن سعد بن حسين على ورقة عرسان، ولكنه أخذ على الباحث إطالته في التقديم الذي استغرق نصف الورقة تقريباً وتساءل ابن حسين عن رسالة المسرح. وهل هي توجه الناس أم لا؟ وأكد ذلك بنعم، وتساءل أيضاً عما إذا كان من رسالة المسرح إصلاح لغة العرب؟ فمادام المسرح وسيلة إصلاح فإننا نطلب منه ذلك. وخلص إلى أن المسرح قد رسخ لدى العرب. وإنه يجب على المثقف أن يوجه المجتمع إلى الصالح، وإلا ينزل إلى حيث العامة.

 

ونوجز الملاحظات حول الجلسة الثانية، فيمايلي:

- بروز الخلافات بين دعاة الفصحى ودعاة العامية، فقد كشفت الندوة أن هناك كثيرين ممن يؤمنون بالعامية لغة المسرح باسم الديمقراطية، وفي هذا خلط واضح، إذ يتجاهل هؤلاء أن خيار وسائل الاتصال كالإذاعة والتلفزة والخيالة ليس خيار الشعب.

وثمة أطروحات أخرى دافعت عن العامية باسم الواقعية، متجاهلة أيضاً أن الواقعية الفنية لا تعني النقل الحرفي للواقع، لأن للغة المسرح مستويات تعبيرية وغيصالية ومجازية تختلف عن لغة الناس في الحياة اليومية، والفن كله لا ينقل لغة واقعية مباشرة، وإلا خرج عن طبيعته.

 

وفي الجلسة الثالثة التي يرأسها محمد بن حسن الزير، كان الموضوع «الشكل والمضمون في المسرح العربي وعلاقته بالتراث». وقدم ورقتها عزالدين إسماعيل. وقد طرح إسماعيل في مستهل ورقته جملة من الأفكار لتكون بمثابة منطلقات أساسية للنظر في قضية المسرح وعلاقته بالتراث الشعبي من حيث الشكل والمضمون. فبدأ بفكر التراث نفسه، وتأمل قليلاً في مغزى أن علاقتنا بهذا التراث قد صارت منذ زمن غير قصير موضوع بحث وجدل، واستخلص من هذا الموقف أننا صرنا نتحرك في هذا الجدال على أساس من ثنائية «نحن» و«التراث». وهنا النحن تشير إلى وعي بالذات كما تشير كلمة التراث إلى كيان خارجي له مقوماته الخاصة. والعلاقة بين طرفي هذه الثنائية هي التي كانت منذ بداية النهضة حتى اليوم موضع التساؤل والفحص والتحديد.

 

وانتهى إسماعيل إلى ضرورة التفرقة بين مستويين عامين في موقفنا من التراث: المستوى الأول يتمثل في الوعي به، ويتمثل المستوى الثاني في توظيفه، على أن تحقق هذا المستوى الثاني مشروط بتحقق المستوى الأول، فلا توظيف للتراث دون وعي به. ولاحظ أيضاً أن مفهوم توظيف التراث ينطوي في دلالته الأخيرة على حقيقة أن من يوظف التراث لابد أن يكون قادراً على فعل الاتصال- الانفصال، الاتصال بالتراث والانفصال عنه في الوقت نفسه. أما الاتصال فيحقق المعرفة، وإما الانفصال فيسعف على التوظيف. ومع ذلك فإن خصوصية التراث الشعبي وتاريخيته تفرض له في حياتنا وضعية خاصة. فالتراث الشعبي لا يتمثل فحسب في تلك المأثورات التي أمكن تدوينها في حقب مختلفة من الزمن الماضي، وأصبحت بالنسبة إلينا في زمننا الحالي مجرد مادة مقروءة، بل يمتد هذا التراث ليشمل كل أشكال الإبداع الشعبي حتى زمننا الحالي نفسه. وهكذا وجدت المادة الشعبية العربية طريقها إلى المسرح في يسر لأنها كانت المادة الحية في ضمائر عامة الناس القادرة على تحريك مشاعرهم وجلب المتعة إلى نفوسهم، وقد أقبل كتاب المسرح على تلك المادة مبكرين دون أن يستشعروا أدنى غضاضة في التعامل معها، وهم لا ينظرون إليها على أنها مادة هابطة القيمة، كما قد يخيل إلى من يتوجسون خيفة من التعامل مع التراث الشعبي على المستوى العامي، ناهيك عن توظيفه في الأعمال الأدبية والفنية.

 

وعرض إسماعيل لتوظيف بعض مصادر التراث الشعبي كألف ليلة وليلة والسير الشعبية والحكايات القصيرة الطريفة المعروفة باسم النوادر ولاسيما حكايات جحا ونوادره.

وانتقل بعدئذ إلى محاولات توظيف الشكل المسرحي، فهناك من ذهبوا إلى أن الشكل المسرحي الحقيقي المعتمد هو الشكل الغربي بما حققه من نضج وتفوق على المستويات التقنية والفنية والفكرية، وأن الأشكال المسرحية التي عرفها العرب وكانت تستهدف التسلية الشعبية مثل «الحكواتية» و«المحبظين» و«وخيال الظل» و«الأرجواز» ليست من فن المسرح في شيء، وإن احتوت على بعض عناصره الشكلية، وإنها، أي هذه الأشكال، لم تكن نواة للفن المسرحي الحديث عندنا الذي لا يمكننا أن ننظر إليه على أنه تطور عنها.

 

وذكر إسماعيل أن الجدل حول مفهوم الهوية قد اشتد في الخمسينيات، وجرى الاعتراف بأهمية هذه الأشكال في تحقيق مسرح عربي له خصوصيته وتميزه. وكانت هذه الجهود تتعلق في معظم الحالات باستنباط الشكل المسرحي الذي يتأسس بصورة مباشرة على عنصر أساسي أو مجموعة من عناصر الأداء الشعبي المشار إليها أو من غيرها.

 

وختم عزالدين إسماعيل ورقته بالقول: «إذا كانت قضية الشكل المسرحي مازالت مطروحة ولم تحسم بعد، وكانت لاتزال قابلة للتمحيص والتجريب، فإن هذا لا ينبغي أن يكون مصدر إزعاج لأنه يأتلف وطبائع الأشياء. أما على مستوى المضمون فإن التجربة المسرحية العربية مازالت تجد في التراث مجالاً واسعاً لا ينفذ للتفاعل والتأصيل». وقد عقب على الورقة محمد يوسف نجم وعزالدين المدني وعبدالرحمن بن زيدان. رأى محمد يوسف نجم أن الورقة تتميز بالنظرة الشاملة التي أحاطت بالموضوع من كل جوانبه. أما عزالدين المدني فوجد البحث مشغولاً بالمسرح العربي في مصر بالدرجة الأولى، وغفل عن تجارب عربية كثيرة في أقطار عربية أخرى كانت ستضيء جوانب من توظيف التراث الشعبي في المسرح العربي، فخصّ تعقيبه تجربته المسرح في تونس في مجال العلاقات بالتراث.

 

ثم عقّب عبدالرحمن بن زيدان على البحث فتطرق بالنقد إلى مركزية التجربة النقدية بمصر على الرغم من أن القضية المركزية للنقد المسرحي هي الشكل والمضمون والتراث في التجارب العربية الأخرى، وناقش محاولات البحث عن قالب مسرحي عربي خارج مصر، وتوقف عند اتجاهات تسييس المسرح بالتراث عند سعدالله ونوس وعلي عقلة عرسان وعزالدين المدني.

 

وكان أشار إلى محاولات مسرحة التراث لدى الطيب الصديقي، وتوقف مطولاً عند المسرح الاحتفالي عند عبدالكريم برشيد، وفرّق بين تحقق الذات في الممارسة وتحقق الذات في النظرية، وناقش بإيجاز دواعي استخدام التراث وحاجاته شكلاً ومضموناً، مما أضاف إلى ورقة عزالدين إسماعيل كثيراً.

 

وهناك ملاحظات كثيرة حول الورقة، نذكر منها:

- بروز الحاجة إلى تأريخ المسرح العربي القومي الذي ينظر في مجموعة التجارب المسرحية في الأقطار العربية كلها، وينظر إلى العوامل والمؤثرات الختلفة.

- ظهور اتجاهات قوية تؤكد أن توظيف التراث العربي شكلاً ومضموناً ملاذ للخروج من أزمة المسرح العربي وإجابة صريحة على مشكلاته الكثيرة، ولاسيما الهوية، والتوكيد على أن التوظيف لا يعني أن إعادة خط أو مضمون، بل هو علاقة تستفيد من الشكل والمضمون في تركيب مسرحي جديد.

وفي الجلسة الرابعة، عولجت «التجربة المسرحية في المملكة العربية السعودية» وخصصت الجلسة الخامسة والأخيرة لموضوع «نحو مسرح إسلامي»، ولا نعتقد أن ثمة فائدة في عرضها في هذا السياق. هذه الندوة فائقة الأهمية، لأنها عقدت بالرياض أولاً، ولأنها قاربت موضوعاً يمثل حافة حرجة في الثقافة العربية الإسلامية هو المسرح ثانياً، وجمعت بين حشد من المفكرين والأدباء وفناني المسرح من تيارات مختلفة، ومن أقطار عربية مختلفة، وذوي شأن في المسرح العربي ثالثاً.

 

-4-

ثم كانت الندوة الفكرية لأيام قرطاج المسرحية في دورتها الخامسة التي عالجت مشكليات التلقي والتواصل في الفعل المسرحي، وفيها اعترف المسرحيون بأن «اللاتواصل» أصبح هو القاعدة في الفنون كلها، ومن ضمنها المسرح، فانكبوا على دراسة عوائق الاتصال في الفعل المسرحي، فوجدوا أن قضية إهمال الهوية في المسرح العربي هي الأساس، فلابد من فهم مشكليات التلقي وتطوير وسائله على ضوء الهوية القومية ليمكن تطوير المسرح، فللتلقي سوسولوجيته وأنثروبولوجيته (الإناسة) وسيمولوجيته، وهي مرتبطة بالتقاليد وقابليتها للتحديث. وقد لاحظ المشاركون أن الفعل المسرحي يتحقق في إطار تاريخي وحضاري محدد، وضمن بنية ثقافية وسياسية واقتصادية شاركت في إنتاجه وتعطيل هذا الانتاج أو إقصائه، كما يتحقق التواصل والتلقي من خلال شبكة من الدلالات أو من الشفرات المنتجة داخل منظومة معرفية ينتمي إليها المبدع والمتلقي. لذلك درسوا عوائق الاتصال في الفعل المسرحي على مستوى مكونات العرض نفسه، وعلى مستوى ظروف إنتاجه وتوصيله. فعلى مستوف مكونات العرض لاحظوا مايلي:

1- غربة فكرة العرض أو أحد عناصره التعبيرية عن المتلقي حيث لاحظ المتدخلون أن إقبال المتفرج على العرض يتناسب طردياً وألفته جمع فضاء العرض ووسائل التعبيرية الأخرى مثل الهندسة المعمارية والمشهدية للمسرح والأزياء وغير ذلك.

2- انحراف الرسالة الاتصالية وانقطاعها بسبب عدم تمكن المرسل من أدواته التعبيرية وتمرسه بها أو بسبب خروجها عن النمط السائد وعدم تقليديتها.

3- عدم تقاطع المتلقي مع الهموم والاهتمامات التي يطرحها العرض حيث لوحظ عدم إقبال المتفرج على العروض التي لا يجد فيها نفسه. فالمعادلة ليست دائماً قائمة بين أهمية العرض وطرحه لرؤى فكرية وفنية ذات قيمة إنسانية بالغة، وبين إقبال المتفرج عليها، ودعوا إلى مزيد من الانكباب على الظاهرة التي تشكل حيرة كبرى للباحثين.

4- انحراف الرسالة بسبب غياب إطار دلالة واضح يشكل مرجعية مشتركة بين آليات الباث والمتلقي، ويسهل عملية التقبل، حيث يضيع معنى العرض في فوضى من العلامات التي تنتمي لها أبنية عصرية ومنظومات ثقافية وحضارية مختلفة، وأحياناً متعاركة.

 

وأشار المتدخلون على مستوى المتلقي إلى أن المتفرج هو شريك أساسي في عملية الإبداع المسرحي، كما أن التلقي المسرحي تلق من جنس فريد، لأنه ليس عملية أفقية تتم بموجبها توجيه رسالة من الخشبة إلى الجمهور، بل أن المتلقي يتحول إلى باث. وهذه العملية التواصلية الدائرية قد تصل إلى إدخال عمليات تغير هامة على الرسالة الأولى. وقد توقف المتدخلون عند عناصر وظروف تلعب دوراً هاماً في صنع آليات التلقي عند المتفرج والتأثير عليها، منها المستوى الثقافي للمتفرجين ومدى تجانسهم ومستوى خبرتهم بعملية الاتصال المسرحي ومدى استعدادهم لتقبل آراء وأفكار مخالفة لمرجعيتهم الفكرية والثقافية ومدى تحررهم من واحدية التفسير والتركيب للرسالة المسرحية وفهمها ومدى تأثر الآراء والقواعد والخفايات التي تضعها المؤسسات النقدية والإعلامية والتعليمية، التي توجه سلفاً عملية التقبل فتعمقها، أو تنصرف بها، أو تشوهها.

 

لقد جرت الإشارة إلى تأثير الانتماء الثقافي والاجتماعي والاقتصادي للفرد على عملية التلقي والتوكيد على أهمية التنشئة المسرحية للمتفرج منذ سنوات الطفولة الأولى حيث لاحظوا، على الأقل على المستوى العربي، تهميش مسرح الطفل والشباب سواء على مستوى الإنتاج أو البرمجة، وطالبوا أن يكون المسرح مادة أساسية في مناهج الدراسة حتى يلعب المسرح دوره لا فقط في إعداد متفرج صغير، بل في تحير طاقاته الإبداعية وتنشئته على قيم فكرية وفنية جمالية إنسانية.

 

اعترف المسرحيون العرب، أخيراً، أن من أهم المشكلات التي تواجه التلقي والتواصل في الفعل المسرحي «انحراف الرسالة الاتصالية وانقطاعها بسبب عدم تمكن المرسل من أدواته التعبيرية وتمرسه بها أو بسبب خروجها على النمط السائد وعدم تقليديتها»، أو بتعبير آخر «بسبب انقطاعها عن التجربة الفنية ولاسيما التقاليد المسرحية»، أو بتعبير مختصر دال هو القطيعة المعرفية والذاتية مع التقاليد القومية. وإذا كان ثمة من يستنكر وجود المسرح أو الظاهرة المسرحية في التراث العربي القديم، فإن تجربة أكثر من قرن من الزمن شكلت تراثاً عربياً حديثاً اختبر الظاهرة المسرحية في المجتمع العربي، وتوصل إلى خيارات متعددة في الفعل المسرحي تحمل خصوصية قومية لا يماري أحد في جدارة الأسئلة التي تطرحها على المسرح العربي على وجه الخصوص، وعلى الثقافة العربية على وجه العموم.

 

إن عشرات الظواهر المسرحية، الاتصالية، المشهدية، المنبثقة عن الاحتفالات والطقوس الاجماعية والدينية أعيد اكتشافها واستخدامها في أجوبة الهوية القومية للمسرح العربي، ولعل آخر هذه الاكتشافات قابلية «مسرحة» النصوص السردية في الثقافة العربية والإسلامية، وهي هائلة وثرية بالمشهدية ولغة الحوار مع الجمهور، كما هو الحال مع كتب القصة والمتصوفة والحكايات والرموز الشعبية والشعائر الدينية وسوى ذلك من طقوس. أما آخر هذه الاستخدامات فهو شيوع اتجاه الاحتفالية الذي يثمر بعض هذه الاكتشافات في تطويع المسرح لحاجات الاتصالية والإبلاغية العربية، ومخاطبة جمهور عريض بأسلوب الفرجة.

 

يلاحظ في هذه الندوة استمرار الشجن حول الشواغل القديمة الجديدة قي الوعي الثقافي القومي في أحد أجناسه المقلقة، فعلى الرغم من حداثة موضوغ التلقي والتواصل في الفنون بتأثير تحديات وسائل الاتصال بالجماهير وتقنياتها المتطورة، فإن الآراء المطروحة في بحثها عن إجابة لم تخرج عن التساؤلات القديمة مثل: ما منزلة المسرح من اهتمامات شعوبنا؟ ما المكانة التي تعطيها السياسة في بلداننا للثقافة والمسرح، وضمن مشروعات التخطيط الثقافي على وجه الخصموص؟ وما دور الثقافة ضمن سياق يفترض تفتحاً على ثقافات العالم من جهة، ويطرح قضية الهوية من جهة أخرى؟ يظهر واقع المشكلة أن القضية ليست تقنية فحسب، بل هي موصولة الجذور العريقة بالوجدان العربي وتحرك روحيته، وليس هنا فعل مسرحي يمكن نقله عن ثقافة أخراى كلياً، لأن الفعل المسرحي ألصق بالفنون الجمعية الحركية والاتصالية من الفنون المكتوبة، ونستطيع القول جازمين أن إنجاح التلقي والتواصل دائماً، وحسب ما أظهرته الدراسات الخاصة بتأريخه هذه الظاهرة في ثقافات الشعوب مرهون بتثمير تقاليد الفرجة المسرحية في الأبنية الثقافية القومية بتجلياتها الانتروبولوجية والانثوغرافية والاجتماعية والدلالية الرمزية لمعنى الثقافة الاتصالي لدى الجماعات البشرية. وبتعبير موجز، ليس بمقدورنا أن نطور تجربتنا المسرحية دون الانطلاق من وعي طبيعة التلقي والتواصل في هذه الأبنية الثقافية القومية، بحثاً وتطويراً في الممارسة التي تلبي حاجات اتصالية نابعة من وجدان الناس ونمط تفكيرهم وطرائق عيشهم، فالفعل المسرحي لا ينقل تقليداً لتجربة ثقافية مختلفة، بل يستعاد أو يصاغ تقليداً للتجربة الثقافية القومية في وعيها العميق لذاتها، والذات لا تكون بعد ذلك معزولة عن الثقافات الإنسانية الأخرى، لأنها تغتني وتغني تقاليدها الثقافية بانفتاحها الواعي والواثق على التجارب الأخرى( ).

 

-5-

نستخلص من هذا العرض النقدي للتفكير الأدبي العربي الراهن بقضية تأصيل المسرح العربي مايلي:

1) مواجهة التحكميات التي تبتعد بالممارسة المسرحية عن تكوين تقاليدها الثقافية والفنية اللازمة لتأصيل المسرح العربي أو الاستمرار بالتقاليد الأدبية والفنية العربية، ومن هذه التحكميات:

أ- الجواب على سؤال المثاقفة، بوصفها سبيل الرؤيا لدى المسرحي العربي، إذ يقيس تجربته وتاريخه الفني عموماً، والظاهرة المسرحية العربية أو أشكال المسرح المتوارثة خصوصاً بمقاس المسرح الغربي.

ب- الجواب على محنة موضوع الهوية في العمل الثقافي العربي المشترك وفي الفكر الأدبي والتفكير الأدبي العربي منه على وجه الخصوص.

2) البحث في الهوية القومية للمسرح العربي، وهي أبعد من مجرد استعادة التراث أو تطويعه لقابليات العرض المسرحي، وإن استند إليه في بعض المداخل، فالمهم هو تحقق الروح العربية، ويكون هذا بالتراث أساساً مكيناً للإبداع، وليس التراث أشكالاً فحسب. لقد جرت محاولات كثيرة للتأصيل من منطلق التراث داخل المسرح، أي استلهام التراث في المسرح استدعاء لشخصيات، أو استحضار لموضوعات أو حضوراً لأفكار وقضايا، أو استخداماً لجانب من شكل أو شكل، وفي هذا بدء مشروع ينبغي تنميته بتطويع المكونات التراثية لاختيارات مسرحية معاصرة لا تنقطع عن التراث المسرحي العالمي في تطوره الشامل، فالهوية لا تعني إعادة التراث بل استعادته في عملية وجود حية تبرهن دائماً عن روح العصر، ولابد أن تواجه مثل هذه الاختبارات الأسئلة التالية:

1- الموقف من الظاهرة الإبداعية المسرحية العربية إزاء صلتها بالدين والطقوس الدينية، لأن المفيد هو أن تتحول الطقوس واحتفالات جماهيرية.

2- الموقف من الظاهرة الإبداعية المسرحية العربية إزاء صلتها مما يميزها من عناصر فرجة ومشاركة شعبية، وهذا بحد ذاته عامل نجاح  في التأصيل.

3- الموقف من الظاهرة الإبداعية المسرحية  العربية إزاء الروافد التراثية الهائلة، من القص والحكاية، وهو عامل نجاح في التأصيل أيضاً، لأنها تدخل في الظاهرة من باب قابليتها للمسرحة.

 

4- الموقف من الأشكال المسرحية التراثية، وأشرنا إلى كثير منها، وإمكاناتها الطيبة في إغناء البحث التأصيلي المسرحي.

إن هذه الأسئلة، وسواها، تتطلب إجابة في العمل الثقافي العربي المشترك، وفي الممارسة المسرحية العربية التي تستهدي بالهوية القومية في المسرح العربي. ولابد في هذا المجال من اللقاء المنتظم بين المسرحيين العرب لمتابعة بحث قضية التأصيل وتقويم الجهود المبذولة.

[مجلة «الوحدة» (الرباط) تموز-آب 1992]

  

 

4

المسرح  في مؤتمرات الأدباء العرب

ظلت قضية المسرح، أو قضية المسرح العربي، هامشية في مؤتمرات الأدباء العرب على الرغم من أهميتها الفكرية والفنية، ولا سيما اتصالها بقضايا أخرى مثل الهوية والتبعية والأصالة من منظورات طبيعة التفكير الأدبي العربي في انبثاق المسرح من الشعائر والطقوس الدينية أو المسرح بوصفه شكلاً أدبياً مستحدثاً كما هو شائع، أو الظواهر المسرحية الموروثة كأشكال مسرحية أو احتفالية.. الخ. أجل، لقد ظلت مثل هذه المنظورات بعيدة عن الدرس الأدبي وعن التفكير الأدبي العربي على نحو مباشر حتى مطلع السبعينات إذ ركن غالبية المشتغلين بالمسرح العربي إلى أحد اطمئنانين، أولهما الاطمئنان إلى أن المسرح شكل عربي وعلى هذا فهو مستحدث عندنا في الثقافة العربية، وثانيهما الاطمئنان إلى أن الظواهر المسرحية العربية ـ إن وجدت ـ فهي لا تقيم مسرحاً ولا تندرج في الثقافة العربية التقليدية من جهة، ولا تتيح أفقاً لنهوض مسرحي ذاتي من جهة أخرى.

وعندما نوقشت قضية المسرح أو قضية المسرح العربي في مؤتمرات الأدباء العرب، على قلتها، فإنها نادراً ما التفتت إلى القضية بحد ذاتها، أو فيما تثيره من مشكلات واقعية في الثقافة العربية الحديثة، أو التفكير الأدبي الحديث على وجه الخصوص، فقد عولجت قضية المسرح العربي في علاقتها بموضوعات المؤتمرات الكبرى التي تركزت غالباً، حتى المؤتمر الحادي عشر على الأبعاد المباشرة، القومية والأيديولوجية والسياسية للأدب العربي المعاصر، بتأثير الشعارات التي توضع لكل مؤتمر، استجابة للأحداث العربية التي كانت تعقد هذه المؤتمرات للتعبير عن التفاعل معها، فتكتب المحاضرات أو الأبحاث على مقاسات محاورها لإعلان موقف تضامني عربي مشترك غالباً.

ونشير إلى الأبحاث ـ المحاضرات ـ التي تعرضت للمسرح في مؤتمرات الأدباء العرب، وهي على النحو التالي:

- المؤتمر الرابع (الكويت 1958م):

- البطولة في الأدب المسرحي عبد القادر القط (مصر)( ).

- المؤتمر العاشر (الجزائر 1975م):

- النضال في المسرح العربي الباهي فضلاء (الجزائر)( ).

- المؤتمر الحادي عشر (طرابلس ـ ليبيا 1977م):

- مشاكل الأدب الدرامي العربي كمال عيد (مصر).

- المسرح العربي يبحث عن المسرح العربي/ عبد الكريم برشيد (المغرب)( ).

- المؤتمر الثاني عشر (دمشق 1979م):

- المسرح الملتزم بين القطاعين العام والخاص وليد إخلاصي (سورية).

- حول فاعلية المسرح العربي الحديث وامتداده الجماهيري/ البوصيري عبد الله (ليبيا).

- المسرح الملتزم بين القطاعين العام والخاص/ كمال عيد (مصر).

- السياسة في المسرح العربي الحديث عمر البرناوي (الجزائر)( ).

وعلينا أن نشير أيضاً، إلى الظاهرة الغالبة على هذه المؤتمرات، وهي أن المحاضرات أو الأبحاث لا تعالج قضية المسرح أو المسرح العربي إلا من خلال قضية كل مؤتمر أو شعاره على حدة، وقد كانت قضايا المؤتمرات المذكورة وفق ما يلي:

- المؤتمر الرابع: البطولة في الأدب العربي.

- المؤتمر العاشر: الأديب العربي وموقفه من قضايا التحرير والثورة في العالم.

- المؤتمر الحادي عشر: مشاكل الأدب العربي المعاصر.

- المؤتمر الثاني عشر: مشكلات التجديد والسياسة في القصة والمسرح والرواية.

 

المؤتمر الحادي عشر ـ نقلة أولى:

ومن الواضح أن المؤتمر الحادي عشر، بمثابة تمهيد، والمؤتمر الثاني عشر بهذا الإطار، يشكلان نقلة في انصراف المؤتمرات إلى قضايا الأدب مقاربة أو مباشرة، وهذا متروك لجهد الباحثين واهتماماتهم، ففي المؤتمر الحادي عشر نوقشت قضية المسرح العربي بوصفه شكلاً أدبياً مستحدثاً في الأدب العربي المعاصر، وفي المؤتمر الثاني عشر بحثت قضية المسرح في علاقتها بالسياسة فعولجت جوانب من تجليات هذه العلاقة، وهي السياسة مباشرة في بحث البرناوي، والقطاع العام والخاص، أي مكانة الدولة في رعاية المسرح وعمله في بحثي إخلاص وعيد، والانتشار الجماهيري للمسرح في بحث عبد الله. أما بخصوص بحثي المؤتمرين الرابع والعاشر فهما موجهان لاستجلاء جانب من جوانب موضوع المؤتمر في جنس أدبي معين هو البطولة في المسرح عند القط، والنضال في المسرح عند فضلاء، أي أن البحث هو قضية البطولة أو قضية النضال في المسرح، وليس قضية المسرح بحد ذاتها، ومما يجدر ذكره أن المؤتمرات الأدبية التالية خلت من الاهتمام بقضية المسرح أو قضية المسرح العربي الحديث، وعلى هذا فإننا سنمضي إلى أبحاث المؤتمرين الحادي عشر والثاني عشر، والوقوف عندهما ملياً لمعاينة ما يطرحان من رؤى وأفكار في إطار درسنا للتفكير الأدبي العربي المعاصر بالمسرح.

 

وضع كمال عيد عنواناً عريضاً لبحثه هو «مشاكل الأدب الدرامي العربي»، وأوحى إلى متلقيه أنه سيقدم رؤية واقعية للأدب الدرامي العربي، كما تشير بذلك كلمة «مشاكل»، والأصح مشكلات، غير أنه شرق وغرب في بحثه فتحدث عن الأدب ولفظ الأدب، والتعبير عن لفظ الأدب، وبزوغ الدراما من الأدب، ومقرراً نتائج هي موضع جدل وخلاف بين النظريين والمسرحيين، كأن يقول في مطلع بحثه:

«الأدب الدرامي مختلف في مشاكله عن الأدب، حتى وإن كان فرعاً منه، بل هو متضاد معه تضاد أرسطو مع أستاذه أفلاطون، خاصة في عالمنا العربي المعاصر. ومع انتشار المسارح العربية الناطقة بلغة الضاد، ومن خلفها الدراما معينها ومصدرها الأول في الإنتاج المسرحي، إلا أن ذلك لا يعني إطلاقاً الآداب الدرامية العربية، أو وجودها بغير مشاكل أدبية وفنية وتقنية. وكان عزاء هذه المسارح وتلك الآداب أن المسرح كجهاز ثقافي فكري قد انبثق فيها مؤخراً، وعلى وجه التحديد في منتصف القرن التاسع عشر وفي إطار النقل عن الآداب الدرامية الأوروبية وعبر الاقتباس منها».

 

وهذا القول سيقوده إلى الارتهان إلى فكرة المسرح بمفهومها المغربي وريث التقليد المسرحي اليوناني، حاصراً المشهدية كلها بالحدث أو الفعل (الدراما مأخوذة من كلمة دراؤ أي الفعل على خشبة المسرح وفي الحياة باللغة اليونانية)، وكمال عيد لم يذكر هذا، ولكنه ذكر كلمة الألماني جيته: «في البداية كان الحديث». ثم تتبع عيد تاريخ المسرح أو تاريخ التمثيل بوصفه حدثاً بدأ صامتاً دون حوار، إلى الحدث فالكلمة أو النص المسرحي بالتعبير الحديث، وهذا يعني أن عيد جعل الظاهرة المسرحية ظاهرة اجتماعية تكونت من التعبير الصامت غافلاً أو متغافلاً عن انبثاق الظاهرة المسرحية من الطقوس والشعائر الدينية بالأساس.

 

ويستغرب المرء مثل هذا الرأي من باحث أورد في بحثه المذكور تفسيرات لكارل جروس (Carl Gross) ضمنها كتابه «ألعاب الشعوب»، مفادها أن الظاهرة المسرحية موجودة لدى الشعور جميعها، وأن الشعور في تفسيرها للأشياء وفي مغامراته التعبيرية والفكرية الأولى اكتشفت المشهدية وقوامها التخيل الذي سيؤدي فيما بعد، إلى المحاكاة.

 

لقد توسع عيد إلى حد ما في نشوء الظاهرة المسرحية لدى الشعوب مشيراً إلى تجارب مسرحية رافقت الطفولة البشرية، لا ليثبت الظاهرة المسرحية لدى كل الشعوب، بل ليدلل على «سر وسحر تأثير الأدب الدرامي على الجماهير وارتباطه بالجذور، وهو ما نطلق عليه اليوم بالتعبير الحديث لفظ الأصالة».

 

وتوكيداً على نهجه عرف الدراما بأنها «الحدث» باللغة اللاتينية، وميز بين المسرح والأدب على الرغم من قوله: «إن الدراما والملحمة والشعر ثلاث حلقات لنوع أدبي واحد».

 

وبدا الاختلاط ظاهراً للعيان في عبارة تالية هي: «الدراما هي النوع الأدبي المؤثر الذي يسمح بالتداخل في التعبير» وفجأة ينتقل إلى نظرة تطبيقية تبدو ناشزة عن سياق البحث هي:

«ولا زلت متعارضاً مع يروجون، القول إن دراما الأستاذ عبد الله القويري الأديب العربي الليبي قد خطت للقراءة فقط وليس للتمثيل، حتى لو كان أستاذنا القدير هو صاحب الرأي نفسه أو مؤيداً له».

 

ثم يعلل رأيه دون تحديد إصلاحي على مثل هذا النحو:

«لماذا؟... تلك الدراما بشكلها الفني مثلت أم لم تمثل، فإن عناصرها من منولوج إلى ديالوج لأحداث وصراعات داخلية راقية تميزها عنده، وتحمل على كتفيها إيصال وجهة النظر الدرامية، أو الأدبية درامياً، إضافة إلى مكملات فنية من مناظر وإضاءة وموسيقى وأقنعة وحركة مسرحية، لا يمكن لها أن تقبع داخل كتاب للقراءة بغية المتعة الذهبية الخالصة، استناداً لانتمائها حقيقة إلى المضمون والشكل الدرامي وهي آراء تشطر الدراما ووظيفتها إلى شطرين على أساس غير سليم، إن لم يكن أساساً متناقضاً مع الأسس العلمية لمفهوم الدراما، فضلاً عن أنه يحجب أدباً درامياً نافعاً للساحة العربية عن كثير من مشاهدي وجماهير المسرح العربي المعاصر، خاصة وهو مسرح يقوم على إحياء اللغة العربية الفصحى، فإذا كانت مشكلة اللغة العربية ومنذ عشرات قليلة من السنين تقف حجر عثرة في طريق تقدم الأدب الدرامي، فكيف يجوز لنا الاقتراب من مشكلة كهذه».

ونلاحظ أنه يجد اللغة العربية عائقاً أمام نقل الواقع الحي في الأدب المسرحي العربي، حتى وإن كانت برأيه، مترجمة عن أدب عالمي ويستند في ذلك إلى تجربة ثلاثين عاماً قضاها في ساحة المسرح العربي، ويحاول أن يعلل ذلك فيقف عند الملاحظات التالية:

أولاً:      قوة انتشار اللهجات العامية، وصعوبة انتشار اللغة العربية.

ثانياً:      استفحال هذه المشاكل بسبب الجهود التي قامت،  بحسن نية أ, بسوء نية، لإقصاء المسرحة الشعرية عن خشبة المسرح العربي.

ثالثاً:      فشل محاولات اللغة الثالثة أو اللغة الوسط كما أطلق عليها.

رابعاً:     مشكلة انتشار الأمية.

خامساً:   ثقل اللغة العربية مسرحياً مما ينتج، برأيه، قضية من أهم القضايا المرتبطة باللغة يعني بها المضمون، «وهو ما نسميه بلغة المسرح المضمون الدرامي للأدب المسرحي».

 

ويورد عيد بعد ذلك مؤيدات لآرائه من خلال تجربة المسرح العربي في مصر، والإشارة إلى تجربة المسرح العربي في المغرب، وينتقل بعد ذلك إلى مناقشة محاولتين متناقضتين، بتقديره، مع نفسيهما الأولى تجربة توفيق الحكيم اللامعقولة، والثانية ظاهرة المسرح الشامل التي يعاني منها المسرح والأدب الدرامي العربي، ويلاحظ أنها تجارب تنخرط في التيار العربي الناقل الذي ساد المسرح العربي فترة طويلة من الزمن ليخلص إلى نتيجة متشائمة على الرغم من إنكاره للتساؤل في قوله:

«فماذا فعل التيار العربي الناقل؟ شيء من الأساسات الفكرية.. هرج ومزج، خلط للأنواع الفنية من رقص وغناء، وإقحام بلا مبرر، وفي أعظم المواقف الدرامية مزيج شاذ من الطعام الفني أشبه باستكشاف صالات الرقص القديمة. ومع استمرار ما أسماه العالم العربي (المسرح الشامل). خاصة في المسارح الخاصة والأهلية، فإنه ـ وعبر سنوات مضت ـ لم يستطع أن يقدم من خلاله شكلاً أدبياً درامياً له مدلولاته وفوائده، وهو ما لا نستطيع اليوم أيضاً أن نصفه بالشكل المستحدث النافع، لأنه ظل خاوي الوفاض من كل نفع، بعيداً عن الأصالة والجدية، والفنية والقاعدة الراسخة.

 

من هذا أرى ـ وفي غير تشاؤم ـ مستقبلاً غير محدد المعالم أمام أدبنا الدرامي ـ ما لم تقم هيئة علمية أو جامعة الأقطار العربية بدراسة واعية لمشكل أدبنا الدرامي العربي، مستهدفة العلمية طريقاً للتطوير، لوضع مشاكل المستقبل على مائدة البحث والنقاش، أسوة بمعهد (أبحاث الجماهير)، الذي أنشأته حكومة النمسا منذ عامين لأمثال هذه المشاكل الحيوية في طريق الأدب الدرامي بصفة خاصة والأدب المعاصر بصفة عامة.

 

لقد حفل بحث عيد بتناقضات كثيرة وبآراء غير دقيقة تتعلق بنشأة الظاهرة المسرحية وبنشأة المسرح العربي الحديث أو ظهوره، وبتقديره للغة المسرحية وباللغة العربية وسيلة للتعبير المسرحي، وبطبيعة تطور المسرح العربي من قطر لآخر، فهو لم يوضح حدود الجانب الأدبي فيا لكتابة الدرامية أو مكانة الكلمة في المسرح وتجاهل خصوصية الظاهرة المسرحية لدى كل شعب من الشعوب، وأنكر أن اللغة العربية، مثل أي لغة في الفنون السردية والدرامية، تواضع في إطار المحاكاة، وليست نقلاً للواقع على خشبة المسرح أو بين دفتي كتاب.

 

أما الأخطاء الكثيرة التي جرى تعميمها في إطار المعلومات التاريخية فلابد من إيضاحها، فقد ذكر على سبيلا لمثال عمر البرناوي من الجزائر في نقاشه لبحث عيد أن من المستغرب على باحث عربي أن يؤرخ لقيام حركة مسرحية في الجزائر على يد قائد فرنسي في العشرينات، ومن الجلي أن عيد تناول المسرح العربي الحديث من زاوية غربية دون أن يعمل البحث في تقصي تشكل فن المسرح العربي الحديث من خلال القرن الثالث، أي خلال المئة سنة الأخيرة، ولعل مناقشة رأيه في تصوره للمسرح الشامل تكشف عن مثل هذا المنظور أيضاً.

 

إن الخلل يكمن في تقديري في تلك النظرة التي وضعها المؤتمر عنواناً لبحوثه جميعها على «أن المسرح شكل أدبي مستحدث في الأدب العربي المعاصر»، وليست القضية على هذا النحو تماماً. ويقدم بحث عبد الكريم برشيد «المسرح العربي يبحث عن المسرح العربي» إضاءة مغايرة لبحث عيد، على الرغم من إقراره بالقطيعة مع الثقافة العربية التقليدية، فقد قال بصريح العبارة، في مطلع بحثه:

«وعندما نرجع البصر إلى الخلف ونتأمل تراثنا الأدبي والفكري فإننا لا نجد غير مقامات وحكايات ونوادر ورسائل وأشعار في مختلف الأغراض، وهي ـ أشياء ـ وإن كانت قابلة للتمسرح فهي ليست مسرحاً، كما قد نجد أشكالاً فنية شبه مسرحية وألواناً في الفرجة تعتمد على السرد والتشخيص والحوار وعلى تحقيق تجمع احتفالي في مكان عام، وداخل ظرف زمني محدد، نرى هذا في القره قوز وخيال الظل والحلقة والسامر والتعازي. فهذه الأشكال ليست مسرحاً بالمعنى الكلمة، ولكن دراسة أصولها الفنية قد تساعدنا على فهم طبيعة الإنسان العربي وعقليته وروحه، ذلك لأنها صيغة احتفالية أفرزها الوجدان الشعبي، ولكنها مع ذلك تبقى مجرد ألوان من الفرجة الشعبية الشيء الذي لا يؤهلها لأن تكون بديلاً للتطلع إلى التراث الإنساني في المسرح، ومن هنا كان لابد للمسرح العربي في المرحلة الراهنة أن يزاوج بين النظر إلى التراث العربي والتراث الغربي، فالحاضر كما نعلم هو صورة منقحة أو مشوهة من الماضي، وفي غياب هذا الماضي المسرحي كان لابد أن نسترق النظر إلى ما حولنا، ولكن على شرط أن نتمثل ما نأخذ، وأن نلونه بأصباغ جديدة تكشف عن واقع حضاري متميز».

 

لم يقطع برشيد القول بانعدام المسرح العربي الحديث، «فالإبداع كما رأينا، لا يمكن أن يتم بداخل الزمن، وبذلك كان المسرح (العربي)، والقوسان من وضع برشيد، موجوداً في الظرف الحاضر كمشروع فقط، وليس كحقيقة عينية ثابتة. وعندما نصف مسرحنا بالعربي فما ذلك إلا باعتبار ما سيكون، وما نريده أن يكون مستقبلاً».

 

ويؤرخ برشيد لنشأة المسرح العربي الحديث بعبارة صارخة هي: «تجاربنا في ضوء الانبهار المسرحي» فقد مرّ الآن أكثر من قرن على معرفة العرب للمسرح، لذلك كان لابد من أن يسترد الإنسان العربي حريته، وأن يخلص نفسه من قيود أحكمها الانبهار والإعجاب. إن المرحلة التاريخية الراهنة تفرض تعاملاً خاصاً مع التراث الإنساني العام، تعاملاً واعياً ورزيناً وراشداً، لاحظوا قسوة الكلمات، يضع في حسابه مشروعية تبادل التأثير والتأثر، ولكنه يستبعد كل تقليد أخرس. إن عقدة النقص لا يمكن أن تفرخ أدباً ولا فناً«». ولا يجد برشيد كبير أهمية في محاولات التأصيل المسرحي العربي كما هو الحال مع علي الراعي الذي حاول «أن يعمل على استنبات هذه الدعوة في التربة العربية، وذلك على اعتبار أن المسرح المصري عرف مرحلته المتقدمة نوعاً من المسرح الساذج الذي يقوم على الارتجال، نفس هذا المسرح الارتجالي عرفه المغرب على يد كل من بوشعيب البيضاوي والبشير العلج، كما عرف في الجزائر على يد القسطنطيني، ويحدثنا التاريخ المسرحي على أن هناك ثلاث مراحل قطعها الفن الدرامي، مسرح الممثل، ومسرح المؤلف، وأخيراً مسرح المخرج، مما يدل على أن الارتجال الذي يدعو إليه الراعي مرحلة متقدمة في تاريخ المسرح، وأن الإخراج ـ وهو حديث العهد بالوجود ـ لم يظهر إلا لينظم العلاقة بين النص والممثل من جهة وبين الممثل والوسائل السينوغرافية الأخرى (ديكور ـ ملابس ـ إضاءة) من جهة ثانية».

 

ويعزو برشيد ذلك إلى أن المسرح هو النص، ومن غيره لا يمكن قيام حركة مسرحية»، ويشخص حالة من حالات الانبهار المسرحي بتقليد المسرح العربي لتيار اللامعقول، «ذلك الاتجاه الذي شغل الناس في الخمسينات والستينات، والذي كان له مفعول السحر في نفوس المسرحيين العرب»، بينما يراه برشيد من أكثر الاتجاهات خطراً على المسرح العربي، ويعالج خطورته من خلال تجربة توفيق الحكيم وتجربة الطيب الصديقي.

 

ويوضح برشيد رأيه في نهوض مسرح عربي من خلال أبحاث جادة ظهرت ابتداء من سنة 1964م في مجموعة من المسرحيات تلتقي جميعها على محاور أساسية واحدة تتمثل في استلهام التراث العربي، باعتباره مادة مسرحية فنية، ومحاولة للاستفادة، من حيث الشكل الفني والبناء الدرامي، من مجموعة كبيرة من الفنون الشعبية العربية، التي قامت على أساس مخاطبة الجمهور عن طريق استخدام الرواية والتشخيص في الوقت نفسه. كما أنها قامت بمحاولات في التنظير من أجل إعطاء الفعل المسرحي ركائز نظرية يقوم عليها. وأورد برشيد إشارات لجهود يوسف إدريس والطيب الصديقي وعلي الراعي الهادفة إلى لغة مسرحية متميزة تفيد من التراث العربي والتراث الإنساني بعامة، ويوجز بعض عناصر هذه اللغة فيما يلي:

- في اللغة وهي التجمع والاحتشاد.

- في النفس وهي الإمتاع الذي يوقظ الحواس.

- في الاجتماع وهي المشاركة بالمشاعر حيناً وبالفكر حيناً وربما بالجسم أحياناً.

- في الفكر وهي الجدل السجال بين القوى المتناقضة. والمتعارضة التي يعدو بعضها على بعض إلى بلوغ التركيب.

- في الفن المسرحي وهي الخلق الجماعي المتضافر الرفيع الذي يتوجه الانسجام الفني في كل جزئية من جزئياته. ويختتم تطلعه في الطريق إلى المسرح العربي بدعوته إلى الاحتفالي «في تعايش الفنون المختلطة داخل الفن المسرحي، الشيء الذي يجعل العرض يجمع بين الشعر والغناء والرقص والزجل والموسيقى والجد والهزل والحكمة وكل ألوان التعبير الأخرى، الشيء الذي يجل المسرح في هذا التيار، يصبح لغة شاملة تخاطب جميع الحواس».

 

ويقرن برشيد قيمة تطلعه أو تحققه في الواقع الثقافي العربي برعاية الدولة التي تضمن له الانتشار والصيرورة، «من أجل هذا، كان لابد من توفير تربية مسرحية تساير عملية البحث التجريبي من أجل مسرح عربي أصيل، يكون أكثر قرباً والتحاماً وتواصلاً بالآخرين، وإذا كان التعليم إجبارياً في بعض الدول وإذا المسرح في الدول النامية ـ وهي دول (تتميز) بتفشي الأمية ـ يلعب دوراً تعليمياً، فإنه في هذه الحالة لا يصبح المسرح ضرورياً فقط بل إجبارياً، وذلك ما يجب أن تسلكه الدول العربية في الظرف التاريخي الراهن، وهذا لا يعني بالطبع أن يصبح المسرح وجهاً ثانياً لوسائل الإعلام، لأن الشيء الأساسي في المسرح هو التعرية، تعرية الإنسان وتعرية الواقع».

 

على الرغم من النبرة الحادة التي طبعت بحث برشيد، فإنه وضع يده على أس قضية المسرح العربي كيف ينطلق في الواقع العربي المعاصر؟ وكيف يبني تقاليده؟ لقد عاين برشيد، على نحو ضيق، عمليات تشكل الفن المسرحي العربي الحديث في اتجاهيه الغالبين: تقليد الغرب (الانبهار المسرحي) والتقليد الذاتي التراثي الذي طلع برأيه في الستينات، بينما بدأ هذا التقليد منذ أواخر القرن التاسع عشر على يد أبي خليل القباني ومارون النقاش اللذين واءما على وجه الخصوص بين حاجات الفرجة ومسرحه التراث العربي في إطار من المسرح الشامل الذي يعتمد على الأغنية الرقصة والتركيب المشهدي... الخ.

 

مع بحث برشيد، يأخذ بحث قضية المسرح العربي في مؤتمرات الأدباء العرب منحى أقرب إلى وضعية المسرح في الثقافة العربية الحديثة، أي الالتفات إلى الجهود المسرحية العربية المستمرة منذ مطلع النهضة العربية، والاعتراف بالشغل المسرحي العربي نحو تأصيل فن شعبي في الحياة الاجتماعية والثقافية العربية. إن هنالك الكثير مما يختلف فيه المرء مع برشيد غير أنه أفلح في وضع قضية المسرح العربي في مسارها التاريخي من جهة، وفي مسارها الفكري والفني، مسار تطور الأجناس الأدبية الحديثة، من جهة أخرى، وهي خطوة متقدمة في التفكير الأدبي العربي الحديث بوعي الفن في تاريخيته وفي عي طبيعته الفكرية والفنية.

 

علينا أن نلاحظ أن الشغل الأهم في تناول المسرح العربي هو مكانته في التراث وتأثره بمفاهيم الهوية القومية في الأدب العربي الحديث. وعلى الرغم من انشغال المؤتمرات السابقة على هذا المؤتمر بقضية التراث والغزو الفكري أو ما سمي الأصالة والتفتح، وهو ما يصب في مفاهيم الهوية القومية، إلا أن بحوث تلك المؤتمرات لم تتطرق إلى المسرح أو الأدب المسرحي، وقد آثر واضعوها أن يعنوا بهذه المفاهيم من منظور شعاري غالب على لغة البحوث ومحتواها كما في أبحاث المؤتمر الخامس (تراثنا بين التقدمية والرجعية ـ الأدب والغزو الجديد) وأبحاث المؤتمر السابع وتوثيق الارتباط بتراثنا) وأبحاث المؤتمر التاسع (العروبة أرض وتراث ومصير على سبيل المثال)، أو من منظور فكري عام مشوب باللفظ الشعاري كما في أبحاث المؤتمر العاشر (السمات الثورية أو سمات ثورية في التراث الأدبي العربي)، أو من منظور أدبي عام، أيضاً، كما في أبحاث المؤتمر الثامن (الأديب العربي ـ بين التراث والمعاصرة)( ).

 

ولهذه الأسباب نعد المؤتمر الحادي عشر تمهيداً ذا أهمية في النقلة الواضحة نحو النظر إلى قضية المسرح والمسرح العربي في المؤتمر التالي.

المؤتمر الثاني عشر ـ نقلة ثانية:

لا شك، أن المؤتمر الثاني عشر هو الأوسع والأكثر عمقاً في تناول قضية المسرح العربي، وبعد المؤتمر الحادي عشر تمهيداً له، فأبحاث المؤتمرين متصلة تحت وطأة هموم الهوية التي أخذت صيغاً محددة مسبقاً هي أن المسرح شكل مستحدث في الثقافة العربية، غير أن عنصر الجدة هو بحث هذه الهموم في إطار الواقع الثقافي العربي، لا سيما مشكلات الانتشار أو الجماهيرية كما هو الحال في بحث البوصيري عبد الله، ومشكلات الالتزام بين القطاعين العام والخاص كما هو الحال في بحثي وليد إخلاصي وكمال عيد، ومن الملاحظ أن منطلق البحثين هو منظور المؤتمرات إياها نحو ربط قضايا الفن بالشعارات السياسية على نحو أعم، وبصراع الأفكار على نحو أضيق، فقد كان المحور العام للمؤتمر الثاني عشر هو «دور الأديب العربي في مواجهة التحديات الراهنة»، وهكذا على أبحاث المسرح، مثل بقية الأبحاث أن تفرد أطروحتها وتوسع مجال المسرح العربي إلى أفق الثقافة العربية مناضلة والتزاماً بأهداف العمل العربي المشترك، التي يراد لها أن تمتد إلى العمل الثقافي العربي المشترك لأنه على الغالب، تصور وتطلع أكثر منه ممارسة واقعية فاعلية في الحياة العربية.

 

أما بحث عمر برناوي فهو صريح ومباشر في توجهه ومغازيه مقاربة لشعار الموضوع، وقد حمل به التحديد التالي: «السياسة في المسرح العربي الحديث». وعلينا أن نناقش هذه الأبحاث، تعريفاً نقدياً في مسار جهدنا الرئيسي، وهو تقصي تطور التفكير الأدبي العربي الحديث في قضية المسرح وقضية المسرح العربي.

 

يناقش كمال عيد المسرح على الإطلاق، بينما لا يغادر وليد إخلاصي أرض تجربته في سورية، وعلى الرغم من تباين استخدام المصطلح لدى الكاتبين، فإن ثمة اتفاقاً على أهمية رعاية المسرح فقد شاهت ملامحه على أيدي المتاجرين بهذا الفن باسم السياسة مرة، وباسم الجماهيرية مرة أخرى، أو بأسماء كثيرة مرات، ينطلق البحثان من اعتراف مفاده أن دعاوى تثمير الصراخ قد اختفت، في التقدم في الأدب لا يقوم على استثمار الشعارات أو المبالغة في العقائد والأفكار، إلا أن هذا الاعتراف لا يمنعنا من الإقرار بأن كتابتهما تعاني من ذلك الاختلاط حيناً، والتداخل أحايين كثيرة داخل حقل الممارسة الأدبية أو الفنية، وبخاصة بين آفاق النظرية ومشكلات التطبيق، ففي البحثين مثال على التداخل بين حدود النظر الفني لظاهرة المسرح الملتزم من جهة، وشؤون تدبير المسرح باعتباره جهازاً ثقافياً من جهة أخرى، وفي البحثين معاً إغفال للمصطلح ولتمحيصه في إطار هذه الظاهرة بعينها، وإذا كان لبحث وليد إخلاصي من ميزة فهي اعتماده على تجربة المسرح في سورية منطلقاً لدراسة الظاهرة، على أن تعميم نتائج التجربة في ختام بحثه يبعث على الحذر ويدعو إلى التأمل في طبيعة بحوث المؤتمرات فهي تفي هذه البحوث باحتياجات دراسة قضية أو ظاهرة ما؟ أم تغلب عليها احتياجات مناسبة؟

إن كمال عيد لا يهتم كثيراً بتحديد مفردات بحثه، لأن «قضية الالتزام بين نوعين من المسرح: قطاع عام وقطاع خاص أو حكومي يتبع الدولة أو يخضع لإشرافها، وأهلي يقدم ما يعرضه في كثير من التحرر... قضية حديثة الزمن نسبياً، بمعنى أنها نشأت حديثاً ـ وخاصة في أقطارنا العربية ـ بعد أن تشجعت بعض رؤوس الأموال عند بعض الفنانين الذين هجروا المسرح، أو غيرهم ممن حولوا مكاسبهم السينمائية ليحققوا فناً أو سمعة في الحياة المسرحية، ليؤلفوا مسارح خاصة بهم، وأحياناً كثيرة بتأليف فرق مسرحية تحمل أسماءهم، كعلامة من علامات مسرح الشباك».

 

لذا، عاد إلى جذور المسألة في فن المسرح وليس في المسرح العربي على وجه التحديد، فدرس الوظيفة الاجتماعية للفن، وتأمل على عجل في الإنسان مرة.. وفي الجماهير مرة أخرى، فانغمس في المظاهر البيولوجية ووعي الذات والإنسان باعتباره بحثاً اجتماعياً شاملاً ثم اعتمد على مقولة بريخت المشهورة «لا يمكن استبدال الجماهير» توضيحاً لعلاقة المسرح بالجماهير، في محاذاة حاجة الإنسان للفن كونها حاجة المسرح نفسه كمؤسسة، أي في إطار القيمة التبادلية للمسرح مع جمهوره، وهذه القيمة قد تكون أصيلة أو زائفة، فليس نجاح شباك التذاكر قيمة فنية، إن العمل المسرحي في طبيعته وفي غايته بالدرجة الأولى. لقد رأى كمال عيد أن «الجماهير تغيرت ـ وبفعل الشباك ـ إلى حالات سيئة من التردي والتبذل والابتذال، حالات لم تمر حتى على الأشكال المسرحية نفسها منذ وجد المسرح طريقه إلى الانتظام في استمرارية معقولة عند اليونان القدامى.

 

إننا نصل إلى نتيجة نرى معها أ، المسرح لم يتغير، وكذلك لم تتغير الجماهير، وإنما نرى التغيير هو في هذه العلاقة بين المسرح وبين الجماهير».

 

والكاتب هنا ـ وهو رجل مسرح من مصر العربية ـ لا يميز بين قطاع عام وخاص، لأن أزمة البساطة والسطحية تكمن فيا مسارحنا الخاصة وقليل من مسارحنا العامة.

أما الحل فهو «شعار تقديم فن العمل الجماعي في المسرح كأحد الفنون الجديدة التي تولد لصالح الإنسان ولإمكانية تحقيق مقولة الفن ينبع من الشعب ويعود إلى الشعب».

وبالتأكيد، لا يفيد هذا الكلام كثيراً أو قليلاً في حل. ربما اختلط الأمر على الكاتب حين خلط بين رؤيا الفن وأساليب تدبيره في واقع شديد التعقيد.

 

أما تلمس مظاهر التجديد في المسرح العربي، فقد اكتفى عيد بالإشارة إليها على عجل في فقرة عجلى، على أهمية ملاحظته في تحقيق الجماهيرية والأصالة معاً في قلب التجديد الغالب على البحث، فقد رأى المسرح احتياجاً ملحاً لجماهير متعددة الذهن بارعة الذكاء عقلانية التفكير بكل معنى الكلمة، وأكد في الوقت نفسه أننا لن نحصل عليها جاهزة بطبيعة الحال معولاً على تربية جماهيرنا المسرحية وإعدادها إعداداً عربياً، بعد طول إهمال لوزنها ودورها، لتكون بعد ذلك على مستوى ما نطمح إليه وما نطمح في تقديمه من فنون، ولتكون أيضاً على مستوى الالتزام المطلوب من المسرحين العام والخاص. ومن هذا المنطلق أيضاً، ذكر ملاحظته حول المحاولات التجديدية:

«لهذا أقدر كل المحاولات التجديدية التي انبثقت من أماكن متفرقة في أقطارنا العربية منذ أكثر من عشر سنوات، سواء كانت تجديدية في مضمونها أو شكلها، أو في استحداث معيار مسرحي عربي تلتف حوله الجماهير في طبيعة وواقعية: درامات علي عقلة عرسان وسعد الله ونون في سورية، والمحاولات الرائدة عند الطيب الصديق في التنقيب عن التراث في المغرب، والإيحاءات الدرامية الجديدة عند عبد الكريم برشيد، علامات الرفض والتمرد في مسرحيات عز الدين المدني في تونس، صراع الطبقة الوسطى عند نعمان عاشور في واقعياته المسرحية، ويوسف العاني بكل ما أضافه من أفكار وجهود لزلزلة واقع المسرح العربي الجامد بحثاً عن وجه مميز عربي له، وغيرهم في أقطار عربية شقيقة أخرى. وتقديري يظل ثابتاً في مكانه، لأن كل هذه الجهود لا تزال تعيش في الحياة المسرحية مستقطبةً الكثير من الجماهير ومن الكتاب رغم فوات السنين وهو ما يدل على أصالتها وصدقها».

 

ومن الواضح، أن عيد لا يشخص واقعاً مسرحياً ‘ربياً بعينه في مصر أو ليبيا أو سواهما مكتفياً بهذه الخواطر التي لا تلتم على رؤية واقعية أو فنية محددة.

ومن جهة أخرى، يفصح وليد إخلاص عن حدود مفرداته: الالتزام، المسرح الخاص أو العام، الواقعية وسوى ذلك، ولتكوين أفكار حول الالتزام بمفهومه السائد حالياً في كلا المسرحين، استعرض إخلاصي ذلك المفهوم من خلال علاقاته القائمة بالقيم التالية: الواقعية، الإسقاط التاريخي، الأسلوب، المناسبات والإعلام، والسياسة، المحصلة الفنية، لأنها تعتبر ـ برأيه ـ أبرز القيم التصاقاً وتفاعلاً مع مفهوم الالتزام السائد، والتي يمكن من خلالها تلمس الطريق نحو مفهوم صيغة الالتزام الرائجة في المشهد المسرحي المعاصر في سورية وفي كثير من مواطن المسرح العربي أيضاً.

 

قدم إخلاصي، حسب عنوان الفقرة الأولى في بحثه، أفكاراً حول المسرح الملتزم بين القطاعين العام والخاص فكان الالتزام عنده ثوبان. «الأول ثوب فضفاض يمكن لنا تصوره على النحو التالي:

التزام المبدع من كاتب وفنان ومثقف بقضايا الإنسان والإنسانية، والنضال من أجلهما والدفاع عنهما من أجل الأفضل.

والثوب الثاني ضيق يحاول المتزمتون إدخال جسد الالتزام فيه. ويمكن تكثيف مواصفاته على النحو التالي:

1- ضرورة الحرفية في العمل الأدبي.

2- ضرورة توفر أفكار حول الصراع الطبقي في كل عمل أدبي وفني.

3- التعبير الواضح عن فكر سياسي بعينه».

ولعل إخلاصي كان يقصد القوميين والإنسانيين بأصحاب الثوب الأول، ويقصد الماركسيين ودعاة الواقعية الاشتراكية بأصحاب الثوب الثاني، وقد وجد نقداً حيياً خجولاً، على عادته لأصحاب الثوب الثاني حين وجه لديهم تضييقاً في فهم المصطلح وتطبيقه، مما أدى إلى الفصل بين الكل والمضمون وشاع التعسف ظاهرة تسيء إلى تقويم الإبداع الأدبي والفني، وكثيراً ما كانت النظرة أحادية للفن فضاقت المسافة ما بين الخلق والجمود، وانتشر الميكانيك النقدي بضجيج مسنناته يطغى على حقائق فنية بالغة الخطورة».

 

ولدى تعريفه لمصطلحي المسرح العام والخاص، عاين إخلاصي تجربة المسرح العربي في سورية على وجه الخصوص، واستخدم تعبير السلطة ومؤسساتها، وليس الدولة على سبيل المثال. ثمة مسارح متعددة في سورية لا تنضوي تحت لواء الدولة، هي المسرح غير الرسمي أو الشعبي لمنظمات وتنظيمات، لا تنضوي تحت لواء المسرح الخاص كذلك، على أنني أثني على البحث المذكور لفضيلة لا ينبغي إغفالها هي معالجته لموضوعه من واقع تجربة محددة بتضاريسها السياسية والفكرية والفنية مما لم يتوفر لغالبية البحوث المقدمة لهذه المؤتمرات. وفي هذا الإطار وجه إخلاصي نقداً مهماً لتجربة الالتزام في المسرح من خلال النتائج التالية:

1- لم تستطع الواقعية بمفهومها السائد أن تحقق شكلاً متقدماً للالتزام المطلوب، كذلك الإسقاط التاريخي الذي لجأ إليه المسرح.

2- وبينما يحاول المسرح العام من خلال الأسلوب أن يتوصل إلى تقنية جيدة تحقق له شخصية متميزة، حقق مسرح القطاع الخاص مسبقاً في دخول لعبة الإعلام والتوصيل الشعبي حقيقياً كان أم مزيفاً.

3- وفشل المسرحيين في تحقيق التزام سياسي أو اجتماعي محدد واضح المعالم.

ويبدو أنه من الصعب، إذا ما اتكأنا على مفهوم الالتزام السائد، أن نقول بأن المسرح العام هو الملتزم وأن المسرح الخاص غير ملتزم. فلا المسرح العام استطاع أن يكون حتى الآن مؤسسة اجتماعية فنية قادرة على تشكيل صورة واضحة لرؤية الدولة والمؤسسات القائمة، ولا المسرح الخاص كان قادراً على أن يكون البديل رغم نشاطاته ومرونة حركته ومحاولاته التكتيكية في النزول إلى مستويات الفهم المسرحي الشامل والقويم.

وما فعله إخلاصي هو اختبار هذه القيم في الممارسة المسرحية، وعلى سبيل المثال، يؤكد أن المسرح أصيب بحمى الانخراط في دوامة اليومي أو الواقع لتوه، فكأنما المسرح صورة عاكسة لما يجري في المشهد اليوم، وليس هو ذلك الفن الجامع للفنون الأخرى المعبرة عن توق الإنسان الدائم إلى المستقبل وإلى الخلق الموازي للرغبة في الكمال.

 

ثم يخلص الكاتب إلى نتيجة مؤداها أن ليس هناك مسرح ملتزم، من وجهة نظر السياسة، إلا ذلك المسرح الذي ينتمي إلى أيديولوجية معينة.

وهكذا، يمكن للالتزام أن يكون حقيقياً وفعالاً ـ في اعتقاده ـ وفق التصورات التالية:

أولاً:      أن يكون المسرح مسرحاً في المقام الأول. أي أن يكون فناً منسجماً مع نفسه وتتوفر فيه عناصره الأساسية والمقومات اللازمة دون النظر إلى مذهب أو مدرسة أو طريقة.

ثانياً:      أن يكون المسرح طقساً، نكهته تدل على منبته، فالمسرح العابر إلغاء لحضور الفن في الحياة، أما المسرح الطقسي فهو ارتباط عضوي بين الخلق والتلقي.

ثالثاً:      أن يكون المسرح وظيفياً، أي أن يحقق وجوده من خلال:

1- المتعة الإنسانية المشروعة.

2- أن يكون متقناً، ويخضع في ذلك للشروط التي يجب أن تتوفر في أي عمل ثقافي أو مصنوع.

3- أن يكون الهدف من وظيفته.

إن وليد إخلاصي ينتصر لمسرح القطاع العام، لأن المسرح يصبح حقيقة راهنة وحاجة ملحة وتصوراً حضارياً، وأن المجتمع الذي يحاول أن يبني آماله بشكل جماعي وبرؤية مبرمجة، فإن مؤسساته الفنية الكبرى هي القمينة بالوصول إلى مثل هذا الهدف، وتبقى محاولات المسرح الخاص بالرغم من حيويتها ومرونتها عاجزة عن تحقيق المثل الأعلى للفن.

 

أما البوصيري عبد الله فقد عاد أيضاً إلى جذور المسرح الحديث دارساً أطواره من الحل التوفيقي والامتداد التجاري مع أوبرا «عايدة» لفيردي عام 1971م حيث انتعش الغناء والترويج والتهريج والحيادية، إلى ردة الفعل العاطفية تجاه سيطرة الأغنية مما حد من فاعلية المسرح وامتداده أي انتشاره الجماهيري، فانتقل إلى دور الدراما التاريخية والخبرة المسرحية والوعي الثقافي لرسالة الفن إلى احتراق فاعلية المسرحية الاجتماعية بسبب الفراغ الشائع الذي يفصل بين النظرية والتطبيق عبر سيادة المسرحية الاجتماعية الميلودرامية. وهذا هو حال المسرح العربي حتى ثلاثينات هذا القرن.

 

ثم يعرض البوصيري لنمو الشخصية الإبداعية في المسرح العربي الحديث كما ظهرت بعد الاستقلال إلى الأقطار العربية، ويلاحظ أن هزيمة حزيران قد أنضجت الشخصية المسرحية بدافع من حساسية حضارية متألمة ومداومة.

 

ويختم عبد الله بحثه بكلمة أخيرة حول مسألة الامتداد أشبه بخطبة قال فيها: «إن الفنان مسؤول قبل غيره عن خلو فنه من الفاعلية ومسؤول قبل غيره من عدم امتداد فنه لأن الفن الناضج، الفن الثائر لا ينتظر تأشيرة التحرك من أحد ولكنه ينتزع هذا الحق انتزاعاً وبكافة الوسائل الممكنة.

 

كل هذا الجهد المبذول من قبل مسرحنا بأساليبه التقليدية أو الطليعية، وكل هذا الغضب المتراكم الذي نلاحظه في مسرح ما بعد الهزيمة، وهذا النزوع إلى الانطلاق من أجل اللحاق بالعصر والحرية ومواكبة المرحلة تظل فاعلية باهتة وذات ملامح شاحبة ما لم تستجب لدعوة الالتحام بالجماهير وتكسر الطوق ويتم تحرير المسرح كلية من مركزيته التي فرضت عليه عزلة تاريخية مخيفة.

 

إننا نؤكد من جديد على ضرورة المسرح المتجول، والعروض المهرجانية كي يتحقق لنا شرف الالتحام العميق بجماهيرنا الشعبية».

 

«ولو تخلينا قليلاً عن التفسيرات التمويهية لوجدنا أن تعدد الأحزاب، والتطلع إلى الزعامة، والمعنى البرجوازي لحرية الفكر والتعبير، هي العوامل الأساسية التي أفضت إلى هذا القدر من الفوضى الفنية، وإلى هذا القدر من الارتباك في الحركة الثقافية في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى».

 

وثمة خلل آخر يتعلق بالمصطلح وسريانه على البحث، ففي منتصف بحثه، طرح عبد الله سؤالاً عن «الفاعلية»، ولاحظ أنه سؤال كبير وهام بلا ريب، والإجابة عليه يفترض أن تكون بمثابة استهلال بحثنا هذا، ثم اعتذر عن الإجابة وخاض في مسائل أخرى لا علاقة لها ببحثه.

 

ويصب بحر عمر البرناوي في المصب نفسه. تدبير أفضل للحركة المسرحية العربية، لأن المسرح يحتاج إلى تنظيم جماعاته لكي تنتج الأنفع والأرفع ثانياً، غير أنه  ظل محكوماً بضغوط التعبير الشاعري والسياسي على حركة المسرح العربي، مما أضر كثيراً بمعرفته التاريخية والفنية بحركة المسرح العربي، ولا سيما تجربته في الجزائر، بل إن معرفته تستند إلى خبرة بالحالة الثقافية في الجزائر.

 

عاين البرناوي السياسية في المسرح العربي من خلال أمرين الأول تجربه في الجزائر، وثانيهما الحداثة المسرحية، فتميز بحثه بذلك، لقد مضى مع العرض التاريخي ليحدد تجليات المسرح السياسي، وأشار إلى أن الحركة المسرحية التي عاشت منذ العشرينات إلى أيام الثورة المسلحة كانت تمتاز بما يلي:

1- الاهتمام بالمشكلات اليومية المتناقضة.

2- الاهتمام بالأحداث التاريخية الكبرى.

3- الكثافة في الإنتاج.

4- ربط المسرح بالغناء.

أما مسرح الثورة فكان مسرحاً سياسياً ملتزماً، لا مجال فيه للنكتة أو الموضوع الفردي إلا بقدر ما تستلزم الحاجة الفنية.

وأفرد البرناوي لمسرح الاستقلال حيزاً أوسع في بحثه القصير، فوجه خصائص المسرح المحترف، مسرح القطاع العام، التالية:

1- ندرة النص الجيد، مما ولد ظاهرتين هما الترجمة والاقتباس.

2- احتواء الإدارة للعناصر الفنية.

3- قلة إقبال الجماهير.

غير أن مسرح الهواة، أو المسرح الخاص، ذهب بعيداً في الحداثة «فشاهدنا منه مسرحيات عديدة من تأليف جماعي وإخراج جماعي وتمثيل جماعي بطبيعة الحال، ولم يسلم حتى المسرح المحترف من هذه الظاهرة فقدمت لنا فرقة المسرح الجهوي بقسنطينة مسرحية من هذا النوع وهو نوع من العمل المسرحي لا يختلف عن مسرح المنصف سويسي في تونس الذي قال لي حرفياً أني أطمح إلى إيجاد مسرح يشترك فيه الجمهور مع الممثلين، بالفعل في خلق عمل مسرحي».

كان البرناوي أميناً لمقاصده من بحثه، وهي عرض صورة شديدة الاختصار عن الحركة المسرحية في الجزائر وأساليب معالجتها للسياسة.

 

خلاصات:

إن بحوث محور المسرح في المؤتمر الثاني عشر تفيد في وصف راهن الواقع المسرحي العربي وتبحث في سبل تطويره، وتلقي أضواء جديدة عليه من منظور قومي وتغني هذا المنظور بتشخيصها لتجارب عربية محددة، وهذه مأثرة في حد ذاتها.

 

ومن المفيد أن  نورد بعض الخلاصات حول قضية المسرح والمسرح العربي مؤتمرات الأدباء العرب في إطارها التاريخي والثقافي والفني الذي يكشف في الوقت نفسه عن التباس قضية حساسة من قضايا التفكير الأدبي العربي المعاصر، ونوجز هذه الخلاصات فيما يلي:

1) يشير الاهتمام المتأخر بفن المسرح في مؤتمرات الأدباء العرب إلى ضعف أهميته في التفكير الأدبي العربي المعاصر، فلم ينظر إليه جنساً أدبياً أو ضمن الإنتاج الأدبي العربي الحديث حتى مطلع السبعينات، وهذا يستقيم مع النظرة السائدة إليه في مجرى الثقافة العربية في هذا المجال تفصح أبحاث المؤتمر بجلاء عن الموقف الثقافي العربي من المسرح، وما يزال الصراع إياه بين تقليد وتحديث في المسرح العربي يستند إلى تغليب التحديث على التقليد، ويثير في عمق الصراع شواغل الهوية الطاغية، وتخلل ذلك كله أسئلة مؤرقة ضاغطة على التفكير الأدبي العربي المعاصر مثل التداخل في هموم المسرح جنساً أدبياً أم أدباً مسرحياً أو مسرحة تنهض على الكلمة، بها أو دونها، في تضافر فنون أخرى، تعضيداً للاعتراف بأن المسرح أبو الفنون، مما هو شائع في المسرح الشامل أو التجريب المسرحي النشط، أو الاختلاف في نشوة الظاهرة المسرحية، فثمة إقرار بانبثاقها من الطقوس والشعائر الدينية أو الاحتفالات الشعبية، بينما يرى بعضهم أن المسرح لا يكون إلا بالتقليد الغربي... الخ.

 

2) أظهرت بحوث هذه المؤتمرات أن ما دفع إلى إثارة قضية المسرح هو الممارسة المسرحية العربية الناهضة منذ أكثر من قرن من الزمن ونموها وتطورها، ربما بمعزل عن مسار الأدب الغربي الحديث، حيث المسرح فن شعبي لا يحظى باهتمام لائق في الثقافة العربية، فانتشر المسرح، مما به إلى ضرورة حمايته من خطر الاستهلاك لدى القطاع الخاص اللاهث وراء الربح وحده، فكانت حركة المسارح الوطنية والقومية في إطار رعاية الدولة للمسرح، وكان التمييز بين القطاع العام والقطاع الخاص... الخ.

3) غلبت على البحوث هموم تأصيل المسرح العربي، وهذا يستقيم مع تطور التفكير الأدبي العربي الحديث فما كان داخل هذه المؤتمرات إلا صورة عن الشغل النقدي بقضية المسرح والمسرح العربي في الثقافة العربية الحديثة، بل إن هذه المؤتمرات صاغت على استحياء أسئلة التأصيل التي وجدت في الثمانينات والسبعينات اهتماماً موصولاً في الملتقيات والمهرجانات والكتب والدوريات وفي رحاب الجامعات والمعاهد( ).

4) أشارت هذه المؤتمرات مبكرة إلى القضايا اللاحقة التي تبحث عن إجابة، فثمة خلاف حول تأريخ المسرح عند العرب وفهمه في القديم والحديث. وثمة خلاف أكبر حول تاريخية المسرح العربي أي معنى المسرح بالنسبة للعرب المعاصرين.

وتسربل مثل هذه الخلافات في سربالها ذلك التداخل بين الظاهرة الأدبية والظاهرة المسرحية، وعدم الاتفاق على قيمة الظواهر المسرحية العربية ورفض أصالة الأشكال المسرحية القديمة كخيال الظل والعرائس، على الرغم من انتشار النزوع إلى الإقرار بقيمة هذه الظواهر القديمة كما في سفر علي عقلة عرسان الضخم «الظواهر المسرحية عند العرب» (1981م)، أو الإقرار بقيمة هذه الظواهر الحديثة كما في كتاب سلمان قطاية الوجيز «المسرح العربي من أين أو إلى أين؟» (1972م)( ).

وثمة ملموسية أخرى هي هيمنة المثاقفة بمعناها السلبي أي الارتهان إلى الإقرار بالتبعية للغرب إنكاراً لأي مظهر من مظاهر التأصيل على الرغم من أن الغربيين أنفسهم يؤمنون بأهمية الظواهر المسرحية العربية كما في كتاب حسن بحراوي «المسرح المغربي، بحث في الأصول السوسيوثقافية» (1994م)( )، وهذا الكتاب يستمد  مادته الخام مما كتبه الرحالة والأناسيون الأجانب حول الأشكال الفرجوية العربية القائمة على التشخيص والتنكر والتعبير العفوي في الاحتفالات الدينية والدنيوية.

[مجلة «علامات» (جدة) يونيو 1996]

 

5

تجليات أخرى للهوية:

ملاحظات حول المسرح القومي

إن ثمة التباساً بين مصطلح «القومي» و«الوطني»، وبالذات حين نعالج ظاهرة فنية أو أدبية، ولقد أظهرت التجربة العربية في المسرح على وجه الخصوص مدى التداخل البين بين هذين المصطلحين، ليس في حركة النشاط الثقافي، ثم الانتشار المسرحي بعد ذلك فحسب، بل في توجيه هذه القنوات الجماهيرية الهامة التي تجعل من المسرح جهازاً ثقافياً وقناة إعلامية ووسيلة اتصال فعالة.

 

وثمة مسارح عربية تسمي نفسها وطنية، ولا يمكننا أن نبرئ هذه التسميات من تأثير هيمنة الدولة القطرية على العمل الثقافي العربي. وقد شهدت الستينات والسبعينات نهوضاً مسرحياً عربياً بفضل نجاح المسارح القومية أو الوطنية، فانتعش في ذلك الوقت الحديث عن المسرح القومي أو الوطني، وتندرج هذه المقالة في إعادة الضوء على تلك الحقبة، لأن مادتها الرئيسة كتبت في عام 1974، على أنني وجدت فائدة في إعادة الحوار حول المسرح القومي أو الوطني، طارحاً بعض الأسئلة تمهيداً لمناقشة بعض المسرحيات التي تصدت، بشكل أو بآخر لوظيفة المسرح، مما نشر من مسرحيات عربية في مطلع السبعينات.

 

لقد كان فهم المسرح القومي أو الوطني، منذ بداءة المحاولة، موجهاً إلى تثمير وظيفة المسرح، فالمسرح القومي أو الوطني المراد انتماء نضالي لقضية الشعب العربي وانتصارها في وجه موجات المسرح التجاري وقيم الثقافة الهابطة.

 

ينطلق التساؤل من الملاحظة التالية:

هل يقدم ما يكتب من نصوص مسرحية أو ما تعرضه المسارح العربية جواباً حول وظيفة المسرح؟ وهل كان للمسرح العربي صفات خاصة استطاعت أن تسابق أو تزامن حساسية ما في حياتنا السياسية والاجتماعية؟

لقد حدثت تطورات كثيرة، وأضيفت إلى قاموس التعامل اليومي بين الناس مفاهيم وشعارات جديدة، فما الأرض التي يدور معها المسرح العربي؟

في الخمسينات، برز الصراع واضحاً بين دعاة الثقافة القومية والوطنية، ومناوئيهم. وقد تصدى جيل نعمان عاشور للصراع في المسرح، فكانت مسرحية «الناس اللي تحت» (1956) تبشيراً بطلائع المسرح التالي التي رأت أن المسرح القومي أو الوطني يعني بروز ظواهر جديدة من أهمها:

- تعاظم الجهد الدائب لخلق المسرحية العربية الأصلية.

- الإصرار على المشكلة الاجتماعية وربطها بالمشكلة الوطنية.

- استلهام التراث العربي موضوعياً وفنياً.

- شيوع مسرح التأرخة، ومنه طرح قضية النكسة، على سبيل المثال، وتنوع استجابة المسرحين لها، وكذلك هو الحال مع الأحداث والوقائع الكبرى في تاريخ العرب الحديث.

 

إن فكرة هذا البحث تركز على ربط مفهوم المسرح القومي أو الوطني بتثمير وظيفة المسرح في زمنه، ويدل تاريخ هذه التجارب المسرحية على أن مثل هذه الفكرة ارتبطت في الممارسة برعاية الدولة للمسرح (المسارح القومية أو الوطنية)، وفي النظرية (الإبداع المسرحي والنقدي) بالمبدعين والفن. ومن المفيد اليوم، وفي ظل تردي هذه التجارب المسرحية وطغيان المسرح التجاري والنمط الفني الاستهلاكي، أن تعاد معالجة الأسئلة القديمة –الجديدة:

- دعم رعاية الدولة للمسرح.

- تكريس الموضوع القومي في الفن.

- تشجيع التبادل الثقافي والمسرحي القومي.

- إضاءة التداخل بين وظيفة المسرح وارتباطها باتجاهات محددة كالتسييس والدعاوة والتسجيلية والدعوة إلى المسرح الشامل.

- التوكيد على فصحى اللغة المسرحية.

- الحرص على ربط أصالة المسرح العربي بانتشاره إلى أوسع قواعد الجماهير.

ولدى مناقشتي لبعض المسرحيات العربية في مدى اقترابها من المسرح القومي أو الوطني، لاحظت أن عديد الأسئلة الأخرى لابد من معاودة معالجتها مثل:

- تربوية المسرح وتحقيقه للمنظومة القيمية المنشودة.

- مسألة التأرخة في المسرح واحتفاظها بقيمة العمل المسرحي، إذ غالباً ما تفقد المسرحية قيمتها حين تصبح مجرد وثيقة عن واقعة تاريخية.

إن هذه الأسئلة جميعها مطروحة للنقاش، فموضوع المسرح القومي أو الوطني ما يزال راهناً وملحاً.

 

1- «رفاعة الطهاوي أو بشير التقدم»:

التسجيلية بشيراً لتقدم المسرح:

لنتابع الحوار من جملة ليست بجديدة، ولكن الجديد فيها هو قبولها، هذه الجملة تقول: «إن فكرة المسرح قد وصلت إلى الناس»، إذاً صار هناك توازن بين صراع الذات والموضوع في المسرح، وصار بإمكاننا الحديث عن واقع مسرحي وعن مهمات مطلوبة من هذا المسرح، وهذه المهمات المطلوبة هي ما نعنيه بالمسرح القومي.

 

أقول هذا الكلام في معرض الحديث عن صدور مسرحية جديدة لأحد رواد المسرح العربي الجديد في مصر، وأعني به نعمان عاشور، الذي سبق له أن كتب العديد من المسرحيات، وترجم بعضاً من نصوص توافق مسرحه، وتحدث عن هذا المسرح كثيراً في الدوريات والندوات والمؤتمرات، فكان يدعو لمسرح واقعي مشغول بالمشكلة الاجتماعية التي ترتبط أحياناً بالمشكلة الوطنية. بعد «الجيل الطالع» (1972) المكتوبة إثر غيبته عن التأليف المسرحي، عاد نعمان عاشور إلى مسرحه الأثير انطلاقاً من أسلوبه المعهود «المسرح الواقعي» لكي يصل إلى الهدف نفسه «الحرية والتقدم عن طريق المسرح».

 

قلت عن نعمان عاشور في أماكن أخرى: نعمان عاشور هزه واقع الطبقات الدنيا فالتصق بالمشكلات المرحلية يكتب عنها دون تزويق. ولهذا، يمكن أن تؤخذ مسرحياته وثائق بعد تاريخ.. ولكن المسرح ظل يبحث عن دوره الصحيح ليساهم مساهمته المنتظرة في حياة الشعب، وقلت: لقد تراجع مسرح نعمان عاشور وأمثاله لينتشي في إبداعهم وبشكل خارق ما يسمى بالمسرح السياسي. ما الجديد إذاً عند نعمان عاشور مرة ثانية؟ ولماذا الكتابة عنه هنا؟

أصدرت سلسلة «مسرحيات مختارة» في أيار 1974 مسرحية نعمان عاشور «رفاعة الطهطاوي أو بشير التقدم –دراما تسجيلية في ثلاثة فصول وعدة مناظر». ونجد فيها أن المسرحية تسجيلية، أي أن المؤلف يستخدم الوثائق.. منبعه الأثير في مسرحياته السابقة، وهو حين كان يستخدم مادته في عمل «درامي» أو «مسرحي» وفق عقيدته الفنية بحيث تبدو في النهاية ليست أكثر من «تسجيل» أو «وثيقة» لم يغفل سعيه الحثيث أساساً لتوظيف المسرح.. كان يريد الوصول إلى أن يصبح المسرح نفسه وثيقة، بينما هو في عمله الجديد يمسرح الوثيقة. الفرق إذاً كامن بين «تسجيل» الدراما أو «مسرحة» الوثيقة.

 

والآن، هل لهذا الفرق تطور يذكر في مسرح نعمان عاشور؟! يقول نعمان عاشور:

«وقد يبدو للوهلة الأولى أنني أخرج بذلك عن اللون المسرحي الذي أكتبه عادة شكلاً ومضموناً، ولكن الحقيقة أن تناولي لهذه المسرحية التي أعرفها بأنها دراما تسجيلية، إنما يرتكز على نفس الأسلوب الدرامي الذي أخذت به نفسي منذ البداية.. وهو أسلوب قوامه تسخير اللغة لدواعي التعبير الدرامي أصلاً.. والتزام الحقيقة الموضوعية في معالجة الواقع الحي، ثم تجربة تناول الحقيقة التاريخية بأسلوب واقعي خالص» (ص5-6).

 

إن المتتبع لنشاط المسرح في العالم بشكل عام، وفي الوطن العربي بشكل خاص، يلاحظ إلى حد بعيد غياب «الدراما» منبع العمل المسرحي عن المسرح، والدراما هي الفعل.

غالباً ما يحيل رجال المسرح وفنانوه المعاصرون الدراما إلى خارج العمل الفني.. إلى باطن الحقيقة الأسطورية أو التاريخية التي عرفت بعض وجوهها أو إلى ظواهر الواقع المعاش أو بعض جوانب مفهومة من قضاياه، ثم يبنى- ما يبنى –على هذه الحقائق من أسئلة جديدة تنير غبش الأسئلة القديمة، وفي هذا جوهر وظيفة المسرح في أن يعين الناس على حياتهم.

 

إن نعمان عاشور في «رفاعة الطهطاوي» يلجأ إلى الحقيقة التاريخية ليستنطقها قيماً للمستقبل. وبذا، يمكننا القول: أن الكاتب وفر موضوعه «التاريخ» ولم يبق إلا ما يبنى عليه من بناء.

 

وعلى سبيل المثال أيضاً، اعتمد ممدوح عدوان على وقائع جرت وعلى أعمال كتبت. في مسرحيته «كيف تركت السيف» مع شخصية أبي ذر الغفاري فكانت المسرحية أقرب إلى الحوارات السياسية المباشرة. وفي «الانتظار» مع نص بيكيت الشهير «في انتظار غودو» مثيراً بعض أسئلة الوضع السياسي الراهن، وفي «ليلة القتل» مع نص ميخائيل رومان «ليلة مصرع غيفارا العظيم» باحثاً عن أسباب العطب في الثورة المعاصرة، واعتمد سعد الله ونوس مثله في «سهرة مع أبي خليل القباني» شخصية أبي خليل القباني ونضاله من أجل قيام «مرسح» في الوطن العربي، ثم ربط هذا النضال بنضال الجماهير من أجل الحرية والاستقلال.

 

وصنع مصطفى في عمله «أيها الإسرائيلي، حان وقت الاستسلام» الحلاج هذا حتى في تقديم «دراما» باعتماده على ما يمثل لقاء «الإسرائيلي» بعربية في ذهن المتفرج وخصوصاً العربي. وقبلهم بنى عبد الرحمن الشرقاوي دعوته السلمية الباطلة إزاء حقيقة صراع يدور فيغطي أرض الواقع باللجوء أيضاً إلى وقائع صراع قديمة في «الفتى مهران». وما فعله عبد الرحمن الشرقاوي يطرح تلك المقولة الخطرة: ألا يجب أن يكون هناك تناغم بين الحقيقة التاريخية والتوجه بها إلى واقع الحال.

 

إن ما يجري في المسرح العربي اليوم هو التوجه إلى الواقع الحي المتحرك بكل ما يتبعه حتى الآن من فهم وفرصة للتعامل. وما نص نعمان عاشور هذا إلا تقرب من هذا الفهم وهذه الفرصة، ففي فهم «المنطلقات الحية» في تاريخنا ونضالنا مهمة نضالية أيضاً.

 

إن التفات نعمان عاشور إلى «رفاعة الطهاوي» في مسرحية تسجيلية يعني أن الحقيقة التاريخية تلهم الفنان قيماً نضالية تساعد مجدداً على الحياة أولاً، وإن البحث في ظواهر الحياة الاجتماعية لتوثيقها أو تسجيلها –كما كان بفعل من قبل- لا يغني القيمة الفنية ولا القيمة الفكرية، ولهذا يجب النظر في علائق قد تبدو خفية أو مستورة في التاريخ أو الواقع و «رفاعة الطهاوي» أولى وجوب النظر هذا ثانياً، وإن النظر في هذه العلائق يتيح للمتلقي فسحة من المشاركة لمواصلة العمل المسرحي، وإن «مسرحة» الوثيقة على هذا تبدو أقرب للمتلقى من «تسجيل» المسرحية ثالثاً.

 

2- «طائر الخرافة»:

طائر المسرح يذهب بعيداً

مجموعة مسرحيات رياض عصمت «طائر الخرافة» تثير جانباً من الحوار حول المسرح الوطني، ففيها محاولة لتكريس مطالب هذا المسرح باصاخة السمع لنبض حياتنا السياسية والاجتماعية أولاً، ومحاولة للجواب في عالم كبير من المسرح. والأصح محاولة «سياحة» في عالم المسرح الكبير ثانياً.

 

يقول الغلاف:

«تسجل المسرحيات التي يضمها الكتاب تطور تجربة رياض عصمت ذات الاتجاهات المتعددة في المسرح خلال السنوات ما بين 1967و1970، وهي بذلك ترسم للقارئ مفترق الطرق في رؤيا المؤلف والناقد المسرحي وتخوض به في غمار التجريب عبر أشكال تتنقل من الميلودراما إلى المسرح الشامل إلى المسرح الملحمي وحي مسرح العبث، محاولة البحث عن وسيلة تعبير متميزة ومؤثرة في قراء ومشاهدي المسرح العربي».

 

في المجموعة أربع مسرحيات هي «القنبلة 1967»و «طائر الخرافة 1968»و «الخسوف 1969»و «والذي لا يأتي 1970» وهناك أيضاً أربع مقدمات.

وتأتي مسرحية رياض عصمت «القنبلة» لتصور إنساناً يعيش في الأرض المحتلة، يتهمه العدو بإلقاء قنبلة بينما هو بريء، وبفعل المصير الذي يواجهه هذا الإنسان يصل إلى شجاعة غريبة هي الاعتراف بإلقاء القنبلة.

 

والمسرحية فيها خصائص مسرحيات المقاومة التي رأيناها بدءاً من «النار والزيتون- الفريد فرج» حتى «زهرة من دم- سهيل إدريس»، فهي تفترض وقوف الفلسطيني أمام الصهيوني ثم مجادلته بحقه في الأرض والحياة، إضافة إلى إلصاق حوار عن صراع طبقي يمكن أن يدور في المدينة بالنضال ضد الصهيونية وكأن المسألة مسألة بيت جميل ومتطلبات معيشية.. الخ.

المسرحية فيما تقوله لم يطرأ عليها جديد، الجديد هو مقدمتها التي تثير الحوار.

 

إنه يستعير رأياً للناقد المعاصر «اريك بنتلي» في الميلودراما (المشجاة) بقصد الوصول إلى «احتواء جاد وملائم» لما يريد التعبير عنه، ويدافع عن الميلودراما قائلاً:

«في الواقع إن الميلودراما لا تزيد عن افتعال الرومانسية ولا عن مبالغة الكلاسيكيات، ولا عن تهويل الكوميديات أو الفانتازيا ». هذا كلام لا يجانبه الصواب، ولكن الصواب أيضاً هو أن الفن، ومنه المسرح يقوم على الصدق والإقناع وغيرهما من الشروط الواجب توفرها في طبيعة الفن.

 

إن كلام رياض عصمت عن الميلودراما يفضي بالمسرح بأشكاله ومذاهبه واتجاهاته خاضعاً إلى المبالغة والتهويل، أما مسرحيته «القنبلة» ففيها المبالغة والتهويل.

«طائر الخرافة» مثلها مثل «القنبلة». مع الاختلاف في الأسلوب المسرحي، هنا يعتمد رياض عصمت، شأنه شأن أغلب الكتاب المسرحيين العرب، على الكلمات الكبيرة ذات الضجيج المعروف، وهي غالباً ما تكون إنشائية تتوجه إلى رصيد العاطفة المتأجج لدى المتلقي. فتغدو المسرحية صراخاً متوجعاً ومتأملاً من أجل الأرض والوطن والحب وكل القيم الجميلة.

 

هناك مناظر لا تخلو من شاعرية وجمال تصل إلى أجمل الشعر الغنائي المكتوب، أما الحديث عن «تفاؤل الأدب والفن- طرح الحلول في نهاية كل عمل- رصد المجتمع والعصر بصدق» فتلك مسائل لا تثيرها المسرحية إلا في الحدود التي قامت عليها مسرحيته السابقة «القنبلة».

 

في المسرحية الثالثة «الخسوف» خمسة رجال يعزفون كما يحدث أيضاً في أغلب المسرحيات العربية على لحن الهزيمة والانتصار في حياتنا العربية، ثم ما تلبث أن تنحدر هذه المعزوفة إلى مستوى الحوارات اليومية حول الطبقات والفئات الشعبية في موقفها مما تواجهه الأمة العربية من محن. وعلى الرغم من أن رياض عصمت ليس «مع الذين ينادون بتفاؤل الأدب والفن» (ص 68) فإن مسرحيته هذه «الخسوف» تنتهي بتفاؤل عجيب لا يمكن تفسيره. يقول الرجال الأربعة (ص 137- 138):

«سنذيب الحديد والحجر بلحم أيدينا، بعظم أضلعنا، بنور أعيننا، ورغم خسوفك يا قمر سنصمد أيها القدر، ونظهر الجرح بالسكين يا بلدي. رغم الخسوف، سندق الحديد والحجر دون خوف. بأفواهنا إلى النور، سنأكل الحديد والحجر».

 

وتجيء مسرحيته الأخيرة «الذي لا يأتي» عملاً جديداً يستند إلى مسرحية بيكيت الشهيرة «في انتظار غودو»، لتعبر عن ذلك النزاع في نفس رياض عصمت بين موقعين في الحياة، إن «الأول» هو «الثاني» في المسرحية، وما دام الرجل الأول قد انهال على الثاني بعشرات الطعنات القاتلة في نصله اللامع وهو يردد «إني أكرهك»، فهل انتهى النزاع عند رياض عصمت. إن الرجل الأول يصرح ببعض الأفكار التي ربما قتل من أجلها رجلاً آخر مقيماً في داخله، ولا يفارقه هو الرجل الثاني. فهل قتل الرجل الثاني لاكتشاف جديد عرفه، أو رآه الرجل الأول ثم غفل عنه. يبدو أن النزاع عند رياض عصمت لم ينته: الوحدة ما تزال.. الخوف ما يزال.. الحب مات منذ زمن طويل.. الوحشة تملأ الدروب.. الحاجة إلى الرجل الثاني ما تزال. عند هذا كله يكون الحل هو الانطلاقة مع صاحبه «الرجل الثاني الذي مات» إلى الغابات، ولكن الميت لا يتحرك، عندئذ ينطلق الرجل الأول وحيداً نحو الغابات، وقد شهر السكين المضرجة بالدم وهو يطلق صرخة طويلة ثاقبة. إنه اليأس.. منتهى اليأس إذاً. هذه هي مسرحية رياض عصمت الفضلى في مجموعة مسرحياته.

 

من هنا، تكون الحصيلة من حديثنا عن مسرحيات رياض عصمت ما يلي:

- التفاؤل أو اليأس ليسا بخلاصتين فنيتين، إنهما مسألتان تدخلان في نسيج الحياة التي يطمح العمل الفني في النسج على منوالها.

- التنقل بين الأساليب المسرحية مشروع.

- الموضوع ضروري للفن، وللمسرح، والموضوع ليس أن «تحكي عن شيء»، ولكن أن «يحكي هذا الشيء» فيتحول إلى مادة فنية عن التاريخ.

 

3- «رشاد رشدي»:

وقضية الصراع العربي الإسرائيلي:

يتراوح المسرح، كما هي الفنون جميعها، بين التحديد واللاتحديد.. بين التاريخي واللاتاريخي، وفي تعيين أحد هذين الطرفين في مسرحية ما، نستطيع أن نعرف فكر الكاتب السياسي وموقفه من الصراع الدائر على سطح الأرض عموماً، وبين بني قومه خصوصاً، وفي مسرحنا العربي اقتراب كبير من التحديد.. من التاريخي، اقتضته التطورات في علاقة الكاتب بالسلطة وفي مدى تحسسه للواقع مما ألح عليه أن يقف موقف المجابهة! ورشاد رشدي الكاتب المسرحي العربي نفسه ألحت عليه الحساسية الجماهيرية في طلب المسرح السياسي أو الملتزم، والحساسية الفنية في التبسيط والتقرير واللغة اليومية وتسهيل المفاهيم الكبيرة فكتب مسرحيتيه الأخيرتين «حبيبتي شامينا» (مطبوعات الجديد 1972) و «محاكمة عم أحمد الفلاح» (مختارات الجديد 1974)، والمسرحيتان تتنطعان للقضية الوطنية الأولى، قضية التحرير كما تتمثل في الصراع العربي- الإسرائيلي ثم تدعيان تقديم الحلول. ماذا يقول هذا الرجل في مسرحيتيه؟ وأين هما من المسرح الوطني أو  القومي؟

لقد كتب قبل المسرحيتين المذكورتين عدة مسرحيات أذكر منها:

«لعبة الحب» و«رحلة خارج السور و«خيال الظل» و«حلاوة زمان» و«نور الظلام». وفي جميعها يتصدى رشاد رشدي للذات المنقسمة، والضائعة، والمغتربة، وفي جميعها أيضاً يبحث رشاد رشدي عن تلك الذات. المتوافقة ثم لا يجدها، فتظل شخصياته في أوهامها وفي خوفها وقلقها سجينة لا تلوي على شيء ولا تنتظر شيئاً، أما علاقتها بمجتمعها فتلك مسألة يطول بحثها، وخلاصتها أن الصراع داخل شخصياته نفسي بحت وفي الغالب هو نتيجة افتراضات، والمحور هو فقدان الحب من قبل الآخر بتعبير أوضح، لذا فهو يقيم علاقات متعامدة –متوافقة: أكثر من علاقة متشابهة مع تغير الأطراف في كل مرة.

 

وبقي عالمه هكذا حتى كتابة المسرحيتين الأخيرتين، عدا مسرحية واحدة أراد لها أن تكون صدى مباشراً لواقع النكسة، فكانت «بلدي يا بلدي» ليرى فيها أن أسباب النكسة تعود إلى الجدار القائم بين القائد والشعب، تلك النغمة التي عزف عليها أغلب كتاب المسرح في مصر العربية، أمثال يوسف إدريس في «المخططين» وسعد الدين وهبه في «يا سلام سلم، الحيطة بتتكلم» وعلي سالم في «أنت يللي قتلت الوحش». وعلى الرغم مما تثيره هذه القضية من حوار مع الواقع العربي، فإنها تنطوي على عجز واضح في التوجه إلى الصراع القائم وفي مدى وعيه تاريخياً وفنياً، ودون هذا الوعي تظل الأعمال الفنية قاصرة، وتفتقد للصدق والإقناع.

 

تتحرك مسرحيتاه الأخيرتان «حبيبتي شامينا» و«محاكمة عم أحمد الفلاح» في هذا الإطار تماماً فهما تعتمدان الوصفات الجاهزة بحجة تقريب هذا النبض من جماهير المسرح. في «حبيبتي شامينا» هناك شامينا أو سوسنة التي يحبها الراعي الشاب «راعين»، وفي الوقت نفسه يريدها الملك سليمان زوجة له، وهنا يقوم الصراع بين الحب والسلطان. وفي النهاية ينتصر الحب فبعدما أصبحت «شامينا» ملكاً لسليمان يتدخل راعين، ويدخل أرض سليمان ليعيدها، وتعود دون مقومة تذكر، لأن أيدي الحراس تصبح مشلولة، وهكذا تعود شامينا.. هكذا ببساطة.. الحب وحده يرجع الحبيب: وببساطة أيضاً تتضح الرموز فشامينا هي فلسطين، وسليمان هو العدو، وراعين هو الفدائي العربي أو ابن فلسطين. لكم هو الحل معقول وواقعي.

 

أما مسرحيته الأخيرة «محاكمة عم أحمد الفلاح» (تشرين أول 1974) فقد كتبها من وحي 6 أكتوبر (تشرين أول) 1973، أي من وحي الحرب مع العدو. وتقع في أربعة فصول، وتخلو من حدث اعتماداً على غنائيات الصراع مع العدو الإسرائيلي ومعطيات الحياة العربية على ضفاف النيل من خلال تكنيك مسرحي هو الفلاح العربي في مصر من قبل قضاة لا نعرف من هم تماماً، ثم تأتي حرب 6 تشرين لينسحب القضاة، ويتركوا منصة القضاة لعم أحمد ومن ورائه الشعب (المرأة والفتاة والراوي والشاعر إلخ..) ليبدأوا المحاكمة. ثم نفهم أن المحاكمة ستقام من أجل بناء الوطن وتحريره. هكذا أيضاً، وببساطة. إذاً المسرحية غناء لحرب تشرين باسم الفلاح.

 

تخلو قاعة المحاكمة في الفصل الثاني من القضاة لتنطلق مونولوجات الراوي والمرأة والشاعر وغيرهم بينما تتخللها بعض أحداث الحرب أو المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، وما هو معروف منها كحكاية تقديم الأم ولدها للعدو بدلاً من الفدائي فقد استخدمه غيره بنجاح لم يحققه هو (وليد إخلاصي في «يوم أسقطنا طائر الوهم» على سبيل المثال) وما هو غير معروف فمبالغ فيه وممجوج (مثال: حين يغضب عم أحمد من الطيار الإسرائيلي يتحداه بدون سلاح، أما الطيار الإسرائيلي فيجري مذعوراً وهو يصيح مصري.. مصري.. مصري).

 

لقد ظل في مسرحياته عدا «بلدي يا بلدي» أميناً للاتاريخي، ولذلك تعرفنا على عالمه وأفكاره، أما المسرحيتان الأخيرتان فيلجأ فيهما إلى «الغناء» لكي لا يواجه تفاصيل واقع شديد الغنى والإثارة والتعقيد.

 

4- «بيت الجنون»:

خطوة إلى القضية الفلسطينية:

كتب توفيق فياض مسرحيته «بيت الجنون»، في الأرض المحتلة عام 1965 وهذه المسرحية بالذات تثير مسائل عديدة حول طبيعة المسرح الوطني لعل أبرزها ما يكتسبه مثل هذا الفن الذي يكتب تحت سمع وبصر العدو أولاً، والأدوات التي يتوصل إليها الفنان المناضل لتوصل فنه، ثانياً، ثم الموضوعات ومدى علاقتها المباشرة بالصراع مع العدو ثالثاً.

 

إن رؤيا الفنان حين تستشرف الواقع من خلال ذلك الصراع الخالد بين الإنسان وقوى الظلم والعدوان، هذه الرؤيا هي المقاومة بحد ذاتها، ولكن ثمة أدب مقاومة يوظّف جهوده لقضية سياسية أو اجتماعية. مباشرة، هذا الأدب هو الأدب الوطني، وعلى الغالب، يتحول بعد انتصار القضية التي دافع عنها إلى (وثيقة) مثل البيانات وكتابات الشهود إبان موقعة ما.

 

كتب توفيق فياض مسرحيته في الأرض المحتلة، وطبعها لأول مرة هناك، وهذا ما جعله يختار أدوات فنية ربما تكون غير متجانسة، وعلى الرغم من ذلك كله استطاع أن يوصل ما يريد أن يقوله، وأن تكون مسرحيته لبنة من لبنات رفض الواقع القائم على الظلم والعدوان، لقد سبق للكاتب الفلسطيني «عفيف سالم» أن قال عن مثل هذه النماذج إنها «ابنة شرعية للوضع الاجتماعي السياسي للشعب العربي في إسرائيل» وهذا صحيح. ومن هنا، تجيء خطورة ما هو مطلوب منها، أن تكون أشبه بالمنشورات ولكن بشكل علني، باعتبارها عملاً فنياً لا يتخذ صورة المنشورات المباشرة.

 

«بيت الجنون» ليس فيها سوى شخص واحد هو سامي الذي كان يعمل مدرساً للتاريخ والأدب، ووحده يتوسط خشبة المسرح مع تعليمات وإرشادات مسرحية كثيرة تكاد تحيل العمل إلى قصة حوارية تعتمد أسلوب/ المونولوج –حديث الشخص لنفسه- سامي عن ذلك الحصار الذي يبقيه في «قبر» الاحتلال، وهو لا يتأخر عن تسميته بالكابوس الرهيب، وهذه التسمية هي أول كلمات المونولوج –المسرحية. ثم لا يتوانى عن بسط حالته ومخلوقات عالمه: وحدته، ملاحقته الدائمة من قبل أصحاب الأحذية الوحشية والقبعات السوداء، الريح الشديدة الهبوب، لبنى الملاك التنين، الناس الغرباء في داره.. الخ..

أما كيف يتعامل مع عالمه، وكيف يفهمه فهذه بعض حالاته:

- السلام العالمي يساوي ناقص الإنسانية (ص13).

- بل شبح المالك ذلك المغتصب الوقع (ص16).

- ولكنني، لن أستسلم.. لن أستسلم أبداً!! (ص28).

- العالم بأسره، هو المسؤول عن هذه المأساة الأليمة، مأساة ولادتي! (ص57).

- هناك، هل تسمع..

فإنني لا أخافكم.. (يندفع نحو الباب بجنون يحاول فتحه).

لا أرهبكم.

سأتحداكم جميعاً.

وسأنتصر عليكم جميعاً.

جميعاً..

وحدي..

وحدي.. (ص 80 وبذا تنتهي المسرحية).

المسرحية –كما نلاحظ- تخلو من حدث إلا من وجدان سامي الذي يتحرك على طول المسرح وعرضه محاصراً من كل الجهات، حتى الصالة تحاصره، مؤكداً توجهه نحو أهدافه من كتابة المسرحية، حين يلتفت إلى الجمهور «العدو الإسرائيلي» ويقول:

يا إله السماء!

أنتم!..

ماذا تفعلون هنا؟

كيف دخلتم داري بحق الشيطان!؟

كيف استطعتم ذلك؟! (ص29).

لقد أراد توفيق فياض لبطله أن يكون ممثل العرب تحت ظل الاحتلال الإسرائيلي رمزاً ومرموزاً له، ثم يوسع استخدامه لهذا الأسلوب حين يقدم رموزاً أخرى مثل «لبنى» و«الريح» الأول للدلالة على قيمة ما، والثاني للدلالة على موقع بيت سامي- فلسطين- في التاريخ.. وإن البيت معرض في كل حين للثورة، وما يجدر ذكره هنا هو نجاح توفيق فياض في توصيل أفكاره لجمهوره رغم انتهاجه الرموز التي عطلت بعض الدلالات لتنافيها مع الأسلوب المباشر في مواقع كثيرة –لاحظ المنطق والمحاكمة في مونولوج سامي- وهو في هذا معذور، كونه يكتب تحت ظروف الإرهاب والبطش.

 

وقد كان توفيق فياض أميناً للممارسة النضالية لشعبه، إذ لم يتجاوز حدود التفاؤل المتاح حين جعل سامي (الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة) يرفض الاستسلام، ويقرر المواجهة بالكفاح المسلح «1965».

 

إته، ببساطة، يكتب مسرحاً وطنياً يلبي احتياجات شعبه حين يهتم اهتماماً بالغاً بمسألة التوصيل، وحين يعالج موضوعات متغيرة هي موضوعات النضال العربي الفلسطيني، وبذا يقدم المثال على أن المطلوب من الأدب والفن الوطنيين ما يزال كثيراً، «وإن القضية الفلسطينية ما زالت أكبر بكثير من الفعل الفلسطيني» كما يقول توفيق فياض نفسه، ومنه الفعل الفني.

 

5- «النسر الأحمر»:

الواقع والقيم الفاضلة:

ربما كان عبد الرحمن الشرقاوي الكاتب الوحيد بين كتاب جيله الذي واكب التطورات السياسية والاجتماعية في بلاده في مختلف الوسائل التي يمارس فيها العمل الفني (الشعر والقصة القصيرة والمسرحية والرواية والمقال الأدبي والسياسي). فهو ينتمي إلى الجيل الثاني من كتاب المسرح العربي في مصر مع نعمان عاشور ورشاد رشدي وسعد الدين وهبة ويوسف إدريس والفريد فرج، هذا الجيل الذي نضجت تجربته الأدبية في مطلع الخمسينيات، وكان بدأ الكتابة في أواخر الأربعينيات.

 

صحيح، إن اهتمام كتاب الجيل الثاني من المسرح العربي كان منصباً على مسألتين: الأولى معالجة الطبقة المتوسطة في المجتمع المصري، والثانية التزاوج بين المشكلة الاجتماعية والمشكلة الوطنية، إلا أن عبد الرحمن الشرقاوي يتميز عن أبناء جيله بميزات منها:

أولاً: توجهه نحو المسرح الشعري، وقد كتب مسرحيات عديدة شعراً هي «مأساة جميلة» عام 1959 و«الفتى مهران» عام 1963 و«ثأر الله –الحسين ثائراً وشهيداً» عام 1967 و«النسر الأحمر» عام 1974 وهي مدار إشارتنا الآن، وله أيضاً ثلاث مسرحيات هي «الأسير» عام 1953، و«تمثال الحرية» عام 1967، و«وطني عكا» عام 1969.

 

ثانياً: توجهه نحو معالجة البيئة الريفية، فالفلاح حاضر في مسرحياته أبداً.

وما يمنح مسرحه خصوصية هو فكره الذي يتوصل له في أساليب فنية معينة. لقد ظل أميناً للأهداف الوطنية الواسعة لفترة طويلة. ففي «مأساة جميلة» تمجيد للدفاع عن حرية البلاد، وفي «الفتى مهران» إدانة لسقوط الفارس أو المقاتل في التواطؤ مع السلطة العميلة، وفي «الحسين ثائراً وشهيداً» غناء للشهادة من أجل الدفاع عن الوطن والقيم النبيلة. ولكنه في مسرحيته «النسر الأحمر» (نشرت أولاً مسلسلة في روز اليوسف خريف عام 1974) يلح إلحاحاً غريباً على مشروع للسلام إزاء الدفاع عن الوطن أو تحريره. رغم أن مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي قريبة الصلة بالتطور السياسي والاجتماعي لبلاده، حتى لتجد دائماً في مسرحياته ما يوازي الشخصيات والأحداث، إلا أنها تتجاوزها في مفاهيم لا تخضع للمتغيرات، إن صح التعبير.

 

في «وطني عكا» على سبيل المثال يناضل العرب الفلسطينيون من أجل تحرير بلادهم، ولا تمنعهم من هذا النضال ظروف القهر التي تحيط بهم من كل جانب، وحين يتنازل «الفتى مهران» للسلطة العميلة لا يرحمه أحد من الشعب، وتنتهي المسرحية وإرادة الشعب تدعو للبناء والتحرير. وفي «ثأر الله»، كتب أكثر من 400 صفحة يغني للشهادة في سبيل القضية، وقد وصل به الغناء حداً لم يميز معه بين ما يفصل الخير عن الشر. هناك الشر، وهناك الخير، ولا شيء بدونهما، ونتيجة لهذا، بدت شخصياته «مسطحة» لا تحيي فكرة بقدر ما تحييها الفكرة ذاتها، وهذا كله بدافع الالتفات إلى القيم الفاضلة وحدها ضد ما يدنسها ويزيفها ويلغيها.

 

كان عبد الرحمن الشرقاوي ينظر إلى الواقع من خلال القيم الفاضلة، وفي مسرحيته الأخيرة صار ينظر إلى القيم الفاضلة من خلال الواقع، كيف؟

«النسر الأحمر» ثنائية مسرحية، مثلها مثل «ثأر الله»، تتألف من مسرحيتين هما: «النسر والغربان» و«النسر وقلب الأسد».

«النسر» هو صلاح الدين الأيوبي، القائد العربي البارز وصاحب الانتصارات المشهورة على الصليبيين، وعبد الرحمن الشرقاوي اختار له اسم «النسر» في مسرحيته، لأن النسر «أمير الجو وملك الطير.. يصعد القمم الشماء، لا يعرف نسر كيف يسف، لا يهوي لحضيض الأرض، ولا يغتال فريسته غدراً، ويواجهها بشرف، إن النسر شباب خالد». (ص 34).

 

تعريف النسر وسبب تسمية صلاح الدين به مفتاح المسرحية، إن أخلاق النسر الفاضلة هي معيار التعامل مع الأصدقاء ومع الأعداء أيضاً، وهي معيار النمو الدرامي كذلك. لعل «النسر الأحمر» هي مسرحية الشرقاوي الوحيدة التي تكاد تكون نتاجاً للحظة الخلق الرائعة إذ تخلو من التفاصيل في الأحداث ومن الشخصيات الهامشية لحساب النمو المسرحي، هذا النمو الذي يلاحق أخلاق «النسر» أو «صلاح الدين» وحدها حتى أننا لا نعرف له علاقات خاصة (زوجة- أم- أقارب..الخ). إن النسر هنا أخلاق تسمو على الصراعات الكبيرة والصغيرة، وهذا السمو ينتصر في النهاية على المعتدين والغزاة.

 

هناك أعداء في الداخل (محاولة انقلابية يقوم بها نائب السلطان) وأعداء أشقاء (تحالف أمير المغرب مع الغزاة وخصوصاً ريتشارد قلب الأسد) وأعداء الوطن في الخارج (الغزو الصليبي)، ولكن النصر يكون في النهاية لأخلاق الفارس العربي، أخلاق النسر. بعد تصفية أعداء الداخل والأعداء الأشقاء ينتصر النسر على الغزاة، وبالفعل يتعاهد وريتشارد على «ألا يغزوا هم منذ اليوم أية أرض عربية»، فالفضائل قوة العرب، «هي قلعتنا، هي أسوار مدينتنا» (ص 125). وهكذا يقوم السلام. لنقرأ:

«صلاح: (يعانق ريتشارد) عد بجنودك يا ريتشارد.. عد لبلادك فاملأها يا قلب الأسد بأمن القلب ودفء البيت. عد بالفرحة للزوجات عد بالبسمة للأطفال وللأبناء.. فلنتعاون عبر البحر لنصنع فجر زمان الخير.. زمن يشرق فيه العدل ويحكمه سلطان العقل.. ويظلل فيه هذا العصر السلم الدائم.. ليصير به الإنسان الحر أخا الإنسان» (ص 128).

ولكن إلى أيّ حدّ يُرى الواقع من خلال القيم الفاضلة؟ إن إجابات الواقع مختلفة بالتأكيد عن رؤى الفن المفرقة في المثالية.

[مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق)، ع227-228، 1990]

 

6

المسرح سبيلاً لوعي الذات:

إبداع الفريد فرج نموذجاً

ينتمي الفريد فرج إلى كوكبة من المسرحيين العرب في مصر ممن انعطفوا بالكتابة المسرحية انعطافة هامة صارت إلى تحول واضح في الإبداع المسرحي مختلف عن المسرح الذهني الذي مثّله منذ عشرينيات القرن العشرين توفيق الحكيم (1902-1987) وأقرانه أمثال محمود تيمور (1894-1968) وعزيز أباظة (1898-1973) وعلي أحمد باكثير (1910-1969)، ومختلف أيضاً عن المسرح التجاري أو المتغرب عند نجيب الريحاني (1891-1949) ويوسف وهبي. وقد شكلت هذه الكوكبة حساسية فكرية وفنية مغايرة نهضت بالمسرح العربي نهضة شاملة في فهم المسرح وفي ممارسته، ومن أعلامها البارزين، على تباين اتجاهاتهم وطرائقهم، الفريد فرج ونعمان عاشور ويوسف إدريس (1927-199) وصلاح عبدالصبور (1931-1981) وعبدالرحمن الشرقاوي (1920-1987) وسعدالدين وهبة ومحمود دياب وميخائيل رومان.

 

1ـ التفكير الأدبي والمسرحي:

برز الفريد فرج أديباً ومسرحياً واعياً بشؤون إبداعه نظرياً وتطبيقياً، ولعله من الكتاب القليلين الذين يصدرون عن رؤية إبداعهم وفهمه في مصادره وطبيعته ووظائفه، فرافق الإبداع اشتغال يقظ على ترشيد الممارسة الأدبية والمسرحية في زمنها وفي تطلعاتها الفكرية والفنية، بل إن فرج طمح إلى ترسيخ المسرح جنساً أدبياً حديثاً ليصير مثل الشعر والرواية ديوان العصر، وقد حرص على أن يؤصل هذا الجنس الأدبي في الثقافة العربية بوعي التقاليد الحكائية والمسرحية في فنون العرض والفرجة والأداء الصوتي والحركي مما ميز الظاهرة المسرحية العربية طقساً أو شعيرة ما لبثت أن انغمرت بالأعراف والتقاليد الاجتماعية، محتفظة غالباً بمنشئها الديني ونزوعها الاتصالي شفاهاً أو كتابة. ونتلمس في هذا البحث عناصر التفكير الأدبي والمسرحي عند فرج للتعرف إلى طوابع التأصيل في تجربته العريضة والعميقة والثرية.

بدأ فرج مسرحياً معنياً بتجسيد نصوصه على خشبة المسرح، وقضى قرابة عقدين من الزمن مخلصاً لإبداعه المسرحي، تأليفاً وبحثاً وإدارة ومخاطبة للراشدين والناشئة في آن واحد، ثم لتأليفه في أجناس أدبية أخرى راسخة في الحياة الثقافية العربية مثل الرواية والقصة القصيرة والمقالة، على أن فعالية الأديب أو الكاتب أو الفنان لا تقتصر على خطاب جنس أدبي بعينه، وعلى أنّ الأجناس الأدبية متعددة أساليب البلاغة والإبلاغ.

 

أما أبرز شواغل التأصيل عند فرج فهي:

1ـ1ـ فهم الأصالة من خلال التقليد القومي:

أدرك فرج مبكراً وهم التليد الغربي والانهماك فيه، على أن أهمية الأدب والفن تنبع من طوابعه القومية، ولاسيما جماع الخصائص المعبرة عن هويته، فرأى أننا نختلف عن أوربا:

«لذلك كله، فإن التطلع إلى أن يكون لنا مسرح يزدهر على النمط الأوربي هو من أوهام الواهمين» (م12 ص38).

وثمة من يناهض الدعوة إلى الهوية في الأدب والفنّ من منطلق أن المسرح ظاهرة أوربية ونتاج عمليات التحديث، وعلى الرغم من مجاوزته لمثل هذا النقاش، إذ ربما كان صحيحاً بتقديره، إلا أنه يعمل النظر والمحاججة في استمرار التقليد العربي للأدب والفن وفي تطوره الكبير مع النهضة القومية:

«فقد كان المسرح العربي يتكون في منتصف القرن التاسع عشر في جو من الفنون الشعبية الجماهيرية في المقهى وفي السوق.. فنون الأراجوز والمحبظين والشاعر والحكواتي وحفلات الطرب والرقص وطقوس الاحتفالات ومغاني الأفراح والأعياد» (م12 ص43).

لقد تكون المسرح العربي عند فرج من تقاليده في مناخ التأثير الأوربي، واستنكر المغالاة في قول القائلين إن المسرح العربي «مبادرة من مبادرات التحديث الاجتماعي على النسق الغربي» (م12 ص33)، مثلما رفض مقايسة المسرح العربي على ما يجري فوق منصات المسارح الأوربية: «لهذا ينبغي دحض هذا المعيار والكشف عن عيوبه، مهما كان ذلك محفوفاً بالمزالق، أو خارجاً عن المألوف» (م12 ص35).

 

وأورد فرج اختلافات بينة بين المسرح الأوربي المستقر والمسرح العربي الناهض، وأولها نزوع الأول إلى العالمية ومخاطبة الإنسانية الشاملة ومجاوزة الفوارق المحلية، بينما ينزع الثاني إلى تكريس القومية وتوكيد عناصر الشخصية الوطنية بمعناها الضيق الذي يصل في أقصى تطرفه إلى الطائفية المحدودة، لأنه يتحرك بدواعي الهوية:

«وإن تأكيد الهوية الوطنية في حياتنا الفكرية والاجتماعية، حياتنا الفردية والجمعية، قوة نافذة لا تدع لجماهيرنا مجالاً كما في أوربا لأولوية الشعور بالعالمية أو أولوية الإحساس بالشمولية الإنسانية» (م12 ص37).

 

وأوضح فرج أن أولى المحاولات المسرحية في القرن التاسع عشر كان تأطيرها العربي على أيدي الرواد أمثال القباني والنقاش، وهو ما كان في صلب ازدهار المسرح في ستينيات القرن العشرين باكتشاف الصلة بين المسرح العربي والفنون الشعبية العربية تذكر جهود التأصيل النظرية مثل كتاب توفيق الحكيم «قالبنا السمرحي» ودراسة يوسف إدريس في مقدمة مسرحية «الفرافير» عن مسرح السامر الريفي والمسرح الشعبي عموماً، وكتب علي الراعي المتعددة، ولاسيما كتابة «الكوميديا المرتجلة» .ورهن فرج تطور المسرح العربي بجمهوره ضمن التنمية الثقافية الأعم وجماهيرية الثقافة التي تستند، فيما تستند إليه، إلى الخصوصيات الثقافية وتأصيلها:

«المسرح العربي يجب أن يقوم بالرحلة إلى جماهيره، ليكتسب أسلوبه الأمثل وشرعيته القومية، ولينطلق في مسار تطوره الطبيعي، ويصبح الشكل والمضمون واللغة موضوعاً اختياراً جماهيرياً واستفتاءً شعبياً واسعاً وانتخاباً طبيعياً حقيقياً» (م12 ص46).

 

1ـ1ـ1ـ الأدب قومي:

عزز فرج فهمه للظاهرة الأدبية والفنية بأنها قومية واجتماعية في الوقت نفسه، فقد دلت الدراسة النظرية والجمالية على أن «اكتشاف الشكل الفولكلوري البدائي للمسرح هو الشكل الضروري للمسرح الطليعي في بلادنا» (م12 ص21).

 

ثم ربط فرج جماليات الأدب والفن بمثل هذاالاندغام بين بعدي المسرح الاجتماعي والقومي، ودعا إلى تأصيل فن المسرح اجتماعياً، «أي إلى مداومة البحث من أجل تحقيق هذه العلاقة بين المسرح والجمهور ـ أوسع ما تكون، وأوثق ما تكون ـ فهي الأساس لكل نهضة مسرحية حقيقية، وهي حجر الزاوية في جماليات فن المسرح» (م12 ص31).

 

وجعل فرج البعد القومي للظاهرة الأدبية والفنية محك النظر في التجربة الغربية، وهو منطلق كتابة «شرق وغرب: خواطر من هنا وهناك» الذي يرهن فيه على أن وعي الآخر مرتهن بوعي الذات حين أعاد إلى الذاكرة حقيقة أن العلوم العربية هي التي أضاءت ظلمات أوربا، مما يستدعي دوام التفاعل الثقافي: «وأفكارنا التي أنارت أفكارهم، فلا محل للتحوط أو النكوص عن استردادها وأن ننعم بثمارها وبتطوراتها. إن ذلك ليس تغريباً أو اغتراباً، فقد نبعت العلوم من أصالتنا، وأصالتنا قديرة على استيعابها واستقبالها بقلب مفتوح» (م12 ص220).

 

إن وعي الآخر مرتهن بوعي الذات، ولعل كتابه «دائرة الضوء» تعبير عن محاولات هذا الوعي من خلال شخصيات ثقافية مؤثرة أسهمت، العربية منها، في تأصيل الأدب والفن في الحياة العربية مثل الحديث عن أول وزير للثقافة (فتحي رضوان) وأول أوبرا عربية (جهود كامل الرمالي) والموقف من الفولكلور (يحيى حقي) ومسيرة الواقعية بوصفها مسيرة الصدق (نعمان عاشور) والتماس قيمة الفنان من جمهوره (يوسف وهبي) وأهمية ترسيخ دور الخواص في التنمية الثقافية (الموقف الرائد لمحمد محمود خليل وحرمه) والتوكيد على أن تقدير الفن نابع بالدرجة الأولى من بعده القومي والمحلي (نوبل نجيب محفوظ)..الخ. وثمة موقف أو حالة شديدة الدلالة في التعبير القومي للفن فيما انتاب صلاح جاهين من اكتئاب بتأثير الهزيمة العربية في عام 1967 حين قال: «كانت هزيمة 67 قد ألقت بي في هاوية من الحزن لا قرار لها»، ولقد أمعن مرض الاكتئاب في تعطيل إبداع هذا الفنان المتألق:

«إنني أشعر بالحزن والأسف مضاعفاً، لأننا نحن أصدقاءه لم نستطع أن نواسيه، ونخفف عنه بقدر ما أسعدنا وواسانا» (م10 ص167).

 

ويؤيد نظرة فرج لقومية الأدب والفن حفاوته البالغة بتجربة شيخ البنائين حسن فتحي الذي خصص له أول فصل من كتابه «دائرة الضوء»، لأنه انطلق في العمارة، وهي مجموعة طوابع ثقافية وفنية، من التزام الخصائص القومية والمحلية فيما سماه «المعمار التقليدي»، ورآه معبراً عن اشتغال عام بالهوية القومية في الأدب والفن:

«وهكذا مثلت العمارة بصورة فصيحة حوار الفكر المصري في فترة النهضة الوطنية واختلاف تياراته حول الأصول والانتماء. وفي دراما هذا الحوار كانت إضافة المهندس حسن فتحي رائدة إذ أنه توجه إلى الفولكلور، واعتبره خلاصة الطابع العربي للتاريخ المصري بكل مراحله. وبذلك التحق حسن فتحي فكرياً، وكان رائداً للمدرسة التي ضمت سيد درويش في الموسيقى، وكمال سليم في السينما، وبيرم التونسي في الشعر، ويحيى حقي في القصة، ورشدي صالح في الدراسات الأدبية، وعلي الراعي في الدراسات الفنية» (م10 ص26).

 

1ـ1ـ2ـ مواجهة الأجنبي:

ندد فرج بالأجنبي، على أنه مناقض للوجود، فخص مسرحيات كثيرة لفعل مقاومته وتحرير الذات القومية، كما في «سقوط فرعون» و«صوت مصر» و«سليمان الحلبي» و«النار والزيتون» و«عودة الأرض» و«وألحان على أوتار عربية»، ولم يقف تنديده بالأجنبي عند الاستعمار أو احتلال الأرض أو العدوان السملح، بل نبه إلى مخاطر الغزو الثقافي مبكراً وما يشيعه من مشاعر الاستلاب والاغتراب، ولم يصدر في تنديده عن تعصب قومي، فالعربي، كما تؤشر ملاحمه الشعبية، يميز بين الأجنبي والقومية الأخرى:

«والقاريء يلحظ أن القصص تنتظمها مسحة سخرية ظاهرة بالعجم والترك والروم، بينما لا تتجه القصص إلى التنديد بالقوميات الأخرى كالهنود أو الصينيين، فالعجم والترك والروم كانوا هم التحدي التاريخي في ذلك الوقت للقومية العربي» (م12 ص57).

 

وأعمل فرج مبضع النقد في التغريب الذي أثر طويلاً على تطور المسرح العربي في مصر: «وبدلاً من أن يكون المسرح مرآة تعكس حياة الناس، أصبح مرآة تعكس نزوع قياداته إلى التغريب والانبهار بالنموذج الفني الأوربي» (م12 ص79).

 

وقد فهم فرج الأصالة على أنها نبذ للتبعية، فحكايتنا مع العالم هي حكايتنا مع النفس ومع الماضي الحي بصراع الأصالة مع معوقاتها الاستعمارية الخارجية والداخلية:

«إن الغاية والمطلب هما اكتشاف الذات، وتحرير القدرة الذاتية القومية والاجتماعية مع كافة الظروف المقيدة والمعوقة ـ تحرير الروح.. من الواقع الذي نعيش فيه ضعفاء متخلفين ـ من رواسب الانقياد لثقافة قوية جعلها الاستعمار في مركز عالمي قوي ومؤثر بالضرورة، ومن رواسب ماضٍ ضعيف ومظلم مع ذلك» (م8 ص302-303).

 

وآلت مواجهة الأجنبي وكشف مخاطر الغزو الثقافي من خلال الاستلاب والتغريب والتبعية وسواها إلى ضرورة التعريب والتفكير باللغة العربية:

«فالتعريب ليس مجرد عملية تهدف إلى تسهيل التعليم. إنه حجر الزاوية في انطلاق هذه الأمة إلى آفاق العصر. اللغة أداة تفكير. يستحيل التفكير بغير اللغة» (م8 ص326).

 

1ـ2ـ استلهام التراث:

عدّ فرج استلهام التراث حجر الأساس في تحقيق الهوية القومية في الأدب والفن، ووجد ذلك في سحر القصّ الشهرزادي أو سّرد الليالي معبراً إلى وعي الخصوصيات الثقافية في الممارسة الأدبية والفنية، فاستلهم الليالي في عدة مسرحيات، هي «حلاق بغداد» و«بقبق الكسلان» و«علي جناح التبريزي وتابعه قفه» و«رسائل قاضي إشبيلية» و«الطيب والشرير والجميلة»، ثم مدّ مجال استلهام الليالي إلى الرواية «أيام وليالي السندباد» والقصة «ليالي عربية»، على أنه استلهم التراث العربي في المقامة والسرد الأدبي الجاحظي والملاحم والسير الشعبية، ونفى في هذا المجال التأثر بالتقليد الغربي عندما اتجه المسرح العربي إلى الملحمية بتأثير التراث، ولاسيما الليالي، «فهو أقرب إلى سرد الحكايات منه إلى تركيز الموقف، وتأثرنا في هذا المجال كان بالقصة العربية وليس ببريخت. وإذا تشابه توجهنا مع نظرية بريخت، فليس معناه أننا استلهمنا أسلوبنا من بريخت، ولكن توجهنا جاء من باب ألف ليلة» (م12 ص67).

 

وحدد فرج بدقة خصائص استلهام التراث الملتصق بالبعد القومي للأدب والفن، «فالرجوع إلى التراث العربي العام كان هو التوجه القومي العربي. حيث أن الفنان لم يقنع بالتراث القطري، وإنما امتد نظره إلى التراث القومي الذي يجمع الأمة العربية، لا التراث الذي يجزؤها. ومن ثم كان استلهام التراث مرتبطاً باللغة العربية الفصحى» (م12 ص66).

 

لا يتوقف استلهام التراث لدى فرج عند الشكل وحده، بل يجعل المحتوى الفكري بما هو منظومة قيمية تتصدرها قيم الجوهر العربي الأساس، لأن الطرح الفكري الواقعي والعصري شديد الالتصاق بإطاره الجمالي، «فحين نتحدث عن فكرة الحرية والعدالة الاجتماعية، أو نطرح رأياً عصرياً ومستقبلياً في إطار من ألف ليلة وليلة إنما نوحي للجمهور بأصالة فكرة الحرية والعدالة في تاريخنا وأصولنا الثقافية، ونضفي على الفكرة مصداقية تاريخية وتراثية» (م12 ص69).

 

ورأى فرج في استلهام التراث سبيلاً تربوياً للتلقي الثقافي مما يعين على شؤون التأصيل، وقد ثمّر هذا السبيل في مسرحياته، وفي روايته وقصصه التي تستلهم الليالي، من مفهوم الكتاب القصصي الذي ينوع الأشكال السردية إلى مزايا التشكيل وجماليات اللغة وتعبيرها عن الجوهر العربي والمنظومة القيمية وفي مقدمتها مواجهة الأجنبي:

«وألف ليلة حافلة بهذا المعنى الكبير، وهو معنى المواجهة بين العربي وغير العربي سواء في السندباد أو في غيرها من القصص تجد دائماً ذلك اللقاء مع الروم والهند والزنج وأهل الصين العجم» (م12 ص73).

 

ويفيد تثمير هذا البعد القومي رشاد الموقف من التراث، لا إعادته أو الانتقاء منه، بل استعادته بروح نقدية مؤمنة بالمستقبل:

«إن استخدام التراث كإطار مسرحي أو انتهاج الأسلوب الشعبي القديم في ضرب الأمثولة ينطوي على قصد واضح لإعادة صياغة الحاضر عن طريق إعادة صياغة التراث. وهو بذلك موقف نقدي وجدلي من التراث، كما أنه موقف نقدي وجدلي من الواقع. هو موقف للواقع ناقد للماضي، وموقف للماضي ناقد للحاضر.. هو موقف نقدي وحر من الواقع ومن الماضي معاً. ولعل هذه هي حكاية الأدب التقدمي مع الماضي ـ المسرح والقصة والشعر... إنه، كان في فنّ الأقنعة الزنجي استخدام لقناع الماضي بفرض التطهر من سطوة الماضي ومن سلطة الماضي». (م8 ص221).

 

واللافت للنظر أن فرج واع لمعاني الاستلهام ووظائفه من مستوى الحكاية في المسرحية وأصلها الروائي أو الشفاهي إلى مستوى الخطاب، وقد قال في نهاية سبعينيات القرن العشرين عن زياراته الأربع آنذاك لليالي:

«حلاق بغداد» مسرحية في حكايتين الأولى يوسف وياسمينة من ألف ليلة. والثانية زينة النساء من المحاسن والأضداد للجاحظ؟

شخصية أبو الفضول التي تربط بين المسرحيتين هي إحدى شخصيات ألف ليلة وليلة، وهي شخصية مزين بغداد (في الجزء الأول من ألف ليلة).

 

المسرحية الأخرى من فصل واحد (بقبق الكسلان) وهي مسرحية للأطفال وهي أيضاً مستوحاة من ألف ليلة وليلة.

«على جناح التبريزي وتابعه قفه» مسرحية مستوحاة من ثلاث حكايات، وفيها طابع تركيبيي من الحكايات الثلاث وليست استحياء مباشراً من قصة واحدة. الحكاية الأولى هي المائدة الوهمية وهي قصة مزاح بين صاحب قصر وطفيلي فقير. وصاحبي الجراب التي أوردتها بين الفصلين في إطار مستقل لتؤكد المغزى العام للمسرحية على منوال الكوميديا (ديلارتي) التي تتصف بفاصل بين الفصلين، وهذا الفصل هو لحظة تنوير بالنسبة للمسرحية.

 

الحكاية الثالثة هي معروف الإسكافي، وهي قصة رجل فقير في بلد غريب ادعى الغنى لكي يحظى بكرم أهل المدينة. وهذا جزء من قصة معروف الإسكافي. وقد عملت على تركيب هذه القصص الثلاث في قصة واحدة ذات مغزى جديد تتعلق، أو تصور حدود الوهم وحدود الحقيقة أو الواقع، وهي قصة نقدية للعقل البشري.

 

المسرحية الرابعة التي استلهمتها من ألف ليلة هي مسرحية «رسائل قاضي إشبيلية»، وتتضمن ثلاث حكايات مستوحاة من ألف ليلة وليلة وليس لها علاقة مباشرة بألف ليلة، وهي قصص مبتدعة ومتأثرة جمالياً وشكلياً بألف ليلة. وهذا أسلوب مختلف وحالة متقدمة متدرجة في مسيرة الاستلهام من التراث (حيث أن التأثر والاستيحاء قد أخذ شكلاً تدريجياً من التأثر المباشر ونقل القصة كما هي مع إضافة الرؤيا أو فكرة فلسفية، إلى استغلال قصص عديدة ومزجها في تركيبة واحدة مكونة مسرحية واحدة، إلى التأثر بالأسلوب فقط من الناحية الشكلية والجمالية في الليالي.» (م12 ص62-64).

 

ثم رهن فرج خلاص المسرح من أزمته ومواصلته لازدهاره ولفاعليته في الثقافة الجماهيرية باستمرار وعيه لهويته، ولاسيما استلهامه للتراث، بوصفه ينبوع التقاليد وحصن الأصالة في اللغة والسرد المفتوح على التجربة القومية جمالياً ومعرفياً:

«التغيير في الفكر السائد أيضاً كان بذاته سبباً في ظهور التناقضات.. في مجال المسرح مثلاً.. «الصفقة» مسرحية الحكيم كانت بشرى بظهور اللغة الثالثة التي ستحافظ على مقومات اللغة القومية الفصحى مع الالتزام بلغة الناس الواقعية، حلاً لمشكلة الازدواج اللغوي في المسرح والحياة. و«فرافير» يوسف إدريس كانت علامة كبرى في طريق الأصالة المسرحية القومية والشعبية لإبداع مسرح عصري قومي يستند إلى تقاليد السامر الريفي والمسرح الشعبي» (م8 ص345).

 

1ـ3ـ التحديث:

انطلق فرج في تحديثه من التقاليد القومية لأن «اكتشاف الذات هو اكتشاف علاقة الذات بالآخرين، اكتشاف الذات القومية هو تحديد موقفها من العالم وموقعها في الزمن» (م8 ص283)، وهذا ما دعاه لوضع كتب برمتها عن فهم الحداثة والتحديث داخل التجربة الذاتية، فكان كتابه الأول «دليل المتفرج الذكي إلى المسرح» وقد استهدف فيه القاريء من أجل يحب المسرح، وليضيف إلى خبرة المتفرج وعياً بفن أصيل وحديث هو المسرح، فحوى شروحاً تعريفية موجزة لأهم عناصر العمل المسرحي: فنّ المسرح، الديكور، الخلفية التشكيلية، الممثل، أدواته، تيارات فن التمثيل، فن اللعب، فن الضحك، أنواع الملهاة، المحلية والإنسانية، الملهاة الواقعية الحديثة المأساة، المسرحية، عناصر التأليف المسرحي، الحوار، لغة الحوار، الفصحى في المسرح، النجوى، الحائط الرابع، المسرح من زاوية نظر حديثة، العقل المحض، شكل المنصة، المخرج، العنصر الفكري للمسرحية. ومن الملحوظ أن كتابة فرج عن هذه العناصر الحديثة في تكوينها الناجز اقترنت بأمثلة واقعية من التجربة المسرحية العربية (ص23- ص41 - ص54 - ص57 - ص75 - ص101 - ص105- ص126 - ص127 - ص176 - ص177 - ص193 - ص200 - ص225 - ص227)، مثلما خصص فصولاً برمتها عن التجربة المسرحية العربية (ص76 - ص93 - ص109 - ص119 - ص151)، وختم رؤيته بحوار مع الحكيم حول مسرحه وفكره وفنه.

 

لقد بات جلياً أن فرج ينظر إلى الحداثة والتحديث من واقع التجربة المسرحية العربية، كما في افتتاحيته عن الخلفية التشكيلية:

«إذا كان الحديث قد ساقنا لمقارنة عابرة بين مزاج وفن كل من نبيل الألفى وحمدي غيث، فلا بأس من أن نسترسل في هذه المقارنة بعض لاسترسال بقصد التفريق بين اتجاهات طليعة مخرجينا المسرحيين في صدد تكوين الخلفية التشكيلية المسرحية.

 

الديكور يصممه رسام بالطبع. ولكن عمل الرسام محدد بعدة اعتبارات:

أولها: أسلوب المسرحية، سواء أكانت رمزية أو سيريالية أو واقعية أو طبيعية أو خيالية «فانتازيا». إلى آخر هذه الألوان..» (م8 ص22).

ولطالما استغرق فرج في التطبيق العربي على فهمه للمسرح، كما هو الحال مع تأملاته حول أصل الملهاة وأصولها:

«إن القدرات الخلاقة لممثلينا في مجال الكوميديا قد دفعت مسرحنا خطوات إلى الأمام. ونجومنا الساطعة: عبدالمنعم ابراهيم في «حلاق بغداد» وشفيق نور الدين في «القضية» و«السبنسة» وحسين رياض في «تاجر البندقية» وسعيد أبوبكر في «مسمار جحا» وفؤاد شفيق في «مضحك الخليفة» وتوفيق الدقن وعبدالسلام محمد في «الفرافير» وفؤاد المهندس في «السكرتير الفني» وصلاح منصور ومحمد توفيق في «الزلزال».. وغيرهم من الأبطال الموموقين دعموا فن الكوميديا في بلادنا وأتاحوا له بجدارة إمكانيات وآفاقاً لا حدود لها.

 

إن فن الكوميديا قد سبق الفنون المسرحية الأخرى في بلادنا، من حيث الرواج، فنحن شعب يحب النكتة، ولا جديد في ذلك. ولكن الجديد هو ما يقرره الفيلسوف الفرنسي برجسون من أن الشعب المولع بالنكتة شعب مولع بالمسرح..

إن الصلة بين الاثنين ظاهرة وهي صلة ـ كما هي جديرة بالتأمل ـ فهي مثيرة للأمل جداً..

أما الأمل فهو في قلوبنا. أما التأمل فهو يشحذنا لمزيد من البحث في أصول الكوميديا في بلادنا..» (م8 ص75).

 

ثم تتبع في فصل آخر تحديث الكتابة المسرحية الواقعية الملهاوية في ممارسة جيل المؤلفين المسرحيين الذي ينتمي إليه فرج نفسه:

«بعد أن أشرنا إلى المنحى الخاص الذي تتميز به مسرحية الفرافير، لابد أن نصل إلى وصف تيار فن التأليف المسرحي المصري الحديث، ذلك التيار الذي أثر طابعه على ذوق الجمهور وعلى الحركة الثقافية بوجه عام في السنين الأخيرة. ومع أن كلا من مؤلفينا يتميز بطابعه الخاص، فإننا نستطيع أن لمس في مسرح نعمان عاشور وسعدالدين وهبة ولطفي الخولي بشكل خاص تلك الصفات الخاصة التي تميز تيار الكوميديا الواقعية الحديثة..

إننا نريد هنا فقط أن نطل على هذا التيار الجديد الممتع، أن نتقصى خطوطه العامة، أن نكشف مزاياه الشعبية والفنية، ليكون هذا الفصل دليلاً للمتفرج إلى العالم المسحور الذي يصفه معظم الكتّاب الجدد في المسرح.. ومعيناً على الاستمتاع والفهم لفنهما الذي لاقى ويلاقي رواجاً عظيماً من الجمهور..» (م8 ص101).

 

وعندما تكلم عن المسرح من زاوية نظر حديثة، فإنه احتكم إلى تجربة المسرح العربي وتجربته بالذات:

«رأينا اتجاهاً للمدارس الحديثة يعمد إلى اختزال الحوائط والأبواب والإكسسوار والاقتصاد في زخرفة تفاصيل الأشياء والملابس فوق المنصة، والاستغناء عن تفاصيل التفاصيل بقصد تخفيف ثقل التركيبات في بناء الديكور، وضمان أن يكون الممثل البشر ركيزة التكوين التشكيلي كله فوق المنصة.

ورأينا أن هذا الاتجاه في الوقت الذي يضمن التوازن التشكيلي بين الممثل وبين الأشياء الجامدة فوق المنصة، إنما يصدر عن فهم عميق دقيق لحقيقة جلية: هي أنه لا يمكن خداع المتفرج عن مكانه (في مسرح الأزبكية مثلاً) وزمانه (في الساعة العاشرة مساء) وإيهامه إيهاماً كاملاً بأنه في عاصمة الدانمرك حيث سقط هاملت مطعوناً بسيف مسموم.

ورأينا أن الإيهام والتوهم في المسرح ليس إلا عقد اتفاق غريب بين الفنان والمتفرج تكلفه الإشارة المقتصدة من الديكورست إلى المكان والزمان المفترضين واستعداد طيب من المتفرج للتصديق بالإشارة المقتصدة والاندماج في الموضوع.» (م8 ص193).

لقد وضع فرج عدة مؤلفات عن متابعته الدؤوبة للمسرح الحديث والتفاعل الثقافي العربي مع اتجاهاته وتياراته المتعددة، مثل «أضواء على المسرح الغربي» و«شرق وغرب: خواطر من هنا وهناك».

 

1ـ4ـ اللغة:

شغل فرج باللغة في المسرح منذ بداءة تجربته فدعا إلى توافر شروط جمالية وتعبيرية للغة الحوار تنفع في تحقق الوظيفة الاتصالية والإبلاغية، ويستلزم لذلك أن تكون اللغة فصيحة أو مفصحة:

«ولغة المسرح لها غير هذه الشروط الأدبية العامة، شروط خاصة أخرى كلغة لفن من نوع خاص.

يذهب بعض الباحثين إلى أن الشعر أوفق للمسرح من النثر. وبغض النظر عن صحة هذه الدعوى، فإنها تصدر عن نفس المفهوم القائل أن المسرح يقتضي لغة فنية من نوع خاص ـ سواء في اللهجة العامية أم الفصحى.

إن المسرح يقتضي لغة ذات طابع مركز ومعبر تعبيراً مباشراً بلا تعقيد أو لف أو دوران.. بلا استطراد أو تطويل، لغة تنأى عن التراكيب المتداخلة المعقدة.. فالمتفرج لا يملك الفرصة ليلاحق المعاني في مثل هذا اللون من التعبير..» (م8 ص163-194).

 

2ـ التأليف المسرحي:

وضع الفريد فرج سبعاً وعشرين مسرحية متفاوتة الطول، ومتباينة الموضوعات والاهتمامات والأشكال والتقانات، هي:

            صوت مصر (فصل واحد)     1956

            سقوط فرعون      1957

            حلاق بغداد          1964

            سليمان الحلبي     1965

            الفخ (فصل واحد)  1965

            بقبق الكسلان (فصل واحد)  1966

            عسكر وحرامية    1966

            الزير سالم           1967

            علي جناح التبريزي وتابعه قفه         1969

            النار والزيتون      1970

            الزيارة (فصل واحد)          1970

            زواج على ورقة طلاق        1973

            الحب لعبة           1975

            أغنياء فقراء ظرفاء           1977

            رسائل قاضي إشبيلية         1975

            رحمة وأمير الغابة المسحورة (للأطفال)         1975

            الغريب (فصل واحد)           1993

            العين السحرية (فصل واحد) 1978

            دائرة التبن المصرية (فصل واحد)     1979

            ألحان على أوتار عربية      1988

            هردبيس الزمار (للأطفال)   1989

            الشخص (فصل واحد)         1989

            عودة الأرض       1989

            مي زيادة (تمثيلية تلفزيونية)            1986

            غرابيات عطوة أبو مطوة    1993

            اثنين في قفة        1993

            الطيب والشرير والجميلة     1994

ولعلنا نتلمس علامات هذا التفاوت وهذا التباين في الملاحظات التالية:

 

2ـ1ـ الاستجابة للواقع:

شغل الفريد فرج، مثل أبناء جيله من المسرحيين الآخرين، بالمتغيرات السياسية والاجتماعية، فصارت مسرحياتهم، في الغالب الأعم حتى مطالع سبعينيات القرن العشرين، وهي المرحلة الناصرية وامتدادداتها في مدّ وجزر على وجه التقريب، استجابة مباشرة أو غير مباشرة للأحداث والتبدلات التاريخية القومية والوطنية السياسية والاجتماعية العاصفة والغامرة حركة الواقع وشروط التاريخ، فكتب «صوت مصر» احتفاء بفعل المقاومة في بورسعيد (حازت ميدالية الفنّ في المعركة)، وضع مسرحيته التاريخية «سقوط فرعون» لمعالجة فكرة الحياد الإيجابي والسلام المسلح، وهي إحدى أطروحات النظام آنذاك تساوقاً مع مؤتمر باندونغ، وكتب «حلاق بغداد» في مناخ فانتازي يستلهم الموروث السردي وبعض المؤثرات التعبيرية والانطباعية والملهاوية لمعالجة سياسة الحكم، ووضع «سليمان الحلبي» في فترة انتشار قيم الشعبية وتصاعد المدّ الثوري العالمي والعربي إشاعة للفكر الثوري القومي في مصر عبدالناصر وانطلاقة رصاصة المقاومة الفلسطينية واشتداد عود الإرادة العربية على أن المسرحية بتعبير الفريد فرج نفسه «إجابة شافية على أول تحديات الاستعمار الأوربي للشرق في عصرنا الحديث» (م2 ص18)، كتب «عسكر وحرامية» عن تحالف قوى الشعب العاملة والنضال من داخل «الاتحاد الاشتراكي»، تنظيم السلطة الحاكمة، لمواجهة الفساد والإفساد، وكانت مسرحية «الزير سالم» دعوة لمجاوزة الخلافات القومية والجراح العربية النازفة في أكثر من بقعة والانخراط في ائتلاف قومي ينفع في مواجهة التحديات، ووضع مسرحية «علي جناح التبريزي وتابعه قفه» عن حتمية الحل الاشتراكي وانتصار الأفكار الاشتراكية وأفكار العدل الاجتماعي وإشاعة حلم التغيير، بالعدل المادي، وألف «النار والزيتون» إيماناً بانتصار المقاومة الفلسطينية وبالحل النضالي المقاوم سبيلاً لهذا الانتصار، ووضع مسرحية «زواج على ورقة طلاق» استتباعاً لمعالجة الحل الاشتراكي والتلاقي بين الطبقات المتصارعة.

وتميزت كتابة الفريد فرج بالاستجابة غير المباشرة، بينما كانت الاستجابة لدى مسرحيين آخرين مباشرة يظهر فيها صوت الأحداث والوقائع والأطروحات والشعارات مما يستعصي على التجلي الفكري والفني أحياناً، وقد تعاضدت صيغ التعبير عن الاستجابة المباشرة بعناصر الصوغ المسرحي، ولاسيما التحقق الفني لأفكاره ورؤاه بين التاريخي والراهن، بين المطلق والمتغير، بين الجوهري والعرضي...الخ.

 

2ـ2ـ الأفكار والموضوعات:

عني فرج في مسرحياته بأفكار تاريخية لطالما تناقضت مع أفكار وجودية، إذ عاين في مسرحيات كثيرة أفكاراً سياسية واجتماعية شديدة الارتباط بالتاريخ العربي في مصر وفلسطين وبقاع أخرى.

شغل على الدوام بأفكار العدل الاجتماعي والمقاومة والتحرير والاشتراكية على إطلاقها ثم ما لبث هذا المطلق إن انتابته أو تناوشته وطأة المتغير، وهذا واضح في مسرحياته «علي جناح التبريزي» و«سليمان الحلبي» و«الزير سالم»، ثم دخلت هذه الأفكار اشتراطات أو استحقاقات هذا المتغير مثل أن يكون السلام مسلحاً في «سقوط فرعون»، أو أن يمايز بين حلم العدالة ووهمها أو توهمها في «علي جناح التبريزي»، أو أن يتداخل الزمان والتاريخ في فهم العدالة المستحيلة في مسرحية «الزير سالم»، أو أن يتوارى الخلاص الفردي الممكن وراء الخلاص الجماعي المفترض في مسرحية «عسكر وحرامية»، أو أن يُغطى اللقاء الطبقي بشعاره في مسرحية «زواج على ورقة طلاق»، أو أن تربط الديمقراطية بتطبيقها وبظرفها تمييزاً بين الزمن المطلق والزمن المتصل أو الراهن في مسرحية «حلاق بغداد»، أو أن يربط الصراع بين الخير والشّر بالمواضعات الاجتماعية والوضع البشري في مسرحية «الطيب والشرير والجميلة».

وقد اختار فرج لأفكاره موضوعات متعددة قومية واجتماعية من منظورات سياسية وأخلاقية وإنسانية صريحة. وقد بدأ كتابته المسرحية بالموضوع القومي الذي عولج بأشكال متعددة وبرؤى ثرية عن الوجود العربي الكريم في مراحل حاسمة للتأزم الذاتي القومي ومعضلات مجاوزته وتحققه، كما في مسرحياته: «صوت مصر» و«سقوط فرعون» و«عسكر وحرامية» و«النار والزيتون» و«سليمان الحلبي» و«ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض».

وثمة مسرحيات ذات طابع احتفالي يستجيب للموضوع القومي مثل «صوت مصر» المكتوبة تحية لفعل المقاومة ضد العدوان الثلاثي على مصر، و«عودة الأرض» المكتوبة حفاوة بالوفاق الوطني حول النصر في حرب تشرين الأول عام 1973.

وغالباً ما اندغم الموضوع القومي بالاجتماعي، عندما تُرى القضية الاجتماعية في بعدها العام كما في رؤية التطبيق الاشتراكي للأفكار المطلقة كالعدل والديمقراطية في بناء المجتمع وإنتاجه.

 

2ـ3ـ استلهام التراث:

نظر فرج إلى استلهام التراث مجالاً رحيباً للأصالة ووعي الذات القومية، فاستعمل السرد الشهرزادي في عدة مسرحيات، إذ زاوج لأول مرة في مسرحية «حلاق بغداد» بين حكايات من «ألف ليلة وليلة» وإحدى قصص الجاحظ في كتابه «المحاسن والأضداد»، ثم استوحى مسرحية «علي جناح التبريزي» من حكايات ثلاث من الليالي، هي حكاية المائدة الوهمية وحكاية الجراب وحكاية معروف الإسكافي، وبنى مسرحيته القصيرة «بقبق الكسلان» من فضاء حكائية الليالي، وتأثر في مسرحيته «رسائل قاضي إشبيلية» بحكائية الليالي وحوافزها السردية الواقعية الممتزجة بالفنتازيا. وكانت آخر مسرحياته «الطيب والشرير والجميلة» مستوحاة من إحدى حكايات الليالي أيضاً.

ويلاحظ أن اشتغال فرج على التراث موصوف بالطوابع التالية:

ـ التصرف في البنية الحكائية على سبيل التأثر النفسي والذهني، فلا يعاد المتن الحكائي في الحكايات المستلهمة، بل يستعاد نسقها في الفضاء السردي وعلاقاته الجمالية والدلالية، وتبدو مسرحيتا «حلاق بغداد» و«علي جناح التبريزي» مثالاً لهذا التصرف الذي يوائم في الأولى بين حكايات من الليالي ومن السرد الأدبي الجاحظي.

ـ النزوع النقدي والتعليمي في استعادة التراث السردي، فتصبح المسرحية مداراً للنقد والتأمل النقدي لأفكار الأرض والعقاب والسوق في مسرحية «رسائل قاضي إشبيلية»، بينما تلح المسرحية على التعليم وتقدير العمل والعطاء، وهو ما توجزه نبرة الختام في مسرحية «بقبق الكسلان»، وكأنه صوت الجوقة:

«الجميع: (يتقدمون ناحية الجمهور) رأيتم بأنفسكم أيها السادة هذه الصورة التي صاغها المؤلف الشعبي العظيم في ألف ليلة وليلة منذ ألف سنة. ومغزاها أن أحلام اليقظة تحطم النفس كما حطمت الأباريق. وأن الكسلان يعوض فشله وقلة الحيلة، وأن الحياة والرخاء والسعادة أبناء العمل لا الأحلام. ونشكركم» (م1 ص216).

 

ـ الصوغ على نسق حكائية الليالي دون الالتزام بالبنية السردية تثميراً لقابليات حكايات الليالي الثرة، ولاسيما الدوران في شكل التحفيز الحكائي وخصائصه التخييلية مثل منطقها الخاص وتداخله المدهش بين الواقع والفنطزة، فلا تخفي الغرائبية أو العجائبية معقوليتها الخاصة، كما في مسرحية «الطيب والشرير والجميلة» التي تمتح من معين حكائية الليالي سيرورة تقليدية لمعاينة فكرة الصراع الرئيسة في المسرحية بين الخير والشّر، وقد كشف فرج عن أسلوبية مثل هذا الاستلهام في افتتاحية المغني في الشهد الأول من الفصل الأول الذي يحمل عنوان «دكان الحلاق» بقوله:

«المغني: كل جيل كتب حكايات ألف ليلة وليلة على هواه.. ألف ليلة هي هذه وتلك من الحكايات.. ألف ليلة هي صيغة تروى بها الحكايات.. كل جيل روى بهذه الصيغة حكايات جيله على مقتضى احتياجاته الأخلاقية والروحية، واستخلص منها الحكمة التي يريدها ويطلبها.. ألف ليلة سفينة أحلام ركبها الناس من كل الأجيال.. وكل من ركب فيها حملته إلى ما يريد من البلدان.. فقد ذهبت بالراكبين إلى كل زمان ومكان وعلى كل المقامات الموسيقية وبكل الألحان (موسيقى مصاحبة)، ولو كان الأجداد يكتبون النوتة الموسيقية، ويدونون الموسيقى بالنقط كما نفعل اليوم.. لكانوا قد كتبوا حكايات ألف ليلة وليلة على أوراق الموسيقى المسطرة بالخطوط الخمسة كل سطر، كما تكتب الأوبريتات والمسرحيات الغنائية، فحكايات ألف ليلة مزينة دائماً بالصور والأشعار والأغاني والرقصات التي غناها وخيّلها الراوي دائماً لمستمعيه، ليجذبهم للدخول من أبواب الخيال والتصور إلى العالم الجميل الساحر لألف ليلة وليلة.. وسنبدأ حكايتنا كما كانت تبدأ القصيدة العربية في الزمن الخالي بالإنشاد للحب والغزل.. فنقول: هذه هي الليلة السابعة والعشرون بعد التسعمائة.. فاضرب الوتر» (الطيب... ص22).

 

وثمة تجربة فريدة في استلهام التراث الشعبي في مسرحية «الزير سالم» تتبدى في إعمال المخيلة إنطلاقاً من الوقائع المتداولة عن الراوي الشعبي المجهول، فتُبنى المسرحية على هدي نسق تنضيد جديد للحوافز تضيئه عملية الاشتغال على تفسير خاص، لتلتحم بعد ذلك جمالية التكوين المسرحي بمضاء الدلالية أو ما نسميه وحدة الأغراض أو فاعلية القصد، لأن المعول دائماً هو «الفكر في المسرح» بتعبير فرج نفسه (م2 ص166)، فاستبعدت التفاصيل أو الوقائع غير الدالة أو الوظيفية، وأُمعن ملياً في تركيب شبكة العلاقات السردية نفوراً من الاستطراد أو الحشو، مما يسعف ضبط البنية وإحكام نسيجها بالأغراض المتعددة من الإضمار إلى التصريح، ولعل هذا الولع بتمتين المنظور السردي هو مسوغ اختيار البناء الدائري حين تبدأ المسرحية بمشهد هجرس وتردده في الاقتراب من كرسي العرش بعد مخاض الدم والانتقام والكراهية الطويل، فيوجز هجرس القصد في المشهد الأخير الذي كانت المسرحية مسوغ البنية برمتها انتظاماً في تعليل الحوافز وإشباعها بدلالات التجربة:

«هجرس: وهكذا تدور اللعبة فتشملني أنا أيضاً في إعصارها الدوار. أين الفكاك من الدم؟ هاأنذا أتقدم إلى العرش برئياً من كلّ ذنب. صافي النفس نظيف اليد، بدافع الشرف، ورغم تحذيرات الشرف، لأجلس فوق المستنقع مزمعاً أن أتجنب التلوث جهد طاقتي، وأنا غير متأكد أني أستطيع. وقاني الله ارتداد بصركم أن يدفعني. أن يزجني في أيام مقبلة.. اللهم اجعلني رحمة ولا تجعلني لعنة على قومي» (م2 ص282).

 

2ـ4ـ التاريخ:

عمد فرج إلى الاشتغال المسرحي على التاريخ في بعض مسرحياته على سبيل المسرحية التاريخية في مسرحيتيه «سقوط فرعون» و«سليمان الحلبي»، وعلى سبيل التخييل للوقائع التاريخية في تمثيلية «مي زيادة»، وعلى سبيل الاستخدام التسجيلي المطلق في المسرحيته «النار والزيتون»، والاستخدام التسجيلي المحدود في مسرحيتيه «ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض».

 

استند في المنحى الأول على التاريخ الفرعوني القديم استناداً رئيساً إلى كتاب سليم حسن «الأدب المصري القديم» قاصداً إلى معالجة أفكاره الفلسفية عن الصمود في وجه الغزاة والأعداء والمتآمرين خلال مرحلة أخناتون التي صارت إلى رحابة الأسطورة في رؤية التنازع بين الطبائع المتعارضة أو المتناقضة داخل الذات الواحدة.

يتركز الاشتغال التاريخي في المسرحية على فهم الحساسية السياسية واتبعات الرفق المروع بالمصائر المأساوية لشخوصه في ظل عنتهم الصارخ لمراودة الفعالية العامة بوصفها محط رهان الرؤية كقوله:

«وفرعون مصر يأبى أن يشنّ الحرب، والصلوات في معابدك، تترنم بكلمة السلام» (م6 ص320).

تستند فكرة المسرح عند فرج إلى تحويل الواقعة التاريخية إلى مدار طقس هو تخييله لمتتالية الحوافز في عملية الصراع نشداناً للقصد النهائي: بطولة سليمان الحلبي في مواجهة الأجنبي المحتل باعثاً في هذه البطولة المرامي البعيدة والعميقة لتكوينه العربي الأزهري (اندغام العروبة بنسق ثقافي تقليدي) فرداً من جماعة معبراً عن تطلعها مدركاً لخياراتها ضمن لحظة تاريخية حاسمة، محكماً وعيه حين يغوص في تشابك مكوناته الأصلية ومؤثراته الراهنة والضاغطة انطباقاً لمدى العقل على الخنجر، فليس فعل البطولة طارئاً يندرج في المصادفة، بل هو نتاج تصميم العارف «بمصيره طول الوقت، يخوضه بعيون مفتوحة وذهن حاضر ممتليء بالتوقعات» (م2 ص18)، ولعل الكناية الدالة عن أفق البطولة في إمكانية مقاومة العين لمخرز هي التعليل الأقرب للدوران في مدار الطقس، ونسيجه تلك الحوافز التاريخية التي يُعاد تنضيدها وكأن التاريخ مؤطر لاستعارة فعل الفداء عن سابق تصميم، أي أن المسرحية تغدو وعياً بالتاريخ في اشتغال عقلاني ووجداني داخل ذوات خاصة ما تلبث أن تصير إلى وعي الذات القومية العامة.

 

ويمضي فرج عميقاً في تخييل الوقائع التاريخية في تمثيليته التلفزيونية «مذكرات لم تكتبها مي زيادة»، فقد مازج بين ما كتبته وما توميء إليه هذه الكتابات استبطاناً لسيرة مناضلة مؤثرة في مجتمعها نداء متواصلاً لحربة الفكر وشجاعة الرأي، وقد وازى فرج بين الوقائع التاريخية وتعليقه عليها بصوت الكاتب الذي يستنطق هذه الوقائع الدلالات الأعمق للمعنى الوجودي الغامر لهذه الأديبة المبدعة الشجاعة، كمثل تثميره لحديثها عن رسالة الأديب في المشهد ما قبل الأخير الذي أفلح فرج في ألا يكون مقحماً على السياق، ونقتطف منه هذا المقطع:

«رسالة الأديب تعلمنا أن العالم العربي على تعدد أقطاره من المحيط إلى الخليج وحدة واحدة. رسالة الأديب تعلمنا أن نفاخر بلغتنا العربية الممتازة على سائر اللغات. رسالة الأديب تعلمنا ألا نخشى كارثة، ولا نتهيب مغامرة. فكل زمن خطير في التاريخ كان زمن اضطراب وكوارث. وأعظم فوائد الإنسانية تجمعت عن عصور العذاب والخطر. العاصفة لا تقتلع إلا ضعيف الأغراس أما الأشجار ذات الحيوية العصية فالأعاصير لا تزيدها إلا قوة ومناعة» (م11 ص296).

 

ولجأ فرج إلى الاستخدام التسجيلي المطلق في مسرحية «النار والزيتون»، على أن تسجيل وقائع حياة فرد لا تكفي لتسجيل حياة شعب، فعاد إلى الوثائق التاريخية لبعث نضال الشعب الفلسطيني من خلال التفاصيل الدالة في مجرى الصراع العربي ـ الصهيوني: «العنف الصهيوني، العذاب الفلسطيني، المقاومة الصلبة، التآمر البارد للقوى الإمبريالية العالمية» (م6 ص149).

 

وقد جمع فرج مادة المسرحية من مصادر متعددة ودعمها بالمشاهدة من خلال زيارة مواقع العمل الفدائي والاتصال عن قرب بأبطال المقاومة الفلسطينية وضحايا العدوان الصهيوني، على أن فرج حوّل هذه المادة إلى غناء شعبي للقضية الفلسطينية استخداماً أوفر وأوسع لمعطيات المسرح الشامل من أشعار وأغان وحركات إيقاعية وتشكيلية ومعروضات وسواها، ليقل بعد ذلك استعمال الوثائق التاريخية كالأقوال والإحصاءات والنصوص والمذكرات وسواها، وثمة ملاحظة هو العناية بوثائق شائعة ومتداولة والاشتغال الغنائي عليها بأقل من الاشتغال الدرامي بالاعتماد على وثائق من الشعر الفلسطيني أو الغناء الشعبي الفلسطيني، كمثل استقبال جثمان الشهيد حيث نجوى الأم المفجوعة وصوت الجميع يردد الأغنية الشعبية:

«الأم: لا تقولوا لي ولدي مات. ولدي حي.. اتبرع بنفسه. الله يرضى عليه. الله يجعله فدو عن فلسطين. الله يجعله فدو عن كل فدائي. أنا غاب عني ولد واحد، وربنا أعطاني كل فدائي ولد لي. كلكم أولادي. الله يرضى عليه. الله اختاره من بيننا لها الموتة الشريفة. وأخواته يتزفه. (تزغرد وهي تمسح دموعها)

(يلتف الفدائيون حولها والقائد يسلم لها وسام أم الشهيد والأغنية يرددها الجميع)

الجميع: هاتوا الشهيد هاتوه

هاتوا العريس هاتوه

وبعلم الثورة لفوه

يا فرحة أمه، وأبوه

أنا أمه يا فرحة أمه

يا عرسه في ليلة دمه

يا تراب الحرية ضمه

يا أخواته للثورة انضموا

زغروته ياللا حييوا

هاتوا الشهيد هاتوه

هاتوا العريس هاتوه

وبعلم الثورة لفوه

يا فرحة أمه وأبوه.» (م6 ص138-139)

وستخدم فرج بعض تقانات المسرح التسجيلي على نحو جزئي، مستحضراً وقائع من التاريخ القريب مثل موكب اللورد البني غداة اقتحام القدس ودمشق سنة 1917، وخريطة الوطن العربي وبجانبها سايكس وبيكو يؤشران إلى الاتفاقية السرية لتقاسم الأرض العربية واحتلالها، ومائدة اجتماعات الأمم المتحدة وقائمة قرارات الحقوق الفلسطينية، واستعراض القوة بشخص كيسنجر، واستعادة صورة زنوبيا التي تأبت على الاحتلال الروماني وقاومته، واستعراض أطراف المؤامرة الاستعمارية المستمرة بحق العرب، وإسناد نبوءة النصر إلى إحياء ذكرى صلاح الدين، لتكون هذه الوقائع التاريخية جميعها تعضيداً لموقف المقاومة الباسلة لزنوبيا ذلك المثل الحي للبطولة العربية:

«أصوات العامة: زنوبيا ملكة العرب.. الساحرة. ارجموها. اخفضي رأسك يا امرأة، انظري تحت قدميك يا أسيرة الرومان واذرفي الدموع في موكب النصر للأمبراطور أورليان..

الفتاة: بل انظر في الشمس وفي ضياء السماء. وأرى بالعين واللب والفؤاد ما ينتظر موكب الأمبراطور من خسران. فمن زرع الجريمة لا يحصد إلا الثأر، ومن بدأنا بالعدوان لا يجني غير الهوان في آخر المطاف، ومن رمى الناس بظلامه أعماه نور النهار.. انظر في عين الشمس أنا وأرى ملء عيوني ضياء عربياً آتيا من المشرق، أرى شمساً ساخنة تنبت الرجال في رحم الرمال.. وأرى روما! ويلاه.. تضج تحت أقواس نصرها تطلب من أعدائها رحمة هي بددتها! ويلاه أرى بدراً في الشمال وبدراً في اليمين يحملان سياط عذابهم فوق رؤوس ومعذبيهم. أرى دماً يجري على سلم الكابيتول يكتب على بلاطة بألسنة ساخنة: ويلك روما فقد زرعت الرياح ولا تحصدين غير العواصف.. زرعت النار لا تحصدين غير الطوفان.. أرى رجالاً فوق التلال وعلى ضفاف الأنهار.. أخوتي وأبنائيوآبائي حياة وعمراناً عربياً من قبلي ومن بعدي، فيا عرب.. هاأنذا أنتظر. أتعذب على أبواب بيوتكم، وفي بيوتكم وفي جلودكم أتعذب، وأنتظركم. امنحوني قدرتي وقدري وأيامي وشمساً في سمائي تبدد الظلمات امنحوني وحدة أمتي وحرية القرار وشرف الانتصار.. هاأنذا أصيح ليصلكم صوتي في كل البقاع: واعروبتاه!..» (ألحان على ص60).

 

وقد استعاد فرج طريقته الجزئية في استخدام المسرح التسجيلي وتقانات تطويع الوثيقة التاريخية لمعطيات المسرح الاستعراضي الشامل في مسرحية «عودة الأرض» مثلما فعل في «ألحان على أوتار عربية»، بل إنه أعاد بعض مشاهد بنصها مثل مشهد سايكس وبيكو واتفاقية تقسيم الوطن العربي بين المستعمرين، ومشهد صلاح الدين محاوراً العزيمة العربية للاستنهاض والمقاومة إشارة إلى دروس التاريخ العربي ذاته:

«صلاح الدين: ويزعزع ثقتكم في قدرتكم وفي عزائمكم، ويقعد بكم عن استفار رجال زمنكم.

الفتاة: لقد تصورناك كما أحببناك.

صلاح الدين: حب الضعيف وهيام العاجز وتعلقه بالتعاويذ والخرافات. وكان أولى بكم أن يكون حبكم للحياة والأحياء. وأن تكون نجدتكم لهم وأن يكون صمودكم بهم. ومن ثم تصنعون التاريخ.

الفتاة: علمني مولاي. كيف نصنع التاريخ؟

صلاح الدين: وهل تصنعون التاريخ إلا بالرجال المعاصرين؟ اطلبوا رجالكم واحتشدوا حولهم. اصنعوا أيامكم برجالكم. لن تصنعوها برجالي. التاريخ قد يكون فيه لكم حكمة أو تجربة. ولكن ليس فيه لكم فرسانكم وجندكم. فاطلبوا رجالكم واحتشدوا حولهم. اطلبوا رجال زمانكم واحتشدوا حولهم.» (م11 ص33).

وأضاف إلى الوثائق التاريخية المستخدمة مسرحة وصية الملك الصالح أيوب الداعية إلى النصر أو الموت، ثم مزج ذلك كله ببناء مسرحي يبعث فيه الأمل بالنصر الذي تحقق في حرب تشرين الأول 1973 والمقدرة على تحققه محدداً فيما سماه «عودة الذاكرة».

«المصور: عودة الأرض. عودة الروح. عودة الذاكرة. عودة العزة والكبرياء الوطني يرجع الفضل فيه إلى حكمة القيادة وشجاعة الجند وصلابة الشعب المصري العريق.. هم صنعوا النصر وأحنا صورنا الصورة» (م11 ص79).

 

2ـ5ـ التنوع والتجريب:

لا يكاد نص مسرحي عند فرج يشابه نصاً آخر في بنيته وشكله، فهناك المآسي مثل «سليمان الحبي» و«الزير سالم» و«سقوط فرعون»، وهناك الملاهي مثل «حلاق بغداد» و«على جناح التبريزي وتابعه قفه» و«عسكر وحرامية»  و«أغنياء.. فقراء.. ظرفاء» و«الحب لعبة»، وثمة الدراما الحديثة مثل «زواج على ورقة طلاق» و«الطيب والشرير والجميلة» أو المصاغة بروح التراث مثل «رسائل قاضي إشبيلية»، وثمة المسرح التسجيلي والسياسي القائم على تقانات المسرح الشامل والوثائق المختلفة، مثل «النار والزيتون» و«ألحان على أوتار عربية» و«عودة الأرض»، مما تتوسع فيه المسرحية لستارة الضوء والموسيقى والأغاني والحركة الإيقاعية التشكيلية والمعروضات المساعدة.

 

وهناك المسرحية الطويلة وعددها خمس عشرة مسرحية أولها «سقوط فرعون» وآخرها «الطيب والشرير والجميلة»، وثمة مسرحيات قصيرة من ذوات الفصل الواحد هي: «صوت مصر» و؛الفخ» و«الغريب» و«العين السحرية» و«دائرة التبن المصرية» و«الشخص»، وثمة ثلاث مسرحيات للأطفال هي «بقبق الكسلان» و«رحمة وأمير الغابة المسحورة» و«هردبيس الزمار»، وهناك تمثيلية تلفزيونية واحدة يتوازى فيها السرد الروائي والسرد الدرامي.

 

ومثلما استلهم التراث العربي في مسرحيات كثيرة، استوحى بعض مسرحياته من تراث الإنسانية، فصيغت «أغنياء فقراء ظرفاء» على غرار فكرة المسرح الشعبي كما هو الحال في صياغة الإسباني «بينا فنتي»، ومثلها مسرحية «الحب لعبة» التي تستند إلى قصة شعبية أيضاً، وكان سبق إلى صياغتها الفرنسي ماريفو في مسرحيته «لعبة الحب والمصادفة».

 

وبلغ التجريب شأواً عالياً في مسرحية «الشخص» المبنية على تقانات مسرح اللامعقول ولاسيما لعبة الوقت تعبيراً عن ضيعة الأحلام وخناق الوحشة، كمثل قول الشخص في لوحة «الساعة اتناشر»، وهي المشهد الأخير:

«الشخص: أنا تهت. وقبل ما أتوه نسيت. وقبل ما أنسى ماكنتش عارف.. الساعة كام الميعاد. الإنسان منا دايماً أحلامه في ناحية ودنيته في الناحية التانية. إن مشى في سكة الأحلام مش ممكن يوصل للدنيا، وإن مشلا في دنيته مهما طال بيه الطريق مش ممكن يحصّل أحلامه. لكن أقسى شيء ممكن يبتلي بيه هو الوحدة.. العزلة. الانقطاع.. وعلشان كده اللي بيوصل خير من اللي بيقطع، لكن يعمل إيه بني آدم في انقطاع دنيته عن أحلامه، وانقطاع سكته عن غرضه، وانقطاع اللغة عن التعبير، وانقطاع الذاكرة، وانقطاع المعرفة عن الفهم، وانقطاع الذكاء عن المصلحة، وانقطاع الوالد عن ولده.» (م11 ص178-179).

 

وتستفيد على العموم مسرحيات الفصل الواحد وبعض المسرحيات الاستعراضية والموسيقية والسياسية من تقانات المسرح التعبيري مثل تجريد الوقائع والتسمية بالصفة أو بالدلالة، لا بالاسم، فلا تحمل أي شخصية في مسرحية «الشخص» أي اسم، لتقتصر التسمية على «الشخص»، و«الشبية»، و«الطبيب»، و«الشابين مفتولي العضلات»، و«الممرضة» و«الثري» و«الراقصة» و«البواب» و«البوسطجي» و«الشرطي».

 

أما شخصيات مشرحية «الغريب» فهي «الغريب» والسيدة وضابط الشرطة والممرضان، ولا تفترق التسمية في مسرحية «العين السحرية» عن عدم تسميته وكأن التسمية هنا علامة أو رمز، مثل «حسن» و«حسنين» «وشلضم»، لأن التسمية لا تعيّن صاحبه بعلامات فارقة كالنسب والماضي والهيئة والتكوين الخاص..الخ، لتنتهي المسرحية إلى تأمل بعض الشروط الإنسانية القاهرة، في مآل المسرحية:

«حسين: أنا حسين حسين المحامي، أثريت من حسن الدفاع عن جرائم شخصية، أعلم أسبابها الاجتماعية وأسخط عليها، ويلح على شرفي وكبريائي بفكرة الدفاع عن الإصلاح وحل التناقضات الاجتماعية.. أنفي الفكرة المفزعة التي تلاحقني من أيام الصبا والدراسة.. الفكرة تقتحمني.. فتسخر منها نفسي وتقول: أنت كالبكتريا لا تحيا ولا تسمن إلا في الجروح فكيف تداوى أنت الجروح؟! أحس بغربة قاسية وهذا جنوني..

حسن: أنا حسن حسن، الممثل، النجم السينمائي.. في صباي تدربت على أداء الأدوار التمثيلية المجيدة، وأطلقت أسراباً من الكلمات الشريفة.. اليوم ألهث وراءة الكلمات المزيفة. أنافق التفاهة والغباء والثراء. ألفق للجمهور في كل يوم قصة، بينما لا أعبأ بالاستماع إلى قصة كومبارس حقيقية وأليمة، وأنكرها. الناس في الشارع وجوههم ناطقة تقول وتحكي، ولكني أحيا حياتي بوجه يلفقه الماكياج.. أعمى وأبكم وأصم.. وأحس بقلق يدمرني. وهذا جنوني.» (م11 ص140-141).

 

2ـ6ـ اللغة:

شكلت اللغة إحدى معضلات التأليف المسرحي لدى جيل فرج، غير أنه حسم خياره باتجاه الكتابة بالفصحى أو بلغة مفصحة، وعدّ هذا الخيار علامة تأصيل ينفع في تعضيد الهوية القومية في الأدب؛ ثم جاوز هذا الانشغال إلى تثمير الفصحى أو المفصحة في مسعاه الإبداعي، فاللغة حاجة فكرية وفنية، وليست مجرد زينة أو التزام خارجي، فعني فرج بمواءمة اللغة لطبيعة المسرحية في نوعيتها، تاريخية أم سياسية أم تسجيلية أم مأساوية أم تجريبية..الخ، وفي خطاب شخوصها وبيئاتهم...الخ، ولعله صدر في ذلك الخيار أو الاحتياج الفكري والفني عن فهم اللغة في العمل المسرحي تواضعاً متفقاً عليه، لا نقلاً عن واقع، لأننا في الفن محاكاة صريحة ومباشرة للواقع أو استغراقاً في اتجاهات حداثية وسواها لا نصف الواقع أو ننقل عنه، بل نعيد إنتاج علائقه، نصوغ مجتمعاً خاصاً هو مجتمع المسرحية، فاستفادت اللغة من نصوص الأدب المصري القديم في مسرحية «سقوط فرعون»، وهي لغة تقارب الشعر في مواقع كثيرة، وتألقت اللغة الأدبية التي تستفيد من فخامة التراث الأدبي العربي القديم في مسرحيات متعددة مثل «علي جناح التبريزي» و«الزير سالم» و«سليمان الحلبي» و«رسائل قاضي إشبيلية» و«الطيب والشرير والجميلة»، فطاعت اللغة الفصحى لحاجات المسرح.

[مجلة «الكاتب العربي» (دمشق)، ع53، 2001]

 

7

قضية النقد المسرحي:

حول النقد الخاص بعلي عقلة عرسان

-1-

ارتبط النقد الخاص بعلي عقلة عرسان بفعاليته الثقافية والإبداعية، أي أنه انطبع بآثار الموقف منه منتجاً فاعلاً ومبدعاً في الحياة الثقافية، إذ يندر، حتى وقت قريب جداً، أن ظهرت كتابة نقدية عنه تعزل إبداعه عن موقعه وموقفه الفكري والسياسي في آن معه. ولما كان النقد الأدبي نتاج الشروط التاريخية والثقافية التي أنجبته، فإنه مرهون في سورية، وفي الوطن العربي، بهذه العوامل والشروط، التي جعلت منه ميداناً للصراع الفكري والأيديولوجي ومجالاً لم يهدأ أواره حتى اليوم بين التيارات المعبرة عن القضايا الساخنة. وليس مبالغة، أن يصير هذا الميدان إلى أي جبهة قتالية، استعملت فيها الأفكار وغير الأفكار. وقد رافقت مسيرة عرسان منذ آواخر الستينات في معركته الثقافية والنضالية، مشاركاً وناقداً لهذه الفعالية الثقافية والإبداعية، فكتبت عنه أكثر من أربعين بحثاً ومقالة وحواراً.

 

عمد عرسان منذ بداءته انغماره في الحياة الثقافية وانشغاله الانتاجي مخرجاً، والابداعي كاتباً مسرحياً وشاعراً، والنقابي نقيباً للفنانين، والإداري مديراً للمسارح والموسيقى، إلى إعلان توجهاته الفكرية، مفكراً قومياً معنياً بالتأصيل الأدبي والفني للفنون المستحدثة، برأي الأغلبية، مثل المسرح، يرى في الأدب والفنّ والثقافة عموماً رسالة نبيلة هي سلاح في معركة الوجود العربي، وكسب الرهان الحضاري. وطوال فترة هذه الانشغالات حتى عام 1978، تخليه عن مسؤولية معاون وزير الثقافة، ربما بتأثير هذه التوجهات الفكرية، اتصل النقد الخاص بعرسان كاتباً ومخرجاً مسرحياً، وإلماحات إليه شاعراً بفضل القصائد القليلة التي نشرها في الدوريات العربية، ولا سيما «الآداب» (البيروتية)، وبفضل الأمشاج الشعرية الكثيرة في مسرحياته.

 

وقد كتب عرسان في هذه الفترة مسرحياته «ثلاث مسرحيات: زوار الليل - الشيخ والطريق- الفلسطينيات» (1971)، و«السجين رقم 91» (1974)، و«الغرباء» (1974)، و«رضا قيصر» (1975)، و«عراضة الخصوم» (1976، و«الأقنعة» (1987)، وأخرج عشرات المسرحيات العالمية والعربية، ومنها مسرحياته، للمسرح القومي، ومسرحية واحدة له لمسرح الشبيبة المركزي، ومسرحية أخرى له، لفرقة خاصة تابعة لنقابة الفنانين، ولم يخرج سوى هذه المسرحية «رضا قيصر» (1975). ولذا فقد تركز النقد حول الكتابة والإخراج، وبفعاليته غالباً، ما تحدث عن كتابته وإخراجه، بالنظر إلى هذه الفعالية، ولاسيما إدارته للمسارح والموسيقى.

 

كتب آنذاك متابعات صحفية ومراجعات نقدية كثيرة، وقليل من البحوث النقدية والنقد، وكان هذا طبيعياً إزاء حركة مسرحية تتأسس من جديد، مع رعاية الدولة للمسرح عام 1960، ومحاولات تشجيع المسرح الذي شهد نهوضه المعتبرفي مطلع السبعينات بإرادة عرسان نفسه، كما أوضحت ذلك ويشير البث الذي أعدته، ناهد رضا، إحدى طالبات الدكتور فهد عكام عن المقالات التي كتبت عن أعمال عرسان حتى عام 1985م، إلى هذه الملاحظات جميعها في المرحلة الأولى حتى نهاية السبعينيات، على الرغم من أن هذا البث لا يغطي الكتابات العربية عن عرسان جميعها، غير أنه مفيد في شموله لغالبية الكتابات المحلية، وسأورد بعض هذه الكتابات بعد تصحيحها وتبويبها، لتوكيد الملاحظات السابقة:

1- المقالات عن المسرحيات التي أخرجها عرسان:

- الوهم والحقيقة يتلاقيان في مسرحية «الحياة حلم»:

بقلم أحمد قنوع، في «الموقف العربي» (دمشق) العدد 50، 1/4/1965م.

«موتي بلا قبور»: لماذا في افتتاح موسم المسرح القومي مسرحية ذهنية ومتخاذلة؟

في «البعث» (دمشق)، 20/10/1965م.

- صباح الخير «العنب الحامض»

كاف، في «البعث» (دمشق)، 25/1/1967م.

- ما الجديد في «المأساة المتفائلة»؟

بقلم موفق نعال، في «الثورة» (دمشق) العدد 1461، 24/2/1968م.

- «المدنسة» بين ليبرالية الكاتب والتزام المخرج:

بقلم عبد الله أبو هيف. في «الثورة» (دمشق)، العدد 1634، 17/8/1968م.

- «المدنسة» توجيه تربوي واجتماعي ملتزم:

بقلم جلال خيربك. في «الثورة» (دمشق) 1968م.

- النقد المسرحي أم العمل:

في «العروبة» (حمص). العدد 1531، 23/5/1969م.

- عالم «المدنسة»:

في «البعث» (دمشق)، 8/2/1970م.

- بين «السعد» و«العنب الحامض»:

بقلم فاروق عبد القادر، في «روز اليوسف» (القاهرة)، العدد 2263، 25/10/1977م.

- كوميديا «الملك لير» أمام مأساته:

بقلم عصمت رشيد. في «جيش الشعب» (دمشق)، العدد 1025، 23/2/1972م.

- «أوديب» مسرحية سياسية:

بقلم محمد عمران في «الثورة» (دمشق)، العدد 3049، 4/3/1973م.

- مسرح اخناتون و«أوديب»:

بقلم محمد غازي جريدة، في «الطليعة» (دمشق)، 1/2/1973م.

- «أوديب» لا يتحمل المزاح السياسي:

بقلم ممدوح عدوان: في «الطليعة» (دمشق)، العدد 34، 17/2/1973م.

- النهاية التي صنعتها البداية:

بقلم د. نجاح العطار، في «البعث» (دمشق)، العدد 3065، 5/3/1973م.

- «احتفال ليلي خاص لدريسدن»:

بقلم رياض عصمت، في «جيش الشعب» (دمشق)، 13/3/1973م.

- «حفل ليلي خاص لدريسدن»:

بقلم محمد عمران، في «الثورة» (دمشق) العدد 3057، 13/3/1973م.

- «احتفال ليلي خاص لدريسدن» أو الوقوف ضد الحرب الإمبريالية:

قسم التحقيقات، في «الشبيبة» (دمشق)، العدد 36، نيسان 1973م.

- «أيها الإسرائيلي حان وقت الاستسلام»:

بقلم رياض عصمت، في «بيروت المساء» (بيروت)، العدد 16، 1/3/1974م.

- «انتيجون» وآخرون في المسرح القومي:

بقلم عرفان عبد النافع. في «جيش الشعب» (دمشق)، العدد 1171، 14/1/1975م.

- «الأشجار ماتت قبل أن تقف»:

بقلم يوسف أحمد المحمود. في «الثورة» (دمشق)، العدد 3923، 2/12/1975م.

- لعلي عقلة عرسان نصفق بحرارة لاحترامه للمسرح وببرود لعدم الشك بهذا المسرح:

بقلم نهالة كامل. في «الثورة» (دمشق) العدد 4023، 28/3/1976م.

- المذاهب المسرحية وغياب المعنيين:

بقلم حيدر علي في «الثورة» (دمشق) العدد 3972، 29/1/1976م.

- «الأشجار تموت واقفة»: خاطرات حول موقف الفنان:

بقلم عبد الله أبو هيف في «الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 63، تموز 1976م.

 

2- المقالات عن المسرحيات والكتب التي ألفها عرسان:

- ملاحظات حول مسرحية «الشيخ والطريق»:

في جريدة «البعث» (دمشق)، 27/11/1968م.

- «الشيخ والطريق»: موسم 68-1969م.

بقلم غسام ماهر الجزائري. في «الثورة» (دمشق) العدد 1750، 11/12/1968م.

- صدى نحو مسرح حقيقي:

بقلم حسن صفدي في «العروبة» (حمص)، العدد 1525، 15/5/1969م.

- لمسات في «زوار الليل»:

بقلم محمد ياسر شرف. في «العروبة» (حمص)، العدد 1528، 19/5/1969م.

- حصاد الطلبة مع علي عقلة عرسان و«الفلسطينيات»:

بقلم رياض عصمت. في «الثورة»، 17/7/1969م.

- مسرح علي عقلة عرسان: من شفافية الشعر إلى الوضوح السياسي:

بقلم خالد محي الدين البرادعي، في «الرسالة» (الكويت)، العدد 753، السنة 18، 8/5/1970م.

- ثلاثة أثواب مسرحية لعلي عقلة عرسان:

بقلم نهلة كامل، في «الطليعة» (دمشق)، العدد 286، 22/1/1972م.

- «الغرباء» خلاص فردي أم جماعي؟

بقلم عبد اللّه أبو هيف، في «صوت فلسطين» (دمشق)، نيسان 1974م.

- مسرحية «الغرباء» في حوار مع علي عقلة عرسان:

«صوت فلسطين» (دمشق)، أيار 1974م.

- رأيان في «الغرباء»:

بقلم نصر الدين البحرة ورشاد أبو شاور. في «الطلائع» (دمشق)، 12/7/1974م.

- قراءة جديدة لأربع مسرحيات سورية:

بقلم عيسى الناعوري. في «الرأي» (عمان)، العدد 1522، 1975م.

- مسرحيات علي عقلة عرسان:

بقلم عيسى الناعوري. في «الموقف الأدبي» (دمشق)، تشرين الأول 1975م.

- «عراضة الخصوم» في مفترق الطرق:

بقلم عبد الإله الرحيل في «تشرين» (دمشق)، 20/6/1976م.

- عراضة الخصوم: فضائل كبرى وفضائل صغرى:

بقلم عبد الله أبو هيف. في «الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 63، تموز 1976م.

- مسرح السبعينيات: «رضا قيصر»:

بقلم إلياس طعمة. في «المسيرة» (دمشق) العدد 86، 12/8/1976م.

- علي عقلة عرسان: «السجين 95» بين المباشرة والبعد الاجتماعي المدمر:

بقلم حسين حموي. في «المسيرة» (دمشق) العدد 86، 20/8/1976م.

- «رضا قيصر» و«مشحر يا جوز التنتين»:

بقلم عبد الله أبو هيف في «المسيرة» (دمشق) العدد 86، 20/8/1976م.

- «السجين 95» مسرحية لعلي عقلة عرسان:

بقلم إلياس طعمة. في «الشبيبة» (دمشق) العدد 68، تشرين الثاني 1976م.

- مقال الأسبوع: «عراضة الخصوم»:

بقلم سمر روحي الفيصل، في «جريردة حمص» (حمص)، العدد 1231، 21/1/1977م.

- «الغرباء» لعلي عقلة عرسان:

بقلم أحمد المعلم، في جريدة «العروبة» (حمص)، 6/2/1977م.

- مسرحية «الغرباء» للمسرح القومي السوري:

إنها مسرحية ضعيفة نجحت في تقديم صورة مشوهة للقضية:

بقلم محمود الريماوي، في جريدة «الوطن» (الكويت)، 13/4/1977م.

- سقوط أقنعة الخصوم:

بقلم عبد الله عبد، في جريدة «الثورة» (دمشق)، العدد 4437، 9/8/1977م.

- مسرح طليعي أصيل:

بقلم عدنان بن ذريل، في «الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 83، آذار 1978م.

- قراءة في كتاب «سياسة في المسرح»:

بقلم وهيب سراي الدين في «الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 91، تشرين الثاني 1978م.

- سياسة في المسرح:

بقلم أديب عزت، في «البعث» (دمشق) العدد 4799، 13/11/1978م.

- علي عقلة عرسان وهموم المسرح: دراسة في 400 صفحة تقرأ الخلاصة العالمية سياسياً:

بقلم سمير الصايغ. في «الأنوار» (بيروت)، العدد 6448، 30/11/1978م.

- «الأقنعة» دعوى صريحة للقيم ونداء جاد للضمير:

بقلم حسين حموي في «البعث» (دمشق) العدد 4835، 3/12/1978م.

- أقنعة عرسان:

في مجلة «المرصاد» (بيروت)، العدد 43، كانون الثاني 1979م.

- «سياسات في المسرح» من علي عقلة عرسان:

بقلم أديب عزت في «البعث» (دمشق)، العدد 13777، 16/1/1979م.

- جلسة «مع الأقنعة»:

بقلم عادل عبد الجبار. في «الثورة» (دمشق)، 8/2/1979م.

- الأديب بين الإلزام والالتزام:

بقلم عيسى الناعوري. في «الدستور» (عمان)، العدد 4483، 1/2/1980م.

- مسرحية «الأقنعة» بين هندسة الواقع و«هندسة الحلم»:

بقلم عبد الفتاح رواس قلعه جي. في «الموقف الأدبي» (دمشق)، العدد 94، شباط 1979م.

- نظرات في كتاب «سياسة في المسرح»:

بقلم ياسر الفهد في «الموقف الأدبي» (دمشق)، العدد 97، أيار 1979م.

- «الشيخ والطريق»:

بقلم عدنان بن ذريل. في جريدة «الثورة» (دمشق)، 24/8/1979م.

- «السجين 95»:

بقلم عبد الفتاح قلعة جي. في مجلة «فنون» (بغداد)، العدد 53، 3/9/1979م.

- مسرح علي عقلة عرسان: عدنان بن ذريل:

بقلم أديب عزت. في «الموقف الأدبي» (دمشق)، العدد 116، كانون الأول 1980م.

- علي عقلة عرسان ومسرحياته:

بقلم محمد الخطيب. في «الموقف الأدبي» (دمشق) العدد 118، شباط 1981م.

- «صخرة الجولان»:

بقلم محمود منقذ الهاشمي. في مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق)، العدد 140، كانون الأول 1982م.

- في «صخرة الجولان» : علي عقلة عرسانيفتح طريق الرواية:

بقلم نزار بهاء الدين الزين. في جريدة «الوطن» (الكويت). 29/11/1983م.

- رأي في «صخرة الجولان»:

بقلم محمد حيدر. في «الكاتب العربي» (دمشق) العدد 5، السنة الثانية 1983م.

- علي عقلة عرسان و«سياسة في المسرح»:

بقلم محي الدين صبحي. في «الكاتب العربي» (دمشق) العدد 6، السنة الثانية 1983م.

- الحب الكبير في رواية «صخرة الجولان»:

بقلم مقبولة الشلق. في «الموقف الأدبي» (دمشق)، العدد 171، تموز 1985م.

- الرواية العربية ورؤية الموضوع القومي: دراسة في «صخرة الجولان»:

بقلم عبد الله أبو هيف. في «الموقف الأدبي» (دمشق)، العدد 173-174، أيلول، تشرين الأول 1985م.

 

وثمة ملاحظة، هي أن البث معد عن المقالات والمواد التي تجمعت في حوزة كاتبنا علي عقلة عرسان نفسه، وبالنظر إلى زهده في متابعة ما يكتب عنه، وإلى قلة عنايته بالتوثيق، فإن عشرات المقالات والمواد غير موثقة، واذكر منها:

الإرادة والقدرة:

إن كلاً من الأبطال الثلاثة، الرجل، وعازف الناي، والمرأة كان يعمل لتجاوز الاغتراب، لأنه (يريد) أن يكون شيئاً، ويقيم مصالحة مع العالم، ومع الذات، يستعيد صلته بالمجتمع، والآخرين.. و(الرجل) حين يقول لعازف الناي ليتها تزول غمامة روحي... يجيبه (عازف الناي): ـ وما الذي يمنعها من الزوال؟.. إنك لا تحاول كما ينبغي. ـ، ص270.

 

ناهيك بأن (الرجل) صريح الروحانية، ويستعين بالله، ويستجير به من الرحم: ـ يا خالق الناس، اجل عن قلبي الغمّ، وعن روحي الوهمـ، ص210؛ إلا أنه يشعر أنه عاجزٌ في محنته عن استرداد ذاته، أو تدعيم تماسكه، وتذكره، ولذلك يتوجه إلى الله، ضارعاً مستجيراً، يعترف بأنه لا قدرة له بدونه: ـ لا أقدر من دونك على شيء... لا أقدر من دونك على شيء. ـ، ص210 أيضاً.

 

وهذا يعني، أن الأبطال الثلاثة الرجل، وعازف الناي، والمرأة (أرادوا) تجاوز اغترابهم؛ كما (أرادوا تفويت مطاردة السلطة للرجل؛ إلا أن (قدرتهم) كانت محدودة جداً، بل معدومة في كثير من الملابسات..

فمثلاً، عندما يلقى (عازف الناي) خنجره، ليدافع الرجل عن نفسه في الطبيعة، يقول له (الرجل): ـ لماذا أدافع عن نفسي، وضدّ من؟.. بعد أن (تركت) الذين كان يجب أن توجه لهم (القوة)؟ـ، ص286..

كما يقول لممثل الدولة (رئيس المنصة): ـ بأي حق تمارس ضدي ما تمارسه؟. إن شهرة السلطة هي التي جعلت مني في عينيك (عدواً)، وشيطاناً؛ وجعلتك تقتل الآخرين. ـ، ص320.

 

لقد كان الأبطال الثلاثة: الرجل، وعازف الناي، والمرأة (مدهوسين)، ولا اقتدار لهم على مقاومة ظلم السلطة.. فكيف تكون الحال، والمؤلف آثر أن يجعل (الدولة) نعادي الأفراد، وتلبسهم الجرائم تلبيساً، ولا تترك لهم حيلة في مقاومة، أو مصالحة، أو اقتدار.

 

المغالطات انتقاء فوق واقعي:

وفي الحقيقة أن مغالطات ممثل الدولة (رئيس المنصة) للأبطال الثلاثة، وتلبيسهم الجرائم تلبيساً شيء تعبيري تماماً؛ لأنه شيء غير طبيعي.. ولذلك يرجح أنه (انتقاء) فوق واقعي لزاوية، آثر المؤلف رسمها للدولة؛ وهي زاوية ممكنة التحقق، والحصول في الواقع..

فمثلاً، عندما يسأل ممثل الدولة (رئيس المنصة) الرجل، هل هو يعرف. (عازف الناي).. يقول له (الرجل): ـ كنت جثة سقطت، فحاول مساعدتي على استعادة صلتي بالعالم ـ، ص327.

فيقول (رئيس المنصة) لزميله: ـ سَجّلْ، ساعده على الهرب، وكان دليله في عملياته ضدّ أمن الدولة. ـ، ص327.

ثم يسأل ممثل الدولة (رئيس المنصة) الرجل: ـ وماذا أيضاً. ـ، فيجيبه (الرجل): ـ كان أحياناً أيضاً يعزف لي..، ص327.

فيقول (رئيس المنصة) لزميله: ـ سَجّلْ، كان يقوم بأعمال شيفرة، ويرسل رسائل على الشبابة. ـ، ص328.

ثم يسأله هل كان يعزف فقط، أم يقوم بالعزف، والغناء، ص329، فيجيب (الرجل) ـ عزف فقط‍‍!!.

فيقول (رئيس المنصة) لزميله: ـ سَجّلْ ذلك.. شيفرة لحن، دون كلام. ـ، ص329.

والأنكى من هذه المغالطات، إن (الرجل) عندما صار يتلكأ في الإجابة على أسئلة رئيس المنصة، يتهدده (رئيس المنصة) ويتهدد المرأة زوجته قائلاً:

- إذا لم يجد الأجوبة الملائمة فوراً، سوف يعرف كيف نعيد له الإحساس، والشعور بالخوف.. سنبدأ بك، ونصل إليه.. وعند ذلك سيفرد كالعليل. ـ، ص315.

هذا التحريف لصورة (الدولة) في المسرحية، وجعلها عدواً للأفراد عمل على التحولات (لأمشاج) محاور الدلالة، وتكييفها عند الأبطال (النظر بعد قليل)؛ وهو ما آثره المؤلف ليتسنى له رسم (مشهدية عامة) للاغتراب..

 

يستفاد من استعراض هذه الكتابات ما يلي:

- إن غالبية الكتابات بأقلام صحفيين أو أدباء لا يمارسون النقد أو النقد المسرحي عادة، مثل ممدوح عدوان ومحمد عمران ونجاح العطار وعبد الفتاح قلعه جي وهاني الراهب وأحمد قنوع وحسين حموي وخالد محي الدين البرادعي وإلياس طعمة ووهيب سراي الدين ومحمد حيدر ومقبولة الشلق وغيرهم.

- ظهور نغمة التشكيك والتقليل من قيمة الجهد الإخراجي لعرسان في مرحلته المبكرة لدى غالبية وسائل الإعلام وكتابها الصحفيين، حتى إن بعضهم لم يوقع على الكتابة، على أنه رأي الوسيلة الإعلامية.

 

- تجاهل الكتاب المتخربون من الماركسيين على وجه الخصوص جهد عرسان وإبداعه كما يظهر من هذا البث، وإن كتبوا مادة أو مقالة، فليست إيجابية، ولا فائدة من الإشارة إلى كتابات بعينها.

 

- لم تؤثر مواقف الكتابات المتخربة وأصحابها على الكتّاب خارج سورية، على الرغم من انعقاد مهرجان دمشق للفنون المسرحية بانتظام حتى أواخر السبعينيات بجهد عرسان نفسه بالدرجة الأولى، فظهرت كتابات كثيرة موضوعية في الدوريات العربية، كما هو الحال مع كتابات عيسى الناعوري ورشاد أبو شاور ونزار بهاء الدين الزين وفاروق عبد القادر.

 

- بروز الناقد والناقد المسرحي الموضوعي منذ أواخر الستينيات ممن لم يتأثروا «بالفبركة» الإعلامية المتخربة، كما في كتابات رياض عصمت ونصر الدين البحرة  وعبد الله أبو هيف وسمر روحي الفيصل ومحمود منقذ الهاشمي وعدنان بن ذريل. وقد صارت بعض مقالات هؤلاء عن المسرح إلى كتب نقدية تأسيساً لحركة النقد المسرحي في سورية.

 

- لوحظ أن كتابة عرسان في الأجناس الأدبية الأخرى مثل الرواية، بصدور رواية «صخرة الجولان»، قد عمقت اتجاهات البحث في أدبه، إذ كتب خلال السنوات الثلاثة الأولى لصدورها عشرات المقالات والمراجعات والأبحاث عنها، كما هو الحال مع كتابات محمد حيدر ومحمود منقذ الهاشمي ومقبولة الشلق وعبد الله أبو هيف وغيرهم.

- كان للسفر الضخم «الظواهر المسرحية عند العرب» أهمية كبرى في تعزيز مكانة عرسان فكرياً ونقدياً مؤصلاً للمسرح العربي، إذ وسع دائرة الاهتمام العربي بجهوده وإبداعه.

 

في كتابي «التأسيس: مقالات في المسرح السوري» (1979). على أن هذه القضية بالذات التي لايماري فيها أحد، لقيت النكران وسوء التقدير من جانب نقاد وإعلاميين ناصبوا عرسان العداء بتأثير الشروط أو التحكميات التي طبعت النقد بطوابعها، مثل الإيديولوجيا والتخرب والقبلية.

 

بيد أن المرء لا يستطيع أيضاً أن يعول على الحركة النقدية في تلك الفترة، فلم يصدر كتب تناولت المسرح العربي في سورية كلياً أو جزئياً تزيد عن أصابع اليدين، وهي في غالبيتها تجمع مراجعات أو مقالات سبق أن نشرت في الدوريات المحلية، مثل «أحاديث وتجارب مسرحية» (1977) لنصر الدين البحرة، و«المسرح السوري منذ أبي خليل القباني إلى اليوم» (1971) و«مسرح وليد مدفعي» 01971) لعدنان بن ذريل، و«الأدب والموقف القومي» (1976) لمحي الدين صبحي، و«بقعة ضوء» (1975) لرياض عصمت، و«القصة في سورية» (1958) لشاكر مصطفى، و«مسرحيات في الوهج والظل» (1976) لعلاء الدين وحيد، ومما يجدر ذكره أن هذه الكتب لم تخصص أبحاثاً عن عرسان ومسرحياته. ويعكس هذا الوضع موقفاً ضمنياً هو دأب أمثال أولئك النقاد والإعلاميين على تجاهل عرسان بحكم تغلغلهم في الأجهزة الثقافية والمؤسسات الإعلامية، وقد جاهر بعضهم بهذا التجاهل المقصود، والترويج لنوع آخر من أضواء لا تستحقها غالباً، وكنت ألقيت في كتابي السالف الذكر «التأسيس» نظرة على النقد المسرحي في سورية في تلك الفترة، وقلت في ختام بحثي:

«الصحيح أيضاً، أن النقد مناخ، ولايمكن له أن يزدهر إلا في ظل استنبات التقاليد المسرحية والثقافية، وفي ظل الروافد العلمية التي تغني الحركة المسرحية، وهذان المطلبان ما يزالان أملاً، فلم ترس تقاليد بعد، ولم يقم بعد ذلك الاهتمام الكافي بالروافد العلمية في حياتنا. إن النقد المسرحي في سورية، مثله مثل الحركة المسرحية عندنا، لا يزال في البداية» (ص78).      

وأرد ثبتاً ببعض المقالات الدالة على ذلك مما نشر في «الأسبوع الأدبلي» (دمشق) وحدها:

المادة    الكاتب    العدد      التاريخ

- قراءة في تحولات «عازف الناي»   عبد الرحمن سليمان          601      7/3/1998م

- القومية في كتابات الدكتور علي عقلة عرسان            صلاح مفلح أسعد  624      29/9/1998م

- الانطباعية في مسرح علي عقلة عرسان: مسرحية «الأقنعة»    وليد فاضل                       25/12/1999م

- «وجه الماس»: البنيات الجذرية  في أدب علي عقلة عرسان.    زياد محمد مفاس  676      8/9/1999م

- التشكيلية في مسرح الدكتور علي عقلة عرسان: «تحولات عازف الناي» أو البحث عن الذات.           وليد فاضل           675      11/9/1999م

- ميثاق المثقفين العرب      محمد قرانيا         685      20/11/1999م

-2-

وتمتد المرحلة الثانية من عام 1978 إلى عام 1992، وتضاعفت فيها مسؤوليات عرسان، وتقلد فيها مناصب في صلب الحركة الأدبية العالمية والعربية والمحلية المعاصرة، رئيساً لاتحاد الكتاب العرب، وأميناً عاماً للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، ونائباً للأمين العام لاتحاد كتاب آسيا وأفريقيا، ولاشك، أن هذه المناصب والمسؤوليات تجعل فعالية عرسان أكبر بعمقها وبامتدادها إلى ساحات وميادين جدالية ونقدية، حملت في السنوات كلها صراعات لم تفتر، مثلما تعددت مجالات الإبداع العرساني إلى أجناس أدبية أخرى، فظهر له كتاباه الهامان والكبيران في البحث المسرحي:«سياسة في المسرح» (1978)، و«الظواهر المسرحية عند العرب» (1981)، وروايته «صخرة الجولان» (1982)، وديوانه الشعري الأول «شاطئ الغربة» (1986)، وكتبه الفكرية «آراء ومواقف» (جزءان 1989 و1990)، و«أيام في شرق أسيا» (1990)، و«دراسات في الثقافة العربية» (1988). وقد احتدمت فيها الصراعات الفكرية حول مسرح عرسان، وحول كتابته الروائية والشعرية، والأهم حول فكره. ويمكننا أن نوجز الملاحظات حول هذه المرحلة فيمايلي:

ـ ظهور كتب وأبحاث حول عرسان، بعضها سلبي، وبعضها إيجابي، ومفهوم السلب أو الإيجاب لايتجه إلى فكر عرسان وأدبه، بل إلى مواقف النقاد والباحثين. فثمة نقاد خصصوا مقالات وأبحاثاً في كتبهم غير منصفة ومحكومة بالقبليات النقدية أمثال نديم محمد في كتابيه «الجدران الأربعة ـ دراسات تطبيقية في المسرح» (1980)، و«الأدب المسرحي في سورية» (1982). غير أن المقالات والأبحاث المنصفة كثيرة، ومنها «مسرح علي عقلة عرسان» (1980) لعدنان بن ذريل، و«التأسيس» (1979)، و«الإنجاز والمعاناة: حاضر المسرح العربي في سورية»  (1988) لعبد الله أبو هيف، ومن ذلك كتاب اسماعيل مروة الذي ظهر فيما بعد وهو «الأرض والإنسان في مسرح علي عقلة عرسان» (1989). ثم ظهرت مقالات مهمة حول رواية عرسان وشعره وأبحاثه لأهم النقاد في سورية.

 

ـ تبدل الحساسية النقدية حول عرسان على المستوى العربي، فانكسر الطوق الذي أشاعه النقاد الأيديولوجيون، وشرع النقاد العرب يهتمون بأدب عرسان في مصر وتونس وبقية الأقطار العربية. ويعد ما كتبه على الراعي في كتابه «المسرح في الوطن العربي» (1980) نموذجاً لذلك، إذ خصص له خمس صفحات من أصل ثلاثين صفحة عن المسرح العربي في سورية (ص ص 188-220).

 

ـ اتساع حجم النقد الخاص بعرسان لفعاليته الثقافية والابداعية كلّها، مما يحتاج إلى ثبت طويل لاستقصائها.

ـ أسهمت المتغيرات الدولية في تبدل الحساسية النقدية بعامة، مما بدّل كثيراً في مواقف بعض النقاد والباحثين أنفسهم إزاء عرسان وسواه من المبدعين في سورية أمثال عبد السلام العجيلي ووليد إخلاصي ممن مسّهم غبن شديد من النقدية المتخربة على وجه الخصوص.

 

كان دخول الجامعة والنقد الأكاديمي ساحة النقد المسرحي والأدبي الحديث في سورية من العوامل الهامة في تغير المفاهيم النقدية باتجاه المناهج العلمية، بينما تراجع النقد الإيديولوجي المتحزب أو كاد يغيب، بل إن بعض ممثلي هذا النقد شهدوا على مثل هذا التغير في شهادات معلنة، أو في ممارستهم النقدية.

ـ وفرة الكتابات النقدية في هذه المرحلة حول الأجناس التي كتبها عرسان، كمياً ونوعياً: مسرحه ومسرحياته، روايته، أبحاثه المسرحية ولاسيما كتابه «الظواهر المسرحية عند العرب»، فكره، شعره، مما يحتاج إلى تصنيف وفهرسة.

 

-3-

أما المرحلة الثالثة، فتمتد من عام 1993 حتى الآن (1998)، ويتميز النقد الخاص بعرسان بميزات الحركة النقدية نفسها، ومن ملامحها:

ـ تقلص مساحة النقد المضموني والإيديولوجي وسيادة الاتجاهات النقدية الحديثة بتأثير العلوم اللسانية والإنسانية، وأبرزها النقد البنيوي واللساني والعلاماتي والاجتماعي والتفسي.

 

ـ غلبة التأليف الفكري والنقدي على الابداعي عند عرسان. إذ كتب في هذه المرحلة مئات المقالات التي لم يجمعها كتاب بعد، وكتابيه «العار والكارثة» (جزءان كبيران 1992) «المثقف العربي والمتغيرات» (1995)، وديوانه الشعري الثاني «تراتيل الغربة» (1993)، و«دراسته النقدية وقفات مع المسرح العربي» (1996).

 

ـ تغير الجدل والنقاشات من الواقعية والإيديولوجية والسياسية والالتزام إلى النظرية الأدبية والنقدية. وقد كان الحيز الكبير من نقد عرسان يتجه إلى موقفه وممارسته من هذه القضايا، لأن فكرته عنها اختلفت عن أطروحات الواقعية الاشتراكية، باتجاه واقعية تعبيرية والتزام بالعقيدة القومية ووحدة الثقافة العربية.

 

ـ بروز قضايا جديدة، راهنة وخطيرة في الساحة الثقافية مثل مناهضة الصهيونية للأمة العربية والعولمة، وقد كان عرسان من الفرسان المدافعين عن هذه القضايا في ممارسته الثقافية والنقدية والابداعية.

 

وقد زاد من أوار هذه المعارك السياسية والفكرية مسؤولية عرسان في قيادة، أو الاسهام، العديد من الجمعيات والتنظيمات الأهلية والشعبية الثقافية في سورية والوطن العربي، من اتحاد الكتاب العرب إلى الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، إلى جمعية مناهضة الصهيونية، إلى لجنة مقاومة الغزو الثقافي والتطبيع.. الخ.

وقد واجه عرسان هذه المعارك بعقل نير ووعي عميق بالتاريخ العربي وبالثوابت القومية. وكتبت مئات الأبحاث والمقالات والتعليقات والردود على كتابات عرسان ومواقفه:

ـ انكشاف الكثير من الأقنعة الثقافية والنقدية التي مارست التضليل والتزييف في ظل انتشار قيم ثقافية ونقدية جديدة داخل المؤسسات العلمية والأجهزة الثقافية ووسائل الإعلام، وخفتت أو شحبت أصوات الترويج الكاذب والرخيص لظواهر الإدعاء والتعسف الذي بلغ في مراحل سابقة مبلغاً بعيداً في الإرهاب الفكري والمزاعم الباطلة، فليس ثمة مقالات صريحة في هذا الاتجاه في نقد عرسان.

 

ـ تنامي الاتجاه العلمي والأكاديمي الناقد للتجربة الأدبية والمسرحية، وفي مقدمة كتابات عرسان المسرحية بالدرجة الأولى. وثمة عشرات الأبحاث في حلقات البحث في كليات الآداب والمعهد العالي للفنون المسرحية والمعهد العالي للعلوم السياسية عن إبداع عرسان وفكره. وثمة عشرات أطروحات الماجستير والدكتوراه، التي عالجت، فيما عالجت، أدب عرسان.

 

ـ عناية الدوريات العربية الفكرية بإبداع عرسان وفكره مما يحتاج إلى فهرسة تحليلية.

ـ صدور عدد من الكتب النقدية المخصصة لأدب عرسان، منها «تحولات عازف الناي: قراءة ألسنية، نقدية، تحليلية للمسرحية» (1997) لعدنان بن ذريل، و«وجوه الماس: البنيات الجذرية في أدب علي عقلة عرسان» (1998) لمحمد عزام.

 

-4-

وسأعرض بإيجاز للكتابين الأخيرين نموذجاً للنقد الخاص بعرسان في تجلياته الأنسب بعد رحلته الطويلة مع نقد ونقد.

وضع عدنان بن ذريل كتابه الثاني عن عقلة عرسان، وخصصه لمسرحيته الأخيرة «تحولات عازف الناي». تهدف الدراسة إلى تحليل ألسني للمسرحية، وتتضمن فصولاً سبعة حول المسرودية ومحاور الدلالة، وتجارب الأبطال، ومقولات المضامين، والبناء المسرحي، والمكان والزمان، والمفردات والمصطلح، والأحاديث الفردية والأناشيد، والبلاغة والأسلوبية، وتحليل الديباجة الكتابية.

 

يلجأ ابن ذريل إلى استخدام تقانات المنهج الألسني على نحو مبسط وشارح، يقارب النزوعات البنيوية والشكلانية، وما شاع مؤخراً من دراسة للملفوظية. غير أن النقد الموجه إلى هذه الدراسات وهذا المنهج هي تقليله من قيمة التأويل والمعنى في النص الأدبي الذي أنجزه النقد العلاماتي فيما تلا ذلك من مناهج، ولذلك لا نقع في نقد ابن ذريل على معاني المسرحية ورؤيتها الفكرية والتاريخية للاغتراب أو عطب الذات القومية، كأن يقول عن تحليل الديباجة الكتابية:

«تميزت الديباجة الكتابية في مسرحية «تحولات عازف الناي» بعفويتها، وشفافيتها، فعكست الملاءمة بين السبك والمضمون، في إيقاعه ظلت هي أيضاً ملاءمة لعرض مسرحي، يقوم على تجميع مشاهد عن الاغتراب، وتحولاته...» (ص93).

 

ولعلنا نختلف مع ناقدنا منذ شروعه في إيراد براهينه، حين رأى المسرحية تجميعاً لمشاهد حياتية، بينما هي أميل إلى طبيعة المسرح التعبيري ولوازمه.

 

ويتساءل المرء عن مناسبة هذه الأحكام لمسرحية «تحولات عازف الناي»، إذ نفى عنها «الدرامية» و«الحبكة» بقوله:

- تحولات عازف الناي ـ، للكاتب المسرحي النابه (علي عقلة عرسان) مسرحيةٌ ذهنيةٌ في (الاغتراب)، أو فقدان الذات؛ وخاصة من (الاغتراب الاجتماعي) الذي يصيب الإنسان نتيجة القهر السياسي؛ وقد عمل المؤلف على تنميط إبطاله فيها، فعمد إلى صيغة (الجلاّد والضحية)، جعلها وراءهم كضحايا لظلم الدولة، واستبدادها؛ فكانت الدولة هي (الجلاد)، وكان الأبطال هم (الضحايا)؛ وبذلك برزت في المسرحية تلقينات مختلفة، لازدواجيّات بليغة، ومعبّرة، مثل ازدواجيّة (الرمز والواقع)، أو ازدواجيّة (الواقع وما فوق الواقع)، نصادفها في تجارب هؤلاء الأبطال..

 

- تجميع مشاهد حياتية ـ

وليس في مسرحية: ـ تحولات عازف الناي ـ (درامية نضالية)، وبالتالي، ليس فيها (حبكة) سردية لتأزم أحوال تصير إلى حلٍ ملائم.. وإنما هي تقوم على (تجميع) مشاهد حياتية، عن الاغتراب، يعيشها الأبطال، ويحاولون تجاوزها، هي (ذروات وجودٍ، وفعلٍ)؛ إذْ يستمر (القهر السياسي) في المسرحية، وتستمر السلطة في مطاردتها لمناضل هارب؛ وتستطيع في النهاية  إلقاء القبض عليه، وعلى رفيقيه عازف الناي، والمرأة، وتسوقهم إلى المحاكمة، فالموت.. وذلك بالفعل مجتلى الأصالة؛ إذّ هو مجتلى تركيزٍ على قهرٍ سياسي يؤدّي إلى اغتراب اجتماعي، استطاعت المسرحية أن تقدم (مشهديةً عامةً) عنه.

 

وضع ناقدنا للفصل الأول عنوان «المسرودية ومحاور الدلالة» انسجاماً مع قراءته الألسنية الممتزجة بعلاماتية/ سيميائية، غير أنه ما جاوز أفق الملفوظية بتحويله الدراما/ الفعلية إلى مجرد علاقة لغوية، بل إنه لم يوضح مصطلحاته النقدية في مفتتح كتابه، وهذا نموذج من تحليله:

هنا قصير المسرودية إلى (الحديث الفردي) يشكو فيه الرجل أحواله، وعذاباته؛ ثم يندلع (لحن) لناي رقيقٍ، وتندلع معه (أناشيد)؛ إذ يظهر (عازف الناي) ص46، وتصير المسرودية إلى (مكاشفات) جدّ صميميّة بين الرجل وبين عازف الناي؛ يث يسأل (عازف الناي) الرجل: من يكون؟. ومن أين هو؟. فيجيبه (الرجل) إنه فوق هذا الكوم من العتمة الذي يسمّى سفح الجبل، هو الآن. كلّ الأمكنة، والاتجاهات، والأين.. وإن كل شيء يتداخل، وإنه فاقد ومفقود، كما أنه في حالة بحثٍ، وخوف، ص49-50.

 

ثم خص «محاور الدلالة» بعنوان جزئي، واستعان بالمشترع الدلالي غريماس، وقد حددها الأخير بالرغبة والاتصال والمشاركة بين الأبطال لتحقيق هدف معين، ولكنه لم يجد في المسرحية إلا أمشاج أمرين: أحدهما مساعدة الرجل في استعادة ذاته، والثاني تفويت المطاردة للرجل على الدولة. ولعله من نافل القول أن نشير إلى التضييق على المسرحية تحت وطأة الارتهان للمناهج المجتلبة، فثمة استغراق في التحليل الألسني/ اللغوي في مستواه السطحي البسيط، كما في مثل هذا المقطع الجزئي الذي يحمل عنوان «المغالطات انتقاء فوق واقعي»، ولا يخفى الارتباك وقلق التعبير في صوغ العنوان أيضاً:

المغالطات انتقاء فوق واقعي

وفي الحقيقة أن مغالطات ممثل الدولة (رئيس المنصة) للأبطال الثلاثة، وتلبيسهم الجرائم تلبيساً شيء تعبيري تماماً؛ لأنه شيء غير طبيعي.. ولذلك يرجح أنه (انتقاء) فوق واقعي لزاوية، آثر المؤلف رسمها للدولة؛ وهي زاوية ممكنة التحقق، والحصول في الواقع..

فمثلاً، عندما يسأل ممثل الدولة (رئيس المنصة) الرجل، هل هو يعرف. (عازف الناي).. يقول له (الرجل): ـ كنت جثة سقطت، فحاول مساعدتي على استعادة صلتي بالعالم ـ، ص327.

 

فيقول (رئيس المنصة) لزميله: ـ سَجّلْ، ساعده على الهرب، وكان دليله في عملياته ضدّ أمن الدولة. ـ، ص327.

ثم يسأل ممثل الدولة (رئيس المنصة) الرجل: ـ وماذا أيضاً. ـ، فيجيبه (الرجل): ـ كان أحياناً أيضاً يعزف لي..، ص327.

فيقول (رئيس المنصة) لزميله: ـ سَجّلْ، كان يقوم بأعمال شيفرة، ويرسل رسائل على الشبابة. ـ، ص328.

ثم يسأله هل كان يعزف فقط، أم يقوم بالعزف، والغناء، ص329، فيجيب (الرجل) ـ عزف فقط‍‍!!.

فيقول (رئيس المنصة) لزميله: ـ سَجّلْ ذلك.. شيفرة لحن، دون كلام. ـ، ص329..

والأنكى من هذه المغالطات، إن (الرجل) عندما صار يتلكأ في الإجابة على أسئلة رئيس المنصة، يتهدده (رئيس المنصة) ويتهدد المرأة زوجته قائلاً:

- إذا لم يجد الأجوبة الملائمة فوراً، سوف يعرف كيف نعيد له الإحساس، والشعور بالخوف.. سنبدأ بك، ونصل إليه.. وعند ذلك سيفرد كالعليل. ـ، ص315.

 

هذا التحريف لصورة (الدولة) في المسرحية، وجعلها عدواً للأفراد عمل على التحولات (لأمشاج) محاور الدلالة، وتكييفها عند الأبطال (النظر بعد قليل)؛ وهو ما آثره المؤلف ليتسنى له رسم (مشهدية عامة) للاغتراب..

انطلق عدنان بن ذريل في نقده من مقدمة فكرية وفنية قابلة للرأي، ثم وسع تحليله الألسني إلى أمداء فكرية بما يشبه المغامرة النقدية، فقد أوجز موضوع المسرحية بإطلالة نقده، بينما يعمد النقد إلى مثل هذه الإطلالة على سبيل النتيجة إنه ولع ناقدنا بالاتجاهات النقدية الحديثة، فكأن نقده بعد ذلك تطبيق مبسط لهذا الاتجاه أو ذاك. لقد ذكر في مقدمته استخلاصاً ناجزاً لموضوع المسرحية، واستتبعه ببراهينه من خلال التحليل:

- تحولات عازف الناي ـ، للكاتب المسرحي النابه (علي عقلة عرسان) مسرحيةٌ ذهنيةٌ في (الاغتراب)، أو فقدان الذات؛ وخاصة من (الاغتراب الاجتماعي) الذي يصيب الإنسان نتيجة القهر السياسي؛ وقد عمل المؤلف على تنميط إبطاله فيها، فعمد إلى صيغة (الجلاّد والضحية)، جعلها وراءهم كضحايا لظلم الدولة، واستبدادها؛ فكانت الدولة هي (الجلاد)، وكان الأبطال هم (الضحايا)؛ وبذلك برزت في المسرحية تلقينات مختلفة، لازدواجيّات بليغة، ومعبّرة، مثل ازدواجيّة (الرمز والواقع)، أو ازدواجيّة (الواقع وما فوق الواقع)، نصادفها في تجارب هؤلاء الأبطال..

- تجميع مشاهد حياتية ـ

وليس في مسرحية: ـ تحولات عازف الناي ـ (درامية نضالية)، وبالتالي، ليس فيها (حبكة) سردية لتأزم أحوال تصير إلى حلٍ ملائم.. وإنما هي تقوم على (تجميع) مشاهد حياتية، عن الاغتراب، يعيشها الأبطال، ويحاولون تجاوزها، هي (ذروات وجودٍ، وفعلٍ)؛ إذْ يستمر (القهر السياسي) في المسرحية، وتستمر السلطة في مطاردتها لمناضل هارب؛ وتستطيع في النهاية  إلقاء القبض عليه، وعلى رفيقيه عازف الناي، والمرأة، وتسوقهم إلى المحاكمة، فالموت.. وذلك بالفعل مجتلى الأصالة؛ إذّ هو مجتلى تركيزٍ على قهرٍ سياسي يؤدّي إلى اغتراب اجتماعي، استطاعت المسرحية أن تقدم (مشهديةً عامةً) عنه.

 

ووضع ناقدنا للفصل الثاني عنواناً مثيراً، يكاد يتفق مع عنوان الفصل الأول، وهو «تجارب» الأبطال ومقولات المضامين» مما يشي بلفظية التحليل وشكلانيته وانغماره بالعلاقة اللغوية، فقد حكم على المسرحية بغلبة المباشرة، والعفوية، ليصبح محصول المسرودية «مجموع تلقينات اغترابية عن تجارب الأبطال الثلاثة: الرجل وعازف الناي والمرأة» (ص21).

 

وفصل هذه التلقينات الاغترابية بما يلي:

«الرجل: جسّد الجانب الجسدي والنفسي للاغتراب. وعازف الناي: جسّد الجانب الاجتماعي.. والمرأة: جسّدت التموضع بالمعنى الصحيح» (ص21).

لا تنتمي المسرحية إلى مستوى واقعي مباشر لاندغامها بمبنى رمزية تتيحه تعبيريتها ورؤيتها الوجدانية العميقة، وقد جاوز ناقدنا ثراء هذا المبنى الرمزي إلى واقعية مباشرة، واستدعى ذلك أنه جعل المسرحية ميداناً مباشراً لتطبيق أفكار فلسفية محددة، مثل «التموضع» عند هيجل و«الاغتراب الوجودي» عند كيركجورد كما في قوله:

المقولات الفكرية، وملامح المسرودية.

 

ومسرحية: ـ تحولات عازف الناي ـ، رغم أنها تهدف إلى رسم (مشهدية عامة) للاغتراب الاجتماعي، الذي سببه القهر السياسي؛ إلا أنها تقوم على (روحانية) صريحة، ظل الأبطال الثلاثة الرجل، وعازف الناي، والمرأة يعيشونها، ويلهجون بها.. وتشكل (الروحانية) مقولة أساسية في المسرحية، وشتى فترات المسرودية فيها؛ ولذلك ظلت مهيمنةً على سلوكات الأبطال، وأقوالهم، إلى جانب (المقولتين) الآخريين في المسرحية، المقولة الهيجلية، والمقولة الكيركجاردية..

أوغل ناقدنا في التحليل الشارع المبسط، وهذا جلي في الفصل الثالث: «البناء المسرحي: المكان والزمان»، وأوضح في شرحه للمكان على نحو خاص أنه موظف توظيفاً تعبيرياً، و«هذا الأمر هو الذي يسمح للمؤلف بتشغيل هذا التوظيف، في صالح التعبيرية والتلقين» (ص32). وربما لا يقصد ناقدنا من التعبيرية معناها الاصطلاحي، مكتفياً بالمعنى اللغوي أيضاً.

 

وثمة حيرة في التحليل بين مدار علاقة لغوية وعلاقة رمزية مجازية، تتبدى في نظرته للزمان على أنه «زمان فيزيائي» بينما عالجه واقعياً في الفصل الأول، ومرد هذا التداخل إلى ارتهان التحليل للاتجاهات الجديدة على نحو مطلق.

 

ويظهر هذا الارتهان في حديثه عن «المفردات والمصطلح» في الفصل الرابع، لأن اختياره للتحليل الألسني وميله العلاماتي يقرّب النقد من آلية علمية اختبارية، بينما تشير أوصاف اللغة والرأي فيها في ممارسته النقدية إلى مستوى إنشائي بسيط، ثم تأتي البرهنة عليه في المتن، وهذا هو دأبه، والأنسب هو العكس، وأن يستخلص الرأي من التحليل بعدئذ، كقوله:

(لغة) المسرودية، في مسرحية: ـ تحولات عازف الناي ـ تميزت بالرشاقة، والشفافية؛ فجاءت خطاباتها معبّرة، ودقيقة، ولا عجب. فنجاح (الخطاب) في تلاؤمه مع فحوى مضامينه، وخدمته إيصالها.. فكيف تكون الحال، والخطاب هنا (خطاب مسرحي) يعالج تجارب رهيفة وشائكة..

و(الخطاب) في مسرحية: ـ تحولات عازف الناي ـ خطاب استكشافي؛ وقد تميز بميزتين: (الحيوية)، و(الذكاء).. فهو من جهة، كله التوهج، والمباشرة، والعفوية، ومن جهة ثانية هو يحاول الكشف عن حقيقة (الاغتراب) في مشهدية عامة له..

رأى ناقدنا أن المسرودية استهلكت عدة مصطلحات فكرية وسلوكية، مثل الغربة والضياع والطبيعة والروح والحب والفرح واليأس والأمل وسواها، ثم حلل ثلاثة منها هي الغربة والضياع والفرح. وأحصى في الفصل الخامس «الأحاديث الفردية والأناشيد»، ويقصد بالأحاديث الفردية النجوى، وبلأناشيد ذلك النثر الفني الحياتي والتأملي، وهذه التعريفات متعسفة لا يتفق على حدودها بيسر.

وعالج ناقدنا «البلاغة والأسلوبية» في الفصل السادس، ضمن حدود بلاغية مباشرة مثل التشبيهات، بأدواتها: الكاف، وكما، وكهذا، وكذا، وكذلك، وهكذا، وكأن، وكأنما، ومثل، ومثلما، ومثل هذا، ومثلك، والاستعارات بوجوهها: التصريحية والمكنية واستعارة الإضافة، والإضافيات البسيطة والمركبة، والنعوت الرمزية، ثم انتقل إلى مستويات أعمق في حديثه عن الشكل والموضوع، والتوهج والانزياحات، ومستويات التجربة والتعبير.

وختم ناقدنا كتابه بفصل سابع «في تحليل الديباجة الكتابية»، وأراد من هذا المصطلح «الملاءمة بين السبك والمضمون في إيقاعية ظلت هي أيضاً ملاءمة لعرض مسرحي، يقوم على تجميع مشاهد عن الاغتراب وتحولاته» (ص93).

 

ولا يخفى أن المصطلح شائه الملامح،فهل صحيح أن المقصود من التحليل الألسني والأسلوبي هو إظهار الذبذبات الإبداعية في المسرودية، وانعكاساتها على لغة المسرحية وديباجتها كافة» (ص93).

 

يظهر هذا الكتاب ولع ناقد متمكن وراسخ بالاتجاهات الجديدة، وسعيه لتطبيقها على المبدعات الأدبية العربية، وكان تعامل منذ إقباله على النقد في الأربعينيات مع مناهج متعددة: الرمزية، الإتباعية، التحليل النفسي.. الخ. وما هذا الكتاب إلا اجتهاد يضاف إلى اجتهاداته الأخرى في تطبيق التحليل الألسني في ميله العلاماتي.

 

-5-

جاءت تسمية الكتاب «وجوه الماس» دالة ـ برأي مؤلفه ـ «على وجوه إبداعه في مختلف الأجناس الأدبية. ومن المعروف أن الماس DIAMOND حجر شفاف شديد الصلابة. وهو صورة من صور الكربون يشتد بريقه حين ينعكس الضوء عليه، ولهذا يُتخذ حلية وزينة. والماس ملك الأحجار الكريمة، وهو شديد اللمعان بحيث يستعمل في قطع الأحجار الكريمة الأخرى ويرمز الماس إلى عدم القابلية للفساد، وإلى الفكر المتحرر من كل إكراه» (ص ص5-6).

 

ووضع عزام كلمة مفتاحية لعلي عقلة عرسان تقول:

«الكلمة مصباح، فلنوقد ذلك المصباح» (ص9).

وجعل الفصل الأول مداراً لإيضاحات تمهيدية حول المنهج الموضوعاتي «الثيمي» في النقد الأدبي، واستعرض تجلياته عند غاستون باشلار وجان بيير ريشار وشارل مورون وجان بول فيبر، وانطلق في بحثه من مصطلحات هذا المنهج النقدي لدى نقاد آخرين، وهي:

 

1) هناك التباس بين (الموضوعية)، و(المواضيعية)، و(الموضوعاتية)، ذلك أن كلاً من هذه الألفاظ الثلاثة تدل على معنى محدد: فـ (الموضوعية) تدل على الموضوع OBJECT الفكري أو التأملي. وهي عكس (الذاتية). وقد اعتمدتها الدراسات النقدية التقليدية في بيان أفكارها الرئيسية، ثم أصبح منهجاً نقدياً مستقلاً في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين في بريطانيا وأمريكا، ومن أشهر رواده: أ.أ.رتشاردز، وت. س. إليوت، وكلينت بروكس (انظر كتابنا: المنهج الموضوعي في النقد الأدبي).

و(المواضيعية) نسبة غير موفقة إلى (الموضوع).

 

وأما (الموضوعاتية) فهي (الثيمية)، وتدل على (الموضوعات) الكامنة في الأثر الأدبي. و(الثيمة) THEME هي الجذر لهذه الموضوعات. وهذا الجذر يتصف بصفات محددة هي: القرابة السرية في العلاقات الخفية التي تنسجها عناصر (الموضوع)، والثبات الذي يعني أن الموضوع هو النقطة التي يتشكل حولها العالم الأدبي، والدينامية الداخلية في العلاقات الجدلية بين عناصر الموضوع وغيره من الموضوعات، في النص الأدبي.ومنعاً لهذا الالتباس بين هذه المصطلحات الثلاثة، فإننا نؤثر استخدام مصطلح الجذرية بمعنى الموضوعاتية (الثيمية).

 

2) استخدم مصطلح (الجذرية) من قبل النقاد الفرنسيين الذين بحثوا في شبكة الأفكار الملحّة في نصوص كاتب ما، بمعنى (الموضوع) الذي عالجه، أو (الفكرة) المسيطرة على كتاباته كلها. وقد انفرد بهذا المنهج الناقد الفرنسي المعاصر: جان بول فيبر، فوضع فيه كتابين: مجالات جذرية (1963م)، وستاندال: البنيات الجذرية في أدبه وحياته (1969م).

 

3) النقد الموضوعاتي (الثيمي) منهج نقدي، ظهر في الخمسينيات من القرن العشرين في النقد الفرنسي الذي تطوّر في ظل الألسنية والبنيوية، وحاول أن يحافظ على استقلاله تجاه المناهج النقدية التقليدية والحداثية.

والجذر (أو الثيمة) عند فيبر يعني موقفاً أو حادثاً معيناً، يظهر بصورة شعورية أو لا شعورية، في أثر من آثار الكاتب، أو في مجموعة آثاره الأدبية، إما بصورة رمزية، أو بصورة واضحة.

 

وأوضح عزام أن النقد الموضوعايت عني بتيارين فكريين، هما الألسنية والتحليل النفسي، رفدا بمصطلحاتهما، كما تأثر بالشكليين الفرنسيين، وبين تطوره لدى بعض أعلامه الفرنسيين، وعرف بجهد ناقد عربي هو عبد الكريم حسن (سورية)، عني بهذا المنهج، في كتابه «الموضوعية البنيوية» (1983م) بخاصة. ثم عقد العزم على تطبيق هذا المنهج على نتاج عرسان، ليتجلى «في استعراض هذا النتاج، كل جنس على حدة، واستنباط الجذر التي تدور حولها الموضوعات والمضامين، وبيان أسبابها التي دفعت إلى التركيز عليها» (ص34).

عالج عزام في الفصل الثاني «عرسان مسرحياً»، وكانت المسرحيات هي:

1- الشيخ والطريق.

2- زوار الليل.

3- الفلسطينيات.

4- الغرباء.

5- السجين رقم 95.

6- رضا قيصر.

7- عراضة الخصوم.

8- الأقنعة.

9- تحولات عازف الناي.

وأغفل مسرحياته القصيرة الأولى، ورأى أن مسرحياته «جميعها تدور حول جذر «ثيمة» واحد هو الظلم الواقع على المواطن والوطن ففي مسرحيته «الشيخ والطريق» يصوّر (الظلم) الواقع على الفقراء من قبل الأغنياء. وفي مسرحيته (زوّار الليل) يصوّر (الظلم) الذي أوقعه فتى بفتاة عندما أغراها بمعسول الكلام حتى استكانت له، فافترسها، ثم هرب عنها، تاركاً إياها تواجه وحدها مصيرها الفاجع. وفي مسرحيته (الفلسطينيات) و(الغرباء) يصوّر (الظلم) الذي وقع على السكان العرب. وفي (السجين 95) يصوّر الصراع على السلطة بين المسؤولين، والظلم الواقع على المواطنين. وفي مسرحيته (رضا قيصر) و(تحوّلات عازف الناي) يصوّر علاقة الفنان بالسلطة، و(ظلم) هذه السلطة له، من أجل أن يظل يسبّح بحمدها صباح مساء. وفي مسرحيته (الأقنعة) يصوّر (الظلم) الذي يقع على كاهل جندي عاد من الحرب فوجد الفساد قد عمّ مجتمعه، ووصل إلى  زوجته وبيته.

وأطلق حكماً لا يوافي طبيعة البناء المسرحي عند عرسان، إذ عده كاتباً تقليدياً واقعياً، وليس الحال كذلك، فهو كاتب تعبيري بالدرجة الأولى، يستخدم أمشاجاً رومانسية حيناً، ورمزية حيناً آخر، وواقعية قليلاً حيناً ثالثاً. ثم حلل المسرحيات، واحدة واحدة ليصل إلى جذورها «ثيماتها» العميقة، كما في هذه الاستخلاصات الموجزة:

 

الشيخ والطريق:

والجذر (الثيمة) الأسايس في المسرحية هو تصوير (الظلم) والقمع، في مجتمع طبقي لا ينال فيه الفقراء شيئاً رغم أنهم يعملون ليل نهار، وينال فيه الأغنياء كل شيء رغم أنهم لا يعرقون ولا يتعبون.

 

زوار الليل:

إن (الظلم) هو الجذر (الثيمة) الأساسي في المسرحية: ظلم المجتمع لهند، وظلم حبيبها لها، وظلمه لزوجته سعاد، وظلم سعاد له، وظلم هند لجنينها... والواقع أن هذا الحل (المثالي) ليس مناسباً لقضية اجتماعية ما تزال موجودة في أريافنا ومجتمعاتنا. ولكنه يظل عقاباً وتكفيراً عن ذنب اقترفه صاحبه، واعترافاً بأن الضمير لم يمت عند بعضهم بعد.

 

الفلسطينيات:

وبالطبع فإن الجذر (الثيمة) الأساسي في هذه المسرحية هو أيضاً (الظلم) الذي مارسه اليهود والإنكليز والقيادات العربية على الفلسطينيين.

 

الغرباء:

ومع ذلك فإن  مسرحية (الغرباء) تظل مسرحية جادة. صحيح أنها قالت ما هو معروف تماماً، ولكنها عبّرت عنه من خلال غلالة الرمز الشفاف الذي منحها بعداً فنياً وجمالياً.

 

وواضح أن (الظلم) هو الجذر (الثيمة) الأساسي في المسرحية: ظلم جماعة أبي داود للفلسطينيين.

 

السجين رقم 95:

وواضح أن الجذر (الثيمة) الأساسي في هذه المسرحية هو (الظلم) الواقع على المواطن. ظلم السلطة الطاغية، سواء كانت (ثابتاً) أم (مثبوتاً).

رضا قيصر:

والواقع أنه لم يكتب في المسرح العربي ـ إلا ما ندر ـ مسرحية بمثل هذه القوة في تصوير قمع السلطة للأدباء والكتّاب، ذلك أنه لا يمكن للكاتب أن يكون صادقاً مع نفسه، مؤثراً في مجتمعه، دافعاً إياه نحو الأفضل، دون أن يثير غضب السلطة.

 

عراضة الخصوم:

أما الجذر (الثيمة) الأساسي في المسرحية فهو (الظلم) الذي وقع على أم الشهيد (أم سليم) من قبل مجتمعها عندما اسشهد ابنها، ومن قبل أدعياء الوطنية والنضال. و(الظلم) الذي وقع على الوطنيين الشرفاء من قبل المتاجرين بالوطنية والسياسة.

 

الأقنعة:

ولكن كيف يستطيع مقاومة الفساد وهو إطار عام أكبر منه ومن الفرد بشكل عام. وصحيح أن الفساد كان محصلة لتحوّل المجتمع نحو الاستهلاك. ولكن الذي استفاد من ترويج شعارات الاستهلاك واقتصاد السوق هي البورجوازيات المتاجرة بكل شيء حتى بالقيم؟.

أما العودة إلى (الأصالة) فهي دعوة مشروعة ما دامت حداثة الأيديولوجيات التي غزتنا طويلاً قد تهاوت وسقطت حتى على الصعيد العالمي. وما دامت حداثة الغرب الليبرالي ما تزال تفتك يومياً بالملايين من الشعوب المقهورة.

 

تحولات عازف الناي:

ولا شك أن (الثيمة) التي استبطنت أغوار الكاتب هي (الغربة): غربة (الرجل) عن مجتمعه، ومدينته، وحتى عن نفسه، وغربة (المرأة) عن زوجها ومدينتها، وغربة (العازف) عن الآخرين وحياتهم. ثم غربة هؤلاء في مجتمع القهر والطغيان، مما جعلهم يهربون من مدينة الفساد والقهر إلى أحضان الطبيعة، بعد أن أصبحت القيم النبيلة جرائم يعاقب عليها الطغاة.

 

أما سبب الغربة فهو العسف والقمع السلطوي الذي يمارس على المواطنين. وأما نتيجة هذه الغربة فهو المزيد من التمسك بالحق والعدل والخير والمعرفة في عالم انعدمت فيه هذه القيم النبيلة.

 

ومن الواضح، أن عزام قد ضيق المنهج الموضوعي إلى حدود استنباط جذر واحد أو رئيس لكّل مسرحية، على أنه لم يفعل ذلك في تحليل المسرحيات جميعها، فقد نأت «رضا قيصر» عن الموضوع الرئيس لتحليله، وهذا هو حال التعسف في التحليل أو تضييقه لحدود شكلية، مثلما فهم عزام المنهج الموضوعي، بيد أن تجليات هذا المنهج في النقد الأنجلوسكسوني بعيدة عن الشكلية، وأكثر عناية بالموضوعات والصوغ الفني لها من خلال معايير أكثر دقة، كما هو الحال عند ف. ر. ليفز ومن ذكرهم عزام نفسه أمثال أ. أ. ريتشاردز وت. س. اليوت وكلينث بروكس.

وخصص عزام الفصل الثالث لعرسان منظراً مسرحياً، من خلال كتبه الثلاثة:

1- سياسة في المسرح.

2- الظواهر المسرحية عند العرب.

3- وقفات مع المسرح العربي.

وقد اكتفى عزام بعرض بعض أبحاث الكتاب الأول دون تحليل أو التزام بمنهج موضوعي وسواه، أما الرأي الختامي الوحيد فهو: «والواقع أن الباحث عرسان قد استطاع أن يجمع في كتابه هذا قمم المسرح العالمي مكتفياً بقمة واحدة تمثل بلاداً أو مذهباً أدبياً. والمطلوب هو وضع كتاب مثيل له عن المسرح العربي» (ص117).

ما فعله عزام في هذا الفصل هو الشرح والتلخيص، وكذلك فعل في عرض كتابيه الثاني والثالث، فليس ينفع أن يصف الكتاب الثاني بأنه هام (ص139)، وليس صحيحاً أن منهج عرسان في كتابه الثالث هو الحديث عن حياة كل علم من أعلام المسرح العربي، ثم الحديث عن أعمالهم المسرحية. «أما مشكلات المسرح وقضاياه فقد استأثرت بجهوده لأنه عاد فيها إلى مصادرها الأساسية» (ص146).

 

ومن المستغرب أن يعد مثل هذا الحديث منهجاً، ناهيك أن منهج عرسان بعيد عن مثل هذا التبسيط، لأنه منهج تقويمي يعالج الظاهرة الفنية في سياقها التاريخي العام وسياقها الفني الخاص.

 

ولعل عزام لا يجد نفسه في نقد المسرح، لأن الفصل الرابع «علي عقلة عرسان شاعراً» يحفل بثراء التحليل للبنى الشعرية عند عرسان في ديوانيه «شاطئ الغربة» و«تراتيل الغربة»: البنية السطحية، والبنية التشكيلية، والبنية العميقة، والبنية الجذرية (الثيمية)، حتى صار هذا التحليل الثري إلى متعة ذوقية وفكرية في مستوياته المتعددة، ولا سيما تحليله لجذر الغربة، وتشير خاتمة تحليله إلى خلاصة رأيه:

وهكذا تعددت أنواع الغربة عند الشاعر عرسان، وأسبابها: فمن غربة ذاتية، إلى غربة اجتماعية، وسياسية، وكلها مما يزيد في حزن الشاعر وأساه. ويجعل (الغربة) سيفاً مصلتاً على الضمير والعنق، وجذراً (ثيمة) مركزياً وأساسياً في شعره.

 

ونوّع عزام تقانات التحليل وإجراءات النقد إلى أبعد من المنهج الموضوعي في الفصل الخامس «علي عقلة عرسان روائياً»، وهو مخصص لدراسة روايته الوحيدة «صخرة الجولان»، إذ شرح رواية تيار الوعي، وأوضح تكون مصطلحها وفرسانها وجذورها وتقنيتها، ثم حلل رواية عرسان من جوانب مختلفة:

1- المونولوج الداخلي.

2- الإحساس بالزمان.

3- البنية الروائية.

4- الشعرية والصور البلاغية.

5- الجذر الدلالي (الثيمة).

ولربما كان هذا الفصل، بالإضافة إلى الفصل السابق عن شعر عرسان، مما يميز هذا الكتاب في مقاربة موضوعية لإبداع عرسان، ومما يجعل استخلاصاته النقدية ملائمة لأطروحته المركزية:

وهكذا نجد أن الجذر الدلالي (أو الثيمة الأساسية) في هذه الرواية هو الظلم الذي يؤدي إلى الغربة: الظلم الاجتماعي الذي تعيشه الطبقة الفقيرة، وتمارسه عليها الطبقات الغنية. والغربة عن الأهل، وعن الوطن. ومن خلال هذين الجذرين تعرّض الكاتب للفوارق الطبقية، مصوّر إياها على حقيقتها، وواقفاً إلى جانب المقهورين والمظلومين ضد الظالمين والطغاة.

وخصص عزام الفصل السادس لعلي عقلة عرسان مثقفاً، وتناول فيه كتبه:

1- دراسات في الثقافة العربية.

2- آراء.. ومواقف.

3- أيام في شرق آسيا.

4- العار والكارثة.

5- المثقف العربي والمتغيرات.

وعمد فيه إلى تلخيص هذه الكتب وعرضها، ولا أعتقد أن التلخيص والعرض بنافع، لأنها كتب جدالية في أدق القضايا العربية الراهنة وأكثرها خطورة.

 

وعلى العموم، يظل هذا الكتاب تعبيراً ساطعاً عن تعامل النقد مع أدب عرسان بمناهجه الجديدة، ويشير في الوقت نفسه إلى ناقد خبير متذوق يكشف بناء المسرحية وخطابها الفكري والفني بلغة نقدية بصيرة وثاقبة على الرغم مما شاب التطبيق من شوائب الارتهان لهذه الاتجاهات الجديدة.

 

ويستخدم محمد عزام في كتابه المذكور منهجاً حديثاً أيضاً هو المنهج البنيوي الذي سماه «المنهج الموضوعاتي/ الثيمي» مستهدياً بأعمال نقاد أمثال غاستون باشلار وجان بيير ريشار وشارل مورون وجان بول فيبر، وهو منهج يستعين بالألسنية والتحليل النفسي والشكلانية الروسية أيضاً. وتكمن أهمية الكتاب في أنه تعريفي جامع لوجوه إبداع عرسان ومكانته الأدبية وفعاليته الثقافية، بل إنه الكتاب النقدي الأول شمولية وعمقاً. يلتزم الناقد بالمنهج الموضوعاتي مع ميل لا يخفى إلى البنيوية والشكلانية الألسنية، لمناسبة هذا المنهج في إظهار مكامن الإبداع عند عرسان، إذ اتجه أدبه غالباً إلى التعبير القيمي والموضوعي عن القضايا القومية والإنسانية والأخلاقية ومآلها في المصير الإنساني والعربي.

 

وزع عزام كتابه إلى فصول تدرس فعالية عرسان وأدبه وفكره، وهي:

المنهج الموضوعاتي «الثيمي» في النقد الأدبي.

علي عقلة عرسان مسرحياً.

علي عقلة عرسان منظراً مسرحياً.

علي عقلة عرسان شاعراً.

علي عقلة عرسان روائياً.

علي عقلة عرسان مثقفاً.

ومن هذا الباب، يعد كتاب عزام مرجعاً متقصياً لفكرعرسان وإبداعه بتدقيق واختزال لا يضعف مدى التعريف النقدي، فيأتي الناقد كثيراً في الإحاطة بجوانب الإبداع العرساني، شارحاً وناقداً للطوابع الأساسية في فنه وتفكيره الأدبي.

إن هذا الكتاب النقدي هام من وجوه متعددة، فهو جهد كبير لناقد جاد متتبع ودؤوب، وهو مرجع لا غنى عنه عن أدب كاتب فاعل في الحياة الثقافية العربية الحديثة، وهو أنموذج نقدي يبين، متعاضداً مع كتاب ابن ذريل الثاني، ما آل إليه النقد الخاص بعرسان من مقاربة منهجية موضوعية تسعى تجربته الفكرية والفنية العريضة.

 

8

المثاقفة الحضارية المسرحية:

انطونيو بويرو باييخو وسعد الله ونوس نموذجاً

يتناول هذا البحث المثاقفة الحضارية المسرحية الإسبانية ـ العربية عن طريق النقل والتناص، للبرهنة على فاعلية النص المسرحي في تحقق هذه المثاقفة، ويحاول أن يضع بعض الممهدات مثل محاولة تحديد مفهوم المثاقفة الحضارية إزاء ما يجاوره من مفاهيم مثل المثاقفة والمثاقفة المعكوسة من جهة، والمؤثرات الأجنبية والمكونات الموروثة من التقاليد الثقافية القومية من جهة ثانية، ووعي الذات والآخر من جهة ثالثة، وقد أظهر البحث تطور هذا المفهوم إلى المثاقفة الحضارية التي تعترف بطرفي التثاقف: الثقافات الغربية والثقافة العربية. وينتقل إلى ممهدات أخرى تتصل بالنموذج المدروس، فيؤطر المثاقفة الحضارية المسرحية، لاختلاف النظر إلى هذا الفن تقليدياً أم حديثاً أم مستحدثاً في الثقافة العربية المكتوبة والتقليدية أو الشفاهية والشعبية، أو الثقافة العربية الحديثة واعتمالها بأشكال الاغتراب والاستلاب والاستتباع لمركز الآخر المهيمن، ويتوقف عند المثاقفة العربية ـ الإسبانية الموغلة في القدم، ويشير إلى مكانة المسرح الإسباني في هذه المثاقفة الحضارية، من خلال تجربتها الخاصة في سورية، فلطالما عني المسرحيون، مؤلفين ومخرجين، على إنتاج المسرح الإسباني أو إعادة إنتاجه، وبخاصة تجربة المبدع الكبير علي عقلة عرسان الذي أخرج عدة مسرحيات إسبانية وفق رؤيته الفكرية والفنية. ويصدر الباحث عن معايشة دؤوبة لهذه المثاقفة الحضارية المسرحية الإسبانية ـ العربية في سورية، من خلال متابعتها بالنقد خلال العقود الأربعة الأخيرة.

 

ويعاين البحث نموذج المثاقفة الحضارية لدى أنطونيو بويرو باييخو وسعدالله ونوس في مسرحيتين محددتين هما «القصة المزدوجة للدكتور بالمي» (1968) و«الاغتصاب» (1989)، ويؤشر إلى ظاهرة جلية في مسرح ونوس هي اعتماده الكلي على النقل أو التناص، على أنه يثمّر هذا النقل أو التناص معالجة فكرية وفنية تتيح لنصوصه رؤية إبداعية غالباً، وقد ألمح البحث إلى مصادر النقل أو التناص في جلّ مسرحياته.

 

ويعرّف البحث بباييخو ومسرحه ومسرحيته، وأهمية هذا المسرح في المثاقفة الحضارية لثراء رؤاه في وعي التاريخ الحضاري ومعنى الوجود والتبصير بالمصائر الإنسانية. ويحلل البحث مسرحيتي باييخو وونوس توصيفاً وإضاءة لمطاويهما وبناهما الجمالية والدلالية.

 

ويفرد البحث حيزاً واسعاً لتفصيل القول في أشكال النقل والتناص بين المسرحيتين، ولاسيما الموضوع والموضوع الواقعي والمبنى الرمزي والأحداث والوقائع والأقوال، ويورد بعض الملاحظات العامة. ويختتم البحث بذكر خلاصته.

 

1- نحو مفهوم للمثاقفة الحضارية:

تعني «المثاقفة»، فيما تعنيه، التفاعل وتبادل التأثير والتحاور والتواصل في ميلاين الثقافة والاتصال، فظهرت مفاهيم متعددة لها تاريخياً ووظيفياً، إذ يعسر النظر إليها معزولة عن سياقها التاريخي ودلالاتها الوظيفية كالقصدية بدوافع تبشيرية أو عقائدية أو غير القصدية مما ينغمر به المنتج الثقافي بتأثير فضاء ثقافة أو ثقافات أخرى، ويصعب في هذه الحال أن يؤطر مفهوم «المثاقفة» دون جواره من مفاهيم تتداخل معه إلى حدّ التمازج المطلق مثل التبعية والاستعلاء والاغتراب والغزو والهيمنة والعولمة.

 

لقد نُظر إلى «المثاقفة» في مراحل نشوء المصطلح الأولى على أنها تأثير ثقافة غازية قاهرة قوية في ثقافة مغزوة مقهورة وضعيفة، وكان ذلك التوصيف أقرب إلى وضع الثقافة العربية المستلبة والمقهورة والضعيفة أمام الثقافة الغريبة المستعمرة والقاهرة، فُرهن نشوء المنتج الثقافي العربي بالغرب وبالتقليد الغربي، وإذا كان المسرح أو الظواهر المسرحية العربية أو المسرحةِ بذاتها شاحبة الظهور دون التعبير الديني أو الشعبي الشفاهي والمسموع( )، فإن القصة، وهي فنّ عربي عريق ضارب الجذور في الثقافة العربية، عُدت تقليداً للغرب أو هي نتاج المؤثرات الأجنبية الغربية بصريح العبارة، وشاعت في النقد الأدبي والمؤسسات التربوية والتعليمية العبارات التي تقايس الأعمال الأدبية في اكتسابها لمشروعيتها الفنية وفق المعايير الغربية، فكانت رواية «زينب» (1914)، على سبيل المثال، أول رواية فنية بالمعيار الغربي، ثم تلمس الباحثون والنقاد العرب في كلّ قطر عربي رواية تنطبق عليها هذه المعايير لتغدو رواية فنية( ).

 

ثم انتعش مفهوم «المثاقفة»، واكتسب أبعاداً جديدة مع التعويل على الثقافة في عمليات صراع الأفكار أثناء الحرب الباردة، وصارت الورة واضحة في احتوائها لثنائيات مفرطة في تعبيرها عن الصدام أو الصدمة مثل تهميش الثقافة العربية في ثنائية المركز والأطراف، ومثل نفي الثقافة العربية أو تشويهها في ثنائية الذات والآخر، ولعلنا لا نستطيع أن ندرس تجليات المثاقفة في الأدب العربي الحديث بريئة من هذه الأبعاد القصدية أو غير القصدية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إذ بدأت صارخة سلبية فيما بعد الحرب العالمية الثانية في ظل الاستقطاب العالمي لقطبي الصراع بين الاتحاد السوفييتي في النظرية الماركسية اللينيية (والستالينية أحياناً، كم هو عدد القصائد والنصوص العربية التي مدح أصحابها ستالين؟!) ومذهب الواقعية الاشتراكية، والولايات المتحدة في النظرية الليبرالية ولوازمها المتعددة (ألم تدخل منظمة حرية الثقافة التابعة للمخابرات المركزية الأمريكية في توجيه مسارات الأدب العربي الحديث منذ ستينينات القرن العشرين على نحو صريح ومباشر مع مجلة «حوار» إلى الأشكال الأخرى الكثيرة غير الصريحة والمباشرة المستمرة إلى يومنا هذا؟!)( ).

 

ولما كانت «المثاقفة» بالنسبة للثقافة العربية سلبية واستلابية لتعبيرها عن أبعاد الاستتباع ونفي الهوية وإلغاء الخصائص الثقافية وتهميش التقاليد القومية في الفكر والأدب، فإن المناهضين للهيمنة الغربية ودعاة الهوية القومية في الأدب العربي الحديث وجدوا في مصطلح «المثاقفة المعكوسة» إيجابية واعترافاً بمكانة الثقافة العربية والأدب العربي في تراث الإنسانية، فانتشر الحديث عن مؤثرات عربية في الثقافة الغربية، رافقت النهضة الأوروبية، وأسهمت فيها، ولم تقتصر هذه المؤثرات على الأدب وحده، بل كان الإسلام في قلب هذه المؤثرات أيضاً( ). ولربما كانت إشارة المستعربة الألمانية روتراود فيلاندت تعبيراً عن منعطف درس «المثاقفة» و«المثاقفة المعكوسة» إلى مفهومها الجديد الذي يتشكل بقوة في مفهوم «المثاقفة الحضارية» بنفي الاستتباع والإقرار بالحوار الحضاري، فقد ختمت بحثها عن «صورة الأوروبيين في أدب المسرح والقصة العربي الحديث» بالعبارة التالية:

«وإذا أراد الأوروبيون جدياً أن يضعوا أساساً سليماً للتفاهم مع العرب في المستقبل، فعليهم أن يكفوا نهائياً عن التكبر السياسي والاستعلاء الثقافي، وكلاهما فيما مضى ركيزة الاستعمار الحديث»( ).

 

ولعلنا نلاحظ أن مفهوم «المثاقفة الحضارية» تشكل خلال العقدين الأخيرين موازياً لأطروحة «حوار الحضارات» بديلاً عن السعي المحموم للمتسيدين على قوى العولمة في مآل الاستتباع الأخير، وهي اتصالية ومعلوماتية وتقنية بالدرجة الأولى، والداغين إلى «صراع الحضارات»، وهي في جوهرها مناهضة للعروبة والإسلام. و«المثاقفة الحضارية»  بالنظر إلى التطور التاريخي والوظيفي تفيد تبادل التأثير بين ثقافة وأخرى على أن تراث الإنسانية مشترك بين الشعوب جميعها، وهذا ما جعل خلدون الشمعة يعرّف المثاقفة بأنها «استحواذ فرد أو جماعة على خصائص حضارية من خلال الاتصال الثقافي المباشر والتفاعل الذي يعقبهُ. وأما عناصرها فتشتمل على القيم والتقنيات والاستراتيجيات النصية والتعديلات التي تطرأ عليها، عندما توضع في سياق تجربة حضارية مغايرة»( ).

 

وبهذا المعنى، يغدو مفهوم «المثاقفة الحضارية» تفاعلاً ثقافياً ناهضاً على الحوار والتواصل القيمي والفكري خدمةً للتفاهم والتقدم والعمران البشري.

 

2- المثاقفة الحضارية المسرحية:

نظر إلى المسرح العربي الحديث على أنه تقليد غربي، بينما كانت نهضته الأولى مع رواده، القباني والنقاش وصنوع، تركيباً من المعمار الغربي وتقاليد الفرجة والمشهدية والاحتفالية الحكائية العربية، ولا يماري أحد اليوم في أن المسرح كلّه، من الهند ومصر القديمة إلى اليونان والرومان، قد خرج من الشعائر والطقوس الدينية، وتختلف هذه التقاليد من تجربة قومية وشعبية إلى أخرى. وهذا ما دفع النقاد والباحثون العرب المعنيون بالهوية القومية إلى تمحيص هذا التركيب لتحديد المكونات التراثية والمؤثرات الأجنبية في مراحل تشكل المسرح العربي، وهو ما سميته حتى ستينيات القرن العشرين «بالتأسيس»( )، ثم شرعوا بدرس السمة الأبرز في تعضيد حركات التأسيس المسرحي، وأعني به التأصيل في الممارسة المسرحية من جهة، وفي التأليف المسرحي من جهة أخرى، فتعددت التجارب، واغتنت بالتقاليد الأدبية والفنية العربية. وقد أنكر الكثير من المسرحيين معرفة العرب بهذا الفن المحدث حسب متواتر وصفهم لهم، بل إن صلاح عبد الصبور دعا إلى مجاوزة هذه الإشكالية: التقليد والتأصيل، والإبداع من الإنجاز المسرحي الغربي والراهن، فكانت مسرحياته شروعاً في المثاقفة الحضارية بأكمل تجلياتها الغربية «مأساة الحلاج»، و«مقتلة في الكاثدرائية» لاليوت، و«مسافر ليل» ومسرح العبث.. الخ.

 

بينما عمد كثيرون في الوقت نفسه إلى ابتعاث التقليد المسرحي العربي في شغلهم، وغلب على هذا الشغل اتجاهات الأول مسرحة الموروث مثلما فعل الطيب الصديقي وقاسم محمد، وعبد الكريم برشيد الذي أدغم مسرحة الموروث بمذهبه الخاص: الاحتفالية والثاني هو التأصيل بالمضي في التركيب الذي اجترحه الرواد كما هو الحال عند الفريد فرج وعز الدين المدني وسعد الله ونوس، فقد يعنى التأصيل بالاستفادة من تقليد بعينه، الحكائية أو الفرجة أو المشهدية أو الموروث الأدبي أو التاريخي متعاضداً مع المعمار الغربي.

 

وقد اتسعت عمليات التأصيل، وتعددت أشكالها، وبات تعبيرها عن مسعى الهوية وشجونها ومشكلاتها واضحاً( ).

 

3- المثاقفة الحضارية المسرحية الإسبانية:

تحتفظ المثاقفة الحضارية الإسبانية موقعاً خاصاً في الثقافة العربية الحديثة بالنظر إلى تاريخية هذه العلائق التي رسخت تجربة أندلسية كثيفة الحضور في الثقافتين، وما تزال مستمرة على أكثر من صعيد، فكتب خيسوس رويو ساليد عام 1990م عن «الأسطورة الإسلامية في إسبانيا بعد خروج المسلمين منها»، وختم بحثه بكلمات الشاعر مانويل ماتشادو في قصيدته «أشجار الدفلى» عن حضور شخصية العربي الإسباني، ولا سيما الأندلسي على مر الزمان والقرون:

«روحي من طيب ذاك العربي الأندلسي»( ).

استقبل العرب الأدب الإسباني بعد الحرب العالمية الثانية على نحو منهجي تعريفاً كما هو الحال في تعريب بهيج شعبان لكتاب جان كامب «الأدب الإسباني»( )، الذي تلاه تعريب عشرات الكتب والأعمال الأدبية الإسبانية، وعلى رأسها تعريب عبد الرحمن بدوي (1957م) للملحمة العظيمة «دون كيشوت» لسرفنتس (1547) ثم عُربت أهم الأعمال المسرحية الإسبانية، ولاسيما مسرحيات للوب دي فيغا (1562-1635م) وكالديرون (1600-1681) وخوسيه اتشيغاراي (1832-1916م) وميكائيل دي اونامونو (1864-1936م) ورامون دلفال ـ انكلان (1869-1936م)، وفدريكوغارسيا لوركا (1898-1936م)، وبينا بينتي (1866-1954م) واليخاندرو كاسونا (1903-       م) والفونسو شاستري (         -         م) وانريكي خارديل بوثيلا (1901-1952م) وانطونيو بويرو باييخو.

 

يقرّ غالبية الباحثين الإسبان والعرب المختصين بالثقافة الإسبانية بالمثاقفة الحضارية الإسبانية ـ العربية منذ قيام الحكم العربي في الأندلس إلى يومنا هذا، وحوى كتاب «الثقافة العربية ـ الإسبانية عبر التاريخ» على أكثر من خمسة وعشرين بحثاً حول استمرار هذه المثاقفة، فكتب على سبيل المثال مرثيلينو بيليغاس عن «شخصيات عربية في الأدب القروسطي الإسباني» وكتب محمد اليعلاوي عن «روايات خوان غويتسولو المغربية»، وعبد الله حمادي عن «الحضور العربي في رواية «المقبرة» للروائي الإسباني غويتيسولو»، وقد عدّ أدب هذا الروائي مثل أدب آخرين تمثيلاً لإشكالية التقاطع الحضاري، فاضطلع بحضور كوني للمثاقفة الحضارية العربية ـ الإسبانية في مغامرته الأدبية مما يؤدي عنده إلى «إفراز إبداعي من نوع جديد، وبهذا يكون المسعى الفني والإنساني، مع التشكيل اللغوي الجديد الموافق لتلك اللحظة بمثابة التأسيس لتجليات أو تقليعات جديدة وخاصة إذا كانت دعامة مثل هذه التطلعات هي هاجس العودة إلى الأصول، أو إلى الشفهية كذاكرة جماعية أو كأحد حراسي الإقلاع صوب تلك الأناشيد الإنسانية الكبرى التي بُصمت بمسحة الديمومة وأبدية المعاصرة»( ).

 

وقدم المسرح الإسباني في تجارب عدد من المبدعين في المسرح السوري، واقتصر في هذا المقام على الإشارة إلى تجربة المخرج والمؤلف المبدع علي عقلة عرسان الذي أخرج خلال عقد من الزمن مسرحيتين إسبانيتين على خشبة «المسرح القومي» في سورية، هما «المدنسة» لبينا بنيتي عام 1969م، و«الأشجار تموت واقفة» لاليخاندور كاسونا عام 1976م.

 

وقد اختار عرسان المسرحيتين لبعدهما الإنساني والأخلاقي العميق، ولعلي اختار شيئاً مما كتبته عن عرضي المسرحيتين في حينه لتبيان دلالة المثاقفة الحضارية المسرحية الإسبانية في هذه التجربة، ومما لا يخفى أن اختيار عرسان للمسرحيات التي يخرجها ينطوي على معنى فكري وفني، لأنه مخرج فنان صاحب رؤيا، وهذه المسرحيات تندرج في صوغ هذه الرؤيا، وقد أجرى على هاتين المسرحيتين بعض التعديلات المناسبة لتجربته.

 

ولعلي أذكر قبل اقتطاع شيء مما كتبته لدى عرض المسرحية أن عرسان اختار مسرحية بينا بينتي (جائزة نوبل للآداب 1922م) بالنظر إلى أخلاقيات الكاتب واستقلاله الفكري:

«كتب بيناينتي سيلاً من المسرحيات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.. «عش الآخرين» أو «ناس معروفون» و«ليلة السبت» و«السيدة» و«الدنيا مصالح» و«بيبا دونثيل» و«المدنسة» وغيرها، ولكنه في مسرحياته كلها كان كاتباً أخلاقياً من نوع ما، فقد بدا هازئاً من الدين، ساخراً من ظواهر الحياة الاجتماعية، وكانت العلاقات بين الناس ليست سوى مقالب.. قد تقطع البطن، وقد تبعث على الضحك، وانتهى واعظاً ذلك الوعظ الحزين الذي نجد مثاله في الكتاب القديم. فلم تظهر في كتاباته ما نسميه بروح العصر، فعلى الرغم من التيارات الكثيرة والجديدة التي رافق ظهورها سير حياته، لم يتأثر بها من قريب إلا البعيد الذي يخطر على البال كآخر من يضحك، فيكون ضحكه كثيراً، يثير الفزع والخضية، والتجمد في الرؤيا، والاكتفاء بما يمكن أن يكون. والمدنسة في النهاية عرض مسرحي ظل محافظاً على رؤى كاتبه الليبرالية»( ).

 

أما مسرحية «الأشجار تموت واقفة» فكانت ذروة متألقة في بعث معناها الإنساني والقيمي والأخلاقي:

«تفضي «الأشجار تموت واقفة» في دفاع ماجد عن كرامة الإنسان إلى خلاصة مفادها أن السوء يمكن أن يهزم، وأن الخير كل الخير في إدراك العلاقة، ما دامت الحياة، مثل الفن تماماً علاقة، وقد قالت الجدة «ايوخينيا» بصراحة لا يعوزها الإعلان إن الحياة مسألة احتمال في مواجهة الفكرة حيث تغدو مجابهة أو لا مجابهة. وهكذا دافعت الجدة عن آلامها المبرحة في وجه الظلم المستشري داخل الروح القذرة. أما ما تعنيه الروح فهو تأكيد علي عقلة عرسان المخرج (عن نص اليخاندرو كاسونا) المستمر على انتهاك القيم النبيلة، مادة خلاص البشر، بدأب وإخلاص لا يعرفان الكلل، ولا نغفل هنا جانباً سياسياً ساطعاً في موقفه الأخلاقي ـ أن صح التعبير. وقد تعاور على هذا الموضوع منذ زمن تأليفاً وإخراجاً ونقداً في سلسلة أعماله حتى الآن.

 

ومن أتيحت له فرصة متابعة هذه الأعمال فقد تعرف على مدى حساسيته لمحنة القيم النبيلة في التعامل مع الظرف التاريخي، وخصوصاً في عروض صراع الأسطورة (أوديب ـ اتنيجون) أو المأثورات الشعبية (العنب الحامض ـ المدنسة) أو الأمثولة في إطار الانتقال من التخصيص إلى التعميم (زيارة السيدة العجوز) أو دراسة المصائر الفردية (الملك لير). وإذا كان قد أخضع تأليفه المسرحي لنبض المتغيرات والسياسية منها على وجه الخصوص، فإنه توسل المباشرة خلل الرمز والمرموز له في «الغرباء» والإشارة لوقائع راهنة في «السجين رقم 95» و«رضا قيصر» بعد تمرسه الفني الطويل في مسرحياته الأولى «الشيخ والطريق» و«زوار الليل» و«الفلسطينيات». وفي هذه الأعمال جميعها، مثل مقالاته هنا وهناك، يستخرج علاقة أفضل لنضال البشر. إنه يختلف إلى حقيقة واحدة هي صراع الحياة بين من يحفلون بآثار هذا الصراع على مسار حياتهم فيتدمرون ويدمرون أو يكدحون نحو أمل خلاب ينطوي على أفق جديد فيضيء ظلام نفوسهم من جهة، وبين من لا يحفلون سوى بطلاء العلاقات فيستثمرون حياتهم وحياة الآخرين، أو يرزحون تحت وطأة قبول الاستثمار من جهة أخرى، وفي الحالين ينجلي الصراع عن محنة القيم، تماماً كما يحدث في مسرحية «الأشجار تموت واقفة»( ).

 

وتفيد هذه الإشارة إلى تجربة عرسان في إعادة إنتاج المسرح الإسباني إلى واحدة من التجارب الكثيرة في مجالها تفعيلاً للمثاقفة الحضارية بين هذا المسرح والمسرح العربي الناهض.

 

4- نموذج المثاقفة الحضارية لدى باييخو وونوس وسبيله:

ويتبدى هذا النموذج في مسرحية باييخو «القصة المزدوجة للدكتور بالمي» ومسرحية ونوس «الاغتصاب»( )، فقد عمد سعد الله ونوس (1941-1997م) إلى تمثل المثاقفة الحضارية في مسرحياته كلها عن طريق التناص الذي يصل حدّ النقل أو الاقتباس أو الإعداد أو التوليف غالباً، وهي نقطة موضع خلاف بين ونوس ونقادّه حتى إنه ردّ على منتقديه القائلين بذلك مراراً، وكان آخرها مقدمة مسرحيته التي نحن بصدد دراستها «الاغتصاب». وقال فيها:

«لقد تعمدت إيراد هذه الملاحظة لأن عدداً من نقادنا لم يفهموا جوهر المسرح: وهم يعتقدون خطأ أن العنصر الأساسي في النص، وفي العمل المسرحي كلّه هو الحكاية. ولذا فإنهم يمسخون المسرح وإلهامه الأصلي إلى تلخيصات سقيمة للحكايات، ويمسخون عملهم إلى مطاردة عقيمة لتقصي أصل الحكاية»( ).

على أننا سنعمد إلى تقصي سبيل المثاقفة الحضارية في مسرحه، إشارة، وفي مسرحيته «الاغتصاب» تفصيلاً التي تتناص تناصاً كاملاً إلى حدّ النقل مع مسرحية انطونيو بويرو باييخو «القصة المزدوجة للدكتور بالمي».

 

4-1- التناص في مسرح ونوس:

تستند بعض مسرحيات «حكاية جوقة التماثيل» (1965م) على التناص مع الأساطير والمسرحيات اليونانية، ولاسيما «الرسول المجهول في مأتم انتيجونا». وقبلها وضع مسرحية «ميدوزا تحدق في الحياة» (1963م).

 

ومزج في مسرحيته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (1968م) التناص بين مسرحية بيراندللو «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» ومسرحية أروين شو «ثورة الموتى» ومنهج بريخت الملحمي، ولاسيما كسر الإيهام.

 

وتتناص مسرحية «الفيل يا ملك الزمان» (1969م) مع الموروث الشعبي، ومسرحية «رأس المملوك جابر» (1971م) مع التاريخ الغربي وكتابة المؤرخين والقصاصين الشعبيين عنها.

 

ونهضت مسرحية «سهرة مع أبي خليل القباني» (1972م) على التناص بين وقائع حياة هذا الفنان وبعض مسرحياته في إطار مسعى ونوس إلى ملحمية المسرح كما صاغه بريخت مثل الروائية وكسر الإيهام وتدعيم الاتصال بين الفنون أو الاستفادة من تقانات المسرح الشامل.

 

وأعدّ مسرحية «الدروايش يبحثون عن الحقيقة» (1972م) لمصطفى الحلاج للمسرح القومي، ولم تعرض حتى الآن، وأعد «توراندوت» عن مسرحية بريخت التي تحمل العنوان نفسه (1976م)، ولم تعرض أيضاً، وأعد «يوميات مجنون» (1976م) لجوجول، وعُرضت في المسرح التجريبي بإخراج فواز الساجر وتمثيل أسعد فضة عام 1977م.

 

وكتب «الملك هو الملك» (1977م) تناصاً مع «رجل برجل» لبريخت ومسرحية مارون النقاش. وأعاد تأليف مسرحية بيتر فايس «موكنبوت» في مسرحيته «رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة» (1978م). وكتب مسرحية «الاغتصاب» (1989م) تناصاً مع مسرحية انطونيو بويرو باييخو «القصة المزدوجة للدكتور بالمي». ووضع مسرحية «يوم من زماننا»  (1993م) تناصاً مع مسرحية «كل شيء في الحديقة» لجايلزكوبر، وأعدتها من قبل نضال الأشقر وروجيه عساف في عرضهما «كارت بلانش» عام 1969م. وكتب مسرحية «منمنمات تاريخية» (1993م) تناصاً مع الوقائع التاريخية والنص الخلدوني التأليفي والسيري.

 

وألف مسرحية «طقوس الإشارات والتحولات» (1994م) تناصاً مع يوميات البديري الحلاق ووقائع التاريخ الدمشقي القريب. وكتب مسرحية «ملحمة السراب» (1995م) تناصاً مع أسطورة فاوست. وثمة تناصات كثيرة في مسرحيته الأخيرة «الأيام المخمورة» (1997) مع مسرحية شكسبير «هاملت» وسواها.

 

4-2- باييخو ومسرحه ومسرحيته:

أتيح للقراء العرب أن يتعرفوا إلى باييخو ومسرحه في وقت مبكر بفضل صلاح فضل الناقد، فقد كانت أطروحته للدكتوراه في إسبانيا عام 1972م عن «مسرح باييخو»( )، وما لبث أن عرّب غالبية مسرحياته مزودة بمقدمات هي دراسات للمسرح الإسباني الجديد بعامة ولمسرح باييخو بخاصة.

 

وكانت أولاها مسرحيته «القصة المزدوجة للدكتور بالمي» (المؤلفة عام 1968م والمترجمة عام 1974م) ثم تلتها مسرحيته «وصول الآلهة» وعرضت لأول مرة عام (1971م) والمترجمة عام 1976م.

 

وضع صلاح فضل لمسرحية «القصة المزدوجة للدكتور بالمي» مقدمة موسعة عن المسرح الإسباني ما قبل الحرب الأهلية، وعرّف بشخصية باييخو وخصائص مسرحه التي تتوزع إلى أربعة اتجاهات هي: المسرحيات ـ الوثائق الاجتماعية التي نشهد على عصرها، ومنها مسرحية «القصة المزدوجة...»، وأبرزها «تاريخ سلم» (1949م)، و«دون خوان تنوريو» (1952)، و«اليوم عيد» (1956م)، و«الكوة» (1967م). و«وصول الآلهة» (1971م). والمسرحيات التي تقع داخل الإطار التاريخي وأبرزها «حالم من أجل الشعب» (1058م) و«الوصيفات» (1960م) و«حلم العقل» (1970م).

 

والمسرحيات التي تدور حول الطبيعة الإنسانية وشروطها الخاصة، وأبرزها «في الظلمة المتوقدة» (1950م) و«كونشرت سان اوبييدو» (1962م)، و«العلامة المنتظرة» (1952م) و«الفجر» (1953م) و«الأوراق المغطاة» (1957م).

 

والمسرحيات التي تدور عن الحلم في صلته بالواقع وتمثيله للحقيقة، وأبرزها «غازلة الأحلام» (1952م) و«شبه حكاية خرافية» (1953م) و«ايريني أو الكنز» (1954م) و«مغامرة فيما هو رمادي» (1963م) و«أسطورة كتاب للأوبرا» (1968م).

 

وقد  كان صلاح فضل مدركاً لأهمية مسرح باييخو في المثاقفة الحضارية المسرحية، إذ ختم مقدمته الطويلة بالقول:

«ونحن إذ نقدمها للقارئ العربي نرجو أن يتجاوز الهيكل الظاهري للأحداث، وأن يعايشها في أعمق تحولاتها النفسية وأزخر دلالاتها الاجتماعية، كدرس مسرحي أصيل يقودنا إلى النضج الشخصي والسياسي معاً، ويفتح عيوننا على تجارب هامة تستحق أن يستلهمها أدباؤنا في التعبير الفني عن المرحلة الحضارية التي نمرّ بها»( ).

وهذا ما أكده أيضاً في مقدمته الطويلة لمسرحية «وصول الآلهة»، بوصفها «مسرحية تعدّ بعد ذلك درساً في الأداء الدرامي بما فيها من مواقف رائعة في شاعريتها وواقعيتها في نفس الوقت»( ).

 

وتابع صلاح فضل تعريب مسرحيات باييخو مثل «أسطورة دون كيشوت» (1979م) و«حلم العقل» (1979م)..الخ.

 

5- القصة المزدوجة للدكتور بالمي:

تتوجه المسرحية إلى تشريح التعذيب السياسي وعدوانه الإنساني وتخريبه للجسد والنفس والروح، وتدور أحداثها في بلدة إسبانية قصية تدعى «سوريليا»، وتتناول حياة رجل أمن (دانييل بارنيس) في لحظة تأزمه، ومن يتصل بهذه الحياة وهذا التأزم:زوجه ماري بارنيس وأمه (الجدة) ورئيسه باولوس (بابا) وزملاؤه في ممارسة التعذيب مارسان وبوثنر ولويخي، وهذا هو الوجهُ الأول من القصة، أما الوجه الثاني فهو من يتلقى التعذيب حتى التشويه  والعجز والإعاقة والموت (انيبال مارتي) وزوجه التي اعتدي عليها وعُذبت واغتصبت (لوثيلا مارثي).

 

وثمة مستوى ثالث للمسرحية والخشبة، ويمثله الدكتور بالمي وسكرتيرته، الذي يمازج بين وجهي القصة، ويشي بمقاصدها الفاجعية من تأثير رعب التعذيب السياسي على وأد الحياة، وقدم للمسرحية بمثابة «البرولوج» رجل يلبس سترة الهرة وامرأة تلبس ملابس السهرة الذي يفضي إلى صوت الضمير (ومنه وظيفة الكورس)، وهو الدكتور بالمي.

 

سعى باييخو في «البرولوج» أو التقديم إلى إضفاء الطابع الملحمي على معالجته المسرحية بمخاطبة النظارة أو المتلقي مباشرة في أن «القصة ـ مع احتمال أنها زائفة ـ قد وصلتنا من بلاد بعيدة، ولا تمسنا في قليل أو كثير» (ص32). ودعوتهم إلى تعلم الابتسام مهما كانت الظروف، «لأن البسمة هي أجمل ما اكتشفته البشرية، فلا تفقدوها» (ص33). ثم عوّل على صوت الضمير في إملاء الدكتور بالمي لوقائع وجهي القصة وتحليلهما على سكرتيرته، فيؤدي التدمير الذاتي والجسدي للمعذب السياسي (مارتي) إلى مثيله لدى المعذب (دانييل بارنيس)، وهذا ما وجهه الدكتور دانييل بادئ الأمر:

«الدكتور: بالرغم من أنك قد جئت، هناك شيء وفي أعماقك يقول لك أن ما فعلته لا يصح أن يعمل، مع أنك تؤكد أنه كان واجباً عليك، ولكي تشفى... عليك أن تقر بأنك ارتكبت جرماً رهيباً لا يمكن أن يبرر. وحتى لو اعترفت بذلك لا أعتقد أنه يمكنك أن تشفى، اللهم إلا إذا وصلت إلى الاقتناع المطلق. بأن هذا وما يشبهه من أعمال القسوة إنما هو أمر عادل وجدير بالاحترام والتقدير، ولا أظن أن أحداً في العالم يمكن أن يقتنع في أعماقه بشيء مثل هذا. وأنت ـ بطبيعة الأمر ـ لست مقتنعاً بذلك» (ص72).

ثم أوضح الدكتور ذلك بجلاء وصراحة مطلقين:

«الدكتور: لأن ما حدث لا يمكن إصلاحه، فأنت لا يمكنك أن ترد لهذا الرجل المسكين رجولته، ولهذا فقد قضيت أيضاً على رجولتك، قد يكون هذا من المتناقضات الغريبة. ولكنها حقيقية، شفاؤك يكمن في مرضك، ولعله من صالحك... لكن.. مع ذلك.. (صمت)» (ص76).

 

وتتطور الأحداث في المسرحية بزيارة لوثيلا إلى أستاذتها السابقة ماري وفضحها لجرائم زوجها بحقّ المعتقلين السياسيين وأسرهم، وأولهم زوجها انيبال مارتي، غير أن ماري تكذّب أقوالها، فتخرج لوثيلا مطرودة، بينما أعلنت ماري أنها ستنسى زيارتها، وجاوبتها لوثيلا بأنها ستعرف الطريقة التي تجعلها لا تنساها (ص89). وترسل لها كتاباً عن التعذيب السياسي وفنونه، مما يدعوها لمكاشفة زوجها الذي يعترف لها بجرائمه بحقّ المعتقلين:

«ماري: ماذا فعلت فيه؟

دانييل: أسوأ ما يمكن أن يفعل في رجل.

ماري: لا أفهم ماذا تعني؟

دانييل: تصوري أسوأ شيء، ولأنني فعلت هذا، فقد تكفل في داخلي بمعاقبتي.. وتركني في نفس الحالة التي تركته فيها.. أو تكفل بهذا أحد، لأنه يوجد إنسان آخر في داخلنا، يتولى عقابنا.. إنسان آخر!!» (ص113-114).

 

ثم طلب منها أن تساعده على الخلاص، وتوضح له أمه إكمالاً للمبنى الرمزي، علاقتها بباولوس الذي أحبها، وتزوجت غيره، وظل يطاردها حتى اضطرت ذات يوم إلى طرده، ثم عرض عليها بعد أعوام طويلة أن يخدمها بإلحاق الابن دانييل بالأمن القومي، وكشف دانييل الأبعاد الأخرى للمبنى الرمزي بالمكاشفة بين باولوس ودانييل عندما طلب الابن من رئيسه إعفاءه من عمله بإرساله إلى وظيفة في الخارج تحت أي اسم كان، وإلا فليضعه في السجن، وتتبدى آلية التعذيب الفظيعة في مثل هذا الحوار بينهما:

«باولوس: (ناظراً إلى الباب المواجه) لحسن الحظ، نحن وحدنا، ومع ذلك سأبذل مجهود آخر لصالحك، والآن اسمع يا أحمق: أنا لم أخترع التعذيب: .. فعندما جئت أنا وأنت في هذا العالم كان يوجد فيه التعذيب كما توجد فيه الآلام والموت، ربما كان شيئاً همجياً.. ولكننا نعيش في غابة، ولهذا فهي همجية عادلة!

دانييل: ضد كائنات بشرية.

 

باولوس: ما أشد قلقك من أجل هذه الكائنات البشرية!! لقد رأيتهم هنا.. معظمهم لا يساوي شيئاً على الإطلاق، وليس هنا في التاريخ أي تقدم لم يقم على حساب جرائم لا تحصى» (ص155-156).

على أن العلاقة بين دانييل وماري بتفاقم بتأثير روعها المعذب من بقائه في مسرح الجريمة، مما يدفعها لإطلاق الرصاص عليه، بينما يُعاود الظهور وجه القصة الأخرى مقتاداً إلى الجريمة من جديد:

لويخي وهو يقتاد لوثيلا. أما الصوت الجنائزي الفاجع فيختتم المسرحية بقول الجدة على سبيل المفارقة المروعة:

«الجدة: (بصوت لا يكاد يسمع) كان يا ما كان.. ولد صغير، أجمل من الشمس، اسمه دانييليتو.. ودانييليتو كان جميلاً جداً وطيباً للغاية.. وكانت له أم تعبده، وتخاطبه قائلة: ولدي دانييليتو سيكبر، ويصبح قوياً مثل الربان في السفينة.. ودانييليتو يبتسم.. ولأنه غاية في الطيبة فسيحبه الجميع ويصيرون أصدقاءه.. ودانييليتو يبتسم...» (ص175).

 

6- الاغتصاب:

بنى سعد الله ونوس مسرحيته وفق مستويين المستوى الفلسطيني، وتمثله الفارعة مع دلال زوجة إسماعيل المناضل المعتقل تحت التعذيب، وابنها محمد، وسمى مشاهده «سفر الأحزان اليومية»، ويقع في خمسة مقاطع:

- المقطع الأول: (ص14-21) الفارعة ودلال والشجن الفلسطيني ومداهمة الإسرائيليين للقبض على دلال.

- المقطع الثاني: (ص36-38) عمل محمد ابن الفارعة لدى اليهود الإسرائيليين وحواره معها حول تبعاته.

- المقطع الثالث: (ص58-61) الفارعة تحاور دلالاً وتدعوها للوعي، بينما صيحة دلال: «إما نحن أو هم».

- المقطع الرابع: (ص67-68) نجوى الفارعة عن شراسة القتل الصهيوني وموت إسماعيل والفلسطينيين وصيحتها أيضاً: «إما نحن وإما..».

- المقطع الخامس: (ص89-91) الفارعة ومحمد وحديثهما عن المقاومة.

والمستوى الثاني هو الإسرائيليون الصهاينة، ويمثله الدكتور منوحين في الجانب الأول، واسحق بنحاس وزوجته راحيل بنحاس وأمه، ورئيسه في الأمن وممارسة التعذيب مائير (بابا)، وزملاؤه جدعون وموشي، وسمّى مشاهده «سفر النبوءات»، ويقع في تسعة مقاطع:

- المقطع الأول: (ص22-24) الدكتور وراحيل بنحاس عن معالجته لها وسكناهم في حي واحد.

- المقطع الثاني: (ص25-35) راحيل واسحق وهدهدة الطفل واتصال من جدعون، وطلب بابا مائير له، فثمة عمل كثير ينتظره، ولا ينسى جدعون أن يتغزل بامرأة اسحق: راحيل.

- المقطع الثالث: (ص39-57) التحقيق والتعذيب مع إسماعيل ودلال، والمواجهة بين الدكتور واسحق.

- المقطع الرابع: (ص62-66) يُدعى إسماعيل، ويحاورهم راضياً بدولة مشتركة، ثم يموت تحت التعذيب.

- المقطع الخامس: (ص69-73) يغتصب جدعون راحيل، ويخبرها عن عمليات التعذيب والاغتصاب بمشاركة زوجها.

- المقطع السادس: (ص74-88) الولوغ في الإرهاب الصهيوني وشرح التربية الإسرائيلية، وحبّ مائير لأم اسحق ومصارحةمقززة مشتركة عن الاغتصاب، واغتصاب جدعون لراحيل.

-  المقطع السابع: (ص92-94) افتراق راحيل واسحق ورجاؤه أن تساعده على الخلاص، بينما تردد الأم ما في التوراة والعهد القديم من عنصرية.

- المقطع الثامن: (ص95-101) مواجهة بين مائير واسحق ليقتل الأول بعد ذلك الثاني بعدة رصاصات.

- المقطع التاسع: (ص102-103) حوار بين راحيل والدكتور عن قتل اسحق.

ويضع ونوس تقديماً موازياً للبرولوج في المسرحية اليونانية سمّاه «ترتيلة الافتتاح»، ويتداول فيه الكلام الدكتور ابراهام منوحين من جهة، والأم ومائير وجدعون وموشي الذين يرددون نصوصاً وأقوالاً توراتية عن قتل العرب وتحقيق حلم الدولة الإسرائيلية بالقضاء على العرب والثقافة العربية من جهة أخرى.

ويختتم المسرحية بمشهد ختامي سمّاه «سفر الخاتمة» يتحاور فيه ونوس مع الدكتور منوحين عن فرص التفاهم بين الفلسطينيين وإسرائيل الذاهبة في الإرهاب والعنف المتبادل، فالمشكلة برأي ونوس مزدوجة، فللصهيونية امتدادات في الجسد العربي، وأن الورطة على الضفة العربية معقدة، و«إن الخروج منها يقتضي نضالاً مركباً وصعباً» (ص107). ثم يتفقان على تبادل الإشفاق من الجانبين و«ربما الأمل» بتعبير ونوس أيضاً (ص108).

 

7- التناص بين المسرحيتين:

ثمة خلاف في طبيعة التناص لدى ونوس، فيعده نقاد نقلاً، وآخرون إعداداً أو توليفاً، وآخرون اقتباساً، بل إن ناقداً رأى في التناص بين المسرحيتين أشبه بالصوت والصدى( ). ويندر أن مرّت مسرحية ونوس دون خلاف مع نقاده حول نقلها أو إعدادها أو توليفها أو تناصها مع أعمال أخرى( ).

 

والحق إننا نغالي كثيراً إذا أغفلنا استغراق نص ونوس في نص باييخو، لأن التناص بينهما يجاوز معطياته الجزئية إلى إعادة إنتاج شمولية تجمع بين المعطيات الجزئية (الشخصيات بعلاماتها وأقوالها، العلائق الثقافية بما هي إحالات أو إشارات إلى قضية أو موضوع أو مناخ) إلى المبنى برمته والمعنى برمته بوصفهما اشتغالاً على الرؤيا في صوغ مغاير للأصل ـ فضاء التناص، وما مسرحية ونوس، بهذا المفهوم، سوى إعادة إنتاج لنص سابق هو مسرحية باييخو، ولا يرى نقاد الحداثة وما بعدها غضاضة في ذلك، لأن النص تناص بحدّ ذاته عندهم، وهو جلي في مسرحية ونوس، ولا سيما مباشرته لإنتاج الدلالة من فيض النص المفرع أو الممنهل، فكانت إدانة التعذيب السياسي محور الدلالات الصغرى الناجمة عن تلاقي الموضوع الرئيس بتحولاته المتفرعة داخل اشتغال استعاري قوامه تعدد الرموز والإشارات والمجازات. وقد أضاف ونوس إلى التناص ـ إعادة إنتاج نص باييخو، ما سمّته كريستيفا «نصية واصفة»( ) يحيط فيها النص الجديد بما يعين على فضائه المغاير أو المختلف، كما هو الحال مع تناصه العميم استدعاء لنصوص من العهد القديم، ولا سيما المزامير وأسفار الملوك، وقد أراد ونوس في الاستشهاد بها ما هو أبعد من مجرد التفسير والتعليق نحو إسعاف إعادة إنتاج المعنى بتراكم الدلالات، مثل دلالة التوسع والعنصرية و العنف وإبادة الآخر (الغوييم ـ غير اليهودي) وتثميرها في سياق نشدانه للمعنى وما وراء المعنى: توصيف عدوانية الإسرائيلي وهمجيته وإرهابه وعنفه ضد العربي الفلسطيني إلى حدّ الإبادة، وهو ما أظهرته آلية التعذيب حتى الموت في المعتقلات والسجون ممن وقعوا في القيد الإسرائيلي، ونورد نموذجاً لمثل هذه النصية الواصفة في «ترتيلة الافتتاح»، فقد تعاور الإسرائيليون القتلة على ترديد نصوص من أسفار الملوك على لسان الأم ومائير وجدعون وموشي، لتؤول إلى أفناء العرب وثقافتهم وبناء حضارتهم «الصهيونية» على أنقاض الحضارة العربية:

«الأم: كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم. من البرّيّة ولبنان، من النهر، نهر الفرات إلى البحر الغربي يكون تخمكم.

مائير: وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً، فلا تسْتبقِ منا نسمة ما، بل تحرّمها تحريماً.

جدعون: أبسلهم إبسالاً.

موشي: أذبحهم ذبحاً.

الأمّ: ولا تعفُ عنهم. بل اقتل رجلاً وامرأة. طفلاً ورضيعاً. بقراً وغنماً جملاً وحماراً.

مائير: عليكم ألاّ ترحموا حتى تدمّروا نهائياً ما يسمّى بالثقافة العربية التي سوف نبني حضارتنا على أنقاضها» (ص12-13).

وتتكرر مثل هذه النصية الواصفة في مواقع عدة، نذكر منها:

- هدهدة الجدة لحفيدها:

«لا تغضب يا ملكي... شغلني أبوك قليلاً.. تعال نشرب حليبنا بهدوء (تدفع المهد، وتخرج به، وهي ترتّل) تقلَّد سيفك على فخذك. وبجلالك اقتحم. شعوب تحتك يسقطون. اسمعي يا بنت وانظري. انسي شعبك وبيت أبيك. الملك يشتهي حسنك، فاسجدي له» (ص29).

وثمة هدهدات أخرى فيم واقع أخرى (ص82-83).

- تشبيه اسحق ومائير للعرب بما ورد في «البروتوكولات»:

«اسحق: هناك.. نحن نتعامل مع حثالات.. قرود تسير على قائمتين ولا تحسن إلا الشرّ والكذب» (ص45).

«مائير: (عن إسماعيل) نعم.. لقد مات فعلاً.. والميت فيهم أفضل من الحي» (ص65).

ويستعين بمثل هذه النصية الواصفة في تدعيم أطروحات المستوى الفلسطيني عن ضراوة العدو الإسرائيلي وإرهابه وتقتيله وتدميره للفلسطيني، بالتناص الصريح مع قصة «البيت» لزكريا تامر المكتوبة للناشئة:

«الفارعة: سأخبرهم. ارفعي رأسك، وإذا ضايقوك ابصقي في وجوههم. إني أنتظرك هناك. كلّنا ننتظرك هنا. كم خاف عليك.. وكم حاذر أن يوقظك. ولكن اليقظة الآن ستكون خشنة ومرعبة. أمدّك الله بالقوة والحكمة. وأنت يا أميري. لا.. لم أنسك. من أجل عينيك نقاسي ما نقاسيه.. يا الله.. ها هو الحليب. هل تستطيع أن تعي حكايتك منذ الآن؟ إذن اسمع. هذه هي حكايتك. الدجاجة لها بيت. بيت الدجاجة اسمه القنّ. الأرنب له بيت. بيت الأرنب اسمه الحجر. العصفور له بيت. بيت العصفور اسمه العشّ. (تبدأ الإضاءة بالخفوت والصوت بالتلاشي). الفلسطينيّ لا بيت له. والخيام والبيوت التي يحيا فيها، ليست بيت الفلسطينيّ. بيت الفلسطينيّ يحيا فيه عدوّ الفلسطيني. من هو عدوّ الفلسطيني؟» (ص21).

وقد بثّ ونوس مغزى تراكم الدلالات في هذه النصية الواصفة على لسان الدكتور منوحين الذي يصور ذاته مفعمة الإنسانية متأذياً من ممارسة الإرهاب الإسرائيلي ومتعاطفاً مع الفلسطينيين وداعية سلام، ويظهر المعنى وما وراء المعنى في أكثر من موقع مثل:

- «الدكتور: ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان خصام ونزاع للأرض كلها. لم تزرعي في قلوب أبنائك إلا الكبر وكراهية الأغيار. كيف ينسى المرء تلك الرهبة المليئة بالبغضاء التي تغذَّى بها طفلاً! وحين يكبر كيف ينقذ روحه من الاعتلال، أو يتفادى القسوة والهوان! دفعت الكثير من الوقت والعناء كي أتخلّص من غذاء طفولتي. ولكن هؤلاء الذين يحرصون على غذاء طفولتهم يدفعون ثمناً أغلى.. ذلك اليوم جاء إسحق بنحاس إلى عيادتي، وتدبّرت الأمر كيلا ينتظر طويلاً»(ص39).

 

- «الدكتور: نعم يا سيد بنحاس.. في تربيتنا الصهيونية يعلّموننا الكراهية بصورة دؤوبة، ولكنهم لا يبالون بالحدود التي يمكن أن تتحمّلها بنيتنا الإنسانية. إن الكراهية المطلقة هي الحدّ الذي يمكن أن يسوّغ كل شيء، ويمنع الاختلال، ولكن من هو الإنسان الذي يصير كراهية مطلقة ولا يتداعى؟» (ص54).

 

- «الدكتور: اسمع يا سيد بنحاس. لا تظن أني أخاف من إعلان رأيي. إن ولائي ليس للقانون بل للعدالة. وليس فيما تفعلونه أيّ عدل. وليس في احتلال الأراضي أيّ عدل. وليس في التزّمت الصهيوني الذي تأسّست عليه دولة إسرائيل أيّ عدل. نعم.. إني من هؤلاء المخنّثين أمثال موشي منوحين وجوليوس كاهن وإينشتاين ودويتشر. ونحن نفخر بوساوسنا، لأنها حمتنا من البؤس الروحي الذي تغرق فيه دولتنا المعجزة. لا.. لا أقبل ما تفعلونه مهما كانت ذريعته.. والآن يمكنك أن تشي بي، أو تتخذ ما تراه من الإجراءات» (ص56).

 

وتتكشف عملية تزجية المعنى من تراكم الدلالات في هذه النصية الواصفة في «سفر الخاتمة» بالنظر إلى اعتقاد ونوس بوجود يهود رفضوا الصهيونية وقاوموها:

«سعد الله: بل مؤكد. إذا لم يوجد أمثالك يصبح التاريخ أفقاً مظلماً.

الدكتور: لعلك تفرط في الثقة.

سعد الله: لا تبدو ثقتي مفرطة، إذا ما تذكر المرء قائمة المفكرين اليهود الذين رفضوا الصهيونية، وقاوموها.

الدكتور: ومع هذا.. هل تعتقد أن بوسعي أن أكون نزيهاً إلى هذا الحدّ؟

سعد الله: من اختار الولاء للعدالة لا للقانون لابد أن يكون نزيهاً» (ص104).

أما التناص الصريح الذي يتعاضد مع النصية الواصفة فهو إعادة إنتاج نص باييخو «القصة المزدوجة..» في نص «الاغتصاب»، ولعلنا نفصل القول في مظاهر هذا التناص وعلائقه:

أ- الموضوع:

يتصدى نص باييخو للتعذيب السياسي وجرائمه بحقّ الإنسان، وتوريث ممارسيه العقاب نفسه بتأثير الولوغ في الجريمة الإنسانية، وقد استعان النصان بالدكتور النفسي (كاشف المرض الداخلي وباعث الحكمة وسط جنون القتل والتدمير الشامل) لتحليل عقابيل الممارسة الإجرامية لدى أفراد أجهزة الأمن، فقد وصف الدكتور لدانييل الثمن الباهظ الذي يصاب به هؤلاء الإجراميون:

- «الدكتور: تحذير أخبر يا سيد بارنيس (يلتفت دانييل إليه) ربما يحدث في يوم من الأيام أن تظن أنك قد شفيت، نتيجة لقرار تتخذه وتعتقد حينئذ أنّ فيه الكفاية.. لكن. حاول ألا تخدع نفسك! وأكرر لك أن الثمن الذي لابدّ لك من دفعه يجب أن يكون فاحش الغلاء.. وإلا.. فهذا الشفاء الظاهر لن يدوم» (ص78).

ويوجه الدكتور في «الاغتصاب» تحذيره أيضاً لمريضه اسحق، وأنه لن يكون بمنجاة من دفع الثمن الباهظ إياه:

«الدكتور: لا يمكن إصلاح ما حدث. أنت لا تستطيع أن تردّ لتلك المرأة كرامتها، أو لذلك الرجل المسكين رجولته.. ولهذا فقد قضيت على رجولتك. إنها مفارقة غريبة، ولكن هي الحقيقة. شفاؤك يكمن في مرضك. ولعلّه من صالحك.. لكن..

إسحق: أكمل يا دكتور.

الدكتور: لا شيء.. لا يمكنني متابعة حالتك. كان يجب أن تدفع ثمناً غالياً لنما فعلت. ولكي تكفّ عن دفع هذا الثمن ينبغي أن تدفع ثمناً آخر لا يقلّ عنه جسامة» (ص55).

 

ب- المبنى الواقعي:

بنى ونوس مسرحيته وفق مبنى مسرحية باييخو الواقعي، قصة دانييل بارنيس الذي يقوم بالتعذيب، ثم يلوذ بالطبيب النفسي في جانبها الظاهر، وثمة قصة أخرى في جانبها الخفي تضيئها وتكشف عن الفظاعة والجريمة الإنسانية، ويمثلها نيبال مارتي الذي يشوهه التعذيب، ويميته مثلما يشوه زوجته، وتتحرك هذه القصة المزدوجة في فضاءات ثلاثة هي فضاء الدكتور في عيادته، وفضاء الأمن وممارسة التعذيب، وفضاء مارتي وبقية المعذبين.

 

واختار ونوس مبنى واقعياً مماثلاً، هو فضاء الدكتور وعيادته وتحليله ومواجهته للجريمة الإسرائيلية إزاء الفلسطيني الذي يقتلع من أرضه، وينتزع من تاريخه، ويُخنق حصاراً وتعذيباً وقتلاً، فيصير هذا الفضاء إلى محاولة وعي الجريمة لدى الإسرائيلي المتعقل والمسالم.

 

وهناك فضاء المستوى الفلسطيني حيث الفارعة الأم المجاهدة راعية المعذبين الفلسطينيين (دلال وإسماعيل) والصابرة والمصابرة على البلاء والنهم الإسرائيلي إلى الإبادة والواعية لمصائر الفلسطينيين المقهورة تحت آلة التعذيب والإفناء الإسرائيلية، فتنطلق من محاولة وعي الشرط التاريخية في محاورة دلال وابنها محمد، ولكنها ما تلبث أن نخرط في إدراك فاجع للجحيم الإسرائيلي وآتونه الملتهب الذي يلتهم الفلسطينيين، فتقف في صف المقاومة التي ترى في العدوان الإسرائيلي صراعاً على الوجود.

 

جـ- المبنى الرمزي:

استعان باييخو ببعض لوازم المبنى الرمزي عن طريق أسطرة التعذيب السياسي جريمة مروعة ضد الإنسانية من جهة، وترميز علائقه من خلال الاستفادة من كشوف التحليل النفسي من جهة ثانية، وحشد الدلالات وتنظيمها الواعي من جهة ثالثة.

وقد جعل دانييل مثار تشريح ينهض بالمبنى الرمزي، في علاقاته بالأطراف جميعها، أسرة مارتي المعذب، زوجته، أمه، رئيسه وزملائه، وأضفى على التشريح نبرة مأساوية حول تبعات التعذيب والقتل في تخريب الإنسان، جلاداً قبل أن يكون ضحية، كما في قول الدكتور لمارتي:

«لكن عندما يصل هذا الإنسان المسكين إلى أقصى حدود العذاب يجرفه تيار رهيب، ولا تبقى لديه رغبة إلا في أن يغلق عينيه.. دون أن يريد التفكير بما سيحدث فيما بعد» (ص170).

 

ثم أمعن في تشريح مآل التخريب بما لا يختلف عن الجنون الذي يدمر العالم كلّه:

«ففي عالمنا هذا البالغ الغرابة، لا زلنا لا نستطيع أن نصف هذا الخلط المريب بأنه جنون. فهناك ملايين مثلهم، ملايين الأشخاص الذين يقررون تجاهل العالم الذي يعيشون فيه، لكنه لا يخطر لأحد أن يسميهم مجانين» (ص172).

على أن ونوس بالغ في مبناه الرمزي من العنوان إلى مجمل بنية النص، فالاغتصاب الجسدي موجود في النصين لجسد المعتقل وزوجته، ويضيف إليه ونوس اغتصاب جدعون لجسد راحيل، ثم يمدّ الدلالة إلى اغتصاب الأرض والتاريخ، بل إنه جعل لحفلات الاغتصاب نشوة دينية (ص51)، وترافقت هذه الحفلات مع ممارسة التعذيب والتمثيل بجسد الضحية، كاستخدام الشفرة في تثليم الجسد.. الخ (ص53) أو كسر الأعضاء وقطعها (ص72).

 

وأعطى العجز الناجم عن هول التعذيب لدى الجلاد مفهوم عقاب النفس من جهة على مستوى الفرد، ومفهوم العنة التاريخية من جهة أخرى على الجماعة الدينية اليهودية، فقد شرح اسحق لزوجته راحيل رهاب أسطورة التعذيب التي صارت إلى عقاب له:

«إسحق: هل بلغ النفور هذا الحدّ.! ذهبت إلى الدكتور موحين. لقد شخّص لي مرضي. إنه نوع من عقاب النفس. إنه تعبير جسديّ عن ندم خفيّ. طبعاً لا تستطيعين أن تفهمي ذلك. فأنت كالجميع تعتقدين أن كل ما يحقّق نجاحنا هو نظيف ومشروع. وإذن فعلامَ الندم.! كان علينا أن نقوم بعمل رهيب يا راحيل. هناك مخرِّب عنيد  لا يريد أن يعترف. وطلب مائير أن نضغط عليه بطريقة مفزعة جئنا بزوجته، و.. حطَّمنا رجولته. إنه الآن في داخلي يعاقبني ويعوّق رجولتي.. أو هناك إنسان في داخلي يتولى عقابي.. إنسان آخر» (ص85).

 

ثم واجه رئيسه مائير بعقم علاقته مع أمه التي استمرت على أنقاض ذكرى أبيه، مثلما يفصح هذا الحوار عن أبعاد العلاقة الرمزية:

«إسحق: وهل كان أبي عقبة تجب إزالتها بلا رحمة؟

مائير: ماذا تخرّف؟ إنك مخيّب جداً أيّها الشاب. كم تعبنا، أنا والمسكينة أمّك كي نصوغ منك رجلاً حقيقياً.!

إسحق: وهل تظنّ أن علاقة عقيمة غذاؤها الكراهية والقتل يمكن أن تصوغ رجالاً؟

مائير: صدق جدعون.. ما أنت إلا عنّين يبول على نفسه.

إسحق: وأنت.. ما أنت؟ أتظن أن القتل يصنع رجالاً. قتلت أبي، وتريد أمي بلا طمث.

مائير: توقف.

إسحق: لا.. لن أتوقف. أأنت تتحدث عن العنَّة. أتظن أننا لا نرى عنَّتك؟ تلك العنَّة الفخمة.. العنَّة التاريخية التي تتلألأ خلف أقنعة الترفّع والعزلة والقسوة» (ص99).

وقد تعامل ونوس مع عناصر بنية نصه رمزياً فجعل الفارعة ومن معها ممثلين لفلسطين والفلسطينيين، واسحق ومن معه ممثلين لإسرائيل ونزعتها العنصرية العدوانية التوسعية الإرهابية، إلى الحدّ الذي تزول معه، أو تخمل، الصفات الفردية، فنطق الفلسطينيون بحقّهم وبالعنت الذي يلقونه في مداه الأبعد: التعذيب والقتل والإبادة، ونطق الإسرائيليون بمنطق التوراة والبروتوكولات التي ترى في «الأغيارـ غير اليهود» الشر والجحيم، وهم العرب الفلسطينيون، فكانت الأسرة الفعلية عند مائير هي «الدولة لا الزوجة» (ص97)، وعندما سمعت الأم بقتل مائير لابنها إسحق، صدقت دعوى القاتل الظالمة، لأنها وحدها تخدم إسرائيل:

«مائير: كان ثمرة فاسدة يا حبيبتي.

الأم: وقطعت الثمرة.

مائير: لم يكن هناك مجال.

الأم: أحقاً لم يكن هناك مجال.! أصدّقك.. أصدّقك فأنت أدرى.

مائير: هل أستطيع أن أقف إلى جانبك؟

الأم: وكيف أفعل إن لم تقف إلى جانبي..» (ص100).

 

د- الأحداث والوقائع:

أعاد ونوس في نصّه الأحداث والوقائع إياها غالباً من حيث موقع الدكتور كاشفاً لطابع المأساة، وضميراً حيّاً لمواجهة الظلم الناجم عنها، فكان عند باييخو باعثاً لأسئلة العدالة الحقة ومضيئاً لها (ص79) حتى بلغ الحوار بين الدكتور ومريضه دانييل مرحلة الصدام واتهام المريض له وكأنه يستجوبه مثل المعتقلين أو الضحايا الآخرين:

«دانييل: (بعد هنيهة) لا. أنت تصرفني لأنني أثير اشمئزازك، لكن هل أنت متأكد بدورك من معرفة السبب في نفورك مني؟.. هيا! اعترف أنت الآخر! اعترف بأنك كنت تجادلني وتثلب عملي كي تجرني إلى الحقل المعارض.. الذي هو حقلك!

الدكتور: لو كنت توجه لي هذا السؤال بصفتك البوليسية فلتتذكر أنك لم تأت إلى هنا لتستجوب أحداً.

دانييل: (وهو يضحك بعصبية) لعلك تعترف بأنك مستعد لتتغاضى عن بعض الأعمال. لو كان النظام الحاكم مختلفاً في سياسته عن الحالي!

الدكتور: هذا لا يعنيك في شيء، لكن إذا كنت تريد أن تعرف الحقيقة فسأقولها لك: لا. لا أقبل هذه الأعمال تحت ظل أي نظام!» (ص77-78).

ويتصادم الدكتور مع مريضه إسحق أيضاً، ويبلغ الأمر عنده حدّ اتهام الدكتور بعرقلة قيام إسرائيل وازدهارها:

«اسحق: أنت تصرفني لأني أثير نفورك. ولكنك هلاّ تساءلت عن سبب نفورك؟ هيا اعترف، اعترف أنك كنت تجادلني وتقبّح عملي، كي تجرّني إلى الموقف المتشكك. موقف هؤلاء المخنثين الذين لا يكفّون عن التذمر. إذا انتصرنا تذمّروا، وإذا حرّرنا أراضينا خافوا. وفي النهاية ليس لديهم ما يقدمونه لدولة إسرائيل إلا الوساوس والشكوك. طبعاً أنت لست صهيونياً، وأنت تعيش في إسرائيل، ولم تفعل إلا عرقلة قيامها وازدهارها» (ص55-56).

وتعاد في نص ونوس علاقة رئيس دانييل المدعو باولوس (بابا) بأمه، إذ عشقها، ولكنها تزوجت غيره، ثم ظلت علاقة الحب بينهما قائمة، وهو الذي ألحق دانييل بجهاز الأمن، فتظهر علاقة رئيس إسحق المدعو مائير (بابا) بالأم ثانية بتفاصيلها لتغدو وثوقية بلبوس الرمز الإسرائيلي الصهيوني فتفضي علاقة الحبّ إلى خدمة إسرائيل، وهي كانت عند باييخو خدمة النظام:

«إسحق: وضحّي لي يا أماه... أيّ نوع من العلاقة كانت تربطك بمائير؟

الأم: أحبّني كما أحب الربّ إسرائيل. وأحببته كما يحب اليهوديّ المسيح. كان حبّنا صياماً ومكابدة.

إسحق: لم أفهم شيئاً.

الأم: كان مائير يفكر أن حلمنا لا يحقّقه إلا جيل مفعم بالوجد والطهارة: كان يقول ينبغي أن نكون روحاً شفّافة كالفجر، صلبة كالنصل كي تكتمل المعزة.

إسحق: أية معجزة؟

الأم: إسرائيل ومجدها. نحن جيل تعهّد أن يصحّح تاريخاً طويلاً من الخطأ والآلام. وعلينا أن نكتشف في أعماقنا ينابيع قوة بكر. لأن المعجزة لا تبنيها إلا قوة بلا خطيئة. هكذا كان يتكلّم.. وكنت أحسّ أني كائن أثيريٌّ يطفو فوق حلم» (ص79-80).

وثمة أحداث ووقائع أخرى كثيرة تُعاد في نصوص ونوس بصيغتها أو معدلة قليلاً، مثل تطورات العلاقة بين دانييل وماري (اسحق وراحيل) والعلاقة بين ماري وزميله مارسان (راحيل وزميله جدعون) وموقع طفل دانييل بالنسبة لأمه ولجدته (موقع طفل اسحق بالنسبة لأمه ولجدته أيضاً)، والتحليل النفسي لدانييل في تنامي الفعلية (وكذلك التحليل النفسي لإسحق).. الخ.

 

هـ- الأقوال:

يعيد ونوس في نصه كثيراً من الأقوال بنصها أو معدلة، واكتفي بذكر بعض الأمثلة:

ڈ باييخو: «الدكتور: (يتنهد) كان قد مرّ وقت طويل وأنا مستقر في عاصمة سوريليا. وكان دال باء يعيش على مقربة من عيادتي» (ص35).

   ونوس: «الدكتور: إن مريضي رجل عادي يسكن على مقربة من عيادتي. أعرف زوجته جيداً» (ص23).

ڈ باييخو: «ماري: هل تستطيع أن تأتي لنتعشى معنا ذات ليلة؟

الدكتور: هذا لطف بالغ يا سيدتي.

ماري: سأحدثك بالتليفون لأحدد معك موعد الدعوة.

الدكتور: اتفقنا إذن.

ماري: إلى اللقاء يا دكتور» (ص37)

   ونوس: «راحيل: .. هل أستطيع أن أدعوك للعشاء ذات يوم؟

الدكتور: هذا لطف بالغ.

راحيل: سأتلفن لك قريباً.

الدكتور: اتفقنا.

راحيل: إلى اللقاء إذن.

الدكتور: إلى اللقاء» (ص24).

ڈ باييخو: «دانييل: .. أنا دائماً مشغول بطريقة فظيعة، وليس عندي لحظات فراغ إلا هذا المساء.. نعم.. سأنتظر (سكتة) آلو.. اتفقنا في الساعة الرابعة.. شكراً جزيلاً.. هه؟» (ص52).

   ونوس: «إسحق:.. يا آنسة إني مشغول جداً، ولا أستطيع المجيء إلا اليوم.. الساعة الخامسة.. اتفقنا.. شكراً.. إلى اللقاء» (ص32).

ڈ باييخو: «مارسان: (وهو يقترب منها أكثر) لا يمكن لك أن تتصوري مدى سعادتي لو لم تخضعي لهذه الاعتبارات!

ماري: (وهي تبتعد قليلاً عنه) لا أفهم قصدك.

مارسان: أعرف أنك تفهمين، فأنت تدركين مقصدي منذ اليوم الأول الذي جئت فيه إلى هذا المنزل؟» (ص97).

   ونوس: «جدعون: منذ رأيتك أول مرة عرفت أني عاجز عن مراعاة أي اعتبار فيك شيء لا يقاوم. شيء تفتقده كل النساء الأخريات» (ص33).

ڈ باييخو: «دانييل: ... وذهبت بثقة بالغة مع امرأة أخرى. كنت أحبها كثيراً من قبل.. كان شيئاً مذلاً ومهيناً.. ومن بعدها والخوف يستبد بي» (ص57).

  ونوس: «إسحق: .... وذهبت بثقة بالغة إلى امرأة كنت أحبها كثيراً من قبل.. كانت تجربة مذلة ومهينة.. وبعدها استبد بي الخوف» (ص41).

ڈ باييخو: «دانييل: ... لكن.. لا أفهم العلاقة بين هذا.. و..» (ص58).

   ونوس: «اسحق: ... إلا أنني لا أرى العلاقة بين هذا و..» (ص45).

ڈ باييخو: «باولوس: سيأتون به الآن. لهذا أريدك إلى جانبي فعلينا أن نحمله على الاعتراف، مهما كلفنا الأمر!» (ص64).

   ونوس: «مائير: سيأتون به الآن. وسنحمله على الاعتراف مهما كلف الأمر» (ص46).

ڈ باييخو: «باولوس:  ... هل كانت ضيقة؟

بوثنر: لا، لكن أي احتكاك يوجعه بسبب الحروق» (ص64).

   ونوس: «مائير: .... هل كانت القيود ضيقة؟

دافيد: ليست ضيقة. لكن  أي احتكاك يؤلمه بسبب الحروف» (ص47).

ڈ باييخو: «باولوس: لا تتباك، فنحن حتى الآن لم نمس يدك اليمنى، إذ يجب أن نحتفظ بها سليمة للتوقيع» (ص65).

   ونوس: «مائير: لا تتباك.. فنحن لم نمس بعد يدك اليمنى. إننا نحتفظ بها سليمة للتوقيع» (ص47).

ڈ باييخو: «باولوس: ... الرجل لا يهزّه حقيقة إلا ما يمس رجولته، ويؤذيه في أعضائه الحيوية، هذه حقيقة لا تخطئ أبداً» (ص70).

   ونوس: «مائير: ... لا يهزّ المرء إلا ما يمس رجولته..» (ص51).

و- ملاحظات حول النقل أو التناص:

- المبالغة الرمزية لدى ونوس، إذ صارت الشخوص جميعاً إلى رموز مما يقلل من نبض المحاكاة والصدق الفني والصدق الواقعي.

- المبالغة الروائية، فقد استغرق نص ونوس في الوصف الروائي الجمالي دون العناية الواجبة بالتحفيز الواقعي عناية بتنامي الفعلية.

- يكاد الجانب الفلسطيني يخلو من الدرامية، فالفارعة تطلق نجواها أو تحاور دلال أو ابنها فيما لا يسهم في تنامي الفعلية (التحفيز).

- اختلاط دور الدكتور في نص ونوس بين التعاطف مع المريض حرصاً على سلامته، وبين مواجهته.

- غلبة الإعداد والاقتباس في نقل نص باييخو، ليصبح نص ونوس منقولاً أكثر منه متناصاً، فليس ثمة ابتعاد عن التناص الصريح المطلق، ولا سيما استغراقه في النصية الوصفية اجتلاباً لصياغة باييخو نفسه أو لاستمداد نصوص التوراة والبروتوكولات وغيرها.

- إدخال نص باييخو الإنساني إلى الدعاوة والتبشير السياسي، مثل الميل إلى التطبيع، كمثل السؤال: لماذا اللقاء بين سعد الله والدكتور؟.

 

8- خاتمة:

يقدم التناص بين مسرحيتي باييخو وونوس نموذجاً طيباً للمثاقفة الحضارية المسرحية التي تصدر عن رؤية فكرية جعلت من المتعالية النصية لتثمير المعنى وما وراء المعنى، ولو بلغ حدّ النقل، وعاء للتحاور والتواصل الحضاري بين الثقافات، إذ أعمل ونوس تفكيره المسرحي في صوغ فيض الدلالات من إدانة إنسانية شاملة للتعذيب السياسي حتى الموت بحق سجناء الرأي أو المعارضة، إلى إدانة سياسية للتعذيب الإسرائيلي بحق الفلسطينيين حتى الموت أيضاً.

 

9

قضية موسوعات الأدب والفن

نحو قاموس عربي للمسرح

-1-

ثمة قضايا تلح على المثقف بين الحين والآخر، لعل في مقدمتها قضية المعاجم أو الموسوعات أو القواميس لما لها من تأثير في الحياة الثقافية. وأجد الحديث مفيداً عن هذه القضية، وبخاصة لدى ظهور هذا المعجم أو هذا القاموس في بابه، وأعود اليوم إلى ذلك الحديث( )، لأن المكتبة العربية بأمس الحاجة اليوم إلى قاموس أو معجم أو موسوعة في مختلف العلوم والفنون والآداب، لأن انتشار القواميس والمعاجم والموسوعات يعني –أول ما يعنيه- أن ثمة رسوخاً في الظاهرة الثقافية وتاريخها مما يعين القارئ العادي والمتخصص. ويتجلى الرسوخ في أن حدّ المصطلح قد توفر له من سعة الأفق وعمق الخبرة وتجاذب الاطلاع ودلائل المعرفة ما يمكنه من التأثير المضطرد في شؤون الثقافة والحياة. وتبدو أهمية المصطلح وتعريفه وتنهيجه –وهو مادة المعاجم والقواميس والموسوعات- في أساس اختزال المعرفة الإنسانية وإنضاجها على نحو عميق ومؤثر لتدل بعد ذلك دلالة حية ومتنامية على الجهد البشري في تنظيم التراث الإنساني والاستفادة منه وانتشاره المأمول، ليكون أيضاً علاقة تضيء ما يخفض من تداخل أو اختلاط أو تماثل أو تشابه في المفاهيم والأفكار والمعاني والكلمات.

 

وقد عرفت اللغة العربية مثل هذه الكتب الموسوعية وليدة الدواعي المختلفة، وهذه الكتب الموسوعية التي تعتمد على مبدأ الاستطراد المعرفي وتكويم المعلومات والأفكار التي تقترب من طبيعة المعجم أو القاموس أو الموسوعة كثيراً، مثل «الأمالي» لأبي علي القالي، و«الحيوان» للجاحظ، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وسوى ذلك، ولاشك في أن القواميس والمعاجم، كما قلت، وليدة دواعي الحاجة إليها حتى أصبحت في عصرنا الحاضر متنوعة واختصاصية في مجالاتها المتعددة، فهناك قواميس ومعاجم في الفكر والسياسة والاقتصاد والعلوم الطبيعية والعسكرية، وهناك مثيلها في المسرح والرواية والفن التشكيلي والفنون الشعبية والرقص، وهي تزداد عاماً إثر عام تنوعاً وتخصصاً وتعمقاً واحترازاً في موضوعاتها.

 

لذا، يكتسب صدور قاموس أو معجم جديد أهميته الخاصة في امتلاك مفاتيح الثقافة وتمحيص مكنوناتها وعناصرها، وسأتناول في هذه المقالة الجهود العربية المبذولة في ميدان المسرح عرضاً وتعريفاً ومقارنة قاصدين إلى إبداء الرأي في أهمية كتابة قاموس أو معجم أو موسوعة عربية للمسرح. ويمكننا أن نصنف هذه الجهود على النحو التالي:

- معجم المسرحيات العربية والمعربة _1848- 1975)- تأليف يوسف أسعد داغر- طبعة وزارة الثقافة والفنون –بغداد 1978.

- معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية –تأليف إبراهيم حماده- القاهرة- دار الشعب- دون تاريخ (المقدمة مكتوبة عام 1971).

- فلسفة الأدب والفن –تأليف دكتور كمال عيد- الدار العربية للكتاب –ليبيا- تونس- 1978.

- قاموس المسرح- مختارات من قاموس المسرح العالمي- تأليف جون غاسنر وادواردكون- ترجمها وقدم لها مؤنس الرزاز- راجعها رشاد بيبي- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 1982.

 

-2-

لا ينتمي «معجم المسرحيات العربية والمعربة» إلى فصيلة عنوانه، فهو فهرس أو ثبت موزع إلى المواد التالية:

- بيبلوغرافيا المسرح العربي، وتضم معلومات موجزة تشير إلى مصادر ومراجع محددة.

- جولة حول تأريخ المسرح العربي في أقطاره وبيئاته.

- المسرحيات العربية مرتبة عناوينها قاموسياً وفق الأحرف الأبجدية، وهذا مثال:

«3214: من فوق سبع سماوات- سبع تمثيليات إسلامية- تأليف علي أحمد باكثير- القاهرة- دار المعارف- 1973- في 159ص» (ص558).

أو:

«3458: وادي موسى- مسرحية تأليف الأديب السوري أمين الكيلاني الحموي- تدور حوادثها حول الثورة العربية بقيادة الملك فيصل- حلب، 1920» (ص 592- 593).

ويشير الرقم الأول إلى رقم المسرحية في الثبت، وقد بلغ عدد المسرحيات العربية والمعربة 3611 مسرحية أو تمثيلية.

- فهارس الكتاب، وتضم فهارس أعلام المؤلفين والمترجمين، والمسرحيات الشعرية، والمسرحيات النثرية، الأجواق والفرق التمثيلية، والمسارح في الوطن العربي، وكواكب المسارح التمثيلية من ممثلين وممثلات، والمجلات العربية المشار إليها في هذا الثبت.

ومن الملاحظ، أن هذا المعجم أدخل في علم التوثيق والفهرسة منه في ميادين المعاجم والقواميس التي تتطلب تعريفاً أوسع ومعرفة أعمق من منظورها التاريخي والفني، على أن مكانة عمل الأستاذ داغر جليلة وعظيمة، فهي عون لمن يقبل على بحث أو دراسة أو نقد للمسرح العربي.

 

-3-

يبدأ كمال عيد في قاموسه «فلسفة الأدب والفن» من الصفر في التأليف المعجمي، إنه يجمع ما يخطر له مصطلحات أدبية وفنية وفلسفية مركّزاً على فن المسرح، ويرى في عمله تلبية لاحتياجات راهنة في الحياة الثقافية العربية من جهة، وارضاء لشهوة الكتابة عنده من جهة أخرى. وفي مقدمته ثمة إيضاح:

«تبدأ الجهود المضنية من لحظات وومضات قصيرة جداً، في إحدى ليالي الشتاء الماضي 1975، حضرت ندوة مسرحية بمسرح الكشاف بطرابلس، اختلفت فيها الآراء كثيراً، حول كلمة بسيطة هي «الرمز»، ومرت الأيام لم أستطع أن أتخلص فيها من هذه الآراء التي أخذت تدق في أذني وبصوت كل صاحب لها، حتى جلست لأخط هذا الكتاب».

 

يضم قاموس كمال عيد أبجدية بالعربية وحدها، وثبتاً بالمراجع الأجنبية والعربية، ثم يفرد مصطلحاته على صفحات الكتاب تعريفاً موجزاً حيناً، وشرحاً وتحليلاً حيناً آخر، ويورد أحياناً أخرى الكلمة الإنجليزية إلى جانب العربية دون ترقيم عددي للصفحات. ويلاحظ أن «للأعلام» مكانة خاصة في هذا القاموس، فلهم فهرس، ولأعمالهم تفصيل وتصريح في التعريف بالمصطلحات أو ذكر وجهة نظر. هذا مثال «مكسيم جوركي (الاسم بالإنجليزية) 1868- 1936.

أول كلاسيكي الواقعية الاشتراكية. وأحد الكتّاب الذين قدموا العبء الكبير لنشر الآداب الاشتراكية بعد الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي. كتب المقالة، والقصة، والدراما، ودراسات عن طرق تطوير آداب بلاده الشابة يرجع إليه الفضل في إبداع الشخصية (الكبيرة) في الأدب السوفييتي» (ص 292).

 

وثمة ملاحظات أخرى نوجزها فيما يلي:

1) يشكو القاموس من التخصص في فن أو جنس أدبي بعينه، فالاتساع والشمول يفترضان ما يوازيهما على مستوى الإحاطة والدقة، فهو يكتب ستة أسطر عن أفلاطون (ص 29) بينما يكتب مثلها عن لوناتشارسكي، وضعفها عن جيته (ص 118).

ويكتب عن «الباليه التجريدي» بلغة التعميم، بينما يقترب من الدقة العلمية في الكتابة عن «الباليه السمفوني» (ص 62- 63).

2) يشكو القاموس من المنهج، حيث تختلط المصطلحات بوجهات النظر من جهة، وحيث تتنازع الأفكار من جهة أخرى.

إن المؤلف يكتب عن «أسطورة» و«أسطورة شعبية» (ص 27) و «الباروك» (ص 57) و«العواطفية» (ص 206)، ويكتب عن «الدور الاجتماعي في الفن» (ص 141)، و«آداب فنون المشرق» (ص 21) بالطريقة نفسها، وبالحجم نفسه، وبنظرة مختلفة أحياناً إذ يغلِّب المنهج الموضوعي حيناً، والابتداعي حيناً آخر، والاجتماعي حيناً ثالثاً.

ويستغرب المرء هنا إلحاح المؤلف على تميز آداب وفنون الشرق باعتبارها تتعرض لأجواء شرقية ذات طابع خاص، بينما يرى في الدور الاجتماعي للفن نقطة ارتكاز كونه يحقق التصورات للمواقف الاجتماعية المختلفة وفق سلوك الشخصية أو الإنسان الفنان، في متابعة للقواعد السائدة في مجتمع من المجتمعات. وهذا يعيد وظيفة الفن إلى نوع من الشخصانية أو الفردانية. ولا نبالغ هنا في تقدير إسهام المؤلف ولاسيما في تأكيده على مصطلحات علم النفس مثل التصورات للمواقف أو السلوك أو التصرفات أو تعدد وجوه الإنسان المعاصر. لقد صار الدور الاجتماعي (أو الوظيفة الاجتماعية) للفن إلى سلوك شخصي للفنان. لاحظوا!

3) يشكو القاموس من النزعة الانتقائية وما يستتبعها من تغليب مصطلح فرعي على آخر رئيسي. ويستغرب المرء هنا أيضاً تخصيص «تاريخ الفن» (ص75) بأسطر قليلة، بينما يخص «رتابة» (ص147) أو «موضة» (ص 298) بالأسطر الكثيرة، إلا أن الاهتمام بالمصطلحات المسرحية نظري خالص لا يراعي على سبيل المثال، يفرّق بين «التميز» في المسرح وغيره من الفنون، ولكنه يغفل رؤيا الفنان لصالح الظاهرة أو إعمال الذات:

«التميز هو هذه اللحظات التي تنتشر هنا وهناك على طريق التكوين الفني، التي تكوّن الحقائق التاريخية والاجتماعية للبطل وتصرفاته وسلوكه في مباشرة صالحة.

.. وفي العرض المسرحي يتجسد التمييز في مناصفة بين حوار الكاتب وتأويل وتفسير وترجمة المخرج «وسائل العرض». وفي فن الرقص يتحدد التمييز في الفن الصامت «البانتوميم» والحركة الجسدية والفنية» (ص 96- 97).

وفي حديثه عن الواقعية الاشتراكية، يؤكد أنها تعني التزام العقيدة الاشتراكية أو المبادئ الاشتراكية، ولا يسمي الالتزام صراحة، نافياً عنها معنى المذهب فكرياً وفنياً في الوقت نفسه (ص 322- 324).

لنسأل إذن: ما أهمية قاموس «فلسفة الأدب والفن»؟ للوهلة الأولى، نقول: إن هناك قواميس ومعاجم كثيرة مترجمة أو معدة أصبحت في متناول القارئ، وبعضها اعتمد عليه المؤلف نفسه، وهي تقترب من اختصاصها، ولا تفارق أمانة شموليتها المرسومة. إن عمل عيد مسبوق، والسابق أفضل، ويكفي أن نتذكر «معجم مصطلحات الأدب» للدكتور مجدي وهبة فقط.

 

-4-

يؤكد إبراهيم حماده أن معجمه ليس ترجمة أو تعريباً حرفياً لكتاب أجنبي في الاصطلاح الدرامي والمسرحي، ولكنه خلاصة خبرة شخصية واحتكاك مباشر تخصصي بفنون المسرح ومراجعها الأصلية. ويضيف: «والكتاب –بكل فخر- لا نظير له في لغة أخرى، وقد يكون هناك ما يفوقه، ولكن ليس شبيهه» (ص 10).

أما أبرز خصائص هذا المعجم فهي الإيجاز أو الاختزال وسريان المصطلح على ألسنة المسرحيين ولو جرى الاعتماد على «تفصيح العامية».

الترجمة:

ترجمة الكلمة الأجنبية إلى العربية مع استشارة قواميس العربية وبعض القواميس الإنجليزية والفرنسية التي تبحث في مصادر الكلمات وتطورات معانيها مع الميل الشديد إلى تفصيل ما هو جار فعلاً في محيطنا المسرحي.

 

الاستنباط من الشكل أو المعنى أو الوظيفة:

أي تصور خصائص ووظائف الشيء موضوع الاصطلاح، ثم محاولة «استيلاد» معنى يمكن أن يدل على الشيء كله.

تفصيح العامية:

إذا كانت اللغة العامية قادرة على مدّنا بالمصطلح فإنها –كمصدر خير من اللجوء إلى تعريب الكلمة الأجنبية، ما دامت الفصحى عاجزة عن الإتيان بالقرين الصحيح (وهذه وحدها تحتاج إلى بحث).

التعريب:

وهو نهج شرعي انتهجه أسلافنا العرب. وإن لم يتوسعوا فيه، فإنهم اضطروا تحت ضغط الحاجة في بعض الأحيان- إلى تعريب ألفاظ ثقيلة المبنى والمخرج.

النحت:

كان هو المصدر الأخير الذي أمدني بأقل القليل من المصطلحات. ومع أن اللغة العربية لغة اشتقاقية قبل كل شيء، فإن العرب قد عرفوا النحت. ومايزال مصدراً هاماً في العصر الحاضر من مصادر إثراء اللغة ومدّها بمصطلحات العلوم والفنون.

من الواضح، إنني أعمد إلى تفصيل القول في طريقة حمادة في كتابه مواد معجمه، لأن عمله ريادي وتأسيسي، فيورد المؤلف بعد «مدخل منهجي موجز» كشافاً عربياً ويتبعه بكشاف إنجليزي آخر. وهذا يختلف عما هو سائد حيث تقتصر معاجم المصطلحات التي تصدر في مصر لشتى فروع المعرفة الإنسانية على إيراد المصطلح الإنجليزي أو الفرنسي إلى جانب قرينه في اللغة العربية.

 

وثمة ملاحظة أخرى هي التزام المؤلف بشرح طبيعة كل مصطلح شرحاً مكثفاً يستجلي معناه، ويضيء حواشيه التاريخية كلما أمكن ذلك. ثم يوضح المؤلف الفرق بين المعجم والقاموس، فالقاموس شمولي في المعالجة، يتناول كل ما ينتمي إلى عالم الدراما والمسرح –سواء كان هذا الانتماء متمثلاً في شخص أو كتاب أو فرقة مسرحية أو مكان تمثيلي أو نوعية درامية أو مصطلح –بالتفسير أو بشيء من التفصيل في بعض المواقع. أما المعجم فهو معالجة المصطلحات الدرامية والمسرحية فحسب، وفق تعريف مركز جداً يحدد –ما أمكنه- الملامح الشخصية المميزة للمصطلح.

ويشير حمادة إلى مسألتين الأولى هي صعوبة التعريف لدى العاملين في مجالات المعرفة الإنسانية، لذلك جرى تدعيم كثير من المصطلحات بسطور تاريخية تلقي ضوءاً على دلالات المصطلح. والثانية هي صعوبة التمثيل أو الاستشهاد بالمسرحيات العربية، لأن تراثنا المسرحي لم يؤرخ له التاريخ الذي يجعله قريباً من ذهن القارئ أو حتى الباحث المتخصص.

لقد لجأ حمادة إلى توثيق مصطلحه إحاطة وتاريخاً واحتمالاً للمعنى وهذه أمثلة:

- «الاختتامية المسرحية (المصطلح بالإنجليزية).

مشهد تمثيلي، أو خطبة يلقيها الممثل في نهاية العرض المسرحي. ففي نهاية مسرحية «كما تهوى- 1600» لوليم شكسبير تلقي الممثلة البطلة روزالند الاختتامية» (ص 69).

- «مسرحية راكدة (المصطلح بالإنجليزية)».

يستعمل بعض النقاد نفس المصطلح الإنجليزي في حروف عربية، وبعضهم يقول: مسرحية «استاتية». والمقصود هو المسرحية التي لا تتطور شخصياتها، أو مواقفها، وتعتمد على الحوار دون عناية بالحركة المسرحية. والمثل على ذلك مسرحية «الأعمى –1890» لمترلنك» (ص 266).

ولا ننسى أيضاً أن حمادة يزود مصطلحه بالرسوم التوضيحية مما يفيد رجل المسرح أو المتخصص كذلك. وثمة فائدة أخرى هي ترقيم المصطلح، وقد بلغ عددها 600 مصطلحاً يختلف «قاموس المسرح» عما سبقه من أعمال، لأنه يدخل في باب «الترجمة» أو «الترجمة بتصرف» كما عرفت لدى مؤسسات ثقافية عربية كثيرة قبل انتشار الترجمة، وشيوع تعلم اللغات الأجنبية مثل كتاب «المختار» أو مطبوعات ودوريات «كتابي» أو كتاب «الجيل» أو «الكتاب اللبناني» وسوى ذلك كثير.

يسلط هذا القاموس الضوء على عشرات المسرحيات العالمية وعشرات المؤلفين المسرحيين. وقد اعتمد المعد أو المترجم على أكثر من مرجع، وهي مراجع معروفة وموصوفة القيمة تأريخاً ونقداً، ولكنه يتصرف في النقل أو الترجمة، فلا تكون الفائدة مجزية.

 

يحدد المعد طريقته على النحو التالي:

- رصد عدد كبير من المسرحيات المترجمة إلى اللغة العربية لتعريف القارئ بأغلب ما عرّب من مسرحيات.

- ذكر بعض المسرحيات الهندية واليابانية والتركية وغيرها من المسرحيات التي وجد صعوبة في ترجمة عناوينها.

- الاضطرار لاعتماد ترجمة حرفية لبعض الأسماء والعناوين منعاً للتشويش، ولاسيما إزاء المسرحيات المترجمة.

- الاضطرار لاعتماد ترجمة بديلة أقرب إلى الصواب والدلالة الأصلية، لأن بعض هذه الترجمات غير دقيقة أو حرفية منحلة أو عامية.

- اعتماد النقل الحرفي في بعض الحالات، وبالتحديد في حالة العنوان- الاسم كما في بعض مسرحيات ابسن على سبيل المثال.

- اللجوء إلى نقل أحرف أسماء بعض المسرحيين نقلاً تصويرياً إلى العربية- أي كما تكتب باللغة الأصلية لا كما تلفظ بالعربية.

- اللجوء إلى الترجيح، ولاسيما إزاء ما لم يترجم من قبل إلى اللغة العربية.

يتسم «قاموس المسرح» بالسهولة والاستسهال وقلة الدراية المسرحية، وضعف الإلمام بالتاريخ المسرحي. وسأوضح ذلك كله من خلال الملاحظات التالية:

1) يخلو القاموس من كشاف عربي أو آخر أجنبي شأن مختلف القواميس والمعاجم.

2) يخلو القاموس من ترقيم المصطلح أو المادة المذكورة، ومن أي دليل يعين القارئ، ويشير إلى موقع المصطلح أو المادة.

3) يوجز المعد أحياناً إلى حد الفقر، أو يفصّل القول حين لا ينفع التفصيل. وهذه أمثلة للنوع الأول:

«ترويض السليطة (1592- 1593)».

من تأليف وليم شكسبير. وجذورها موجودة في «ألف ليلة وليلة» وبالتحديد في حكاية «النائم يستيقظ»( ). كما أن شكسبير استمد العقدة من قصيدة قصصية غنائية ظهرت في أواسط القرن السادس عشر» (ص 57).

 

«بينا، مارتنز (1815- 1848)»:

مؤلف مسرحي كوميدي برازيلي، من أهم أعماله: «المهندس الإنجليزي» كتبها في العام 1945 و«رجل الحانة» كتبها في العام 1946».

وهذه أمثلة من النوع الثاني:

«سكيلر، فردريك فون (1759- 1805) » (ص 105- 106) وقد كتب عنه والي صفحتين، وسكيلر هو شيللر. ويقاس التفصيل إلى ما ورد عن سواه من كبار المسرحيين.

4) تجاهل الجهود العربية المبذولة في تداول أسماء مسرحيات وأعلام وشيوعها على أقلام المسرحيين العرب وجمهورهم عن عمد أو جهل، مثل اسم شيللر كما رأينا، ومثل «السيارة المقبرة» بدلاً من «رغبة تحت شجرة الدردار»، و_«أنت على حق» بدلاً من «حسب تقديرك»، و «انريكو» بدلاً من «هنري الرابع»، و«براون الإله العظيم» بدلاً من «الإله العظيم براون» و«البطة الطائشة» بدلاً من «البطة البرية» و«بيت الدمى» بدلاً من «بيت الدمية» وغيرها كثير.

ومن الواضح، إن الاسم الأسبق أو الترجمة المتداولة أقوى وأصح كما هو الحال مع مسرحية أرابال، أو مسرحية أونيل أو مسرحيات براندلو وابسن. ولنا أن نذكر أن الترجمة الأصح هي «البطة البرية» و«هنري الرابع» على سبيل المثال لا كما فعل المعد.

ومن الواضح أيضاً، إن معرفة بسيطة بالتاريخ المسرحي قمينة بإزالة مثل هذه الالتباسات. وإلا كيف يصبح اسم مسرحية بيراندللو «انريكو» ويتجاهل الرقم 4 في العنوان؟

والحق، إن غالبية الأسماء المستخدمة في هذا القاموس لا تخرج عن مثل هذه الالتباسات التي تصب في قلة الدراية المسرحية.

5) اكتفاء القاموس بالمسرحيات والمؤلفين المسرحيين، وتجاهل العلامات البارزة في المشهد المسرحي الحديث والمعاصر على أقل تقدير مثل المسارح والمراحل التاريخية والاتجاهات ورجال المسرح، ونظرياته وغير ذلك. إن مثل هذا القاموس قاصر عن المستوى المتقدم الذي بلغته الثقافة المسرحية باللغة العربية من خلال الدوريات الكثيرة المنتظمة أو التي توقفت عن الصدور، مثل:

- روائع المسرح العالمي- القاهرة (متوقفة).

- مسرحيات عالمية- القاهرة (متوقفة).

- من المسرح العالمي- الكويت (مستمرة في سلسلة إبداعات عالمية).

- المسرح- القاهرة (متوقفة).

- الحياة المسرحية. دمشق (مستمرة).

- السلسة المسرحية- دمشق (مستمرة).

- عيون الأدب المسرحي- حلب (متوقفة).

- مكتبة الفنون الدرامية- القاهرة (متوقفة).

 

-5-

لابد لنا، بعد استعراض هذه الجهود العربية المبذولة ونقدها ومقارنتها، أن نخلص إلى أن التأليف المعجمي أو القاموسي أو الموسوعي في صلب النهوض الثقافي المرتجي حيث ماتزال أسباب التطوير المسرحي ماثلة وشاخصة تحتاج إلى جهد عربي مشترك وبرعاية قومية خالصة، لأن جهود الأفراد والمؤسسات ودور النشر محكومة باعتباراتها التجارية الخاصة وبمقدرة العاملين أو المتعاونين معها. ولعلنا نذكر في هذه المناسبة توصيات ندوة اللجنة الدائمة للمسرح العربي في دورتها الأولى( )، وفي مقدمتها تأليف المعجم متعدد اللغات للمصطلحات المسرحية. وهنا نص المسرحية:

- «نظراً لما لمسته اللجنة من حاجة ماسة إلى توحيد المصطلحات المسرحية الشائعة في الوطن العربي، فإنها تقرر تكليف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالعمل على تشكيل لجنة فنية من خبراء المسرح العربي لوضع هذا المعجم».

 

ثم أوصت اللجنة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالاتصال بجهات الاختصاص في الحكومات العربية للعمل على تنفيذ المقترحات القيمة المقدمة من الدكتور محمد يوسف نجم ممثل فلسطين في اللجنة، وتتلخص المقترحات فيما يلي:

1- تاريخ المسرح:

لقد بذلت محاولات قليلة لكتابة تاريخ المسرح العربي، بعضها منهجي جاد ملتزم، وبعضها لا يلتزم في المنهج السليم، ولا يعتمد على المصادر الموثوق بها، وما تزال هناك حاجة ماسة لكتابة تاريخ كهذا.

2- موسوعة المسرح العربي:

بالإضافة إلى تاريخ المسرح، يحتاج العاملون في المسرح العربي إلى موسوعة تتناول النشاط المسرحي العربي منذ أول ظهوره حتى اليوم، وتكون مرجعاً شاملاً للباحث ورجل المسرح، وينبغي أن تتناول هذه الموسوعة التعريف بالفرق والممثلين والمخرجين والمؤلفين والمخرجين والمؤلفين والنقاد ومهندس الديكور ومؤلفي الموسيقى، وكل ما له علاقة بالنشاط المسرحي العربي.

3- سلسلة أوراق المسرح العربي:

تضم هذه السلسلة الدراسات الجزئية التي تتناول جانباً من جوانب النشاط المسرحي أو شخصية من الشخصيات العاملة فيه. وتنشر فيها الوثائق والقوانين التي تتصل بالمسرح العربي.

4- بيبلوغرافية المسرحية في الأدب العربي الحديث:

وهي كشاف للمسرحيات العربية موضوعة أو مقتبسة أو مترجمة، ما مُثّل منها وما لم يُمثّل.

5- تعميم الثقافة المسرحية وانتشارها:

 وتتمثل جوانب الثقافة المسرحية في إصدار سلسلة نصوص التراث المسرحي العربي، وإصدار الكتب الخاصة بالأدب المسرحي وفنون المسرح، وترجمة النصوص المسرحية العالمية وتنظيم هذه العملية.

إن ما قام به إبراهيم حمادة في معجمه، ويوسف أحمد داغر في فهرسه يلبي احتياجات أساسية في المعجم المسرحي العربي المنشود. أما صنيع كمال عيد ومؤنس الرزاز فلا يبعد عن شهوة التأليف عند الأول، وقصد السوق عند الثاني. ومانزال، في الأحوال جميعها، نتطلع إلى إنجاز قاموس عربي شامل للمسرح. ولا يخفى أن مثل هذا العمل الكبير يحتاج إلى جهد عربي مشترك يكفل له التنظيم والنجاح( ).

[مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق) نيسان-حزيران 1982]

 

10

مسرح الأطفال في سورية

مسرح الأطفال في سورية حديث شأن مبدعات أدب الأطفال الأخرى. فقد كان حتى نهاية الستينات داخل جدران المؤسسة التربوية، ولم يلتفت إليه الأدباء إلا متأخرين ضمن اهتمامهم الذي يكاد يكون مفاجأة بأدب الأطفال بعد حرب حزيران 1967 حين أعلن الشاعر الكبير سليمان العيسى باسم الضمير الأدبي عن الإيمان بالمستقبل العربي من خلال تنشئة الأجيال الجديدة بالقيم القومية والشعبية والأصلية، وكان المسرح أحد قنوات الاتصال الهامة بجماهير الأطال، فانطلق مسرح الأطفال خطاباً قومياً وتربوياً بالدرجة الأولى، وهو ما جسدته مسرحيات سليمان العيسى، ومن ساروا على منواله، آنذاك أـمثال مصطفى عكرمة وعيسى أيوب.

ويفصل هذا البحث القول في مسرح الأطفال في سورية خلال السبعينيات والثمانينيات على أنها الفترة الخصيبة في تطور هذا الفن الذي وجد إقبالاً، فراحت أعماله، ودارت على أقلام الكتاب وإبداعات الفنانين دوراناً ملحوظاً، غير أننا سننظر قبل ذلك في مفاهيم مسرح الأطفال لتبيان أهمية النقلة التربوية والفكرية والفنية التي شهدها هذا الفن في العقدين الأخيرين، ولتفهم ثراء تجربة مسرح الأطفال في سورية ويتصدى البحث بعد ذلك لعرض إطار عام لتطور مسرح الأطفال في سورية، ثم يتوقف ملياً عند الممارسة المسرحية والوعي به.

 

1- مسرح الأطفال:

يختلف مسرح الأطفال عن مسرح الكبار أو الراشدين، وتتجلى في قضية مسرح الأطفال معضلة التربية والفن أكثر من بقية مبدعات أدب الأطفال الأخرى كالقصة والشعر، فقد عومل مسرح الأطفال إلى وقت قريب على أنه المسرح المدرسي أو استخدام المسرح لغايات الدرس أو التعليم أو التربية، ولم يعترف بانتماء مسرح الأطفال إلى الفن أو الأدب إلا متأخراً، فقد غاب مسرح الأطفال عن الأدب طويلاً وصار بالنسبة للمؤسسة التربوية مادة للمناشط الاحتفالية ورافداً للمنهاج المدرسي، إغفالاً لطبيعة الممارسة المسرحية الطفلية التي تتسع لتشمل مشاركة الطفل نفسه في الفرجة والمشهدية، وتضيق لتقارب مفهوم الخطاب المسرحي للراشدين، حين يصبح الطفل متلقياً، وهو ما اصطلح على تسميته بمسرح الكبار للصغار.

 

إن مسرح الأطفال، بهذا الإطار، نوعان، نوع أول هو وسيلة تربوية وتثقيفية يشترك فيه الطفل بالتمثيل والمشهدية. وأشهر أشكاله «الدراما الخلاقة » وهي استثمار طاقة الطفل الحركية والتعبيرية في إدراك العالم وتنمية الشخصية وتربية الذوق وتعزيز التثقيف الذاتي والصحة النفسية، أما سبيل «الدراما الخلاقة» فهو المسرحة من الحكايات والقصص والأحاديث والتجارب وتنامي ذلك عبر استنفار مقدرة الطفل الحركية والتعبيرية في الأحاسيس والتخييل واللغة والوعي.

وثمة نوع ثان هو مسرح موجه إلى الأطفال، ويستند إلى اعتبارات مخاطبتهم الفنية والتربوية حيث تتعدد أشكال المسرحة من التجسيد الآدمي، كمسرح الكبار للصغار التمثيلي أو الغنائي أو التسجيلي إلى الاستخدام المادي لعناصر عرض كالعرائس أو خيال الظل أو الضوء وغير ذلك.

 

ومايزال الالتباس قائماً في تحديد نوعية مسرح الأطفال، غير أنه يستلزم مراعاة عناصر لابد منها تتمثل في «دراما الطفل» التي تمنح مسرح الأطفال خصوصيته، بما تعنيه من استعادة الطفولة في فضائها الفريد وقد وضعت على المسرح، وغدت ناجزة لتلقي الطفل، كما تتبدى أيضاً في «الموقف الأدبي» الذي يستوعب فعالية الطفل نفسه على التلقي الموضوعي، والابتعاد ما أمكن عن التلقي الانفعالي أو التلقي المزاجي. ويؤدي هذا التلقي الموضوعي إلى شروط في البناء المسرحي ولغته وتخييله أيضاً.

وهكذا نلاحظ أن مفهوم مسرح الأطفال مختلف عن مسرح الكبار أو الراشدين، ومختلف عن محاولات تبسيطه في المسرح المدرسي، فهو أبعد من مجرد وسيلة تربوية للإيضاح أو التعليم أو الوعظ أو الإرشاد أو التوعية، وهي تسميات متشابهة لممارسة مسرحية طفلية حصرت مسرح الأطفال في مفهوم المسرح المدرسي الذي يعني بالتبشير والدعاوة والتعليم والشروح والشعارات بالدرجة الأولى، وهو حال غالبية نماذج مسرح الأطفال في ممارسته التربوية المباشرة.

 

ولعلنا نتعرف أكثر إلى طبيعة مسرح الأطفال في تجربته وتطوره لدى عرضنا لإطاره التاريخي ومعاينتنا لممارسته وشؤون الوعي به فناً هو وسيط ثقافي راق، ووسيلة اتصال فعالة، قبل أن ننظر في قضايا مسرح الأطفال وموضوعاته وأهم مؤلفيه كما ظهرت جلية في العقدين الأخيرين.

 

2- لمحة تاريخية:

اقتصرت مسرحية الأطفال في سورية حتى نهاية الستينات على التمثيليات المدرسية، فقد التف حول المسرح المدرسي مربون بارزون بحكم الحاجة لنصوص تغذي احتياجات المهرجانات والاحتفالات المدرسية، نذكر منهم رضا صافي الذي طبع مؤخراً بعض المشاهد التمثيلية في كتابه «صرخة الثأر» (1980) وكأن كتبها في الخمسينيات «معلم يعتقد أن واجبه في توعية أبنائه وبناته وتوجيههم وطنياً وقومياً، مقدم على واجبه في تعليمهم» كما جاء في تقديمه، ونصري الجوزي الذي نشر أكثر من عشر مسرحيات في «السلسلة المسرحية للطلبة» (1970-1971-1974). ومن الواضح أن هذه التمثيليات تعتمد على إشاعة القيم التعليمية ولاسيما الوطنية في نفوس الناشئة من خلال أسلوب مباشر واضح وغنائي أحياناً، مما يفسر ضعف الفعلية في بناء النصوص، وغلبة العبارات المأثورة، وغالباً ما استمد هؤلاء الأدباء نصوصهم من التاريخ تقديساً للروح الوطنية ودفاعاً عن الأرض واعتزازاً بالانتماء للأمة العربية ونضالاً في سبيل فلسطين والقضايا القومية.

 

وكان ظهور مجموعة مسرحيات سليمان العيسى الغنائية «المستقبل» (1969) تطويراً واضحاً. إذ كرس منذ ذلك الوقت جل إبداعه للأطفال.

ويتجلى هذا التطوير في الاقتراب من عالم الطفولة من حيث تنوع الموضوعات الأليفة كالبيت والمدرسة والطبيعة والوطن والكفاح في سبيل حياة أفضل، ومن حيث تطويع الأسلوب الفني للخصائص التربوية مثل تقبل الأطفال للإيقاعات والأوزان الشعرية، ومقدرتهم على تلحينها بأنفسهم، ومثل بساطة التراكيب ودقة الألفاظ وسهولة جريانها في منطوق الأطفال.

 

ويحفل كتابه الكبير «مسرحيات غنائية للأطفال» (وهو يجمع مسرحياته حتى عام 1982) بنصوص كثيرة تضع الطفل أمام عصره، وتجعله أقرب المتطلعات المنشودة في انخراطه المبكر بمجتمعه وصيانة مستقبل البشرية.

 

تحدث سليمان العيسى للأطفال بلغتهم. من خلال مشاعرهم الدافئة، عن التزامهم بأهم القضايا المصيرية لأمتهم العربية، وأحيا في نفوسهم الأمجاد الغابرة والنزوع الإنساني للتعاطف مع الشعوب الأخرى المحبة للعدل والسلام، ودعاهم إلى الكفاح بلا هوادة من أجل الوحدة العربية التي سماها «الحلم العظيم» في مسرحية بالعنوان نفسه.

جسّد العيسى في مسرحياته أبهى الصور العربية إيماناً بالحرية والكرامة والطفولة والمستقبل، وأعطى الأطفال أدواراً رائدة في بناء الحياة، وربط ذلك كله بتراث أمتهم وتراث الإنسانية، كما هو واضح في عناوين مسرحياته «الأطفال يزورون المعري» و«الأطفال يحملون الراية» و«المتنبي والأطفال»و «سندريلا» و«الأطفال يزورون تدمر».

 

وتعد سنوات السبعينيات الأخيرة منطلق انتشار الكتابة لمسرح الأطفال وفق الاعتبارات التربوية المدروسة والملموسة، فمع ميلاد منظمة طلائع البعث (1974) وقيام مهرجانها القطري السنوي (اعتباراً من عام 1975)، أقبل عدد من الكتاب على الكتابة لفرق الأطفال الكثيرة المنتشرة في مختلف المحافظات مثل فرحان بلبل وعيسى أيوب ومحمد أبو معتوق وإبراهيم جرجي وصالح هواري ومحمد معشوق حمزة.

 

ويقدم المهرجان القطري لطلائع البعث سنوياً عروضاً في إطار مسرح العرائس وخيال الظل ومسرح الأطفال (مسرح الكبار للصغار) ومسرح المنوعات والمسرح الغنائي الاستعراضي ومسرح الفنون الشعبية وأغنية الطفل العربي، وتصدر المنظمة نصوص هذه العروض ضمن مطبوعاتها منذ المهرجان القطري السادس (طرطوس 1981). وهذه الكتب وثائق هامة عن تطور العمل المسرحي للأطفال في سورية. أما عمل وزارة الثقافة والإرشاد القومي فقد اقتصر على مسرح العرائس (منذ عام 1959) الذي قدم حتى نهاية (1985) قرابة 22 مسرحية، غالبيتها مترجمة أو معدة.

 

وجرت محاولة لتأسيس مسرح الطفل في وزارة الثقافة وبدأ عمله عام (1983) بمسرحية هي «علاء الدين والمصباح السحري» أعدها عدنان جودة عن قصص ألف ليلة وليلة والمسرحية العرائسية السوفيتية (طبعت عام 1984 ضمن منشورات الوزارة).

 

وهناك نشاط ملحوظ في التأليف للنشر أو التكليف المباشر للمهرجانات القطرية، وقد بلغ عدد النصوص المسرحية في مطبوعات المنظمة أكثر من 460 نصاً مسرحياً. تكاد المسرحية المكتوبة على لسان الحيوانات من باب «الأنسنة» أو تعليل صفات الطبيعة وأشكالها هي الغالبة على مسرحية الأطفال في سورية، بل إن كتاباً كثيرين وظفوا هذا الأسلوب لحاجات بناء مسرحيات رمزية تباشر القضايا الأساسية كقضية فلسطين والاحتلال الصهيوني وقضية التجزئة والتعلق بالوحدة العربية وقضية العدالة الاجتماعية وقضية تنمية العادات السلوكية الحميدة. وهذا جلي في مسرحيات صالح هواري «قتلوا الحمام» (1984) ومسرحيات محمد أبو معتوق «ثلاث مسرحيات للأطفال» (1984) و«أوهام حارس الغابة» (1986)، ومسرحيات عيسى أيوب الكثيرة وخصوصاً «الملك والربيع« (1981) و«الحسون في عيد الزينة» و«الرغيف» (1985) ومسرحية أحمد يوسف داود «محكمة في الغابة» (1980). ومسرحية جمانة نعمان «سيدة ثمار الصيف» (1983).

 

وثمة كتاب آخرون يؤثرون الصياغة الواقعية المستمدة من بطون التاريخ أو الحكايات الشعبية أو الأساطير أو حركة الواقع بقصد التركيز على قيم سلوكية أو اجتماعية أو قومية كما في مسرحيات فرحانبلبل «ثلاث مسرحيات للأطفال» (1983) ومسرحية نصر الدين البحرة «أغنية المعول» (1978) ومسرحيات عبد الفتاح رواس قلعه جي «ملكة القطن والشمس» (1979) و«أوبريبت قلعة حلب» (1983) وأكرم شريم «ممتاز يا بطل» (1981).

 

وهناك كتاب كثر صاغوا مسرحياتهم من خلال حياة الأطفال اليويمة، ولا سيما داخل المعسكرات والمناشط الطليعية تركيزاً على مشاركة الطفل وتثير النزعات الإبداعية والبطولة لديه، مثل محمد بري العواني «الفنانون الصغار» (1983) وإبراهيم جرجي «الأطفال ينشدون على الشاطئ موج البطولة» (1983) وكمال عبد الكريم «أهلاً بكم» (1982).

 

إن أعوام 1975 و1985 هي الأوفر انتجاً والأكثر تطوراً في مسرحية الأطفال في سورية، سواء في ضبط التجربة الفنية، أو في مراعاة الاعتبارات التربوية الواجب توافرها في كل أدب للأطفال.

 

3- مسرح الأطفال في الممارسة:

من الواضح، أن مسرح الأطفال في سورية، شأنه شأن بقية مسارح الأطفال الأخرى، قد انطلق من المدرسة ملبياً لحاجات تربوية بالدرجة الأولى رافداً للمناشط التربوية في المدرسة وخارجها، ولا سيما الاحتفالات التي اتسعت مكانتها في حياة التلاميذ والطلاب بعد الاستقلال (1946)، وربط التربية بالأبعاد الوطنية والقومية، ويشير إلى ذلك تعدد منسباتها على مدار العام الدراسي. وتشهد سنوات ما بعد الوحدة بين سورية ومصر (1958) إلى إشراك المدرسة بالاحتفالات العامة، وقد كان المسرح، بعروضه واستعراضاته الفنية والجماهيرية الشكل المفضل لمشاركة الناشئة بالأعياد الوطنية والقومية.وبهذا المعنى، غلب على النشاط المسرحي للناشئة غرض تعليمي شديد الاتصال بمعاني هذه الأعياد، بل إن غالبية العروض المسرحية هي أشبه بالدروس التي تسعى إلى وضع الناشئة في الحالة الوطنية والقومية الناهضة.

 

وليس مستغرباً أن تمثيليات نصري الجوزي هي الأكثر أداء على خشبة المسرح المدرسية وفي احتفالات التلاميذ والطلاب ومهرجاناتهم، حتى أنه أعاد طبعها في مطلع السبعينات، فجمع خمسة فصول مسرحية منها مع مقدمة لعجاج نويهض هي: «أمة تطلب الحياة» و«حفلة عشاء» و«باسم الحداد وهارون الرشيد» و«معجون الحب» و«على الباغي تدور الدوائر» (1974). وأصدر ست تمثيليات في السلسلة المسرحية للطلبة، هي «ذكاء القاضي» و«العدل أساس الملك» و«عيد الجلاء» (1970) و«فلسطين لن ننساك» و «وفاء الأصحاب» و«حطموا الأصنام» (1971). ويذكر أن غالبية هذه المسرحيات أو التمثيليات قد طبعت لأول مرة في مطبعة «بيت المقدس_» بالقدس في منتصف الأربعينيات. ثم أعيد طبعها لمرات في القدس ودمشق في الخمسينيات، ومثلت على مسارح معظم مدن فلسطين وسورية والأردن ولبنان وقراها، وأذيعت في برامج الأطفال من محطات عربية عديدة.

 

أما نصري الجوزي بشهادة الكثيرين فهو «أول من كتب الفصول التمثيلية على النمط الجيد جداً للأطفال والطلاب ابتداء من سنة 1945»، ويؤكد إقبال المدارس على إعادة عرض تمثيلياته إلى استجابة للذوق التربوي والتعليمي السائد حتى مطلع السبعينيات في بلاد الشام، وعلى إيمان المربين بفكرة الجوزي عن المسرح المدرسي بأنه «نواة صالحة لإعداد جيل عربي يتذوق الفن الرفيع، ويتقن لغة آبائه وأجداده، ويعمل على خلق مسرح قومي تتجمع فيه جميع العناصر الفنية والأدبية والوطنية، كما أنه يساهم في تقديم برامج إذاعية وتلفزيونية على مستوى رفيع». وكان الجوزي قد ضمّن إحدى مجموعات مسرحياته للطلبة فهمه للمسرح المدرسي، فوجد «أن الرواية المدرسية، يقصد المسرحية، أفضل بكثير من جل الكتب المدرسية الجامدة التي تدرس في مدارسنا، فالطالب مليء بالحياة زاخر بالحركة والنشاط، والرواية تحقق رغبته، وترضي حيويته، وتعبر عن كثير من ميوله الأخلاقية والأدبية والوطنية». وركز في محاسن المسرحية المدرسية على وظائفها المباشرة في تعلم اللغة العربية بالدرجة الأولى، ثم تلا ذلك وظيفة زرع محبة فن التمثيل، مشيراً إلى تطور المسرحية في البلاد الأوروبية، إذ خصتها وزارات المعارف هنالك «بقسط وافر من اهتمامها، وأدمجتها في برامج التعليم، حتى باتت قبلة أنظار الطلاب ومحج أمانيهم ونوازعهم»، ويورد الجوزي معلومات عن تنوع مسرحيات الطلاب، كالرواية الأخلاقية التي تحلي حياة الطالب وتجعله يتمسك بأرقى المثل الإنسانية والرواية الأدبية الفكاهية التي تزيل عن النفس كآبتها وآلامها.

 

إن هذا الفهم للمسرحية الطفلية ظل سائداً حتى الستينيات، ويتلخص في أن المسرح سبيل للوعظ والإرشاد والتوعية القومية، ويعد تعلم اللغة العربية عن طريق المسرح من أبرز عناصر التوعية القومية. ومن مظاهر تعليمية هذه الممارسة المسرحية الطفلية اقتصار الموضوعات على إعادة القيم التراثية الأصلية كالعدل والوفاء، وتقريب حوادث التاريخ العربي ومغازيه من أذهان الناشئة وقد وضع في مقدمة مسرحيته «العدل أساس الملك» العبارة التالية: «الاحتفاظ بتراث الآباء سنة فرضتها الطبيعة وساندتها الديانات الملوك تحكم فترة من الزمن وتمر، أما الأرض فباقية، دائمة خالدة».

 

وقد طبع الجوزي مسرحياته بالشكل الكامل والحرف الكبير، وزودها بالمقدمات الشارحة والعبارات المفتاحية الدالة على مغزى النص، وذيّلها بقوائم تشرح الكلمات الصعبة. وفي مسرحيته «عيد الجلاء»كتب عن دلالة المسرحية:

«وإني لعلى يقين بأن ذلك اليوم، الذي تتخلص فيه سائر البلاد العربية من ربقة الأسر والعبودية لقريب، فتعيد الأمة العربية جمعاء عيدها القومي، عيد الاستقلال عيد الجلاء، لأن ظل الاستعمار بات بغيضاً ممجوجاً، وأصبحت الشعوب الواعية تعمل جادة من أجل أن تحطم قيد الاستعمار وتستنشق نسيم الحرية صافياً. ولن يكون الوقت بعيداً حينما نسترد فلسطين، ذلك الوطن السليب، ونطهر تلك الأراضي المقدسة من شذاذ الآفاق، وعصابات اللصوص».

 

وبغض النظر عن مناقشة تفكير الجوزي، نلاحظ أنه يكتب مسرحياته التعليمية لتكون دروساً في الوطنية والقومية والأخلاق، ويؤيد دروسه بشواهد وعبارات مفتاحه على المغزى المنشود، ففي مطلع فصول «عيد الجلاء» أختار أبياتاً شعرية لأحمد وشفيق جبري تدعو إلى الشهادة والتضحية والفداء، ويختتم مسرحيته على النحو التالي:

«وهنا يتراجع الرمز إلى الوراء شيئاً فشيئاً، بينما تتصاعد في الفضاء قصيدة «الجلاء» لآمال حسين:

هو يوم ما سجل الدهر مثله

                        يوم قامت دمشق تقرع طبله»

 

إن مسرحيات نصري الجوزي صورة مثلى للكتابة المسرحية الطفلية السائدة حتى الستينيات كما أشرنا من قبل، ولعل الإشارة إلى كتاب «التربية المسرحية للمدارس الابتدائية»، وكان أيضاً معيناً للمسرح المدرسي في سورية، توكيد على هذا التفكير المسرحي الموجه للناشئة، والكتاب مطبوع بمصر أكثر من طبعة ودون تاريخ، وألفه محمد حسين المخزنجي وإسماعيل رسلان وأحمد شوقي قاسم، ولا يبتعد مؤلفوه عن تفكير الجوزي فهم يرون أن «أسلوب التربية باللعب والتمثيل هو خير الأساليب وأحدثها –وأهم من هذا وذاك أن هذه المسرحيات تحقيقاً للفلسفة التي تقوم عليها التربية المسرحية، من صميم المنهج المقرر على تلاميذ المدرسة الابتدائية حتى تكون أداة تعليمية أساسية يستخدمها المعلمون والمعلمات في فصول المدرسة فتفيد في توصيل المعلومات إلى التلاميذ في صورة شيقة عملية محببة إلى نفوسهم متفقة مع طبيعتهم فضلاً عن أنها تعتبر بحق خير وسيلة لإيضاح وتفسير ما لا يمكن توضيحه أو تفسيره بالطريقة الشفوية والإلقاء المعتاد».

 

ثم يوضح هؤلاء المؤلفون قصدهم الذي يباشر المسرح المدرسي سبيلاً للوعظ والإرشاد والتوعية القومية نفسه. ويكتبون:

«والأمر الذي لاشك فيه أن التربية المسرحية تعمل على تكوين شخصيات التلاميذ وبناء أخلاقهم وتربية أذواقهم وتصفيتها، كما أن التمثيل خير وسيلة للنهوض بالمواد الدراسية بطريقة عملية ناجحة تتفق مع أساليب التربية الحديثة، فهي تعالج موضوعات المنهج المقرر التي يلمسها الطفل ويحسها في حياته الاجتماعية والوطنية، كما توضح له دروس الدين واللغة والتاريخ وغيرها بطريقة جذابة مشوقة محببة إلى نفوسهم تساعد على حسن فهمهم واستيعابهم للمواد الدرسية دون مشقة أو عناء كما تساعد على تعليم التلاميذ منذ صغرهم على إجادة الإلقاء وحسن الأداء».

 

وهكذا ضم كتاب «التربية المسرحية للمدارس الابتدائية» مسرحيات في التربية الدينية مثل «سيدنا إبراهيم» و«سيدنا موسى» و«حفر زمزم» و«والد الرسول» و«عام الفيل» و«زواج الرسول»، ومسرحياته في التربية الاجتماعية مثل: «الحب الكبير» و«الوطنية» و«في الحظيرة» و«موكب الحرف»، ومسرحيات في منهج اللغة العربية مثل: «حلم البخيل» و«الأسد والثيران» و«من يأخذ الذهب» و«الثعلب المكار» و«الصديق الخائن». والمسرحيات بالشكل الكامل والحرف الكبير ومزودة بالرسوم الإيضاحية أيضاً كما هو الحال عند نصري الجوزي.

 

وإلى هذا النوع من التأليف أو الإعداد المسرحي، تنتمي غالبية التمثيليات والمسرحيات الموجهة للأطفال، ونشير في هذا المجال إلى كتاب «تمثيليات كليلة ودمنة» لمؤلفها أو معدها إبراهيم غز الدين إسماعيل (في أواخر الستينيات غالباً). وقد صدرت ضمن «السلسلة المدرسية للمطالعة والتمثيل»، تقريباً لهذا السفر التراثي من الأطفال، «في مسرحيات ممتعة أبطالها في الظاهر من عالم الحيوان في حين واقعهم من صميم واقع الإنسان». وقد أعد المؤلف خمس تمثيليات للأطفال هي «النمام» و«المحاكمة» و«حلم الأسد» و«خطة محكمة» و«أسلحة الكفاح».

 

وعلى مثال هذه المسرحيات صاغ مصطفى عزوز (من تونس) مجموعاته التي تحمل اسم «المسرح الصغير» (1979)، وتنحو هذه التمثيليات منحى «الأنسنة» واندغامه بالشخوص الإنسانية بقصد بث الحكمة والقيم على ألسنة الحيوان وعلاقتها مع الإنسان.

 

ومن الملحوظ، أن مسرح الأطفال اقتصر على أمثال هذه التمثيليات المدرسية، التي كانت مادة العروض المسرحية في المدارس ومادة الاحتفالات والمهرجانات، وأبرزها مهرجان المسرح المدرسي الذي أقامته وزارة التربية والتعليم عام 1960، واستمر حتى مطلع السبعينيات، حين تسلمت المنظمات التربوية الشعبية مهام التنشيط المدرسي والتعليمي والتربوي، «منظمة طلائع البعث» في المرحلة الابتدائية، و«اتحاد شبيبة الثورة» في المرحلتين الإعدادية والثانوية و«الاتحاد الوطني لطلبة سورية» في المعاهد والجامعات.

 

غير أن صيف عام 1960، شهد تطوراً في الممارسة المسرحية للأطفال في سورية حين تأسس مسرح العرائس برعاية وزارة الثقافة والإرشاد القومي وإشرافها وتمويلها، وهو مسرح موجه للأطفال قدم حتى نهاية الثمانينيات أكثر من ثلاثين عرضاً، كانت مجالاً للتسلية والتوجيه في آن معاً. وقد أوكلت الوزارة إدارة المسرح لأول مرة للفنان الشعبي المعروف عبد اللطيف فتحي الذي ضمن له الإقبال. وقدم مسرح العرائس عرضاً أو عرضين يومياً، وحضره سنوياً أكثر من ستين ألف طفل، ووظفت الوزارة له ملاكاً من الأطر الفنية المؤهلة، واستقدمت له الخبراء من يوغسلافيا ورومانيا، وجهزت له صالة دائمة في معهد الحرية بدمشق، وضمنت له إمكانية العرض الموسمي في المحافظات، حتى صار مسرح العرائس حافز تجديد لمسرح الأطفال بأنواعه الأخرى، حيث دربت فيه العناصر المحلية، وجربت التقنيات الحديثة، ونوّهت بأن مسرح الأطفال ليس منبراً للوعظ والإرشاد فقط، بل هو قناة ثقافية شديدة التأثير على وجدان الناشئة إذا أحسن الخطاب المسرحي الموجه للأطفال والفتيان.

 

ونجد أن مسرح العرائس قد ساهم في جذب الكتاب إلى الكتابة المسرحية للأطفال، فظهرت أعمال مسرحية لكتّاب لم يلتفتوا إلى مسرح الأطفال من قبل أمثال عبد اللطيف فتحي ونجاة قصاب حسن ونجاح المرادي ويوسف حرب ويوسف دهني وعرفان عبد النافع وتيسير هلال الدين ودلال حاتم وحسن م. يوسف.

 

أما الدور الأهم لمسرح العرائس فهو تعريف العاملين في ثقافة الأطفال وتربيتهم بالتقنيات الحديثة في مسرح الأطفال كعروض عرائس الخيوط «الماريونيت»والدمى القفازية والمسرح الأسود والأقنعة والحقيبة المدرسية والتسجيل الضوئي والفانوس السحري. وفي مسرح العرائس، أقيمت دورات كثيرة لمنشطي مسرح الأطفال في المدارس لتوسيع مجال استخدام هذه الخبرات المتطورة.

 

ثم قامت وزارة الثقافة والإرشاد القومي بخطوة هامة أخرى في مجال مسرح الطفل حين أنشأت «مسرح الأطفال»عام 1983، وأسندت إدارته إلى الفنان عدنان جودة الذي ألف وأخرج مسرحياته كلها: وهي «علاء الدين والمصباح السحري» (1983) و«خطيبة الأمير» (1984) و«القط أبو الجزمة» (1985) و«بدور والأقزام السبعة» (1986) و«علي بابا والأربعين حرامي_» (1987). وخصصت وزارة الثقافة صالة القباني بدمشق مكاناً لعروض «مسرح الأطفال»، وفرغت له أطراً تمثيلية مؤهلة ومتخصصة، وأتاحت لمديره والعاملين فيه تنفيذ تصور متطور لمسرح الأطفال، حين اعتمدوا على الحكايات والأساطير العالمية، وراعت خصائص مخاطبة الأطفال عن طريق المسرح، ولا سيما اللغة والخيال وطبيعة التلقي ورحابة الموضوع الإنساني.

 

أما التطور الأهم في الممارسة المسرحية للأطفال فهو تأسيس منظمة طلائع البعث عام 1974، وتنظيمها للمهرجان السنوي الذي يقام في نيسان أو أيار من كل عام في إحدى المحافظات. وقد أقيم المهرجان السادس عشر باللاذقية (نيسان 1991) وتكمن أهمية المنظمة ومهرجاناتها في المناحي التالية:

- تطور النظرة لمسرح الأطفال، فلم يعد تطبيقاً مباشراً للمنهج المدرسي، بل صار تعبيراً فنياً وتربوياً عن إدراك الناشئة للعالم من حولهم، ويتبدى ذلك في تعدد أنواع مسرح الأطفال التي تمارس باتساع مثل المسرح الغنائي الاستعراضي، مسرح الفنون الشعبية، مسرح الكبار للصغار (مسرح الأطفال)، مسرح العرائس، مسرح خيال الظل، أغنية الطفل العربي.

 

وهناك الآن حصيلة ضخمة من المسرحيات المقدمة في هذه الأنواع تضمها الكتب التي بدأت تطبعها المنظمة عن الأعمال المسرحية المقدمة للأطفال كل عام منذ 1981 (دورة المهرجان السادسة). ويبلغ عدد المسرحيات المقدمة أكثر من 600 مسرحية للأطفال في أنواعه المتعددة.

 

ولا يتوقف الأمر عند الكم وحده، فقد أقامت المنظمة دورات اختصاصية تأهيلية سنوية للعاملين في مسرح الأطفال في المدارس والمدارس التطبيقية ومراكز الأنشطة ومعسكرات الطلائع التي تقام سنوياً على مدار ثلاثة أشهر خلال الصيف، وتستقبل سنوياً حوالي 200 ألف طفل يمارسون فيها هواياتهم الكثيرة ومنها المسرح.

 

ومن أجل ممارسة سليمة لمسرح الأطفال في التربية والمؤسسات التربوية وفي تجمعات الأطفال، أقامت المنظمة حلقة بحث اختصاصية عن «مسرح وسينما الأطفال» (دمشق 1980) شارك فيها عدد كبير من الأدباء والفنانين والفنيين المعنيين بثقافة الأطفال، وطبعت حصيلتها في كتاب، هو مرجع الآن في المدارس الابتدائية. كما نظمت ندوة خبراء حول «أدب الأطفال في وسائل الاتصال بجماهير الأطفال» (دمشق 1981) ومنها المسرح كوسيط ثقافي وتربوي ووسيلة اتصال هامة بجماهير الأطفال، (وطبعت أعمال الندوة في كتاب أيضاً)، ثم أقامت المنظمة حلقة بحث اختصاصية حول «جمهور الأطفال والثقافة» (الرقة 1980) جرى فيها اختبار أشمل لعلاقة الأطفال بالمسرح.

ولا نبالغ إذا قلنا، إن غالبية كتاب مسرح الأطفال في الثمانينات قد خرجوا من مهرجانات الطلائع أمثال عيسى أيوب وفرحان بلبل ومحمد منذر لطفي وسلام اليماني ونور الدين الهاشمي وإبراهيم جرجي ومحمد معشوق حمزة وشريف ناصيف وخيري عبد ربه وكمال عبد الكريم ومحمد أبو معتوق وصالح هواري وجودت أبو بكر وجمانة نعمان وعلي مزعل وأحمد خنسا وغيرهم.

 

ثم شجعت المنظمة الكتابة المسرحية من خلال مسابقة التأليف المسرحي للأطفال عام 1978، وفاز فيها عدد من الكتاب طبعت أعمالهم في كتب عام 1982 أمثال جان الكسان وأحمد يوسف داود.

 

لم يعد مسرح الأطفال والتأليف له على هامش ثقافة الأطفال منذ مطلع الثمانينيات في سورية، إذ غدا فناً من أهم فنون أدب الأطفال. بفضل الوسائط الثقافية ووسائل بالجماهير التي أفردت له حيزاً كبيراً من مساحات النشر والبث في الصحافة والكتاب وفي الإذاعتين المرئية والمسموعة. وعلى خشبات المسارح في المؤسسات التربوية والثقافية.

 

ولعل المقارنة الإحصائية مفيدة في هذا المجال، فقد ألف في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات حوالي 40 مسرحية للأطفال، بينما ألف في الثمانينيات وحدها أكثر من 160 مسرحية مطبوعة.

 

ولا شك في أنه رقم كبير يشير إلى رواج الكتابة المسرحية للأطفال، أما الوعي بمسرح الأطفال وقيمة هذه الكتابة فسنتعرف إليهما لاحقاً.

 

4- وعي مسرح الأطفال:

كانت الممارسة المسرحية أسبق من الوعي بأهمية مسرح الأطفال تربوياً وفنياً وتثقيفياً، فثمة اتفاق على إلحاق المسرح بالمؤسسة التعليمية، وحين بادرت وزارة الثقافة والإرشاد القومي عام 1960 من خلال تأسيس مسرح العرائس، كان عمل هذا المسرح محكوماً بعاملين:

الأول هو التعاون مع المؤسسة التعليمية من أجل انتشار عروضه إلى أوسع جماهير الأطفال، فنظمت المدارس زيارة أطفالها إلى صالة المسرح، وأحيت اللقاءات بين الأطفال والعاملين في المسرح أثر بعض العروض، وساعدت على إيصال المسرح إلى الأطفال في المحافظات، والثاني هو اعتماد المسرح على العاملين فيه من الفنانين والإداريين في تأليف عروضه، ولم يكسب المسرح على وجه العموم، كان على هامش الأدب والمؤسسة الثقافية، واقتصر التأليف له على جهود بعض المربين أمثال نصري الجوزي ورضا صافي.

 

ثم رافق تأسيس مسرح العرائس محاولة للتأليف والترجمة، كان أولها صدور كتاب «فن العرائس وتحريكها» (1963)، وهو من تأليف بوجو كوكوليا، الخبير اليوغسلافي في وزارة الثقافة والإرشاد القومي وترجمة نجاة قصاب حسن مدير الفنون في الوزارة آنذاك ومراجعة جوليان ماركوفيتا (وربما كان أحد الخبراء العاملين في مسرح العرائس). وحفل الكتاب بصور إيضاحية كثيرة، وكتب ليلبي حاجة مسرح العرائس الناهض في سورية. ويكشف إهداء المؤلف عن السعي الحثيث لتطوير مسرح الأطفال في سورية، فقد قال مؤلفه: «إلى مساعدي الأولين. . إلى المؤسسين الأولين لمسرح عرائس دمشق، إلى لاعبيه الناشئين، وموسيقيه، وجميع من عاونوا في تحقيق تقدمه السريع من كتاب وفنانين، أقدم كتابي هذا راجياً أن يكون دليلاً لكثيرين غيرهم من العاملين على تحقيق هدفهم السامي النبيل: ترفيه أطفال الأمة العربية». وربما كانت هي المرة الأولى التي يعترف فيها بمكانة ترفيه الأطفال في العمل المسرحي الموجه إليهم، إذ لا يجد المتتبع لتاريخ مسرح الأطفال في المؤسسة التعليمية في سورية ولاسيما المنهاج ومفرداته، إلا التوكيد على الوظائف التربوية والسياسية والأخلاقية المباشرة للنشاط المسرحي من خلال الحواريات والتمثيليات في الكتاب المدرسي التي يصاغ على منوالها حواريات وتمثيليات. أخرى، ومن خلال تدريب المربين على «مسرحة» القصص، وهو الأمر الذي سيتطور كثيراً في تعليم أدب الأطفال برمته، حين اعتمد كتاب «أدب الأطفال» (1978)، وهو الكتاب الذي يدرس في معاهد إعداد المعلمين والمدرسين على مبدأ التحويل بغية تأمين نصوص أدب الأطفال من أقرب طريق، وهو المعلم والمربي، وثمة عشرات الأمثلة التي تعلم لتحويل أي نص أدبي إلى مسرحية أطفال بأنواعها المختلفة. وغني عن القول، إن الهدف الواضح والصريح لهذا الكتاب هو تأهيل المربين العاملين في مسرح الأطفال في المؤسسة التعليمية ليكون بمقدورهم أن يعدوا مسرحيات أطفالهم بأنفسهم.

 

أنا الانعطافة الهامة في وعي مسرح الأطفال، فكانت مع صدور كتابين، الأول هو: «الأطفال والمسرح» لمحمد شاهين الجوهري (1966)، والثاني هو «مسرح الأطفال» لمؤلفته وينفريد وارد، ومترجمه محمد شاهين الجوهري نفسه (1968). والكتابان يقدمان توضيحاً مقنعاً لإمكانية نقل المسرح إلى الأطفال وتحويل قاعات التعليم إلى مسارح بسيطة تستثمر قابليات الأطفال ومكان التعليم وتوفر لهم فرص تعليم المسرح.

 

ويتألف الكتاب الأول من ثمانية فصول تشرح المنطلق وهو المسرح في حجرة الدرس، ثم تفصل القول في القواعد الصحيحة لتعليم المسرح كالدخول إلى المسرح والخروج منه والتعبير بالحركة والإشارة، والإحساس وكيفية تصوير الانفعالات، والإلقاء، وكيفية تقديم تمثيلية كاملة، وما يجب أن يعرفه المعلم عن المسرح، ويخصص الفصل الثامن والأخير لمسرحة القصة مع نماذج تطبيقية. وقد مهد المؤلف لنماذجه بوصف الخطوات المتبعة لهذه المسرحية كاختيار القصة، ومعرفة حوادثها وشخصياتها وتقسيمها إلى فصول، ودرس الحوار واختيار اللغة المناسبة. ودرس الحبكة المسرحية والتفكير بالحل، والتزام طابع القصة في المسرحية.

 

وحوى الكتاب الثاني تجربة أوسع وأعمق في مسرحية القصص وإنتاج مسرحيات فنية وجميلة للترويح عن المتفرجين الأطفال بمشاركتهم غالباً. وهو المفهوم الذي ألفت فيه المؤلفة كتاباً سابقاً سمته الدراما الخلاقة وأشارت المؤلفة بتواضع جم، إلى أنها وضعت نصب عينيها أثناء إعداد هذا الكتاب «أولئك الذين تعوزهم الخبرة في إخراج مسرحيات للأطفال، سواء للمسرح أو المدرسة أو المعسكر أو غيرها، أما ذوو التجارب فليسوا في حاجة إلى هذا الكتاب، لأنهم يتبعون الطريقة التي توصلوا إليها بتجاربهم». والكتاب دليل موجه إلى المعلمين في المدارس الحكومية والخاصة وفي الاستديوهات. وإلى مديري المسارح، والمشرفين على المعسكرات والعاملين في المدارس والخاصة ورواد الأندية وجمعيات الناشئة وكل من يخرجون مسرحيات للأطفال.

 

يتألف الكتاب من أربعة عشر فصلاً تتناول نشأة مسرح الأطفال، والتفكير بمسرح الأطفال، وتنظيم العمل بمسرح الأطفال، وكيفية كتابة مسرحية للأطفال، وبناء مسرحية للأطفال، والعثور على المسرحية المطلوبة، ووضع المسرحية في الممارسة (الحياة تدب في القصة)، ودعوة الممثلين، والملابس وتجهيز العرض المسرحي، ودور الستارة، والإعلان عن المسرحية، وتمويل المسرح، والمسرح في الملاعب والمعسكرات والأندية وقاعات الاجتماعات واللقاء، ودور الجمهور.

 

وربما كان الفصول (4و5و6و7) من أكثر فصول الكتاب إمتاعاً وتشويقاً وثراء بالخبرة المتحصلة من العمل في مسرح الأطفال، وهي تضع أمام العاملين في مسرح الأطفال إمكانيات هائلة لإنجاز مسرح أطفال يلبي حاجاتهم النفسية والأخلاقية، ويضمن مشاركتهم الإيجابية الفعالة.

 

لقد كان تأثير هذين الكتابين كبيراً على نمو وعي جديد بمسرح الأطفال ينبع من عالم الأطفال ويتوجه إليهم بخطاب فني أولاً وتربوي وقيمي ثانياً، ويعترف بأنواع مسرح الأطفال، وتحديثها واستنباط شروط فرجة خاصة تستند إلى ينابيع الطفل الثقافية أيضاً. إن مفهوم «الدراما الخلاقة» على سبيل المثال لا يمكن استثماره على نحو جيد بمعزل عن اتصال الطفل بينابيعه الثقافية وتقاليد الثقافة الوطنية الشفهية والمكتوبة.

 

وقد أشارت حلقة البحث المتخصصة «مسرح وسينما الأطفال» (دمشق 1980) إلى مثل ذلك. وظهر هذا في أبحاث كثيرة عن مسرح الأطفال في الثمانينيات وربما كانت كلمة نجلا حريصاتي خوري في مقدمتها لترجمة كتاب دني بوردا. «الدمى المتحركة وعالم الأطفال» (1981) الأكثر تعبيراً عن بزوغ الخصوصية بمعزا الهوية أيضاً في مسرح الأطفال، أي الاعتراف بخصوصية التجربة العربية أو التجارب العربية في تاريخها، وضمن بيئتها وثقافتها، كتبت:

«هكذا نرى أن التجربة ما تزال في بدايتها، وأننا لا نزال نحتاج إلى الكثير من العمل والتعلم، قبل أن نصل إلى بناء تجربة كاملة. ولعل هذا الكتاب، الذي نضعه بين أيدي المختصين والقراء، يكون فاتحة حوار مثمر، وفاتحة مجموعة من الكتب، حول تقنيات مسارح الدمى وخيال الظل، آملين أن نختتم هذا المجهود بكتاب عن تجربتنا العربية الحديثة، في مجال مسرح الأطفال».

 

وفي إطار تنامي الوعي بمسرح الأطفال، زادت المساهمات النظرية والتنظيرية والتطبيقية لمسرح الأطفال، ونكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاث مساهمات. ويعد كتاب فيصل المقدادي «المسرح المدرسي» (1984) من أهم الكتب التي تقرن النظرية بالتطبيق في مسرح الأطفال، وإن غلب على رؤية المؤلف المنظور التربوي مركزاً على مسرحة المناهج أو القصص والحكايات. ثمة في الكتاب أربعون صفحة تنظيرية، أما بقية الكتاب (160 صفحة) فللنماذج التطبيقية الممسرحة للأطفال أو مسرحية الأطفال.

 

والكتاب الثاني هو «الطفل العربي والمسرح» (1984) لمؤلفتيه عواطف إبراهيم محمد وهدى محمد قناوي، وحرصت مؤلفتاه، كما أعلنتا في المقدمة، على كسر الجمود الذي يكتنف التأليف لمسرح الطفل. والحق أن الكتاب في منطلقاته النظرية متطور في عمليات الوعي بمسرح الأطفال العربي، وقد دافعت المؤلفتان عن وظيفة مسرح الأطفال الترفيهية في وجه طغيان التجهم وتحويل المسرح إلى منبر للدعاوة والوعظ والإرشاد والتوعية، ونقتطف الاستشهاد التالي مثالاً لما آلت إليه فكرة مسرح الأطفال في وعي المهتمين به من المربين والكتاب:

«فإذا كان الهدف الأول من مسرح الطفل هو الترويح عن الصغار، والتنفيس عن رغباتهم المكبوتة وتحريرهم بعض الوقت من القيود الاجتماعية المفروضة عليهم في حياتهم العصرية التي يعيشونها، فإن لمسرح الطفل هدفاً ثقافياً وتربوياً، باعتباره وسيلة للصراع من أجل حياة أفضل، بجانب اعتباره وسيلة للترفيه، والهروب أيضاً وبقدر محدود، من صراعات الحياة».

 

وتضيف المؤلفتان منعاً للالتباس حول هدف الترفيه: «ولا نعني الترفيه الذي يمتهن عقل الطفل وقدراته الخلاقة، ولكن الترفيه الهادف الذي يساعد الطفل على تمثيل ثقافة بيئته، وإدراك قدراته هو حتى يستطيع أن يتكيف مع ثقافة مجتمعه».

 

ضم الكتاب ثمانية فصول، عالجت تطور تاريخ مسرح الطفل، وأهداف مسرح الطفل، ومقومات مسرحية الطفل كعمل أدبي، والأطفال والمسرح، والابتكار وعلاقته بمسرح الطفل، ومسرح أطفال الثالثة والتأليف وعلاقته بمسرح الطفل، ومسرح الطفولة المبكرة من الرابعة حتى السابعة، ومسرح الطفولة المتوسطة من السابعة حتى التاسعة، ومسرح الطفولة المتأخرة من الثامنة إلى الثانية عشرة.

 

وقد غلب على الفصول الأربعة الأولى طابع التنظير، بينما خصصت الفصول الأربعة الأخيرة للتطبيق، حيث وضعت المؤلفتان نصوصاً مسرحية تناسب كل مرحلة عمرية. وروعي في «كتابة المسرحيات جميعها أن تكون بالعربية البسيطة حتى يكون هناك وحدة فكر بيننا وبين قرائنا في الوطن العربي».

 

إن الوعي بمسرح الأطفال بلغ شأواً متطوراً في الإقرار بخصوصية هذا المسرح، واعتباراته التربوية والفنية وفهم فكرته كوسيلة تربوية تثقيفية في تلقي الطفل لها وفي مشاركته في أدائها، وكفن من فنون أدب الأطفال. وينطوي الكتاب الثالث «مقدمة في مسرح الأطفال» (1985) لمؤلفه حسب الله يحيى على هذا الفهم، فهو محاولة لتشكيل «نظرة شاملة وتصور لماهية المسرح، ومسرح الأطفال بالذات، وهو يتوجه إلى كل المعنيين والعاملين في مسرح وثقافة الطفل. ليكون خبرة متواضعة جداً، يستهدف الكاتب إضافتها إلى معلوماتهم وثقافتهم المتخصصة وتجاربهم العميقة والأصيلة، وهم على تماس مباشر وعلاقة حميمة وتفاعل تام مع عالم الأطفال».

 

وينفي المؤلف مهمة الإرشاد والتوجيه، لأنه ناقد مسرحي ومحاضر سابق لطلبة قسم المسرح في نعهد الفنون الجميلة ببغداد، وهكذا، ضم الكتاب فصولاً عن ماهية المسرح وعلاقته بالفنون الجميلة والموضوعية في المسرح والعرض المسرحي والمضمون والشكل والمتعة والمعرفة واللعب والتمثيل والتجريد والمسرح والتعليم والخيال والرموز والخوارق والبحث عن الحلول والعدالة في المسرح وبناء الذاكرة والحرية في المسرح والأصوات والأنسنة وكيفية مخاطبة الأطفال في المسرح ومسرح العرائس والممثلون الصغار والكبار والمسرح المدرسي ومسرح لاحق للأطفال. ويختتم كتابه الصغير الموجز باقتراحاته نحو مسرح متخصص للأطفال.

 

ومن الجلي، أن فكرة حسب الله يحيى عن مسرح الأطفال تعبر عن ذروة وعي المسرحيين العرب بمسرح الأطفال وتعليمية من المنظور الفني أولاً، ومن عالم الطفولة ثانياً، ثم تتحصل بعد ذلك المنظومة القيمية. لقد اعترف بالطفل، وبمسرح الطفل، وهذا ما يؤشر إليه كتاب حسب الله يحيى باختصار.

 

وهناك مؤشرات أخرى لنمو الوعي بمسرح الأطفال في سورية اتساع حركة التأليف المسرحي للأطفال، وقد أسهم في هذه الحركة كتاب عرب كثيرون أمثال عبد المجيد القاضي «من مسرح الطفل اليمني» ومحمد الركانة من المغرب «البجعات» وخلف أحمد خلف من البحرين «العفريت ووطن الطائر» وفخري قعوار من الأردن «وطن العصافير». كما نشطت حركة تعريب مسرحيات الأطفال عن الروسية والإنجليزية والفرنسية.

[مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق) أيلول-تشرين الأول 1991]

 

5- قضايا مسرح الأطفال في سورية:

5-1- استلهام التراث:

كان استلهام التراث، ولا سيما التراث الشعبي هو الأبرز في مسرحيات الأطفال، وغالباً ما توقف المسرحيون عند حدود إعادة أو إعداد الحكايات والأساطير والأخبار والسير الشعبية كجحا وأشعب وأبطال المقامات وأهل الكدية، وهذا واضح في التمثيليات المدرسية الكثيرة، ثم طور المسرحيون الإعداد إلى نوع من الاستعادة عالجوا فيها السرد التراثي بأشكال جديدة، وتطلعوا إلى التعبير عن قيم جديدة، وكان عادل أو شنب من أوائل المسرحيين الذين طوروا التمثيليات والحواريات المسندة إلى ثراء التراث الشعبي العربي  والعالمي كما في حواريات ومسرحيات كتابيه «السيف الخشبي» (1975م)، و«معطف الإخفاء» (1976م)، فقد استفاد في كتابه الأول من حكايات «كليلة ودمنة» لتقديم درس في دور العقل وأهمية الذكاء في مجابهة العدو، وفي تدعيم التعاون والصبر من أجل الفوز (ملك الغابات)، ولتقديم درس آخر عن ربط القول بالعمل (أهل التفكير وأهل التدبير)، ولجأ في حواريات كتابه الثاني إلى حكايات الشعوب لتمجيد العمل والطيبة والتسامح (البنت الذهبية)، وإعلاء شأن الذكاء وحسن التصرف (القسمة)، والتحذير من ألاعيب المخادعين (بائع الأسماء)، وتوظيف الذكاء في خدمة الناس (معطف الإخاء).

 

وعاد نصر الدين البحرة في مسرحيته «أغنية المعول» (1978م) إلى التراث الشعبي أيضاً، فقدم أمثولة دفع من خلالها ابن الأمير إلى العمل ومشاركة العمال في حياتهم وهمومهم، وحين يقتل الملك على يد النبلاء يلتف الشعب حول الفتى، ويؤازرونه، ويستعيد معهم عرشه. «تفبرك» المسرحية جملة قيم في حكايات مفترضة لا تنطبق على مرحلة تاريخية، وتجعل العمال يدافعون عن عروش الملوك، ولكن المسرحية تحفل بالأهم، وهو تمجيد العمل والتواضع و رضى النفس والمحبة.

 

وتستند مسرحية كوليت خوري «أغلى جوهرة في العالم» (1975م) إلى موضوع تراثي، فتعرض أمثولة أخرى، فقد طلبت الأميرة مهراً لها من خطابها وعرسانها أغلى شيء في العالم، فيتوزع العرسان باحثين عن هذا الشيء، ثم يجلب الشاعر قطرة من دم شهيد روى تراب الوطن، فترى الفتاة الأميرة وتبارك العرس، فالشهادة قيمة اليم مقدسة وأصيلة وحية في وجدان كل مواطن.

 

كان عيسى أيوب أوسع المسرحيين استعادة لشخوص التراث الشعبي كما في مسرحياته التي عالجت جحا وأشعب وعباس بن فرناس وعروة بن الورد مثل «جحا في عيد المناشط» (1981م) و«الحسون في عيد الزينة» (1985م) و«جحا يزن أفكاره» (1987م) و«في المطار» (1987م) و«عروة بن الورد» (1988م). أما المسرحيات التي استلهمت موضوعات التراث الشعبي لدى عيسى أيوب فهي كثيرة أيضاً مثل «الملك والربيع» (1981م) و«أسرار الكروم» (1983م) و«الأميرة وقطرة الماء» (1984م) و«زهرة الصحراء» (1988م).

 

لقد كان التراث الشعبي معيناً لا ينضب للمسرحين، وتبدو مسرحيات فرحان بلبل في كتابه «ثلاث مسرحيات للأطفال» (1982م) معالجة جديدة لبعض الحكايات المتوارثة، وليست «الصندوق الأخضر» سوى صياغة أخرى لحكاية شعبية معروفة في أرجاء الوطن العربي، واقتبسها مسرحيون آخرون، ومنهم يوسف العاني في مسرحيته «المفتاح» (1980م)، فقد انتظر الأب حسن والأم وعد زهرة التي عادت من مدرستها ناجحة وبيدها هدية. ثم يطرد صاحب العمل حسن وأخاه سميح، ويطلب منهما أن تعمل زهرة خدامة، فتقترح زهرة أن يغنوا معاً أغنية الأجداد:

يا خشيبة حودي حودي

وديني على جدودي، وجدودي بطرف عكا

بيعطني ثوب وكعكة.. الخ

وبالفعل يسافرون جميعاً إلى عكا موطن الأغنية، فيقوم الأجداد من قبورهم، ويعطي الجد الثاني الصندوق الأخضر. ويظهر العفريت الذي نكتشف أنه الجار اللئيم صاحب العمل، ويطلب الصندوق ولا يفلح في الحصول عليه، وتبدأ رحلة النضال في البحث عن مفتاح الصندوق، ويتعرضون لمساوات وصعوبات، ويمتثل سميح بينما يحلم حسن بالخلاص، وتكون النتيجة هي الدرس: من يزرع القمح ويأخذ قنديل العلم يأخذ المفتاح. إن المفتاح هو العمل والعلم بتعبير آخر.

 

أما مسرحية «البئر المهجورة» فهي تطوير لحكاية شعبية أخرى، إذ نرى قرية يفقد أهلها الماء، بينما الماء هو الحياة، وما تلبث القصة أن تتكشف عن صراع خافت بين أهل القرية وصاحب الماء المتسلط الذي يوهمهم بوجود عفاريت في البئر ليمنعهم من الحصول على الماء. ثم يجمع العجوز الأطفال وأهلهم، فيما بعد، لمواجهة المستغل، عدو القرية، وينتصرون على الخوف والعجز.

 

وينغمر هيثم يحيى الخواجة بالتراث الشعبي، ويصوغه وفق مقاصد تعليمية جلية، ففي مسرحيته الثالثة «الفرسان الثلاثة» من كتابه «ثلاث مسرحيات للأطفال» (1990م)، يبني حكايته من مأثور التراث الشعبي داعياً إلى ضرورة الاعتماد على الذات والنهوض بالإمكانات المتوفرة نحو تحقيق الوعي والقضاء على الفقر والمرض والتخلف وثالوث يؤرق السلطان الذي يسعى لسعادة شعبه، فيشير عليه الحكيم أن يعلن عن مسابقة وجائزة لمن يأتي بحلول ناجعة لهذا الخطر المقيم، فيتقدم ثلاث شبان للمسابقة هم وعد وفراس وعلاء، ويطلب منهم السلطان الرحيل عن البلاد للبحث عن الحلول في جهات متعددة، وتكون مهلة أداء المهمة خمس سنوات. وقيل عودة الفرسان الثلاثة وعد وفراس وعلاء، كان الأعداء الطامعون بالمملكة قد أحدقوا بها، نظراً لضعفها، غير أن السلطان مؤمن بقوة شعبه المستمدة من الإيمان بالحق وحب الأرض والصراع على المواجهة.

 

وصل علاء ومعه صندوق من الذهب جمعه من التجارة بين البلدان، وبعد أن وضع الصندوق بين يدي السلطان أعلن أن المال قادر على حل مشكلات السلطنة جميعها، إلا أن السلطان يدرك أن المال ينفذ بسرعة دون أن يقضي على المرض والتخلف، ثم عاد فراس ووعد، وكان فراس قد تدرب على فنون القتال والسيوف والدروع، وأعلن أن القوة قادرة على حل المشكلات، أما وعد فقد استطاع أن يضع يده على أسباب المرض، وأن يجد الدواء وسبل الوقاية من المرض بالتوعية والنظافة، ويعلن أن العقل وحده قادر على حل المشكلات التي تواجه المملكة، وهكذا يطمئن السلطان إلى مصير شعبه، ويعين وعداً سلطاناً وفراساً وزيراً للحربية وعلاء وزيراً للاقتصاد. ومن الواضح أن المسرحية درس ولكنه غير مباشر، حول قيمة العقل والوعي في حياة الناس.

 

ويعالج عبدو ومحمد في مسرحية «الفتى والحظ» (1986م) حكاية شعبية من منظور تعليمي أيضاً، حين يغادر فتى أمه طلباً للحظ، غير أنه ما يلبث أن يقتنع بكلام أمه، ويبدأ العمل في أرضه.

 

5-2- التاريخ:

واهتم المسرحيون بالتاريخ على سبيل التبسيط وتقريبه من مدارك الناشئة، ولا شك، أن غالبية المسرحيات المدرسية تاريخية، ومثالها البارز ما كتبه رضا صافي في كتابه «صرخة الثأر» (1980م)، ويضم الكتاب مسرحيات كتبت ومثلت مراراً في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، ففي مسرحية «حماة الطريد» تساعد أسرة من حمص إبراهيم هنانو، بقصد تمجيد الحالة الوطنية في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وفي مسرحية «بطولات في الأرض الحرام» دفاع مسمر ضد الصهاينة، وتعاون بين الجيش والمواطنين أدى إلى النصر في معركة التوافيق عام 1960م، وفي مسرحية «جيش الأطفال» يتعلم أطفال دور الحضانة العد والانضباط، ويتحدثون عن مهامهم في تحرير الأرض من الصهاينة اليهود.

 

ولا تختلف مسرحية «جند الكرامة» لمصطفى عكرمة (1975م) عن هذا السعي في مسرحية الحوادث والوقائع التاريخية حيث تصور الدفق العاطفي في تسجيل معركة الكرامة بين الفدائيين والعدو الصهيوني. وهذا ما فعله جان ألكسان في مسرحيته «عصافير الجليل» (1982م) التي تسجل بطولة الفدائيين داخل الأرض المحتلة في عملية دلال المغربي.

 

وقد كان سليمان العيسى سباقاً إلى مثل هذه الاستجابات المباشرة للعمليات الفدائية وتوثيقها وتخليدها في ذاكرة الناشئة، ومن أبرز مسرحياته في هذا المجال مسرحيته «قنبلة وجسد»، وقد بناها على حادثة الفدائي العربي عرفان عبد الله الذي سقطت منه قنبلة يدوية وهو يبتاع الطعام لرفاقه في عمان، فصاح بالناس ليبتعدوا، وارتمى فوق القنبلة فغطاها بجسده كي لا تؤذي أحداً. وتصبح المسرحية بعد ذلك تمثلاً في ذاكرة الأطفال لفعل الفداء والتضحية، ونشيداً لتكريم الشهادة والشهداء:

عرفان عبد الله

يظل في الشفاه

أنشودة رائعة

تجدد الحياة

تبارك الحياة

وتربط الإنسان بالإله

عرفان عب الله

مواكب تسير

وشعلة تنير

في جنبات الوطن العربي

في الزحف

في معركة المصير

عرفان سطر خالد

في قصة التحرير

ووسع عبد الفتاح رواس قلعه جي تصوير التاريخ إلى مهارة الانتقال بين الأزمنة والأمكنة في مسرحيته «قلعة حلب» (1979م)، وهي تعليمية محببة عن تاريخ سيف الدولة وأبي فراس والعدوان على قلعة حلب مستنفراً إرادة البقاء والحماسة لدى الأجيال الجديدة. وكذلك فعل عبد الغني عون في مسرحيته «هنانو» (1983م) التي تصور مأثرة أبطال الجلاء في جبل الزاوية والمناطق الأخرى من رحاب سورية، وتبث الناشئة ملحمة الكفاح العنيد من أجل الاستقلال.

 

5-3- الأنسنة:

غير أن غالبية المسرحيين عالجوا موضوعاتهم من خلال أسلوب «الأنسنة» أي إضفاء صفات الإنسان على الحيوان، ومن أبرز المسرحيين في هذا المجال محمد أبو معتوق الذي صدرت له مجموعتان مسرحيتان هي «ثلاث مسرحيات غنائية للأطفال» (1984م) و«أوهام حارس الغابة» (1986م).

 

يوجه أبو معتوق مسرحياته لتعليل صفات الأشياء أو لتعريف الأطفال ببعض المعلومات، أو لبث القيم تلميحاً أو تصريحاً، فمسرحية «أوهام حارس الغابة» عن التعاون ومسرحية «الفزاعة» معنية باكتشاف الوهم، و«الأصدقاء والغابة» عن التعاون ضد الذئب، عدو الحيوانات الأليفة، و«عودة الشمس الغائبة» عن فوائد الشمس، و«أنشودة الطائر» عن صداقة الطيور والأطفال، و«أحزان الزنابق» عن الحفاظ عن البيئة، و«أنشودة الزنابق» عن حماية الطبيعة.

 

واستخدم خيري عبد ربه أسلوب الأنسنة مبكراً. ففي مسرحيته الأولى «الفصول» (1979م)، جعل الفراشات والنحل تحادث الأطفال عن الطبيعة ودورة الفصول معللاً التغيرات الطبيعية والمناخية، وأهميتها في ديمومة الحياة ورخاء الإنسان، وطور أسلوبه كثيراً مستفيداً من «الأنسنة» في مسرحيته التالية «مملكة النحل» (1987م)، ويقدم فيها شرحاً مبسطاً لعالم النحل المنظم والمبني على حبّ العمل والجهد وتوزيع المهمات والوظائف الدقيقة من أجل تشكيل أقراص العسل واستكشاف حقول الزهور ذات العبير والرحيق.

 

تستضيف مملكة النحل الأطفال، ويتعرفون على مهمات الخلية والعلاقة بالطبيعة، ويشهدون دفاع النحل عن خليته عندما يتطفل الدب للحصول على العسل، وينال الدب ما يناله من اللسعات والهجمات القوية، لتؤكد المسرحية بعد ذلك حب النظام والتعاون والعمل والطبيعة. ويشرح محمد علي المصري في مسرحيته «الغيمة» كيفية تشكل المطر، والعلاقة بين الماء والينابيع.

 

5-4- الحياة اليومية:

أما المسرحيون الذين التفتوا إلى الأطفال في حياتهم اليومية، وفي مناشطهم، فهم قلة، ومنهم محمد منذر لطفي في مسرحيته «الحقل السعيد» (1984م) حيث يواجه الأطفال مسؤولياتهم في الحفاظ على المحصول الزراعي وحمايته بالعلم والمعرفة والتعاون. يفاجأ الأطفال بذبول جوزات القطن في الحقل الذي أتوا إليه فرحين يأملون بموسم وفير، وبعد حوار مع الجوزات والحكيم (الحقل) يعرفون أن سبب رداءة الموسم هو قلة المياه وانتشار الدودة، فيهرع الأطفال لحفر بئر مستخدمين التقنيات الحديثة لسقاية الحقل، مثلما تبادر طفلة أخرى إلى دعوة الأطفال لرش الحقل بالمبيدات.

 

واستطاع إبراهيم جرحي أن يدمج الأطفال في الموضوعات المختلفة تثقفاً بمحتواها المعرفي القيمي والسلوكي، فتنبثق أصوات الأطفال من رغبتهم المتجددة في التعرف واكتشاف العالم من حولهم، وربما لم يوفق دائماً، وبالمقدرة إياها، في مخاطبة روع الأطفال، ولكنه يخوض مع الأطفال وهم يلعبون ويحركون ويرقصون ويغنون ويعزفون رحلة البحث عن معنى الأشياء وصفات الكائنات والقيم الأساسية، وقد حقق بعض تطلعاته في مسرحياته «الأطفال ينشدون على الشاطئ موج البطولة» (1981م)، و«لوحة الغابة» (1982م) و«لوحة الميناء» (1983م) و«الأطفال في دورة ألعاب المتوسط» (1988م) و«اللاذقية والتاريخ» (1989م). تحفل مسرحيات إبراهيم جرجي بالمعلومات التاريخية والصور الحضارية لمدينة اللاذقية وعراقتها ومعالمها وأوابدها من خلال اقتراب وعي الأطفال منها.

 

ويؤثر هيثم يحيى الخواجة وضع الأطفال في مواجهة الحياة اليومية والممارسة القيمية التي يتعرف فيها الأطفال إلى معنى القيم بأنفسهم من خلال مواقف مباشرة وحسب النظرية التربوية القائلة بلعب الأدوار، حيث يتمثل الأطفال المعاني السامية للمنظومة القيمية، ففي مسرحية «القاضي الصغير» توكيد على ضرورة الحذر من الوقوع فيم كائد المحتالين، وعلى مناصرة الصدق والحق، ودعوة إلى حسن التصرف والتدبير، وإدانة الغش والكذب والاستغلال.

 

وفي مسرحيته «القطة السوداء» يلتقي الصديقان «فادي» و«رامي» ليحكي أحدهما للآخر حكاية جميلة، فتكون حكاية «القطة السوداء» يرويها فادي إثر سماعها من العم درويش، لترميز الحكاية إلى ضرورة التضامن العربي والتعاون الاقتصادي لمواجهة الأطماع الأجنبية، وتؤكد على العمل المشترك من أجل البناء السليم والحياة السعيدة.

 

وإلى هذا النوع من المسرحيين، كتب محمد معشوق حمزة مسرحياته «شجرة الأصدقاء» (1983م) و«الأطفال يلعبون» (1985م) و«البستان للأطفال» (1986م) وفي هذه المسرحيات، يضع معشوق حمزة الأطفال في مواقف التنمية الشخصية والاجتماعية مما يدعوهم إلى الإسهام في حل مشكلات تنمية مجتمعهم، وتكون هذه المواقف في الوقت نفسه سبيلاً لاكتساب الأطفال القيم الأخلاقية والسلوكية والاجتماعية الحميدة.

 

6- ملاحظات فكرية وفنية وتربوية:

أما الملاحظات الفكرية والفنية والتربوية على التأليف المسرحي للأطفال في سورية فنوجزها فيما يلي:

 

6-1- اللغة:

ثمة ميلان، الأول يقارب الاعتبارات التربوية والفنية في مخاطبة الأطفال حسب المراحل العمرية، وفي مقدمة هؤلاء المسرحيين عيسى أيوب وصالح هواري ومحمد معشوق حمزة وعادل أبو شنب.

 

والثاني يوافي هذه الاعتبارات، ولكن آثار الكتابة للكبار ما زالت عالقة، كما عند فرحان بلبل ومحمد أبو معتوق، قد دافع عن الميل بعض الشعراء أمثال مصطفى عكرمة وحامد حسن بسبب صعوبة توصيف لغة الأطفال من جهة، وبسبب ضرورة حفظ الطفل للغة صغيراً ثم يفهمها كبيراً، وهي نظرية تربوية تبنتها المؤسسة التربوية في سورية، ومنظرها الرئيسي سليمان العيسى، حيث يجد الأطفال صعوبات لا تخفى في تفهم مفردات أدب الأطفال وتراكيبه.

 

ومما يجد ذكره أن الكتابة المسرحية للأطفال بالفصحى هي السائدة، وكانت حالة نادرة أن طبعت كوليت خوري كتابها المسرحي بالعامية. أما معظم المسرحيين فيرون الكتابة بالفصحى عاملاً نضالياً، بالإضافة إلى ضرورتها الاتصالية.

 

6-2- الشعر:

كتب غالبية المسرحيين مسرحياتهم شعراً يغنى، وقد كسب مسرح الأطفال كثيراً بانضمام الشعراء إلا قائمة منتجيه. إن عدد المسرحيات الشعرية الغنائية يفوق عدد المسرحيات النثرية وهذا ما يجعل إقبال الأطفال على المسرحيات متنامياً. ويستطيع المرء أن يختار مجموعة مسرحيات شعرية جيدة مما كتب خلال العقدين الأخيرين. وثمة مزية أخرى لهذه المسرحيات هي اختبارها من خلال عروضها المستمرة في المهرجانات والمناشط وقنوات التلفاز.

 

6-3- التبسيط والأسلوب:

تعاني غالبية مسرحيات الأطفال في سورية من ولع كتابها بالتبسيط من جهة، والترميز من جهة أخرى، ولعل مرد ذلك كلّه إلى التبعات الثقيلة التي أراد هؤلاء الكتاب أن تحملها هذه المسرحيات، فاتصفت المسرحيات بالجدية، وغالباً ما تكلم الصغار مثل الكبار، وفكروا بحلول أكبر من عمرهم للمشكلات المطروحة، ونطقوا بالحكمة والآراء السديدة في حصيلة المواقف التي تعرضوا لها. وهذا أمر طالما قلل من مكانة الكتابة العربية للأطفال.

 

قد يكون وراء ذلك حرص على التوجيه القيمي والتربوي، ولكن متى كانت الكتابة للأطفال كلها بالأساس دروساً في التربية والقيم؟. إن ثمة اعتبارات تربوية لابد منها، وتتبادل التأثير مع الاعتبارات الفنية، غير أن الوعي بمخاطبة الأطفال يعني فهم الطفل وفهم عالمه ومكونات هذا العالم اللغوية والتخييلية والنفسية بالدرجة الأولى. إن الكتابة للأطفال تنبثق من عين الطفل ووجدانه ومداركه النامية، بما يجعلها أرب إلى ذوب التجربة الحياتية والفكرية تضعها في ذلك السهل الممتنع من التأليف الأدبي للأطفال.

 

وقد لاحظنا أن غالبية مسرحيات الأطفال ترمز لمنظومة أسلوبية «كالأنسنة» برمتها إلى قيم مباشرة وصريحة، وهناك اليوم عشرات المسرحيات التي تبني أطروحتها المرمزة إلى الاحتلال الصهيوني لفلسطين من خلال أسلوب «الأنسنة» كما عند سليمان العيسى وعيسى أيوب وصالح هواري وعلي مزعل ومحمد أبو معتوق ورضا صافي وغيرهم.

 

ليس التبسيط أو الترميز كله مما يفسد الكتابة المسرحية للأطفال، ولكنه بالتوكيد يقلل من قابليات نداوة المسرحية ويحصرها بفكرة غير قابلة للتجسيد أو الملموسية في بعض الأحايين. ولعل ذلك كله من آثار التعلق بشرف الموضوع على حساب التعبير الفني وتجسيدها على المسرح.

 

6-4- الموضوع:

اعتنى المسرحيون بالموضوعات قبل كلّ شيء، ولا سيما الموضوع القومي والوطني. وتكاد تكون غالبية المسرحيات، تلميحاً أو تصريحاً، واقعية أو تاريخية، أو  تسجيلية، أو على لسان الحيوانات، أو سرداً يستفيد من التراث، معنية بهذا الموضوع، إن إبداع سليمان العيسى موجه إلى زرع قيم الأصالة والقومية والوحدة العربية في وجدان الأطفال. أما مسرحيات عيسى أيوب ورضا صافي وصالح هواري وخيري عبد ربه ومصطفى عكرمة ومحمد أبو معتوق وجمانة نعمان فهي تعالج الموضوع القومي والوطني بالدرجة الأولى. ولا يفترق بقية المسرحيين عن هذا الاتجاه. ويعتقد غالبية المسرحيين أن معالجة هذا الموضوع هو الأقرب لتمثل المنظومة القيمية والشعبية، عندما تصير قيم الدفاع عن الوطن والتشبث بالأرض والفداء والتضحية والشهادة مقاربة للقيم الأخلاقية والسلوكية والاجتماعية، بل إن القيم المعرفية، أي تحصيل المعارف والمعلومات والأفكار، تلبس لبوس القيم القومية في كثير من المسرحيات وهذا واضح في نصوص عيسى أيوب وخيري عبد ربه ومحمد أبو معتوق وجان ألكسان ونور الدين الهاشمي وسلام اليماني وإبراهيم جرحي وشريف ناصيف.

 

إنّ شرف الموضوع ونبله من علامات الكتابة الجيدة للأطفال، وليس هناك أشرف وأنبل من الموضوع القومي والوطني، وقد أنجز المسرحيون في سورية مسرحيات مهمة في هذا الميدان، لا يقلل من قيمتها إلا تلك التبعات الثقيلة التي تبهظ المسرحيات بالتوجيه القيمي والتربوي الصريح والمباشر.

 

7- المؤلفون:

كتبت تمثيليات مدرسية كثيرة من قبل المربين حتى نهاية الستينات، ولم يطبع منها إلا القليل جداً أو النادر، كما فعل رضا صافي ونصري الجوزي ثم بدأ إقبال الأدباء على الكتابة لمسرح الأطفال منذ نهاية الستينيات، ومن أوائل هؤلاء المؤلفين عادل أبو شنب وسليمان العيسى وعيسى أيوب ومصطفى عكرمة.

وشهدت السبعينيات إقبال أدباء آخرين على التأليف لمسرح الأطفال مثل نصر الدين البحرة وفرحان بلبل (له ثلاث مسرحيات) وخيري عبد ربه (له أربع مسرحيات).

أما فترة الثمانينيات، وبفضل منظمة الطلائع ومهرجانها السنوي، فزاد عدد المسرحيين إلى أكثر من عشرين كاتباً وفي مقدمتهم صالح هواري (له أربع مسرحيات) ومحمد أبو معتوق (له أكثر من 15 مسرحية) ومحمد معشوق حمزة (له أكثر من ست مسرحيات) ومحمد منذر لطفي (له أربع مسرحيات) وشريف ناصيف (له أكثر من عشر مسرحيات) وإبراهيم جرجي (له أكثر من عشر مسرحيات) ونور الدين الهاشمي (له خمس مسرحيات) وسلام اليماني (له خمس مسرحيات) وكمال عبد الكريم (له أكثر من سبع مسرحيات)، وهيثم يحيى الخواجة (له أكثر من سبع مسرحيات)، وهيثم يحيى الخواجة (له أكثر من خمس مسرحيات). وثمة ملاحظة مهمة في هذا المجال، وهي أن مسرح الأطفال، باستثناء «مسرح العرائس» و«مسرح الأطفال» في وزارة الثقافة، قد اعتمد على المسرحيات المؤلفة المحلية والعربية، والمعدة عن قصص عربية قديمة أو حديثة (لزكريا تامر وطالب عمران وليلى صايا على سبيل المثال).

 

وكانت هناك حالات قليلة قدمت فيها مسرحيات مترجمة، ولم أقع إلا على أسماء أجنبية قليلة أعدت مسرحيات عن أعمال لهم أمثال بوشكين وانييد بلايتون وك. م. فالو ورونالدجو.

ونعرف هنا بأبرز كاتبين لمسرح الأطفال وهما سليمان العيسى (له أكثر من 25 مسرحية) وعيسى أيوب (له أكثر من 35 مسرحية). وكنا أشرنا إلى أكثر أعمال المسرحيين الآخرين في البحث:

 

7-1- سليمان العيسى:

نقل سليمان العيسى التأليف المسرحي للأطفال من تبسيط ومحدودية المسرح المدرسي وتمثيلياته التعليمية الشارحة إلى فضاء مسرح الأطفال الفسيح، ورسخ، في جهد ريادي أصيل، لبنات مسرح الأطفال في سورية فناً رفيعاً يحمل رسالة قومية صريحة بلغة راقية معتنى بها قابلة للتمثيل والغناء ومشاركة الأطفال أنفسهم. كتب سليمان العيسى منذ عام 1969م حتى مطلع الثمانينات أكثر من عشرين مسرحية غنائية للأطفال أولها «المستقبل» وآخرها «الغربان في بستان العم أبي سلمى» (1981م)، وبينها مسرحيات طويلة هي من تراث مسرح الأطفال العربي اليوم، أمثال: «أحكي لكم طفولتي يا صغار» (1977م)، والحلم الصغير، القطار الأخضر» (1975م)، «والصيف والطلائع» (1977م) و«المتنبي والأطفال» (1978م).

 

خصّ العيسى مسرحياته كلّها بالموضوع القومي، ولا سيما الوحدة العربية، وربما كانت مسرحيته «الحلم العظيم، القطار الأخضر» نموذجاً لتأليفه المسرحي، فهي عن حلم الوحدة العربية، حلم الوطن العربي الواحد، ويذكر العيسى بعبارة توكيدية:

«إنه حلمي العظيم الذي وقفت له العمر، وتجربتي القومية التي أتنفس بها، وأعيش من أجلها يا أصدقائي الصغار» ويصارح العيسى أصدقاءه الصغار، وهو يكسر جدار الإيهام معهم، أن يتحركوا «ليحطموا الحواجز والسدود التي أقامها الاستعمار الأسود بين شرايين هذا الجسد العربي الواحد، هذا الوطن العربي العظيم، ويبنوا الوحدة» وحدة الملايين الفقيرة المحرومة الضائعة، التي تنقذنا وحدها من كلّ ما تعانيه و تجعلنا بشراً».

 

إنها كلمات كبيرة قد لا تصل إلى وعي الأطفال إلا في سن معينة، ولكن العيسى، كما هو الحال في شعره، يؤمن بأن الأطفال يحفظون الكلام، ويدركونه مع الدربة والمران واغتناء التجربة وتقدم السن، ولا خوف من ذلك.

 

وكان أشار العيسى في تعليماته لمسرحياته، إن مقدماته وتعليقاته النثرية جزء لا يتجزأ من هذه المسرحيات، وهو حريص أن يوضح أهداف ومغازي مسرحياته، والقيم التي يتوخاها، ويشرح جانباً من أسلوبه التعبيري أو الرمزي، ففي كلمة على هامش مسرحيته «الصرصور والنملة» كتب ما يلي:

«قصة الصرصور والنملة معروفة.. حفظناها ونحن صغار..

كان الصرصور رمزاً للكسل.

لماذا؟

لأنه يقضي الصيف كلّه في الغناء. وكانت النملة رمز الجد والعمل.

لماذا؟

لأنها تجمع باض الحب من وراء مناجل الحصادين..»

ويضيف شارحاً: «الصرصور في هذه المسرحية رمز الشاعر.. رمز الفنان الذي يهب الناس حياته كلّها، لا يحسب لغد حساباً. إنه شاعر الحصاد، وصديق الفلاحين، يضاعف بغنائه نشاطهم، ويزيد من إنتاجهم، ويسكب البهجة والمرح في نفوسهم، فإذا الصيف أفراح والحقل كنوز تتدفق».

 

أما طريقته في التأليف، فإنه يحافظ على موقف درامي للطفل، يتفاعل مع جو المسرحية وأحداثها، فتبدأ مسرحية «الحلم العظيم ـ القطار الأخضر» من مماثلة طفلية حين يطلب الطفل نزار إلى أبيه أن يشتري له، في عيد ميلاده قطاراً أخضر، يسميه قطار الوحدة، يربط جناحي الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وتبدأ رحلة نزار، وتبدأ معها أناشيد المسرحية، ويصل القطار إلى دمشق، ويحط في لبنان، ويطل على حدود فلسطين، ويتلقى برقية من أطفال غزة، ويغني للأطفال، ويتوقف في الخليج العربي، ويتلقى برقية من أطفال القدس العربية.

 

ثم يؤلف أطفال القطار الأخضر قيادة عربية جماعية، بعد مجاوزتهم محطات عربية أخرى، ويصل القطار الأخضر إلى القاهرة، ويتكلم في ليبيا، ويتلقى ثلاث برقيات هامة من أطفال الصومال وأطفال أريترية المناضلة ومن أطفال اليهود الفقراء في فلسطين المحتلة الذين يفضحون أكاذيب دولة العدوان والغزو النازية «إسرائيل»، ويتوقف القطار الأخضر في الجزائر والمغرب العربي ويعود إلى بغداد.

 

تعرف الأناشيد في مشاهد المسرحية الأطفال على خارطة وطنهم العربي، وتكشف لهم عن زيف الحدود، وتغني معهم عن مآثر البطولة والحرية والمجد في كل أرض عربية مرددين بصيغ متعددة وهج حلم الوحدة المنقذ من التخلف إلى الحياة العربية الكريمة، كما في هذا النشيد:

ونحن قادمون

بالشمس قادمون

بالحب قادمون

بالوحدة الخضراء قادمون

يا رملنا العظيم

أخرج بما في صدرك العظيم

أخرج إلى الغرب

وجدد النسب

وأدفق دماً وقوة

في الجسد العظيم

وظف العيسى مسرحياته كلّها للتطلع القومي الوحدوي، فهي نوع من الموثبات التي تحفز الأطفال إلى بعث أمجاد الأمة العربية، والإيمان بها والعمل في سبيل نصرة قضاياها، حتى بدت مسرحياته أقرب إلى نص واحد صيغ عدة صياغات، يختزله حيناً، ويسترسل فيه حيناً آخر، ويغنيه بهمس شجي حيناً، وبصوت متفائل غالباً، ففي ختام مسرحية «المتنبي والأطفال» على سبيل المثال، ينشد الأطفال جميعاً مع المتنبي:

نحن طلائعك الثورية

يا أرض الأحرار

نرفع رايات الحرية

نهتف للأحرار

عاشت ثورتنا العربية

ولتخضر الدار

ولتخضر الدار

ولتبث الشمس العربية

ساطعة الأنوار

ساطعة الأنوار

ساطعة الأنوار

أجل، مسرحيات سليمان العيسى الغنائية للأطفال مسرحية واحدة في نشيد طويل عن العروبة والأمل بالنصر وتحقيق الوحدة يغنيها الأطفال في مستوى واحد من اللغة والأداء وحدود الخيال الموجه، وإن وزعت إلى أحداث وشخوص وتوهم موضوعات متباينة.

 

7-2- عيسى أيوب:

برز عيسى أيوب شاعراً للأطفال منذ عام 1969م حين عرضت مسرحيته الغنائية للأطفال «زنوبيا» في المهرجان الثاني للمسرح المدرسي بحمص، وفي هذه المسرحية تبرز اهتماماته وطريقته في التأليف المسرحي، فهو يستفيد من التاريخ والتراث لينفح الأطفال نبرة قومية تبعث الاعتزاز بالماضي، وتستجلي صورة الناصعة، وهي في كتابته يمزج الشعر بالنثر، ويستخدم الأوزان الراقصة حيث يرافق الأداء عروض للرقص الشعبي والإيقاعي، ثم يتداخل التعبير الجدي مع الروح الفكاهية الخفيفة التي ستتوسع في أعماله القادمة.

 

وكان عمله المهم الثاني مسرحية «القطار» (1971م) التي قدمت في المناشط المدرسية بحمص، وفي عام 1975م عرض التلفزيون العربي السوري مسرحية للأطفال «ساعي البريد» (1975م)، وهي تعالج مساعدة الأطفال لذويهم في الريف، وتلتها مسرحية «القنيطرة» (1979م) التي قدمها الأطفال بأنفسهم، وسجلها التلفزيون أيضاً، وفازت بجائزة قومية في مهرجان مسرح الطفل بتونس في العام الدولي للطفل.

 

ثم اغتنت تجربة عيسى أيوب فنياً و فكرياً ولغوياً. وتعد مسرحية «القلعة» (1982م)، وهي تطوير لمسرحيته «زنوبيا»، وهي من المسرحيات القليلة التي تخاطب الأطفال بلغة مناسبة، وتستنهض وجدانهم من أقرب المدارك لوعيهم. إنها رؤية جديدة معاصرة تستثير خيال الأطفال حول مواقف زنوبيا ملكة تدمر، وتثمن إرادة القتال دفاعاً عن الوطن بأبسط الأدوات (الخيل والحجارة والمقالع)، وهي إرادة تجلت فيا لملاحم بين الجيش والشعب، وتشرح المسرحية أفعال المستعمرين، وتنادي قيم مواجهة الاستعمار والمحتلين الذين لا تتغير أساليبهم، وإن تغيرت أسماؤهم.

 

واستطاع عيسى أيوب بمسرحياته أن يقرب قيم التراث من وعي الأطفال كما هو واضح في مسرحيته «عروة بن الورد» وهي سيرة شاعر عربي معروف بتمرده على واقع سيء، فالتف حوله الفقراء والبسطاء من الناس في عملية تنوير جذرية لمجتمعهم.

 

ويتأمل عيسى أيوب مصير الفعل الثوري في مسرحيته في لحظة تأزمه، عندما يعرض عم عروة عليه المواشي والمال مقابل أن يتخلى عن قيمه الثورية، لكنه يرفض، ويحرم من الثروة والإرث، ويضيق الخناق عليه. غير أنه ينتصر في النهاية، وتترسخ المبادئ التي دافع عنها في ضمير البؤساء الذين يأملون بالخلاص من واقعهم السيء.

 

ومنذ ذلك العام، أصبحت مسرحيات عيسى أيوب الأكثر تجسيداً على خشبات مهرجان الطلائع السنوي، فقدم له أكثر من 22 مسرحية بين عامي 1981م و1990م، من أبرزها «صوت الطفل العربي» و«الملك والربيع» و«جحا في عيد المناشط» (1981م). و«أسرار الكروم» و«الأميرة وقطرة الماء» (1984م) و«الحسون في عيد الزينة» و«الرغيف» (1985م) و«المصباح» (1986م) و«جحا يزن أفكاره» و«في المطار» (1987م)، و«زهرة الصحراء» و«هدية الهدايا» و«عروة بن الورد» (1988م). و«الحرية» (1990م). «السجادة» (1990م)، وهي تجسد قيمة العمل وضرورة ربط عطاء الإنسان بمجتمعه، ولعل قيمة معالجة أيوب لهذه الحكاية تكمن في أنه لا يقحم أفكاره على النص، بل يجعل المقاصد والمغازي في مقدرة الأطفال على تلقيها. وتتحدث المسرحية عن شاب أراد أن يتعلم مهنة القضاء، وهي مهنة والده، لكن والده، القاضي فضلون رهن ذلك بإتقانه لحرفة أو صنعة السجاد، ويتعرض ابن القاضي لمآزق عديدة تنجيه منها سجادة صنعها بيده، وتنتهي المسرحية بتوكيد المغزى.

 

وساهم عيسى أيوب في الثمانينات بتأسيس فرق فنية اختصت بتقديم عروض مسرح الأطفال منذ عام 1985م بالتعاون مع مخرجين وممثلين أمثال محمد سعيد الجوخدار وسمير الشمعة وسمير الحكيم ورامز عطا الله وزيناتي قدسية وقدمت له مسرحيات «الصندوق والأقفال الثلاثة» (1985م)، و«المزرعة» و«الاعتذار» (1986م) و«الديك الطائش» (1987م) و«الاحتفال» (1988م) و«فروة الثعلب» (1989م) و«أنشودة المحبة» و«السجادة» (1990م) وعرضت هذه المسرحيات في غالبية المحافظات وفي بعض الأقطار العربية، وهناك أكثر من عشرين مسرحية منها مطبوعة ضمن الكتب الصادرة عن منظمة الطلائع. وللتعرف إلى موضوعات أيوب وطريقته في التأليف، نعرف لهذه المسرحيات، ففي مسرحية «الصندوق والأقفال الثلاثة» على سبيل المثال، يستعيد صورتي جحا وأشعب وطرائفهما المسلية في إطار هدف قومي هو محبة الوطن والدفاع عنه والاستشهاد في سبيله.

 

وفي مسرحية «المزرعة» يجمع الحيوانات في مواجهة صاحب المزرعة، ويعرض مقولات تربوية أخلاقية وسلوكية قومية لقد قرر صاحب المزرعة أن يبيع الحيوانات، ولكنه عدل عن قراره، لأنها تضامنت ووقفت في وجه اللصوص الذين يسرقون المزرعة.

 

ويعالج في مسرحيته «جحا في عيد المناشط» قيماً أخلاقية وسلوكية داعياً إلى التعاون والوفاء وإسعاد الآخرين، من خلال حكاية مؤلفة يزور فيها جحا ساحة العيد. ومعه حماره المعروف بمشاكسته، وكان هناك شرط للمشاركة في العيد لا ينطبق على حمار جحا، فيلجأ الأخير للمغامرة مستعملاً ذكاءه لتحقيق هذا الشرط لأنه، لوفائه، لا يريد أن يفرح بالعيد وحده، بعيداً عن حماره، وهكذا يسعد الجميع وهم يشاركون الأطفال عيدهم.

 

ويحسن عيسى أيوب إعادة موضوعات الحكاية الشعبية بروح جديدة تنبع من التركيب الجديد للحكاية وتشيع القيم المرجوة، في مسرحيات أيوب، تتنوع سبل الأداء وأساليب التأليف، من أجل قيم واضحة لا تخلو من مباشرة، وتدعو الأطفال إلى المحبة والتضامن وإعلان شأن الدفاع عن الوطن والتشبث بالأرض، وتنطلق مسرحياته من الخبرة في مخاطبة الأطفال تراعي في صياغتها الاعتبارات الفنية، وإن غالت كثيراً في التوجيه التربوي على حساب عفوية دراما الطفل في بعض المواقع. ويعتمد غالباً على أسلوب «الأنسنة»، ويخالط مسرحياته على وجه العموم مناخ من التراث الشعبي ليبني منه مشهدية تقترب من روح الفكاهة.

 

يفلح أيوب في تنظيم المشهدية وتنامي الفعلية والانتقال من مشهد لآخر، ويصنع شخصيات مقنعة قريبة من عالم الأطفال، ويلوذ بغنى التحليل النفسي، وهو يستند إلى خبرة عملية لا تخفى في بناء الحركة المسرحية.

 

8- الخاتمة:

وفي ختام هذا البحث، يلاحظ المرء أن تطوراً كبيراً طرأ على مسرح الأطفال في سورية في العقدين الأخيرين جعلت المسرح في صلب الجهود المبذولة للتنمية الثقافية والتربوية، ولا شك في أن المسرحيين الذين نهضوا بهذا المسرح فيما بين 1975 و1985م، وأغلبهم مربون، قد أنجزوا قدراً غير قليل من مسؤوليتهم إزاء ثقافة الأطفال. وقد لاحظنا أن عمل المؤسسات الثقافية، كوزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب، والتنظيمات التربوية هو الأكثر رسوخاً في نماء هذا المسرح وتشجيعه وانتشاره بين جماهير الأطفال. وبيّنا، من جهة أخرى، أن مسرح الأطفال لم يترسخ بعد في التقاليد المسرحية والتربوية في آن معاً. ومن المأمول أن يؤدي هذا التطور الكبير إلى النهوض المرجو بمسرح الأطفال، وثمة علامات طيبة كثيرة كشف عنها البحث تبين ذلك بجلاء.

 

المصادر والمراجع:

1-المسرحيات:

1.         أبو شنب، عادل: «الفصل الجميل»، منشورات دار مجلة الثقافة، دمشق، 1960.

2.         أبو شنب، عادل: «السيف الخشبي» (قصص ومسرحيات للأطفال)، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1975، (وفيه مسرحيتان هما «ملك الغابات» و«أهل التفكير وأهل التدبير».

3.         أبو شنب، عادل: «معطف الإخفاء» (حكايات وحواريات للأطفال)، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1976. وفيه أربع حواريات عن حكايات من ألمانيا وروسيا وأفغانستان واليابان).

4.         أبو معتوق، محمد: «ثلاث مسرحيات غنائية للأطفال» (الأصدقاء والغابة - عودة الشمس الغائبة - أنشودة الطائر)، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1984.

5.         أبو معتوق، محمد: «أوهام حارس الغابة» (وفيه مسرحيات أخرى: أنشودة الثلج - الفزاعة - أنشودة الزنابق - الجدة - أحزان البحر)، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1986.

6.         أبو معتوق، محمد: «أنشودة الخوذة ومسرحيات أخرى» (وفيه 8 مسرحيات) الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، الجماهيرية الليبية، 1990.

7.         إسماعيل، إبراهيم عز الدين: «تمثيليات كليلة ودمنة»، مكتبة النهضة، بغداد، دار الكاتب العربي، بيروت، (د.ت).

8.         ألكسان، جان: «عصافير الجليل»، منشورات منظمة طلائع البعث، دمشق، 1984.

9.         أيوب، عيسى: «القلعة» (أوبريت)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1983.

10.       البحرة، نصر الدين: «أغنية المعول» (مسرحية وقصص للأطفال)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1978.

11.       بلبل، فرحان: «ثلاث مسرحيات للأطفال» (الصندوق الأخضر - البئر المهجورة - حارسو الغابة)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

12.       جودة، عدنان: «علاء الدين والمصباح السحري»، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1984.

13.       الجوزي، نصري: «عيد الجلاء»، مطبعة الثبات، دمشق، 1956.

14.       الجوزي، نصري: «ذكاء القاضي - العدل أساس الملك - عيد الجلاء»، مطبعة طربين، دمشق 1970.

15.       الجوزي، نصري: «فلسطين لن ننساك - وفاء الأصحاب - حطموا الأصنام»، منشورات مطبعة طربين، دمشق، 1971.

16.       حمزة، محمد معشوق: «البستان للأطفال»، كتاب أسامة الشهري، دمشق، 1986.

17.       خلف، خلف أحمد: «العفريت ووطن الطائر»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1982.

18.       خلف، خلف أحمد: «وطن الطائر» (مع مسرحية أخرى)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1983.

19.       الخوري، كوليت: «أغلى جوهرة في العالم»، مطبعة الإنشاء، دمشق، 1975.

20.       داود، أحمد يوسف: «محكمة الغابة»، منشورات منظمة طلائع البعث، دمشق، 1983.

21.       الركانة، محمد: «البجعات» (مع مسرحيتي: الحظ وشميعة)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1985.

22.       شريم، أكرم: «ممتاز يا بطل» منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1981.

23.       صافي، رضا: «صرخة الثأر»، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1980 (وفيه أربع مشاهد تمثيلية ومسرحيتان).

24.       عبد ربه، خيري: «مسرحية الفصول وقصائد أخرى للأطفال»، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1979.

25.       عبد ربه، خيري: «مملكة النحل»، مسرحيتان شعريتان للأطفال (مع مسرحية: التحدي)، منشورات دار طلاس، دمشق، 1987.

26.       عبد ربه، خيري: «أحلام هبة الله»، مسرحية غنائية للأطفال، منشورات دار طلاس، دمشق، 1987.

27.       عزوز، مصطفى: «المسرح الصغير (ج1-ج2)»، الشركة التونسية للنشر، تونس، 1979.

28.       عكرمة، مصطفى: «جند الكرامة»، مطبعة العلم، دمشق، 1973.

29.       العيسى، سليمان: «مسرحيات غنائية للأطفال»، المجموعة الكاملة، دار الشورى، بيروت، 1982.

30.       القاضي، عبد المجيد: «عن مسرح الطفل اليمني ومجموعة قصص للأطفال»، وزارة الثقافة، عدن، ودار الفارابي، بيروت، 1983.

31.       قعوار، فخري: «وطن العصافير»، دار الأفق الجديد، عمان، 1983.

32.       لطفي، محمد منذر: «الحقل السعيد» (مسرحية شعرية للأطفال)، كتاب أسامة الشهري، دمشق، 1984.

33.       المصري، محمد علي: «الغيمة»، دار الوثبة، دمشق، بيروت، القاهرة، الكويت، (د.ت).

34.       ملص، محمد بسام: «الثعلب الصالح» منشورات منظمة طلائع البعث، دمشق، 1983.

35.       ناصح، مروان: «الصياد»، دار الجليل، دمشق، 1986.

36.       ناصح، مروان: «الفكرة العجيبة»، دار الجليل، دمشق، 1986.

37.       ناصح، مروان: «العرس»، دار الجليل، دمشق، 1986.

38.       ناصح، مروان: «واحدة بواحدة»، دار الجليل، دمشق، 1986.

39.       هواري، صالح: «قتلوا الحمام»، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1984.

2- الكتب التي تناولت مسرح الأطفال كلياً أو جزئياً:

1.         أبو هيف، عبد الله: «أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1983.

2.         بوردا، دني: «الدمى المتحركة وعالم الأطفال»، (ترجمة نجلا حريصاتي خوري)، المثلث للتصميم والطباعة والنشر، بيروت، 1981.

3.         ألكسان، جان: «المسرح القومي والمسارح الرديفة في القطر العربي السوري 1959-1986)، وزارة الثقافة، دمشق، 1988.

4.         الجوهري، محمد شاهين: «الأطفال والمسرح»، القاهرة، 1966.

5.         عدة مؤلفين: «مسرح وسينما الأطفال»، منشورات طلائع البعث، دمشق، 1980.

6.         عدة مؤلفين: «أغاني وموسيقى الأطفال»، منشورات طلائع البعث، دمشق، 1981.

7.         عدة مؤلفين: «أدب الأطفال في وسائل الاتصال بجماهير الأطفال»، منشورات طلائع البعث، دمشق، 1981.

8.         عدة مؤلفين: «العمل مع الموهوبين والرواد»، منشورات طلائع البعث، دمشق، 1983.

9.         عدة مؤلفين: «جمهور الأطفال والثقافة»، منشورات طلائع البعث، دمشق، 1985.

10.       كوكوليا، بوجا: «فن العرائس وتحريكها» (ترجمة نجاة قصاب حسن - مراجعة جوليان ماركوفينا)، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1963.

11.       محمد، عواطف إبراهيم (وهدى محمد قناوي): «الطفل العربي والمسرح»، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1984.

12.       المقدادي، فيصل: «المسرح المدرسي»، دار الجليل، دمشق، 1984.

13.       وارد، وينفريد: «مسرح الأطفال» (ترجمة محمد شاهين الجوهري- مراجعة كامل يوسف)، الدار المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1966.

14.       يحيى، حسب الله: «مقدمة في مسرح الأطفال»، دار ثقافة الأطفال، بغداد، 1985.

3- مسرحيات الأطفال المترجمة في وزارة الثقافة:

1.         رويارد كبلنغ: «القطة التي تنزهت على هواها» (ترجمة سعيد حورانية وعاطف أبو جمرة).

2.         شارنبتيه ومارسيل مايان: «أنشودة الزمان» (ترجمة عبد الرزاق الأصفر)، دمشق، 1980.

3.         عدة مؤلفين: «المزمار القصبي - قصص ومسرحية شعرية للأطفال» (ترجمة ميخائيل عيد)، دمشق، 1979.

4.         يفغيني شفارتس: «القبعة الحمراء»، (ترجمة محمد أبو خضور)، دمشق، 1980.

 

4- المسرحيات التي عرضها مسرح العرائس:

الرقم      اسم المسرحية     المؤلف   المخرج  عدد العروض       عدد الرواد          زمن العرض

1          نعيم ونعيمة         فويميل رابدان      بوجوكوكوليا        61        17013  1960

2          بيت الدمية الصغير            فويميل رابدان      يوجوكوكوليا        62        16341  1961

3          البطة ذات التاج الذهبي      كونتوفا   بوجوكوكوليا        62        15437  1962

4          الطابة النطاطة      جوان ماليك         عبد اللطيف فتحي  59        17598  1962

5          علاء الدين والمصباح السحري        عبد اللطيف فتحي  عبد اللطيف فتحي  52        13430  1963

6          ساحر الغابات       عبد اللطيف فتحي  عبد اللطيف فتحي  49        12345  1964

7          السمكة الذهبية    نجاة قصاب حسن  عبد اللطيف فتحي  47        12343  1965

8          الحطاب   نجاة قصاب حسن  عبد اللطيف فتحي  27        5324    1966

9          المريض نجاة قصاب حسن  عبد اللطيف فتحي  38        94005  1966

10        سباق الأرانب والقنفذ الأخوة            ريم        ياسين بقوش        21        23001  1963

11        عربة السندريلا    عبد اللطيف فتحي  عبداللطيف فتحي   27        2303    1963

12        علي بابا والأربعون حرامي  عبد اللطيف فتحي  عبد اللطيف فتحي  27        2351    1962

13        ليلى والذئب         عبد اللطيف فتحي  عبد اللطيف فتحي  31        3514    1961

14        بنت الطحان         عبد اللطيف فتحي  عبد اللطيف فتحي  32        4315    1962

15        جحا وجاره          نجاح المرادي      تيسير هلال الدين                         

16        نور الدين الحطاب نجاح المرادي      تيسير هلال الدين                         

17        الحمال    يوسف دهني        يوسف دهني        31        5413    1965

18        الطفيلي   جان اوزبال          يوسف حرب         41        7325    1971

19        حكاية نصر الدين يوسف حرب         يوسف حرب         22        2315    1972

20        الحمار الشارد      يوسف دهني        يوسف دهني        51        8355    1970

21        الأوتاد الحمراء  عرفان عبد النافع    عرفان عبد النافع  54        13        2313    1973

22        مغامرات ريما      عرفان عبد النافع  تيسير هلال الدين  24        3987    1974

23        رسول الأحلام       تيسير هلال الدين  تيسير هلال الدين  61        5874    1976

24        حلم حطاب                       دورينا    43        28910  1975

25        ضيف من النبلاء   تيسير هلال الدين  دورينا    32        3912    1976

26        الأيدي    غازي المحمد       سلوى الجابري     71        5943    1977

27        حكاية بيضاء        تيسير هلال الدين  سلوى الجابري     71        17357  1978

28        الحسناء النائمة    غازي المحمد       سلوى الجابري     73        19522  1980

29        الكنز      دلال حاتم            سلوى الجابري     84        23450  1984

30        الكلب الأزرق       حسن م يوسف      سلوى الجابري     -           -           1984

5- المسرحيات التي عرضها مسرح الأطفال:

الرقم      اسم المسرحية     المؤلف   المخرج  عدد العروض       عدد الرواد          زمن العرض

1          علاء الدين والمصباح السحري        عدنان جودة        عدنان جودة        62        15750  1983-1984

2          خطيبة الأمير        عدنان جودة        عدنان جودة        67        16323  1984-1985

3          القط أبو الجزمة    عدنان جودة        عدنان جودة        58        1473    1985-1986

4          بدور والأقزام السبعة         عدنان جودة        عدنان جودة        59        15452  1986-1987

5          علي بابا والأربعين حرامي   عدنان جودة        عدنان جودة        -           -           1987-1988

[مجلة «الحياة المسرحية» (دمشق)، ع41، 1994]

 

 

11

تطور المسرح العربي في سورية:

نظرة نوعية وكمية

لا نستطيع فصل الأدب المسرحي عن عملية إعادة إنتاجه عبر وسائل الاتصال، ولا سيما الخشبة والعرض أمام الجمهور، ففي مطلع السبعينيات، حقق المسرح العربي في سورية نهوضاً معتبراً من حيث اتساع روافده، ومن حيث شموله. ونذكر هنا تأسيس مسارح أخرى متعددةوانتظام عروضها في مواسم دورية مثل المسرح الجوال والمسرح الجامعي ومسرح الهواة، وسرح الشبيبة.

 

تسلم علي عقلة عرسان، وهو مخرج وكاتب، إدارة المسارح والموسيقى عام 1969م، فنظم تظاهرات مسرحية لهذه الروافد المسرحية، مثل مهرجان دمشق للفنون المسرحية، الذي انتقل إلى رعاية الدولة في دورته الثانية عام 1970م، وقد تخرج من هذه التظاهرات خيرة المسرحيين فيما بعد، مثلما عززت إرادة العمل المسرحي بين العاملين ومحبي المسرح.

 

وقد ظل الريف محروماً من المسرح، إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى المسرح الجوال، عام 1971م، وقد عمل فيه مخرجون وممثلون ومؤلفون معروفون مثل يوسف حرب وأحمد قبلاوي وأحمد قنوع وإسكندر كيني، وقد قدم المسرح الجوال عروضه في مختلف المحافظات والقرى في سورية. ومن أبرز أعماله تمثيلية «سهرة» لممدوح عدوان، و«دبابيس» لأحمد قنوع، و«أجراس بلا رنين» لوليد مدفعي، و«حكايا من الريف» لأسعد فضة. تحول المسرح الجوال، في الفترة الأخيرة من أغراضه الشعبية ونشر الوعي المسرحي في الريف إلى تقديم مسرحيات عالمية وعربية لجمهور مدينة دمشق وبعض المدن في مراكز المحافظات.

 

أما تظاهرة المسرح الجامعي، فقد أصبحت منتظمة منذ عام 1970م برعاية الاتحاد الوطني لطلبة سورية، فتبوأ المسرح الجامعي مكانة طيبة في حركة المسرح في سورية، وبخاصة أثناء مهرجان دمشق للفنون المسرحية. إن المسرح الجامعي قد أعطى الحياة المسرحية في سورية حيوية دافقة ومواهب كثيرة، وأغنى المسارح بمفاهيم متطورة. ومن أهم عروضه: «مهاجر بريسبان» لجورج شحادة و« في خدمة الشعب» لحسيب كيالي، و«هوبلا نحن نحيا» لارنست توللر، و«كيف تركت السيف» لممدوح عدوان، و«نكون أو لان كون» لرياض عصمت وممدوح عدوان، ودراكون و«رسول من تميرا» لمحمود دياب.

 

وهناك فرق مسرحية أخرى عامة في القطر، مستمرة في رفد الحركة المسرحية، مثل مسرح الشعب (مسرح حلب القومي فيما بعد) الذي تأسس عام 1967م، والمسرح العمالي بحمص (بدأ عروضه عام 1973م).

 

أما الفرق الخاصة فهي كثيرة وأشهرها فرقة محمود جبر، وهي امتداد لمدرسة عبد اللطيف فتحي، وفرقة «الأخوة قنوع» و«مسرح القهرة» لطلحت حمدي وأحمد قبلاوي، و«فرقة المسرح» لمجموعة فنانين، و«فرقة غربة» لدريد لحام.

 

وعلى الرغم من اعتماد المسرح القومي، في بداءته، على نصوص المسرح العالمي أساساً، فإنه اتجه منذ مطلع السبعينيات إلى نصوص الأدب العربي، وشجع التأليف المحلي، وهكذا قدم كتاباً من الأقطار العربية هم: محمود تيمور وتوفيق الحكيم ويعقوب الشاروني وعلي سالم وألفريد فرج (أكثر من مسرحية) ومحمود دياب (أكثر من مسرحية)، ونعمام عاشور، ومحفوظ عبد الرحمن (وجميعهم من مصر)، ويوسف العاني (العراق) والطيب العلج (المغرب).

 

أما الكتاب العرب من سورية فهم: عبد اللطيف فتحي (أكثر من مسرحية، وغالياً ما تكون معدة أو مقتبسة) ووليد مدفعي (أكثر من مسرحية) وأحمد قنوع، ويوسف مقدسي، وعلي عقلة عرسان (أكثر من مسرحية) وحكمت محسن، وعلي كنعان، وأحمد يوسف داود، وسعد الله ونوس (أكثر من مسرحية)، وصدقي إسماعيل، وعيسى أيوب، ومصطفى الحلاج (أكثر من مسرحية)، وفرحان بلبل، وممدوح عدوان (أكثر من مسرحية، وأغلبها معد)، ووليد إخلاصي ونذير العظمة.

 

ومن الملحوظ، أن غالبية هؤلاء الكتاب انتقلوا لكتابة المسرح، بعد انتشاره، من فنون أخرى الشعر مثل علي كنعان وممدوح عدوان وأحمد يوسف داود ونذير العظمة، والرواية مثل صدقي إسماعيل والصحافة مثل يوسف مقدسي.

 

وقد برزت أيضاً ظاهرة الإعداد والاقتباس عن نصوص تراثية عربية وعالمية كما هو الحال مع سعد الله ونوس وممدوح عدوان عبد اللطيف فتحي.

أما الملاحظة الأهم فهي حرص المسرح القومي على تقديم عروضه باللغة الفصحى، ثم لجأ في السنوات الأخيرة إلى تقديم عروض تجريبية كما هو الحال مع مسرحيات «الكوميديا السوداء» و«مقام إبراهيم وصفية» و«حكاية بلا نهاية»، وهكذا ما شجع الكتاب على ارتياد تجارب جديدة في التأليف المسرحي والتزام اللغة الفصحى في الوقت نفسه، وهي ظاهرة تؤيد النجاحات الكبرى التي أحرزتها الكتابة المسرحية في سورية من حيث لغة الحوار ومخاطبة الجمهور، واستطاعة الفصحى على الاستجابة قضية المسرح الحديث بصورة عامة.

 

ونورد هنا بعض الملاحظات حول تطور الأدب المسرحي في هذه المرحلة:

 

أولاً: استمداد الظواهر المسرحية القديمة في بناء المسرحية كشكل «الحكواتي» أو الراوي الشعبي مثلما فعل سعد الله ونوس في مسرحيته «سهرة مع أبي خليل القباني» (1973م) وثمة أشكال أخرى مستمدة من الاحتفالات الشعبية، إذ أعاد عبد الفتاح رواس قله جي احتفالات العرس والذكر طلباً لمشهدية تتميز بالسلامة والقوة والأصالة في «عرس حلبي» (1984م). وتجري هذه المحاولات، ومثيلاتها، في إطار تأصيل المسرح العربي والبحث عن هوية متميزة.

 

ثانياً: عناية الكاتب المسرحي بلوازم التجسيد ومتطلباته، والانتقال خطوات واسعة من مسرح الأفكار باتجاه «المسرحة». فقط أصبحت غالبية النصوص تحتاط لحاجات التجسيد، أو هي مكتوبة لتلبي طبيعة «المسرحة»، ومن النادر أن نجد مسرحية ما مكتوبة للقراءة وحدها، ومايزال الكتاب البارزون اليوم من المخرجين أو رجال المسرح والأدب الذين عايشوا العمل المسرحي فترة طويلة، مثل علي عقلة عرسان ودريد لحام وسعد الله ونوس وفرحان بلبل وممدوح عدوان ووليد مدفعي.

إن أصوات مسرح الأفكار قليلة في خريطة التأليف، ومثالها مسرحيات إلياس زحلاوي وعبد العزيز هلال وأحمد داود.

 

ثالثاً: انتعاش الكتابة المسرحية في أنواع لم تكن تجد إقبالاً مثل المسرح الشعري ومن أبرز مؤلفيه عدنان مردم بك، وخالد محي الدين البرادعي، وعلي كنعان، والمسرح التسجيلي، ومن مؤلفيه جان ألكسان ومحمد أبو معتوق، وتعالج غالبية مسرحياتهم الموضوعات القومية من خلال استخدام الوثيقة بالدرجة الأولى، ومثل المسرحية القصيرة  ذات الفصل الواحد، وبرز في هذا المجال مصطفى الحلاج ووليد إخلاصي وفرحان بلبل وسعد الله ونوس، ومثل المسرح التاريخي، كما فعل ممدوح عدوان وأحمد يوسف داود وعلي ونوس ونذير العظمة.

 

رابعاً: شيوع النزوعات التجريبية لدى الكتاب الجدد كالتعبيرية والرمزية والانطباعية مما يوقع المسرحية أحياناً في الالتباس أو الغموض أو الإبهام، ونذكر من هؤلاء الكتاب على سبيل المثال أمين صالح وغازي حسين العلي وسامي حمزة وفيصل خليل، ومثل هذه النزوعات تصب في وضعية التأليف المسرحي: انقطاع صريح عن تراث المسرح من جهة، واحتفال شديد بفكرة عصية على التجسيد من جهة أخرى. بينما ظهر كتاب جدد آخرون يتميزون بالوضوح الفكري والاستجابة السياسية والاجتماعية المباشرة مثل محمد أبو معتوق ورياض سفلو ولؤي عيادة.

 

خامساً: استغراق العروض المسرحية في العقد الأخير في كتابة المؤلف أو المجموعة المسرحية المباشرة على سبيل الكتابة للعرض المسرحي دون الاعتماد على نص أدبي مكتوب، فصارت العروض المسرحية المعتمدة على نصوص أدبية قليلة أو نادرة، على الرغم من وفرة النصوص المسرحية المكتوبة. ولعلي أورد ثبتاً للمسرحيات المكتوبة والمنشورة مما يؤيد فاعلية تطور التأليف المسرحي، وقد اعتمدت على الفهارس التي أعدها( ) الدكتور أحمد زياد محبك حتى عام 1985، وأكملتها بنفسي حتى عام 2002، مثلما عدّلت بعض المعلومات الواردة.

 

سادساً: تنامي عمليات التأليف النقدي والبحثي حول المسرح العربي المعاصر تنظيراً وتطبيقاً، ومعاينة حول مختلف الظواهر والقضايا في الجوانب الكثيرة لواقع المسرح العربي المعاصر. وكنت نشرت ثبتاً( ) بالكتب المؤلفة كلياً أو  جزئياً عن المسرح العربي في سورية وعلائقه المحلية والعربية والعالمية، وتقصيت حركة التأليف حول المسرح حتى عام 2002 للتعرف إلى أمداء التطور النوعي والكمي كما تظهره هذه الفهارس.

 

هامش:

ثبت النصوص المسرحية في سورية

1945-2002

1945

1.         الهنداوي، خليل: «سارق النار»، بيروت، منشورات الأديب، مجموعة سارق النار.

2.         الهنداوي، خليل: «فتنة، بيروت»، منشورات الأديب، مجموعة سارق النار.

3.         الهنداوي، خليل: «جزيرة بلا رجل»، بيروت، منشورات الأديب، مجموعة سارق النار.

4.         الهنداوي، خليل: «ميلاء، بيروت»، منشورات الأديب، مجموعة سارق النار.

5.         الهنداوي، خليل: «المثال التائه»، بيروت، منشورات الأديب، مجموعة سارق النار.

6.         الهنداوي، خليل: «اللحن الكئيب»، بيروت، منشورات الأديب، مجموعة سارق النار.

7.         الأحمد، أحمد سليمان: «مم وزين»، اللاذقية.

            1946

8.         الحامد، بدر الدين: «ميسون، حماة»، بي الفداء، مط.

            1948

9.         ميرزا، زهير: «الحقيقة الكبرى»، دمشق، دار اليقظة، مجموعة كافر.

10.       ميرزا، زهير: «بين جنديين»، دمشق، دار اليقظة، مجموعة كافر.

11.       ميرزا، زهير: «لقاء»، دمشق، دار اليقظة، مجموعة كافر.

12.       ميرزا، زهير: «كافر»، دمشق، دار اليقظة، مجموعة كافر.

13.       ميرزا، زهير: «غانية وفكر»، دمشق، دار اليقظة، مجموعة كافر.

14.       ميرزا، زهير: «وجهة نظر»، دمشق، دار اليقظة، مجموعة كافر.

15.       ميرزا، زهير: «مصرع المثال»، دمشق، دار اليقظة، مجموعة كافر.

 

            1949

16.       الهنداوي، خليل: «المشوهون»، بيروت، مجلة الأديب، العدد 6.

            1950

17.       مهدي، محمود: «بدر الكبرى»، دمشق.

18.       الركابي، ممتاز: «الحاجة كمالا»، دمشق، مجلة النقاد، العدد 29 أيار.

19.       كيالي، حسيب: «الصديقان»، دمشق، مجلة النقاد، العدد 30 حزيران.

20.       الحامض، عباس: «ذات السوار»، دمشق، مجلة النقاد، العدد 31 حزيران.

21.       نحوي، محمد أديب: «على الدروب السود»، دمشق، مجلة النقاد، العدد 34 تموز.

22.       حورانية، سعيد: «حمامة السلام»، دمشق، مجلة النقاد، العدد 39 آب.

23.       السباعي، مراد: «مشكلة الراتب»، دمشق، مجلة النقاد، العدد 40 آب.

24.       حورانية، سعيد: «صرخة الصلصال»، دمشق، مجلة النقاد، العدد 50 تشرين2.

            1953

25.       الهنداوي، خليل: «طريق العودة»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 9.

            1954

26.       الهنداوي، خليل: «تسع بنادق فقط»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 1.

            1955

27.       ميرزا، زهير: «عانس، بيروت»، مجلة الآداب، العدد 1.

28.       أبو قوس، عبد الرحمن: «لايس»، حلب، المعارف، مط.

29.       الشيباني، أحمد: «غانية وقديس»، دمشق، دار اليقظة.

            1957

30.       الهنداوي، خليل: «الفدائي الصغير حسن»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 1.

31.       الحلاج، مصطفى: «القتل والندم»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 1.

32.       الأحمد، خير الدين: «الملهمة»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 7.

33.       الأحمد، أحمد سليمان: «المأمونية»، دمشق، الجمهورية، مط.

34.       السردار، أنور: «الذبائح»، حلب، منشورات النادي الفني.

            1958

35.       النص، عمر: «نشيد الأنشاد»، دمشق، المطبعة الهاشمية، مجموعة الليل في الدروب.

36.       أدونيس: «مجنون بين الموتى»، بيروت، مجموعة أوراق في الريح.

37.       أدونيس: «السديم»، بيروت، مجموعة أوراق في الريح.

38.       الهنداوي، خليل: «إنه سيعود»، القاهرة، مجلة المجلة، العدد 21.

39.       حورانية، سعيد: «صياح الديكة»، بيروت، مجلة الثقافة الوطنية، العدد 4.

40.       السباعي، فاضل: «الجسر»، حلب، منشورات الأصدقاء، مجموعة الشوق واللقاء.

41.       السباعي، فاضل: «الشوق واللقاء»، حلب، منشورات الأصدقاء، مجموعة الشوق واللقاء.

42.       صائب، سعد: «سحر الغناء»، دمشق، مجلة الثقافة، العدد 4.

43.       الاختيار، نسيب: «صراع الأجيال»، دمشق، مجلة الثقافة، العدد 7.

            1959

44.       الهنداوي، خليل: «ستة رجال تحت الأرض»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 2.

45.       ألكسان، جان: «مكيدة في غزة»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 3.

46.       الحلاج، مصطفى: «الغضب»، بيروت، مجلة الآداب، العددان 10-11.

47.       سعيد، رامي: «نهاية مستهتر»، حلب، النصر، مط.

            1960

48.       الحاج حسين: «محمد». السجن الكبير، دمشق، مجلة الثقافة، العدد 4.

49.       محمد عرفات، شوقي: «الصراع الأبدي»، دمشق، مجلة الثقافة، العدد 10.

            1961

50.       مدفعي، وليد: «وعلى الأرض السلام»، دمشق، الإنشاء، مط.

51.       حريري، كمال: «شيطان الاستعمار»، حلب، الثقافة، مط.

52.       حريري، كمال: «محاكمة دي غول»، حلب، الثقافة، مط.

53.       الميداني، أكرم: «الزيارة الأخيرة»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 4.

54.       الميداني، أكرم: «لعبة الأمير»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 9.

            1962

55.       الهنداوي، خليل: «سيزيف»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 2.

56.       الهنداوي، خليل: «نكبة ابن رشد»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 6.

57.       صفدي، مطاع: «رجال محاصرون»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 7.

58.       الهنداوي، خليل: «من مكة إلى مكة»، دمشق، مجلة الثقافة، العدد 2.

59.       الحاج حسين، محمد: «عمر والثريا»، دمشق، مجلة الثقافة، العدد 1.

60.       الحاج حسين، محمد: «نهاية بجماليون»، دمشق، مجلة الثقافة، العدد 4.

61.       السباعي، مراد: «سجين الدائر»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة الشرارة الأولى.

62.       السباعي، مراد: «معركة»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة الشرارة الأولى.

63.       حسناوي، محمد: «ثورة في مدرسة»، دمشق، مجلة حضارة الإسلام، العدد 9.

            1963

64.       الهنداوي، خليل: «وضياح اليمن»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 2.

65.       الهنداوي، خليل: «درة قرطبة»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 5.

66.       خشفة، نديم: «التوبة»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 1.

67.       ونوس، سعد الله: «مادوز تحدق في الحياة»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 6.

68.       خشفة، نديم: «البطل والحلوى»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 10.

69.       الحاج حسين، محمد: «وداعاً يا بثينة»، دمشق، مجلة الثقافة، العدد 8.

70.       حسني، إسماعيل: «بعد الأصيل»، دمشق، مجلة الثقافة، العدد 9.

            1964

71.       الهنداوي، خليل: «أقوى من الحب»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 34.

72.       كيالي، حسيب: «الثائرون»، دمشق، مجلة الموقف العربي، العدد 23 آب.

73.       ونوس، سعد الله: «فصد الدم»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 3.

74.       خشفة، نديم: «لا تدفنوا الموتى»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 3.

75.       الهنداوي، خليل: «خالد ـ يوم اليرموك»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 3.

76.       الماغوط، محمد: «العصفور الأحدب»، بيروت.

            1965

77.       الكيالي، سامي: «الأمير الحمداني»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 35.

78.       قداح، نعيم: «القادسية»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 36.

79.       قريطي، أنور: «مركب الصلع»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 11.

80.       ونوس، سعد الله: «لعبة الدبابيس»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة حكايا جوق التماثيل.

81.       ونوس، سعد الله: «جثة على الرصيف»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة حكايا جوق التماثيل.

82.       ونوس، سعد الله: «المقهى الزجاجي»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة حكايا جوق التماثيل.

83.       ونوس، سعد الله: «مأساة بائع الدبس الفقير»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة حكايا جوق التماثيل.

84.       ونوس، سعد الله: «الجراد»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة حكايا جوق التماثيل.

85.       ونوس، سعد الله: «الرسول المجهول في مأتم أنتيجونا»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة حكايا جوق التماثيل.

86.       مدفعي، وليد: «البيت الصاخب»، دمشق، وزارة الثقافة.

87.       قنصل، زكي: «تحت سماء الأندلس»، دمشق، وزارة الثقافة.

            1966

88.       الملوحي، عبد المعين: «المسبح»، دمشق، مجلة الثقافة، العدد 11.

89.       عقلة عرسان، علي: «زوار الليل»، دمشق، «مجلة المعرفة، العدد 55.

90.       الدكتور النص، عمر: «شهريار»، بيروت، دار الكتاب الجديد.

91.       إسماعيل، صدقي: «الأحذية»، دمشق، مجلة الجندي، العدد 75.

92.       خشفة، نديم: «التوابيت»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 1.

93.       خشفة، نديم: «الجثة العنيدة»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 5.

94.       حاج حسين، محمد: «جزيرة أرواد»، دمشق، مجلة الثقافة، العدد 11.

95.       حاج عيسى، محي الدين: «أسرة شهيد»، دمشق، مكتبة أطلس.

96.       العيسى، سليمان: «ابن الأيهم الإزار الجريح»، دمشق، منشورات وزارة التربية.

            1967

97.       مردم بك، عدنان: «غادة أفاميا»، بيروت، منشورات عويدات.

98.       السباعي، مراد: «وراء الأمل»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة الحكاية ذاتها.

99.       السباعي، مراد: «أنت أبي»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة الحكاية ذاتها.

100.     السباعي، مراد: «قطعة الدانتيل»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة الحكاية ذاتها.

101.     السباعي، مراد: «بائعة أعشاب»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة الحكاية ذاتها.

102.     السباعي، مراد: «مشكلة الراتب»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة الحكاية ذاتها.

103.     عدوان، ممدوح: «المخاض»، دمشق، الجمهورية، مط.

104.     العيسى، سليمان: «إنسان»، دمشق، وزارة الثقافة.

105.     أبو الهيجا، نواف: «عين حوض»، دمشق، مجلة الطليعة، العدد 51.

106.     كيالي، حسيب: «الناس والحصاد»، دمشق، مجلة الطليعة، العدد 58.

107.     الجندي، علي: «الكهف»، دمشق، مجلة الطليعة، العدد 88.

            1968

108.     مردم بك، عدنان: «العباسة»، بيروت، منشورات عويدات.

109.     مصطفى حسن، رفيق: «سلامة القس»، دمشق، كرم، مط.

110.     إسماعيل، صدقي: «عمار يبحث عن أبيه»، دمشق، جريدة البعث، يوم 12 تموز.

111.     يوسف داود، أحمد: «سفرة جلجامش»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 75.

112.     ونوس، سعد الله: «عندما يلعب الرجال»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 76.

113.     أبو الهيجا، نواف: «الفارس الأقرع»، دمشق، مجلة المعرفة، العددان 76-77.

114.     العيسى، سليمان: «ميسون»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 82.

115.     الجندي، علي: «عروة بن الورد»، دمشق، مجلة الطليعة، العدد 91.

116.     ألكسان، جان: «يد واحدة، دمشق»، مجلة الطليعة، العدد 92.

117.     كنعان، علي: «سد مأرب»، دمشق، مجلة الطليعة، العدد 93.

118.     قنوع، أحمد: «مذا يحدث بعد نصف ساعة»، دمشق، مجلة الطليعة، العدد 100.

119.     ألكسان، جان: «الزمن»، دمشق، مجلة الطليعة، العدد 130.

120.     ميروز، عصام: «الشلال»، دمشق، مجلة الطليعة، العدد 109.

121.     كيالي، حسيب: «الطاسات»، دمشق، مجلة الطليعة، العدد 119.

122.     كيالي، حسيب: «بنت النجار»، دمشق، مجلة الطليعة، العدد 129.

            1969

123.     ونوس، سعد الله: «الفيل يا ملك الزمان»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 86.

124.     العيسى، سليمان: «الفارس الضائع»، بيروت، منشورات عويدات.

125.     مردم بك، عدنان: «الملكة زنوبيا»، بيروت، منشورات عويدات.

126.     الدكتور النص، عمر: «الطوفان»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 4.

127.     الراهب، هاني: «ما لجرح بميت»، دمشق، مجلة الطليعة، العدد 150.

128.     ماهر الجزائري، غسان: «الذئاب تعوي»، دمشق، مجلة المعرفة، تشرين 2.

            1970

129.     الحلاج، مصطفى: «احتفال ليلي خاص لدريسدن»، دمشق، وزارة الثقافة.

130.     ماهر الجزائري، غسان: «عالم واسع فسيح الأرجاء»، دمشق، وزارة الثقافة.

131.     مدفعي، وليد: «وبعدين»، دمشق.

132.     أبو الهيجا، نواف: «نهار خليلي»، دمشق، جمعية المسرح الفلسطيني.

133.     سعيد، نصرة: «بنت المفتشة»، حلب، الحياة، مط.

134.     غالب الرفاعي، محمد: «يوسف عليه السلام»، دمشق، الآداب، مط.

135.     الجوزي، نصري: «ذكاء القاضي»، دمشق، طربين، مط.

136.     الجوزي، نصري: «العدل أساس الملك»، دمشق، طربين، مط.

137.     الجوزي، نصري: «عيد الجلاء»، دمشق، طربين، مط.

138.     ونوس، سعد الله: «مغامرة رأس المملوك جابر»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 105.

139.     إخلاصي، وليد: «وحده ضد المدينة»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 105.

140.     الحلاج، مصطفى: «الدراويش يبحثون عن الحقيقة»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 105.

141.     أبو الهيجا، نواف: «التصفية»، دمشق، مجلة المعرفة، العددان 96 و97.

142.     الدكتور النص، عمر: «الفيلة»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 6.

143.     الدكتور النص، عمر: «الحقيقة كلها»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 10.

            1971

144.     قصاب حسن، نجاة: «الغائبة»، دمشق، مطابع دار العروبة.

145.     قصاب حسن، نجاة: «الأسير»، دمشق، مطابع دار العروبة.

146.     يوسف داود، أحمد: «الغراب»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 117.

147.     إخلاصي، وليد: «سهرة ديمقراطية»، دمشق، مجلة الموقف العربي، العدد 3.

148.     الدكتور النص، عمر: «الليل لسلطان»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 1.

149.     الجوزي، نصري: «فلسطين لن ننساك»، دمشق، طربين، مطبـ.

150.     الجوزي، نصري: «وفاء الأصحاب»، دمشق، طربين، مطبـ.

151.     الجوزي، نصري: «حطموا الأصنام»، دمشق، طربين، مطبـ.

152.     يوسف داود، أحمد: «الخطا التي تنحدر»، دمشق، اتحاد الكتاب.

153.     مردم بك، عدنان: «الحلاج»، بيروت، منشورات عويدات.

154.     عصمت، رياض: «النجوم والليل الطويل»، دمشق، وزارة الثقافة.

155.     عقلة عرسان، علي: «الفلسطينيات»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة ثلاث مسرحيات.

156.     عقلة عرسان، علي: «الشيخ والطريق»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة ثلاث مسرحيات.

157.     عقلة عرسان، علي: «زوار الليل»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة ثلاث مسرحيات.

158.     قلعجي، عبد الفتاح: «مولد النور»، حلب، الأصيل، مط.

159.     السردار، أنور: «سيليا»، حلب، الشرق، مط.

160.     بلبل، فرحان: «العيون ذات الاتساع الضيق»، حمص، دار غراتيب للنشر.

161.     زرزور، فارس: «الحفاة وخفي حنين»، دمشق، دار الآداب، مط.

            1972

162.     إخلاصي، وليد: «الليلة نلعب»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 1.

163.     عدوان، ممدوح: «محاكمة الرجل الذي لم يحارب»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 1.

164.     السيد، ممدوح: «الجرذ والملك»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 1.

165.     ماهر الجزائري، غسان. الجندي المجهول»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد1.

166.     قطاية، سليمان: «واحد اثنان ثلاثة»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 1.

167.     إسماعيل، صدقي: «أيام سلمون»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 1.

168.     كيالي، حسيب: «في خدمة الشعب»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 1.

169.     يوسف داود، أحمد: «الكنز»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 1.

170.     الجندي، علي: «المحطة»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 124-125.

171.     الهنداوي، خليل: «الحب يخلق الآلهة»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 12.

172.     الدكتور النص، عمر: «مفاتيح غرناطة»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 2.

173.     الدكتور النص، عمر: «ليمت قيصر»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 10.

174.     مردم بك، عدنان: «رابعة العدوية»، بيروت، منشورات عويدات.

175.     عكرمة، مصطفى: «جند الكرامة»، دمشق، العلم، مط.

176.     حاج حسين، محمد: «الحقيقة المرة»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

177.     حاج حسين، محمد: «الكلب»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

178.     حاج حسين، محمد: «رحمة الله»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

179.     حاج حسين، محمد: «المعجزة»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

180.     حاج حسين، محمد: «كاتب مسرحي»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

181.     حاج حسين، محمد: «بيت أخي»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

182.     حاج حسين، محمد: «الخزانة»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

183.     حاج حسين، محمد: «القاتلة البريئة»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

184.     حاج حسين، محمد: «عين الماء»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

185.     حاج حسين، محمد: «اكتملت حياتي»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

186.     حاج حسين، محمد: «الحفيد»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

187.     حاج حسين، محمد: «الكابوس»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

188.     حاج حسين، محمد: «سأطلق سراحك»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

189.     حاج حسين، محمد: «المظلومة»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

190.     حاج حسين، محمد: «كاتب قصة»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

191.     حاج حسين، محمد: «فنان موهوب»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

192.     حاج حسين، محمد: «الستار الذي رفع»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

193.     حاج حسين، محمد: «الأعمى»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

194.     حاج حسين، محمد: «السارق»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

195.     حاج حسين، محمد: «البديل»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

196.     حاج حسين، محمد: «موسى بن نصير»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

197.     حاج حسين، محمد: «المبذر»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

198.     حاج حسين، محمد: «الفرن المغلق»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

199.     حاج حسين، محمد: «السر الرهيب»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

200.     حاج حسين، محمد: «الشجاء الخارجية»، دمشق، دار الأجيال، مجموعة الحقيقة المرة.

            1973

201.     إخلاصي، وليد: «يوم أسقطنا طائر الوهم»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 6-7-8.

202.     السباعي، مراد: «الإنسان والموت»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 7-8.

203.     دهني، صلاح: «الذين بيننا ولا نراهم»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 138.

204.     إخلاصي، وليد: «القدر يحك رأسه»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 140.

205.     يوسف داود، أحمد: «ربيع دير ياسين»، بيروت، مجلة الآداب، العدد 3.

206.     زحلاوي، إلياس: «المدينة المصلوبة»، دمشق، وزارة الثقافة.

207.     بلبل، فرحان: «الحفلة دارت في الحارة»، دمشق، وزارة الثقافة.

208.     ألكسان، جان: «قراءات على شاهدات مقبرة كفر قاسم»، دمشق، وزارة الثقافة.

209.     ألكسان، جان: «تشخيص في مدار المنصة»، دمشق، وزارة الثقافة.

210.     ونوس، عبد الله: «سهرة مع أبي خليل القباني»، دمشق، اتحاد الكتاب.

211.     مقدسي، يوسف: «دخان الأقبية»، دمشق، اتحاد الكتاب.

212.     مردم بك، عدنان: «مصرع غرناطة»، بيروت، منشورات عويدات.

213.     الماغوط، محمد: «المهرج»، بيروت.

214.     الميداني، عصام: «المرأة»، دمشق، دار الأجيال.

215.     بقدونس، سعد الدين، وخليفة، أحمد: «قتال حتى النهاية»، دمشق، المسرح الكوميدي الحديث.

            1974

216.     السباعي، مراد: «الفنان والطبيعة»، دمشق، اتحاد الكتاب، مجموعة تحت النافذة.

217.     السباعي، مراد: «الحلم والحقيقة»، دمشق، اتحاد الكتاب، مجموعة تحت النافذة.

218.     السباعي، مراد: «الشاعر واللص»، دمشق، اتحاد الكتاب، مجموعة تحت النافذة.

219.     عصمت، رياض: «القنبلة»، دمشق، المطبعة التعاونية، مجموعة طائر الخرافة.

220.     عصمت، رياض: «طائر الخرافة»، دمشق، المطبعة التعاونية، مجموعة طائر الخرافة.

221.     عصمت، رياض: «الخسوف»، دمشق، المطبعة التعاونية، مجموعة طائر الخرافة.

222.     عصمت، رياض: «الذي لا يأتي»، دمشق، المطبعة التعاونية، مجموعة طائر الخرافة.

223.     الحلاج، مصطفى: «أيها الإسرائيلي حان وقت الاستسلام»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 144.

224.     أبو شنب. عادل: «قلق لا أكثر»، دمشق، مجلة المعرفة، العدد 147.

225.     عقلة عرسان، علي: «الغرباء»، دمشق، وزارة الثقافة.

226.     داود، أحمد: «جلجامش أو نصف على نصف»، دمشق، طربين، مط.

227.     مردم بك، عدنان: «فلسطين ثائرة»، بيروت، منشورات عويدات.

228.     زرزور، فارس: «الأشقياء والسادة»، دمشق، الآداب، مط.

229.     كيالي، حسيب: «المهر زاهد»، دمشق، اتحاد الكتاب.

230.     الدكتور بدران، إبراهيم: «القضية 1387»، دمشق، بركات، مط.

            1975

231.     كيالي، حسيب: «سأعود إلى قتالكم»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

232.     بلبل، فرحان: «الجدران القرمزية»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

233.     حمزة، سامي: «الطاعون يعسكر في المدينة»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

234.     حداد، دعد. فقاعة الصابون»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

235.     ماهر الجزائري، غسان: «يجب أن نسجن معاً»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

236.     كمال جبر، محمد: «الذباب»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

237.     أبو شعر، أيمن: «الأرنب الذئبي»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

 

238.     عصمت، رياض: «لعبة الحب والثورة»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

239.     إبراهيم، سهيل: «بانوراما مقهى عربي»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

240.     نصرة، جهاد: «البستان»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

241.     عبد المنعم، سليمان: «الرحيل إلى الخوف»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

242.     إخلاصي، وليد: «قطعة وطن على شاطئ قديم»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

243.     قطاية، سلمان: «القضية والحل»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 4-5 آب ـ أيلول.

244.     عقلة عرسان، علي: «رضا قيصر»، دمشق، وزارة الثقافة.

245.     بلبل، فرحان: «الممثلون يتراشقون بالحجارة»، دمشق، وزارة الثقافة.

246.     مردم بك، عدنان: «فاجعة مايرلنغ»، بيروت، منشورات عويدات.

247.     كيالي، حسيب: «زوج الثلاث»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 12 نيسان.

            1976

248.     زحلاوي، إلياس: «الطريق إلى كوجو»، دمشق، اتحاد الكتاب.

249.     عصمت، رياض: «هل كان العشاء دسماً»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 59-60.

250.     الهنداوي، خليل: «العالم لن ينتهي»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 62.

251.     إخلاصي، وليد: «إطلاق النار من الخلف»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 64.

252.     مصطفى درويش، محمد: «الجزمة الجنرالية»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 64.

253.     عدوان، ممدوح: «هملت يستيقظ متأخراً»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 65-66.

254.     عقلة عرسان، علي: «عراضة الخصوم»، دمشق، اتحاد الكتاب.

255.     إخلاصي، وليد: «الصراط»، دمشق، اتحاد الكتاب.

256.     مدفعي، وليد: «أجراس بلا رنين»، دمشق، اتحاد الكتاب.

257.     محي الدين البرادعي: «خالد. الوحش»، دمشق، اتحاد الكتابن 1976م.

258.     عدوان، ممدوح: «ليل العبيد»، دمشق، الإدارة السياسية في الجيش، مط.

259.     هلال، عبد العزيز: «القطار»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

            1977

260.     بلبل، فرحان: «العشاق لا يفشلون»، دمشق، وزارة الثقافة.

261.     ونوس، سعد الله: «الملك هو الملك»، دمشق، ملحق الثورة الثقافي، العدد 12.

262.     إخلاصي، وليد: «فرح شرقي»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 72.

263.     حداد، دعد: «اثنان في الأرض واحد في السماء»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 78.

            1978

264.     محي الدين البرادعي، خالد: «دمر عاشقاً»، دمشق، اتحاد الكتاب.

265.     عصمت، رياض: «الحداد يليق بأنتيغونا»، بيروت، دار المسيرة.

266.     خليل، فيصل: «المسرحية تستمر»، دمشق، وزارة الثقافة.

267.     رواس قلعجي، عبد الفتاح: «السيد»، حلب، المعري، مط.

268.     رواس قلعجي، عبد الفتاح: «ثلاث صرخات»، حلب، المعري، مط.

269.     ألكسان، جان: «الاختراق»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة مسرح المعركة.

270.     ألكسان، جان: «موال من أغنية تشرين»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة مسرح المعركة.

271.     ألكسان، جان: «مشاهد من زمن الحرب»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة مسرح المعركة.

 

272.     ألكسان، جان: «سكين في الاتجاه الصعب»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة مسرح المعركة.

273.     إخلاصي، وليد: «لقمة الزقوم»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة سبعة أصوات خشنة.

274.     إخلاصي، وليد: «سبدلا»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة سبعة أصوات خشنة.

275.     إخلاصي، وليد: «صرخة العندليب»، دمشق، وزارةالثقافة، مجموعة سبعة أصوات خشنة.

276.     إخلاصي، وليد: «اللغو»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة سبعة أصوات خشنة.

277.     إخلاصي، وليد: «طفولة جثة»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة سبعة أصوات خشنة.

278.     إخلاصي، وليد: «التبادل»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة سبعة أصوات خشنة.

279.     إخلاصي، وليد: «الليلة العلمية»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة سبعة أصوات خشنة.

280.     بلبل، فرحان: «لا تنظر من ثقب الباب»، دمشق، اتحاد الكتاب.

281.     إخلاصي، وليد: «أوديب مأساة عصرية»، دمشق، مجلة الحياة المسرحية، العدد 4-5.

282.     السباعي، مراد: «الإنسان والشيطان»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 78.

283.     قلعجي، عبد الفتاح: «اللحّاد»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 79.

284.     محي الدين البرادعي، خالد: «الشيخ بهلول في سوق الخياطين»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 91.

285.     عقلة عرسان، علي: «الأقنعة»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 92.

286.     السباعي، مراد: «حرية الموتى»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 92.

            1979

287.     أبو معتوق، محمد: «فوق هذا المستطيل وقع حادث»، دمشق، وزارة الثقافة.

288.     أبو معتوق، محمد: «التغريبة المعاكسة لبني هلال»، دمشق، وزارة الثقافة.

289.     زرزور، فارس: «ميم عين ميم لام»، دمشق، مجلة الحياة المسرحية، العدد 10.

290.     محي الدين البرادعي، خالد: «السلام يحاصر قرطاجنة»، دمشق، اتحاد الكتاب.

291.     السباعي، مراد: «الكلمة والكاتب»، دمشق، اتحاد الكتاب، مجموعة أسئلة تطرح وأصداء تجيب.

292.     السباعي، مراد: «ماسح الأحذية»، دمشق، اتحاد الكتاب، مجموعة أسئلة تطرح وأصداء تجيب.

293.     فاخوري، ممدوح: «مجلس مع ابن زيدون»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 111.

294.     إخلاصي، وليد: «البكاء في غياب القمر»، بغداد، «مجلة الأقلام، العدد 12.

            1980

295.     كيالي، حسيب: «الضحك في العب»، دمشق، مجلة الحياة المسرحية، العدد 11-12.

296.     رواس قلعجي، عبد الفتاح: «صناعة الأعداد»، بيروت، دار ابن رشد.

297.     رواس قلعجي، عبد الفتاح: «هبوط تيمورلنك»، بيروت، دار ابن رشد.

298.     محي الدين البرادعي، خالد: «العرش والعذراء»، دمشق، اتحاد الكتاب.

299.     إخلاصي، وليد: «هذا النهر المجنون»، دمشق، وزارة الثقافة.

300.     بلبل، فرحان: «البيت والوهم»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، مجموعة العيون ذات الاتساع الضيق.

301.     بلبل، فرحان: «الطائر يسجن الغرفة»، دمشق، اتحاد الكتاب، مجموعة العيون ذات الاتساع الضيق.

302.     بلبل، فرحان: «العيون ذات الاتساع الضيق»، دمشق، اتحاد الكتاب، مجموعة العيون ذات الاتساع الضيق.

303.     بلبل، فرحان: «لا ترهب حد السيف»، بغداد، «مجلة الأقلام، العدد 6.

304.     إخلاصي، وليد: «مقام إبراهيم وصفية»، بغداد، «مجلة الأقلام، العدد 6.

            1981

305.     محي الدين البرادعي، خالد: «أشباح سيناء»، دمشق، مجلة الموقف الأدبي، العدد 120.

306.     الدكتور العظمة، نذير: «سيزيف الأندلسي»، دمشق، وزارة الثقافة.

307.     إخلاصي، وليد: «أنشودة الحديقة»، دمشق، مجلة الحياة لامسرحية، العدد 17-18.

            1984

308.     سفلو، رياض: «فرعون لا يشبه الفراعنة»، دمشق، وزارة الثقافة.

309.     إخلاصي، وليد: «حدث في يوم المسرح»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة أغنيات للممثل الوحيد.

310.     إخلاصي، وليد: «وردة حمراء للشعر الأبيض»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة أغنيات للممثل الوحيد.

311.     إخلاصي، وليد: «البكاء في غياب القمر»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة أغنيات للممثل الوحيد.

312.     إخلاصي، وليد: «مرثية للطائر الغائب»، دمشق، وزارة الثقافة، مجموعة أغنيات للممثل الوحيد.

313.     أبو معتوق، محمد: «الأيام الفلسطينية»، دمشق، مجلة الحياة المسرحية، العدد 22-23.

314.     أيوب، عيسى: «القلعة»، دمشق، اتحاد الكتاب.

315.     محي الدين البرادعي، خالد: «أبو حيان التوحيدي»، دمشق، اتحاد الكتاب.

316.     الكاتب، جهاد: «الوجه الأسود والزوبعة»، دمشق، اتحاد الكتاب.

317.     أحمد خلف، خلف: «العفرين ووطن الطائر»، دمشق، اتحاد الكتاب.

318.     عبد الله، راجي: «ريبورتاجات قصيرة لحياة طويلة»، دمشق، دار الجليل.

319.     هواري، صالح: «قتلوا الحمام»، دمشق، وزارة الثقافة.

320.     جودة، عدنان: «علاء الدين والمصباح السحري»، دمشق، وزارة الثقافة.

321.     قلعة جي، عبدالفتاح: «عرس حلبي»، دمشق، وزارة الثقافة.

            1985

322.     إخلاصي، وليد: «مسرحيتان عن قتل العصافير»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

323.     ونوس، علي: «خامس الراشدين»، دمشق، وزارة الثقافة.

324.     فاضل، وليد: «السمفونية الهادئة»، دمشق، وزارة الثقافة.

            1986

325.     البرادعي، خالد محي الدين: «المؤتمر الأخير لملوك الطوائف»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

326.     العظمة، نذير: «أوروك يبحث عن جلجامش»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

327.     إخلاصي، وليد: «من يقتل الأرملة»، دمشق، وزارة الثقافة.

328.     فاضل، وليد: «لميس والقطط»، دمشق، وزارة الثقافة.

329.     جودة، عدنان: «خطيبة الأمير»، دمشق، وزارة الثقافة.

330.     السمان، نجم الدين: «حكاية تل الحنطة»، دمشق، وزارة الثقافة.

331.     ورور، حسين: «أورفيوس»، دمشق، وزارة الثقافة.

            1987

332.     كيالي، حسيب: «ماذا يقول الماء»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

333.     عمورة، عمر راشد: «ناردين»، دمشق.

            1988

334.     أبو معتوق، محمد: «موت الحكواتي»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

335.     عيادة، لؤي: «سر المغارة»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

336.     إخلاصي، وليد: «مسرحيتان للفرجة»، دمشق، وزارة الثقافة.

            1989

337.     عدوان، ممدوح: «حال الدنيا والخدامة»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

338.     عدوان، ممدوح: «حكايات الملوك»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

339.     إخلاصي، وليد: «رسالة التحقيق والتحقق»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

340.     سمان، نجم الدين: «درب الأحلام»، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

341.     عرسان، علي عقلة: «الأعمال المسرحية الكاملة» (3 مجلدات)، دمشق، دار طلاس.

342.     ونوس، سعدالله: «الاغتصاب»، دمشق، مجلة الحرية.

            1990

343.     البرادعي، خالد محي الدين: «جزيرة الطيور»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

344.     فاضل، وليد: «سوناتا الخريف والدمية»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

345.     السباعي، مراد: «شيطان في بيت»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

346.     البرادعي، خالد محي الدين: «الإمبراطور زمسكس»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

347.     الخواجة، هيثم يحيى: «ثلاث مسرحيات للأطفال»، دمشق، وزارة الثقافة.

348.     الجندي، سامي: «في البدء كانت الثورة»، دمشق، دار الجندي.

349.     ونوس، سعدالله: «الاغتصاب»، بيروت، دار الآداب.

350.     ونوس، سعدالله: «رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة»، بيروت، دار الآداب.

            1991

351.     سلطان، علي: «واحة الحرية»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

352.     حموري مصطفى: «مار»، حماة، مطبعة الأندلس.

353.     حموري مصطفى: «ألوان وضباب»، حماة، مطبعة العيسى.

354.     حموري مصطفى: «المتوازيان»، حماة، مطبعة العيسى.

355.     حموري مصطفى: «أغنية البحر»، حماة، مطبعة العيسى.

            1992

356.     أبو  معتوق، محمد: «الحبل والكرسي»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

357.     عدوان، ممدوح: «حكي السرايا والقناع»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

358.     حميدان، محمود جميل: «الصولجان والسلطان يا مولاي»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

359.     فاضل، وليد: «الخفاش»، دمشق، وزارة الثقافة.

360.     الخواجة، هيثم يحيى: «الرجل الذي لم يفقد ظله»، حمص، دار ملهم للطباعة والنشر.

361.     البرادعي، خالد: «النبوءة»، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

            1993

362.     عرسان، علي عقلة: «تحولات عازف الناي»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

363.     موصللي، حمدي: «الفرواتي مات مرتين»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

364.     الهاشمي، نورالدين: «رحلة الحظ-جيل البنفسج»، دمشق، وزارة الثقافة.

365.     نظاريان، نظار: «الأبواب»، دمشق، وزارة الثقافة.

366.     كرباج، زياد فواز: «وقت للخوف»، دمشق، دار العلم.

367.     الحافظ، منير: «أوهام أبي الفضل الخليع»، دمشق.

368.     موصللي، حمدي: «اللغز والعرش»، دمشق، مطبعة الهندي.

369.     الخواجة، هيثم: «مسرحيتان للأطفال»، حمص، دار الذاكرة.

370.     الخواجة، هيثم: «زهرة دوار الشمس- هجرات عبدالرحمن الكواكبي»، حمص، مؤسسة علا.

            1994

371.     ناصيف، عبدالكريم: «المستشار الأعظم»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

372.     الخطيب، محمد علي: «بيت الشيطان»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

373.     فاضل، وليد: «أليسار»، دمشق، وزارة الثقافة.

374.     إخلاصي، وليد: «لعبة القدر والخطيئة»، دمشق، وزارة الثقافة.

375.     العيازرة، هاجم: «غناء العصافير»، دمشق، وزارة الثقافة.

376.     الصالح، محمد أمين: «اسمي عزالدين»، دمشق، وزارة الثقافة.

377.     ونوس سعدالله: «منمنمات تاريخية»، القاهرة، دار الهلال.

378.     ونوس سعدالله: «طقوس الإشارات والتحولات»، بيروت، دار الآداب.

            1995

379.     فاضل، وليد: «زنوبيا»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

380.     البرادعي، خالد: «مكاشفات عائشة بنت طلحة ووادي العذارى»، دمشق، وزارة الثقافة.

381.     الحجلي، فيصل: «الثعلب»، دمشق، وزارة الثقافة.

382.     وسوف، حسن: «ثلاث مسرحيات «جز الييوس»»، دمشق، وزارة الثقافة.

383.     عمورة، عمر راشد: «الكاهن والسيف»، دمشق.

384.     المطرود، سمير عدنان: «الحقيقة يا بغداد»، دمشق.

385.     الخواجة، هيثم يحيى: «مدينة الزهور- أبو ليرة»، حمص، مؤسسة علا.

386.     ونوس، سعدالله: «الأعمال الكاملة» (3 مجلدات)، دمشق، دار الأهالي.

387.     ونوس، سعدالله: «يوم من زماننا وأحلام شقية»، بيروت، دار الآداب.

            1996

388.     عرسان، فتيح عقلة: «العاصفة»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

389.     عدوان، ممدوح: «الغول (سفر برلك)»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

390.     قلعة جي، عبدالفتاح رواس: «ليال مسرحية»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

391.     البرادعي، خالد محي الدين: «الزهرة والسيف»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

392.     ونوس، سعدالله: «ملحمة السراب»، بيروت، دار الآداب.

393.     البكار، حسين علي: «وقائع موت السيد حمد»، دمشق، وزارة الثقافة.

394.     السمان، نجم الدين: «در الأحلام»، دمشق، وزارة الثقافة.

395.     الرز، خليل: «اثنان»، دمشق، وزارة الثقافة.

            1997

396.     صمودي، مصطفى: «الشريط»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

397.     قلعة جي، عبدالفتاح: «اختفاء السيدة أو سقوط شهريار»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

398.     بيجو، أنور: «السؤال الأول يحاصر جلجامش»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

399.     سلطان، علي: «بين القلعة والسور»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

400.     الهاشمي، نورالدين: «الشجرة الناطقة والأعداد السحرية»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

401.     ونوس، سعدالله: «الأيام المخمورة»، دمشق، دار الأهالي.

            1998

402.     موصللي، حمدي: «آخر العمالقة»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

403.     جادالحق، يوسف: «المحاكمة»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

404.     العواني، محمد بري: «التنين»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

405.     الخواجة، هيثم يحيى: «الكنز - الحقيبة الملعونة»، حمص، دار التوحيدي للنشر.

            1999

406.     بصل، محمد إسماعيل: «نجوم بأقل الأجور»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

407.     حسن، طلال: «أنكيدو»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

408.     البرادعي، خالد: «ميسلون»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

409.     الخزرجي، خالد: «مكائد الزنبق وحفيف الضوء»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

            2000

410.     الكاتب، جهاد: «حكاية كراكوز وست الحسن»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

411.     محمد، عبدو: «الأصدقاء»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

412.     صقر، صفوان: «رقصة باخارية في حركة واحدة»، دمشق، وزارة الثقافة.

413.     معلا، محمد أحمد: «حاروت كاهن بابل»، طرطوس، دار قرطاج.

414.     حمزة، سامي: «المطر في خامس الفصول»، اللاذقية، دار الحوار.

415.     ديبة، علي: «ثلاث مسرحيات»، طرطوس، دار قرطاج.

416.     ديبة، علي: «شيء ما يشبه الضحك»، طرطوس، الرائد للطباعة.

417.     الخواجة، هيثم يحيى: «الصوت المسافر - نقيق الضفادع»، بيروت، دار ومكتبة الهلال، دار البحار.

418.     الخواجة، هيثم يحيى: «شهيق الحلم»، القاهرة، مركز الحضارة العربية.

            2001

419.     خليل، فيصل: «الحجر لا يؤكل»، دمشق، وزارة الثقافة.

420.     صقر، صفوان: «عصفور الثلج»، دمشق، وزارة الثقافة.

421.     محمد، منذر محمود: «شذرات من الذات الطريقة المنهجية»، دمشق، مطبعة دار عكرمة.

422.     عيادة، لؤي: «في تعلم الوصولية»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

423.     محمد، أسد: «العالم الثالث»، دمشق، دار الإباء للطباعة والنشر.

424.     محمد، أسد: «الشركة رقم 5»، دمشق، دار الإباء للطباعة والنشر.

425.     فاضل، وليد: «أدونيس»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

426.     البرادعي، خالد: «عرس الشام وأشباح سيناء»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

427.     قلعة جي، عبدالفتاح: «نصوص من المسرح التجريبي الحديث»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب.

428.     العواني، محمد بري: «بستان المحبة»، حمص، دار المعارف.

            2002

429.     كوكش، علاء الدين: «مسرحيات ضاحكة»، دمشق، دار اسكندرون.

430.     السعدي، عبدالكريم: «مشاهد مسرحية»، دمشق، دار المحبة.

431.     السعدي، عبدالكريم: «ومضات نرجس»، بيروت، دار آية.

432.     سفر، علي: «كراهية أو  أشياء تشبه الخرافة»: دمشق، دار الشموس.

433.     عدوان، ممدوح: «الفارسة والشاعر»، بيروت، رياض الريس للكتب والنشر.

            نشرت من غير تاريخ

434.     جبر الخالدي، عبد الرحمن: «النفير»، دمشق، سمير أميس، مط.

435.     فهمي رمزي، محمد: «الروح العظيم»، دمشق، دار مجلة الثقافة.

436.     سعيد الجندي، محمد: «إله الناس»، دمشق، دار الرواد.

437.     سليم، فؤاد: «طيف المتنبي»، حماة.

438.     صفدي، مطاع: «الآكلون لحومهم»، دمشق، دار الفكر.

439.     دهني، صلاح: «ديان بيان فو»، دمشق، دار اليقظة.

440.     الهنداوي، خليل: «زهرة البركان»، دمشق، دار اليقظة.

441.     إخلاصي، وليد: «طبول الإعدام العشرة»، دمشق، دار الفن الحديث، العالم من قبل ومن بعد.

442.     إخلاصي، وليد: «المتعة 21»، دمشق، دار الفن الحديث، مجموعة العالم من قبل ومن بعد.

443.     ونوس، سعد الله: «حفلة سمر من أجل 5 حزيران»، دمشق، جمعية المسرح الفلسطيني.

 

ثبت الكتب التي تناولت المسرح في سُوريّة

كليّاً أو جُزئياً

(الألف)

- أبو شنب، عادل:

1- «حياة الفنان عبد الوهاب أبو السعود»، دمشق، 1962م.

2- «مسرح عربي قديم ـ كراكوز»، دمشق، وزارة الثقافة، 1964م.

3- «بواكير التأليف المسرحي في سورية ـ دراسة ونصوص»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1978

- أبو هيف، عبد الله:

1- «التأسيس:مقالات في المسرح السوري»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1979.

2- «أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1983.

            (يتضمن دراسة حول: «وعي المسرح الطفلي ص285-311).

3- «الإنجاز والمعاناة: «حاضر المسرح العربي في سورية»»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1988.

4- «الأدب والتغير الاجتماعي في سورية»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1990.

- الأحمد، أحمد سليمان: «المسرح العربي الشعري»، دمشق، 1973.

- إخلاصي، وليد: «لوحة المسرح الناقصة»، دمشق، وزارة الثقافة، 1997.

- إسماعيل، صدقي: «المؤلفات الكاملة ـ المجلد الخامس ـ المسرحيات»، دمشق، مطابع ألف باء الأديب، 1982.

            (يتضمن المجلد دراستين حول صدقي إسماعيل ومسرحه ـ ص5-19).

-           إسماعيل، إسماعيل فهد: «الكلمة ـ الفعل في مسرح سعد الله ونوس»، بيروت، دار الآداب، 1981.

-           إلكسان، جان:

1- «الولادة الثانية للمسرح في سورية (1955-1980م)»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1983م.

2- «المسرح القومي والمسارح الرديفة»، دمشق، وزارة الثقافة، 1988.

3- «التشخيص والمنصة»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1989.

(الباء)

- البحرة، نصر الدين: «أحاديث وتجارب مسرحية»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1977.

- برادعي، خالد: «خصوصية المسرح العربي»، دمشق، اتحد الكتاب العرب، 1986.

- بلبل، فرحان:

1- «المسرح العربي في مواجهة الحياة»، دمشق، وزارة الثقافة، 1984.

2- «أصول الإلقاء المسرحي»، دمشق، وزارة الثقافة، 1991.

3- «المسرح السوري في مئة عام»، دمشق، وزارة الثقافة، 1997.

4- «أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي» (ط2 معدلة)، دمشق، وزارة الثقافة، 2001.

5- «مراجعات في المسرح العربي»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 2002.

- بهاء الدين، وحيد الدين: «مباحث في الأدب المعاصر» (يضم فصلاً عن مسرح عدنان مردم بك)، بغداد.

(الجيم)

- جان، جوان: «وراء الستار»، دمشق، وزارة الثقافة، 2000.

- جوخدار، محمد سعيد: «مبادئ التمثيل والإخراج»، دمشق، دار الفكر، (دون تاريخ) [1982م].

(الحاء)

- حجازي، حسين سليم: «خيال الظل أو أصل المسرح العربي»، دمشق، وزارة الثقافة، 1994.

- حموي، حسين: «الاتجاه القومي في مسرح عدنان مردم»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1999.

 

- حمو، حورية محمد:

1- «حركة النقد المسرحي في سورية 1967-1988»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1998.

2- «تأصيل المسرح العربي بين النظرية والتطبيق في سورية ومصر»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1999.

(الخاء)

- خالد، أحمد محمد: «مسرح العرب بين نص الإسلام وسيرورته»، دمشق، وزارة الثقافة، 1997.

- الخطيب، محمد كامل: «نظرية 1و2»، دمشق، وزارة الثقافة، 1994.

- الخواجة، هيثم يحيى:

1- «حركة المسرح في حمص»، حمص، مطابع الروضة النموذجية، 1986.

2- «ملامح الدراما في التراث الشعبي العربي»، بيروت، دار مكتبة الحياة - مؤسسة الخليل التجارية، 1997.

3- «إشكاليات التأصيل في المسرح العربي»، القاهرة، مركز الحضارة العربية، 2000.

- خوري، إلياس: «الذاكرة المفقودة»، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 1982.

            (يتضمن مراجعة لمسرحية «صقر قريش» لمحمد الماغوط ـ ص300-303).

(الدال)

- داغر، يوسف أحمد: «معجم المسرحيات العربية والمعربة (1948-1975م)»، بغداد، «وزارة الثقافة والفنون، 1978.

- دقاق، د. عمر:

1- «فنون الأدب المعاصر في سورية»، حلب، دار الشرق، 1971.

2- «تاريخ الأدب الحديث في سورية»، حلب، جامعة حلب، 1976.

(الذال)

- ذريل، عدنان بن:

1- «فن المسرحية»، دمشق، دار الفكر، 1963.

2- «الموسيقى في سورية»، دمشق، مطبعة ألف باء الأديب، 1969.

3- «المسرح السوري منذ أبي خليل القباني إلى اليوم»، دمشق، 1971.

4- «مسرح وليد مدفعي»، دمشق، دار الأجيال (دون تاريخ) [1971م].

5- «الشخصية والصراع المأساوي دراسة نفسية في طلائع المسرح الشعري العربي: أحمد شوقي ـ عزيز أباظة ـ عدنان مردم بك»، دمشق، مطابع ألف باء الأديب، 1973.

6- «مسرح علي عقلة عرسان»، دمشق، مطبعة الكاتب العربي، 1980.

7- «رواد المسرح السوري»، دمشق، وزارة الثقافة، 1992.

8- «فن كتابة المسرحية»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1996.

9- «تحولات عازف الناي»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1997.

(الراء)

- الراعي، د. علي: «المسرح في الوطن العربي»، الكويت، عالم المعرفة. (يتضمن فصلاً عن المسرح في سورية ص188-220).

- رمضان، خالد عبد اللطيف: «مسرح سعد الله ونوس ـ دراسة فنية»، الكويت، 1984.

(السين)

- الساجر، فواز: «ستلانسلافسكي والمسرح العربي»، دمشق، وزارة الثقافة، 1994.

- سليمان، نبيل (بالاشتراك مع بو علي ياسين): «الأدب والأيديولوجيا في سورية (1967-1973م)»، بيروت، دار ابن خلدون، 1984.

 

(الشين)

- شاكر، د. شريف: «واقعية ستانسلافسكي في النظرية والتطبيق»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1981.

- شكري، غالي: «ثقافتنا بين نعم ولا»، بيروت، دار الطليعة، 1982.

            (يتضمن مقالات أو إشارات حول عروض مسرحية في دمشق ص162-208).

(الصاد)

- صبحي، محي الدين:

1- «الأدب والموقف القومي»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1976.

            (يتضمن مقالة: «دراسة المسرح السوري في السبعينات» ص95-155).

2- «دراسات ضد الواقعية في الأدب العربي»، بيروت، المؤسسة العربية، 1980.

            (يعرض لمسرحيات من سورية في دراسة «الحداثة ضد الحداثة» ص159-187).

3- «د.إحسان عباس والنقد الأدبي»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1984.

            (يتضمن دراسة عن كتاب «سياسة في المسرح» لعلي عقلة عرسان. ص89-114).

(العين)

- عبود، حنا:

1- «مسرح الدوائر المغلقة»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1978.

2- «من حديث الفاجعة»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 2000.

- عدة مؤلفين: «خيال الظل، مسرح قبل المسارح الحديثة»، الكويت، الكتاب العربي، 1988.

- عرسان، علي عقلة:

1- «سياسة في المسرح»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1978.

2- «الظواهر المسرحية عند العرب»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1981م.

3- «الظواهر المسرحية عند العرب»، ط2، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1985.

4- «وقفات مع المسرح العربي»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1996.

- عزام، محمد:

1- «المسرح المغربي»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1987.

2- «وجوه الماس في أدب علي عقلة عرسان»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1998.

- عزت، أديب:

1- «أدب عربي معاصر في منشورات اتحاد الكتاب العرب 1970-1978م»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1979.

2- «أدب عربي معاصر في منشورات اتحاد الكتاب العرب 1979-1981م»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1981م.

- العشري، فتحي: «دقات المسرح»، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973.

            (مقالات حول حرية الفكر في مهرجان دمشق ومسرح الشوك ومغامرة رأس المملوك جابر).

- عصمت، رياض:

1- «بقعة ضوء ـ دراسات تطبيقية في المسرح العربي»، دمشق، وزارة الثقافة، 1975.

2- «البطل التراجيدي في المسرح العالمي»، بيروت، دار الطليعة، 1981.

3- «ضوء المتابعة ـ دراسات تطبيقية في المسرح العربي»، دمشق، وزارة الثقافة، 1983.

4- «شيطان المسرح»، دمشق، دار طلاس، 1987.

(القاف)

- قطاية، د.سليمان:

1- «المسرح العربي: «من أين وإلى أين»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1972.

2- «حياة الفنان سليم قطاية»، دمشق، 1973.

3- «نصوص من خيال الظل»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1977.

- قلعة جي، عبدالفتاح: «مسرح الريادة»، دمشق، دار الأهالي للطباعة والنشر، 1988.

(الكاف)

- كرباج، زياد فواز: «الإعداد الدراماتورجي»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1995.

- كيلاني، د.إ براهيم: «الأوراق»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1972.

            (فيه مقالتان حول «التأليف المسرحي» و«المؤلف المسرحي بين الرواية والمسرحية»، ص181-199).

(الميم)

- المالح، وصفي: «تاريخ المسرح السوري ومذاكراتي ـ مع المسرح والمجتمع»، دمشق، دار الفكر، 1984.

- محبك، أحمد زياد:

1- «حركة التأليف المسرحي في سورية (1945-1967م)»، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1982.

2- «المسرحية التاريخية»، دمشق، دار طلاس، 1989.

3- «التاريخ مصدر للتأليف المسرحي في سورية ومصر (1945-1975م)» رسالة دكتوراه مقدمة إلى جامعة دمشق، كلية الآداب، (غير منشورة).

- محفوظ، عصام: «سيناريو المسرح العربي في مئة عام»، بيروت، دار الباحث، 1981.

- محمد، نديم: «الجدران الأربعة، دراسات تطبيقية في المسرح»، دمشق، وزارة الثقافة، 1980.

- المديوني، محمد: «إشكاليات تأصيل المسرح العربي»، قرطاج، بيت الحكمة، 1993.

- المصري، علي: «مأساة الحلاج»، دمشق.

- مصطفى، شاكر: «القضية في سورية»، القاهرة، 1958. (ويتضمن الكتاب فصلاً عن المسرحية في سورية).

- معلا، محمد نديم:

1- «الأدب المسرحي في سورية: نشأته وتطوره»، دمشق، منشورات مؤسسة الوحدة، 1986.

2- «فواز الساجر: مسرح توهج ولم ينطفيء»، دمشق، دار الشيخ للدراسات والترجمة والنشر، 1988.

- الموسى، خليل: «المسرحية في الأدب العربي الحديث»، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1997.

(النون)

- نجم، د. محمد يوسف: «المسرحية في الأدب العربي الحديث (1847-1914م)»، بيروت، دار الثقافة، 1967.

(الهاء)

- هنداوي، خليل: «مختارات من الأعمال الكاملة: المسرح والدراسات المسرحية»، جـ2، إعداد: «د. عمر الدقاق، وليد إخلاصي»، دمشق، وزارة الثقافة، 1980.

(الواو)

- وحيد، علاء الدين: «مسرحيات في الوهج والظل»، القاهرة، كتاب الهلال، ع306، 1967.

            (يتضمن مراجعة لمسرحية «النجوم والليل الطويل» لرياض عصمت، ص72-75).

- ونوس، سعدالله: «بيانات لمسرح عربي جديد»، بيروت، دار الفكر الجديد، 1988.

(الياء)

- ياسين، بوعلي (بالاشتراك مع نبيل سليمان): «الأدب والأيديولوجيا في سوريا (1967-1973م)»، بيروت، دار ابن خلدون، 1974.

 

 

 

الباب الثاني - رؤى

1

الواقعية الاجتماعية في المسرح

نقد الاتجاه والوضعية الثقافية

-1-

نحتاج بين الحين والآخر إلى مراجعة الدوريات العربية الصادرة في المغرب العربي للتعرف على بعض جوانب الحوار الدائر حول الثقافة العربية، حيث تحتدم المواجهة النقدية بين رأي ورأي آخر في العديد من المشكلات الراهنة.

 

وكنت قد عدت في مرات كثيرة إلى بعض هذه المواجهات النقدية، استطلاعاً ومناقشة، وأرى من المفيد، أن أعاود النظر في قضية «الاحتفالية» التي تلقى اهتماماً واسعاً لدى الكتاب والفنانين هناك، وبخاصة الواقعية الاحتفالية كما صاغها عبد الكريم برشيد في مقدمات ومقالات نظرية جرى تدعيمها بتجارب مسرحية تطبيقية على أرض الواقع، ثم أصبحت بعد فترة قصيرة، اتجاهاً أو تياراً يلتف حوله عدد من المسرحيين من جهة، كما صارت الواقعية الاحتفالية إلى تعبير كاشف عن الوضعية الثقافية في المغرب العربي من جهة أخرى.

 

-2-

كتب المسرحي عبد الكريم برشيد بحثاً مطولاً حول «ألف باء» المنهج الاحتفالي في النقد، وسبق له أن دعا إلى واقعية احتفالية في المسرح فكرس عدة مقالات لتوضيح اتجاهه، ثم اتبعها بمسرحيات لترسيخ هذا الاتجاه، واليوم تقوم هناك «جماعة المسرح الاحتفالي» تروج لهذا التيار وتدافع عنه في براهين فكرية وفنية تعتمد مباشرة على الاختيار في التجربة المسرحية. لذا، سنلقي نظرة سريعة في هذه المقالة على مذهب «الواقعية الاحتفالية» من خلال نقد «خصومه» ورأي برشيد «المدافع» عنه.

 

-3-

لقد سعى برشيد إلى واقعية احتفالية، أي إلى نوع من السوريالية التي تحاول أن تصور الواقع من خلال مجاوزته، لأن الفنون أساساً تقوم على هذا التحدي، كما يقول برشيد، تحدي الواقع، تحدي قانون السببية، قانون الجاذبية، تحدي القوانين السياسية، فالتحدي هو الشيء الأساسي في الفن المسرحي أو فيما يدعو إليه من اتجاه.. «فإذا أخذنا الفنون الشعبية، فإننا نجد أن الساحر دائماً يحاول مجاوزة الواقع من خلال إعطاء صفات جديدة لأشياء جاهزة فيحول الحمامة إلى منديل. من هنا كان المسرح ينهض من عملية كيماوية فيحول فيها الأشياء إلى أشياء أخرى كون الكتابة المسرحية كالتخطيط «الخرائطي» تقوم على تكوين نسبية معينة، لأن الجبال كما هي في الواقع تتحول إلى مربعات أو دوائر أو مثلثات وغير ذلك( ). لذا، لابد للمسرح أن يقوم على المعادل المسرحي، أي أن يحول الأشياء المادية إلى رموز وأقنعة معينة حتى يمكن أن نتواصل مع الجماهير، ويؤكد برشيد في مذهبه أن المسرح تظاهرة اجتماعية يقيمها الإنسان للإنسان من أجل عرض قضايا الإنسان، وأن المسرح لم يزدهر ويترعرع إلا عندما خرج من المعابد، وتخلى عن طابعه الديني، فعانق الإنسان وقضاياه الوجودية والمجتمعية.

لقد بدأ برشيد من تفصيل الرأي في عنصر الإدهاش والمحاكاة في العمل المسرحي، وعلاقتهما بالتمثيل، ثم دعا إلى «مسرح المشاركة» حيث يصبح المسرح حفل كرنفال، يشخص فيه الكل ويختفي بذلك الناظر والمنظور والمنتج والمستهلك، فالمسرح ليس تمثيلاً. إنه حياة أكثر صدقاً وواقعية من حياة يومية يمسخها الخوف والتظاهر والكليشهات المختلفة. إذاً اهتم برشيد بمعاني الاحتفال للذات والاحتفال للغير في إطار حركة الأشياء وسكونها، وفي إطار وعي العلاقة بين الثابت والمتغير في الطبيعة الإنسانية والخصوصيات التاريخية والحضارية.

 

-4-

واجهت الواقعية الاحتفالية في الفترة الأخيرة نقداً من بعض الأدباء والفنانين، واعترف غالبية أصحاب هذا النقد بالخلفية الأيديولوجية التي انطلقوا منها في إدانة التوجه «الرسمي» لهذا الاتجاه، إذ يعكس مظهراً من مظاهر الصراع بين المثقفين التقدميين المهتمين بالمسرح والمتصارعين على أساس تجربتهم المباشرة فيه( ). ثم باشر هؤلاء الكتاب انتماءات الصراع وربطوها بحركة الأحزاب وخرجت المنطلقات النقدية عن الاتجاه المسرحي إلى اعتبارات ونوايا خارجة عنه، ولكننا سنلخص هنا أهم النقاط الموجهة للواقعية الاحتفالية:

- «الاعتبار الأول كونها لا تخفي بحثها النقدي في الواقع الاجتماعي والسياسي في البلاد، وأن في حدود ضيقة وغالباً مضمرة، ولكنها مفهومة من التعرض للسلبيات التي تطبع ذلك الواقع، وتعمق تطور الإنسان تطوراً ديمقراطياً فيه. وبما أن ميدان الاحتفالية كتيار مسرحي ثقافي ليس هو دراسة الواقع الاجتماعي والسياسي على حقيقته - رغم أن ذلك لا يعفيها من الاهتمام الجدي فيه - فبحثها يأخذ مجرى بحث نظري - ثقافي من المسرح وإليه وفيه دائماً.

 

- الاعتبار الثاني كونها تبحث في كل ذلك من منظور نقدي يغلب عليه التساؤل والاستفهام، وهذا اعتبار هام، لأنه يراجع المسلمات، ويحاكم المطلقات. وقد عبرت الاحتفالية عن هذا الوعي النقدي، بطموحها الجاد إلى تلمس ما هو ثابت وأصلي في كل القضايا الإنسانية فضلاً عن اهتمامها المعلن بدراسة قضايا الناس على الطبيعة والغوص في مجالاتها التعبيرية والشعورية والعاداتية المختلفة.

 

- الاعتبار الثالث كونها من خلال البحث النقدي تقدم تصوراً نظرياً في ميدان المسرح وتعتبره بديلها الملموس. ويظهر ذلك في تأكيدها على الصفة الإنسانية لوجود الكائن البشري (بديلاً للفردية وللعزلة التي يعاني منها) وطرائق بحثها في إعادة الاعتبار لهذه الصفة من خلال نقد ما علق بها من تزييف، وما لحق بها من تشويه. أن البديل هنا يتوجه إلى محاولة اكتشاف طريق إبداعي يتولى صياغة الوعي الجماعي على أسس احتفالية أي طبيعية وصادقة ما أمكن».

وهكذا، يرى هؤلاء الكتاب النزوع الثقافي في الواقعية الاحتفالية بالدرجة الأولى بقصد التقليل من فعالية هذه الاتجاهات السياسية والاجتماعية، ومن الواضح أنهم يحرصون على امتداد الممارسة الفنية إلى حقل الممارسة الاجتماعية، لتكون الأخيرة دليل الأولى وعنوانها البارز.

 

-5-

وثمة تصفية حساب يقوم بها برشيد مع أصحاب الرأي الآخر في بحثه( ) إزاء «المنهج الاحتفالي» في ميداني المسرح والنقد كفعالية تابعة، لأن المناهج النقدية بأدواتها ومصطلحاتها ـ كما يرى برشيد ـ ليس سوى أجوبة لأسئلة سابقة، أسئلة تتعلق بماهية الإبداع وبدوره ووظيفته ثم يشير بجسارة إلى أن النقد العربي عمد في استعارته للمناهج الغربية، إلى تبني الإجابات الجاهزة مما عزلها عن شروطها الموضوعية وعن أسئلتها الأساسية. بينما يؤكد برشيد أن المناهج النقدية وهي اختيارات فكرية واجتماعية بالأساس، لا يمكن أن تؤسس وتبني، إلا استجابة للتساؤلات الرئيسة: ما الفن؟ ما دوره ووظيفته؟ وكيف نريد أن يكون؟ هل نريد أن يكون جميلاً؟ هل نريد أن يكون نافعاً أو مؤثراً في النفس البشرية أو مغيراً للذات وما حولها؟

ما فعله برشيد هو تفصيل القول في مفهوم التغيير بين التطور والتقهقر وفي العلاقة بين الواقع والفن وفي مصادر الإبداع الفني وأبنيته وفي الانتقال من الواقع إلى الحقيقة تمهيداً لاكنتاه العلاقة بين النقد المسرحي والأيديولوجية، ليقول بعد ذلك:

«إن الناقد ـ عندما يكون محملاً بقناعات فكرية وعقائدية معينة ـ فإنه لا يفعل سوى أن يلبسها للآخرين. وفي هذا طبعاً ـ إلزام للمبدع، ومصادرة لحريته ـ التي هي أساس الخلق والإبداع لديه ـ وهو إلزام لأنه ينطلق من خارج الذات وليس من داخلها. إن النقد يتلخص دوره في الكشف عن الأيديولوجيا الكامنة في النص، ولكنه أبداً لا يمكن أن تكون الأيديولوجيا مقياساً لتقويم الإبداع».

 

ويضيف بصريح العبارة:

«ومن داخل هذا الضجيج، فقد كان لابد أن يظهر نقد غريب قائم على أسس ومقاييس نقدية غير سليمة».

ثم يحصر برشيد فساد هذه المقاييس في سيادة «النقد الأخلاقي» الذي لا يدرس النص، وإنما يدرس صاحبه من خلال سلوكه ومواقفه وانتمائه ووضعه المجتمعي وعقيدته وفي اختلاط الوعي بالتاريخ الذي يكرس النظرة الواحدية لصالح النموذج والإنشاء المسبق للتجربة الإنسانية وتأطير الإبداع بعد ذلك. وهكذا من المناسب أن نناقش أطروحات برشيد النقدية وملاحظات الكتاب الآخرين على منهجه بعد هذا العرض الوجيز.

[جريدة «البعث» (دمشق) 8/11/1981]

 

2

التجربة المسرحيّة والجوهر الصّلب

-1-

استعرضنا بعض ما دار في الدوريات الثقافية العربية الصادرة في المغرب حول منهج الواقعية الاحتفالية في المسرح، والنقد كما يدعو إليه الفنان المسرحي عبد الكريم برشيد، وعرجنا قليلاً على آراء بعض خصومه الناقدين أو المنتقدين، ونتابع في هذه المقالة مناقشة هذا الحوار الفكري لأهميته في الكشف عن جوانب مفيدة في الوضعية الثقافية هناك، وفي تطوير المسرح العربي.

 

-2-

يرى بعضهم «أن مفهوم التأصيل في منطوق الاحتفالية يحمل بالضبط مضموناً شكلياً ماضوياً يعتمد النبش في قديم التراث بغاية تحقيق التمايز وإبراز الخصوصية في إطار حضاري عام، بمعنى البحث عن الكيفية الخاصة والمتميزة التي يمكن من خلالها أن يساهم المسرح العربي في إغناء وتطوير النخبة الإنسانية في هذا المجال. وفي ذلك نقل قسري للمسألة من إطارها الداخلي الخاص (القائم على إيجاد الأشكال التعبيرية الملائمة والقادرة على استيعاب وتمثل تجليات الواقع وربها بأسسها المادية الملموسة) إلى إطار خارجي عام يتوخى بلورة نوع من التمايز الحضاري يحقق وجوداً ذاتياً من خلال نظرة ضرورة الحضور العربي الفعلي والشامل في مختلف المجالات»( ).

ومن الملاحظ هنا، أن إرشاد حسن وعبد الرحيم الشريف كاتبي المقالة، يمدان مجال الرأي إلى اجتماعية المسرح في إطار التحديث الثقافي دون عناية كافية بشروط العملية المسرحية. إن خلطاً بيناً يمارس بجسارة بين الواقع المجتمعي على حد تعبيرهما، و«الواقع المسرحي» أن صح التعبير. وهكذا، يجعلان من الواقعية الاحتفالية نوعاً من التجريب الذي من شأنه أن يحدث «القطيعة ـ بصورة إرادية وذاتية ـ مع موروث الحركة المسرحية العربية اعتماداً على حكم عام وإطلاقي على طبيعة هذا الموروث، غافلة بذلك عن تكوين معرفة واقعية بحقيقة تجربة المسرح العربي، كمسرح يتأثر في تطوره بقضايا عامة وشاملة ترتبط بواقع الشعب العربي وقضاياه الأساسية، ومن ثم فإن تشكله يخضع بالضرورة لشروط هذا الواقع، كما يتأثر في الوقت نفسه وبكيفية واقعية بشروط محلية خاصة لها فعله الواضح في حال هذا التشكل أيضاً».

 

إن مبالغة امتداد العمل المسرحي إلى مجرد الاستجابة السياسية أو الاجتماعية للواقع لا تخلق مسرحاً، ولا تثمّر وظيفة المسرح بعد ذلك. وعلى أي حال، يبدو أن الصراع الفكري الدائر حول قضية المسرح الاحتفالي وواقعيته، وعلاقته بالتراث والتأصيل والجماهيرية، لا يخلو من نزعة أخلاقية تغلّب دراسة الرجل في مواقفه وانتماءاته وسلوكه على دراسة فنه وفكره، إذ يختلط الوعي بالتاريخ مما يكرس النظرة الواحدية لصالح النموذج والإنشاء المسبق للتجربة الإنسانية وتأطير الإبداع بعناصر خارجة عنه أيضاً، وهذا يفضي إلى ارتهان الواقعية الاحتفالية كممارسة مسرحية إلى مصداقية وحيدة في حقل الممارسة الاجتماعية.

 

وكأن ثمة تصفية لحساب بين المتحاورين انطلاقاً من احتدام الصراع الثقافي في المغرب العربي، فانتعشت الدعوة إلى النقد الأيديولوجي المسلح باتجاهات حداثية معروفة كالبنيوية التركيبية والأسلوبية والشكلانية والاجتماعية، بينما النقد الأيديولوجي اتجاه بحد ذاته، ويستطيع الناقد أن يمحص بوساطته أشكال التعبير المختلفة نحو التأكيد على غايات الفن أساساً، فليس النقد الأيديولوجي مجرد عقيدة فكرية هي سبيل من ينتهجها إلى تقويم الإبداع فحسب، بل إن الأدب كفعالية إنسانية ناشطة ومتميزة حاضر في هذا النهج وفي هذا التقويم قبل كل شيء. وفي الأحوال جميعها، صار النقد الأيديولوجي إلى مرشد في قراءة المبدعات، وليست العلة في الاتجاه أو المنهج بل في عده مجرد مرشد سياسي يلازم العلوم الإنسانية في نظريتها وممارستها. إن النقد الأيديولوجي منهج ذو عناصر محمولة تستطيع أن تحيل مفردات «المتن الأدبي» أو «المبدعات» إلى حيز حدود النقد فتستنطقها غاياته أو ما يسمى بالوظيفة، وللقراءة أوجهها المتعددة، وللمبدعات طبيعتها المختلفة أو المتفردة، ولسنا نرى في مكانة النقد الأيديولوجي هنا إلا استجابة تاريخية وجواباً تاريخياً تفتقر إليه بعض المناهج النقدية الأخرى في حرصها على الابتعاد عن معضلات الواقع الراهن، الحركة العامة والسكون الذاتي أي أن النقد الأيديولوجي بمقدوره أن يضيء آفاق ذات الكاتب الإبداعية في إطار التاريخ العام أو وعيا للعصر، أما التفاصيل فهي لاحقة وقابلة للنقاش، وليس بمقدور الناقد أن يرهن عجلاته على الدوام إلى نيران الكلمات، لأن النار في التجربة العميقة والعريضة وهي تنخرط في حركة التاريخ. وقد أدرك برشيد إدراكاً عميقاً هذا الإطار في تعليله لدواعي التجديد:

«نعرف بأن الاحتفالية تؤكد على العناصر الحيوية في الحياة، أي على كل ما هو متحرك، فالاحتفالية إذن لا تنظر إلى الإنسان إلا انطلاقاً من هذا المنظور، أي من أنه في الشق الأول غرائز ودوافع وانفعالات وإحساسات ثابتة، أما في الشق الثاني، فهو هذه الاستجابة التي تتطلبها الحياة الاجتماعية. وذلك بما تحمله من عوامل الحركة والتبديل، وهي حركة لا تنفي استقرار الجوهر الإنساني كما رأيناه. فالتجديد ضرورة حياتية، لذلك كان الإبداع مطالباً دائماً أن يكون له انتماء مزدوج للثابت والمتحرك من الحياة، فانتماؤه للمتغير يحقق له المعاصرة، وانتماؤه للثابت يمنحه الأصالة»( ).

 

لقد جرى تحديد مفهوم المسرح لدى برشيد انطلاقاً من نقطتين يرى فيهما أساس نظريته النقدية الاحتفالية، وهما:

1- البدء بتحديد دقيق للمصطلح النقدي.

2- إعطاء مفهوم محدد للمسرح، وذلك لأن أغلب نقادنا حالياً، ما زالوا ينطلقون ـ على حد تعبيره ـ من مفاهيم مدرسية عتيقة، قد تعثر عليها في الجامعات والمعاهد، ولكنه لم يعدلها وجود في الممارسات المسرحية. إن المفهوم الصحيح للمسرح العربي لا يمكن أن يتشكل إلا في استقراء النماذج المتقدمة في هذا المسرح، أما فيما يخص وظيفة هذا المسرح ودوره، فيمكن أن يبحث عن ذلك من خلال دراسة الواقع العربي.

 

-3-

عاد برشيد، شأن غالبية المسرحيين العرب، إلى البحث عن جذور المسرح العربي وإلى التأكيد على جوهر الظاهرة المسرحية، ليلاحظ بعد ذلك أن التصور الأولي للنقد الاحتفالي مبني على تراكمات مسرحية مهمة وعلى خصوصية اللغة التعبيرية في المسرح العربي الاحتفالي.

إن الواقعية الاحتفالية لا تعزل نفسها موضوعياً وذاتياً عن الوضع الذي أنجبها أو أفاد في تأطير تجربتها، بل تغوص في الواقع العربي بعد أن تضع أمامها تحديات الظاهرة المسرحية: التراث، التقنية، التأصيل، الجماهيرية، ما دام جوهر الظاهرة المسرحية عاماً وشاملاً ومشتركاً، وما دامت الأعراض متغيرة والقواعد في الفن الدرامي تختلف من عصر لآخر ومن أمة لأخرى ومن مدرسة لغيرها. وفي هذا كله، يصقل برشيد تجربته المسرحية في أتون صراع الحياة بحثاً عن الجوهر الصلب، مما يفيد كثيراً في تسليط المزيد من الضوء على حوار الواقعية الاحتفالية في المغرب، ويكشف عن آفاق المسرح العربي ومستقبله، فقد أحرزت التجربة المسرحية في المغرب العربي على وجه العموم نجاحات ملحوظة في تطوير الظاهرة المسرحية والإجابة على معضلات فكرة المسرح أساساً.

[جريدة «البعث» (دمشق) 6/12/1981]

 

دمشق عكاظ المسرح:

التجارب المسرحيّة العربيّة تتكامل

-1-

«لابد من إيجاد مهرجانات عربية، والمعروف أن دمشق كانت دائماً سوق عكاظ التي جعلت التجارب المسرحية العربية تأخذ عن بعضها وتتكامل فيما بينها لتشكل النهاية تياراً معيناً. أن المستقبل كله في يد المسرح العربي».

 

كنا أشرنا إلى تجربة المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد، ونتوقف عند جانب من الحوار الدائر حول الممارسة المسرحية وإشكالاتها بين التنظير والتطبيق. ونعرض بعض آرائه في المسرح العربي المعاصر بعد جولة أخيرة له في بعض الأقطار العربية.

 

-2-

يقول برشيد:

- المسرح العربي حالياً يحاول أن يخرج من إطاره الضيق نحو مستقبل نحو آفاق أرحب، ويمكن القول بأن التجارب السابقة قد اعتمدت أكثر على الاقتباس، واعتمدت على الانبهار بالتراث المسرحي الغربي، على أن هناك موجة تحاول أن تأخذ بمبدأ الأصالة في الميدان المسرحي، واعتقد أن الفن المسرحي هو فن عالمي، ولكن العالمية الأممية لا تعني أن تقفز فوق خصوصيات قومية، من هذا المنطلق يمكننا أن نتحدث عن مسرح عربي أصيل: كان هناك التفات إلى المواد الخام العربية، فرأينا عند أحمد شوقي «مجنون ليلى» و«كليوباترا» و«عنترة» وغير ذلك، هذه الأعمال لا يمكن أن تكون لها فائدة إلا إذا كانت في إطارها الشامل، لأن المسرح ليس هو المواد الخام فقط، ليس هو الرجوع إلى التاريخ أو إلى التراث الأدبي العربي الذي هو تراث غني، ولكنه قبل ذلك لابد من أن يراعي الشكل الفني وأن يراعي أيضاً خلق نظرية مسرحية عربية، فنحن نعلم أن المسرح الكلاسيكي قد قام أساساً على الفكر العقلي في العصر الأليزابتي، ونعرف كذلك أن غير المعقول قد قام على الفلسفة الوجودية أو فلسفة العبث خصوصاً. ونعرف أيضاً أن السوريالية قد قامت أساساً على ظهور اللامعقول عند فرويد، ولذلك كان لابد للمسرح العربي أن تظهر فيه نظريات، وأقول أن السنوات الأخيرة قد شهدت مجموعة من التجارب الجادة التي قامت بالبحث سواء في ميدان التراث أو في ميدان الأشكال شبه المسرحية في التراث العربي، فهناك الكراكوز وخيال الظل والحكواتي والمداح وسلطان الطلبة والفداوي، هذه الأشكال أو هذه الاحتفالات شبه المسرحية كانت تقوم على أساس الفرجة، لأنها كانت عبارة عن سرد ورواية وعبارة عن تظاهرات اجتماعية وفنية تقوم على التواصل بين مجموعة من الفنانين المتجولين ومجموعة من الجماهير العربية المتواجدة في الساحات العمومية أو في الأسواق أو في المواسم وفي كل الأمكنة التي تجمع حشداً من الناس. من هذه الناحية، رأينا يوسف إدريس يحاول أن يوجد ما سماه بمسرح «السامر» في مسرحيته «الفرافير» و«المخططين».

 

ولكن، ما مسرح السامر بالنسبة لعبد الكريم برشيد؟ يجيب برشيد:

- فن السامر هو فن شعبي مصري وهو تراث عند الفلاحين البسطاء، وقد اعتقد يوسف إدريس أن هذه الصيغة البدائية يمكن أن تفيد المسرح العربي، وقد كانت تجربة محكومة سلفاً بحدودها الضيقة، لأنها قامت على أساس نظري، لا على أساس تدعيم النظر باستمداد فنون جديدة من الموروث الشعبي.

 

-3-

لقد شغل المسرحيون العرب - شأن المفكرين والأدباء عموماً - بمسألة الهوية، ومايزال هذا المشكل غالباً على سواه منذ الخمسينات تأصيلاً للثقافة العربية والفكر العربي. وفي هذا الحديث، ينشغل عبد الكريم برشيد أيضاً، وهو يبحث عن التجارب المسرحية الأخرى بأسباب الأصالية وبأشكال المعاصرة. ولكن، هل يمكن الفصل بين الماضي وروحه الباقية، وهل هناك مسرح عربي له شخصيته المستقلة، وبعد ذلك هويته؟.

 

يضيف برشيد:

- هناك تجربة أخرى لسعد الله ونوس في سورية. أن صاحبها يحاول أن يزاوج بين التراث الغربي في المسرح وبين التراث الشعبي. فهو يأخذ المادة الخام من التراث كما هو الحال مع «مغامرة رأس المملوك جابر»، ومن مظاهره استخدام الراوي وتكسير الجدار بين المبدع والجمهور. ثمة أمر آخر هو أن ونوس ينزل الحدث من خشبته على المسرح لينفجر في قلب الصالة وفي قلب الجمهور تماماً كما كان يحدث في الساحات وفي الأسواق العربية القديمة.

 

وقد تميز ونوس بالارتجال كما هو الحال مع مسرحيته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» ولكنه الارتجال المموه، لأن ونوس دس الممثلين وسط الجمهور وجعلنا نعتقد أن هناك لعبة وأن هناك تمثيلاً وهناك واقعاً حقيقياً في الوقت الذي نشاهد فيه مسرحاً وتمثيلاً. وهكذا انخرط في المسرح وفي محاولة خلق احتفال شعبي تختلط فيه مستويات والواقع والوهم، التمثيل والحقيقة، فلا نعود نفرق بين هذا الشخص ـ الممثل ـ المنتج ـ وبين هذا الشخص ـ المتفرج ـ المستهلك ـ فالمسرح الإنساني حاول حديثاً أن يحطم تلك المقولة الداعية إلى إقامة جدار وهمي بين مستويين من الواقع: مستوى الممثلين ومستوى الجمهور.

 

وصنيع ونوس في أساس دعوات التخلي عن المعمار المسرحي العتيق، فنحن قد ورثنا المسرح أو أخذنا المسرح عن الغرب فناً وبناية أيضاً. والمعروف، أن الغاية، وهي أحجار، ليست شيئاً بريئاً، لأنها تؤثر على المضمون وتؤثر داخل هذه العلاقة الإنسانية المتبادلة بين شرطي الإبداع، والمعروف أيضاً، أن المسرح كان في البداية مجموعة من التظاهرات الفنية في الساحات العامة في أثينا مما يمتزج برقص وإنشاد وهذر وانطلاق جنوني، وفي مسارح مفتوحة من كل الجهات، وهذا يحقق شرط الاحتفال، لأنه يتيح التواصل الإنساني الحق. ولكن أوروبا الإقطاعية وأوروبا الكاثوليكية قد بنت مجموعة من الكنائس وأدخلت المسرح ـ كما أدخلت الدين المسيحي إلى الكنائس، وسجانهما بين الأسوار في الوقت الذي ولد فيه الدين حراً والمسرح حراً خارج الأسوار.

 

كان لابد لأوربا الإقطاعية أن تفرق بين شرطي المسرح وبين عنصرين أحدهما ينتج والآخر يستهلك، وهكذا، جرى التمييز بين هذين الشرطين، فقام ما يسمى بالجدار الرابع حتى يفرق ما بين السيد والمسود، وحتى يكون المسرح صورة مصغرة للمجتمع خارج المسرح، وبنتيجة هذا التفريق، كانت مقصورات الأسياد وغير ذلك. كان المسرح كبناية صورة مصغرة عن الحياة العامة، ولكن هذه الجدران سقطت أو ينبغي أن تسقط، لنحقق احتفالاً شعبياً يقوم على التواصل، فانتقل الحدث من هذه الرقعة الضيقة التي هي الخشبة ليدور داخل الجمهور، وليصبح فاعلاً لا يكتفي بالتلقي بل يعمل على المشاركة الفعلية والوجدانية، وهذا ما سعى إليه سعد الله ونوس في مسرحيته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» و«سهرة مع أبي خليل القباني» حيث أراد للمسرحية أن تتحول إلى تظاهرة شعبية عامة داخل مقهى. وهذه الدعوة نفسها نجدها عند الطيب الصديقي. لقد تخرج الصديقي على يد جان فيلار، وفيلار هو أول فنان مسرحي أخرج المسرح من علبته الضيقة عبر تنظيمه لمهرجان «افينيون»، وهو أوجد المسرح كتظاهرة شعبية في عصرنا، كلقاء، كشيء وفعل يجري على الساحة العامة خارج الأسوار والمباني وصالاتها.

 

لذا، قام الطيب الصديقي بالدعوة لإيجاد بنية مسرحية جديدة ومعمارية جديدة في المسرح، واقترح في غمرة تجاربه المسرح الدائري، والمسرح الدائري مستمد من التراث العربي الذي عرف مجموعة من الفنون الشعبية القائمة على مجموعة من الحلقات كما تتشكل في الأسواق والأبواب التاريخية العتيقة وفي المقاهي والمواسم الدينية والزراعية وسواها. وهذه الدعوة نجدها أيضاً عند قاسم محمد في العراق، فقد أعطى هذا الكاتب والمخرج مسرحية «بغداد الأزل بين الجد والهزل».

 

ونجدها كذلك في مسرحية شاهدتها مؤخراً في بغداد هي «ملحمة جلجامش». وعلى أن هذه المسرحية مأخوذة من الملحمة العتيقة، فإن المخرج العراقي سامي عبد الحميد وضعها في نطاق سيناريو مسرحي وبث فيها الحياة بشكل استعراضي يعتمد على الإنشاد وعلى الترتيل شبه الديني وعلى اللعب الجماعي وعلى مجموعة من الوسائل التعبيرية المختلفة. وهناك تجارب مماثلة في تونس، كما هو الحال عند عز الدين المدني والمنصف السويسي ورجاء فرحات وسمير العيادي، فهؤلاء جميعهم حاولوا إنتاج مسرح عربي أصيل يقوم على الرواية، وعلى التراث، مثل العيادي الذي يمسرح الهجمات أو سيرة بني هلال في مسرحيته «الجازية الهلالية»، ومثل فرحات الذي يستغل الصور الفطرية في الأسواق والبيئات الشعبية ويستوحي من خلال الملابس والنظرات والصورة الجانبية وتشخيص حركة سير القوافل تعبيراً صامتاً، ومثل المنصف السويسي في مسرحيته «ثورة الزنج».

 

إذا أردنا أن نجمع أشتات هذه الصور لتكون لوحة فنية واحدة، يمكننا أن نقول أن التجارب المطروحة في الساحة العربية حديثاً تقوم على محور أساسي واحد هو البحث عن الذات، البحث عن الأصالة والهوية المتميزة. وإذا كنا نبحث عن الإنسانية فيجب أن نعلم أن القومية وأن الأصالة لا تعني محاربة الإنسانية.

 

والمطلوب حالياً هو إيجاد مسرح عربي، يعني بتصوير الشخصية العربية والواقع العربي، وتكون له لغة مسرحية أقرب في التواصل مع الجماهير، وهذه اللغة في الواقع لا تتحقق وتصبح إنجازاً بفضل مسرحي واحد أو بعض المسرحيين. ولابد من إيجاد مهرجانات مسرحية عربية، والمعروف أن دمشق كانت دائماً سوق عكاظ التي جعلت هذه التجارب تأخذ عن بعضها، وتتكامل فيما بينها، ولابد أيضاً من إيجاد مجلة مسرحية تستقطب التجارب والكتابات العربية المكرسة لنهوض مسرح عربي. كذلك يمكن أن تخلق نقداً مسرحياً وتساهم في تكوين الجمهور المسرحي. وعليه لابد من تربية مسرحية شاملة تنطلق من المدرسة إلى الجامعات والمعامل وغير ذلك.

 

وبهذا فقط، يمكن للمسرح أن يصبح داخلاً في نسيج المجتمع، له تقاليده المؤثرة، لأن الأوروبي يذهب المسرح وخلفه 2500 سنة من التقاليد المسرحية، بينما لا يجد العربي خلفه غير الفراغ. وعلى الرغم من هذا كله، فالمستقبل كله ـ كما تدل التجارب المعتبرة ـ في يد المسرح العربي.

 

-4-

هذه شهادة تشي بدلالات كثيرة حول واقع المسرح العربي ومستقبله، وفي مقدمتها قدرة هذا المسرح على النمو والتطور ومجاوزة المعوقات. وتكتسب هذه الشهادة أهمية فائقة كونها تصدر عن مسرحي عربي من المغرب توكيداً على معاناة الثقافة العربية الواحدة أمام أسئلة المصير الصعبة.

[جريدة «البعث» (دمشق) 8/6/1979]

 

4

في يوم المسرح العالمي

«ألف عام وعام على المسرح العربي»

-1-

يحتفل العالم كله في مثل هذا اليوم (27 آذار) من كل عام بيوم المسرح العالمي تكريساً لفعاليته المتنامية في فنون الاتصال بالجماهير من جهة، وفي تكوين الثقافة الإنسانية من جهة أخرى.

 

وأرى، من المفيد، أن نناقش في هذه المناسبة أحدث كتاب يتناول مسيرة المسرح العربي في مجال الاستعراب، وأعني به كتاب المستعربة السوفييتية تمارا الكساندروفنا بوتيتسيفا «ألف عام وعام على المسرح العربي» الذي صدرت ترجمته إلى العربية مؤخراً( )، وأعتقد أنه صدر باللغة الروسية عام 1977م كما يشير أو يلمح إلى ذلك هامش في إحدى صفحات الكتاب (ص276)، وكان أحد المترجمين قد عرض الكتاب على عجل قبل تعريبه( ). لذا، لن أقف عند فصول الكتاب شرحاً أو تعريفاً مكتفياً بمناقشة أطروحاته المركزية ومشيراً إلى بعض مشكلات الترجمة.

 

-2-

تعترف المؤلفة أن عنوان الكتاب ليس من باب الألغاز أو التصورات أو التخمينات فالمسرح العربي قديم شأنه شأن الثقافة العربية، أما الرقم «ألف عام وعام» فلا يمت إلى الدقة العددية بصلة، بل يقصد بها «المبالغة» حينما يراد «التبسيط»، وتلاحظ، من جهة أخرى، «أن عمر الثقافة العربية بما فيها الفترة الإسلامية يبلغ حوالي ألفي سنة تقريباً»، وعلى الرغم من المعرفة العميقة بتاريخها الطويل، «فإن جانباً واحداً من جوانب الثقافة العربية بقي غامضاً لا يعرف عنه شيء ألا وهو المسرح».

 

ثم تؤكد المؤلفة أن الحياة العربية عاشت مثل بقية الأمم والشعوب أشكالاً مختلفة من الطقوس والشعر والموسيقى والتمثيل والعادات، وهذا في جوهر الظاهرة المسرحية، وهكذا تبين عجز مختلف الفرضيات التي حاولت تفسير الظهور المتأخر للمسرح العربي، وتقول جازمة:

«إن فن المسرح العربي قد ولد ولادة طبيعية حسب ما اقتضته العملية التاريخية العامة في تطور الثقافة العربية».

 

وتشكل فصول الكتاب برهاناً على وجود المسرح العربي، منذ زمن بعيد جداً، منذ ألف عام وعام!. وقد استعانت في برهانها ما توفر بين يديها من وثائق ونصوص ومصادر يمكننا أن نلخصها على النحو التالي:

- الأدبيات العربية حول المسرح العربي.

- أدبيات الرحالة في الوطن العربي في مرحلة الاستعمار، بالإضافة إلى بعض كتب المستشرقين، وهذه المصادر هي الأهم بالنسبة للمؤلفة.

- الكتب النظرية لبعض المسرحيين الروس والسوفيات.

- المشاهدات في بعض أقطار الوطن العربي أثناء التحضير لتأليف هذا المصنف.

 

تنطلق المؤلفة من اعتبار الممثل والمتفرج عنصرين أساسيين للفن المسرحي، فقد يغيب مؤلف النص، وقد تغيب خشبة المسرح، ولكن لابد من وجود الشخص الذي يقوم بالعرض، والشخص الذي يتلقاه، وتعتمد على تعريف «ف. ا. نيميروفتش ـ دانتشنكو» و«ماكس رينهارت» في جوهر العرض المسرحي، وهو تعريف «يشمل الفن المسرحي عند كل الشعوب وفي كل العصور، فلماذا يجب علينا استثناء المسرح العربي؟».

 

وتضيف المستعربة: «سنحاول دراسة المسرح العربي من المعايير النقدية العالمية المتعارف عليها، آخذين بعين الاعتبار مقدمات ما قبل المسرح حتى لا نحط من أصالته، ومن طبيعته الوطنية ومن تطوره التاريخي الفريد».

 

وما فعلته المؤلفة بعد ذلك هو الاحتفال الشديد بما هو متواتر لدى المسرحيين العرب في تراكم السرد حول تاريخ المسرح العربي وقضاياه ومشكلاته، وفي ختام كتابها تعتذر عن طريقتها، لأن هذا الكتاب «مجرد محاولة للتمعن في تاريخ الفن المسرحي في العالم العربي، هذا التاريخ الذي ظل مجهولاً تماماً لفترة طويلة، حتى ساد الاعتقاد أنه مبتكر ومفاجئ ودخيل، مما طرح أحياناً أسئلة لم تجد لها جواباً».

 

وتلاحظ المؤلفة أن «هذا الموضوع لم ينته، لأنه يمس العديد من القضايا والنظريات والبلدان والعصور التاريخية والأوضاع السياسية المختلفة والفنون الأخرى. لقد شق المسرح طريقه عبر مكل التحريمات والقيود الاجتماعية، وظهر في كل مكان.. إنني باستخدامي للتجربة المتجمعة نتيجة دراسة المسرح في أوروبا الغربية والمسرح عندنا، وبالمقارنة والتحليل أردت فقط أن أحدد في عالم الثقافة العربية المعقد والمتنوع، موقع الفن المسرحي الذي بدأ تطوره منذ ألف عام وعام!».

 

-3-

لا شك في أن الكتاب بمجمله دفاع عن الثقافة العربية وعن أصالة المسرح العربي مما لا يتفق مع آراء المستشرقين، وفي مقدمتهم يعقوب لنداو في كتابه «دراسات في المسرح والسينما عند العرب». و هنا تكمن أهميته، وبخاصة في إطار تطور الاستشراق ونزعاته المختلفة، إذ يعكس اهتماماً إيجابياً في أساسه بالمسرح العربي. أما فائدته بالنسبة إلينا، فلا اعتقد أنه يضيف إلى حصيلة المسرحيين العرب، ولا نبالغ إذا زعمنا أن الكتاب يعتمد اعتماداً كاملاً على فكرة المسرحيين العرب، ومن اشتغلوا في تأريخه، عن المسرح العربي، أمثال محمد يوسف نجم وسلمان قطاية، بل إن محاولة الأخير في كتابه «المسرح العربي: من أين وإلى أين» قد تعدى حدود البحث في الماضي إلى آفاق العمل في المستقبل، حيث استعرض الأسباب الدافعة لذلك الفشل في «خلق مسرح عربي أصيل»، واستخلص بعد ذلك الحلول التي رأى أنها تقود إلى الهدف، بينما يستذكر المرء في غالبية صفحات بوتيتسيفا كلمات قطاية سواء في التأكيد على جوهر الظاهرة المسرحية أو إنجازات المسرح العربي أو تعريف المسرح أو مناقشة الأشكال المسرحية العربية. وثمة أشكال كانت موضع بحث ومناقشة لدى قطاية لم تتعرض لها المؤلفة ولدى الإطلاع على مكتبة المسرح العربي، ندرك صعوبة المغارة في هذا البحث الواسع الذي اكتفت مؤلفته أن تنظر إليه نظرة طائر محب، مما أوقعها في التجاهل حيناً، والاستسهال حيناً آخر، فهناك عشرات «الالتباسات» و«الأخطاء» ناتجة عن «فقر التوثيق» و«السرعة» في التأليف و«ضعف الإحساس بالتاريخ الثقافي العربي»، ولا مجال هنا لذكر الشواهد وإذا نظرنا إلى هذه الترجمة بوصفها عملاً كاملاً هو كتاب المؤلفة باللغة العربية سنلاحظ ما يلي:

- يفتقد الكتاب للمقدمة أو التمهيد الذي يوضح أسباب التأليف وطريقته ومنهجه ومصطلحه.

- يتساءل المرء عن أهمية بعض  الآراء الصادرة عن مؤلفة تجهل اللغة العربية باعترافها (ص10) ثم يتساءل المرء للمرة الثانية عن أهمية هذه الآراء التي تعتمد على مساعدة مخرج سوري شاب في استيعاب المعلومات والمواد الواردة في المراجع العربية، بينما تكشف الترجمة، وقد قام بها هذا المخرج السوري الشاب نفسه، عن أخطاء فاحشة في اللغة العربية مما نسميه عادة أخطاء الواجب كالإملاء والنحو، ومما يصب في جهل تأريخ الثقافة العربية وسنذكر بعض هذه الأخطاء على سبيل المثال.

 

- يفتقر الكتاب إلى الفهارس وثبت المصادر والمراجع.

وهكذا نستطيع القول إن بضاعتنا ردت إلينا على أننا نوجه شكرنا الجزيل لجهد السيدة بوتيتسيفا المبذول، وهو جهد كبير دون شك.

 

-4-

لن نلتفت في هذه العجالة إلى الكشف عن مشكلات الترجمة، وهي بينة في تعريب هذا الكتاب الذي يلبي حاجة السوق، ولا يعبأ بالقيم الفكرية والفنية إلى درجة لم يذكر معها عنوان الكتاب الأصلي وتاريخ طبعته وسوى ذلك، ونشير هنا إلى هذه الأخطاء، لأنها تنخرط في ظاهرة أشمل تكاد تغطي حياتنا الثقافية، ولا ينجو منها كتاب إلا بصعوبة. ولا ننسى العرض الذي قدمه أحدهم للكتاب في مجلة «الحياة المسرحية» فقد قيل في أخطاء ترجمته الكثير.

 

أما أخطاء ترجمة هذا الكتاب فنوجزها في البنود التالية:

- تعريب الأسماء والمسميات والوقائع دون معرفة أو خبرة.

- تعريب النصوص المنقولة من مؤلفات وكتب عربية دون العودة إلى هذه النصوص وإيرادها بلغة صاحبها.

- أخطاء الواجب الفاحشة في الإملاء والنحو والفصاحة، ولعلنا نعود إلى التدليل على هذه الأخطاء في بحث مفصل في دورية متخصصة.

[جريدة «البعث» (دمشق) 26/3/1981]

 

5

«تجربة شخصيّة في فن المسرحيّة»:

فكرة المسرح بين الأدب والممارسة

-1-

يقدم على أحمد باكثير في كتابه «فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية»( ) شاهداً على نظرة سائدة لفكرة المسرح بين الأدباء العرب، ونعني بها الفصل بين أدب المسرح باعتباره فناً قولياً، والدراما كشيء صالح للتمثيل، وهي نظرة لا تزال آثارها بينة على الحركة المسرحية وبخاصة فيما تؤدي من اختلاط بين خصائص العمل الأدبي وطبيعة العرض المسرحي. وعلى الرغم من إطلاع علي أحمد باكثير المبكر على روائع المسرح العالمي في اللغة الإنجليزية التي يجيدها إجادة تامة، فإن شواغل التجسيد مما لا يخطر له ببال. وهذا يؤكد بدوره الهوة القائمة بين الأدباء والمسرحيين، ففي تلك الفترة التي كتب فيها باكثير للمسرح ـ  العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين ـ كان المناخ هو الاحتفال بتمصير أو تعريب مسرحيات «الفارس» و«الفودفيل» و«الكوميديا» وسوى ذلك من أنواع الملهاة، أي سيادة الأعمال الفنية التي تلهب حماسة النظارة بينما لا تفارق عينها شباك التذاكر بالدرجة الأولى.

 

-2-

يشير باكثير في مطلع كتابه إلى إقباله على الكتابة المسرحية ـ دون أي إلمام سابق بفن المسرحية، بله أصول التأليف المسرحي، فكانت النتيجة قصائد ومقطوعات من الشعر بين رقيق وجزل يجمعها موضوع واحد وينظمها إطار واحد. ولكن لا يمكن تسميتها مسرحية إلا على سبيل التجوز لافتقارها إلى المقومات الأساسية للمسرحية من بناء وحركة ورسم شخصيات.

 

وفي اقترابه من الكتابة المسرحية لا يرى أهمية لشروط عرضها على المسرح، بل يكتفي بأمرين هما وجود الموهبة «والإلمام بأصول التأليف المسرحي سواء بدراستها في الكتب الموضوعة لهذا الغرض، أو عن طريق تتبعها وتأملها في النماذج الصالحة من أعمال الكتاب المسرحيين المشهود لهم بالفضل والتبريز واستخلاص القواعد والأصول من تلك النماذج».

 

ثم يأتي على ختام تجربته، ولا يشير إلى دواعي التجسيد المسرحي أو ما تعنيه الخبرة المسرحية، فالسائد هو خبرة الأديب.

 

-3-

يلاحظ باكثير أن أهم مصادر كتابته للمسرحية هي دراسته للأدب الإنكليزي، بينما ظلت ثقافته الأولى عربية إلى حين، فقد غيرت دراسته للغة الإنكليزية من نظرته لمفهوم الأدب كله، فأخذ يعيد النظر في المقاييس الأدبية التي كانت عنده من أثر ثقافته العربية، وهنا فتنه المسرح، واستهوته بوجه خاص أعمال شكسبير، ولكن الشعر كان دربه للمسرح. ويعيد إلى الأذهان أن الشعر العربي ـ وفق العمود يعصى على لغة المسرح، فكانت محاولته إيجاد الشعر المرسل في اللغة العربية ترجمة وتأليفاً، فليس ما يحول دون إيجاد الشعر المرسل في اللغة العربية، فهي لغة طيعة تتسع لكل شكل من أشكال الأدب والشعر.

 

لقد التزم باكثير هذه الطريقة للمرة الأولى في مسرحيته «احناتون ونفرتيتي» مستعملاً البحر المتدارك «الذي أدركت من تجربتي الأولى في الترجمة ـ أنه أصلح البحور كلها لهذا لضرب»، وهذا قاده إلى حقيقة مفادها أن النثر هو الأداة المثلى للمسرحية «ولاسيما إذا أريد بها أن تكون واقعية، وأن الشعر لا ينبغي أن يكتب به غير المسرحية الغنائية التي يراد بها أن تلحن وتغنى أي الأوبرا».

 

ويعود هذا التقدير إلى ـ أن المسرحية الشعرية ـ أو بعبارة أدق ـ المسرحية المنظومة لم يعد لها مكان اليوم اللهم إلا عند عدد قليل جداً من الكتاب مثل ت. س اليوت وماكسويل اندرسون. حقاً كان الشعر لغة المسرح عند كتاب اليونان والرومان وكان كذلك عند شكسبير وأقرانه في العصر الإليزابيثي وعند راسين وكورني في فرنسا، ولكن هذا التقليد وهو التزام الشعر في المسرحية قد مات من عهد طويل، وأن ظلت المحاولات تبذل لإحيائه منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم.

 

ويضيف باكثير:

«ومعظم هذا الشعر الذي أشرنا إليه هو الشعر المرسل، وهو شعر فيه تحرر وانطلاق، وليس مقيداً بأسار القافية فهو أصلح للمسرحية أ، كان لابد من استعمال الشعر فيها. وكان الممثلون في تلك العهود يلقونه بصورة تقرب من إلقاء النثر فلا يكاد الرجل العادي يدرك أنه شعر موزون. وكان الإلقاء في التمثيل عموماً يعتمد إذ ذاك على التفصح والجلجلة وتفخيم الألفاظ وذلك قبل أن تنشأ الطريقة الواقعية في الإلقاء والتمثيل».

 

ومراعاة طبيعة الشعر المسرحي هي من أسباب الأدب عند باكثير لا من اعتبارات التجسيد المسرحي، فهو يكرس غالبية صفحات كتابه لهذه الأسباب وبوجه أخص للغة المسرح. إنه يذكر الفرق بين النثر والشعر المرسل والشعر المقفى القائم على اتخاذ البيت وحدة نغمية مستقلة، وفي هذا كله يجري التركيز على القيمة التعبيرية للجملة العربية. وهكذا كتب مسرحية ـ قصر الهودج  ـ نظماً موسيقياً ما أمكن لتكون صالحة للتلحين وللغناء، ولم يتقيد ببحر واحد في إطار من الحرص على التنويع في القوافي، ليكون ذلك أبلغ في التنغيم الموسيقي. ولكنه يكتشف بعد لأي أن الشعر ليس محكوماً بالنظم، بل يمكن أن يكون نثراً، فالمهم أن يحتوي على جوهر الشعر والخاصية الأصيلة فيه.

 

-4-

يخصص باكثير من جهة أخرى بقية كتابه لفن المسرح عند العرب وما استتبع ذلك من محاولات لتعليل افتقاد الظاهرة المسرحية العربية لسبب «هو عدم استناده عندنا إلى جذور دينية قديمة». ويفصل بعد ذلك القول في فن المسرحية وأسبقية المأساة على الملهاة وعناصر التأليف المسرحي، ويستغرق وقتاً طويلاً في مناقشة الفكرة والموضوع والعلاقة بينهما، ثم يتوقف عند الكاتب الداعية فيقرر:

«ولكن ينبغي لمثل هذا الكاتب المسرحي ألا ينسى وهو يلتهب حماسة للدعوة التي يدعو إليها أن المسرحية عمل فني قبل كل شيء فيجب ألا يجوز على فنيتها بحال من الأحوال. بل ينبغي أن يحرص الحرص كله على سلامة عمله من الوجهة الفنية، وأن يدرك أن ذلك هو السبب الوحيد لجعل الرسالة التي ينطوي عليها بليغة التأثير في الجمهور الذي يشاهده».

 

والخلاصة أن على هذا الكاتب أن يجعل الداعية فيه خادماً للفنان المسرحي فيه، لا سيداً له، وإلا فليتخذ أداة أخرى غير الكتابة المسرحية كالخطابة أو الصحافة «وهذا لا ينفي أهمية النزعة الإصلاحية أو الدعوة لفكرة خاصة كمنبع للإلهام المسرحي» برأيه، لذا يؤكد باكثير بعبارة صريحة:

«على أن القومية العربية ظلت من ذلك رائدي في أغلب ما كتبت بعد ذلك من مسرحيات وقصص، ولكن لغير ذلك الغرض الخاص الذي انتفت الحاجة إليه، وإنما لإبراز ما في تاريخنا الحافل المجيد من مثل عليا ينبغي أن تستنير الأمة العربية في جهادها من أجل التحرر والاستقلال وفي كفاحها لبناء مستقبل مجيد يليق بماضيها المجيد».

 

ثم يلتفت باكثير إلى ولوعه الزائد بالتاريخ والأسطورة لأن الفن المسرحي خصوصاً عنده ينبغي أن يقوم أكثر ما يقوم على الرمز والإيحاء لا على التعيين والتحديد فتكون الحقيقة التي يصورها العمل الفني ـ وهو هنا المسرحية ـ أوسع وأرحب من الحقيقة التي يمثلها الواقع.

 

لم يغفل باكثير في عرضه لتطورات تجربته المسرحية عن دور النقد في التقويم، إنه يصرح على سبيل المثال أن التوفيق قد خانه في اختيار بعض العناصر التي ألف منها موضوع مسرحيته «سر الحاكم بأمر الله» إذ حشر فيها أموراً لا صلة لها بالفكرة الأساسية. لأن «مهمة الكاتب المسرحي ليست تسجيل ما حدث في التاريخ كما حدث، فتلك مهمة المؤرخ، وإنما مهمته أن يخلق عالماً جديداً تقع فيه الأحداث، وتنصرف فيه الأشخاص، وتنعقد فيه المشكلات، وتصدر عنه النتائج مستهدياً بالفكرة التي جعلها أساساً لمسرحيته». وهكذا تبدو تجربة علي أحمد بكثير في فن المسرحية إشارة إلى نظرة سائدة لفكرة المسرح: احتفال شديد بالأدب وإهمال ملحوظ للممارسة المسرحية.

[جريدة «البعث» (دمشق) 28/6/1979]

 

6

«الشاعر العربي الحديث مسرحياً»:

فكرة المسرح بين الشعر والشعر المسرحي

-1-

يدل واقع المسرحية الشعرية العربية دلالة حية على النظرة السائدة لفكرة المسرح بين الأدباء العرب وهي من نتائج الفصل بين أدب المسرح باعتباره فناً قولياً، والدراما كشيء صالح للتمثيل كذلك، فحتى وقت قريب مايزال البون شاسعاً بين طبيعة الشعر وطبيعة الشعر المسرحي، وأجدها فرصة طيبة لإثارة الحوار حول هذه المسألة بمناسبة ظهور كتابين جديدين هما «الشاعر العربي الحديث مسرحياً» لمؤلفه محسن أطيمش( ) و«الشاعر في المسرح» لمؤلفه رونالد بيكوك( ).

 

-2-

إن ندرة الدراسات حول شعر المسرح تتناسب مع ندرة المسرحيات الشعرية، فماتزال في تراثنا المعاصر معدودة وماتزال الدراسات حول الشعر والمسرح قليلة.

ومثلما تقابل المسرحية الشعرية باعتزاز وتقدير كبيرين للقيم الفنية الكامنة فيها، فإن تعليل الخشبة من الإقدام على كتابة المسرحية الشعرية عائد أيضاً إلى الانتقاد الشديد الموجه للمسرحية النثرية التي بالغت في موضوعها، وباشرت أهدافها بحيث قل الاهتمام تدريجياً بالشكل الفني فأية مشكلة تثيرها علاقة الشعر بالمسرح؟

إن كتاب محسن اطيمش (العراق) يقدم الجانب الأكثر بروزاً في هذه المشكلة أو ما يؤدي إلى هذه المشكلة، وأعني بها سيادة النظرة إلى المسرحية الشعرية باعتبارها فناً قولياً أدانه الشعر بالدرجة الأولى، أما احتياجات المسرح والمسرح الشعري بوجه خاص فلا تحظى من الشعراء العرب بما يبل الريق، وهذه هي أسئلة المرحلة الشعرية تلقي بظلالها على نتاج المسرح الشعري برمته على الرغم من البداية الشعرية للنهوض المسرحي العربي في القرن التاسع عشر على يد أبي خليل القباني ومارون النقاش وسواهما، وعلى الرغم من جسارة التجديد في أحصن قلاع التقليد الأدبي العربي في فن راسخ هو الشعر. واكتفي في هذه المقالة بالإشارة إلى وجهة النظر الأدبية السائدة في معالجة مشكلات المسرح العربي من خلال كتاب محسن اطيمش، فلغة النقد في الكتاب لا تحفل بطبيعة المسرح أو المسرح الشعري أو بالمصطلح الدرامي.

 

-3-

يؤكد اطيمش في مقدمته أهمية موضوع كتابه، ولكنه يورد في الوقت نفسه بعض صعوبات البحث فالموضوع شائك، ولا يخلو من مشكلات كثيرة وجوانب متنوعة فدراسة الأداء المسرحي أو الشعر المسرحي تعني التعرض لظاهرة أدبية معاصرة، ما تزال في دور النمو والتجريب، ولم يكن لنا فيها موروث، ونصيبها من الدرس الجاد والنقد المعاصر قليل، وتعني أيضاً الإلمام بفنين مجتمعين لا يمكن الفصل بينهما أو قيام الواحد منهما على حساب الآخر، وهما الشعر والمسرح. أما المسرح فهو ثبت غريب، وأما الشعر فإن جذوره تضرب بعيداً في وجدان الشاعر العربي الحديث، وهو منذ الجاهلية شعر غناء، يفصح فيه الشاعر عن همومه ومواجده بصوته الخاص، ونادراً ما يتجاوز ذاته ليصل إلى أبعد من ذلك.

 

ثم يلتفت إلى صلب وجهته في النقد، فالشاعر الحديث أحس بضرورة الانفلات من سجن الذات إلى حيث الرحبة، فقد تعددت تجاربه، واتسعت ثقافته، وانفتح على الأدب الإنساني، فبدت القصيدة الغنائية، وكأنها تضيق بما لديه من أفكار وأحاسيس، فذهب يبحث مرة، ويتعلم ثانية، ليهتدي إلى شكل جديد من التعبير، فاقترب من الحكاية الشعرية ثم القصة الشعرية، ووجد نفسه أخيراً يسير بخطى مهزوزة، وتارة توشك أن تمتلك شيئاً من الثبات نحو طريق المسرح الشعري.

وواضح هنا أن منطلق النظر في طبيعة الأدب وليس في طبيعة المسرح، وهذا يعني أن ثمة فارقاً كبيراً لا يميز بعد ذلك بين الشعر والشعر المسرحي، وما التفاتة اطيمش إلى طريق المسرح الشعري إلا درب إلى درامية القصيدة وليس إلى المسرح الشعري. وهناك قصائد درامية كثيرة في شعرنا الحديث تتفوق على مسرحيات شعرية في اكتناه الفاجع في الحياة لسبب بسيط هو اختلاط النظر إلى فكرة المسرح، مما يكون من نتائجه إغفال طبيعة المسرح الشعري.

 

-4-

يقسم اطيمش كتابه إلى بابين، يتناول الأول المسرحية بشكلها العربي التقليدي، ويشتمل على أربعة فصول هي: الخطوات الأولى في طريق شعر المسرح والشعر المسرحي عند شوقي وعزيز أباظة وخالد الشواف، ويتناول الثاني المسرحية بشكلها الشعري الجديد، ويشتمل على ثلاثة فصول هي الشعر المسرحي عند عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور، وشعر المسرح بعد عبد الصبور حيث يخصص هذا الفصل لدراسة مسرحيات معين بسيسو «ثورة الزنج» وعز الدين إسماعيل «محاكمة رجل مجهول» ومحمد علي الخفاجي «ثانية يجيء الحسين» وعلي كنعان «السيل» ومحمد الفيتوري «سولارا». وهناك خاتمة ذكر فيها المؤلف بشكل مركز خلاصة بحثه وما يتصف به.

 

إن اطيمش يستفيض في نقده الأدبي للنصوص دون مراعاة خصائص تجسيدها على المسرح كأثر الشعر الغنائي في الشعر المسرحي وما يستدعي ذلك من دراسة للحوار والتضمين فيه وموسيقاه، ولرسم الشخصية وأهمية الحدث وبث القصيدة في صلب العمل المسرحي، وتغليب الحوار الداخلي «المونولوغ» على مجمل الصياغة.

لقد استشهد اطيمش يقول البوت: «إن الشعر في المسرحية ليس زينة، ولو كان كذلك فهو جدير بالرفض، والشعر لابد أن يبرر وجوده درامياً، أي أن يصير الشعر جزءاً من الحدث، وينهض بمهمة البناء الدرامي وكشف الأشخاص وأزماتهم»، إلا أن المؤلف قد أغفل في نقده هذه الاعتبارات مجرداً النص من قابليته للتجسيد. إن رؤيا الشعر في المسرح وتخييله مرتبطان بجسده: قابليته للتمثيل وهو محتفظ برؤيته.

 

-5-

يرى اطيمش في مناقشته للتضمين في الحوار أن الشعراء الغنائيين وهم يكتبون للمسرح يميلون دائماً إلى التضمين كما فعل شوقي وأباظة، ثم تابعهم في ذلك بقية الشعراء مثل عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وعلي كنعان ومحمد علي الخفاجي، ويلاحظ أنه لم تكن لتلك التضمينات في الغالب وظيفة مسرحية أو شعرية كالتسامي في التعبير عن الانفعال الدرامي في لحظة تبيح للشاعر أن يلجأ لشعر غيره فيضمنه إتماماً للصورة المسرحية وتصعيداً للغة الحوار كما تقول مارجوري بولثن في كتابها «تشريح المسرحية» ويضيف أيضاً: «إذا افتقد وظيفته المسرحية فإنما هو «من خصائص المقلدين الذين لا يستطيعون أن يغلقوا مخازن ذاكرتهم» (وهو قول محمد مندور).

والحق أن العمل المسرحي يحتاج لذاكرته، وهكذا ينطلق من تاريخه، ويسعى إلى فعاليته، وما تاريخه وفعاليته إلا جماع خصوصيته، وقد اكتشف المؤلف بعد حين أن لشوقي موروثاً مسرحياً بسيطاً هو خليط من الأوبرا والأوبريت، فقد خبر وهو في فرنسا، شيئاً من فن المسرح، وشاهد مسرحيات كلاسيكية ورومانسية، ولكنه حين عاد إلى بلده مزج حصيلة المسرحية بخبراته الشعرية التي تمت في عالم القصيدة الغنائية، فانشأ مسرحاً (والأصح تصانيف شعرية) ذا طابع غنائي أكثر نضجاً وسمواً مما نقدم في المحاولات المسرحية السابقة، وظل مسرحه ظاهرة تلفت الانتباه، ووجد من أعجب به، واعتبره مثالاً يحتذى وفناً جديراً بالمحاكاة فقلده. وهذا التقليد الذي يغفل خصوصية المسرح وذاكرة المسرح الشعري بعد ذلك استمر حتى وقت متأخر يفعل فعله في نفي الظاهرة المسرحية لصالح التصنيف الأدبي لشعراء يستخدمون لذاكرتهم، ولا يتصلون بعناء الحياة أو المأساوي فيها، وهو ألزم صفات الشعر المسرحي.

[جريدة «البعث» (دمشق) 5/7/1979]

 

7

الشاعر في المسرح:

المسألة الفنيّة والمسألة الاجتماعيّة

-1-

يقدم كتاب «الشاعر في المسرح» دليلاً على التباين  السائد في النظر إلى فكرة المسرح، في تحققها الفني وفي قصدها الفكري، ,تبدو القضية بجلاء في ندرة المسرحية الشعرية وعدم قابليتها للتجسيد غالباً، فهل في هذا الواقع ما يشترك مع طبيعة المسرح الشعري في التقليل من أهمية الحساسية الفنية لصالح المسألة الاجتماعية، وهو التشخيص الذي يعتمده هذا الكتاب أيضاً.

 

إن كتاب رونالدبيكوك يطرح المشكلة برمتها، وقد فعلت وزارة الثقافة والإرشاد القومي خيراً بنشر ترجمة ممدوح عدوان لهذا الكتاب، لأن المكتبة العربية تفتقر إلى مثل هذه الدراسة، وبخاصة أن كاتبها ناقد فنان عرف بدراساته القيمة عن الشعر والمسرح والنقد في رؤى نفاذة يمتزج فيها العلم برحابة التذوق، وأن مترجمها شاعر ومسرحي بارز في جيله. وأعود للمرة الثانية لهذا الكتاب مؤكداً على بعض ما قلت عنه في مكان آخر باعتباره يضيء تجربة المسرح الشعري في أدق معضلاتها.

 

أن هذه الدراسة، كما يقول مؤلفها، «توجه الاهتمام،  وبقوة، نحو أسئلة عميقة جداً. فحين يكون أحد الأشكال الفنية موضع ريبة، وحين نبدأ في الاستفهام عن السبب، فإننا ننخرط بعد قليل في التساؤل عن الشكل الفني ذاته وعن انحساره. ويتشكل السؤال الأساسي بصورة مركبة: ماذا هناك في طبيعة الشعر الدرامي مما يعلل ندرته في ظروف معينة؟ ولماذا لم ينسجم الشعر مع المسرح إلا في ومضات عرضية وبصعوبة فائقة وبوسائل غير تقليدية في الفترة التي تناولتها».

 

-2-

في دراسته عن أفكار رتشارد فاغنر، يقول ناقد معاصر( ):«في الدراما، لا يمكن تفسير الفعل إلا حين تبرره المشاعر تبريراً كاملاً، ومن هنا، فمهمة الشاعر الدرامي، ليست في ابتكار أفعال بل جعل الفعل مفهوماً من خلال الضرورة العاطفية كي نستغني بالمرة من مساعدة العقل في تبريره. ومن ثم، على الشاعر أن يجعل اختيار الفعل مجاله الرئيس. وهذا الاختيار، في الشخصية. ومحيطها ينبغي أن يمكنه من التبرير التام عن طريق المشاعر والأحاسيس، لأن في هذا التبرير وحده طريقه إلى تحقيق هدفه».

 

ويضيف في موقع آخر: «إن أفضل ما قدم فاغنر  من خدمة للدراما، في نظرياته كما في ممارساته، هو إصراره الذي برهن عليه بأن المسرحية على المسرح هي الأساس بالضرورة، مما يستدعي تكييف الأهداف المؤمل تحقيقها بوسائل التنفيذ الفعلية التي هي في حوزة الفنان».

 

ويستفاد من هذا الاستشهاد أن الضرورة الفنية في المسرح الشعري ينبغي أن تندغم بالضرورة القصدية ـ المسألة الاجتماعية ـ وبالضرورة العملية على خشبة المسرح في آن واحد، أي أن إنجاز الحل الشعري مرهون بمراعاة الهدف ومعطيات الخشبة.

 

يخلص البرت الريحاني في دراسته الواسعة عن «الشعر والشعر المسرحي»( )، إلى نتيجة هامة هي أن المأساة ـ بمتابعة مسيرتها البطيئة نحو الرومنطيقية ـ تتبلور طبيعة الشعر المأساوي بتبلور قدرة المأساة على تصويرها لمختلف أوجه الحياة.  مات النموذج ليأتي مكانه بطل متطور من حال إلى حال عبر الأحداث والشعر المأساوي المتدفق من خلالها والمرافق لها. ويتحول الشعر، في هذه المرحلة، إلى طاقة تفجر الطبيعة الإنسانية. كل اتجاهاتها. هكذا نرى، بتطور مفهوم المأساة واتساع قدرتها على استيعاب الطبيعة في الإنسان، أن رؤيا الشعر رؤيا المأساوي تفتحت طاقته وصورت هذه الطبيعة وترجمتها ترجمة داخلية حية».

إن هذا الاستشهاد يضع معضلة المسرح الشعري أمام قابليتها للحل: فكرة المسرح في طبيعتها الفنية ـ وهي هنا خصوصية الشعر ـ وفي رؤيتها التاريخية الشمولية للوضع البشري، وهذا ينفي، بعد ذلك، أن التعارض المزعوم بين المسألة الفنية والمسألة الاجتماعية. وفي كتاب «الشاعر في المسرح» ثمة إجابة على هذه المعضلة.

 

-3-

يتناول بيكوك شعراء بعينهم ليوضح طبيعة العلاقة بين الشعر والمسرح، ويتطرق في مقالاته لتأثير ابسن «لأن مسرحياته ذوات المشكلة الاجتماعية هي التي تتمتع بالأهمية فيما يتعلق بكنه الكثير من الكتابات المسرحية في أوروبا، وهي التي تسببت بأقوى منافسة للشعر». ثم تأتي حالة برناردشو بشكل طبيعي، والمؤلف يناقش هذه التأثيرات ليلقي الضوء على جانب من الصراع القائم بين الشعر والنثر الذي تثيره «الأبسينية»، ويتطرق في مقالات أخرى لمسرحيات تشيخوف وسينغ حيث التصور كله شعر وحيث الأداة كلها نثر، وهماً، بعد ذلك، شاهدان مشجعان على أن الدراما النثرية يمكن أن تتمتع بحيوية خيالية تجعلها أقرب ما تكون إلى الشعر.

 

ويتناول المؤلف أيضاً، كتابات أخرى لهنري جيمس ويتيس باعتبار إسهامهما في البحث عن تقنية مسرحية وعن تثبيت مفهوم ملائم عن ماهية القيم الشعرية في المسرح مما كشف عنه ت. س. اليوت بصورة باهرة في مسرحه وفي نقده.

 

يبحث الكتاب في مشكلات الصيغة الشعرية في مسرحية القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر، لذا، أضيف بحثان إلى طبعة الكتاب الثانية حول غوتة وبوشنر، وهناك مقالة أخرى حول المأساة والملهاة والحضارة مما يفضي بشعر المسرح إلى الشمولية والإنسانية، وهما في صلب معاناة المسرحية النثرية. ويرى المؤلف أن ندرة الشعر التراجيدي دليل على تقطع التقدم وعلى فشل الوعي المتحضر. والتمييز الخاص للمأساة والملهاة هو أنهما يسيران معاً مع الحياة جاعلتين المادة الخام نفسها تقدم صورة التقنية.

 

-4-

أما الشعراء الذين درسوا بعناية فهم ت. س. اليوت وغريليبارتسر وهيبل وهوغوفما نشتال وغوته وبوشنر. وجدير بالذكر، أن رؤية بيكوك للمسرحية الشعرية تتجلى في طلب استعادة اتساع آفاق الشعر وجعله، مرة أخرى، شرحاً للفعل الإنساني بمقدار ما هو شرح و تفسير للحلم الفردي، وهي الرؤية التي أنجزها باقتدار الشاعر اليوت. لقد جذّر اليوت الشعر الدرامي تجذيراً يعود بالمسر إلى الفن، وهو يتضمن التاريخ الدرامي، ويتجاوز الوسط الطبقي الخاص، أي انطباق الحالة الشعرية على الضفة التاريخية للموضوع.

 

وانطلاقاً من هذا الفهم، كانت دراسته لشعراء كان شاغلهم الأوحد هو المثل الشعري العظيم في المسرح. وهكذا، كان تقديره لإنجاز غريلبارتسر: إعادة إيحاء الدراما، مثلما رأى نجاح هوفمانشتال في خلق رمز مسرحي وحّد فيه المجتمع كله وزجّه في حالة شعرية.

 

-5-

كرس المؤلف في الجانب الآخر نقداً واسعاً للمسرحية الاجتماعية، الشكل الأمثل للمسرحية النثرية الحديثة، فكتاب مسرحية المشكلة الاجتماعية، الذين أخذوا قدوتهم الخاطئة من إحدى مراحل كتابة ابسن، يتجاهلون شروط الفن مما جعلهم يقدمون شكل عمل يمكن أن يكون فعالاً وناجحاً على مستوى معين إلا أنه يفتقر إلى التميز الشعري. ويلاحظ أن برناردشو، وهو من كبار رواد مسرحية المشكلة الاجتماعية، مربك للمشاهد المهتم بالشعر والدراما والمسرح في تداخلها، «فالشعر عند برناردشو ما يزال يولد» كما يقول اليوت. وفي هذا يتميز برناردشو، ففي تطويره لعمله من هذا الموقع يحقق شو إنجازاً، فالكوميديا والفطنة بالدرجة الأولى، تقدمان عنصراً تعويضياً عن الخيال في ركام نثري ينهل من الدراما البرجوازية الواقعية. لقد قدم ما لم يقدمه أحد غيره و الذي لم يفعل ابسن أكثر من التلميح إليه: فن الكوميديا.

 

ورأى المؤلف أن تشيخوف وسينغ، وهما كاتبان نثريان مشغولان بالمشكلة الاجتماعية، قد نهضا بموضوعهما إلى حالة شعرية خالصة هي الفن المصفى. تشيخوف وجد الوسائل والأدوات الصحيحة والملائمة لتقديم أفكاره الخاصة. إن حيويته تكمن في مطابقته الجريئة بين الشكل الدرامي ورؤيته الواقع الجديد، وسينغ تميز على معاصريه كافة بالحساسية الشعرية على الرغم من أنه كان يكتب نثراً، وتبدو أعماله تحدياً للواقعية الفجة في الدراما الجدلية.

 

-6-

يثير كتاب «الشاعر في المسرح» أسئلة ماتزال موضع جدل حول علاقة الشعر بالمسرح. أما أجوبته فهي إغناء لهذا الجدل وبخاصة في ذلك التباعد بين الفن ـ الحالة الشعرية من جهة ومشكلة المسرحية الاجتماعية من جهة أخرى. وقد استخلص نتائج متعددة وخلاصات نظرية وتطبيقية تؤكد أن المسرحية ليست مقصورة على الشعر وحده، فثمة مسرحيات نثرية ترقى إلى أعلى مراتب الشعر كما هو الحال مع تشيخوف وسينغ.

[جريدة «البعث» (دمشق) 12/7/1979]

 

 

8

«هل المسرح خاصيّة أوروبيّة؟»:

نحو تنمية شاملة للثقافة العربيّة

-1-

ثمة كراس وثمة مقالة حول المسرح هما باعث هذا الرأي الذي أريد له أن يكون استتباعاً للحوار الدائر حول أبوة المسرح العربي حيث انتعشت في السنوات الأخيرة فكرة مفادها أن المسرح خاصية أوربية، وأن المسرح العربي بعد ذلك مدين بجذوره وبنهوضه في القرنين الماضيين إلى المؤثرات الأجنبية وحدها.

جرى الدفاع عن الفكرة بدافع من «المثاقفة» نفياً لإسهام الثقافة العربية البارز في حضارة الإنسان من جهة، وتقليلاً لأهمية الظاهرة المسرحية في طبيعتها وفي اتصالها الوثيق بحياة الشعب من جهة أخرى. لقد عاشت الحياة العربية مثل بقية الأمم والشعوب أشكالاً مختلفة من الطقوس والشعر والموسيقى والعادات والتمثيل، وهذا في جوهر الظاهرة المسرحية، وهو بالذات ما فعلته الباحثة السوفيتية مونيتسيفا في كتابها  «ألف عام وعام على المسرح العربي»، أما النزعة السائدة في رفض بعض المستشرقين، ومن لف لفهم، لوجود المسرح العربي لصالح أبوة المسرح الأوروبي له فماتزال محكومة بعوامل الاستشراق الذي يعاني من جذور نشأته والظروف التي رافقته والأهداف المتعددة التي يعمل لأجلها، فهو في أحسن أحواله، مايزال يمثل شكلاً من أشكال اهتمام الغرب بالشرق، وهذا الاهتمام لا ينفصل عن نظرة عالم لعالم آخر، وما يغلب على دراسات المستشرقين هو ـ دراسة منطقة ـ على حد تعبير الدكتور ادوار سعيد( ) وليس دراسة جهد إنساني يضاف إلى الحضارة الإنسانية، وهذا في أساس الاستعمار مما يستتبع عرقلة النهوض القومي.

 

-2-

يقول علي شلش في كراسة «الدراما الأفريقية»( ) بصريح العبارة: «المسرح ليس خاصية أوروبية».

ويضيف:

«والحق أن البحث عن أثر المسرح المصري القديم في المسرح الإغريقي ليس ما يعنينا هنا، ولكن الذي يعنينا هو أن ثمة شبهاً وثيقاً بين نشأة المسرح في اليونان القديمة ومصر القديمة على السواء، وأن ثمة شبهاً وثيقاً أيضاً بين نشأته في كلا البلدين ونشأته في قارتنا جنوب الصحراء: «فقد نشأ المسرح القديم بصفة عامة في حضن الدين والشعائر الدينية. وبدأت الدراما بالرقص والحركات الصامتة، ثم تكامله حين اتحد الرقص والغناء والموسيقى، وتلك هي حال الدراما في أوروبا وأفريقيا بوجه عام».

ثم يستشهد الباحث بقول الكاتب النيجيري جويل اديدجي: «إن الدين هو أساس التطورات الدرامية في لغة اليوروبا، كما هي الحال في معظم ثقافات العالم. وقد أثرت عبادة أوبا ثالا ـ معبود اليوروبا ـ في نمو الدراما الدينية وظهور المسرح، إن الغريزة الإنسانية في التشخيص والتعبير الشعائري «تؤدي بهما إلى الدراما المتطورة».

 

إن المسرح في تراث الشعب، لصيق به، يتفاعل وينمو مع طبائع البشر وحقائق الأشياء وهذا هو شأن أجمل الدراما مهما كان أسلوب تأليفها أو عرضها. لقد قال أحدهم لبعض المسرحيين الأفارقة، وهو أستاذهم هو يصون: «انسوا أنكم مثقفون وأنكم درستم بالجامعة» ويرى هذا الناقد المعروف أن مسرحيتي الكاتبين الأفريقيين سونيكا وكلارك لا تخطئان طريقهما إلا حين تتحدثان في ظل التأثير الناضج للحضارة الأوروبية، أما ما يمكن أن يقولاه لنا، وما نريد نحن أن نعرفه منهما ـ فهو حضارتهما: ففي أفريقيا أشياء وعواطف هامة وأمور مدهشة بعيدة عن طقسنا البارد، وهذه يمكن أن تصبح مادة لدراما قيمة.

 

وقد انتبه كثير من رجالات المسرح العالمي إلى أهمية المنابع المسرحية في أفريقيا وآسيا، وفي مذكراتهم وأحاديثهم وتجاربهم بعض هذه البذور وهذه العناصر الجديدة على عراقتها مدركين تمام الإدراك أنها تقود إلى آفاق جديدة للمسرح الحديث.

 

لقد وجد باحث آخر ـ هو دي جرافت ـ في جذور الدراما الأفريقية نوعاً من التطور ـ عبر النمو الاجتماعي ـ من مجرد إشباع الحاجات الدينية إلى إشباع الحاجات الدنيوية لدى الجماعات الأفريقية، ويرى أن الشروط التي تدعم التطور الدرامي تميل إلى التركز حول الجماعة، أي تميل إلى أن تكون شروطاً متصلة بصلب الجماعة، وتتلخص فيما يلي:

1- رؤية للعالم تجعل الناس عرضة لممارسات شعائرية تتطلب عنصراً قوياً للعب الأدوار.

2- ميل إلى التعبير القصصي يقوم على تاريخ تلك الجماعة وخرافاتها وأساطيرها وفولكلورها.

3- شعور قوي بالتضامن الاجتماعي من شأنه ـ مع ظهور شكل غير ناضج من أشكال الدراما من تفاعل الشرطين السابقين ـ أن ينشئ الشكل الفني الناتج لا كتعبير عن روح الجماعة فحسب، وإنما ـ ولعل ذلك هو الأهم ـ كوسيلة لمزيد من الدعم لما يتضمنه من معنى التماسك والتماثل.

4- نظام من «الرموز» ينقل أنجح الإبداعات الدرامية إلى جماهير أعرض، بل يصونها ويحفظها في ذاكرة موثوق منها للأجيال القادمة.

5- التحرر أو الوقاية من التجارب التاريخية المؤلفة مثل السيطرة القاسية على أيد أجنبية في النواحي الدينية والسياسية والاقتصادية.

ومن الواضح، أن هذا الرأي لا يفاضل بين مسرح أفريقي ومسرح أوروبي، بل ينظر إلى المسرح باعتباره تعبيراً عنحياة الجماعة ووجدانها اليقظ، فالمسرح له أكثر من شكل، وليست الأشكال إلا طرقاً أسلوبية تستخدم لأحداث تأثير أكبر في نقل «رسالة» المشخص، وتساعد على خضوع المتلقي للشعيرة المسرحية.

 

-3-

ويعزز هذا الرأي ما ورد في مقالة سليم الجزائري «المسرح الأسود التشيكوسلوفاكي»( ) إذ تعود جذور هذا المسرح إلى أصول صينية، حيث قدم الفنان الفرنسي الطليعي جورج الفاقي عرضاً فنياً لمسرح الدمى في مطلع الخمسينات على أساس مبدأ الكابينة السوداء، وقد اتسم هذا العرض برموز تعبيرية سهلة واختصارات مبتكرة، أشاعت جواً شاعرياً خاصاً ونوعاً من الرهافة المتميزة.

 

والمهم في هذه المقالة هو المبدأ التكتيكي الذي ينهض عليه المسرح الأسود. الذي يعتمد على عناصر محددة كالظلمة والملابس والنقطة والخط والكتلة والممثل والإنارة وغير ذلك، والمدقق لهذه العناصر يلاحظ مدى الاستغراق في التفاصيل التي تبدو مترفة أو غير ذات بال بالنسبة للمسرحيين في العالم الثالث. لنقرأ على سبيل المثال فقرة «القبلة»، وهي إحدى فقرات عرض «المهرج»:

«أقر بأن القبلة طيبة وعذبة بل وحتى لذيذة، لكنها غير صحية، وباستثناء انتقال الفايروسات والبكتريا عند التقاء تجويفي الفمين، حيث يمكن أن تنشأ بكتريا هجينة. فإن وتائر الدورة الدموية ـ وهذا هو الأهم ـ ترتفع عند الشروع بالقبلة، وعلى الرجل الذي بلغ مرحلة السن الخطرة، بعمر يتراوح بين الخمسين والخامسة والخمسين سنة أن يتجنب القبلات كلية، فإن لم يستطع فليختصرها ولتكن صباحاً بدل المساء، ويفضل أن تتم جلوساً أو في حالة اضطجاع وبمعدة فارغة، والقبلة الملتهبة بعد وجبة دسمة ما هي إلا شروع في القتل، لأنها وباستثناء إعاقة سريان الدم خلال دورته، تعمل على زيادة نسبة الكوليسترول في الدم.»

وليس من باب المجازفة أبداً لمن بلغ السن الخطرة من الرجال أن يمارسوا التقبيل وهو ماش أو مهرول على أن تكون الهرولة خفيفة جداً».

 

-4-

ويضيف الناقد جلال العشري( ) إيضاحاً حول المسألة من خلال رؤيا أعمق للمسرح الأفريقي، حيث يوسع مصطلح «الزنوجة» إلى دلالة حضارية وجغرافية هي معنى آخر لكيفية العلاقة بين الإنسان والطبيعة وما يستتبع ذلك من نظرة مختلفة للتشخيص أو التعبير وعلى الوجه الآخر للفرجة أو المشاهدة. يعطي للمسرح العربي وللثقافة العربية في هذا المجال، مصطلح «العروبة» دلالة لخاصية عربية في المسرح، ومدخلاً لهوية عربية في المسرح.

ثم يفسر مصطلح «الزنوجة» نقدياً، فيرى أ، الغرض في المسرح الأفريقي هو تحقيق قيمته الاجتماعية، والتأثير في جمهور يتكون من «المشاركين» أكثر ما يتكون من المتفرجين. أي أن «دراما المشاركة» وليست ـ دراما الفرجة ـ، مسرح التلاقي وليس مسرح «التلقي» هو أهم ما يميز المسرح الزنجي الأفريقي، وهو من هذا المنطلق يعكس الحاجة إلى التقارب والاتصال بين الطبقات الاجتماعية، كما يمثل صورة علمية نابضة لرغبة المجتمع في أن يثبت وجوده، أو أن يقوم بعمل حاسم يدعم به هذا الوجود.

 

-5-

ليس المسرح خاصية أوروبية، والصحيح أيضاً أن للمسرح العربي خاصيته، وفي هذه الخاصية تكون هويته، ولا يمكن أن تكون حقاً إلا قيد العمل، وفي إطار تنمية شاملة للثقافة العربية.

[جريدة «البعث» (دمشق) 8/11/1979]

  

9

ملاحظات حول تطوير المسرح

-1-

منذ أن عقد «مؤتمر المسرح العربي» بدمشق فيما بين 15 و22 أيار 1973م، وأسئلة المسرح العربي هي الأسئلة التي تبحث عن أجوبتها في واقع تتنازعه مشكلات الطابع القومي للحركة المسرحية والانتشار الجماهيري لها في الوقت نفسه. ماتزال الأسئلة تنطق بصوت مرتفع وسط معترك العمل العربي المشترك ثم لا تجد أجوبتها الناجزة على أرضا لواقع، وهذا ما تدل عليه وثائق الدورة الثانية للجنة الدائمة للمسرح العربي ـ دمشق 3-5 كانون الأول 1979م( ).

 

كان جدول الأعمال الدائم: الأوضاع الراهنة للمسرح العربي، التصور المستقبلي لتطوير المسرح العربي، التأصيل لبحث العلاقة بين الوضع المسرحي الراهن والأشكال التراثية والتجارب الحديثة، علاقة المسرح بالدولة والمجتمع وبقية المؤسسات الأخرى، تبادل الخبرات العربية ودعم المسرح العربي الفلسطيني. وفي زحمة جدول الأعمال الدائم، ترتفع أيضاً جلبة النوايا الطيبة واستعجال التغيير ثم يضاف أحياناً إلى جدول الأعمال موضوع جديد مثل اتحاد المسرحيين العرب الذي مايزال مشروعاً يرجى منه الخير لحركة المسرح العربي. وفي المناقشات جميعها يؤكد المسرحيون العرب التوصيات نفسها وبالحماسة نفسها: دعم الجهود المبذولة لتأصيل المسرح العربي.

 

-2-

لعل في العودة إلى بعض توصيات «مؤتمر المسرح العربي»( ) فائدة حين نذكر على ضوء توصيات الدورة الثانية للجنة الدائمة للمسرح العربي. لقد حرص المسرحيون العرب على الاهتمام بالمسرح السياسي ودعمه ليستطيع أن يؤدي دوره الإيجابي في توعية الجماهير وتثويرها لتمارس دورها كاملاً في الدفاع عن وجودها وتراثها وخيرات وطنها أولاً، وضرورة حماية العاملين في المسرح السياسي وتشجيعهم ليتابعوا أداء رسالتهم الهامة ثانياً، وضرورة حماية المسرح السياسي من الأعمال التهويشية والخطابية المباشرة وذات القدرة على امتصاص الغضب الجماهيري بدل تحويل هذا الغضب العفوي إلى غضب واع قادر على التغيير.

 

حرص المسرحيون العرب من جهة أخرى على شخصية المسرح العربي وتنظيم تفاعله مع المؤثرات الأجنبية، ورأوا أن تأثر المسرح العربي بالتراث المسرحي العالمي ينبغي أن تحكمه ضوابط معينة بحيث لا يتعارض مع مبدأ تأصيل المسرح العربي، وبحيث لا ينعزل المسرح العربي عن التيارات المسرحية العالمية، لأن الاتصال بهذه التيارات والتجارب أمر ضروري لإلقاء الضوء على طريق التجربة العربية، شريطة أن يكون هذا الاتصال قائماً على تمثل واع وتقويم موضوعي لهذه التجارب، لا مجرد انبهار بالأشكال الجديدة ونقل لها، ورأوا أن تحقيق تأصيل المسرح العربي من شأنه أن يوفر الأسباب اللازمة لانتشاره عالمياً.

 

يحرص المسرحيون العرب بعد أكثر من ست سنوات على العناية بجمع التراث المسرحي وتصويره حفظاً له من الضياع وإعداد الخطط لنشر الصالح منه، والعناية بنشر الدراسات المؤلفة والمترجمة التي تتناول المسرح من مختلف جوانبه، وبنشر النصوص المسرحية التي تقدم على المسارح العربية تيسيراً لتبادل النصوص وتعميمها والإفادة منها، وبإنشاء حولية للمسرح العربي ومراكز للتوثيق المسرحي، وبتقديم كل عون ممكن للتعجيل في وضع تاريخ كامل موثق للمسرح العربي، وفي وضع معجم المصطلحات المسرحية.

 

ومن عاين تجربة مهرجان دمشق للفنون المسرحية يدرك جسامة المسؤولية قياساً للنوايا الطيبة في دراسة واقع المسرح العربي وآفاق تطويره، فقد شاعت على سبيل المثال نغمة المسرح السياسي في العروض والتأليف والإبداع، ثم انتهى عقد السبعينات، وقد صارت نغمة المسرح السياسي إلى خمود، بينما كرس حشد من المسرحيين العرب نقداً شديداً وواسعاً لمصطلح المسرح السياسي لصالح أسباب تأصيل المسرح العربي.

ومن عاين تجربة مهرجان دمشق للفنون المسرحية يدرك جسامة المسؤولية قياساً إلى معاناة التبادل العربي في ميادين الثقافة عموماً و مجالات النشاط المسرحي خصوصاً. وتبقى أسئلة المسرح العربي هي الأسئلة تبحث عن أجوبتها في معترك العمل المشترك. بينما تدل تجربة القطر العربي السوري على الدرب: أن تكون حركة المسرح نحو هويته العربية ونحو جمهوره في الوقت نفسه. وفي هذا تأصيل مرتجى.

 

-3-

لقد كان شعار المسرح القومي وروافده، ومايزال، هو التوجه «إلى الجماهير الواسعة المعطاءة ليعكس صوراً صادقة فعالة عن الواقع الذي تعيشه».

وتضيف وزارة الثقافة والإرشاد القومي في أدلتها للعروض والتظاهرات المسرحية:

«وعلى رجال المسرح أن يجهدوا أنفسهم كثيراً لمعرفة ما تحتاجه هذه الجماهير، ويدركوا الوظيفة الاجتماعية والسياسية للمسرح وارتباطها بالعصر الذي نعيشه وبقضايانا القومية والاشتراكية، على أن يوفروا للناس في المسرح المتعة والتسلية، والعمل على تعميق الارتباط بين المسرح وواقع الجماهير وفهم العلاقة العضوية بينهما وتلك مسؤولية الجميع من فنانين وجمهور».

 

كانت سياسات المسرح في التخطيط والتنفيذ انطلاقاً من وعي  المسرح، في تاريخه ووظيفته، ونحن إذ نؤكد في هذه المقالة على أهمية هذا الوعي في النهوض المسرحي، نذكر بعض الملاحظات من أجل تدابير أنجع ولتصحيح مسار ما غلظ من إجراءات:

 

1- معالجة الخلل الذي يصيب عمل المسرح القومي في غياب التخطيط الذي هو في جوهره إنماء قومي ووطني، مما يستتبع قلة الاستفادة من الإمكانات المتوفرة ضمن شروط الواقع القاسية.

 

2- معالجة النقص في الروافد العلمية التي تثري الحركة المسرحية بالفكر والفن، وهذا يعني، فيما يعنيه، إعادة النظر في عمل المعهد العالي للفنون المسرحية من حيث البناء والمناهج والأطر التعليمية المؤهلة وإحداث اختصاصات جديدة تلبي احتياجات الحركة الفنية المتنامية.

 

3- إحداث قنوات جديدة تضطلع بأدوار أخرى تضاف إلى مهمة المسرح القومي كتقديم عروض مسرح الجيب أو المسرح الكوميدي أو المسرح العالمي أو مسرح الأطفال ـ مسرح الكبار للصغار ـ، أما ما يسمى بالمسرح التجريبي فلا نعتقد أنه يؤدي دوراً على أي صعيد، ولعل الوقت قد حان للاعتراف بخطيئة الاستمرار في دعم مسرح لا برنامج له ولا نشاط.

4- دعم المسرح الجوال ضمن خطة تحافظ على تميزه في مراعاة اعتباراته التعليمية والفنية كي يحافظ بدوره على تقديره واستمرار فاعليته، والأهم من ذلك كي يحافظ على انتشاره وتأثيره الشعبي الكبير.

 

5- دعم التجمعات والتظاهرات المسرحية كمسرح الهواة والمسرح العمالي والمسرح الجامعي والمسرح العسكري ومسارح الشعب في المحافظات، لأنها المناخ الذي يوفر للحركة المسرحية جانباً من التأصيل وأعني به الانتشار الجماهيري.

 

6- دعم الثقافة المسرحية من خلال الإجراءات الفعالة لإدخال مادة المسرح إلى برامج التعليم ووسائل الاتصال الجماهيرية وعبر الدوريات المتخصصة. ولا بأس هنا من الإشارة إلى أهمية حوار مجلة «الحياة المسرحية» مع واقع الحركة المسرحية في سورية، وإلا تكون منبراً عريضاً لاستعراض التجارب المسرحية على سبيل الترجمة أو حشو الصفحات الكبيرة.

 

لقد قيل الكثير في التصور المستقبلي لتطوير المسرح العربي ضماناً للتأصيل الذي ينهض على أزهى ما في التراث العربي، ويستفيد من أفضل عطاءات تراث الإنسانية، ولكن هذا الكثير مما قيل في البحوث وأوراق العمل المقدمة لدورة اللجنة الدائمة للمسرح العربي، ومما قيل في المناقشات لا يخرج عن توصيات «مؤتمر المسرح العربي»، بل يؤكد مسعى القطر العربي السوري في تأصيل الحركة المسرحية منذ تأسيسها في الستينيات: البحث عن هوية للمسرح العربي والانتشار إلى أوسع قواعد الجماهير.

[جريدة «البعث» (دمشق) 21/1/1980]

 

10

«انتصار حورس» ومأزق المسرح

-1-

«انتصار حورس» هو عنوان أقدم مسرحية في العالم كما يؤكد العالم هـ. و. فيرمان. و«مأزق المسرح» هو عنوان فرعي في افتتاحية سعد الله ونوس للعدد الثالث من مجلة «الحياة المسرحية». وفي التعرض لهما إثارة لشجون الثقافة المسرحية خصوصاً والمسرح العربي عموماً، إذ ماتزال أسئلة المسرح بحاجة لأجوبة بعد ذلك الزمن الطويل من النهضة العربية ونهوض المسرح العربي. وكأننا مانزال في مرحلة التأسيس، وكأننا كلما بدأنا عملاً أو أوغلنا في مشروع أو مضينا في فعل، نطمئن أنفسنا من جديد ونقول: مازلنا في نقطة الصفر، وأننا في زمن البدايات أو تأسيس المسرح العربي.

 

صحيح، أن تاريخ المسرح العربي أشبه بحلقات تبحث عن تواصلها الثقافي والتراثي والاجتماعي حيث مايزال المسرح العربي أمام امتحانه الأول والأساسي: أن تكون له هويته وفيها تكون أيضاً وظيفته، ولكن ألا يحق لنا أن نتساءل بمرارة عن أهمية إنجاز المسرح العربي وهو يهرب في قوانين تجزئة الوطن العربي حيث ينعدم أو يكاد التواصل الفني أو الاتصال الثقافي كما تكشف عنه الحال السائدة في تباعد الأرض عن الأرض وتباعد المسرح العربي عن مثيله. فأي نهوض للمسرح وأي تقدم يقوم في ظل الاعتراف بمأزق المسرح ومأزق ثقافته أو وعيه وفي ظل الركون إلى هذا المأزق، ومأزق الوعي أخطر لأنه يمهد للتحول، أو يلازمه مرشداً ودليلاً.

 

-2-

كتب الدكتور علي الراعي مقالة عن «حدث هام في تاريخ ثقافة الإنسان» في مجلة «العربي» الكويتية (ع230 ـ كانون الثاني 1978م). والحقيقة، أن مقالته تعريف بمسرحية «انتصار حورس ـ أقدم مسرحية في العالم»، وهو جهد طيب يكشف عن ملابسات النص، ويدعو إلى إعادة دراسة تاريخ المسرح ثم يلخص المسرحية ويحلل جوانبها الفكرية والفنية ويراعي في هذا كله محتواها الميثولوجي وإطارها التاريخي.

 

لقد بدأ مقالته بإقرار الفضل:

«منذ عام 1935م وعالم المصرولوجيا الكبير، الأستاذ هـ. و. فيرمان يحاول أن يثبت أن ما نقشه الفنانون المصريون القدماء على جدران معبد أدفو من كتابة وصور هو في الواقع مسرحية قائمة بذاتها ـ أول مسرحية كاملة تقع للمكتشفين، ويتسنى لهم ترجمتها إلى لغة حية» (ص76) ثم أردف الإقرار بإيضاح جانب الفضل:

«ولقد طبع بروفيسور فيرمان النص كما تصوره، وظهرت طبعته الأولى في عام 1974م، فكان هذا التاريخ حدثاً هاماً، ليس فقط في عالم المصرولوجيا، ولكن في حقول الدراما والمسرح والتاريخ والثقافة عامة (ص77)».

 

إن المقالة بمجملها مفيدة، وأن قامت على تواتر معلومات أضحت متداولة حول المسرح المصري القديم ومسرحية «انتصار حورس» ذاتها، إلا أن كلمة الختام في المقالة تثير الأشجان، يقول الراعي:

«ترى هل يقوم أحد منا بترجمة مسرحية: «انتصار حورس» إلى العربية وعرضها ولو على سبيل التجربة الرائدة، كما فعلت كلية بادجيت الإنجليزية! يا ليت ذلك يحدث! فإننا أولى بتاريخنا وفننا من الغير!» (ص81).

 

يقول الدكتور الراعي أن فيرمان بع النص للمرة الأولى عام 1974م، ولكن الصحيح أن الدكتور عادل سلامة قد طبع ترجمة النص العربية للمرة الأولى عام 1972م في سلسلة «من المسرح العالمي» (العدد 22 ـ أيار 1972م) قبل أن تظهر ترجمته الإنجليزية التي اعتمدها الدكتور الراعي، وكان الدكتور عادل سلامة كتب للترجمة مقدمة عامة تناول فيها قضية المسرح المصري القديم أولاً، ولمحات عن النهضة الفنية في مصر القديمة ثانياً، ومعالم على طريق المسرح المصري القديم ثالثاً، وانتصار حورس رابعاً، وذكر ما يلي:

«ثم كان أن أثمرت هذه الجهود على مدى نصف قرن من الزمان، فكان أول ثمرها هو المسرحية التي نقدمها الآن كاملة ناضجة تتوافر لها كل العناصر المسرحية وهي انتصار حورس. وكان دريتون قد سبق إلى الإشارة إلى مقتطفات منها، غير أن الفضل كان للأستاذ هـ. و. فيرمان في اكتشافها  كمسرحية كاملة مترابطة المشاهد بعد دراسة وافية لأصلها الهيروغليفي منقوشاً على جدران معبد ادفو. وقد تفضل فأذن لي أن ننشر الترجمة العربية أولاً قبل ظهورها في ترجمته الإنجليزية. وبذلك يكون هذا النص الذي بين أيدينا هو أول نص مكتمل لأقدم مسرحية عرفت في التاريخ» (ص10).

 

لقد تحققت أمنية الراعي في جانبها الأساسي: أن يقوم أحد بترجمة مسرحية «انتصار حورس». وإذن، هو حال المسرح العربي أو مأزق ثقافته القابعة داخل جدران أقطاره. ونذكر هنا، أن الراعي من رجال المسرح العربي القلائل الذين كان لريادتهم دور كبير في إغناء التجربة المسرحية العربية أصالة ومعاصرة، وهنا بالذات تكمن أهمية الشاهد الذي نسوقه. إن شأن المسرح العربي مايزال حبيس التجزئة السياسية التي نمنع عنه التواصل الحقيقي، ثم لا ينفع معه بعدها خروج من هذا المأزق.

 

-2-

وتجيء افتتاحية «الحياة المسرحية» لتبني على أرض المأزق حلماً فيه «إمكانية أو إمكانيات عدة للإفلات من المأزق» (ص4). أنها افتتاحية فيها إقرار بالعلة وفيها إشارة واجفة إلى المعلول. يقول ونوس:

«مبدئياً، يمكن القول أن المسرح لم يكف، ومنذ نشأته، عن تلمس هذه الغاية. أي أن يكون الفعل، أو ما يشبه الفعل. وفي تاريخه الحافل بالانقطاع والإخفاق ثمة لحظات باهرة، استطاع المسرح فيها أن يحقق ما ينشده. في هذه اللحظات كان يتضافر دائماً شرطان أساسيان يوفران هذا النجاح. الأول هو جرأة المسرح على تحطيم أو تغيير بنيته الداخلية، والثاني هو توفر مناخ ديمقراطي حقيقي. والشرطان متلازمان لا يمكن فصل الواحد عن الآخر. أو على الأقل لا يمكن أن يبدل المسرح بنيته الراكدة والتقليدية، وأن يتحول حدثاً فاعلاً في التاريخ ـ وهذا يعني انحلال صيغة، وابتداع صيغ جديدة في العمل المسرحي ـ، إلا إذا تيسر له هامش من الديمقراطية الفعلية» (ص4).

إن تشخيص واقع المسرح يقوم بالأساس على افتقاره لتقليد يوفر له المزيد من الإنجازات، ولا يجعله مقتصراً على التاريخ الحافل بالانقطاع والإخفاق.

أنها قضية المسرح التاريخية التي ماتزال راهنة وملحة: أن يبدأ المسرح من الصغر. إنه لفي طور التأسيس.

 

إن المسرح العربي مايزال محصلة الجهود الفردية: جهود الهواة وعشاق المسرح من جهة، والجهود الرسمية في ظل غياب الروافد العلمية والتخطيط الثقافي من جهة أخرى. لقد انطلق المسرح  القومي في سورية على سبيل المثال زاهياً وأشرق في مواسم منتظمة في سنوات عدة، ومنذ فترة ليست قصيرة، يتعثر المسرح القومي ولا ينجح في تنظيم موسم: انشغال ممثليه ومخرجيه بأعمال خارج برنامجه، عجزه عن إحياء عروضه السابقة «الريبرثوار»، تأسيس أو الإعلان عن فرق جديدة تأكل من عناصره وبرنامجه دون أن تفي بالوعود المقطوعة.. الخ، ومنذ منتصف الستينيات ونحن نسمع ونشاهد فرقاً مسرحية طموحة في بياناتها وعاجزة عن تقديم عرضها الثاني أو الثالث ثم تموت الفرق المسرحية الطموحة مثل كثير من آمال نهوضا لمسرح. وكنا شهدنا عرضاً مسرحياً متألقاً لفرقة هواة تونسية زائرة، على الرغم من الملاحظات الكثيرة التي يثيرها العرض في مسائل اللغة والأسلوب والفكرة.

 

إن مأزق المسرح في مأزق وجود الأمة، وإلا تحول إلى مجرد مظهر فني لا يحفل بأجوبة المستقبل المنشودة: هوية المسرح العربي ووظيفته. ولكن، هل يخرج المسرح من مأزقه إلا على أرض ممارسته؟ وهل يموت المسرح إذا فقد شروط ممارسة تعلن بين الحين والآخر؟ نعتقد أن مجرد فعل المسرح هو ممارسة حقيقية توفر شروطها وتأخذها من قيودها باتجاه غايتها.

[جريدة «البعث» (دمشق) 9/6/1978]

 

11

«هل الدراما فن جميل؟»

ملاحظات حول طبيعة المسرح ومصطلحه

-1-

يهتم الدكتور إبراهيم حمادة بالمصطلح المسرحي، فقد توج جهوده في الثقافة المسرحية بإصدار «معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية»، ولم يقتصر شأن معاجم المصطلحات في فروع المعرفة الإنسانية على إيراد المصطلح الإنجليزي أو الفرنسي إلى جانب قرينه في اللغة العربية، بل هدف إلى إيراد الكلمة العربية المزكاة للاصطلاح ومقابلها في الإنجليزية، ثم اتبعهما بتعريف مركز جداً يحدد ـ ما أمكنه ـ الملامح الشخصية المميزة للمصطلح.

ولعل ما يميز معجم الأستاذ إبراهيم حمادة أيضاً هو استمداده من خلاصة خبرة شخصية واحتكاك مباشر بفنون المسرح ومراجعها الأصيلة كما يشير في مقدمته. والحق، أن الدكتور حمادة قد توفر على البحث الدرامي وأزجى أوقاتاً متصلة لإنتاج فكري تبدو مكتبة المسرح العربي في أمس الحاجة إليه ولا شك أن تأصيل المصطلح في أساس النهوض الثقافي. ومن يتابع كتاباته، وهو أستاذ في أكاديمية الفنون ـ المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة يلاحظ اهتمامه البالغ بلغة المسرح وإقامة حدودها بين النظر والتطبيق ومن هنا، يكتسب كتابه الأخير «هل الدراما فن جميل؟».

أهمية خاصة، لأنه يعيد طرح بعض الأسئلة التي تؤرق المسرحيين وعشاق المسرح، ثم لا يغفل عن شروط الممارسة الراهنة، وهي شروط مطبوعة بطوابع من معادلة غير ناجزة: التخلف والتقدم. إنه شأن الثقافة العربية الجديدة اليوم في سعيها لأن تكون.

 

-2-

يقسم الأستاذ حمادة كتابه إلى قسمين، الأول فقرات نظرية والثاني فقرات تطبيقية. ينطلق المؤلف في المقالات جميعها، انسجاماً مع طبيعة تأليفه كونه متابعات ومراجعات في شؤون الحياة المسرحية، من الآثار المتعمدة أو الطارئة لموضوعات هي في صلب نظرية المسرح سواء فيما يتعلق بمصادره أو بطبيعته وبخاصة لغته مما يشكل بعد ذلك إسهاماً في إضاءة بعض إشكالات الممارسة المسرحية، ويتضح من عناوين مقالاته طبيعة مشاركة المؤلف التي تمليها الخبرة حيناً أو الاستطلاع حيناً أخرى، ويغلب على هذه المشاركة أسلوب الإحاطة الموجزة لتناسب القارئالعادي إخلاصاً لأهداف إشاعة الثقافة المسرحية.

تضع المقالات لنفسها من جهة أخرى حدود الفكرة الخاطفة لا مداخلة المعضلة أو مشاكلتها تمحيصاً أو تفصيلاً إلا أن حرية المنهج الموضوعي في النقد أتاحت للمؤلف دقة في العرض واستخلاص النتائج بصورة مرضية تقرب موضوعات الكتابة من أوسع جماهير القراء، ولا تبعدها عن القارئ المتخصص، فهي أفكار حول قضية المسرح من منظور الامتلاء بحاجات فن جماهيري مايزال عصياً على النمو والاستقلال.

 

-3-

تلح على المؤلف فكرة المسرح من حيث هي شيء صالح للتمثيل أو التجسيد على الخشبة، لذا كان سؤاله أساساً: هل الدراما فن جميل وليس المسرحية، للتفريق بين النص الحي المجسد فوق خشبة المسرح وكون هذا النص مجرد كلام صامت مسطور على صفحات. وإذا جاوزنا كلمة «دراما». فإن إجابة المؤلف مرتبطة بهذا التفريق، فالمسرح أو الدراما فن جميل يضاف إلى الفنون الجميلة الأخرى، لأن الدراما أشبه بتركيبة كيماوية لها قوانينها ومواصفاتها الخاصة، وهذه التركيبة تستمد عناصرها الأولية من بعض الفنون الأخرى كالشعر والرقص والموسيقى والتصوير والنحت، إلا أن تلك الفنون لا تعيش في داخلها كوحدات متكاملة مستقلة، وإنما تتذاوب كجزئيات بعد أن تتخلى عن خصائصها الفردية البحتة في سبيل إيجاد فن جديد له معالمه الخاصة، وهو الدراما «ذلك الفن السابع الذي يشترك مع غيره من الفنون الأخرى في إبراز تصور ما، أو استثارة عاطفة أو تأكيد تجربة».

وحين يناقش أسس الخلق الدرامي عند أرسطو يرى الدراما شيئاً مصنوعاً، فهي نتاج معمول قام بصناعته صانع. وقد افترض أرسطو وجود أربعة مسببات أو علل تتضافر في تكوين أي نتاج مصنوع على النحو الذي بيناه وهي:

1- علة مادية.

2- علة شكلية أو صورية.

3- علة فاعلة أو محركة.

4- غلة غائية.

ويشعر الكاتب المتمكن من سيطرته على أدوات تأليف، أثناء عملية الخلق بإحساسيين شبه متناقضين هما: اللذة الناشئة من مراحل الإبداع والخوف من أن مسؤولية ما ينتجه تقع على عاتقه وحده ومع أنه يشعر بتلك اللذة الجمالية أثناء ممارسته لمراحل الخلق الفني، إلا أن هذا العور أو التمرس ليس غاية في حد ذاته، وإنما الغاية هي إنتاج «نص درامي» لخشبة المسرح. وعلى هذا، كان على الكاتب أن يشغل فكره بالأسس والضوابط التي تمكنه من صناعة النص المسرحي وهي ما تسمى بعناصر التأليف وحرفيته.

 

يلاحظ المؤلف في «المدخل إلى تاريخ المسرح العربي» أن «التراث الأدبي والفكري والفني في الوطن العربي ما زال يفتقر إلى اهتمام البحث الأكاديمي ومداخله الحديثة. ويتضاعف الاهتمام في حال المسرح باعتباره فناً وافداً برمته» كما يرى، وهذا الفن مرهون بأسباب ممارسته منذ بداية النهوض القومي حيث اتخذ صورة الترجمة أو اقتباس إلى التقليد، ثم يضيف:

«حتى ليمكن القول بأن الدراما العربية نشأت وترعرعت حول سيقان الدراما الأوروبية ولكن في تراب اللغة العربية».

 

يؤكد لدى مناقشته لرؤية الكاتب المسرحي أن الخبرة المسرحية هي الخشبة بالدرجة الأولى، وقبل أن يستغرق الكاتب المسرحي في عملية إبداع عمل درامي لابد أن يكون قد اكتشف معالم موضوعه، وتوصل إلى خطوات تجسيده، ثم تأكد من أن تلك المعالم والخطوات تتغذى من أشعة رؤيته الخاصة.

 

يلاحظ المؤلف في الإجابة على سؤال: لماذا يبدأ تاريخ الدراما الحديثة بابسن؟ أن ابسن كان يدرك أنه فنان مسرحي إلا أن المسرحية بالنسبة إليه كانت تعني في المحل الأول وسيلة لدراسة الناس وعلاقاتهم، بينما تأتي أهمية الشكل في المركز التالي، «أن الدراما، في نظره، هي عرض فني للحياة الواقعية التي يمكن تفتيتها إلى أجزاء منفصلة من الأفكار والأعمال والعواطف والصفات ولكنها خليط متكامل من كل تلك العناصر».

 

وهذه المناقشات تقود المؤلف إلى المغالاة في إطلاق بعض الأحكام دون تمحيص كاف كما هو الحال في نقد علاقة النقد بالمسرح أو في علاقة المخرج بالمؤلف أو في عجز معظم نصوص المسرح العربي عن استثارة عوالمنا الداخلية، وهناك بعض الملاحظات حول دقة المصطلح، ونكتفي في هذه المراجعة بما جاء في مناقشته لمصطلح المسرح السياسي كما يظهر في كتاب الدكتور عبد العزيز حمودة «المسرح السياسي» أن الأستاذ حمادة يوافق ضمناً على المصطلح، ويغرق مع الدكتور حمودة بين طبيعة المسرح السياسي وما يسميه بالمسرح ذي الإسقاطات السياسية، وذلك لأن الكثيرين من المشتغلين بالفنون الدرامية في مصر لا يميزون بين خصائص كل من المسرحيين، فالمسرح السياسي يسعى إلى التبشير بأيديولوجيا معينة، وبطريقة مباشرة وواضحة، ولكي يهز وجدان الناس يناقش القضايا العامة كما ترد في شكل الوقائع الإخبارية والوثائقية كما هو الحال في مسرحية بيتر فايس المعروفة «أنشودة غول لويزيتانيا».

 

بينما جرى الاصطلاح على أن مثل هذا المسرح تسجيلي أو وثائقي. ومن اللافت للنظر، أن الدكتور حمادة لا يعترف بمصطلح «المسرح السياسي» في معجمه، ويكتفي بتعريف للمسرحية الدعاوية ومسرحية الدعوة مما تكون لصالح فكرة سياسية أو من دراما الأفكار عموماً. وهذه الملاحظات لا تقلل من أهمية هذه المقالات في الدفاع عن طبيعة المسرح من جهة وفي تدقيق مصطلحه من جهة أخرى.

[جريدة «البعث» (دمشق) 21/6/1979]

 

12

«الملهاة السّوداء»

واختلاط المفاهيم المسرحية

-1-

يبدو الحديث ملماً عن اختلاط المفاهيم المسرحية لشيوع هذه الظاهرة، والحديث ذو شجون، فهناك خلاف في المصطلح وخلاف في تاريخه خلاف في تمثله، والخلاف له تأثيره على الثقافة المسرحية التي تعاني ما تعانيه على الرغم من مظاهر العافية الملحوظة في توافر المطبوعات وتعدد الدوريات والمنابر مما يجعل الثقافة المسرحية في عون دائم إلى رعاية عناصرها الدؤوبة، وفي مقدمتها العنصر البشري في سعيه لتأصيل الظاهرة المسرحية في نبت منقطع عن جذوره، متعطش لأول شروط النمو: تضافر الجهد وتمكن الإرادة إلى ما يضمن تحقيق الهدف.

 

ولقد بدأت منذ زمن تجربة المسارح الوطنية والقومية في الوطن العربي وأعطت بعض ثمارها المرجوة، ولكنها ما لبثت أن تقهقرت في ظل غياب التخطيط الثقافي باعتبار المسرح أحد أبرز أساليب التأثير في الجماهير، وباعتباره جهازاً ثقافياً للإرشاد القومي، وهذه نقطة تحتاج لمناقشة. المهم، أن الحديث عن اختلاط المفاهيم المسرحية يؤكد سيادة الجهد الضائع في تحديد مفاهيم لا شك في تأثيرها على وضع الحركة المسرحية لارتباطها الوثيق بتطوير الممارسة. إن المتتبع لأدبيات الحركة المسرحية سيلاحظ أنماطاً متعددة من سيطرة التعبير السياسي المباشر على مكنونات العمل المسرحي، وكأنه فعل سياسي فحسب، حتى تحولت أحاديث المسرحيين وتصريحاتهم إلى تعليقات أو تعقيبات سياسية تصبح معها مشكلات الظاهرة المسرحية ترجيعاً آنياً لا يستدعي المعالجة على أساس من الفكر والفن، بل يردف القول على القول، ويكتفي بسلامة المنطق. وهكذا يعفي المسرحيون أنفسهم من الممارسة مجانبين حلول الحركة المسرحية إلى مباشرة شرطها الوظيفي: مهمة المسرح. وفي الإخلال بمعادلة الفن المسرحي ومهمته نفي لمهام أخرى تبدو الأساس في تلقي الظاهرة المسرحية تثقيفياً وتربوياً وفنياً لصالح التعبير السياسي وحده. بينما يستعصي على المنتج أو المتلقي التفاعل مع المسرح دون معاينة مفاهيمه في ضوء ممارستها، لأن النفاذ إلى جوهرها لا يتأتى في حال مناقشتها بعيداً عن بنيانها الداخلي وحال واقعها. أن مفاهيم كثيرة قد جرى استخدامها في مواضع متعددة لدلالات مختلفة في أدبيات الحركة المسرحية، وكرست لها أحياناً مقالات وندوات دون أن تسهم في تحديد مصطلحات وتثميرها بالتالي لتطوير الفعل المسرحي، استسلاماً للغة التعميم واندفاعته في التحوير السياسي مما يؤثر تأثيراً سلبياً على طبيعة المسرح.

 

-2-

إن الساحة المسرحية قد خلت إلا من الجهود غير الناجزة لدعم الظاهرة المسرحية من جهة، ومن جهود تبحث عن معنى الظاهرة المسرحية في دلالتها السياسية المباشرة من جهة أخرى، وهذه الجهود الفردية أو الضعيفة تغدو معها الظاهرة المسرحية أسيرة الانقطاع والإخفاق، مما يقلل من أهمية المفهوم المسرحي خصوصاً والوعي المسرحي لتجربة فنية ثقافية عموماً. و قد كنا نأمل أن يلقى صدور مطبوعات هامة مكانته في إطار الجهود المثمرة لإغناء الحركة المسرحية مثل: «حول التقاليد المسرحية» و«التكامل الفني في العرض المسرحي» و«سوسولوجية المسرح» و«الملهاة السوداء ـ تطور المأساة الملهاوية الحديثة»، وهي جميعها لأساتذة وفنانين مشهود بجدارتهم، ظهرت ضمن منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي خلال عامي1975-1976. ولكن هذه الكتب الهامة أهملت إهمالاً تاماً على إلحاح الموضوعات التي تناقشها. وسأخص بالذكر هنا الكتاب الأخير الذي ألفه ج. ل. ستيان وترجمه منير صلاحي الأصبحي مثالاً.

 

-3-

ظهر كتاب «الملهاة السوداء»، في منتصف عام 1976م، (522 ص ـ قطع كبير)، وكانت ظهرت طبعته الإنجليزية الثانية ضمن منشورات جامعة كامبردج عام 1968م.

يقسم ستيان كتابه إلى خمسة فصول يتتبع فيها هذا الشكل المسرحي منذ يوربيدس اليوناني مروراً بمسرحيات الأسرار في العصور الوسطى ومارلو وشكسبير وموليير إلى طلائع الطبيعيين ورواد المسرح الحديث. ويحفل الكتاب بتحليل لفصول من مسرحيات لها دورها في توضيح هذا الشكل المسرحي مثل: «بستان الكرز» لتشيكوف و«هنري الرابع» لبيراندللو، و«الأم شجاعة» لبريخت، و«أرديل» و«كولومب» لجان آنوي، و«في انتظار غودو» لبيكيت. ثم ينتهي إلى الفصل الأخير فيدرس خصائص الملهاة السوداء بعيداً عن مجرد الضحك والدموع أو المعنى المأساوي أو مظاهر الحالات الأشد في وراثة المعنى المأساوي كالطباق والهستيريا. ويلاحظ ستيان أن أبرز هذه الخصائص هي إشراك المشاهدين والسخرية الضابطة والبطل المثير للضحك والرثاء والنغمة السوداء وغلبة النزعة الوعظية واليأس. يقول المؤلف:

«إن مسرحية المسرح الحديث هي مسرحية صادقة ووعظية، لأنها مسرحية خيبة أمل وأحياناً مسرحية يأس. وكتابنا ـ مثل الكتاب الإليزابيتين ـ يعبرون جميعاً عن افتتان بالرعب، ومزيج الضحك والدموع الذي قامت هذه المقالة ببحثه هو بوضوح نوع اللفتة التي تتضمن النقائض والموجهة إلى ما يثير الاشمئزاز العميق. ومع ذلك، فإن خليط الأسى والارتباط والشفة والهزؤ، وأن كان مبهراً وقلما يكون مملاً، هو في النهاية خليط كئيب وإحباطي. وهو يبين تبدد الوهم، وقلما يحرض على القيام بعمل ما. لذا فمن الممكن له بسهولة معقولة أن يصبح مريحاً ومنهمكاً بالشعور بالرثاء لنفسه ومريضاً» (ص514-515).

 

إنه كتاب جديد بالإضافة إلى اتساعه وشموله في تقصي مفهوم الملهاة السوداء في تاريخ المسرح. ولعل في إحاطة المؤلف بعناصر العمل المسرحي وخصوصاً الكاتب المسرحي والجمهور ما يضيف أهمية إلى بحث شكل مسرحي يناسب التقاليد الثقافية حولنا، وفي البلاغة العربية مقاييس تدل دلالة بالغة على تمكن العقل العربي من احتواء النقائض لارتباطها بحاجات جمهورها كالجناس والطباق وافتراق القاموس اللفظي عن القاموس المجازي.

 

يقول المؤلف:

«لقد تحققت في عصرنا إلى حد كبير نبوءة عابرة صدرت عن هازلت في عام 1817م أن «تطور التصرفات والمعرفة له تأثير على المسرح، وقد يدمر الزمن المأساة والملهاة معاً». وتعادل صعوبة تقدير أسباب هذا صعوبة قياس «التصرفات والمعرفة»، ومزاج القرن العشرين مزاج متقلب بشكل خاص. ولكن ليس هناك شكل فني ذو علاقة مباشرة بأفكار ومشاعر جمهوره، ويحبس نبض هذا الجمهور، مثل المسرحية، وبشكل خاص تعكس الملهاة السوداء ـ مسرحية العقل المنقسم، بدوافعها المتشائمة ظاهرياً ـ مزاج العصر» (ص503).

 

-4-

دعاني إلى الحديث عن هذا الكتاب كونه تعبيراً ساطعاً عن اختلاط المفهوم المسرحي على الرغم من توافر الجهد الثقافي لإغناء الحركة المسرحية خطوات إلى الأمام، وكونه شاهداً أيضاً على مأزق ثقافة المسرح العربي داخل جدران أقطاره، أو داخل جدران الإهمال، وهي كلها حالات سواء في تشخيص مأزق المسرح العربي. فقد كتب نعمان عاشور، الكاتب المسرحي المعروف مقالة بعنوان «الكوميديا الداكنة ـ دراما العصر الحديث» في مجلة «الدوحة» القطرية (العدد 23 ـ السنة الثانية ـ نوفمبر 1977م) أي بعد أكثر من سنة من صدور ترجمته العربية بدمشق. يقول نعمان عاشور:

«ولقد صدر أخيراً كتاب جديد بعنوان «الكوميديا الداكنة» يشرح ويفسر تطور التراجيكوميديا في تكوين المسرح الحديث. وصاحب الكتاب.. ناقد أكاديمي هو «جيمس ستين» أستاذ الدراما في جامعة كامبردج.. جمع فيه بين دراساته النظرية وتجاربه الواقعية كمشاهد عرك المسرح المعاصر.. وهو يهدي كتابه إلى رواد المسرح لعله يفسر به الظاهرة التي غلبت على ما يشاهدونه ليلة بعد أخرى من عروض مسرحية مختلفة، طابعها المميز.. المزج بين العنصرين الرئيسيين للدراما.. عنصر التراجيديا.. وعنصر الكوميديا» (ص28).

 

وهذا يعني أن نعمان عاشور لا يدري شيئاً عن ترجمة الكتاب العربية، وجدير بالذكر أن تعرضه للكتاب كان بمثابة شهادة عن قضية «من قضايا المسرح» حسب العنوان دليلاً على أهمية الكتاب فمن «الظواهر البارزة في المسرح المعاصر أنه أصبح يحتضن الكثير من الاتجاهات الفنية المتعارضة».

ويلفت للنظر، أن محرر الصفحة الأخيرة في صحيفة محلية قد نقل تلخيصاً لعرض نعمان عاشور لكتاب «الملهاة السوداء» من مجلة «الدوحة» في الشهر نفسه، وكأنه أيضاً لا يدري شيئاً عن ترجمة وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق لهذا الكتاب قبل أكثر من عام من كتابة نعمان عاشور عنه.

[جريدة «البعث» (دمشق) 16/9/1978]

 

13

المسرح العربي وقضية الحرية

لقد أصبحت ملتقيات الإبداع العربي الأدبي والفني ظاهرة ثقافية وقومية؛ وهذا ما بدا جلياً في الملتقى الثاني الذي عقد بطرابلس (ليبيا) فيما بين 4 و9/ 11/ 1989م، وأتيح لي أن أحضره مشاركاً وباحثاً. ولقد آثرت العودة إلى أبحاث الملتقى ومناقشاته ابتعاداً عن التغطية الإعلامية وكتابة المناسبات؛ فقد كان هذا الملتقى غنياً وعميقاً في تصديه لقضية الحرية والإبداع العربي وفي أسلوبه وتنظيمه، فهو يجمع بين المبدعين العرب في الأجناس الأدبية والفنية كافة، ومن مختلف الأقطار العربية. وأكتفي في هذه المقالة الموجزة بعرض جلسة المسرح العربي وقضية الحرية والتعليق عليها.

 

استندت الآراء إلى بحث نهاد صليحة (مصر)، وهي أستاذة جامعية متخصصة في النقد المسرحي، ولها مترجمات عديدة عن اللغة الإنكليزية، وكتب مؤلفة نذكر منها: «أضواء على المسرح الإنجليزي» و«المدارس المسرحية». وقد حمل بحثها عنواناً صريحاً مجرداً ومباشراً هو «الحرية والمسرح»، وطبع على أكثر من أربعين صفحة من القطع الكبير، وقدمت له بشهادات أو شواهد، إن صح التعبير، من مسرحيات عربية عالجت الحرية. ولعل استخراج مخطط البحث من متنه يشي بمحتواه وطريقته:

1- مدخل: مفهوم الحرية:

1-1- «الحالة» الذاتية و«الفعل» الجماعي.

1-2- الفعل المسرحي فعل تحرري.

2- مفهوم الظاهرة المسرحية:

2-1- مفهوم الإبداع.

2-2- مفهوم حرية المسرح.

3- حرية المسرح واستراتيجيات القمع:

3-1- نظرة عامة إلى استراتيجيات القمع.

3-2- أمثلة من تاريخ المسرح الغربي.

4- المسرح العربي بين الحرية وبنية التخلف:

4-1- مؤثرات رجعية خارجية وداخلية.

4-2- بنية التخلف وأثرها على المسرح.

4-3- أثر خلخلة بنية التخلف على صورة المرأة في المسرح العربي.

5- مستقبل الحرية في المسرح العربي: المأزق والحل:

5-1- المأزق الثقافي.

5-2- المأزق الاقتصادي (مسرح الدولة ـ مسرح القطاع الخاص أو الفرق التجارية).

5-3- المأزق الفني.

5-4- الاحتفالية: حرية وحل.

افتتحت صليحة بحثها بعبارة متواترة في أبحاث الإبداع والحرية مفادها «أن أي حديث عن المسرح عامة، وعن المسرح العربي خاصة لهو في حقيقة الأمر حديث عن الحرية».

 

ثم التمست لتعريف الحرية مفاهيم برجسونية ومثالية وماركسية وشكلانية، وتوقفت ملياً عند تعريف باختين للأدب كنشاط يلعب دوراً هاماً في تفكيك الأيديولوجية السائدة وخلخلتها. وكان استخدام باختين للتعبير عن هذه الفكرة استعارة «الكرنفال» الشعبي التي استمدها من احتفال موسمي روماني قديم، وكان يعني بها تلك المواقف التي تنهار فيها بنية الفوارق المراتبية المعتادة التي تنظم التدرج الاجتماعي الهرمي، كما تنظم قواعد الخطاب والحوار الاجتماعي، أي تلك الفترة التي تأخذ فيها القواعد المنظمة لعلاقات البشر في المجتمع عطلة مؤقتة يمارس الناس فيها حريتهم ويتبادلون الأدوار ويجربون واقعاً بديلاً.

 

انتقلت صليحة من هذا التعريف، إلى فكرة المسرح الاحتفالي وتطبيقاتها سبيلاً لممارسة الحرية، إذ يقترب مفهوم الكرنفال الذي طرحه باختين من الفكرة المحورية في تيار المسرح الاحتفالي الذي بدأ ينتشر في المسرح العربي بداية من الستينات في مصر ولبنان وسورية والعراق وتونس والجزائر والمغرب، والذي ظهر تحت أسماء عدة. بينما كانت عروضه تتحرك في سياق واحد وتهتدي بالأفكار التالية:

1- المسرح قوة تنوير وتثوير للجماعة.

2- على المسرح أن يصل إلى جمهوره الحقيقي من عامة الشعب فهم أحوج الناس إلى عملية تثوير بنية التخلف.

3- على المسرح أن يذهب إلى الناس ولا ينتظر أن يأتوا إليه.

4- على المسرح أن يتحرر من القوالب الجامدة، ويضرب في جذور تربته الاجتماعية بحثاً عن أشكال الفرجة الشعبية وتطويرها مع الاستفادة من التجارب الثورية في المسرح الأوروبي.

5- على المسرح أن يغير معماره السلطوي وتقاليد التلقي القائمة على الطاعة والامتثال، وأن يشجع المشاركة.

6- على المسرح أن يتخفف من أعباء الديكور وغيره من المهمات المسرحية التي تكلف مالاً لا قبل لهذا المسرح الفقير بتوفيره، وتعوق الحركة المسرحية والانتقال.

7- كما يتبنى هذا المسرح مشاركة الجمهور في تحقيق العرض مشاركة إيجابية، فهو يتبنى أيضاً، ويشجع أسلوب التأليف الجماعي كلما أمكن.

ولاحظت صليحة أن منظرين من الكتاب والنقاد العرب قد قاموا بالتنظير للتيار الاحتفالي، وعلى رأسهم عبد الكريم برشيد (المغرب) وعز الدين المدني (تونس) وعبد الرحمن بن زيدان (المغرب). ويمثل كتاب برشيد «حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي» التعبير الأكمل لتاريخه ومبادئه وطموحاته حتى عد بيان الاحتفالية. وهكذا، تركز البحث وتعقيباته ومداخلاته ومناقشاته على الجوانب التالية:

1- البحث في مفهوم الإبداع وحريته، ومفهوم الظاهرة المسرحية من خلال المشاركة وليس التلقي.

2- تلمس مؤيدات في النظرية والتطبيق عن مسرح المشاركة.

3- تعميم فهم فكرة المسرح على أنها مشاركة في معالجة قضية الحرية.

 

والنتيجة هي تأمل الباحثة في نصوص باشرت خطابها السياسي حول الحرية من جهة، وفي نصوص زعمت المشاركة، بينما المسرح نص وعرض، أو هو عرض مسرحي قبل كلّ شيء. والنتيجة أيضاً هي إغفال غالبية النصوص والعروض المسرحية التي انطلقت، وتنطلق، من مبدأ التلقي. وغني عن القول، إن واقع التجربة المسرحية العربية لا يدعم مسرح الفرجة أو مسرح المشاركة للتطور الاجتماعي وتغير حال الجمهور حتى في الأرياف، وللتصنع الزائف في العروض التي زعمت مثل مشاركة الجمهور حين ينشر موقعو العروض ممثلين بين الجمهور على أنهم جمهور.

 

والنتيجة الثالثة، بناء على ما تقدم، كما رأت صليحة، هي أن الشباب ومسرح الجماعة الاحتفالي المتحرر هو أمل المستقبل، أي رفض المسرح الرسمي كلّه، ومثله مسرح الدولة والمسارح الوطنية والقومية، ومثله رفض النصوص المسرحية التي لا تستجيب لمغامرات هؤلاء الشباب التجريبية التي تباشر أطروحات الحرية والسياسة في مسرح المشاركة.

 

لا شك في أن مسرح المشاركة، وهو كامن في الاحتفالات الشعبية (رافق أنماطاً من الفرجة الجماهيرية) قد انحسر حتى في أرض بيئاته الريفية مع تغير أنماط العيش وتبدل وسائل الاتصال، فلم تعد هناك فنون شعبية نقية. ولا يعني كلامي في هذا المجال أن نتخلى عن الاحتفالية في المسرح، ولكننا نرهن استفادتنا منها بحاجات الاتصال الحديثة وتجذير الهوية بالاستفادة من عناصر التأصيل وتعميق الوعي بالتاريخ والذات، وكنت ناقشت مثل هذه المسائل في أبحاث كثيرة سابقة، ولا مجال للاستفاضة.

أشاد رئيس الجلسة، سعد أردش، بالباحثة ودعا المعقبين وهما يسري الجندي (مصر) وعبد الكريم برشيد (المغرب) إلى إبداء الرأي، وقد اتفق المعقبان مع الباحثة على جماهيرية المسرح وحرية الاحتفالية وحلها، فالأول مدير المسرح في الثقافة الجماهيرية، وقد وضعت الباحثة أملها في التجارب الشبابية الأخيرة في مجال المسرح في مصر وأكثرها يدور تحت مظلة الثقافة الجماهيرية، والثاني صاحب بيان الاحتفالية، ووجدت فيها الحلّ للخروج من المأزق. وكنت أتمنى، لتنوع الخبرات والآراء والتجارب، لو كان المعقبات ممن ينتمون إلى ممارسة مسرحية أخرى، وممن يؤمنون بفهم مختلف لفكرة المسرح، فقد كان الضجيج هو السائد، ضجيج التنظير الذي يجانب المشهد المسرحي العربي بقليل أو كثير، فليس تأصيل المسرح العربي مرهوناً كلّه بمسرح المشاركة، بل أن واقع المسرح العربي اليوم يجافى قليلاً أو كثيراً أوهام المشاركة المسرحية. وعلينا هنا أن نشير، احترازاً، أن مسرحيات برشيد نفسه، لدى عرضها، تبتعد عن مثل هذه الأوهام تماماً. والمعضلة هي ذلك التجريب الذي يتجرأ على التقاليد المسرحية باسم مشاركة مزعومة.

 

لقد وافق الجندي على البحث، واستمتع به، ولكنه اختلف مع الباحثة في المنهج، فكيف يتفق عندها برجسون مع التفسير المادي الجدلي، وعادت إلى هذا الرأي فريدة النقاش مطولاً في المناقشة.

 

أما مداخلات ومناقشات فاتح المدرس (سورية) ومصطفى القباج (المغرب) والحبيب بيده (المغرب) فلم تتعرض لصلب البحث، بل وجدته سبيلاً للشكوى وطرح الأسئلة. جاهز المدرس بالشكوى وقال: «كان التنظير رائعاً حسب العادة. نكون في هذه اللقاءات أساتذة على بعضنا البعض. نعرف هذه التنظيرات غالباًن ولكن ما قيمتها؟ يعتبرون الجمهور جهلة ويريدون تثقيفه بشكل مباشر، ويحولون المسرح إلى دروس، بينما الشعب في منتهى الذكاء.. الخ».

ومن الأسئلة المطروحة على هامش البحث: موقف الكاتب والمسرحي ومدى تحرره من سلطة الثقافة السائدة، الارتباك بين النظرة المثالية والنظرة المادية، أهمية أن ينفتح المسرح على الذات والوعي بها، ضرورة التحليل التاريخي للظاهرة المسرحية العربية، غياب الإبداع المسرحي هو المرض، تحديد الأسس الاجتماعية التي تتيح خلقاً إبداعياً مسرحياً... الخ.

 

إنّ هذه الأسئلة وأمثالها تسهم في إضاءة شؤون المسرح العربي وقضية الحرية، أما الباحثة نهاد صليحة، بما عرف عنها من التواضع الجم وصدق العلم، فقد تجنبت الخوض في الردود والتعقيبات، لأن ما عرضته «لم يكن ـ برأيها ـ محاولة للتنظير. كان جدلاً مع النفس والقراءات على مدى عقود من عمري. عندما يواجه المرء الحقائق المرّة فلابدّ أن يظهر ذلك في بحثه».

 

هل أضاء الملتقى الثاني للإبداع العربي الأدبي والفني جوانب المسرح العربي وقضية الحرية؟ لعل الأسئلة التي أثيرت بهذا الصدد غنية وعميقة في تلمس جوانب مختلفة من هذا الموضوع الشائك والخطير.

[جريدة «الثورة» (دمشق) 1989]

 

14

أسئلة المسرح الغنائي

1ـ المسرح الغنائي وفكرة المسرح:

عُرف المسرح أول مرة عند المصريين القدماء والهنود واليونانيين طقساً حركياً موقعاً بالترخيص والتنغيم، فالمسرح طقس وشعيرة لمحاكاة الطبيعة بفعل فني لا يقال بالكلمات وحدها، بل بالقليل من الكلمات في فضاء ترميزي للفعل الإنساني، ولا ننسى في هذا المقام أن «الدراما» معناه «الفعل» باليونانية. ويستعان بالرقص والغناء، فحفل المسرح بالترانيم والأناشيد والأغاني تشوفاً للإلهة أو أنصاف الآلهة، ثم صار الترقيص والتنغيم للأبطال والأنبياء والبشر. ولو اطلعنا على بعض نصوص المسرح المصري القديم مثل «انتصار حور على أفراس النهر»، والمؤلفة من 990 كلمة هي شعر يغنى في طقس، «تؤنسن» فيه الكائنات جميعاً، كأن تظهر إحدى الآلهات وتقدم لحور حربة سحرية أرسلها له أونوريس الآله المحارب:

«الحرية: أنا: نعم أنا سيدة الحراب.

أنا اليافعة. وسيدة الحراب المدوية

التي تنطلق على الشطآن،

والتي تلمع في أثر الفريسة،

وتخترق جلدها وتحطم أضلاعها

وتنفذ أسنانها في جسدها.

لا تنسني ليلة الفيضان

ساعة الجدبة» (المسرح المصري القديم ص157).

وما يزال المسرح الهندي الذي يعدّ أعرق المسارح في العالم متميزاً بأمر جوهري هو العلاقة الوثيقة للمسرح بالرقص والغناء. وثمة إلى اليوم ممثلون متجولون يعرضون على الناس قصصاً دينية مستقاة من «الرامايانا» و«المهابهارتا» ملحمتي الهند الكبريين، ويترنمون بأهازيج تروي حبّ رادا وكريشنا في الأعياد والاحتفالات، وفي مهرجانات المعابد. (المسرح في الشرق ـ ص38).

 

2ـ الظواهر المسرحية العربية مغناة غالباً:

طلعت الظواهر المسرحية العربية من قلب المأثور الشعبي، الاجتماعي والثقافي حيث أنماط الحياة، وأنماط التعبير عنها. وقد تبدت الظواهر المسرحية جلية في مفهوم «تمثيل الحياة»، توكيداً على مقاربة الفعل على خشبة المسرح للفعل في معمعان الحياة. وروى محمد يوسف نجم في بحثه «صورة التمثيل في الحضارة العربية» عن دلالة العروض المشبعة بالغناء مثل الميوماس والكرج والسماجات وسواها، وهي التي آلت إلى التطور اللاحق في صنعة المكدين والقصاص والطرفاء والهزليين. (التأسيس ص11).

 

وما يسمى بالشعار من هؤلاء النظامين لمجرد التسلية بالاستعراض الإنشادي أو الغنائي نظماً أو حفظاً للشعر. وثمة حكايات كثيرة في «الديارات» للشابشتي على سبيل المثال عن فناني المخايلة ممن يظهرون صور سواهم، أي تمثيلها أمام الناس، سخرية أو وغطاً تهكمياً، وهي ترافق عادة بأغانٍ هزلية (المسرح العربي بين النقل والتاصيل ص14).

 

ولعل مرد انبثاق الظواهر المسرحية العربية وقد لازمها الغناء هو شعبيتها، من خلال الحكواتية والمخبطين والسلالة العرائسية بما يجعل من مقاربة الواقع أمراً ميسوراً، فالمسرح ينهض على العناصر الأساسية للوجود الإنساني نفسه، فالعسكريون مثلاً يقولون مسرح العمليات، والسياسيون قد يقولون مسرح للسياسة الداخلية أو الخارجية، وهكذا حتى نصل إلى من يقول «الدنيا مسرح كبير» (شعبية المسرح ص125).

وما «المسرحة» بعد ذلك إلا انغمار الكلمات بالطقس، وأساسه شعبي، لأن الموروث الشعبي لغة وأدب وموسيقى ورقص وألعاب وأساطير ومعتقدات دينية وعادات وحرف شعبية وعمارة وفنون أخرى.

 

3ـ  التصاق الارتجال بالغناء:

قام الارتجال، ولاسيما جانبها الملهاوي الساخر، على فنان متعدد المواهب كالرقص أو الحركة والغناء بالدرجة الأولى. ولعلنا نتذكر وداع فنان لأحد أبرز فناني الارتجال والملهاة، أقصد علي الكسار، حين نظم فيه النشيد أو الأغنية التالية:

«تعيش ونشوفك وأنت جي

يابو علي ونشوفك فوق

طول يا بو علوه ما أنت حي.

تقول بنفسك يحيا الجوق» (بربري مص الوحيد ص138).

وقد روى علي الراعي مسيرة مسرح الارتجال وفنون الملهاة في كتابيه «الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري» (1968)، و«فنون الكوميديا من خيل الظل إلى نجيب الريحاني» (1971). ولم يغفل مؤرخو المسرح عن تثمين فنون التمثيل الدارجة المعمومة بالغناء الحركي.

ولا يخفى أن نجاح الفرق المسرحية الرائدة في مطال القرن العشرين يعود إلى إدراك المسرحيين الرواد إلى تأثير الفرق المسرحية الغنائية الشامية في اجتذاب الجمهور، فجوقة يوسف الخياط كانت ضمت إليها الشيخ سلامة حجازي، وعمل معها في تياترو زيزينيا بالاسكندرية ومسرح الأوبرا في القاهرة. وكان الشيخ سلامة حجازي يقدم وصلة غنائية بين فصول وروايات يوسف الخياط، وكذلك كان لصوته أكبر تأثير في جذب الجمهور لمشاهدة فرقة القرداحي وفرقة اسكندر فرح التي عمل معها 15 عاماً تقريباً (المسرح العربي ـ رشدي صالح  ص62ـ63).

وذكر نجيب الريحاني في مذكراته أن النجاح حالفهم عندما لجأوا إلى المسرح الاستعراضي، فقد صمم أثر مشاهدته لاستعراض أن يعمل «رواية استعراضية على شرط أن يكون العنصر المصري فيها غالباً على الأفرنجي، وأطلعت زميلي الأستاذ أمين صدقي على هذه النية. وفي الحال وضعنا هيكل رواية «حمار وحلاوة»، وبدأ الأستاذ أمين يضع أناشيدها على أوزان موسيقية مطروقة، بينما جعلت كل همي في ترتيب المناظر، وتوضيب الستائر وإمداد الفرقة بما ينقصها من عناصر الرقص والإنشاء» (مذكرات نجيب الريحاني ص94).

ولا نفعل في هذا المقام عن «المونولوغ» الافتتاحي، الذي يحظى بالنجاح الوفير، وتستعيد الجماهير الغفيرة الكثير من أبياته، مثل:

 

هنيئاً مرئياً فافرحوا وتنعموا

           

            أولو الحزم سواس الممالك أنتم

 

إلى أن يقول المغني ناقداً:

ولولا فساد في الطباع عرفته

           

            لما عزّ إصلاح علي من يقدم

 

ولكن إذا ضاعت فضائل أمة

           

            فليس لها واقٍ من الموت يعصم

 

أي أن الغناء في هذا المفتتح المسرحي ليس للتسلية أو الترويح فحسب، بل سبيل للنقد السياسي والاجتماعي اللماح (خمسون عاماً في خدمة المسرح جـ1 ـ ص16).

 

4ـ رواد المسرح العربي مسرحيون غنائيون:

بدأت الريادة المسرحية من تثمير طاقة الغناء المسرحي، وهذا ما فعله أبوخليل القباني في آواخر القرن التاسع عشر، وكأنه ممهد للنزعة الحريصة على الحفاوة كالموسيقى والغناء، كما هو الحال في موجة التجديد في المسرحية الغنائية عند كميل شبير ومصطفى هلال وصبحي طرابلسي، بل إن مكانة القباني لدى المصريين، إذ «أن كبار مطربيهم وملحنيهم مثل عبده الحامولي والمظ وسلامة حجازي، وكامل الخلعي وغيرهم قد عملواعنده، أو أنهم كانوا يرسلون عدداً من أعضاء فرقهم للتتلمذ عليه، إذ كان يرسل عدداً من أعضاء فرقته إلى فرقة أبي خليل القباني ليتعلموا فيها أصولات الأداء والنغمة والإيقاع، فأرسل محمد أفندي رحمي الموسيقي المشهور ليأخذ الألحان، ويعرف ضربها وتوقيعها، لأن الرجل، أي أبو خليل القباني، كان يصنع اللحن، ويوقعه، بأصول موسيقية، كأمهر الموسيقين الفنيين. (رواد المسرح  السوري ص68).

طور الشيخ سلامة حجازي الغناء المسرحي بحيث أصبح أكثر تعبيراً عن المعاني والمواقف المسرحية فما كان أيام القباني ومن حذا حذوه. وفي هذا المنحى، ألقى الشيخ سلامة حجازي المقدمات مثل الليالي وغيرها، وربط بين الغناء وتمثيل الأدوار، وأخذ الناس عن طريق يتعرفون إلى كلمات: مرسح، تشخيص، وتمثيل.. الخ، وحين مات الشيخ سلامة حجازي عام 1917، كان نجم فنان كبير من فناني المسرح الغنائي قد بزغ بوضوح في سماء الفن، وأعني به سيد درويش. (المسرح في الوطن العربي ـ ص64).

 

يلاحظ أن تمسك الرواد بالغناء في المسرح ضرورة أملاها حرصهم على التأثير في جمهورهم وهو ما فعله مارون النقاش، بالإضافة إلى الرائدين الآخرين القباني ويعقوب صنوع. فهذا «المزيج الذي قام به النقاش بين ما ابتكره وما أخذه قد أقرّ به حين أتى بذهب أفرنجي وسكّه بأسلوب عربي يقبله الذوق العربي. ولعل هذه المواؤمة بين هذا الفن الغريب الجديد، وبين ذوق الناس المعاصرين له، هي أخطر وأهم درس يمكن أن نتلقاه عن الرائد بعد مضي قرن ونصف قرن. فقد أدرك الثاقب بصره أن سبيل الفن إلى الناس هو أن يتغلغل إلى نفوسهم وقلوبهم قبل أن يبلغ عقولهم. ولهذا ملأ مسرحيته بالأشعار والأمثال والغنا» (المسرح السوري في مئة عام 1997 ص14).

 

5ـ رغبة أعلام الموسيقى والغناء العربي الدائمة بالمسرح:

من يطلع على سير أعلام الموسيقى والغناء العربي سيدهش لتعلقهم بالمسرح وسعيهم المستمر لتأسيس فرق غنائية مسرحية، ولم يكن هذا مقتصراً على المشرقيين، بل امتد النزوع إلى المسرح الغنائي إلى المغاربة أيضاً، ومن هؤلاء «الأستاذ محي الدين باشي ترزي الذي له مشاركة في المسرح والغناء مع مجموع من المطربين العازفين، أمثال دحمان بين عاشور، وعبد الكريم دالي، ومحمد الفخارجي. كما برز في تلمسان عازف الكويترا الشيخ عمر البختي» (الموسيقى العربية، تاريخها وأدبها ص118).

 

ولعل إقبال الموسيقيين على المونولوغ يعكس هذا الولع بالمسرحة، إذ لمع في هذا المجال اسم الفنان اللبناني عمرالزعني، واسم الفنان سلامة الأغواني في سورية، «كناقدين اجتماعيين سياسيين من خلال ما قدماه من مونولوجات انتقادية ووطنية تسببت بسجنهما عدداً من المرات، وتشريدهما من قبل سلطات الانتداب الفرنسي» (الأغنية العربية ص96).

 

وفي هذا الاتجاه قوّي المسرح الغنائي المصري، وصار له ممثلوه انطلاقاً من سلامة حجازي ومروراً بداود حسني ومحمد كامل الخلعي وسيد درويش وزكريا أحمد، والأخير «سجل اسمه في سجل الخالدين بجدارة في تاريخ الفنون الموسيقية المعاصرة.. في أغنية الطرب وأغنية المسرح وأغنية الإذاعة والسينما، وشاهد ميلاد أغنية التلفزيون» (أعلام الموسيقى والغناء العربي ص216).

 

6ـ ارتباط المسرح الاحتفالي بالغناء:

كان المسرح الاحتفالي إحدى أبرز المحاولات لاستعادة الظواهر المسرحية العربية بروح معاصرة، وقد تركز المسرح الاحتفالي على لوازم المسرح الغنائي، ولاسيما الموسيقى والشعر، ولاسيما اعتمادها على الشعبية، فإنه من الضروري أن تكون الأدوات الموسيقية شعبية نحو البندير والهجهوج والناي وغيرها من الأدوات البسيطة» (قضايا المسرح الاحتفالي ص152ـ153).

 

تميز المسرح الاحتفالي بالفرجة، أي المسرحة وإحدى مواردها الأساسية هو الغناء، كما في سلطان الفرجة، الذي يمرر النقد السياسي والاجتماعي في ثوب الغناء والإنشاد والتمثيل. (المسرح المغربي ــ بحث في الأصول السوسيوثقافية ص47).

 

7ـ المسرح الغنائي قرين المسرح الشامل وسبيل التكامل الفني في العرض المسرحي:

كان حلم الفنان المسرحي المعاصر هو الوصول إلى ما يسمى بالمسرح الشامل، وهو مشاركة الغناء والرقص والموسيقى وسواها من فنون العرض المسرحي، وبدا ذلك جلياً في المسرح التسجيلي والمسرح الاستعراضي والفنون المسرحية الغنائية كالأوبرا، والأوبريت وغيرهما. وكان أبرز إنجاز لفقيد المسرح العربي صقر الرشو هو نجاحه في تحقق مسرح شامل يستخدم الموسيقى والأغنية مع الدراما وبها (انظر: صقر الرشود ــ مبدع الرؤية الثانية).

[ملحق «الثورة الثقافي» (دمشق) 2000]

 

15

مسرح الطفل:

الخصوصية والرؤيا المستقبلية

أسئلة حول خصوصية مسرح الطفل:

مسرح الطفل فن من فنون أدب الأطفال مثلما هو سيط من وسائطه الثقافية، فقد تكون الكتابة لمسرح الطفل مباشرة، وقد تعد المسرحية للأطفال من الفنون الأدبية الأخرى كالقصة والشعر والرواية والمقالة على سبيل التحويل أو الاقتباس، غير أن المعول في تقدير ذلك هو اندراج مسرح الطفل في عمليات إنتاج أدب الأطفال وإعادة إنتاجه عبر الوسائط الثقافية والاتصالية المتنامية مع التفجر المعلوماتي الهائل وثورة الاتصالات الجبارة، إذ استفاد مسرح الأطفال من التقانات والعلوم ولاسيما الاستعانة بالتقانات السمعية والبصرية، ومنها مسرح الطفل بالضوء، إلى أن وسع صناع مسرح الطفل أشكال مخاطبتهم استفادة من تقانات «المالتيميديا»، فتحالفت الكلمة مع الصورة والصوت والموسيقى والأغنية..الخ.

 

تتحكم في عمليات إنتاج أدب الأطفال وإعادة إنتاجه الاعتبارات التربوية والفنية المتعددة بالنمو اللغوي والإدراكي والمعرفي والمزاجي، وهو خصائص تقل الحاجة إليها كلما دخل الطفل سن اليفاعة والشباب، ويتصل بالنمو فضاءات متعددة من الخيال والتلقي والقيم لابدّ من مراعاتها، على الرغم من ارتفاع الأصوات المنددة بذلك، فالطفل أكبر من الحدود التي تضيّق أمداء مخاطبته في مفاهيم معينة وأشكال مسرحة من الكبار للصغار.

 

إن خصوصية مسرح الطفل تنبع من مراعاة هذه الاعتبارات التربوية التي تتبادل التأثير مع الاعتبارات الفنية، وهو ما ينبغي مراعاته عند نقل فن من فنون أدب الأطفال عبر وسيط ثقافي ما كالمسرح، وهي عملية مزدوجة، فكاتب مسرحية الطفل يراعي اعتبارات فنية عامة تتصل بطول المسرحية وتخييل فعلها وحركة شخوصها ووحدة مكانها وزمانها ولغتها، ثم تلحق بها اعتبارات فنية خاصة لدى نقلها عبر وسيط ما كمسرح العرائس أو المسرح الغنائي أو مسرح الأطفال (الدرامي)..الخ أي مواءمة المسرحية لتقانات هذا الوسيط الثقافي أو الاتصالي أو ذاك.

 

وهكذا يصبح البعد التربوي حاضراً في مسرح الطفل ويفرز أشكالاً مسرحية بذاتها مترافقة مع العملية التربوية والتعليمية، مثل المسرح التعليمي (أو مسرحة المناهج) والدراما الخلاقة، ففي المسرح التعليمي يدغم المبدربون والمتدربون الخبرة التربوية والتعليمية بالخبرة الدرامية عن معرفة ثرية بالمناهج الممسرحة وحاجات الصياغة المسرحية واختيار الشكل المسرحي الأنسب للأداء المسرحي، وبناء وحدة المسرحة التعليمية من تحديد الأهداف إلى اختيار المحتوى إلى تحديد خبرات التعلم إلى إعداد المواد والوسائل اللازمة إلى أدوار المنشط والمتدربين إلى شروط تحويل حجرة الدرس إلى حجرة مسرحية. وتوضح نتائج التجارب الميدانية المؤشر الإيجابي «لفاعلية استخدام الطريقة الدرامية طريقة من طرق التدريس في المرحلة الابتدائية، لأنها تقدم للتلاميذ الفكر بطريقة جذابة ومسلية بما تحويه من مواقف وحواز وإن استخدام تكنين الدراما ذو فاعلية إذا أحسن اختيار وتحليل الموقف الدرامي المتضمن العديد من المثيرات وتوصيله للتلاميذ. كما أنه يحقق كثيراً من جوانب النمو عند التلاميذ إذا أحسن اختيار المواقف المناسبة لاستخدام الدراما في التدريس» (المسرح التعليمي للأطفال. ص271).

 

أما الدراما الخلاقة فهو المسرحة التي يقوم بها الأطفال أنفسهم داخل حجرة الدرس وفي أماكن النشاط الطفلي المختلفة، وبتعريف المختصين هي الدراما التي يتدرب عليها الأطفال، بوصفها دراما الفطرة التي يتدرب عليها الأطفال، وتستثمر ما وسع الأطفال ذلك المسرحيات القصيرة من القصص والشعر أو من الخيال (مسرح الأطفال ص294).

ويعد الأطفال هذا الشكل المسرحي بأنفسهم، ولطالما استخدم المربون والمنشطون هذا الشكل المسرحي انطلاقاً من اللعب استخداماً مدروساً في عمليات التخييل والإبداع والحرية في التعبير لدى الأطفال صوتاً وحركةً، بالتعرف الواعي على إمكانات الأطفال وقدراتهم اللفظية والحركية، من ألعاب التنفس وتنمية الإدراك إلى ألعاب الحركة والمحاكاة إلى الحركات والتمثيل الصامت، إلى الألعاب ذات الطابع الدرامي، كما حددها كثير من المختصين الذين رشّدوا إعداد الأطفال لمسرحهم بالالتزام فيمايلي:

«1ـ أن يضع المعلم نفسه في قلب اللعبة عن طريق مشاركة الأطفال استمتاعهم بها، فيتحرك معهم، ولا ينفصل عنهم في أية لحظة من اللحظات، فدور المعلم هو دور المحاور الذي يحتاجه الأطفال للتأكد من صلاحية ما قدموه في اللعبة أو التمرين.

 

2ـ أن يدرك المعلم أن الألعاب والتمرينات تشكل الجانب الشكلي من نشاط الأطفال الذي يتصل مع ما يمارسونه قبل ذلك من ألعاب تلقائية وحركات حرة، ولذلك يجب أن يلتزم المعلم بالإيقاعات الطبيعية للطفل، وأن يربط بينها وبين ما يقدمه لهم من مقترحات جديدة» (المسرح مع الأطفال ص6).

 

على أن أشكال مسرح الطفل الأبلغ في الأداء والإيصال والتوظيف التربوي والفكري والفني هي التي تصير خطاباً لهم، وهي كثيرة ومتنوعة ومتجددة. من مسرح العرائس والدمى والمسرح الغنائي والمسرح التسجيلي ومسرح الحيوانات والمسرح الإيمائي والمسرح التلفزيوني والمسرح المدرسي..الخ. وقد أثبتت التجارب المسرحية ألا حدود لأشكال مسرح الطفل، أي أن القائمين مسرح الطفل قادرون على مخاطبة الطفل بمختلف الأشكال المسرحية التي يخاطبون بها جمهور الكبار، والمعول هو مراعاة الاعتبارات التربوية والفنية بيسر وتفهم، ومراعاة حدود مسرح الطفل، وهي عناصره الدالة مثل دراما الطفل والموقف الدرامي والبناء المسرحي، ومراعاة حدود الممارسة المسرحية الطفلية قبل ذلك في أن يكون مسرح الطفل جماعياً وتربوياً ومؤثراً لضمانة تنمية الشخصية الطفلية في ذاتها وضمن محيطها وتربية التذوق وملكة الإبداع لدى الطفل وتعزيز التثقيف الذاتي وتعزيز الصحة النفسية عند جمهور الأطفال المتلقين أو المشاركين، وينبغي ألا نغفل دائماً جوهر الاعتبارات المتعلق بالشكل والخيال واللغة (أدب الأطفال نظرياً وتططبيقياً ص169-182).

 

أسئلة حول الرؤية المستقبلية:

ترتهن الرؤية المستقبلية لمسرح الطفل بمعاينة الواقع العربي والمحلي لأنه منطلق الرؤية المستقبلية ولعلنا نحدد عناصر الواقع فيمايلي:

 

1ـ المسرح المدرسي والتنشيط المسرحي التربوي والتعليمي، ويشير الواقع إلى «شكلنة» هذا الاهتمام، لأن غالبية الجهود تتجه إلى النهوض بالمستوى التربوي والتعليمي، أما التنشيطط بأنواعه فيأتي في آخر الاهتمامات. وموجز القول في هذا المجال، هو غياب معاهد التأهيل والإعداد وغياب المنشآت وإهمال التظاهرات التي تنهض بهذا المسرح. وتكمن مظاهر «الشكلنة» في الاقتصاد على التنشيط المسرحي التربوي والتعليمي في المناسبات، حتى تظاهرة المسرح المدرسي السنوي توقفت، وحولت بعض المسارح في الأبنية المدرسية إلى مستودعات..إلخ.

 

2ـ تمتد العناية بمسرح العرائس في سورية إلى عام 1959، ثم تعثرت عروضه وبرامجه التي كانت تصل إلى المحافظات سنوياً، ونشط مسرح العرائس أواخر سبعينيات القرن العشرين ثم تعثر في تسعينياته.

 

3ـ عرف سبعينيات القرن العشرين حركة واسعة في التبادل المسرحي العربي والدولي، فعرضت مسرحيات لاتجاهات تجريبية وجديدة من دول عديدة. مثلما توقف مسرح دمشق للفنون المسرحية، واللافت للنظر أنه لا يضم عروضاً لمسرح الطفل. وعلى الرغم من تعدد المهرجانات الطفلية العربية، فإن مسرح الطفل لم يدخل تقليد هذه المهرجانات.

 

4ـ تطورت الثقافة المسرحية وعمليات التذوق الفني كثيراً خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وثمة دوريات متعددة للمسرح والفنون بعامة في أقطار عربية متعددة مثل مصر وسورية والعراق والأردن والبحرين وتونس والجزائر والمغرب والإمارات. وقد أصدرت هذه الدوريات أعداداً خاصة عن مسرح الطفل، مما يشير إلى نمو وعي المسرح الطفلي.

 

5ـ تطور النشر المسرحي للأطفال، تأليفاً وترجمة، ويوجد اليوم عشرات المؤلفين المسرحيين والمترجمين والمعدين، ومكتبة واسعة لمسرحيات الأطفال، وهم منتشرون في المحافظات جميعها.

 

6ـ انتشار الفرق المسرحية الطفلية في دمشق وفي بعض المحافظات، وإن كانت غير مستقرة ولا تشكل تقاليد فنية وتربوية في مخاطبة الأطفال، لأنها صادرة عن تجمعات آنية، ولا ترتبط بالمؤسسات الثقافية والتربوية.

7ـ التنشيط الواضح لمسرح الطفل التلفزيوني، فقدمت عروض عديدة خلال العقدين الأخيرين، ولكن خطواته تعثرت لوهن العزيمة إزاء غلبة الإقبال على البرامج والمسلسلات.

 

8ـ وفرة الروافد العلمية من مخرجي مسرح الطفل الذين رأينا عدداً من عروضهم خلال السنوات الأخيرة، وهم خريجو دول أجنبية وعربية.

يشير تأمل الرؤية المستقبلية النظر في الواقع لترسيخ الإيجابيات ومجاوزة الصعوبات.

 

 

الباب الثالث - تجــــارب

 

القسم الأول: في العرض المسرحي

1

جيل من كتّاب المسرح المصري المعاصر

«بهيجة: هه يا أستاذ؟! قلت ايه حضرتك؟! مش حتقدر تلاقي لي حل؟..

المحامي: على كل حال يا ست هانم.. القانون مش معانا لغاية دلوقت.. القضية متشعبة.. عاوزه بحوث واستشاراتة وفتاوى شرعية كبيرة قبل ما نرفع أي دعوى:

بهيجة: أنا عاوزاه يتسجن.. ما يهمنيش اللي راح قد ما يهمني أنه يتسجن وأشوفه بعيني لابس الكلبشات في أيديه..

جبر: واحنا حنسيبه؟! ما هو دعوتنا حتقام على أساس استرداد المبالغ اللي أخذها، وفي الوقت نفسه نثبت عليه النصب والاحتيال.. مش كده يا أستاذ؟!.

المحامي: طبعاً؟! احنا حنطالب بتطبيق كل مواد قانون العقوبات فيما يتعلق بجرائم النصب والتدليس.. والطلق اللي ما يصيبش ما يخبش.. بس المهم الست مستعدية؟!

بهيجة: من بكره يا متر.. ارفع الدعاوى اللي على كيفك..( )».

 

هذه عينة حوارية ليس لها امتياز عن غيرها من العيّنات، ومن هذه العينة نكتشف أن هناك صراعاً بين فريقين، وجماعة أخرى قد تختلف أشكالها وهيئاتها وأسماؤها، إلا أنها تتفق حول مبدأ واحد هو «من أين تؤكل الكتف».. ثم يجسد هذا الصراع شخصيات مألوفة، نعايشها كل يوم، بوجوه مختلفة، وأسماء مختلفة، ولكنها أبداً تبقى محملة بسماتها الطبقية والتصاقها الاجتماعي بفئات معينة منا لشعب. وقد تجلى هذا الصراع فيم واقف معبأة بنذير التغيير والإبداع.

 

ونعمان عاشور كاتب هذا الحوار يوضح أن خط الحدث قد لا يصل إلى قمة التوتر، حيث يبدأ التعقيد في المسرحية، وإنما يضحك في قلب الحدث منذ المشهد الأول وحتى الختام، وهو في هذا كله غير ملزم بوصف الدواء، بل يكتفي بوصف المرض، إنه يقدم شريحة اجتماعية نابضة بالحياة.

أثبت نعمان عاشور بذلك أن ولادة جديدة للمسرح المصري قد تمت، وأن جيلاً ثانياً أصبح يتنفس، ويطالب بمكانه الحقيقي في مسيرة المسرح المصري، ومما لا شك فيه أن مسرحية «الناس اللي تحت» كانت فتحاً جديداً بشّر بملامح جيل كامل هو الجيل الثاني، إذ حطم نعمان عاشور بهذه المسرحية تقليدية مسرح الحكيم، مبشراً بالواقعية، الواقعية الجديدة والواقعية النقدية، فلم يعد المسرح مجرد قضايا فكرية تلبس أثواب الشخصية، وتحلق في أجواء الزمان والمكان، من خلال عقدة  المسرحية ووقفاتها وتركيزاتها.

 

لقد تبدل الإيقاع، وتغيرت مواقع الصراع، واكتسب الحوار حيوية جديدة متميزة، وصارت «السرعة» تتعلق «بالوضع الاجتماعي المعين» بعد الثورة، فانقادت لغة المسرح إلى التلقائية والبساطة لتحقيق التقاليد الدراسية التي وضعت القضية الاجتماعية نصب أعينها كحل جزئي لمشكلات ثورة 23 تموز. ببساطة لقد أصبح الفن يمتاح من معين الواقع المتغير والمتجدد ليعود إليه وقد اكتسب قيماً جديدة تساعده على الاستمرار والحياة.

 

وقد سار الجيل الثاني كله في درب نعمان عاشور يحوم حول القضية الاجتماعية يستنزفها قطرة قطرة، ويندر أن تخلى كاتب منهم عن هذه الطريق، ولعل هذا ما دعا محمود أمين العالم إلى أن يقول بعد سنوات من الانطلاقة:

«إن الحدث الاجتماعي ما زال أرقى من الحدث الفني عامة، والحدث المسرحي بوجه خاص»( ).

وهذا أيضاً ما يسهل علينا تحديد مسارات هؤلاء الكتاب الذين يؤلفون الجيل الثاني. ويبدو أن صراع الأجيال في مصر يفقد وجهه ومذاقه، إذ أن التسيب في علاقة هذه الأجيال بعضها ببعض متمكن في نفوس كتابنا، ولا سبيل إلى إزالته، ولما كنا بسبب حركة أدبية وفنية نظيفة، لذا سنحاول أن نعرف شيء عن صراع الأجيال في المسرح المصري.

 

أزمة المسرح العربي:

إن نعمان عاشور ويوسف إدريس ورشاد رشدي وسعد الدين وهبة والفريد فرج هم أبناء الجيل الثاني، لأننا سنعتبر بداية الستينيات تأريخاً لحركة الجيل الجديد، وتدعونا إلى ذلك أسباب موضوعية وذاتية كثيرة سنذكرها في حينها. وما يهمنا الآن هو كيف تسوء العلاقة بين جيل وآخر حتى تتوقف عطاءات الجيل عند نقطة ما، ثم تصح لفظة الموقف العنيد كتعبير أولي عن هذا الصراع.

لقد توصل توفيق الحكيم وهو في باريس إلى قناعات وهي: افتقاد المسرحية في التراث العربي، يقابلها الاندهاش التام أمام المسرح الفرنسي والأغريقية، مما جعله يعود إلى القاهرة مشدوهاً يفكر بكتابة مسرحية فكرية تحاكي هذه الأعمال التي رآها( ). وظل توفيق الحكيم سيد المسرحية العربية يرعب كل من يحاول الاقتراب من هذه المنطقة المنزوعة السلاح «منطقة المسرحية العربية» حتى بدأ للكاتب الشاب أن المسألة صعبة ومتعبة، وأن من يحاول الرقص على البارود، فعليه أن يتحمل نتائج انفجاره.

 

انكسار الطوق وصراع الأجيال:

إن الفرح الغامر لكتابة عمل مسرحي عربي كان الدافع الأول للكتاب الذين جاؤوا بعد الحكيم. ورغم كلّ الصعوبات لم يكن الخيار مطروحاً بعد ثورة تموز، فازداد التعلق بهذه القناعة. وبذلك كان ميلاد الجيل الثاني. ونحن نستطيع أن نقول على ضوء هذه العلاقة:

إن مجمل ما يبعث الخوف هو عدم الثقة بين جيل توفيق الحكيم، والجيل الثاني ويلحقه الجيل الجديد، لدرجة الاستماتة.. في سبيل مواقف حتى ولو كانت متشنجة، دبّ الاحتضار في أوصالها. فجيل توفيق الحكيم يعتبر أن الساحة الأدبية حكرٌ له دون غيره، وعلى هذا يمكننا أن نوجه التهمة أو الإدانة إلى جيل لأنه لم يتخط الجيل الذي سبقه، أو جيل لم يثبت وجوده بعد.. وبهذه الحالة فإن صراع الأجيال بحد ذاته ما هو إلا تمرد على «وضع معين» تم تغيير هذا الوضع للتعبير عن ظروف جديدة فرضت نفسها على منطق الأحداث، ويقابل هذا التمرد «رد فعل» من الجيل السابق.

 

وهذا ما حدث مع جيل نعمان عاشور إزاء مسرح الحكيم التقليدي.. ففي وقت ظهور «الناس اللي تحت» و«الفراشة» و«المحروسة»( ) كان مسرح الحكيم يقف موقفاً مضاداً من هذه الأعمال، ولكن استقبال الجمهور لهذه المسرحيات التي تتحدث عن قضاياه اليومية برهن بما لا يدع مجالاً للشك على أن الجيل الثاني يجب أن يستمر. وهذا ما كان( )، فصار النص المسرحي يمثل على الخشبة كما حافظ على مرتبة الكلمة المقروءة( ).

 

النظام والاختلاف:

وسرعان ما تحددت ملامح هذا الجيل، لقد جمعتهم الواقعية والمشكلة الاجتماعية دون أن يفقد أحدهم ملامحه الخاصة. إذ أن جل اهتمام هؤلاء الكتاب كان ينصرف إلى النقد الاجتماعي، وأن اختلفت أشكال هذا النقد. فاستخدم رشاد رشدي الحوار الداخلي (المونولوج أو النجوى) للتعبير عن معطيات الشعور وتيار الوعي، وسعد الدين وهبة شغف بالرمز دون أن ينتمي إلى المدرسة الرمزية بمعناها الفكري فظلت مسرحياته مشدودة إلى الواقع بخيط من الخيوط.

اهتم يوسف إدريس بالشكل باحثاً عن المسرح العربي (أو المسرح المصري كما يصرّ على ذلك أغلب كتّاب مصر) كي يستوعب طموح الإنسان في أن يتوصل إلى الحب والحرية والفرح.

 

أما نعمان عاشور فقد هزه واقع الطبقات الدنيا فالتصق بالمشكلات المرحلية يكتب عنها دون تزويق، ولهذا يمكن أن تؤخذ مسرحياته وثائق بعد تأريخ، ولكن ألفريد فرج يلجأ إلى التراث كي يلبسه جوهر حركات العصر برؤيا فكرية واضحة. وقدّم لنا رشاد رشدي الفنان من الداخل، ويوسف إدريس الدفاع عن الشخصية الإنسانية، وسعد الدين وهبة الكتابة للثورة، ونعمان عاشور الدفاع عن مصالح الطبقة الفقيرة( )، وألفريد فرج الأبجدية المسرحية. لقد تمكن ألفريد من الإمساك بروح المسرح، فتميزت عطاءاته بالأصالة والمعاصرة بآن، على خلاف ما يقوله جلال العشري( ).

 

مؤشرات صغيرة:

من هذه الأرضية كان يتجه تفكير الجيل الجديد نحو الخلق والإبداع. لذا سنعمد إلى وضع نقاط أساسية تفيدنا في الكشف عن هوية الجيل الجديد، وهي بديهيات أكثر منها

 

اكتشافات:

* محاولات توفيق الحكيم التجريبية لمجاراة المذهب المسرحية الجديدة «يا طالع الشجرة ـ لزوم ما يلزم ـ المقال التمثيلي».

* المشكلة الاجتماعية لا زالت تشغل ما يقارب 90% من الصفحات التي يكتبها فنانو الجيل الثاني.

* طرح قضية النكسة وتنوع استجابة المسرحيين على اختلافهم لها وتأثرهم بها.

* محاولات الإبادة والفناء التي تتعرض لها الأمة العربية ويستتبع ذلك التفجر الثوري والتغيير السريع والنضال لتحقيق التقدم والعلم والحرية.

* الجهد الدائب لخلق المسرحية العربية في أصالتها الموضوعية لا الشكلية، أي في «تآلف» الشكل مع المضمون، بحيث يؤلفان حقيقة واحدة ونسيجاً واحداً.

* النزعات التشويهية للإنسان العربي، فالشخصية أو البطل في المسرحية المصرية بطل مصري «إقليمي».

* الخلاف حول قضايا مسرحية كثيرة مثل صراع الفصحى والعامية وعلاقة المسرح بالثورة والتراث والجماهير وغياب الناقد المسرحي وقضايا التجسيد المسرحي.

نجد أن الصورة من جملة هذه النقاط غير مستقرة، وهي تستجد في صراعات لا تتوقف، وقد تظهر مديحاً حاراً لكاتب جديد مثل محمود دياب مثلما تظهره لكاتب كبير مثل توفيق الحكيم أو آخر مثل يوسف إدريس. وهذا يذكرنا بصخب الجمهور وغوغائيته حين يشاهد مسرحية تستجيب لميوله الشخصية المنطفئة، ونظراته المحجوزة خلف النظارات السميكة.

 

الفكر في المسرح:

أن ساحة الحلبة تكاد تبدو فارغة تماماً في الوقت الذي تمتلئ فيه بالأدعياء والمزيفين والكتاب الجادين، وبالرغم من أن عصر الفكر قد ساد، لا زلنا نقرأ مسرحيات ساذجة في تفكيرها لكتاب كثيرين من الجيل الثاني. إن وهماً يسود الحركة المسرحية في مصر هو الاستناد إلى تراث الكاتب الخاص، ولذلك اسأل: أما خامر هؤلاء الشك يوماً أنهم يتواطؤون مع أنفسهم في سبيل إجهاض المسرحية العربية؟ قد يرسمون ما يعرفونه بأنفسهم وما يتعاطفون معه، وما يلمسونه وينفعلون به، ولكن هل هذا هو المسرح المطلوب؟ إذا أسقطنا من حسابنا الأقنعة والأسماء الكبيرة، ستغسل بقعة الضوء المنتشرة خشبة المسرح بالنور، وتطالب بشدة الإضراب عن التزييف، والهبوط فوق المرتفعات بحثاً عن الصدق في الفن.. قال بومارشيه: «يجب أن يكون المسرح لوحة أمينة عن أعمال الرجال». وطالما أن بطن المسرح مبقورة، فالرجال مشوهو الخلق، يريدون تحطيم الحاجز بين تفاهة العلاقات الثقافية والعمل الجاد.

 

يقول نعمان عاشور: «يبدو أن مسرح القضايا الاجتماعية ـ خصوصاً في هذا العصر الذي غلبت عليه الأفكار في المسرح ـ لابد أن يلغي الكثير من النقاء الفني، ولا سيما إذا كان مسرحاً ملتزماً التزاماً لاصقاً ومباشراً»( ).

إِلام تدوم هذه المرحلية؟ ومتى ينتهي التمهيد للتحولات الكبرى في الأدب والفن؟ لقد بحثنا في كل البيوت عن زاوية مريحة، فجابهتنا النوافذ المفتوحة وهي تنقل الغبار والعاصفة.

إن جدار الأصوات المناهضة للتجديد والفكر والحب والضوء قد انخفض، وسقف الفن أصبح مرتفعاً في هذا العصر. يقول ألفريد فرج: «إنني اهتم بإطلاع الناس على أفضل ما فيهم، ربما أريد أن أبين للآخرين أن الإنسان ـ تحت أقصى الضغوط ـ يمكن أن يظل إنساناً»( ).

لقد كثرت إشارات التعجب وإشارات الاستفهام، وتلاحقت الجمل بصورة منفرة، وصرخ الحوار مطالباً بسحق الحدث، واحتج بطل المسرحية على دوره القصير.

بلا جدال أنها مطاليب عصرية جداً!

هل الآمال تعني أن نتخلص من الخوف، وأن نمكن الفرح في نفوسنا.

والآن.. هل غيّر الجيل الجديد من هذه المواقع؟ هل أعاد لأمجاد المسرح فتوحات جديدة؟ هل أجاب على النقاد التي يثيرها واقع المسرحية العربية بشكل عام وفي مصر بشكل خاص؟ ومن هو الجيل الجديد؟

هذه مقدمات لابدّ منها لبحث ملامح واتجاهات الجيل الجديد!

[مجلة «المعرفة» (دمشق) تشرين الأول 1970]

  

2

مصطفى الفارسي مسرحياً

تلميذ مجدد للمدرسة المسعدية

 

لمصطفى الفارسي تجربة فريدة في الكتابة المسرحية، فنصوصه تصلح للقراءة قبل أن تصلح للعرض ولغته تقترب من الشعر قبل أن تندغم في الإيقاع المسرحي. غير أن مسرحه يدخل إلى الفرادة من أبواب أخرى، فهو طوّع لغة الشعر إلى لغة المسرح بما يتناسب مع الفضاءات التي أوغل فيها موضوعاً وتخييلاً، فلم يكتب مسرحيات واقعية، بل تناول الواقع من خلال «أسطرته» منذ الستينات حين وقع مسرحياته: «الطوفان» (1969م)، و«البيادق» (1970م)، وقبلهما مسرحيات لم تجد طريقها إلى النشر إلا متأخرة، أو لم تنتشر حتى الآن، وجدير بالذكر أن «الطوفان» و«البيادق» لم تطبعا في كتب إلا مؤخراً. وجانب الفرادة الثانية في تجربته هو أنه نهج نهجاً نادراً في الكتابة المسرحية العربية، هو الكتابة المشتركة. فقد كتب مسرحياته ـ باستثناء «قصر الريح» (1961م) و«الفتنة» (1971م) و«الأخيار» (1973م) و«الفلين لا يحترق أيضاً»  (1981م) ـ مع المسرحي «التيجاني زليلة» الذي درس مثل «الفارسي» الآداب بالسوربون، ولكنه يفترق عن الفارسي في أنه لا يكتب إلا للمسرح والتلفزة والسينما، بينما كتب الفارسي، بالإضافة إلى المسرحية، الشعر والقصة والمقالة وغير ذلك.

 

والجانب الثالث في فرادة الفارسي هو كتابته للمسرحية التاريخية وقد داخل التاريخ روح ملحمية أو أسطورية أيضاً، وكأنه ينفر من الواقع أو هو يصوغ واقعاً آخر، وله في هذا المجال «الفتنة» عن فاجعة مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وقد لبست لبوس فاجعة بين الممثلين الذين يعرضون المسرحية، ومسرحية «رستم بن زال» (1972م) التي استلهمها الفارسي وزليلة من وحي «الشاهنامة» للفردوسي، وفي المسرحيتين تحوير للتاريخ والملحمة بقصد طرح أسئلة على التاريخ والملحمة، أسئلة حاضرة وهي عادة الفارسي في مسرحياته كلها.

 

القضية والقطيعة

إنه يعود إلى الموروث التاريخي أو الملحمي أو الأدبي، ولكنه ينطلق إلى فضاءات يغلب عليها «أسطرة» الواقع، كما أشرنا، ومبدأ  الاستعارة الذي يجعل من وعاء التاريخ أو الأسطورة أو الملحمة مستوعباً لأفكار ورؤى متجددة. ومن هذه الزاوية تقدم مسرحيات الفارسي اجتهاداً للوعي التراجيدي العربي حين يعنى بمسرحة الخطاب، وهو هنا نظرات جدلية في معنى التطور والإنسان، وتعضيد فكرة المسرح باعتبارها شديدة الاتصال بالتقليد الأدبي القومي، ومن أبرز مظاهر ذلك عند الفارسي تحويلا لمسرحة إلى ما يشبه السرد القصصي، حين يتضاءل الصراع، وهو صراع فكري في لبوس وقائع وأحداث وشخصيات، ولعلنا نتوقف عند مسرحيته الأهم «الطوفان» مثالاً لذلك، مع الإشارة إلى ما يؤيد هذه الآراء من خلال مسرحيته «البيادق».

 

ينتمي الفارسي، كما رأى الناقد عبد الفتاح ابراهم، إلى المدرسة «المسعدية» نسبة إلى المبدع التونسي الكبير محمود المسعدي وبخاصة في كتابيه «السد» و«حدث أبو هريرة قال»، وعماد هذه المدرسة، التي يعتبر الفارسي أحد تلاميذها المجددين، التأمل والبحث الأصيل عن الذات بلغة كلاسيكية فصيحة وبرؤية إنسانية وكونية شاملة، وبتعبير رمزي استعاري يجعل من كل قطعة في العمل المسرحي نصاً أدبياً متقناً، وبنبرة تخييلية ترتفع إلى مصاف الأسطورة، وربما كان لهذا المنحى الصعب في إبداع الفارسي سبب في قلة إنتاجه وطابع القصر الذي تميزت به مسرحياته، فمسرحياته مبنية بكثير من العناية والإيجاز والكثافة، ومن جهة ثانية فهو يؤصل لتقليده المسرحي الخاص «السرد القصصي» في كل مسرحية بأسلوبية خاصة، ففي مسرحيته «البيادق» ثمة جزءان يعالج فيهما خيبة الثورات في التاريخ ولا سيما توكيد الرأي القائل بأن الفشل من الرجال لا من الثورات، فتمضي المسرحية في حوارات هي تأملات لأخلاقية الثورة التي ينتهكها الثوار باستمرار، ويحفل الجزء الثاني بالحوارات الأكثر مأساوية لانكسار الأمل وضيعة الإيمان بالحياة.

 

أما مسرحيته «الطوفان» فقد حملت اسماً آخر هو «جبل وغاب وقرية وبيت وبشر»، وتقع في ست مراحل هي متسلسلة: «القضية» و«الصدام» و«القطيعة» و«الجبرة» و«المنعرج» و«المعجزة»، والنص المسرحي كله لا يتجاوز الخمسين صفحة من القطع المتوسط، ويعالج فيه الأرض والملكية وما تثيرانه من نوازع شريرة أو خيرة في السلوك الإنساني والاجتماعي.

 

تعري المسرحية نزعة التسلط في صلتها بالكبرياء والضمير المستلب من خلال صوت الحكمة الذي يطلقه عادة في مثل هذه الأعمال درويش أو معتوه أو مجنون أو أبله، وهنا تكمن إحدى مفارقات هذا النوع من الكتابة. وفي هذه المسرحية ينطلق (كهيد) بحكمة باقية تستعصي على الزوال، كما في المرحلة الرابعة على وجه الخصوص حين يفسر فيها (كهيد) طبيعة الصراع الدائر في القرية، كأن يقول:

«همي...؟ هموم الناس.. نحن في غم لازم وحزن لا ينفد... هل أتاك حديث الجبل... نحمل الأطفال تسعاً ويميتهم الجبل في كل مغيب... لنا عيد في السنة ومأتم كل ليلة... نكوم الحطب ولا نصيب منه حزمة تقينا غوائل الشتاء» (ص57).

 

أو أن يقول:

«حيرتني وعقدت لساني... من أين أبدأ... أصول الشجر؟ الغاب عفر وحجر... عويل الأطفال ودموع الثكالى... يأس الرجال... الفقر والبرد... الجوع والمرض... الشمس والظمأ.. تضاعفت الجباية.. ونضبت الجيوب وفرغت كل الأوطاب... عز العيش يا بني... لا تسمع من هاتف إلا لسلب ونهب وابتزاز.. دائماً هات.. هات... هات» (ص57).

وثمة دلالة مهمة هي أن (كهيد) يقضي قبل الطوفان حيث اندفاعة المياه الجارفة في الظلام كأمواج البحر في العاصفة، فقد انشق الجمل بينما جثة (كهيد) أمام أبصار الخاشعين الجامدين الواجمين. وكانت آخر كلمة قالها (كهيد) هي: «ولم الحياة» (ص80).

 

لغة مسرحية صافية

يتجنب الفارسي التعيين أو التحديد التاريخي أو الواقع يفي مسرحيته «الطوفان»، فأحداث المسرحية تدور بين القمة والمنحدر، وأسماء الشخوص لا تعرب والوقف على سكون وعملة القرية هي «التوهاد». والحق، أن ساق الأسطورة يتلبس المسرحية برمتها، ولا سيما اندغام الفعل البشري في قوة عصية على التفسير، توحي بضربات القدر الغامضة في مصير مجهول.

 

أن المسرحية، تلاحق في مرحلتها الأولى «القضية» زواج «سرديد» شمن «نورلاف» ابنة عمه، بينما تتباين مواقف أخواتها الثلاثة من هذا الزواج، خشية من استيلاء «سرديد» على إرث أسرة «كندار» الأب، فتندفع الشخصيات عنيفة حيناً، أو تحجم هادئة حيناً آخر مدافعة عن تطلع قد يبدو غريباً. لنقرأ هذا الحوار بين «أكدير» الابن وكندار الأب:

«أكدير: ما عرفتنا بالزوج حتى نبارك.

كندار: سرديد.

اكدير: عدوك ابن عدوك؟

كندار: ابن عمك وابن أخي» (ص42).

ثم يأتي الطوفان جارفاً دالاً على تفسير كوني تغسل فيه الطبيعة الفساد المنتشر.

عني الفارسي باللغة عناية فائقة، فقد جاوز مبكراً ثنائية العامية والفصحى منحازاً كلية للفصحى بتأنقها الكلامي وبنيانها الشعري منذ مطلع السبعينيات، وهو ميل إلى تعزيز صلاحية المسرحية كنص يقرأ. وكانت بدت حيرة الفارسي جلية في مسرحيته «الفتنة» التي ضمت صياغتين، الأولى بالعامية التونسية والثانية بالفصحى، ومن الواضح أن الفارسي ابن بار للتراث، وقد وجد سبيلاً إلى فهم لغة المسرح على أنها تواضع متفق عليه، أما الحديث عن الواقعية والمحاكاة والنقل الواقعي أو العكس الموضوعي فلا ينفع في الإيصال إلا لقلة من الجمهور، ولا في الانتشار لأن العامية عاميات، ولا في توثيق النصوص وطباعتها، لأن العامية عصية على الكتابة والطباعة. لقد قال الفارسي في دراسة ثمينة عن «لغة المسرح» صدر بها مسرحيته «الفتنة»:

«فلا تدفعنا الخشية من غضب الجماهير ـ ومن تحجرهم وقسوة أحكامهم على الفنانين ـ إلى استجداء التصفيق والمخاتلة وإثارة الغرائز الوضيعة. وليكن الجمهور الحاكم على إنتاجنا، فهو حافزنا للتقديم بهذا الفن إلى مرتبة الفنون الكاملة، وهو الذي سيجبرنا على خلق لغة مسرحية تتجاوز معنى اللغة المتعارف المنحصر في ترصيف الحروف وتصنيف بديع الكلام... فلغة المسرح اتفاق ضمني بين رجل المسرح والمتفرج، وهي إلى القلب أقرب منها إلى الأذن، وما رجل المسرح إلا ذاك الذي يشعر من أعماقه أنه في حاجة إلى الإفصاح إلى التبليغ إلى الدخول في حوار مع الغير.. لأن الحياة حوار مستمر لا يقطعه إلا صمت الموت.. وبصورة جد مؤقتة كما نعلم.. لأن الموت لا يخمد صوت الناطقين».

 

إن إخلاص الفارسي للغة مسرحية نقية تزدهي بحمولات نصه الفكرية والتأملية دفعه إلى إنجاز كتابه السردي اللغوي المدهش «حركات» (1979م) الحافل بتفكير صاحبه الثري حول الوعي المأساوي لحياة مشروطة يتأملها، وينثر فرائد الكلام حولها، وهذا هو موضوع مسرحياته غالباً.

[جريدة «الشرق الأوسط» (لندن) 1994]

 

3

محي الدين زنكنة:

تنازع الاتجاه ومشكلات التحقق الفني

-1-

تبدو المسرحية العربية، بعد تجربتها الطويلة العريضة وكأنها أسيرة نزوع الاتجاه الذي مايزال يحتاج إلى التأصيل إذ نلاحظ لدى كتاب كثيرين معتبرين تداخل الاتجاهات من جهة، أو الحيرة بين الاتجاهات من جهة أخرى. وفي مسرحية «اليمامة» (اتحاد الكتاب العرب، دمشق1982) لمحي الدين زنكنه، بعض الدلالة عن توزع الاتجاهات الفكرية والفنية المختلفة لموضوعه. واعتقد أن ارتفاع نبرة الأفكار في الصياغة الفنية هو السبب في تداخل الاتجاهات، فالكاتب حريص على إبداء الموقف، مباشرة أو غير مباشرة، من عدة قضايا دفعة واحدة؟!، بينما يستطيع العمل الفني أو الأدبي أن يتوفر على تجلية الموقف أو تنقيته من موضوعه دون الانخراط فيه وامشه أو أمثاله أو هواجس الكاتب الذاتية والموضوعية حوله، ولا بأس أن نوضح سبل معالجة زنكنة لموضوعه باعتبارها شاهداً على سواها من مسرحيات، فالكاتب متمرس ومتمكن من فنه، وتشير قائمة كتبه إلى روايات ومسرحيات كثيرة صادرة منذ عام 1968م حتى الآن (5 مسرحيات ـ 3 روايات).

 

-2-

تنقسم مسرحية «اليمامة» إلى ثلاثة أقسام دون عناوين أو فصول أو مشاهد، اعتماداً على خطة العرض أو الإخراج أو ذكاء القارئ. نتعرف في القسم الأول إلى نازك زوجة شاهين في بيتهم الجديد المستأجر وهي تنتظر زوجها مع أثاث البيت، وثمة غراب يحط على الشجرة في الفناء، وجار في المقابل لا يرفع نظره عنها لا وتدري، ثم يحضر الزوج مع الحمالين مردان وخورشيد، وينقلون الأثاث في البيت الجديد البائس.

 

يتحدث مردان وخورشيد عن إعلان بيع الكلية لأحد الأثرياء المرضى في المستشفى مقابل عشرة آلاف دينار، ولا يفلح الأخير. ثم يتحدث مردان عن أشرف الذي دفع حياته ومستقبله دفاعاً عنه، ولا يجد عنده إلا النكران والأذى، ويستطرد في حديثه فإذا هو مالك البيت. ويثار انتباه الحاضرين تعلق المرأة باليمامة التي تلد على الشجرة، فتتعلق بالشجرة وكأنها، كنز فالمرأة بلا أطفال. ونعرف أن نازك فقدت رحمها تحت التعذيب، وأن الأسرة مناضلة. يحضر نزار في القسم الثاني، ونكتشف أنه استغل سجن أخيه شاهين، وابتز الأرض وبنى ثروة، وعندما يقترب من النافذة يلتبس عليه الأمر فيظن أنها تغازل الجار وليس اليمامة، وتكون مشادة كلامية، ويغادر البيت، ولكن أخاه لا يعبأ بالرسالة التي تركها، لأنه يعرف مشكلة زوجته أعني الحاجة إلى طفل.

 

يتطوع مردان في القسم الثالث فيترك صغرى بناته لنازك التي تحلم أن تسميها «بيان» ولكن أم الصغيرة ترفض فيتأمل مردان ويتذكر فضل شاهين عليه في المعتقل.

ويحضر أشرف مالك البيت، ويخبر شاهين أنه بصدد بناء خمسة دكاكين على أرض الحديقة مما يضطر الأخير إلى طرده. وهكذا يرسل أشرف الشرطة لتجرّ شاهين إلى المخفر بقصد تأديبه على يدي صديقه مدير المخفر المدعو سالم علوان. وفي غياب شاهين يعود أشرف مع العامل لبدء الحفر والبناء فتهجم عليه نازك، وتمنعه من قطع الشجرة وتضربه بالفأس على رجله، فيهرب وتغني نازك لمهد البيضة التي أصبحت «بيان»، وتنتظر عودة شاهين.

إن تتداخل مجموعة هموم وأفكار في مسار المسرحية ضمن هذين الإطارين:

- الفوارق الطبقية.

- فقدان الولد.

أن العقم وجه آخر للتباين الاجتماعي والمشكل السياسي، ويشير النص إلى أن المشكل الثاني هو نتاج المشكل الأول، لأن الزوجة نازك فقدت رحمها تحت التعذيب أثناء الاعتقال، وأن المجتمع الطبقي المنقسم يفتقر للعدالة والرحمة. ثم ألم يفقد زوجها شاهين أرضه وهو في المعتقل؟! ويعزو المؤلف هذا كله إلى الظلم السياسي الذي يكرس ظلم الظالمين وغنى الأغنياء وفقر الفقراء.

تكاد تكون المسرحية تطبيقاً لدعاوة فكرية أو سياسية، وهذا بعض أوجه تنازع الاتجاه، عندما يرهن الكاتب موضوعه لأكثر من قضية، أو يريد أن يعالج موضوعه من خلال أكثر من قضية في محاولة واضحة لنفي المشروطية وتعميم المشكلة طلباً لملموسية واقعية عبر التفاصيل اليومية والإقناع السردي بالدرجة الأولى.

 

-3-

تكشف الخاتمة عن التداخل إياه إذ يختلط الواقعي بالتعبيري بالانطباعي، بالقصدية الاشتراكية. حيث تتعامل نازك مع الغراب واليمامة تعاملاً واقعياً، فهي تخطف الفأس، وتهجم على المالك أشرف دفاعاً عن اليمامة، وعندما تسقط البيضة تهرع إليها، وقبل أن تبلغها يسقط الفرخ، فيجن جنونها وتقول: «لقد فعلتها.. لقد قتلتهم.. أنت وحش.. وحش حقيقي».. وترى في الغراب وجهاً آخر لمعنى الأمل، إذ ينقض الغراب على البيضة، مما يدعو العامل إلى أن يرفسه بقوة برجليه فيرتطم الغراب بالحائط ويموت.

وتتبدى عملية التعرف على معنى الأمل من خلال تشبث المرأة بالحياة ـ الولادة، ونبذ فكرة العقم حين تخاطب العامل، وتقول:

انظر00 كم هي جميلة ابنتنا00 بيان. كم هي حلوة إنها لم تمت ولم تموت. ستعيش.. أليس كذلك؟ سيد شاهين. أليس كذلك؟»

ثم يبلغ التداخل أقصاه عندما تخاطب اليمامتين وهما تقتربان من المهد:

«لا تبكيا.. لا تبكيا. أنهما بخير، سيعود شاهين وتبني لكم بيتاً جديداً. أقوى.. وأكثر أماناً.

سيعود شاهين.. سيعود شاهين. حتماً يعود.. حتماً يعود».

تنتمي المسرحية إلى الاتجاه الواقعي المشبع بأخلاقية اشتراكية إلى حد التبشير، وقد مازج هذا الاتجاه ملامح تعبيرية تقرب المسرحية من المبنى الرمزي الواضح بالاعتماد على العلاقة بين نازك واليمامة والغراب حتى تتحول المسرحية إلى نوع من استعارة كاملة لهذا الإيحاء الرمزي حين ترك نازك في بيوض اليمامة أطفالاً، وكأنها انسحبت تماماً من دنيا الواقع إلى رحابة الرمز في تعبيرية يقلل من تدفقها وتألقها صوت الشعارات، وتقصي جانب التباين الطبقي في تأثيره المباشر على حياة الشخوص، وهو ما يصح أن نسميه تنازع الاتجاه وضعف الركون إلى معالجة فنية مستوفية لقصدها وكأنه قصد الكاتب نفسه، وهذا ما يؤثر قليلاً على التحقق الفني( ).

[جريدة «البعث» (دمشق) 6/4/1982]

 

4

«أبوليوس» لأحمد حمدي

التعليمية ولغة الشعر

منذ أن كشف الأديب والمفكر الليبي علي فهمي خشيم عن شخصية أبوليوس، وترجم إلى العربية أعماله الأساسية «تحولات الجحش الذهبي» و«الأزاهير» و«دفاع صبراته»، وهذه الشخصية تجذب الأدباء والنقاد العرب بثراء حياتها وإبداعها، فيما يخص موضوعات كثيرة ما تزال موضع نقاش، كالموقف من التراث الفكري والسردي للأقوام والشعوب الأصيلة على الأرض العربية قبل الفتوحات الإسلامية، مثل الموقف من قضية الانتماء القومي.

إن سيرة حياة أبوليوس تتيح أوسع الفرص لمناقشة هذه المسائل وسواها، كما أن نصوصه، ولا سيما «تحولات الجحش الذهبي»، من كنوز الإنسانية الباقية، وهي مثل «ملحمة جلجامش» تحتفظ بقيمة فكرية وفنية متألقة في التطور الخلاق للتعبير الدرامي.

 

ومن أبرز المحاولات التي استلهمت شخصية أبوليوس مسرحية الشاعر أحمد حمدي (الجزائر) «أبوليوس» (اتحاد الكتاب العرب، دمشق1993).

قدم للمسرحية الطاهر بن عيشة، ولاحظ أموراً ثلاثة: أولها شعوره الغامر بالسعادة لأن شاعراً جزائرياً لم يتهرب من الميدان المسرحي، فأبدع مسرحية شعرية تدرك خطورة رسالة المسرح وعظمتها، وثانيها أن المسرح الشعري نفسه على جانب كبير من الخطورة، إذ فيه يتزاوج الفكر بقدسيته، والشعر بعظمته والفن بروعته، وهذه مغامرة من مغامراته اللافتة للنظر، وثالثها أن للعمل المسرحي أياً كان، قضية يخدمها، وهدفاً يرمي إليه، والقضية هنا: «هي كشف الغبار التاريخي عن نضال شعبنا ضد الاستعمار الروماني الذي خيم ظلامه على أرضنا، مدة تزيد عن الثمانية قرون، ظل شعبنا خلالها يقاوم بجميع طبقاته، ويسعى إلى التحرر والانعتاق من الظلم والعبودية، وأثناء هذا النضال المرير، برزت عدة بطولات شعبية ظلت تضحيتها معالم مجد وشرف، للقوافل المتتابعة للجهاد والحرية، الرافضة للذل، والاستعباد ومن أبرز هذه البطولات، وهي كثيرة  لا تحصى، بطولة «أبوليوس» النوميدي المداوروشي الذي اتخذ منه حمدي، بطلاً رئيساً لمسرحيته الشعرية هذه. وشخصية هذا البطل تتضمن عدة مناقب، تستحق البقاء والخلود» (ص6-7).

ويعيد الطاهر بن عيشه مأثور القول حول أبوليوس، فهو: «فيلسوف كبير، ملم بعلوم عصره، يضاهي في ذلك أكبر فلاسفة اليومان، وهو خطيب مصقع، تتضاءل أمامه بلاغة «شيشرون» الروماني، وهو أحد رواد الرواية والقصة في العالم القديم، وإلى جانب هذا كله فهو قائد سياسي محنك، قاد نضال شعبه النوميدي ضد الرومان بحنكة واقتدار، ومقابل ذلك دفع الثمن كاملاً، سجناً ونفياً من وطنه» (ص7).

 

«وعلى هذا الأساس تكتسي مسرحية «أبوليوس» هذه لصاحبها أحمد حمدي أهميتها الخاصة من كونها أثارت فينا من جديد قضية هذا المثقف العبقري الذي أنجبته تربة الجزائر الخصيبة، وتتضمن هذه المسرحية، في النهاية، دعوة لأحفاد أبوليوس من المثقفين الجزائريين أن يعيدوا الاعتبار لأعمال أبوليوس العلمية والأدبية» (ص8).

وقد احترز الشاعر المؤلف أحمد حمدي من هذه الاعتبارات كلّها وواجه الإشكاليات التي يتمتم عليه إزاحتها، كي لا يكون حاجز الزمن الفيصل الصارم. والحد الفاصل في العمل الإبداعي، كونه مستمداً من الوقائع التاريخية الماضية والموغلة في القدم، وهذا كله لا يغير شيئاً على مستوى الخطاب الأيديولوجي للنص، ولا يشكل أي اضطراب أو غموض في مسار المضمون، فالنص الإبداعي ليس نصاً تاريخياً، ولا هو مجرد سرد ساذج للوقائع التاريخية الجامدة. إنه قراءة جديدة وواعية للواقع في الوقت نفسه. وجدوى المسرح الشعري وأهميته في نهاية القرن العشرين الذي يشهد انحساراً مختلفاً بسبب هجمة وسائل الاتصال والتلفزة على وجه الخصوص، وبسبب لغة المسرح الشعري التي يشوبها كثير من التكلف والصنعة والرتابة، ولكن هذه المعضلات وسواها ينبغي ألا تجعلنا نرضخ لفنون السوق، فالفنون الخالصة والذوقية العالية ضرورة لمواجهة الثقافة المحدودة والاستهلاكية. وانطلاقاً من هذه التحديات، سننظر في صنيع أحمد حمدي.

 

أبوليوس شخصية قومية وفكرية ولدت في مادورا بالجزائر، وعاشت، وقضت بأويا (طرابلس) بليبيا، وتقطع الوثائق بأرومته الليبية، إذ يتصل نسبه ـ كما يقول في دفاعه الشهير المعروف بدفاع صبراته ـ بقبيلة الفايتولي الليبية ونوميديا الجزائرية من جهة أخرى.

وقد اختار أحمد حمدي لمسرحيته شكل اللوحات، فتألفت مسرحيته من 13 لوحة تابع فيها شخصية أبوليوس مركزاً على الأحداث التالية:

اللوحة (1): الكورس وأبوليوس والكائن وحوار حول العدل والطغيان والفوارق بين البشر.

اللوحة (2): أبوليوس في مخفر الشرطة متهم بالشغب وهو يرفض الاتهام، فالأرض أرضه، إنه بربري في بلاده.

اللوحة (3): قلق والديه عليه، وخبر من عبد أنه في السجن فيطمئنه الأب أنه تحت الحراسة، لكن الأم تظل قلقة؛ فللأمر بعده السياسي، لأن أبوليوس من جماعة عصاة أثينا.

يلتفت الأب إلى تجارته واستقبال التجار، بينما الكورس يدعو لانتفاضة الشباب في الشوارع.

الأب هودمنير بلدته مادورا والدمفير منصب وجاهي في المقاضاة الرومانية في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد.

اللوحة (4): يدخل الأب إلى مخفر الشرطة ويدفع لكبير الشرطة نقوداً لإطلاق سراح ابنه على أن يغادر إلى أوما للدراسة، وعند خروجه تأتي أخبار مناهضة للحكم والمطالبة بعودة أبوليوس وتخفيف الضرائب والقمع.. فيطلب من أبوليوس تهدئة المتظاهرين، ولا يفعل، وعندما يبدأ القتل يقرر مخاطبتهم، ويحذر الرومان من القمع:

«أبوليوس خائفاً على مصير السكان» سأخطب فيهم لعلهم يرجعون غير أني أحذركم من مواجهة الوضع بالقمع والقتل، إنما ذاك عين الخطأ بأن الزيت يلهب ناراً، ويلقي الدمارا» (ص41).

اللوحة (5): أبوليوس خطيب في الجماهير لمناهضة روما ويقنعهم بتشكيل وفد من فئات الشعب لمفاوضة المحتلين عن القمع ثم الغلاء وارتفاع الضرائب.

اللوحة (6): لا يستمع القنصل للوفد، بل يأمر بنفي أبوليوس وسجن بقية الوفد، ثم تقوم الحرب بين الفرس والرومان.

اللوحة (7): أبوليوس في بيته مع الشرطي قبل نفيه وتعليقات من الأب والأم وأبوليوس.

اللوحة (8): القافلة إلى لاويا مع المنفيين، ونشيد أبوليوس حول الحنين والوطن: «حزين وقد كانت جراحي كثيرة، لكن جرح النفي أقوى من الحجر» (ص76).

اللوحة (9): في مكتبة أويا ولقاء مع الأميرة بودنتيلا التي تعده ضيفاً في قصرها، وتخبره أنها والدة بونتيانوس الذي تعلم معه في أثينا وروما.

اللوحة (10) تفاقمت المؤامرات على أبوليوس خلال السنة الأولى من إقامته في أويا، فيقترح بوفيتانوس عليه أن يتزوج أمه ليحميه قانون البلاد، ويفعل، وروحه حزينة:

«أبوليوس: أيها الصوت الغريب

يا صدى الحزن

ويا عسف القيود

لم يعد للحرف معنى ووجود

إن بدا عبداً ذليلاً

همه أن يرضي الحكام

والعهد الرذيلا» (ص89).

اللوحة (11) لا يعقد قرانه على أبودنتيلا، ولكنه يقدم للمحاكمة، ويعطي فرصة للكلام فتؤثر السفسطة، ويتهم بالسحر:

«إنني أيها القاضي

ويا حاكم أويا

لم أقل غير الذي أعرف

أما السحر والشعوذة الفجة وأنواع الجريمة

لم تكن يوماً مثاراً لاهتمامي

إنها فعلة شذاذ

وقطاع الطرق» (ص112-113).

ويقرر رئيس المحكمة نفيه من أويا، بينما تخرج مظاهرة هائجة مائجة معه.

اللوحة (12): يرميه الخارج في طريق متاهة خارج المدينة، ثم يلتقطه المسافرون، ويخبرونه بهياج الشعب، ويهتدي إلى قرطاجة أما الأميرة فترحل إلى هناك، ووراءها القنصل.

اللوحة (13): يحكم صديقه «سرابو» قرطاجة ويكرمه مع الأميرة ويحتفلون بإقامة تمثال له ثم يخطب فيهم عن الشاعر فيلمون الذي مات وهو يدعوهم لإزاحة الستار عن النصب والذكريات التي لا تموت.

لقد كتب أحمد حمدي مسرحيته شعراً ونثراً، فكانت جل المواقف الفكرية والنضالية والتأملية مصاغة بلغة الشعر، ونطقت العامة من الشرطة والجنود والموظفين نثراً في محاولة مقبولة لحل عقدة اللغة المسرحية، حين يصرّ نفر من المسرحيين والكتاب على الكتابة بلغة الشارع، ولو في موضوع تاريخي يتناول حياة الملوك  والأمراء والقادة والمفكرين والأدباء والعلماء.

عمد أحمد حمدي على التبسيط وإحلال لغة الشعر في مكانها السامي والتأملي والرقيق والنضالي، بينما خص وصف الفعل وتناميه ومنطوق العامة بالنثر، وهذه نقطة تحسب لهذه المحاولة المسرحية. ومن الواضح أن أحمد حمدي لا يطمع إلى الإحاطة بثراء شخصية أبوليوس كله، فقد نشد أمرين: أولهما إحياء ذكر هذه الشخصية القومية الفردية، وثانيهما تكريم القيم الفكرية والنضالية، ولا سيما قيم الانتماء إلى الأرض والوطن، وقد مثلتها سيرة أبوليوس تمثيلاً مشهوداً، غير أن نزوع حمدي إلى التبسيط والاختزال قد قلل من قابليات معالجة شبكة المفاهيم والعلاقات المعقدة في سيرة أبوليوس وعصره. ومن أتيح له أن يقرأ «دفاع صبراته» و«الأزاهير» على وجه الخصوص، يدرك ذلك التبسيط المخل سواء في عرض تأملات أبوليوس وأفكاره، أو في  تتبع سيرته الفنية.

لقد استفاد حمدي من نصوص «الأزاهير» كثيراً، بنصها أحياناً، غير أن هذه الاستفادة لم ترتفع بالمسرحية عن مستوى الإخبار عن شخصيته، إلى مستوى التحليل المعمق لعصر بأكمله من خلال هذه الشخصية. لعلها الدهشة الأولى أمام مثل شخصية أبوليوس، ولعل الشاعر حمدي اكتفى بمسرحية تعليمية بالدرجة الأولى.

[جريدة «الشرق الأوسط» (لندن) 1994]

 

5

«مسرح الحكواتي» من لبنان:

حكايات للمتعة والفائدة من سنة 1936م

-1-

وسط أضواء مهرجان دمشق الثامن للفنون المسرحية الخافتة، يسطع عرض مسرح الحكواتي «من حكايات سنة 1936م» شمساً صغيرة دافئة تخترن دروس التجربة وتحيي أملاً على أنقاض الماضي ثم تنطق حكمة التاريخ باعتبارها الصوت العربي الفصيح الذاهب إلى المستقبل على الرغم من اشتداد المحن، فلا يزال العرب منذ عصر النهضة يرجون الاستقلال والحرية والتقدم.

لقد عاد «مسرح الحكواتي» إلى قصة الشعب بقصد انبعاث فعاليته الكامنة في تاريخ المهمل: تاريخ النهوض واستمرار النضال، فكانت الاستعادة: خلق واقع موجود وحقيقي ومعاش يمتد إلى الصالة حيث فعالية المشاركة بين الخشبة والمتلقي. وهكذا يصبح عرض «من حكايات سنة 1936م بحثاً للفنان وجمهوره عن المصير. وربما كان هذا بالذات هو إنجاز روجيه عساف وفرقته: مضاء وظيفة الفن في قلب الإمتاع والإدهاش.

 

-2-

بنى مسرح الحكواتي موضوعه من تفاصيل قرية بنت جبيل: تاريخ المشرق العربي مع الاستعمار، فقد شهد عام 1936م أحداثاً عاصفة في سورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق، لأن خريطة الحدود لم تكن مرسومة على الورق بعد. كان الاستعمار يرتب أوضاعه، ويرتب وضعاً عربياً يمزق فيه الوطن إلى دول ودويلات، وضعاً عربياً يمزق فيه الوطن إلى دول ودويلات، وهذه هي علاقة المسرحية الراهنة، مايزال جهد الاستعمار والصهيونية والخونة نحو ترتيب وضع عربي جديد يمزق الوطن إلى دويلات ودويلات. يذكر العرض المسرحي تفاصيل كثيرة، إلا أن ثمة ترابطاً بين الخاص والعام يشارك المتلقي في بنائه لاستخلاص العلاقة. أغنية عن الوطن فيها فرحه وعذابه وهياج الذكرى واكتمال الأسى ورجاء الفرج تتلوها المفارقة: تقطيع أوصال الوطن الحدود. الحدود. الحدود. تحالف الاستعمار والأعداء والخونة وملحمة الكفاح اليومي الصابر لمجموع البسطاء من فلاحي بنت جبيل ومواطني القرى العربية كلها. ثم تتراكم التفاصيل: العسكري الفرنسي والإنكليزي وضيعة المحتل يسرقون خيرات الأرض وأمنها ويمنعون الحرية. وتتراكم التفاصيل بالمعايشة أو بالمقابلات الشخصية أو بالتنقيب عن مراجع، وهكذا يستحضر مسرح الحكواتي تاريخ 1936م الممتد إلى الحاضر في تركيبته الاجتماعية وصراعاته السياسية وفي إرادة التغيير لبناء المستقبل. لقد انطلق مسرح الحكواتي من صور وشخصيات وأحداث واقعية وحسية، وتحويلها فنياً عبر اكتشاف أساليب في الأداء نابعة من ذوق ومخيلة أصيلين، بهذا يضيف مسرح الحكواتي صدق الفن إلى صدق التاريخ: قوة الإقناع في لبوس الفن.

ينهض جسم العرض اعتماداً على التراث: الأمثال، المأثورات، المظهر، الأغنيات، اللغة في عناصر تستمد ترابطها من أساليبها في أسباب الممارسة المسرحية.

 

-3-

أن ثمة تطويعاً لحاجات الوظيفة وحاجات الفن في آن واحد، فهناك عمل جمعي تتفاعل في إطاره جهود الجماعة وتثمر. وقد اتخذ العمل معنى القرار، وبعد ذلك المسؤولية المشتركة في تقرير الموضوع أو طرائق الكتابة أو إعداد التمثيل أو التعامل الاقتصادي أو العلاقة المباشرة مع الجمهور، وقد فصل بيان مسرح الحكواتي هذه السمات في شرح مستفيض، ولكننا نلمس أيضاً مصداق هذا البيان في ممارسة حيث يجود المخرج عرضاً ويرتفع بمقاصده إلى مصاف الفكرة  العظيمة. إن مسرح الحكواتي ممتع ومفيد، وفي حصيلته هذه تكمن إجابته على إشكاليات مسرح عربي ناهض.

 

-4-

لفت مسرح الحكواتي النظر إلى مقدرته الفائقة على إحياء وقائع هي أحداث راهنة في الوقت نفسه: أهمية نضال الإنسان العربي ضد أعداء الخارج والداخل معاً، وعلى الرغم من استهلاك خاصية كسر الإيهام المسرحي ومشاركة الجمهور في تنظيم العرض، فإن مسرح الحكواتي في تدريبه للممثل وفي خصائص التعامل مع الجمهور، استطاع أن يحبذ هذه الخاصية، وأن يشحنها بدواعيها الفاعلة: إعادة الجمهور إلى علاقته بواقعه، أي وعي ذاته.

ونشير هنا إلى بساطة أدوات العرض، لأن الأساس هو الممثل وما يمليه من مقاصد هي امتزاج الفن بفكرته: ولقد أثمرت مباشرة المتلقي في إملاء الشرط الموضوعي على المزيد من التفاصيل الصغيرة.

 

-5-

إن الحلول الفنية لمسرح الحكواتي باهرة تقوم على استمداد تقاليد المسرح من تقاليد الشعب: الراوية ومعطيات الجماعة في اللقاء والتخاطب و التفكير وآلية الفعل ورد الفعل، أي استمداد حلول فنية من حياة الشعب وأساليب تواصله مع شؤونه المختلفة وتأدية ذلك في سياق مسرحي ينشد الإقناع. كان هناك دراسة دقيقة للملابس والديكور الفقير وقطع الإكسسوار مثلما كان هناك دراسة دقيقة لقدرات الممثلين، ولكن المهم في هذه التجربة هو جرأتها الفائقة على تبسيط الممارسة المسرحية إلى مستوى حياة البسطاء في وطن منقسم.

 

-6-

«مسرح الحكواتي» في مسرحيته «من حكايات سنة 1936م» يعيد الثقة بالمسرح العربي ونهوضه، ويؤكد من جديد، أهمية الجهد المبذول للإجابة على أسئلة تطوير المسرح العربي الصعبة: أن يسهم في إرساء تقاليد، وأن تكون له فعاليته في التاريخ، إنه درس مفيد لمحترفي الصمت ومحترفي الثرثرة في آن واحد.

[جريدة «المسيرة» (دمشق) 19/5/1974]

 

6

آخر مسرحية لسعد الله ونوس

«الأيام المخمورة» ونقد التردي الاخلاقي

تنتمي مسرحية سعد الله ونوس الجديدة «الأيام المخمورة» (دار الأهالي، دمشق 1997) إلى موجة إدانة الفساد الأخلاقي والاجتماعي، وهي المرحلة الأخيرة في كتابته المسرحية، وتشمل مسرحياته «يوم من زماننا» (1993)، و«طقوس الاشارات والتحولات» (1994) و«أحلام شقية» (1994)، و «ملحمة السراب» (1995).

 

شغل ونوس بالتردي السياسي، في رؤى تاريخية نقدية،في غالبية مسرحياته، حتى مسرحيته «منمنمات تاريخية» (1993)، التي عادت، شأن مسرحياته «مغامرة رأس الملك جابر» (1971) و«سهرة مع أبي خليل القباني» (1973) و«الملك هو الملك»» (1978)، إلى قراءة جذور الراهن في مهاد التاريخن أو مهاد التفكير بالتاريخ. ولعل مسرحيته «الاغتصاب»(1990) ذروة اعتماله بالسياسة والتفكير السياسي في أكثر موضوعاته راهنية، أعني به موضوع الصهيونية والصراع العربي ـ الصهيوني، ولكنه في فترته التالية، فترة المرض، التفتت في غالبية مسرحياته إلى معاينة التردي الاجتماعي والاخلاقي في اطار تاريخي، كما في مسرحية «طقوس الاشرات والتحولات»، أو في اطار راهن، كما في مسرحيته «يوم من زماننا» و«ملحمة السراب»، و تحفل هذه المسرحيات بأشكال متعددة لادانة ما يشين الروح الإنسانية

يحاكم الضمير الاخلاقي في مسرحيته «الأيام المخمورة» الفساد المنتشر مجسداً في صوت الحفيد وحضوره المتواري، رابطاً بين الأحداث، بما يعنيه الوازع الاخلاقي من دلالات؛ إعمال الذاكرة أو تنشيطها، ومعاينة أفعال الخير والشر، وإثارة دوافع الحرية والمسؤولية، تأويل الماضي ورؤية الحاضر والتنبؤ بمآل المصائر التي احتشدت على أصحابها، وخلل ذلك كله، إكمال الثغرات الزمنية والمضي إلى التفسير والتحليل والتأويل إن لزم الأمر. بل ان المسرحية تبدأ بسؤاله عما جرى، ووعده أن يكشف عنه، ويسميه دملاً في العائلة (ص5) ولماذا يتسترون عليه، أما هو فيريد أن يفقأ الدمل، ويرفع الأستار، عن الأحداث، كما في بداية كل مسرحية، وعن معنى الأحداث، إشارة للمستوى المجازي الذي لا يخفى، ثم تنتهي بتعليقه شاباً يشخص دور الحفيد، و«بدلاً من الحقيقة، أعدت صياغة العائلة في رواية» ص(125) معولاً على وظائف  الحكاية، لأنها كما يقول الاراجوز الذي يشخص المأساة:

«وحدها هي التي تخفف العذاب، وتداوي الجروح. وحين تعلم الانسان كيف يحول مصائبه إلى حكايات، تتقاسمها الآذان والرياح والأزمان، كان يكتشف بلسماً سحرياً للجروح والآلام» (ص126).

وقد أعطى المؤلف بعداً وطنياً للمثال المنشود في مواجهة انتشار التردي الاخلاقي، فقد أكدت الصبية التي تشخص دور ليلى أم الحفيد أو الشاب:

«في 29 أيار 1945، وكان عمرك سنتين ونصف، استشهد أبوك شامل السيراون مع حامية الدرك، التي أبيدت، وهي تدافع عن البرلمان ضد القوات الفرنسية، التي كانت تريد السيطرة عليه. إياك أن تنسى هذا التاريخ. في 29 أيار سنة 1945» (ص126).

على أن المؤلف، يحتفي، في ختام مسرحيته، بالتطهير، على غرار المسرحية التقليدية، منذ اليونان، وإلى وقتنا الراهن، فيذكر الشاب محاولات جدته للتكفير عن ذنبها، ويدور هذا الحوار الدال بينه والصبية التي تشخص دور والدته ليلى:

«الشاب: وأذكر أن جدتي أصرت أن يمدّ فراشها على الأرض، وخلال فترة لا أعرف كم امتدت، تعودت أن أراها دائماً متمددة على ظهرها، ويداها معقودتان فوق بطنها. وكانت لا تكف عن التمتمة، وقليلاً ما تأكل أو تتحدث.

الصبية: مرة قالت لي.. أشعر أن داخلي مليء بقطن أبيض ومندوف. بياض يرهب ويُبهر. لا أستطيع أن أصلي او ابتهل. ابتهلي لي.. إن كنت احتاج رأفة أو مغفرة.

الشاب: أكانت جدتي بحاجة إلى الغفران.

الصبية: اللّه أعلم...» (ص127 ـ 128).

يوزع ونوس مسرحيته إلى فصول، ويضع لكل فصل عنواناً، مستفيداً من بعض خصائص السرد الروائي، وبلغ عدد الفصول 26 فصلاً تقارب طبيعة المشاهد في المسرحية التقليدية، على الرغم من التزامه بتمهيد الحفيد للفصول أو تعليقه عليها، على طريقة الجوقة أو الكورس، مطوراً بعض مهامها لتتناسب مع نزوعه الملحمي في اتجاه كسر الايهام، كما يتبدى في العنوان الشارح لكل فصل، وفي مخاطبة المتلقي مباشرة، في فصول التشخيص التي يقوم بها الاراجوز وفرقته التمثيلية، أو في حديث الحفيد نفسه، كما في التمهيد ـ المطلع:

«فيما بعد.. مع نمو إدراكي وفضولي، أيقنت أن العائلة دُملاً يتستر عليه الجميع. وأدركت على نحو غامض، أني لن استقر في اسمي وهويتي إلا إذا كشفت الدمل وفقأته. بدأت البحث مع أمي. ما طلتْ كثيراً، وتهربت طويلاً. وفي النهاية.. حكت لي عن ذلك الصباح» (ص5).

 

كان الدمل هو التردي الاخلاقي الذي منيت به العائلة في مناخ الفساد المنتشر، وكان الكشف عن المأساة فصلاً أثر فصل، مع محاولة مباشرة الخطاب المسرحي واستثارة وعي المتلقي وإشراكه في المصير العام، لأن المأساة عامة بعد ذلك، وهذا ما سعى إليه ونوس في مسرحياته الأخيرة التي أشرنا إليها، وفي هذه المسرحية على وجه الخصوص.

 

أما الحكاية فهي سيرة عبد القادر الطحاوي التاجر الدمشقي وزوجته الشابة سناء سليلة آل العجان المعروفين بتجاربهم وورعهم الديني، وأبنائه عدنان المنخرط في سلك الشرطة، وسرحان طالب الجامعة الامريكية ببيروت، وسلمى، وليلى. وتبدأ الحكاية مع سناء، وقد دخلت المرأة (ربما هي صورة سناء أو ضميرها) لتشجعها على الحياة والحب، فالرجل (الحبيب) ينتظرها، «والزوج لا يلمس وجودك إلا وقت شهوته أو حاجته»(ص12).

 

وحين يقام عيد للأب، لا تشارك الأم سناء في الاحتفال، ثم تغادر حزينة إلى غرفتها، بينما عدنان وسرحان يحاوران أباهما أن يغير قديمه، فهو متمدن، ولكنه يتسربل بالماضي ولباسه، ويحضران  الخياط، وتشارك سلمى في رمي سترة العصملي، ويطلبون من الخياط أن يجدد اباهم (ص17)، ويرضخ الأب، ولكنه يصرّ على استمرار ارتدائه للطربوش، لتكون فرصة للمفاخرة بين الطربوش والقبعة، توكيداً على محنة الصراع بين القديم والجديد، والتباس التقدم، وانعكاسه على مصائر العائلة، والمجتمع بعد ذلك. ثم يطرح التساؤل على قسوة الأب مع الأم، فتفضح سلمى ما رأت في فراش أمها وأبيها، لأن «الفراش هو الأرضية، التي يتقرر فوقها شكل العلاقة، ومصير الزواج ذاته»(ص23ـ24). ويوضح «فصل الفراش الزوجي» بين الأب والأم ذلك، فهي تستجيب له في الفراش، وهو يعنفها، وترضخ لتوجيهه، فيباشرها بعنف، مما يضطرها إلى إعلان كرهها له، وكانت تعني ذلك، بينما يعتقد الأب أنها تؤدي ذلك لاستكمال طقسه المرغوب (ص26)، ويعلق الحفيد: «كانت الأيام مخمورة، تترنح بالاباحة المفاجئة، والرغبات الذاهلة»(ص27).

 

وفي جانب الأبن سرحان، نتعرف إلى عصمت البوري المهرب وعشيقته سونيا، وإلى اندفاعة سرحان في دربهما الوعرة، لأن نفسه عافت الدراسة، ويسارع البوري لتلقينه وتدريبه وادخاله في «الحياة الحقيقية» ليوغل في الفساد، ويجرّ معه اخته سلمى التي تطمئن إلى زوجها، فهو، برأيها، ملائم بليونته.

 

وتتصاعد الأحداث بلقاء الأم سناء وحبيبها «حبيب» المسيحي، وهما يتناجيان، ويسردان جانبا من سيرتهما ووقوعهما في الحب على الرغم من فوارق المذاهب والعادات، فيصارحها أنه ينتظرها حتى تأتي، وتغادر وهي لا تدري! (ص37).

 

ثم يبالغ المؤلف في كسر الايهام باللجوء إلى تشخيص ما يقع، وكان فعل شكسبير ذلك من قبل في «هاملت»، فخصص «فصل جريمة العصر» لإماطة اللثام عن مقاربة العلاقة بين الأب والأم، فتعلق سناء، متفرجة، أمام المرأة، أنها مهتاجة من رؤية المرأة المخيفة فترتعش من جرأتها على الفعل، فتجيبها المرأة: «لا سعادة إلا أذا ملكنا بعض جرأتها» (ص47).

 

على أن سرحان يدعو أخاه عدنان للدخول في الفساد، بينما هو ينتظر صديقه شامل السيروان الذي سيغدو زوج اختهما ليلى. وتقرر الأم أن تعترف بحبها لحبيب، و«تلك هي الحقيقة، أنا أحب رجلاً، وأريد أن أعيش معه»(ص54 ـ55). غير أن ابنتها ليلى ترفض قرار أمها، وتفقد النطق أما ابنتها سلمى فترى أن بامكان أمها درء الفضيحة، واتخاذ عشيق بالسر، وتنبش للحفيد الذاكرة، وتروي وقع المصيبة على العائلة، فيمزق الأب ثياب التمدن، بينما ينخرط الأبناء بالبكاء، مما يضطر الحفيد إلى الاعتراف، على طريقة المسرح الملحمي، بأنه يملأ الفراغات، فثمة «فجوات كثيرة، لم أجد ما يسعفني على ملئها إلا خيالي.. وعلى كل، كنت كلما تقدمت في عملي أدرك أن ما أجمعه، وأرتبه، ليس إلا أخباراً، يتشابك فيها الحقيقي والخيالي معاً» (ص63).

 

وهكذا صور حبيب وسناء في بيت جبلي، وهما يستحضران ذاكرتهما، أما أبو سناء فيستغل الحادث المؤسف لينهي اتفاقات العمل مع الأب عبد القادر مما يزيد من خسائره، ويفاقم وطأة المصيبة عليه وعلى مصالحه.

 

ويتابع المؤلف وصف التخلف في «فصل الجني والجسد المسكون»، فقد لجأ أهلها إلى الشيوخ والطب الشعبي، فضربت بالسياط لإخراج الجني من جسدها الواهن، وكي اللسان وما يورثه من آلام مبرحة لمدة طويلة.

 

أما سرحان فقد أصبح رأس الفساد حين رحل مع معلمه البوري شريكاً إلى مصر وقبرص وغيرهما، وعاد وحده يحمل نبأ وفاة البوري في ظروف غامضة، فاحتل مكانه وعمله وامرأته سونيا، لأنها مضطرة، وتحتاجه حامياً على الرغم من يقينها بأنه القاتل، ويشرك سرحان اخته سلمى في مشروعاته، وتُسمى ملكة اللذة.

ويتوج السرد المسرحي باعلان الحفيد ازدهار أعمال الملكين: سرحان وسلمى، ولا يخفى أن الازدهار يعني الفساد، ليبدأ بعد ذلك تشريح آلية التردي الأخلاقي في مرتع الفساد، نتاجي سناء ذاتها (المرأة) عن متعتها بعريها مع حبيب غير أن نداء الغيرة يشتعل. ويقرر حبيب أن يبني سوراً حول البيت لحمايتها من غضب الأبناء، وترفض هي، ويستجيب ثم تستجيب آخر الأمر. ويطالب الأب أبنه عدنان بالنسيان، ويمدح نجاح سرحان الذي فاق التوقعات. ويلتفت المؤلف إلى ليلى، وشامل السيروان، الذي صارحها بحبّه، بينما تراه هي مخيفاً، وتخشى أن يكون حبه شفقة، ولا يقبل هو كلامها، لأنه أحبها ويستعملان الكتابة بينهما. ويختلف الأبناء، عدنان وسرحان في متاهة الأم، ويخبر الأول الثاني أنه وجد مكان الأم مع حبيبها «حبيب»، ويستغرب الثاني أن الأول ما زال يدور في هذه المتاهة، وينصحه ألا يفكر بالعار، وأن ينساها، ويعرض عليه العمل معه، ويرفض، وعندما يغادر يخاطب الثاني نفسه: «ما أطيبه، وما أغباه! أنا ملك اللذة، يريدني أن أجرد حملة لمحاربة العار وغسله» (ص96).

 

تمضي ليلى في رحلة شهر العسل مع شامل الذي يقرأ معها رسالة أمها، الخانية والحادبة على الحب، فالحب وحده «سيفك عقدة لسانها» (ص99). وبالفعل، تحرر لسانها من عثراتها بعد ليلة عامرة بهيجة، واسترد طلاقته، وأخبرها في الصباح: «انه واحد من الشباب الوطنيين، وأن نضالهم لن يتوقف حتى تنعم البلاد بالاستقلال» (ص100)، ولا شك، ان هذه الاشارة تدعيم للقيم الاخلاقية في بعدها الوطني.

 

ثم يسرع عدنان لمواجهة أمه، ويضعف، وهي تحنو عليه وتضمه، وتخاطبه: «هل جئت لتقتلني؟». (ص102)، وتخبره أنها لن تتوسل ما يعارض قدرها، وتحفزه ألا تتآكل عزيمته، ولكنه يضعف، ويهرب، ونعرف... ان سرحان وشى باخته سلمى لدى الفرنسيين حرصاً على مملكته التي «تزدهر وتزدهر»(ص106).

 

لقد انتهى بناء السور، وظلت الأم كئيبة، لأن ما فعلته لم يكن إلا وهماً بددته زيارة» الابن (ص108) ويحاول حبيب أن يبدد الوهم خلل فعل الحبّ في فضاء حريتهما، غير أنها تحسّ رصاصة تخترق رحمها، وتمضي إلى حطام روحها، فهي لا تستطيع المتابعة، وتنحفر الفاجعة بانتحار عدنان، أما سرحان فيفلسف نفعيته في خطاب براق: «ما بدد عائلتنا، وما يبدد حياة الأغلبية من البشر هو الأوهام»، «ومدار الحياة الفعلي سيظل يدور حول الرغيف والفرج»(ص119).

 

وتنخرط الأم في الأحزان والفشل: «العجز في رحمي يا حبيب»(ص122)، فتتمنى أن تموت في الشام، وتطلب منه أن يرتب الموت والقبر ختاماً مأساوياً لفاجعة إخلاقية مدمرة.

 

ولعل هذا العرض التعريفي والنقدي للمسرحية يشير إلى أنها ترسيخ لانعطافه جديدة في مسرح ونوس، فقد حرص على البعد السياسي والايديولوجي، المباشر والصارخ، في غالبية مسرحياته، حتى ظهور مسرحيته «الاغتصاب»، ليعمق نزوعه الاخلاقي والانساني متوشحاً ببعد اجتماعي أو بعد وطني في مرحلته التالية، ولا تخرج مسرحيته «منمنمات تاريخية» (1993) عن هذا الاطار، فهي محاكمة تاريخية لعلاقة المثقف بالسلطان في التاريخ العربي، من خلال شخصية عالم الاجتماع والعمران العظيم عبد الرحمن بن خلدون. وإننا لنعزو قسوة ونوس على هذا العالم إلى التأثير الإخلاقي، إلى حدّ التطرف في تجاذبات التاريخي والجوهري في وجدانه المرهف المعنى بوطأة المرض وتداعي المثال العقائدي. ونورد بعض الالماحات إلى خصائص هذه المسرحية في مسرح ونوس:

1ـ غلبة السرد الروائي على الفعلية (الدرامية)، فثمة تداخل بين المسرح والرواية، بين الصراع وسرده، وكان طمح لذلك مسرحيون بارزون مثل توفيق الحكيم في روايته «بنك القلق» (1962)، ففي هذه المسرحية يُحكى عن الصراع، أكثر مما يعنى بمسرحته.

 

2ـ لا تستعيد المسرحية شكلاً أو صوغاً مسرحياً شأن غالبية مسرحيات ونوس السابقة، بل هي تحرث في أرضها، أرض الفساد الأخلاقي والاجتماعي، المشبع بدوافعه الانسانية، على الوجدان المروع بحجم الخراب، وهي أرض طالما حرث فيها ونوس في مرحلته الأخيرة بمزيد من اللوعة وعذاب الوجود.

 

3ـ ثمة حرص بادٍ على إضاءة البعد الوطني للقيم الأخلاقية والانسانية، فلا ينسى ونوس الإحالة إلى الشروط التاريخية، من الاستعمار الفرنسي والمفوض السامي السيد دي مارتل، إلى مواجهة الاستعمار والاستشهاد دفاعاً عن البرلمان، موئل الحرية والديمقراطية وقيم المجتمع المدني. ولا تخفى الاشارات الأخرى إلى معضلة التخلف والتقدم في تمحيص المفاخرة بين القبعة والطربوش، أو في تبيان ضغوط الفوارق الدينية والطائفية والفئوية على معاني الوجود، الاخلاقية والانسانية.

 

4ـ التوكيد على الفاجع في المصير المأساوي لمحنة الذات، فقد عبر ونوس عن يأسه المطلق من هذا السواد الذي يمحي الأمل في تضاعيفه وسجفه التي تغطي الرؤية، فالحب، خلاصاً أو أملاً أو رجاء، لا يحمي، بل هو يصير إلى مصدر للعذاب والاختناق والعقم والمرض، وأي تبشير بالولادة (العجز في رحمي يا حبيب).

 

تتصارع في هذه المسرحية الفكرة الانسانية مع الفكرة الدينية، أما العناصر الايجابية في المسرحية إلى حد كبير أو قليل مثل ليلى وشامل وعدنان، فهي تعاقب بالبكم (ليلى)، أو تنتحر (عدنان)، أو تستشهد (شامل).

«الأيام المخمورة» مسرحية جديدة لونوس يؤصل فيها نزوعه الاخلاقي في رؤية سوداء قاتمة للعالم، فالفساد المنتشر كفيل بخنق تباشير الأمل. وإنه لنداء حي لن يتلاشى في وقت قريب!.

[جريدة «الشرق الأوسط» (لندن) 1997]

 

7

عن مسرح وليد مدفعي وأدبه:

تنازع المثال والواقع

تعرفت لأول مرة إلى وليد مدفعي في منتصف الستينات، من خلال قراءتي لروايته المميزة والرائدة في الأدب الساخر «مذكرات منحوس أفندي» (1959). وقد لفت نظري فيها دعابيته التي تمزج بين الفكاهة الناقدة والمرارة الموجعة الجارحة دفاعاً عن القيم الأصيلة المهددة تحت وطأة المتغيرات الاجتماعية. ومن الواضح، أن نزوعاً أخلاقياً مشبوباً طبع تفكيره الأدبي على الدوام، وأن تلمس له لبوساً لبوساً اجتماعياً كما في أعماله الأولى، رواية «مذكرات منحوس أفندي»، ومجموعته القصصية الوحيدة «غروب في الفجر» (1960)، وسلسلة مسرحياته المنشورة، وهي «وعلى الأرض السلام» (1961) و«البيت الصاخب» (1963) و«وبعدين» (1970)، و«أجراس بلا رنين» (1976)، وهي كلها كتبت في الستينات، بما فيها مسرحيته الأخيرة، لأنها فازت بجائزة هيئة الإذاعة في منتصف الستينات، ويذكر أيضاً أن هذه الفترة هي الأكثر نشاطاً في إبداع المؤلف، فهو عاود النشر بهمة عالية خلال العقد الأخير، فظهرت له ثلاث روايات هما «محب المشاكل» (1989)، و«قياديون بلا عقائد» (1993) و«شجرة الرحمن» (1997)، وكتاب عن تفسير المواضيع الفلسفية في القرآن الكريم بأسلوب روائي، سماه «فلسفة القرآن» (1992)؛ أي أن وليد مدفعي التفت عن الكتابة المسرحية منذ أواخر الستينات، وكان عدنان بن ذريل في كتابه «مسرح وليد مدفعي» (1970) قد أشار إلى مسرحيات أخرى مكتوبة آنذاك، وما تزال طي الأدراج، كما هو الحال مع مسرحية «بين انقلابين»، وهي تتجه إلى النقد السياسي قليلاً، وإلى النقد الاجتماعي، على عادته، كثيراً. ونلاحظ أيضاً، باستمرار، ولع وليد مدفعي بالنقد الاجتماعي إلى حد التعليمية، وهذا جلي في غالبية مسرحياته، وأعماله الأخرى، لنمعن النظر في العنوانات وحدها: «غرباء في أوطاننا» (1972) و«قياديون بلا عقائد»، وبلغت التعليمية حدها الأقصى في روايته الأخيرة «شجرة عبد الرحمن»، وهي تشرح قصة إسلام جزر الواق واق، ولعلها تصلح للناشئة والفتيان كثيراً.

لقد كتبت عن مسرح وليد مدفعي في كتابي «التأسيس: مقالات في المسرح السوري» (منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1979)، ولأنه انقطع عن كتابة المسرح أو كاد منذ ذلك الوقت، فإن الرأي في مسرحه لا يحتمل قولاً جديداً. وهكذا، سأكثف القول في مسرحه مثيراً بعض الأسئلة بعد ذلك.

 

يقدم وليد مدفعي في مسرحه خدمة هائلة لمن يستسهلون الحياة حين تختزلها لهم بأوصاف معينة وصفات مستعجلة. وهذا الخلل في الطريقة يبدأ من اعتبار الذات صغيرة (الفرد) كانت أم كبيرة (المجتمع استتباعاً لهذا المنطلق) مسرحاً طيباً لتجاوز منغصات الحياة بدعوى الإيمان بالمثل لصالح حرية الاختبار بمعزل عن ظرفها التاريخي وشرطها القائم لكي تقول المسرحية رأيها وكأنه مصدر قوتها في هذا العالم،  وهذا كله بتأثير نزوعه الأخلاقي الذي يظهر في مسرح وليد مدفعي متمثلاً بالصراع بين التعلق بالمثل الأعلى وممارسته. إن رؤية خيرة لطفل وحدها لا تكفي لتبدل موقف مجرم أو خائن كما في مسرحية «وعلى الأرض السلام»، ولا يكفي التخلي عن البيت الصاخب خلاصاً من متاعبه ومشكلاته، كما في مسرحية «البيت الصاخب» ولا يكفي أيضاً وصم الخونة بالخيانة وتسمية «التنين ذي الرؤوس المتعددة» تصريحاً أو تلميحاً، حيث يقتل الفرد «التعبان» في النهاية دون مبرر، كما هو الحال في مسرحية «وبعدين».

 

إن الصراع في «وعلى الأرض السلام» لا يرتكز على مادة أساسية، بل يناقش اهتماماً جانبياً في ممارسة شخوصه، ثم يرتمي على بساط الموضوع ناطقاً بوعظه: «لقد صدقت الآن والذي علمني الإيمان هذا الطفل الصغير وحده: مع أخيه الإنسان وتبادلهما المحبة والإخاء والسلام» (ص88).

وهكذا يوصلنا وليد مدفعي إلى توجيهات معلم المدرسة الابتدائية تماماً أو نصائح رجل الدين مكتوبة أو مشفوعة بمنبر عريض مثل خشبة المسرح دون أضواء. ومنذ زمن صرح تشيخوف بصوت عال: «إنك تريدني حين أصف لصوص الخيل مثلاً أن أقول: «إن سرقة الخيول عمل خاطىء». ولكن هذا شيء معروف منذ عصور طويلة دون أن أقول أنا ذلك. دع المحلفين يحكمون عليهم، فمهمتي هي ببساطة أن أبين أي نوع من البشر هم».

 

يباشر وليد مدفعي الصراع في «البيت الصاخب» لا في أتون الفعل، بل في زحمة احتفاله بصياغة لغته، وكأن استهداف الحقيقة من أقوال الساعي إليها، وليس من تتبع سيرة حياته في نضالها لتخطي وضعها المختل. إن البيانات والخطب والأقوال ـ ولا حاجة للشواهد ـ هي محرك «البيت الصاخب» وليس أفعالها، حيث بقيت الشخوص بمنأى عن نمو العلاقة إيثاراً لتراكم في التفاصيل يستدعي مزيداً من أناقة اللغة. إن الشخوص لا تملك قدرة المجابهة مع نفسها لذا عجزت عن أن تنهض على قدميها فتوازي قامتها ـ مجرد موازاة ـ خلل الواقع.

 

أما مسرحيته «وبعدين» فتنطوي على حل مسرحي يكرس الموضوع قضية مطروحة لولا شطط عنصر الخيال بعيداً عن مسار القضية التي كرس لها وليد مدفعي اهتمامه الأول: كشف خونة الحياة، وهي مهمة صعبة، كما نرى، وتحتاج لمدار مفتوح ينفع معه اللجوء «الفنتازي»، ولكن ما فعله مدفعي هو الانحياز التام لإنجاح عنصر السخرية والفكاهة المصنوعة، لا مفارقة الموقف ودعابيته، وهو الأمر الذي أنجزه في رواياته الساخرة، مع الاحتفاظ بالمكانة المهمة لدلالة الصرخة ـ عنوان المسرحية: «وبعدين»، على الرغم مما تشي به من أحاسيس شعبية مكتوبة تعبيراً عن جماع نفاذ الصبر على المظالم. إن استشباه موضوع المسرحية يؤكد الشبه بينه وبين مثيله في الواقع. ثمة رجل «تعبان» فجأة ثم يعود لبيته ليموت قتيلاً برصاص زوجه البسيطة «التعبانة» مثله، إذ تحرض هي على قتله دفاعاً عن وضع خاطىء جديد.

كما يمكن لمسرحية «وبعدين» أن تكون ملهاة سوداء وأن تكون بعد ذلك، شاهداً على تطوح معنى الأمان بين الرقاد والصحو، إلا أن كثرة اللوازم الميلودرامية دون رصيد حقيقي من قوة العواطف الإنسانية جعل منها مرثاة لقدرة القوى المجهولة على العبث بمصير الإنسان.

 

أما مسرحية «أجراس بلا رنين» فتأخذ ملامح حية ثم تعطيها دون إبطاء لإيقاعها حتى لتختلط وهي تعتلي رقاب فكرتها بفعالية عامة وهدف، وفي هذا سر نجاحها. «فايز» مدرس آثر المكوث في قرية ريفية مديراً لمدرستها بينما لا يجد فيها من معه سوى طريقه إلى راحته في المدينة. هنا، يبين وليد مدفعي بجلاء تناقض حلم المدرس «فايز» «بإقامة مدينة فاضلة» وتعلق غيره بأهداب الوضع القائم في المدينة.

 

تبدأ المسرحية بإعلان «نوال» ـ زوجة فايز ـ الصريح رفض الحياة في هذه الضيعة المتخلفة «الكريهة المقطوعة عن العالم» (ص13)، ولا يحلو لها وهي تعلن رفضها الصريح إلا استخدام كلمات مثل» «سئمت» (ص12) و«الرحيل.. الرحيل» (ص13) إيذاناً ببدء المواجهة بين زوجها والآخرين ممن يلتقون مع نوال على مغادرة الضيعة، وهم كثر: حسان الضابط المسرح الذي عمل أستاذاً في مدرسة فايز ريثما أعادوا له رتبته، فعاد بعد ذلك ليعتقل زميله الأستاذ، المتين العقيدة، «نضال»، و«حسن» الذي عمل ناظراً للمدرسة، ثم هجرها مع أخيه سلمان الذي استكمل دراسته العليا، وأصبح بمقدوره أن يقيم في المدينة. إنهم في الطرف الثاني يتكالبون مع نوال على المال والراحة والاستغلال والأضواء حيث يبقى فايز وحيداً مع المدرس نبيل، وفي طرفهما درس من علي بائع الحليب: «سأكون مسؤولاً إذا ذهبت.. وسأعمل إذا بقيت.. فما الفرق؟» (ص137).

 

تؤكد المسرحية، ربما بصورة متأخرة، أن المعنى كامن في التاريخ وليس في الذات، ومثلما لقيت نضالات الأفراد والتنظيمات الإحباط والخيبة، «ومن ثم الاستسلام» في الخمسينات يلقي اليوم المعنى ذاته قيمته الفريدة في الخلاصة القديمة المعروفة: النضال ممارسة يومية، وليس دليل عمل سياسي فحسب، ولعل هذا الفصل بين الممارسة ودليلها يعود إلى النفع القليل لأهمية الفكرة وصدقها التاريخي في الفعل السياسي العربي، لأن الدليل في واد، والجمهور يسعى إلى مستقبله في واد آخر.

 

وهذا ما أنقذ المسرحية من مطب الوقوف عند الذات صغيرة كانت أم كبيرة ـ كما ذكرت ـ فغدت بذلك مسرحية مفتوحة على الواقع برؤيا الدخول إلى جنة الأمل، لا أن تكون مسرحية مفتاح لا هم لها سوى شرح مغزاها كما في «وعلى الأرض السلام» و«البيت الصاخب»، أو استيفاء شروط وصف خالتها كما في «وبعدين».

 

ويضيف وليد مدفعي إلى هذه الحقيقة ألقاً خاصاً في نوعية مسألة الممارسة ودليلها فيردف تبيان التناقض بين الحلم والواقع بتقاطع آخر هو تفضيل الإنتاج على ما سواه من أعمال. إن النمطية في سلوك المناضل ومثاله «نضال»، وكان قاده حسان إلى السجن، لا يعاب عليها، ولكنها مادة للغمز، فالنضال ليس نمطية حتى لو كانت جديدة، بل حركة ترتجى ممن يمتزجون امتزاجاً مبدعاً بفعالياتهم البشرية، وفي مقدمتها الإنتاج. لذا، يبدو نبيل فعالاً ـ أكثر من نضال في الارتقاء بجهد الإنسان إلى مصاف التجربة العامة، تجربة المجموع. إنه يتحول في خلاصة حركة جماعته المغمورة إلى علامة حية من علائم فترة تاريخية لا زالت ظلالها عريضة. وهذه الظلال بالذات تمكن المسرحية من مشهديتها، لأنها وهي تمتح من معين التاريخ تمنح معناها قوة من تمثل إيقاعها لخبرة الماضي، وهي تتجه نحو المستقبل.

«أجراس بلا رنين» وضعت يدها على الجرح، فانفجر الدم، دم أجيال «عهود الصيرورة»، ولكن فوران هذا الدم لا يزال يغلي في العروق، وخصوصاً لدى من شهدوا مسيله في الشارع العربي فترات النهوض، وكانت الخمسينات أشد السنوات مقارعة مع أعداء الوطن.

 

إن بصمات الاعتراف لجيل كامل غفل عن البداية الصحيحة ـ ودلائله واضحة في ممارسته الفنية ـ أظهر المسرحية وكأنها تصفية للحسابات الخاطئة، أو تبرئة ذمة تجاه الجرح الذي لم يندمل بعد. ومن يراجع كتابات وإنشاء غالبية جيل وليد مدفعي سيروعه حقاً تمجيد زائف لمعنى الإنجاز حيناً، ونكوص ذاتي حيناً آخر، ووعي متأخر حيناً ثالثاً، وعلى الرغم من ذلك قامت ميزات «أجراس بلا رنين» بأعباء النطق بصدق فني وفر نجاحاً يجعل من المسرحية دعماً لمسرح وطني.

ثمة أسئلة لا بد من طرحها:

كان مدفعي، وما يزال، كاتباً غزير الإنتاج في أجناس أدبية متعددة: المسرحية، القصة القصيرة، الرواية، النقد الأدبي، المقالة الصحفية.

كتب مدفعي في سنواته الأخيرة كثيراً لوسائل الاتصال بالجماهير، ولا سيما الصحافة المهجرية، والإذاعات الخليجية والعربية، ولعل كتابه «فلسفة القرآن» مما ألفه لهذه الإذاعات من قبل.

يلاحظ أن مدفعي قد توقف عن التأليف المسرحي، وهو المبرز فيه، منذ نهاية الستينات، بل إن ثمة نصوصاً مسرحية مثلت على خشبة المسرح، أو نشرت جزئياً، في بعض القنوات الثقافية والإعلامية، ولم تنشر بعد في كتب.

يضيق الناقد أو المتتبع لحركة التأليف العربي بغياب تواريخ كتابة النصوص، وتواريخ نشرها، أو بغياب المعلومات المساعدة، وهذا واضح في غالبية كتب مدفعي، مثلما نجد أنه لم يكتب شيئاً عن تجربته الإبداعية الطويلة على مدار قرابة نصف قرن من الزمن. لقد أقبل مدفعي هاوياً إلى الكتابة، وما يزال، فهو صيدلي بارع، ولكن هذا لا يعفيه من الشهادة حول تأليفه، لأن مثل هذه الشهادة تضيء، ولو متأخرة، تفكيره الأدبي وصنعته الأسلوبية.

[جريدة «البيان» (دبي) 1997]

 

 

8

المسرح السياسي وصراع الأفكار

تنضوي كتابة محمد أمين الصالح تحت لواء المسرح السياسي، وفق مفهومه الذي يرى أن لكلّ عمل فني بعداً سياسياً، وهو يندرج في أحد أشكال المسرح السياسي كلما كان هذا البعد السياسي الأقوى في بنية خطابه الفكري والفني. وقد كتب محمد أمين الصالح ثلاث مسرحيات تتجه إلى تعضيد بعدها السياسي بالدرجة الأولى، وإن خالطها نزوع وجودي إنساني يجعل البعد السياسي ملتبساً.

 

والكاتب محمد أمين الصالح، أستاذ جامعي في ميدان علمي، وقد وضع كتباً تعليمية وعلمية في اختصاصه، الهندسة والمعلوماتية، ولم ينشر سوى هذه المسرحيات الثلاث، وهي: «التاريخ لا يشمل الجميع أو أكثر من رجل شريف» و«الصياد»، وقد ضمها كتاب واحد حمل عنوان «أكثر من رجل شريف» (1981). وذكر مؤلفها أنهما كتبتا عام 1968، أما المسرحية الثالثة فهي «اسمي عزالدين» (1994)، وأشار المؤلف إلى أن زمن كتابتها هو عام 1978. وربما دلّ ذلك على زهد الصالح في الكتابة أو النشر، لأنه يتجنب المشاركة في الحياة الثقافية، ولا يعرف عنه حضوره لنشاط ثقافي أو إسهامه فيه. ويؤيد ذلك طبيعة الأفكار، ومسرحه مسرح أفكار، التي ينشغل فيها، وتؤرقه، ثم تستحوذ عليه، بل إن الصالح حرص في مسرحيته الثالثة، على وجه الخصوص، على إظهار حيرته العقائدية وقلقه الفكري الوجودي في استعراض خياراته أمام ما يثقل ضميره.

 

يلجأ المؤلف الصالح، كعادة مسرحيي الأفكار، إلى بعض لوازم التعبيرية والملحمية، فأخذ عن التعبيرية الإغراق في الذاتية، والميل إلى التفكير الشعاري أو العقائدي إلى حدّ التبشير الغامض، والتوكيد على الخلل الوجودي في وعي التاريخ، والنزعة الثورية المغالية ومحاكمة الأخلاق في إطارها، والنظر إلى الشخصيات على أنها مطية لعرض الأفكار، والترميز الجزئي، وأخذ عن الملحمية كسر الإيهام، والنظرة المثالية في حتمية انتصار التاريخي على الراهن، والميل الوثائقي..

وثمة تأثير لأمشاج من المذهب الطبيعي في تفكيره المسرحي، مما يعكس الحيرة الفكرية التي تنتظم أطروحات مسرحياته.

 

تفصح مسرحيتة «التاريخ لا يشمل الجميع أو أكثر من رجل شريف» عن شغل المؤلف الصالح المهيمن على تفكيره المسرحي، وأعني به توسيع البعد السياسي لمسرحيته وتعميقه لتصير  المسرحية بعد ذلك إلى مدار مفتوح لتجربة العمل على مسرحية سياسية، لأن مؤلفها يقلل من حجم الأبعاد الأخرى إلى الحدود التي تبدو معه سبيلاً لتمكين المسرحية من بنية الخطاب السياسي. تتحدث المسرحية عن الثوار أو المتمردين في وجه الاحتلال الفرنسي في مدينة حمص، وقد عني المؤلف بتقديم شخصيات إشكالية زادت من التباس المسرحية الفكري والفني.

 

لا نتعرف في المسرحية إلى شخصيات محددة أو وقائع معروفة في السياق التاريخي لمواجهة الاستعمار الفرنسي في سورية، غير أن المؤلف التمس في هذه المواجهة تمحيص فكرته عن الثورة والتمرد والخيانة والوطنية والشهادة والجبن.. الخ.

تعرض المسرحية لأربعة ثوار، ويتكرر رقم «أربعة» أو «الرابع» في مسرحياته جميعها، فهو اختار أربعة ثوار، وسأل عن مصير الرابع في هذه المسرحية وفي مسرحيته الثالثة، بينما اختار لمسرحيته الثانية أربعة صيادين، ويلاحظ أن الرابع يصمد غالباً حتى النهاية، ويتصدى للظلم وخلل الواقع.

 

ولاشك، أن الشخصيات المعروضة بأرقام أو أوصاف أو جزءٍ من اسمها، والوقائع المجتزئة لا تقصد لذاتها، والمعول فيها هو إدغامها في التنامي الفعلي أو المشهدي، فالكتابة المسرحية عند المؤلف الصالح تجافي التقليد المسرحي الأرسطي إلى متواليات مشهدية، حيث النفور من المنطق والتسلسل المنطقي في تركيب هذه المشهدية. وبهذا المعنى، فإن المبنى المسرحي التعبيري، بالأساس، مع أمشاج رمزية أو طبيعية أو ملحمية، موضوع تلاطم فكري، مما يتردد في المسرح الوجودي ومسرح العبث أيضاً. ولعلنا نمضي في العرض النقدي لمسرحيته الأولى الطويلة ذات الفصل الواحد، فنتعرف إلى الأول والثاني في مسامرة تبين موقفين من شأنهما أن يؤولا إلى الموقف المسرحي؛ يروي الأول للثاني حكاية جبنه وخوفه وهربه وعجزه عن ذكر قصة بطولية أمام زوجته وأولاده، ويريد أن يهزم التشاؤم، ويحلم بثورة، وتتردد أغنية:

«سكابا يا دموع العين سكابا

على نظير ابكوا يا أحبابا

تركني وراح أسهر مع دموعي

دموعي كتاب في وصف الحبابا»(ص10)

ومن الواضح، أن الأغنية عن نظير، أحد الثوار الأربعة الذي عاد ليقود الثورة في أعنف اشتباكاتها مع العدو المستعمر في العشرينيات. ثم تخوض المسرحية في تفاعلات الثورة والثوار، ولا سيما أفكارهم أو الأفكار التي يبثها المؤلف على لسان شخصياته الكثيرة.

 

تبدأ حركة المسرحية ببحث الحاج عن الرابع (لا حظوا !)، فهو يعتقد «أن حقدهم البشع اضطرهم لإخفاء جثته»(ص10)؛ ويتحدث «صوت 2» مع نظير لتثبيت روعه، إذ «لا يجرؤ الموت أن ينال من إنسان إلا في لحظة ضعف وجبن»(ص11)؛ ويخبر نظيراً أن الآخر مات، ويعتذر له أنه ليس جباناً في مواجهة الموت «وستشهد لي في أعماقك أني بطل»(ص)، ويجيب الصوت أنه لن يجبن، ولكن «كيف أقاوم هذه الوحشة؟»(ص11)، وهنا تنتقل المسرحية من السؤال التاريخي إلى السؤال الوجودي؛ وتعلن امرأة أن نظيراً حي، ويعزي الحاج النفس: «ما نحن إلا بشر فجعنا بطواف الموت فيما بيننا»(ص12).

 

ويدور حديث بين الغجرية والمرأة والقوم عمن يؤتمن، فهي رسولة إلى الحاج، وتقول المرأة: «في حزني هذا لا أطلب الكثير. دمعة طاهرة وذاكرة لا تخون»(ص15) بينما يسترجع مشهد الثورة والثوار، وكيف رفضوا الفدية، واستعدوا للثأر من المستعمر، وكيف دام حرصهم على سلامة الثوار، وتهيء الأم الشاب لتجربة المقاومة. وخلل ذلك تظهر لوحة الإعدام، وتسمع دقاق الطبول، وما تلبثا أن تغيبا.

 

ويلتفت المؤلف إلى تصوير مشاهد القتل وذبح أهالي حمص بعضهم بعضاً، إثر قتل فرنسي محتل، والسبب هو خلاف حول تسليم القاتل لرجال المحافظ تجنباً للمجزرة، بينما هو ثائر؛ وثمة خلاصة تقال على لسان أحد الرجال:

«إن عظمة الرجال تتجلى في معاناته لعزلته. فهو يعلم أنه وحدهُ يقرر أموره، وأنه وحده ينتظر نتائجها. تلك النتائج التي تتعثر خطواتها، فيستقرئ نفسه العون، وهو وحيد في قلقه، بارد في خشيته، جزع في أوهامه. ويدرك هذا الإنسان أن كيانه قد انفصل ليرتطم بحاجز قدري، لا تشكل إرادته غير ذرة منه. وحين يعود فيلتحم بوجود البشر من جديد، تتضاعف مسؤوليته أمام حرية نفسه»(ص21).

 

على أن مثل هذه الخلاصة، وهي متكررة، أدخل في جدال فكري وجودي حول الحرية والمسؤولية والإرادة والعزلة والخلاص، ثم يظهر ستارة كتب عليها بأحرف سوداء كبيرة: «الدم المهدور»(ص23)؛ مما يسترجع صور أيام المقاومة وذكرياتها الحارقة.

 

لقد أنقذ نظير خيرو، مثلما أنقذت الغجرية نظيراً، ليثار حوار متوتر حول ضرورة معاقبة الشيخ الذي له كان له الباع الأكبر في تسليم خربة غازي، فهل يفتدى بثلاثمائة ليرة ذهبية؟ أما الشيخ فيرى أن رجال مرعي يعيثون فساداً في قريته، ويسعفهم في تقديم الأمان، ويكون رد خيرو هو تخلي القرية عن الثوار، فيرفض الشيخ منطقهم، ولا يؤمن بثورتهم ولا بثوارهم(ص29)، ويحكم عليه بأنه «‘إنسان لا يعي مبادئ الثورة»(ص29)، ويقرر أن نفيه عقوبة له.

 

ويمعن المؤلف في تقصي حالات الثوار والمتمردين في صفوف المقاومة، ويتملى مراد والمغربي والحاج وجوهاً أخرى للموقف من الثورة حين يعانون وضع رئيس التحري والد مراد، ويقتل الحاج المغربي، دون حقد، دون ندم، لأنه خائن، ويقتل مراداً كذلك، إذ «يجب أن نتخلص من الجرذان»(ص39)، وهذا هو لسان حلى الحاج، وكأنه يقول إن الثورة لا تخسر باستمرارها:

«كلما اعترف ثائر بهزيمته بعد فترة من الكفاح، يتولى ثائر آخر السير على درب العدالة، كل يحمل المشعل عن أخيه، ولا يحتفظ أحد إلا عن إيمان بالمشعل، وليس أكثر من الثلاث خطوات التي ذكرناها. أجل ، لا حاجة لأن أخبرك بأن حياة الإنسان قصيرة، إذ بشملها الإنهاك بعد ثلاث خطوات من امتحانها مع العدالة»(ص41).

وتمضي مسيرة الثورة على أنها تنقية لضمائر الثوار والمتمردين، ويجتمع حسن والشيخ حمدو بحثاً عن المتمردين، مع دورية من المحتلين، ويأمر حسن باعتقال نساء من عائلتي نظير وخيرو، بينما يبدي الشيخ حمدو أمام المفتش، وهو متعاون مع المحتل، حماسته «لتوجيه ضربة موجعة، سيشيب من تأثيرها الكثيرون»(ص43)، وقد نفذ مهمته!

تلاحق هواجس الثوار المفتش وزوجته وخطة المستعمر المحتل في إيقاع الشقاق والخلاف بين صفوف الثوار المتمردين. ويعرض المفتش ما سيفعله لابتلاع مطلب الثورة واستمرار عهد الحماية؛ غير أن نظيراً وخيرو يقبضان على المفتش وزوجته، ويقسم المفتش، تحت وطأة التهديد بالموت، أنه سيترك زوجات الثوار المتمردين إذا أخلوا سبيلهما، ويقسم!

وفي الجانب الآخر يتحدث حسن والشيخ حمد عن مرحلة ما بعد إطلاق سراح النساء، ويخشى الشيخ أن ينقرض الأبطال، وتتهدم مصالحه؛ ويتقدم منهما الحاج ورجل آخر، ويتعاون الشيخ حمدو مع الحاج والثوار لقاء مبلغ من المال. إنه الآن عميل مزدوج؛ فيخاطبه الحاج بمنتهى الصراحة والتحذير:

«من الغد، سوف تزودنا بأسرار السراي، وستحافظ على عمالتك للسلطات من خلال بعض الأعمال الخفيفة: مطاردة واعتقال. إياك أن تغالي. أما من حيث أفكارك، فاطمئن لأننا لن نقاضيك عنها، وأعلم أننا وضعنا على إحدى كفتي الميزان مردود أفعالك، وعلى الأخرى ثمناً لها، قد يكون كيساً من النقود، أو ما هو أرخص عندنا، وأغلى عند شيطانك من النقود. ودائماً»(ص60).

 

ثم يبلغ الاشتغال على خصائص التعبيرية حدّه الأقصى، في تحويل المشهدية إلى حلبة أفكار حول القضايا العادلة والخاسرة، والشرف والخيانة؛ كأن يقول الثاني للأول:

«إن قضيتك هي قضية إنسان شريف، لكن دعنا نحتكم إلى التجربة، لأن في نتائجها العادلة حقائق تثبت عزمنا على الحيلولة دون السقوط في متابعة النظريات»(ص61).

وكأن يقول الأول للثاني:

«أنا إنسان قد فقد توازنه في لقائه مع الهزيمة.. لم أنج تماماً من الصدمة.. لقد أفلحت في محو بعض الصور من ذاكرتي، فازددت شقاءً وسخطاً. إني الآن أتحمل مسؤولية كل شيء، وسأبدأ بأن أفهم أن الواقع يتشكل من عناصر مجزأة، لا تتضح صفاتها إلا مجتمعة.. أما أنه قد آن الأوان لكي تلتقي هذه الأضداد، ويزول تنافرها، فلا نعود نشقى في دوامة السقوط والانحطاط، أما أنه قد آن الأوان لكي تستأنف أحكام اللعنة، وتخفف عقوبة الاحتقار، فيعود الناس إلى احترام مقدسات تاريخهم، كل ذلك يحتمه خوضنا لتجربة إيمان حقيقية»(ص62).

 

ثم ينتقل المؤلف إلى مشهد آخر بين الشيخ حمدو وحسن الذي ينطلق صوته محذراً:

«قد أصيبت الثورة بجراحات الموت.. لكنها قبل أن تسلم بسقوطها، ستطارد من طعنها بنصل الخيانة» (ص63)

غير أن المفتش يطرد حسن من الخدمة، وحين يشرح الشيخ حمدو لحسن ما جرى حول حادثة الاغتيال، يوجه حسن المسدس لصدر الشيخ، ويرديه قتيلاً بعد أن يقرأ عليه بند الثوار، ويقضي بأن «على الثوار قبل أن ينضموا إلى صفوف الثورة أن يأتوا عملاً بطولياً»(ص68).

 

وتختتم المسرحية بحديث المفتش، إجابة على استفهام زوجته، عن بطولة المدينة وثوارها، وخلل ذلك كلّه دروس النصر والهزيمة والتاريخ.

إنها مسرحية أسئلة ـ أفكار لاستخلاص القيم وتوجيهها من خلال وعي التاريخ المشرط بتجربة وجودية ضاغطة على فهم الحرية والمسؤولية والواجب الذاتي والقومي، توكيداً على أن المبادئ هي شرف الإنسان، وأن الحياة جماع لحظات النصر والهزيمة، وأن الإيمان بالمبادئ هو السبيل للدفاع عن شرف الإنسان وشرف الحياة معاً.

ولعله غدا واضحاً تباين الأمشاج المتعددة استمراراً لمذاهب فنية ميّزها على الدوام محمولها الفكري، فثمة طبيعية صارخة في دافعية السلوك الميكانيكي كأن يقول الشيخ حمدو لحسن: «إن الكراهية نرثها، ونورثها بالفطرة، دون أن نتحد مع الشياطين»(ص45)، وثمة ملحمية في كسر الإيهام، واستبدال التنامي الفعلي بتوالي المشهدية، والمعالجة الخاصة لاستكمال ملامح الحدث بطريقة التوليف والتقطيع المرتهن بجلاء الفكرة، كاختلاف زوايا النظر، والتصرف بمسافة الرؤيا، وثمة تعبيرية تغطي تركيب المشهدية وتطبع المسرحية بطوابع لا تخفى مثل تفتيت الزمن، وفقدان المنطق الواقعي، والشخصيات النموذجية وليس الشخصيات المحددة باسمها أو أوصافها الشخصية، لتغدو الشخصية رمزاً أو دلالة على نموذجها، والحرص على المقصدية الغامضة في التفكير الوجودي الصارخ مثل الإلحاح على الخلاص الجماعي والخلاص الفردي، وتوشح ذلك الخلاص بالإيمان والشرف.. إلخ.

 

وتعاد غالبية أسئلة المسرحية الأولى في مسرحيته الثانية «الصياد»، وإن أعطيت الأسئلة لبوساً شاملاً حول معنى الحياة والمصير، ومن المفيد أن نشير إلى أن المؤلف الصالح قد داخل تعبيريته بأمشاج رمزية هي الأكثر بروزاً في نسيج مسرحيته التي توغل في الحيرة الفكرية بما يجعلها عصية على الإبلاغ اليسير.

تتألف «الصياد» من فصلين، يواجه الصياد جمهوره في الفصل، ويطرح أسئلة الحياة، ويعترف أن «سلاسلي أطبقت على مصيري»(ص77)، وأن الوجود ذاته في خطر، فقد انطلقت المسرحية في صحراء، وثمة رجال أربعة يرمزون لبئر، وهو صياد وليس بصياد، ينادي ظمأه وحاجته الدائمة للعطش، ولكن الأسئلة ما تلبث أن تفرد التجربة الفكرية منذ التقديم ـ النجوى الافتتاحية:

«أجل، فإن الموت في استئناف، حتى يوم تعلن فيه حقيقة الصياد»(ص78).

 

يتداخل التعبيري والرمزية في المشهد الأول، ثم يظهران مراراً، حيث نسر يحوم فوق رأسه ويضع قناع رأس نسر، ويردد تشوفه الغامض، وهو يرى أربعة صيادين حول البئر؛ ليسأل الرابع (لا حظوا !) ذلك الصياد:

«أيها الغريب، إني أدعوك لكي تشرب ماء، فترفض؟»(ص82).

رفض النسر طرائده، وانداحت الأسئلة حول السعي والخيبة وسوء التفاهم مع الأشياء والناس والحياة. وعاد النسر يحوّم فوق رأس الصياد، ويداهمه إحساس أن النسر سراب، وأن كل ما حوله كان سراباً، فقد اختلطت الأشياء:

«والحق أقول: إني لا أرغب في الخلاص الآن، فأنا لم أظمأ ولم أجع... ثم__»(ص87).

يواجه الصياد الأربعة، ويعلنون كراهية متبادلة، والصياد شارد في تأمله، ليفيق على موت أحدهم، فيشير إليهم: «القاتل واحد منكم»(ص9)، ويطلبون الهداية منه: «فإن قومت أخلاقنا، بذلك نقتص لصديقك»(ص91)؛ ثم تستمر لعبة الإيهام لينتهي المشهد بالشعور بالجوع والعطش: «أنظر بعينيك فترى أنك تشبهنا»(ص94).

وتعاد بعض لوازم المسرحية وشخوصها الرمزية مثل المرأة المتشحة بالسواد، وكانت ظهرت في المسرحية الأولى، تستحلف قومها «بحق هذا الصمت»(ص13).

وتسأل في هذه المسرحية الثانية سؤالاً يندرج في الغموض المحبب الذي يتوشح المسرحية:

«إنه سيدكم، فلما ذا قتلتموه؟»(ص95).

والجواب ذاته يفاقم من حدة هذا الغموض:

«الماء المسمومة قتلت صديقه»(ص95).

وتمضي المسرحية في متاهتها، ففي المشهد السابع يقف الصياد وحده مع النسر بألفة الصديق. إنه يرمي له الطرائد ويخاطبه عن رفقة الرحلة الشاقة، ويخبره عن عزمه على مواصلة السير في الصحراء، لأنها «متسع من الأرض، لا فناء له، ولاجدران، منها.. أستطيع أن أنطلق؟»(ص96).

وعندما تؤلبه المرأة المتشحة بالسواد على الثأر، نراه يلتفت عنها إلى أفكاره الميتافيزيقية:

«إن الموت يلغي أنانيتنا، وثقي أن هذا الرجل ما عاد يطلب القصاص لقاتليه، فالعدالة على الأرض لا تخدم سوى نزعات خبيثة»(ص97).

ومن المعروف أن التعبيرية حين تبالغ في أسئلتها الوجودية تفضي إلى العدمية والعبث أو اللامعقول، فها نحن نكتشف أن المرأة المتشحة بالسواد زوجة الصياد، وإن الكلاب الجائعة نهشت جسده، ثم يخبرها (هكذا !):

«إن القوة الحقيقية نستمدها من نواة أنفسنا حيث تكمن أخبث الغرائز»(ص99).

لقد توشح النص بالتفكير العدمي، وبأساليب العبث حتى نهايته غالباً، ويرافق ذلك تطرف في لعب الدور تجسيداً لإغراء الفكرة التي توغل في شطحها. تطلب المرأة من الصياد أن يمثل العدالة، ويعتذر، لأن الإنسان ليس صديقه تماماً، وأنه خاذلها لا محالة؛ عير أنها تلح عليه، وتحيي في نفسه بعض صفاته:

«كذلك قال هذا الإنسان ما خلق إلا ليفتك به.. وقبل أن يموت ناداك هكذا يا قاسي الروح، لا تدع صديقاً لك يموت في عزلة»(ص101).

أصبحت المسرحية دائرة من العبث، تتقاطع فيها الأفكار العدمية، والأفكار الوجودية، وصار الشكل المسرحي سبيلاّ مجردا لعرض هذه الأفكار ، وهو شكل جافى الواقع كثيراً. فعلى مشارف الصحراء زرع وفير والنسر فوق رأس الصياد، بينما يناجي الصياد النسر:

«حلق أيها النسر، فما عدت أخافك. إن كنت تريدني فاصطادني. قبل أن أغادرك إلي أرض الحضر، فهناك القانون سيحميني منك. إن قتلتني ستكبل يداك بالأغلال، وستذبح يوما من الأيام بسكين نظيفة» (ص 102).

 

 وفي مشهد تال، تنشد فئتان من الجوقة ابتهالات مناجاة للآلهة أن ترحم اختناقهم ، ويشخص سؤال دال على دائرة العبث في رؤية المؤلف لاختلال العالم:

«ومثل الذئاب تطارد ضحاياك؟ ولكن لا تنسى أنك مطارد، وحين يضيق عليك الخناق، ستذكر النسر، وستعود إلى الصحراء»(ص 104).

ثم يواجه الأربعة الصياد في لحظة تحد تنعي لهفة الإنسان إلي القتل، فالرابع يستفهم مستنكراً: «أن في القتل شفاء للقروح»، وتلك هي صفة بني آدم، وقد ورثها منذ عهد بعيد(ص106).

وتتداخل بعد ذلك أمشاجه التعبيرية والعبثية بالملحمية حيث التغريب المطلق ،فينتقل المؤلف في الفصل الثاني إلي حفل على طريقة البدو، والصياد يجالس المرأة المتشحة بالسواد، وثمة إحساس يلازمه بأنه غدا أثريا مثل ذلك النسر، أما المرأة فتخبره«أن النسر قد مات، اصطاده الرجال الأربعة» (ص 109). ثم  نعرف أنه حفل زواجه منها، وصوت المرأة يهمس:

 «وقد جئت لكي أحميك من نفسك حتى لا تعاني من شقاء الغربة ومذلة الترمل»(ص110).

 وما يلبث المؤلف الصالح أن يدرك التباس تفكيره مما يدفعه إلي بث أمشاج رمزية لعلها تفصح عن دلالة في غابة الغموض التي مضى إليها مع مسرحيته، فيظهر في جانب المسرح فتى وفتاة يعلن الفتى عن رغبته في الهجرة، وتجيبه الفتاة إلى محاكاة النسر لقوانينهم:

«انظر لقوانيننا، وقد تحجرت مثل عيني هذا النسر»(ص111).

وتضيف الفتاة إفصاحاً عن رمز:

«يقولون إنه غدا شعار عشيرتنا الجديد»(ص111).

يثق الفتى بالنسر، ولكن الفتاة تدين الصياد الذي خان صديقه، وتزوج امرأته، وأنه  قد عاد إلى هذه المرأة، لا لينقذنا، ويقرر الفتى أن يجد نفسه، بينما تقول الفتاة:

«إن لديك مبررات تقودك إلى أرض الخلاص، وأبقى أنا تعبث بي مقادير الرجال»(ص113ـ114).

ثم يدعوها لمشاركته أيمانه، أما هي فتنتقد الصياد:

«ما ذنبنا أن يورث شقاءه للآخرين؟ عله يهنأ في هذه الليلة، ويهتدي إلى خلاص نفسه، وخلاصنا معاً»(ص115).

ويخبرها الفتى أنهم قرروا أن يتخلصوا من الصياد، والسبب هو زواجه من المرأة المتشحة بالسواد، فقد «بدأوا يرون فيه نذير شؤم، وأظنهم قد اتفقوا على ضرورة تطهير هذا المكان، الضيق من الأرض»(ص115)، وسيقتله الرجال الأربعة، ويؤكد الفتى أنه لن ينقذه لأنه لم يقم بواجبه، فهو قد ألقى بسلاحه.

وتصير المسرحية إلى طقس مشحون بمنظر الدم، لإظهار الصراع الداخلي، فالقوم، عند باب الخيمة، يواجهون المرأة بأن القاتل في الداخل، ويرتفع الصوت لمحاكمة الصياد محاكمة عادلة، ويجب أن ينتهوا منه، فالصياد لم يمت بعد، وسيأتي سيد آخر.

 

وتتعزز في الختام النزعة العبثية، دلالة على فوضى الأشياء وفوضى العالم واختلاط المفاهيم، فالصياد يقتل رجلاً اقترب منه، والحكيم يترفق بحاله، ويتصدى الرابع لحمايته، ثم يذكر الصياد لرجل أن رجاله طردوه، ويغيب النسر، ويختفي الرجل، ويصرخ: «البئر جاف»(ص130)، ويواجه الجمهور في صمت، والجوقة تغني.

تحتفظ «الصياد» ببلاغة تعبيرية متوشحة بأمشاج رمزية، غير أنها تعاني في ابلاغيتها، فالشخصيات غير واضحة، والتسلسل المنطقي مفقود، والأحداث ملتبسة، والتطور غير نام، وأن حاول المؤلف الصالح أن يعنى بالفعل مسترسلاً في تنام داخلي، يشف عن تفكير عبثي مآله عدمية صريحة، يخفف من وطأتها نداء عميق للقيم النبيلة يتشربه حوار ملتاع إزاء ضيعة الأخلاق في معترك السياسة وحركة التاريخ. ثمة سعي مستمر لانطباق الخلاص الذاتي على خلاص الجماعة، ولكنه محبط بالخواء والفراغ وتردي السياسة في مستنقع المصالح.

 

وتعد مسرحية محمد أمين الصالح الثالثة «اسمي عز الدين» (1994) كمال فنه المسرحي: مقاربة السياسي والتاريخي في خضم التعبيرية متوشحة بأمشاج رمزية وطبيعية وملحمية طلباً لتغريب يبين وعياً بالذات الخاصة والعامة في معترك السياسة الخائبة؛ ولذلك تتجاوب في ثنايا مسرحيته الثالثة أصداء فكرة وجودية، غالباً ما تغرق في العدمية أو في اللا معقول، وأحياناً تتصارع مع التاريخ واستحقاقاته الباهظة على رجاء الخلاص الفردي أو الخلاص الجماعي، لا فرق، ولعل فضيلة مثل هذه المسرحية هي توكيدها على استحالة الخلاص الفردي بمعزل عن الخلاص الجماعي. ومن شأن ذلك أن يمضي بالمسرحية إلى صراع الفرد مع شروطه التاريخية، وثمة تجسيد متنوع الثراء والعمق الفكري لأزمة الذات القومية مع معوقاتها الداخلية والخارجية. وتعاد أسئلة الحياة إضاءة لمعنى الوجود الناقص، وضرورة وعيه واكتماله بفعل الحرية، الذي هو فعل غائب عن المسرحية، ثم تتعاور أصوات المتحاورين، وهم مغفلو الأسماء والصفات والألقاب وتحديد النسب والوضع والانتماء، على كنه الحاجة إلى الفعل الغائب وتمظهراته في خطاب فكري، ربما كان البعد السياسي هو الأكثر جلاء فيه، ويتضح ذلك حين نتأمل اللعبة المسرحية التي اختارت منذ المشهد الأول أسلوباً ملحمياً، يبلغ التغريب فيه حدّه الأقصى في تنويعاته المختلفة عن أشكال موت الإنسان في مواجهة قدره، أو مصيره؛ اندغاماً بالأسئلة الوجودية حينا وبالأسئلة التاريخية القابلة للتعيين حيناً آخر.

 

يطرح اختيار المؤلف الصالح لعنوان مسرحيته طبيعة شغله الفكري الذي اختار فن المسرح لاستجلاء مقاربته التاريخية والواقعية، فقد ذكر أن والدته اقترحت لهذه المسرحية واحداً من الأسماء الأربعة التالية:

اسمي عز الدين.

هل نبحث عن ذاتنا؟

من هو المتكلم؟

بحق هذه الأرض.

فوقع اختياره على الأول، وبغض النظر عن المستوى الثقافي والمعرفي المتميز لوالدته، فإن الأسماء الأربعة المقترحة مستخلصة من المسرحية، أي أن المسرحية تحمل خيارات فكرية متجذرة إلحاحاً على وعي التاريخ، ولا سيما انبثاقها من روح جماعية محاصرة بحس مأساوي وأزمة ذاتية مستفحلة؛ والمؤلف الصالح ينثر هذا الوعي في حواره الذي يصعب التمييز فيه بين حوار الذات (النجوى) وحوار الآخر؛ وأخص منها مسألة البحث عن الذات (ذاتنا)، وحق هذه الذات بأرضها.

 

إن حوار «اسمي عز الدين» كثيف ووجيز متدفق وعميق النبرة الفكرية دون أسماء أو صفات أو ألقاب أو فصول أو مشاهد، وقد تكون قطعة الحوار بضعة أسطر، أو صفحة أو أكثر قليلاً، وليس هناك قطعة حوار تزيد على الصفحات الثلاث، والمسرحية برمتها لا تتعدى خمسة وخمسين صفحة من القطع المتوسط؛ ولكنها، بقصرها الملحوظ، طويلة بتصارع الأصوات فيها، وبثراء الأفكار التي تجعل منها صرخة حرية وسط عجز السياسة عن الوفاء بمتطلبات الاستقلال الذاتي.

 

يتداخل في بناء المسرحية أسلوبان، أسلوب ملحمي وأسلوب تعبيري، حفاظاً على صوت داخلي يوزع تلويناته على أكثر من قناع أو دور، وفي بعض الأحيان، يقاطع القناع أو الدور، ويخاطب الجمهور مباشرة، بل إن عملية كسر الإيهام تغدو شاملة للبناء المسرحي كلًه حين يبثّ المؤلف الصالح نقداً لعمله الملحمي في المشهد الأخير أو قطعة الحوار الأخيرة، إن صح التعبير، وحين يوحي أن عز الدين ربما كان المؤلف ذاته؛ غير أنه لا يتخلى عن بعض أمشاج العبث أو اللامعقول في عبارته التي تخبرنا أن رصاصته تنطلق، ويسقط عز الذين:

«ـ لقد مات جميع أبطالك في المسرحية؟

ـ اعتقد ذلك.

ـ كلا، هي الحقيقة.

ـ أريد أن أسألك سؤالاً.

ـ (يقاطعه) هل هو استجواب؟

ـ ألا ترى المسدس؟

ـ (الصحفي مشدوهاً) سيقتلنا هذا الرجل.

ـ لا تخف فأنا غير مكلف بقتلك.

ـ (الصحفي للمؤلف) مالك تستسلم؟ أفعل شيئاً؟

ـ يسألني عن اسمي، فهل أجاوبه؟

ـ ما الذي كلفوك به غير قتلي؟

ـ إن أسألك عن اسمك.

ـ فقط؟

ـ فقط.

ـ اسمي عز الدين»(ص55).

تتألف «اسمي عز الدين» من ثمانية وثلاثين قطعة حوار تقترب من شكل المشهد في غالبيتها، ونذكر توصيفاً لبعض هذا القطع ـالمشاهد للتعرف إلى أسلوبية المؤلف الصالح في بناء مسرحيته؛ أما عن الإشارة إلى الشخصيات المتحاورة فهي تقدير منا؛ لأن المؤلف لا يفصح عن أسماء المتحاورين كما ثبتنا من قبل:

حوار بين السجان ـ القاضي والسجين المتهم يدعي فيه الأول أن الثاني سلب أرضه، ويقرر أن يمموت، ويطلب أن يعصبوا عينيه(ص4ـ5).

اثنان منهم يتحاوران حول الفخر بالنصر، بينما يُسمع صوت طلق على معصوب العينين، ويعاجله الثاني بإفراغ مسدسه في رأس معصوب العينين هذا(ص6ـ7).

يعترف معه أنها، ولو لم تكن أرضه، فلابد له أن يعيش في أرض، وأن يحبها، لذلك يطالبه بالهجرة(ص7ـ8).

أسئلة عن الحياة التي تستحق المكابدة والعناء، وهما يتحدثان عنه، فهو «لم يهاجر، مات في أرضه»، وينصحه بألا ينتحر، وأن يحلم(ص9ـ10).

موت الإنسان المتكرر، أربعة وبينهم ممثل فاشل، وتفكير العدو بوسائل إبادة أكثر حزماً، ومبتكرة، مثل تعقيم النساء، ولكن دون جدوى، لأنهم سيتزوجون من غير نسائهم، وستلد لهم أطفالاً يحملون البندقية(ص14ـ15).

 

هي محاولة للتمثيل، ويعترف المؤلف، على سبيل كسر الإيهام، أنه لن يصبح كاتباً مسرحياً مرموقاً، ويطالبه الآخر بالاعتزال(ص16).

دعوتهم للاستسلام من الحاكم العسكري، وتهديد بتفجير المدرسة؛ وهم يطالبون بالإفراج عن معتقلين(ص18).

الحاكم العسكري يرفض طلباتهم، وهو يتساءل: كيف ستربي اليتيم الذي تحمله في أحشائها(ص18).

مهلة عشر دقائق للاستسلام، ويقررون مع عز الدين المواجهة(ص19).

الجمهور غير متحمس لقضيتهم، ويأس مطبق «إن سلم أحدنا نفسه تحت تأثير العذاب، وإن قاوم قتل»(ص22) واقتراح أن يغيّر المؤلف الجمهور أو أن يعتزل الكتابة. إنهم يبحثون عن الذات(ص23).

 

يرفض أن ينتحر، فهو يريد أن يعيش، وأسئلة عن اسمه؛ وعن تعذيبه، وعن سبب تطوعه: «إنهم يقتلون قومنا»(ص29).

يحقنون المعتقلين بالجراثيم، ويدفعونه ثانية للانتحار(ص31).

يسأل لماذا كفّ المحقق عن تعذيبه(ص32).

أفنوا الكثيرين من قومه، فكيف لا يحقد عليهم، ولا يريد أن يقابل الحقد بالحقد.

ابحث عن أرضك داخل نفسك، ويسمون مهمته انتحاراً(ص39).

إنهم ثلاثة، ويطلقون عليه النار(ص39).

ما فعله دفاع عن حق العودة(ص39).

مشاهد من فيلم وثائقي من إنتاج شعبة الحرب الوقائية لدى العدو. عنصرية العدو، وتوليف اقتتال زائف للأخوة(ص41ـ42).

بدأت تصفية السجناء، يريد أن يموت، ولكنه لا يريد أن ينتحر(ص46).

يتابعون تعذيبه. وسيعقد النطق، ولا أمل في إنقاذ حياته(ص46).

سؤال عن عز الدين وامرأته (ربما)، وأنه قتل في عملية. هم قتلوه(ص48).

يبلغونهم محبة الرئيس، وهو يريد أن يترك السياسة للجيل الجديد. ويصر عز الدين على أن يعمل من أجل وحدتنا الداخلية(ص48ـ49).

هتاف في الشارع عن سقوط الرئيس، ويطلبون من أبي عزالدين توقيع وثيقة إدانة للرئيس الأسبق. حوار متوتر بينه وبينهم، فإما أن يوقع، أو هو متواطئ(ص49ـ52).

يقررون إعدامه(ص53).

 

نقد عمل المؤلف في بناء مسرحيته، ولاسيما أسلوبه في كسر الإبهام(ص54)؛ ونورد جانباً من هذه القطعة ـ المشهد، لأهميته في تحليل الشغل المسرحي:

«ـ كيف تفسر هذه المشاهد التي ابتدأت بها مسرحيتك؟ ماعلاقتها بما أعقبها من مشاهد تبدو أكثر تلاحماً من الأولى؟

ـ إن المشاهد التي بدأت بها المسرحية كانت توطئة، نستطيع تسميتها بـ «بروفات»، أو «الاسكتشات» التي يستخدمها الفنانون، قبل أن يرسموا عملاً متكاملاً مؤلفاً من عدة لوحات.

ـ يبدو أنك متأثر بفن التصوير.

ـ لقد عاصرت في طفولتي مصورين أصبحوا اليوم فنانين بارعين.

ـ وأنت هل أصبحت كاتباً بارعاً؟

ـ (يضحك).

ـ لكن هناك مشهد لم أستطع ربطه مع باقي الأحداث في المسرحية، وهو ظهور المؤلف في أحد المشاهد المتوسطة في سياق المسرحية، يعلق مثلما نعلق الآن، لكن ما نفعله هو بعد الانتهاء من المسرحية.

ـ هناك اسكتش لمعاناة رجل يضع يده على قلبه إلخ ثم يتلاشى... ارجع إليه.

ـ (يقلب بعض الصفحات في كتاب أمامه) أجل، رجل يعاني من مرض في القلب أو من مرض نفسي؟

ـ ماذا يخبرك هذا الاسكتش؟

ـ حسناً، هي معاناة تنتهي بالاستسلام.

ـ إنه المؤلف.

 

ـ لقد عبر المؤلف في المشهد المتوسط في سياق المسرحية عن عدم استطاعته اقناع الناس بما يرسم من مشاهد واقعية، حسناً تستطيع أن تسمي ذلك معاناة.

ـ وهي تنتهي بالاستسلام»(ص53-54).

لا تفصح المسرحية قصد، كما ـ يبين استعراض هذه القطع ـ المشاهد المكونة لبنائها، ولعل مزيتها الأهم تكمن في إثارتها للأسئلة من خلال اسلوبية تساعد على تقصي ممنظورات متعددة للفعل المسرحي، وهو يمعن في تدعيم خطاب الحرية أو خطاب الاستقلال. وقد عمد المؤلف الصالح بين الحين والآخر إلى تعزيز الؤوح النقدية في ثنايا نصه المسرحي:

«لدي القناعة ، بأني سأجد يوماً ما يثير جمهوري. دع هذه المسرحية تفشل. دع غيرها يفشل. لا بد أن تهزه إحدى مسرحياتي. لا بد أن يصدق ما سأقوله له في واحدة من تلك المسرحيات التي يحق لك وله أن يسميها فاشلة.

ـ لماذا تسعى إلى ذلك؟

ـ ألم تسمع «بالبحث عن الذات»؟ كلنا تائه ويبحث عن ذاته. يجب ألا نيأس من البحث، بل يجب ألا يقتلنا الملل أثناء مواصلتنا البحث.

ـ لماذا نخشى الملل؟

ـ لأننا سنكرر أنفسنا إلى أن نجد ذاتنا. ومن يدري، إذا ما كررنا أنفسنا آلاف المرات، فسنصدا وتغمرنا الكآبة. صدقني، سنموت من الملل حتى لو هاجرنا. لن نجد شيئاً نغذي به طموحنا.»(ص23).

يتردد بين جنبات المسرحية صوت حكمة شجي لوعي التاريخ:

«ـ يوماً ما ستتقدم بك السن. ستنظر حولك، ستجد الناس تتكاثر كالعروق السامة، ستتقوقع ولن يحميك ذلك من لدغاتهم. ستتذكر عداءك لها حين كنت شاباً وهجومك الشره على البراعم المتفتحة. لن يعزيك ذلك ويوماً ما ستموت، وتتلاشى من حولك العروق السامة، وستغوص في بركة موحلة قد تغرق فيها إلى الأبد، أو قد تنتشلك يد محبة، قد تكون يد ولد أو ابنة، وستمسح على جبينك فتموت بسلام)»(ص31).

وعلى الرغم من هيمنة التفكير السياسي على بناء المسرحية، فإن نزعة المؤلف الصالح الوجودية المثالية لا تخفى:

«ـ إن لحظات السعادة الحقيقية قصيرة. هي المسافة التي تقطعها روحك إلى تلك الآفاق، ثم تعود مرتدة إلى واقعها الإنساني. صدقني إنك في لحظات سعادتك هذه لن تستطيع تحسس جسدك، لأنك تكون قد غادرته في رحلة قصيرة إلى تلك الآفاق.

ـ كأنك زواجت، جسدت آلام الإنسانية، وزاوجت روحك سعادة الطقوس والعبادة.

ـ حين تضمني السعادة يخيل إلي أني أعيش حلماً لا أستطيع أن أرويه لأحد، ومثل أي حلم، تراني أنساه بعد ولادته، ولا يبقى في ذاكرتي غير شتات طموحاتي اليومية، وجميعها يمتزح بالمرارة.»(ص35).

وكما لاحظنا، فإن مسرحية محمد أمين الصالح الثالثة «اسمي عز الدين» توجز خصائص كتابته المسرحية، وتفصح عنها تمام الإفصاح، ولا سيما ارتفاع نبرة التغريب والارتفاع بالحوار إلى لغة مسرحية تناسب نزوعه إلى مسرح الأفكار أو المسرح السياسي غالباً. إن مسرحياته مثقلة بالأفكار، وبجانبها السياسي على وجه الخصوص، في التداخل بين العام والخاص، الاستعمار الفرنسي والاحتلال الصهيوني وتأثير ذلك على الخلاص الفردي الممتنع على التحقق الذاتي معاً، ولقد حاول المؤلف الصالح أن يدغم هذا الوعي برؤية وجودية مقترنة بحس مأساوي عنيف، ولكن صراع الأفكار في ذات المؤلف، وفي تجليات التعبير عن هذا الذات قصّر عن بلوغ القصد، فغلب على المسرحيات طابع الحواريات، وظلت شهوة التعبير السياسي مختلطة بمؤثرات فكرية متعارضة في بعض الأحيان، وزاد من تأثيرها على وحدة الأثر لبوسها اتجاهات فنية متعددة كالتعبيرية والرمزية والطبيعية والملحمية، ولا نضيف شيئاً إذا قلنا في النتيجة: إن الاتجاهات الفنية هي اتجاهات فكرية في الوقت نفسه.

[مجلة «الموقف الأدبي» (دمشق) 1998]

 

9

محنة الديمقراطية والدعابية المرّة

كتب محي الدين اللاذقاني، وهو الشاعر والناقد، مسرحية سياسية واحدة في مطلع السبعينات، ونشرها مسلسلة في صحيفة يومية بلندن في منتصف الثمانينات، ثم نشرها في كتاب في منتصف التسعينات، وهذا يعني أن المسرحية لا تنتمي إلى موجة المسرح السياسي السائد غالباً على المسرح العربي بعد عام 1967، وهو مسرح الانتقاد السياسي المباشر، أو ما اصطلح على تسميته مسرح «الكباريه» السياسي، ومنه مسرح «الشوك» الذي اشتهر بمساهمة دريد لحام، ومسرح «دبابيس» الذي عرف مع الأخوة قنوع، وهو أيضاً مسرح الاستجابة السياسية المباشرة، بأشكال فنية مختلفة، لوقائع وأحداث مرحلية مؤثرة في التاريخ القومي.

إنّ مسرحيته «الحمام لا يحبّ الفودكا» تستفيد من هذه التقانات كلّها في نزوع تخييلي يمدّ مجال المفارقة في ثوبها الدعابي الساخر إلى أقصاه، وهو النزوع «الفانتازي» في إطاره القاتم المرير متوشحاً بابتسامة دامعة موجعة.

 

لقد عرف محي الدين اللاذقاني في كتاباته بطوابع تميز بها بين النقاد والشعراء، أولها موقفه الفكري الصارم المشبع بتطلعه إلى قيم مدنية وسياسية وأخلاقية هي تذكيره بشهوة المثال في خضم تلاطم واقع مزر، وثانيها موقف نقدي تعمرّه روح الدعابة الراقية والسخرية الرفيعة مما هو أدخل في الملهاة السوداء، وثالثها حسّ عميق فاجع بالمصائر القومية مشوب بقلق لا يهدأ، ورابعها نفور من فيض الإنشاء اللغوي والاسترسال العاطفي نحو اقتصاد في التعبير شديد الدلالة على مقاصد الخطاب الأدبي؛ وخامسها جرأة فكرية في قلب الممارسة الأدبية، في أشكال الكتابة، من المقال إلى النقد، إلى البحث، إلى المسرحية، إلى القصيدة، نشداناً لأصالة ثقافية لا تخفى؛ وسادسها بعد ثقافي متجذر في تراثه وتراث الإنسانية، وتدعو إحالاته الثقافية التي تتشربها لغته، ويوحي بها تفكيره الأدبي، إلى الإعجاب.

 

ولعل مسرحيته «الحمام لا يحب الفودكا» نموذج لهذه الميزات، فهي فانتازيا سياسية تفلح في امتلاء الموقف الفني بمصداقية تاريخية نحو نقد الواقع، غير أنها لا تعنى بالنقد المباشر، أو أن تكون استجابة مباشرة لوقائع أو أحداث سياسية، فثمة نفور جلي في لغة المسرحية، وفي بنيتها الفكرية والفنية، من أن يصير النقد السياسي إلى مجرد «تنفيس» آني للكرب الحاصل لدى المتلقي من جسامة الهم السياسي، وهو في المسرحية فقدان الحرية وغياب الديمقراطية معادلاً سياسياً في الواقع. والفرق جلي بين نوعين من المسرح السياسي، ففي مسرح الاستجابة المباشرة لمرحلة تاريخية معينة والمسرح السياسي المباشر، يتجه النقد إلى ظواهر الممارسة السياسية، ولاسيما اليومية فيها، بينما المسرح السياسي الأرقى هو الذي يخاطب وجدان المتلقي ووعيه، ولايكتفي بدغدغة مشاعره وإثارة غرائزه ومكبوتاته، مما يحفل به المسرح السياسي المباشر، أي أنه مسرح لحظة تكون مادته مثار سخرية واضحاك، وغالباً هي لحظة لاتعنى بجوهر الموقف الإنساني. أما مسرحية «الحمام لايحب الفودكا» فتنتمي إلى ذلك المسرح الساخن الذي أدمن السباحة في بحر السباحة دون أن يترامى أو يتهافت إلى الولع بطرائق المسرح السياسي المباشر السائد. إنها لاتنتقد ظواهر في الممارسة السياسية في مشاهد منفصلة، مثل الانتقاد الذي يوجه إلى المحسوبية، والرشوة، وانقطاع الكهرباء، وعدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، واستغلال المنصب، والاعتداء على الأملاك العامة، وعدم احترام القانون.. الخ. وهي الموضوعات المتواترة في مسرح الشوك ومسرح دبابيس، ومسرح «الكباريه» السياسي على وجه العموم.

 

اتجه اللاذقاني في مسرحيته إلى مبنى رمزي فانتازي للسخرية من أنظمة الحكم الشمولية المطلقة داخل السجن حين وازن بين الوطن والسجن، فالوطن في مسرحيته هو السجن، والمواطنون سجناء، بل أن صفة المواطنة تكاد تنتفي في مثل هذه الظروف. لقد اضطر حاكم السجن إلى لعبة الانتخابات مادام قادراً على تزييفها، غير أن اللعبة سرعان ما تنكشف، مما يدفع الحاكم إلى الكشف عن وجهه أو وجه حكمه الاستبدادي، فينهي اللعبة بالمزيد من الاستبداد، وما يتصل به من قمع وعنف، فيعاد اعتقال الجميع في شروط أكثر قسوة وعنفاً، وقد أضيفت إليهم تهم التأمر والخيانة، ويلحق بهم من يذّكر، مجرد التذكير، بقواعد اللعبة، أما المتفرجون من الشعب، فعليهم أن يدفعوا الثمن، وهو المزيد من الامتثال والرضوخ والإذلال.

 

تتألف المسرحية من فصلين، الأول مخصص للتهيئة للعبة الانتخابات، والثاني لإجرائها وانكشافها وإيقافها مادام من المتعذرتزييفها والتحكم بها، لتختتم المسرحية بباب الاستبداد والقمع مفتوحاً على مصراعيه. نتعرف في الفصل الأول إلى نماذج من السجناء، المواطنين، كاظم السجين السياسي وصديقه زكريا، وشعبان المدرس، ورأفت المثقف الانتهازي، وأبي صطيف، الرجل الشعبي البسيط الذي يشتغل بتربية الحمام، وأحمد التاجر النصاب، وخالد السجين بجناية.. وثريا المومس التي يفتح لها باب سجن الرجال في إطار لعبة الانتخابات، ثم يتلو ذلك فتح الباب بين سجن الرجال وسجن النساء. يتساءل السجناء في مطلع الفصل الأول عن جدية حاكم السجن بنقلهم إلى سجن جديد، حيث تنعدم الشروط اللائقة بالبشر في هذه الزنزانة الكبيرة متآكلة الجدران، وسقفها الذي يرشح، ولامجال لإصلاحه. وفي هذا المكان الكئيب، تتبدى طوابع الملهاة السوداء في أكثر خصائصها لذعاً وسخرية، أعني الدعابية المريرة التي لاتكتفي بحّد الضحك أو الاضحاك، بل تبعث في صلب الموقف حساً فاجعاً بالواقع، وبالأمل في آن معاً.

وتطالعنا المسرحية بهذه الطوابع منذ المشهد الأول بين السجينين خالد وزكريا:

«خالد: أنتم سجناء قدامى، ومن حقكم الحصول على معاملة أفضل.

زكريا: حاكم السجن ليس من رأيك؟

خالد: الحاكم ليس كل شيء. هناك قوانين للسجن، ويجب أن تطبق بحذافيرها.

زكريا: هل رأيت قانوناً يحترم داخل السجن؟

خالد: لاأذكر.

زكريا: أرأيت مظلوماً ينال من ظالم؟

خالد: لا، ولم أسمع.

زكريا: أقابلت أحداً، لايشكو من مائة مشكلة على الأقل؟

خالد: لم يحدث.

زكريا: لماذا تعتقد إذن أن قوانين السجن وحدها التي ستحترم؟

خالد: مجرد خواطر.. قلت في نفسي ربما كانوا أكثر ديمقراطية هنا».(ص8-9)

وقد اختار اللاذقاني لمسرحيته نماذج اجتماعية متباينة تكاد تمثل شرائح المجتمع كلّه، على سبيل تعضيد المبنى الرمزي، فلم تعرض المسرحية أسباباً لسجن هذه النماذج، بالقدر الذي تناقش فيه الشخوص المآل السياسي لقيم المجتمع المدني من خلال مأساة الديمقراطية الغائبة والمغيبة، وهذه لحظة أخرى تشير إلى الدلالة الرمزية الأعم:

«رأفت: فهمتك تماماً لكن ما تسميه أنت حماقة اسميه أنا حقاً ولم أكن أحمق حين طالبت بحقي.

زكريا: أفهم من كلامك أنك قد درست في أوربا ثم عدت إلى الوطن؟

رأفت: تلك هي الحقيقة. كيف عرفت ذلك؟

زكريا: هناك فقط يتحدثون عن الحقوق أما نحن فقد نسيناها منذ زمن طويل، في بلادنا لايتحدثون إلا عن الواجبات.

كاظم: واجب الزوجة.

زكريا: واجب رب العمل.

خالد: واجب المؤجر.

كاظم: واجب الشرطي.

زكريا: واجب الكلب.

خالد: واجب.. يقاطعه رأفت..

رأفت: هذا فظيع، أين أضعتم حقوقكم؟

زكريا: لم يكن لنا حقوق لنضيعها، فتحنا عيوننا على الدنيا، وجدنا انفسنا مثقلين بالواجبات، وحين قرأنا عن الحقوق في الكتب الغربية.. صادروها من السوق وصادرونا من الدنيا..

كاظم: تصور أن كلية الحقوق العريقة التي نعتز بها حوروا اسمها فأصبحت كلية الواجبات؟

رأفت:  هذا عجيب.. أكاد لاأصدق.. أليس لكم حق واحد؟

كاظم: بلى. لنا حق قبول ما تقرره الحكومة.

رأفت: وحق الرفض ألا تمارسونه؟

كاظم: نحن نرفض كثيراً يا صاحبي وإذا شئت فنحن أمة .. رافضة بالفطرة، رفضنا العلم ورفضنا التقدم، ورفضنا التحديث ورفضنا العيش الكريم، ورفضنا أن نكون بشراً، فماذا تريد أكثر من ذلك» (ص15-16).

وكان واضحاً لدى اللاذقاني أنه يكتب مسرحية قضية عن محنة الديمقراطية في الواقع العربي، ولذلك لم يثقل نصه بتفاصيل المعاناة المترتبة عن فقدان الديمقراطية، مكتفياً بإشارات عجلى عن النماذج، وليس عن أشخاص بتعيينهم الاجتماعي، وبتاريخهم الشخصي، وبأسمائهم الخاصة، كما هو الحال مع رأفت الذي عاد بالدكتوراه من الخارج، ثم كان مصيره السجن بدلاً من تعيينه في الجامعة..

«خالد: لقد رفضوا تعييني أصلاً، وماطلوا ستة أشهر، ثم قالوا أنه لامكان لي في كادر الجامعة..

زكريا: فطار صوابك حين سمعت هذا الكلام، وصرخت مطالباً بحقوقك، فرفع مدير الجامعة سماعة الهاتف وهمس ببضع كلمات لم تسمعها، وبعد دقائق كانت سيارة الشرطة تقودك إلى هذا المكان.

رأفت: كأنك كنت معنا هذا ما حدث فعلاً.

زكريا: في بلادنا تتشابه كل القصص يكفي أن ترسم الإطار العام ويستطيع أيا كان أن يملأه بالتفاصيل.

رأفت: بالرغم مما حدث لم أكن مخطئاً، لقد طالبتهم بتطبيق شعار «الرجل المناسب في المكان المناسب»، وهو أول شعار صادفني بعد وصولي إلى مطار العاصمة.

زكريا: لقد طبقوا هذا الشعار عليك، فالسجن أنسب الأمكنة لرجل مثلك.

رأفت: ولكني دكتور وصاحب شهادة، أنا رجل علم، ومن حقي أن أفيد الناس بعلمي، وأن احصل على وظيفة مناسبة.

زكريا: السجن مؤسسة حكومية، وأنت الآن موظف عندنا برتبة سجين، وهذه وظيفة تناسبك.»(ص17-18)

ويستكمل اللاذقاني دعابيته بالمفارقة، ولعل تعليق زكريا على وضع رأفت يبين أسلوبية الملهاة السوداء، استخداماً لإحالات اجتماعية وسياسية في تدعيم المبنى الرمزي:

«رأفت: دعك من المزاح إني جاد فيما أقول.

زكريا: وأنا لاأمزح يا صاحبي.

رأفت: كيف؟

زكريا: سأشرح لك كل شيء بالتفصيل لتقتنع.

رأفت: إني أصغي.

زكريا: هل لك قريب يضع على كتفيه صفاً من النجوم الصفراء الأنيقة.

رأفت: لا.

زكريا: هل لك أخت جميلة متحررة تكثر من زيارة صديقاتها بالليل وتبات عندهن؟

رأفت: لا.. أنا وحيد أبوي.

زكريا: هل تستطيع دعوة نصف عشيرة بني نافذ إلى سهرة أسبوعية تريق فيها أنهاراً من خمر وعسل وأرداف؟

رأفت: من أين لي هذا، أنا فقير الحال، كنت عصامياً وأكملت دراستي بجهدي وأنا أعتز بذلك.

زكريا: سؤال أخير، هل تعرف على الأقل صديقاً يقود سيارة بلا أرقام لها ستائر سوداء مسدلة؟

رأفت: لاأعرف.

زكريا: مادام الأمر كذلك فهذا هو مكانك الأنسب.

رأفت: دراستي وشهاداتي أليس لها أي اعتبار؟

زكريا: انقعها واشرب ماءها.

كاظم: أو احتفظ بها ذكرى للأحفاد العظام.»(ص18-19) 

وللمفارقة أوجهها المتعددة في مسرحية «الحمام لايحب الفودكا» في اللفظ وفي المعنى وفي الموقف وفي الهيئة والسلوك، وهي أوجه سرعان ما تندغم في المبنى الرمزي الأشمل، فهذا هو السجين كاظم يقترح للشرطي اقتراحاً ذا معنى:

«كاظم: لماذا لاتسورون المدينة بالأسلاك الشائكة وتبنون حولها جدار ضخماً كسور الصين العظيم، وتحولونها إلى سجن كبير فتوفرون الوقت والنفقات؟

الشرطي: (يفكر بالاقتراح وهو يمشي في الزنزانة) إنه فعلاً اقتراح مفيد. لكن ماذا نفعل بالأبرياء الذين يسكنون داخل المدينة؟

زكريا: تنصبون لهم خيمة على مشارفها وتسمحون لنا بزيارتهم للتبرك بهم قبل أن ينقرضوا..

الشرطي: اسكت لم يطلب أحد رأيك.

زكريا: أعرف ذلك لكني أريد أن أساهم مع الحكومة في إيجاد حل مشرف للأزمة..

الشرطي: (لكاظم) اقتراحك معقول، لكن ماذا بشأن الحراسة سيكون السور كبيراً ولن نجد العدد الكافي لحراسته؟

كاظم: هذا أمر سهل تستطيعون الاستعانة بالقوات الدولية.»(ص20-21)

ومن مفارقات الهيئة والسلوك نجد اللاذقاني يسمي الوجيه التاجر النصاب باسم «أحمد موسى اللهاط» (ص22)، وكان وصفه من قبل على نحو يشي بدلالة النهم والنهب: «له كرش كبير، ويحمل على جنبه سلسلة مفاتيح ضخمة» (ص18). ومن أمثلة المفارقة اللفظية والمعنوية، نشير إلى حوار بين زكريا وكاظم:  

«زكريا: أليس لك عينان.. ألا ترى السلسلة الضخمة من المفاتيح التي يحملها على جنبه الأيمن؟

خالد: أراها، ماذا تعني؟

زكريا: هناك احتمالان.. قد يكون مسؤولاً كبيراً في الدولة..

كاظم: وقد يكون لصاً..

زكريا: بالضبط.

سجين: لم أفهم

كاظم: كلهم يحملون نفس الكمية من المفاتيح ويحصلون على ثرواتهم بالطريقة ذاتها..

سجين: لم أفهم أيضاً لابد أن هناك بعض الفروق.

زكريا: الفروق قائمة لكنها طفيفة بحيث يستحيل عليك إدراكها.

كاظم: بعضهم يسرق بالليل.

زكريا: وبعضهم يسرق بالنهار.

كاظم: بعضهم يسجن إن ضبط.

زكريا: وبعضهم يضبط فينال الأوسمة والترقيات.

كاظم: وبعضهم يبحث عن كفاف عدة أيام.

زكريا: وبعضهم يبحث عن كفاف عدة قرون.

كاظم: بعضهم يجرب عدة مفاتيح حتى يحصل على مفتاح الخزنة.

زكريا: وبعضهم يعرف المفتاح الحقيقي فلا يجرب ولايتعب ولامن يحزنون.

خالد: كلامكما لايبدو مقنعاً تماماً فإن من صفات اللص أن يكون خفيفاً رشيقاً سريع الحركات.. ألا ترى إلى هذا الكرش الذي يتقدم صاحبنا؟

كاظم: يبدو أنك لم تقرأ تاريخ اللصوصية كما يجب ولم تطلع على آخر تطورات المهنة، إن أصحاب الكروش يا صديقي آخر تقليعة في دنيا النهب والمسؤولية.

زكريا: وقد سمعت من مصدر موثوق أنهم لايسلمون مواقع المسؤولية إلا لمن يمتلك كرشاً مناسباً لأنه ثبت بالتجربة أن أصحاب الكروش مسؤولون من الدرجة الممتازة.

سجين: والمواطنون الذين لايمتلكون هذه النعمة أليس لهم أمل بالترقي؟

زكريا: إن حكومتنا -أدامها الله-لاتغفل شيئاً ولاتظلم أحداً، ولذلك، وحرصاً منها على المساواة أقامت دورات لتأهيل النحيفين استعداداً لتقلهم إلى مواقع المسؤولية.»(ص23-24)

وتبلغ المفارقة حداً مأساوياً في تعبيرها عن الموقف:

«زكريا: أنا أعمل في تهريب الأفكار.

أحمد: «مستغرباً» الأفكار؟ لم اسمع أحداً يطلبها في السوق.

زكريا: الذين يطلبونها كثيرون، لكنهم لايطلبونها عندك.

أحمد: هل هربت كثيراً؟

زكريا: كثير جدا.

أحمد: وهل هي مربحة؟

زكريا: أكثر مما تتصور.

أحمد: ماذا جنيت من وراءها؟

زكريا: الأرق ومرض الأعصاب وتصلب الشرايين وتعب القلب وإقامة مجانية في هذا المكان على حساب الحكومة.

أحمد: ماهذا الكلام، هل تمزح؟

زكريا: إنها الحقيقة يا سيد لهاط.

أحمد: وماذا كنت تحمل حين قبضوا عليك؟

زكريا: لاشيء.

أحمد: وكيف عرفوا أنك مهرب؟

زكريا: كنت أتحدث إلى أصحابي وأقول لهم إننا نحتاج إلى قليل من الحرية والمساواة والكرامة، فسمعني أحد البصاصين، وعرف أن أفكاري من الأفكار الممنوعة، وبما أني لاأملك رخصة استيراد للممنوعات فقد «قفشوني» وجاؤوا بي إلى هنا لأتعرف على هؤلاء الأصدقاء العظام.

الوجيه: حرية.. كرامة.. مساواة.. لم أسمع بهذه السلع من قبل.

زكريا: في اوساطكم لايتحدثون عن هذه الأصناف، لستم بحاجة إليها أصلاً..

أحمد: نحن نحتاج إلى كل شيء.

زكريا: حين يربى الإنسان كرشاً بهذا الحجم فما حاجته للحرية ولماذا يرغب بالمساواة، ومن يحمل هذا الرأس المنكس دوماً فما علاقته بالكرامة؟

أحمد: عدنا إلى الحسد»(ص26-27)

وعندما يقرر الحاكم خوض لعبة الديمقراطية، فإن المفارقة تصبح أشد سواداً ومرارة، ونقتطع جانباً من مناقشة تعليمات الانتخابات:

«الحاكم: أنت لك وضع خاص وستنظر لجنة الانتخابات في طلبك وقد نسمح لك بترشيح نفسك.

ثريا: يعيش حراس الشرف والأخلاق والفضيلة.

السجناء: يعيش... يعيش... يعيش...

الحاكم: المادة الخامسة: يعمل بهذا القانون من تاريخ صدوره وتجري الانتخابات خلال أربع وعشرين ساعة من هذا التاريخ.

المادة السابعة: تشكل لجنة انتخابات عاجلة للنظر في طلبات المرشحين يرأسها شخص منكم، وتضم ثلاثة مساعدين من حراس القانون يتم تعيينهم فيما بعد ومندوب واحد عن ضيوف الحكومة.

سجين: هناك استفسار بسيط يا حضرة الحاكم.

الحاكم: تفضل.

خالد: هل لنا أن نقوم بالدعاية الانتخابية؟

الحاكم: الدعاية من كل مرشح ينال طلبه موافقة اللجنة...

سجين: استفسار آخر ياحضرة الحاكم...

الحاكم: تفضل...

سجين: ماهو عدد أفراد مجلس إدارة المضيف؟

الحاكم: كل من ينجح سيكون عضواً بمجلس الإدارة نحن لانتقيد بالعدد.

شعبان: ومن سيكون رئيس المجلس؟

الحاكم: أترى رجلاً غيري جديراً بهذا المنصب؟

شعبان: استغفر الله كنت أسأل فقط...

سجينة: ماهي نسبة تمثيل النساء بمجلس إدارة المضيف؟

الحاكم: لهن نصف المقاعد.

ثريا: تعيش المساواة.

السجينات: تعيش... تعيش...

الحاكم: أترككم الآن بحفظ الله ورعايته لتستعدوا لهذه الانتخابات الشريفة النزيهة، ولايسعني إلا أن أذكركم بضخامة المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقكم لإنجاح هذه التجربة الديمقراطية الفريدة.. سيروا إلى الأمام والله الموفق.» (ص57-59)

وتكتمل دلالة المفارقة المعنوية في الفصل الثاني والأخير الخاص بإعلان الانتخابات وبإجراءاتها، وبالمآل المسدود الذي وصلت إليه، حيث تدخل الحاكم للتهرب من بنود الانتخابات، وتعيين لجنة قابلة للتواطؤ، وقرار اللجنة بإنجاح من تريد إنجاحه، وتزوير الانتخابات بأكثر من شكل، وصفة المطلوبين للحكم، ولاسيما ترفيههم عن الحاكم، وتعاون بعضهم مع الحاكم ضد مصالح الأغلبية، وكشف الحاكم نفسه لطريقة تزييف الانتخابات، وانتقاد حاملي الشهادات العليا والمثقفين الانتهازيين والمأجورين وضعفهم أمام السلطة، وتحليل ألية السقوط والصعود في لعبة الانتخابات المكشوفة، فقد حذر زكريا رأفت من السقوط، غير أن الثاني يعلل الأمر بأن الآخرين سينتظرونه، مادام يناور من أجلهم، فيجيب زكريا:

زكريا: لن يتعرفوا عليك، ستكون بالنسبة لهم شخصاً آخر، لعلهم ينتظرون الدكتور العصامي الذي كان، أما هذا الذي أمامي فلن يعرفه أحد.

رأفت: سأناور إلى أن أخرج لكني لن أتغير.

زكريا: بداية السقوط زلة قدم صغيرة....

رأفت: لتكن زلة لكني سأتماسك بعدها.

زكريا: لن تستطيع.

رأفت: لماذا؟

زكريا: الطريق إلى أسفل يبدأ بخطوة، والانزلاق سهل للغاية. غمضة عين، وتجد نفسك عند السفح أو في قعر الهاوية» (ص81)

وهكذا، كان الحاكم مستعداً لإلغاء الانتخابات فور انكشاف تزييفها: «لانتائج اليوم، ولاانتخابات بعد اليوم، أنتم شعب لايستحق الديمقراطية، اعتدتم على السوط، وبالسوط أعود بكم إلى جادة الصواب» (ص105).

لقد أفلح اللاذقاني في مبناه الرمزي باعتماده «الفانتازيا» بالدرجة الأولى، وقد بلغت ذروتها بإدخال المرأة البغي ثريا إلى سجن الرجال، وبفتح الباب بين سجن الرجال وسجن النساء، وباللجوء إلى المفارقة بمستوياتها المتعددة، مما جعل المسرحية نداء ملتاعٍ إلى الحرية، وصرخةَ موجوع إلى الديمقراطية.

 

10

«تداعيات بغل فقد سمعته»:

مسرح القتامة والقسوة

لفت فيصل الراشد الأنظار إليه مسرحياً وكاتباً مسرحياً منذ عرض مسرحيته «التوقيع أخوكم في الإنسانية»على صالة القباني في إطار برنامج المسرح القومي عام 1987. وكان عرضاً مغايراً في عمل هذا المسرح الذي اعتمد حتى ذلك التاريخ على العروض المترجمة غالباً وعلى بعض المسرحيات العربية والمحلية التقليدية. وكانت مسرحية جريئة في شكلها ومضمونها وفي تفكيرها المسرحي وفي فكرتها الفلسفية وفي تناول شخصياتها وفي حوارها.

 

لقد بنى فيصل الراشد غرائبية متطورة عن تعبيرية مفعمة بحس المفارقة المقذعة ولوعة الفاجعة بمصير بشري يتطوح مثخناً بجراحه في هاوية اليأس أو هزيمة الأمل القدر. يمضي الراشد مسرحيته إلى رؤية قاتمة لجيله على أنه صورة ممزقة وشائهة لمصائر تاريخية سوداء، فعلى الرغم من استمدادمسرحيته من قصة أخيه فريد صاحب تلك المكتبة القابعة في إحدى زوايا هذا الوطن الذي أنهى حياته بيديه بتصميم هو أشد قسوة من الواقع حين دعاهم جميعاً على العشاء مودعاً ذات ليلة مظلمة، فصارت قصة أخيه فريد إلى قصة فريد الذي أصبح فاشياً لا يتوانى عن تنفيذ فكرته الشيطانية بحرق المكتبة الوطنية في هامبورغ في ليلة باردة، فيقع عمود ملتهب عليه، ويحرقه، وعبثاً يحاول إطفاء نفسه بينما تلتهم النار الكتب والجدران والمكان.

 

وتترسخ النزعة التدميرية إزاء شراسة الواقع وعنفه في مسرحياته التالية، ولاسيما مسرحيته «المخرج والطباخ» (قدمتها _جماعة «المسرح الفقير» في أكثر من محافظة عام 1990م بإخراج المؤلف نفسه) التي تنتهي إلى قتل المخرج لنفسه بسكين من مطبخ جاره الطباخ، وعندما يرتاع الطباخ من رؤيته يقتل نفسه في داره، يجيبه المخرج المقتول ببساطة: «لا تخف سألقي بكومة اللحم هذه إلى الشارع»، ثم يلقي بنفسه من الشرفة، ليطحنه القطار العابر. ثمة رفض للحياة الشائنة لدى شخوص فيصل الراشد، فالمخرج انتحر أيضاً لأنهم يراقبونه حتى عزلته: «أحس بهم الآن خلف الستائر وراء الأبواب.. تحت النوافذ»، أما السعادة فلم «يعد لأي شيء معنى في نظري عدا الموت». و«كل أعياد ميلادي خائبة.. أحببت هذه الأرض التي تلقيت المعرفة عليها، ولكنني احترق الآن فوقها»، ولقد حكم المخرج على نفسه بالموت، لأن الحياة لم تعد جديرة بأن تعاش، و«ما أسوأ أن يعرف الإنسان مصيره.. ها أنا عرفت مصيري».

 

تتحرك مسرحيات فيصل الراشد في التاريخ، وتتوجه إلى نقد الوضع البشري المزري تحت ضغوط فقدان الحرية والعنف المستشري في نسيج العالم، وقد اختار الراشد لهذه المسرحيات شخوصاً وأحوالاً قابلة للتغير على طريقة المسرح التعبيري الذي يتلون بنبرات طبيعية ودعابية ساخرة. ليس الراشد مغترباً، ولا يندرج مسرحه في خانات المسرح الاغترابي بنزعاته الوجودية أو العبثية أو اللامعقولة، فهو شديد الالتصاق بواقعه، متوجعاً لما يفسده، وقد اختار هذا الشكل المسرحي الذي يحول هذا الواقع إلى بقع تتباين في إظلامها أو في إضاءتها تعبيراً عن وطأة العيش، وتصير الشخصيات في هذا الفهم إلى جزء من التكوين المشهدي القابل للتعديل أيضاً أثناء العرض، واعتقد أن بعض تألق مسرحيات الراشد يخبو إذا ما وقع عليها مخرج آخر. إن مسرحياته مكتوبة للعرض بقلم مخرج ماهر يمسرح عناصر النص حين كتابته من الشخصيات إلى الحوار إلى المساعدات الأخرى، ولذلك فإن يبدل في تكوين مشهديته وأساليب مسرحيته من مسرحية لأخرى حتى إنه لجأ إلى الأقنعة الحيوانية وسواها لتصوير عنف الواقع ولا منطقيته كما في «امرأة حافية»، إذ تتكلم الضفدعة ناقمة ومرحة في الوقت نفسه كيف أصبحت ضفدعة، فتطمئنها الأم أنها امرأة، وعسى أن يساعدوها لتخرج من هذا الوكر، وتعود إلى حياتها العادية، أما المرأة الضفدعة فتصمم أنها لن تعود إلى تلك الحياة الجافة أكثر من اللازم مؤكدة أنها تنتمي إلى قطيع الجمهور السعيد جداً.

وتبدو مسرحيته «تداعيات بغل فقد سمعته» التي نحن بصدد تقديمها والحديث عنها الأكثر تعبيراً عن صنعة الراشد المسرحية، ففيها جماع تقانات فن المسرحية لديه، من الاتجاه التعبيري إلى تمكن الدعابية والسخرية من أسلوبه إلى استخدام الأقنعة إلى الإلحاح على موضوعه الأثير: فقدان الحرية وهيمنة القمع والاستلاب الإنساني، فهي مكتوبة بأسلوب هجائي مقذع لإدانة الشرط البشري المجحف، غير أن الراشد ينتقل بهذه المسرحية إلى مواقع مختلفة إلى حد كبير عن معالجته لهذا الشرط الإنساني، إذ ينتهي الصراع في المسرحية إلى الصمود ومواجهة القوى الظالمة، مثلما تضيء المسرحية العلاقات الشائكة الملتبسة بمقارنة تاريخية أكثر جلاء.

 

تتألف المسرحية من ثمانية مشاهد، وتصور رجالاً ذوي ملامح قاسية يعتقلون نمراً ما يلبث أن يتحول إلى بغل تحت التعذيب. ولكن البغل يرفض الإذلال والخضوع، ويثور ضد الطغاة، ويخصص الراشد المشهد الثامن لصحوة المذل المهان، فيخاطب البغل أو الإنسان، لا فرق، أقرانه النمور الذين هم قيد التحويل إلى بغال: «اسمعوني: إياكم والاستسلام.. أن رائحته ستظل ترافقكم. رائحة عفنة كرائحة الجريمة تقض مضاجعكم، وتجعل نهاركم أسود.. وليلكم ثقيلاً كصخور البحر الراسية في العمق. يكذبون. ليسوا قادرين على استلاب الذاكرة التي تظل معكم يوم لا ينفع فيه الندم».

 

ويفصح عن معاناته ودوافع التحرير: «أصبحت حياتي بهذا الجلد الغريب ليس لها معنى.. سأبقى، وأصمت، ويكون صمتي الرد الذي يقطع أحشاءكم يا جلادين».

أما الخلاص فهو الموت وفق منطق «المنية ولا الدنية»، ويختتم المسرحية بالبغل يحرق نفسه وينادي: «بقليل من النفط تعود للبغل عزته»، ويحرق دهن جسمه الذي يذوب.

في الفصل الأول من المسرحية خلال ثلاثة مشاهد يقود الرجل ذوو الملامح القاسية البغل إلى الإقامة الجبرية أو السجن بينما البغل يتذكر، ويسأل: «هل أنتم أمن؟ وإذا كنتم كذلك فلأي فرع من فروعه تنتمون»، ولا يسمع إلا صوت زئير نمر يتألم تحت التعذيب من بعيد،. وينشغل الرجال بالبحث عن موجب للتهمة والاعتقال، ويدمدم أحدهم: «لأن مهمتنا تتعلق فقط بإجراء التحقيق»، ولدى مناقشة السايس، يخيل إليه أنهم أشباح، «فالمجرمون دائماً يحلمون بضحاياهم.. هم أرواح الضحية، يظهرون لكي يعذبوني.. الضغط على الجبان يجعله مجرماً.. لقد ضغط علي». وتكون البداية مع الجوع والخوف للإيهام بأنه مجرم وقاتل.

 

يستغرق رجال آخرون يقودهم مروض قاس في المشهد الثاني في أعمال التعذيب من أجل تمام الرضوخ ما دام قد أوهم أنه مسلوب لجريمة قد ارتكبها، وعندما يطلب ماء يشربه ولحماً يأكله يتلقى الجواب بالإهانة: «أنت في البراري نمر. أما وقد صرت في هذا المكان، فأنت مجرد عبد تمتثل للأوامر». ومع دوران التعذيب، لا تنفع تصريحاته بأنهم لن يقهروا إرادته، ثم ينتقلون في تعذيبهم من الجوع والتعطش إلى وسائل أخرى أكثر رعباً: «سنطهرك (أو نخصيك)، ونعقلك، ويصير فكرك مرناً»، والآلية المستخدمة هو ما يوضحه السايس دون جدوى: «أنني أرى أنه لم يرتكب أي جريمة.. وما يثقل على نفسه لا يتعدى كونه وهماً.. الجريمة هي ما تفعلون».

ويخصى، ويبدأ رضوخه: «لقد استقر الخوف في قلبه.. هو الآن نمر من عجين»، فيقررن خصيه، ويخيّرونه بين القطع أو القرض، أما هو فيطلب الموت.. ثم يقطعون خصيتيه وسط إذلال شنيع.

 

وفي المشاهد الأخرى، يوسع الراشد هجاءه المقذع للنظام الشمولي الذي يحط من قيمة الإنسان في مفارقات لفظية مشحونة بسخرية مريرة مثل الحديث عن قواعد تطوير البشر إلى قردة والنمور إلى بغال والبغال إلى قادة سياسيين.. الخ.

 

وفي المقابل ينظر البغل في نفسه وذاكرته: «لأنني أنقذت نفسي من العذاب.. ولكن ما هي إلا أيام معدودات عندكم.. بدأت تظهر رائحته من بين تلافيف الذاكرة».

ويدرك أن التعذيب سبيلهم إلى محو الذاكرة أيضاً: «يضربونني دائماً.. كانوا يضربونني في محطة الأبحاث.. يضربونني وأنا بغل، ويضربونني وأنا نمر.. إنها مهنة من الضرب». ويفصح الراشد في المشهد السادس عن لعبة القناع واللغة حين دخل السيد وخاطب البغل قائلاً: «لقد فاجأتني يا رجل.. يا بغل». أو «هل أدبت ابن عمك البغل؟».

وفي المشهد السابع يخاطب البغل السايس: «يا أفضل من عرفته من بين هذا القطيع»، بينما يناديه السايس «يا صديقي». ثم يتكشف العذاب عن مهنة الموت القادم ببطء مع توهم الجريمة ضد البريء، وهو ما يرفضه الرجل ـ البغل: «العذاب هو أنني أتذكر، ويشدني هذا إلى قاع عجيب من الحنين.. حنين يكسرني.. خفته وبسببه أجرمت.. أما اليوم فالأمر واحد.. استطاعوا أن يسلبوا حريتي، ولكنهم لم يستطيعوا سلب ذاكرتي التي تجعلني بهذا الهيكل.. فقط روح.. يمزقها صدى الزئير وصور النمور.. بسببها يستحيل البقاء».

 

ومن الواضح هذه المسرحية تنتمي إلى موجة «ظلام الظهيرة» التي كتبها أرثر كوستلر بالعنوان نفسه عام 1941م باشتداد الطغيان وهيمنة الطاغية الذي حوّل نظاماً سياسياً أو أيديولوجيا بأكمله لصالحه، وقد انتشرت هذه الموجة بعد الحرب العالمية الثانية تعبيراً عن وطأة القمع والتعذيب حين يلبس المرء جريمة لم يقترفها، وحين يراد للإنسان أن يستلب، وأن ويروض للرضوخ المطلق، وحين يبلغ هول القمع منتهاه فتمارس بحق الأناس ضغوط عنيفة متواصلة حتى الإمحاء الكامل، وهي موجة تفاقمت في ظروف الحرب الباردة بين نظامين أراد كتّابها أن يدينوا الأنظمة الشمولية، والمقصود بها في هذا المجال النظام الاشتراكي دفاعاً عن الحرية، ولا سيما حرية الفرد. وإلى هذه الموجة تنتسب أعمال فنية وأدبية كثيرة وقفت عند نقد نظام شمولي مقصود، مع اختلاف الأدوات الفنية، تصريحاً أو تلميحاً باللجوء إلى الرمز أو الاتجاهات الحداثية الأخرى، كما في بعض أعمال جورج أورويل، ولا سيما «حديقة الحيوان» (1945م) و«1984م» (1949م). أو تعدت نقد نظام شمولي مقصود إلى نقد النظام الشمولي استناداً إلى طوابع النقد السابق: الدولة البوليسية، القمع، الإرهاب، العبودية، معاداة الحرية، معاداة الفكر، الطغيان، الإخضاع.. الخ، وأشير إلى نموذجين معروفين لذلك في الأدب العربي الحديث، حيث وجد الأدباء العرب في «ظلام الظهيرة» متنفساً لنقد مجتمعاتهم كما في مسرحية يوسف إدريس «المخططين» (1969م)، أو في قصص زكريا تامر الكثيرة على امتداد أربعين عاماً من نقد الظلم الذي يلحق بالإنسان العربي تحت مطرقة القمع أو التوق إلى الحرية لا فرق، وقد بلغت ذروتها في مجموعته القصصية «النمور في اليوم العاشر» (1978م)، بل أن مؤلفنا يستخدم بعض موضوعات هؤلاء الكتاب ونماذجهم، كما سنلاحظ لاحقاً، ففي فصلها الأول تنويعات على معزوفة متكررة هي النظام المستبد الذي يسحق الإنسان حتى الإمحاء، وقد اختار الراشد ممارسات متواترة في تركيب مختلف يعتمد على توليف عناصر مسرحية غير متآلفة مثل الأقنعة، أي عكس الأنسنة، فإذا كنا في الأنسنة نضفي صفات الإنسان على الأشياء والكائنات الحية الأخرى، فإن الأقنعة حيلة فنية لتبيان التحولات التي تصيب الشخوص، وكأنها دلالات تتجلى في عنف الاستبداد الموجه إلى آدمية الإنسان أولاً، وإلى وجوده ثانياً، وهذا ما جرى مع «روبشوف» في «ظلام الظهيرة» على وجه التقريب، إنّ فترة من تنويع التعذيب وشراسته، وهي تختلط بفنون تحقيق لا تختلف عن التعذيب في شيء، لكفيلة بأن ينسى المرء معها اسمه، أو يفقد ذاكرته، أو يصير إلى هيئة ذهنية وعاطفية ووجودية مختلفة، أو هو يصير إلى كوم حطام في إهاب إنسان. كان روبشوف يتذكر في بداءة التحقيق أنه اعتقل، ويتذكر تفاصيل ما جرى، ويقارن في عقله: هل يستحق هذا العذاب كله؟ ثم استسلم إلى روع خائف مهلهل أنه مذنب، ولو أنه يجهل هذه الذنوب، وتكون الخاتمة معادلة مرعبة ينتفي فيها وجود الرجل الأول مع وجوده الخاطئ الآثم. وهكذا، عليه أن يموت. انحنى فوقه جسم مطاط لا حدود له، وشم رائحة الحزام الجلدي... بينما هو لا يفقه مصدر هذه الشارة التي يحملها على ذراعه وعلى شارات كتفه، وباسم من يحمل مسدساً صوب فوهته السوداء إليه؟

ودون أن يفقه ما يحدث.. يتلقى ضربة أخرى في صدغه. وهذا كل شيء، واستكان، لينغمر بأمواج البحر التي ما زالت تتلاطم.. فترفعه موجةٌ إلى أعلى، جاءت من البعيد البعيد، وتابعت سيرها باتزان وكأنها رجة من الأبدية.

 

وتطور رواية «1984م» تقانات التحقيق والتعذيب إلى رعب داخلي مستكن في الروح، حين يتحول الواقع كله إلى استعارة لصور نظام استبدادي شامل لا سبيل فيه لغير الخنوع والخضوع، فقد انتهى نضال ونستون، وها هو ذا يعترف: «لقد انتصرت على نفسي بنفسي، وقهرت روحي، وغدوت أحب الأخ الكبير، إذ صار الاستبداد من الطبيعة».

 

ولا يختلف نقد يوسف إدريس للنظام الشمولي الاستبدادي في «المخططين» عن هذه الرؤى السوداء المرعبة، فثمة الأخ الكبير، وثمة في مقابله القلق على الحرية الفردية، والنتيجة هي نظام شمولي فاسد في صورة وحش قهر الإنسان، وأعاق تقدمه، ورماه للعطالة والخوف والموت دون رحمة، دون كرامة، دون حرية.

 

وفي مجموعته «النمور في اليوم العاشر»، طوّر زكريا تامر أدواته الفنية، ولا سيما المفارقة وحس السخرية المرير ليستوعب أهوال واقع يسحق فيه الإنسان كالحشرة. ولعل القصة التي تحمل عنوان المجموعة تفصح عن أسلوبية تامر ونزوعه الهجائي الساخر في دعابية مرة، إذ نلتقي بمروض يخاطب تلاميذه شارحاً مهنته الصعبة والسهلة في آن واحد، منبهاً إلى أن معدة الخصم هي الهدف الأول، فالنمر شرس متعجرف، ثم يلتفت إلى النمر الذي طلب طعامه، ويقول: «ولكنك: الآن لست نمراً، أما وقد صرت في القفص، فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر، وتفعل ما أشاء». ويسوغ المروض سيادته أو مدخله إلى الاستبداد بأنه يملك الطعام، وبهذا سيرغمه على التبدل، فالرأس المرفوع لا يشبع معدة جائعة.

 

لقد قام المروض بعمله على أكمل وجه معرضاً النمر إلى الإذلال ليصبح بعد أيام نمراً من ورق، في ترويض مدروس:

- «لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط».

- «انهق كالحمار تحصل على الطعام».

- «سألقي مطلع خطبه، وحين انتهي صفق إعجاباً».

(ويربط تامر بهذه الخطبة وبمحتواها السياسي الواضح نصه بالتاريخ وبواقع محدد يتوجه إلى نقده).

- «منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش».

ويبين تامر أن الترويض أفضى إلى غاياته: التبدل في طبيعة النمر، أي إمحاء الطبيعة تحت القمع والتعذيب والإذلال، وهذا ما تفصح عنه خاتمة القصة:

«ولما اشتد جوع النمر، حاول أن يأكل الحشائش، فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، ولكنه عاد إليها ثانية، وابتدأ يستسيغ طعمها رويداً رويداً.. وفي اليوم العاشر، اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطناً والقفص مدينة».

إن آلية الاستبداد تقوم، في المبدأ الفني، على التحول تمهيداً لنفي الطبيعة الإنسانية على المستوى الجسدي، وعلى تمام التوهم بالذنب والإثم والعبودية على المستوى النفسي. وقد جمع الراشد أيضاً بين التحول الجسدي والتبدل النفسي في عمل المروض وتلاميذه مضيفاً إلى ذلك كله قسوة في التعذيب وبطشاً وإمحاء للطبيعة الإنسانية إلى حد الإلغاء حين ختم العروض تعذيبه بالإخصاء.

وفي مسرحية «تداعيات بغل فقد سمعته» استعمال مباشر وغير مباشر لهذه التقانات في توليف بارع يمسرح فيه هجاءه المقذع للاستبداد، وكأنه يصوغ مسرحاً للقسوة، غير أن الراشد يختلف كثيراً عن هذه الموجة القاتمة في رؤية الخلاف الذي يدعو بني جلدته ليحافظوا على جلودهم اندفاعة إلى الفداء غير هيابين من الموت، ما دام الموت منتشراً ورائحته تزكم الأنوف، ولعله نداء أمل يستحق هذا العناء كله.

 

11

«العاصفة» لفتيح عقلة عرسان

المسرح والتفكير الأخلاقي

تعرفت إلى فتيح عقلة عرسان لأول مرة عام 1973، ضمن الكوكبةالرائدة من الفنانين العائدين من الاتحاد السوفييتي (آنذاك) الذين درسوا في معهد السينما العالي الشهير بموسكو (فغيك)، وعلى مدار عقد من الزمن حتى وفاته الموجعة بالمرض العضال، كان فتيح عقلة عرسان فريداً في حياته وفي عمله الإبداعي والفني. لقد تخصص في مجال نادر في السينما، ليس حينها، بل حتى يومنا هذا، وهو تخصص كانت تحتاجه السينما الناهضة في سورية، أعني به الإنتاج السينمائي، إذ غالباً ما أهمل موضوع الإدارة والإدارة الانتاجية في تطوير الفنون، ولاسيما السينما، لأنها صناعة وفن في آن واحد. والحق أن فرادة عرسان في حياته ستنطبق عن فرادة عمله الإبداعي والفني، وسيكون منهما عطاء علمي وأخلاقي طبعا حياته كلها، مما كانت تحتاجه ثقافتنا.

 

جمع فتيح عقلة عرسان إلى الاجتهاد الدأب والذكاء وتوقد البصيرة والابتكار والعلم والعقلانية إخلاصاً ونبلاً وصدقاً وفيضاً من ود جعل منه إنساناً ومبدعاً باعثاً على الثقة والأمان والنجاح، وإن المؤسسة العامة للسينما مدينة لفكر عرسان في تنظيمها وتنظيم عمليات الإنتاج فيها، والأهم هو وضع هذا التنظيم في سياق إدارة ناجحة، وماتزال أفكار أساسية له مرسومة على الورق في التخطيط الذي وضعه لنهضة سينمائية مرتقبة حالت ظروف مختلفة دون إنجازها، ومن ذلك المجلس الوطني للسينما، وآفاق التطور السينمائي لدى القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع التعاوني ودعم الاتجاهات القيمية في الصناعة السينمائية، وخصائص الإنتاج السينمائي من فكرته إلى اكتماله شريطاً صالحاً للعرض. وقد حوى كتاباه «واقع السينما السورية وآفاق تطورها (1978) و«الفيلم السينمائي من الفكرة إلى الشاشة» (1981) جهده الرئيس في هذه الميادين.

 

لقد استطاع فتيح عقلة عرسان منذ انطلاقته لدى عودته من موسكو أن يقرن العلم بالعمل، وكان عرسان عالماً في اختصاصه، فعمل مديراً لإنتاج أفلام روائية طويلة وقصيرة ومديراً لشؤون الإنتاج السينمائي في المؤسسة العامة للسينما، ثم معاوناً لمديرها العام، ثم مديراً عاماً لها إلى أن اخترمه الموت مساء الثلاثاء في الخامس والعشرين من تشرين الأول عام 1983 في ذروة عمله مديراً لمهرجان دمشق السينمائي الثالث، فأوقف المهرجان برنامجه في صباح اليوم التالي حداداً على الفقيد الراحل. كان فتيح عقلة عرسان ينظر إلى عمله الفكري والفني على أنه مسؤولية وطنية واجتماعية، فوهبها حياته وعزيمته الصلبة وذهنه اليقظ من أجل تطوير السينما في سورية.

 

كانت تلك السنوات ذروة الأحلام التي ازدادت بريقاً مع إرادة العمل الذي مثّل عرسان واحداً من فرسانه الميامين، ومن أجل ذلك، لم يكن للأوهام مكان في حياته أو عمله، في تفكيره أو في إرادته الإنتاجية لهذا الفن الناهض. وعلى الرغم من مساحة المجاملات والاختلاف وتنازع الاهتمامات والولاءات والمقدرة، فإن عرسان احتفظ بقدر كبير من الدفء مع من عرفوه أو عملوا معه، وكان كثيرون يعتقدون بمعتقده، ويختلفون معه في الرأي والاتجاه، ويحتفظ كتاباه المذكوران آنفاً بدلالاتهما التاريخية والفكرية، بوصفهما مرشداً للعمل وقد كتبا بلغة العالم وبحرارة الإيمان، وهما مزودان بلغة الإحصاء والمقارنة، وبجدوى الحقيقة، لأن سعي عرسان اتجه دائماً إلى تطوير هذا الفن الذي هو سلاح ثقافي. ولعل الإشارة إلى ختام تقديمه لكتابه الأول يشير إلى تطلعه لأن تكون سينمانا لائقة بسينما متقدمة: «القسم الأخير من الكتاب دراسة مقارنة بين نظم وأساليب إنتاج الأفلام السينمائية في عدد من البلدان الاشتراكية والرأسمالية. قمت بترجمتها عن اللغة الروسية، وتعمدت إرفاقها مع هذا الكتاب لكي يتسنى للقارئ الاطلاع على هذه النظم والأساليب المتبعة في هذه البلدان بعد اطلاعه على واقع السينما السورية منذ ولادتها وحتى نهاية عام 1977، لكي يحكم بنفسه على ما هو موجود، وما يجب أن يوجد في قطاع السينما في بلدنا».

 

وتزداد أهمية شغل عرسان الفكري كونه ما يزال رائداً، فالكتب المؤلفة أو المعربة في اختصاصه لا تكاد تذكر لقلتها أو ندرتها، وكان عرسان مدركاً لما يعمل إذ كتب في مقدمة كتابه الثاني: «لا أعتقد في حدود ما أعرف أن سينمائياً عربياً أصدر كتاباً تناول فيه الجوانب الاقتصادية ونظم وتنظيم الإنتاج السينمائي في أي قطر عربي أو على مستوى الوطن العربي بأسره، وباستثناء السيد محمد العشري من جمهورية مصر العربية الذي أصدر كتاباً عن اقتصاديات السينما، وهو في الأساس التخصصي ليس سينمائياً، ولهذا فإننا ننظر إلى محاولتنا هذه على أنها محاولة أولى في هذا المجال نضعها بين يدي القارئ العربي والسينمائي العربي، علنا نفيد ونستفيد في إطار تطوير العمل السينمائي العربي والارتقاء به تنظيماً وإنتاجاً إلى الشكل والصيغة العلمية المخططة التي نطمح لبلوغها في عملنا وتعاملنا السينمائي في مختلف المجالات والمستويات».

 

ثم كانت مناسبة طيبة أن يكتشف نص مسرحي بين أوراق المرحوم فتيح عقلة عرسان، ولدى قراءته، يلاحظ المرء أنها مسرحية نجح مؤلفها إلى حد كبير في صوغ بنية رمزية للنص ولمحتواه القيمي.

من الواضح أن المسرحية مكتوبة في أواخر الستينات (بالذات في 10/11/1967) في سنة الدراسة الأولى بموسكو، أو ربما قبل ذلك بقليل. تقع المسرحية في ثلاثة فصول تتحدث عن بلقيس المليونيرة التي حازت الثراء والمال دون جهد، بينما تعاني الكثرة الكثيرة من الفاقه والحرمان والفقر، فيتصدى طارق الاشتراكي وزوجته سمية والمعلم سالم وبقية الشعب في عاصفة تبشر بنهاية الظلم.

 

تستفيد المسرحية من تقنيات المسرح التعبيري، وتتحرك رؤى كاتبها في مناخه السياسي والتبشيري على وجه العموم، فقد كتبت إبان الولع بهذا الاتجاه المسرحي الذي يرافق الانعطافات في حياة الشعوب والأفراد حيث تغلغل المفاهيم وبلبلة الأفكار، والنزوع إلى التغير، وتناقض التطلع إلى مثال مع العدمية والفوضى، ولذلك يتخلل هذا النوع من الكتابة المسرحية غموض، وإغراق في الذاتية، ونجوى موجعة إزاء وضع تاريخي يخال للمكتوين بناره مؤبداً، أو يستحيل على التغيير، غير أن عرسان مال في طوابعه التعبيرية إلى إيجابية في رؤية الواقع على غرار بعض المسرحيين التعبيريين أمثال أرنست توللر الذي سُمّي مسرحه بالدراما الثورية مما يصب في دائرة الدراما الاشتراكية، ولاسيما مسرحياته «هوبلا، نحن نحيا» «وكان قدمها المسرح الجامعي، بجامعة دمشق عام 1972» و«مهاجمو الآلات».

 

ولم يكن عرسان بدعاً في سعيه لتثوير الأوضاع القائمة، لأنه يستجيب لواقع الحال، إذ كتبت المسرحية في فترة التبدلات العميقة في سورية والتزام الخيار الاشتراكي وسيادة القطاع العام، وتأميم رأس المال، ومنع احتكار السلطة، وإعلاء إرادة الشعب في الحكم وفي مناحي الحياة المختلفة، وتبدو المسرحية تنويعات على هذه الأفكار والتبشير العقائدي لها، ولم يكن عرسان بدعاً في الكتابة التعبيرية على هذا المنوال مختلطة بتفكير شعاري واضح، ويندر أن نجد كاتباً مسرحياً عربياً هجس بالسياسة أو مسرح الأفكار لم تداخل كتابته المسرحية بعض الخصائص التعبيرية، ولم توجعه المصائر الذاتية لقومه أو لجماعته الإنسانية في أتون العذاب التاريخي والشخصي، وتبادل التأثير بينهما.

 

نلتقي في الفصل الأول بالمليونيرة، بلقيس، المتجبرة  الطاغية، مالكة رأس المال، ومعها هدى معاونتها أو وصيفتها. تتحدث بلقيس عن استتاب الأمور لها، وتسأل هدى عن فأر بشري لا تريانه، بينما يدخل صلاح، وهو شاب في مقتبل العمر، غاضباً يبحث عن هدى التي سرقت ماله وعقله، أما بلقيس فتسأله عن فأر بشري، ويلتبس جوابه بشخص فقير رآه هو «طارق» العامل لدى بلقيس، والاشتراكي الذي سيقود مع الفقراء والكادحين الآخرين ثورة عاصفة تنهي الجبروت واحتكار رأس المال. ثم يدخل طارق الذي طردته، ويدور حوار بينهما عن الثروة ومصادرها، وتجيبه بلقيس أن أجدادها وآباءها هم الذين أورثوها هذا المال، ويحتدم النقاش حول حقيقة المال ومالكيه، ولماذا يملك من يملك المال؟ ولماذا نحن (الفقراء) فقراء؟

ويدخل سالم المعلم أثناء ذلك، فيصير سؤالها عن ذئب بشري، أما هو فيخبرها عن خوفه ويخرج، غير أن هدى تجلب لبلقيس فأراً هدية فتنزعج من غبائها، لأنها جلبت فأراً بشرياً، وتقول لها: ربما تحول الفأر إلى ذئب أو أسد يزأر، وتغادر هدى لتبحث عن الذئب، بينما يسأل صلاح بلقيساً عن عقله، ويطلب منها ماله الذي سرقته الأسود، ويجرها لتنظر الأسود هناك.

 

وتتطور الأحداث في الفصل الثاني بدخول سمية زوجة طارق التي تكتشف أن زوجها يعمل عند بلقيس المليونيرة، ويدور بينهما حوار مستطرد لأسئلة الفصل الأول المستعصية. لماذا الفقراء فقراء ويملك من يملك؟ فتطردها بلقيس، ولكن زوجها يعيدها إلى المسرح، وتكون مواجهة بين الثلاثة ينكر فيها طارق أن تربط بلقيس بين الفقر والغباء، ويطلبان منها أن تثبت أن الفقراء أغبياء.

 

تعلن بلقيس استياءها منه، وأنه لم يعد مخلصاً لها فيخبرها بقدوم العاصفة حيث إرادة الشعب التي لا تقهر: «إذن.. أنت ترفضين المنطق.. وتشكين في مساعدة الفقراء.. وربما تمتنعين كما أنت فاعلة الآن.. ولكن أملي أن هذا الوضع لن يدوم ولن نسلّمك رقابنا لتعملي بها السكين، كما يفعل الجزار في المسلخ. كما أننا لا يمكن أن نصمت، ونذعن، ونحن نربي أبناءنا.. يموتون جوعاً وألماً أمام أعيننا. علماً بأننا نملك كل شيء.. وبأيدينا كل شيء، لأننا الشعب، ويمكن لشيء مهما كانت قوته ومقدراته أن يقف في وجه العاصفة، تلك التي بدأت تثور، وتقضي على كل من يقف بطريقها.. إنها إرادة الشعب الصارخة، ولابدّ لهذه الإرادة من أن تنتصر، وتكتب نصرها بدماء شهدائها».

وهكذا ينجلي البعد الرمزي الذي ينتظم بنية المسرحية على مضاء الدلالة السياسية لمعنى المسرحية تفكيراً عقائدياً حيناً وشعارياً حيناً آخر. تدخل هدى لتحذر بلقيس من مآل الوضع الراهن، وليثور صلاح من جديد محاولاً أن يسترد ما سرق منه، ثم تطلب بلقيس منه أن يخفف عن نفسه، وأن يصارحها، فيغضب ويستخدم السوط في ضرب هدى ويهدد بلقيس، فقد عرف أيضاً طريقه. إنه طريق الفقراء: «نعم.. إنني كشفت لك عن نفسي، وذلك لأنه ليس من الرجولة في شيء أن يبقى الإنسان متستراً بثياب الحملان، وهو يرى نفسه قد أصبح شيئاً جديداً.. وإنساناً جديداً.. يعاصر ثورة، ويعيش مع ثوار.. عرفوا الحق وطريق الخلاص.. وها أنذا أذكرك بأنني اخترت طريقي في الحياة، وسأسير فيه حتى النهاية.. غير مكترث لمصيري أنا لأنني لست وحدي في الطريق، وإنما كل أولئك الفقراء.. وكل أولئك الذين يحسون، ويتألمون لمنظر البؤس والتشرد والحرمان.. كل أولئك يسيرون معي في طريقي».

 

وتتأسى بلقيس لهدى عن فعل صلاح الأخرق: «لقد وهبته كثيراً من الأموال، تعويضاً له عن عقله الذي فقده»، وتثور مجادلة أخرى حول المال الذي هم أحق به منها، وتذكير بصوت التغيير، صوت الاشتراكية والوعد بالخلاص، «صوت ملايين الاشتراكيين في كل مكان من العالم».

 

تتحسس بلقيس الخطر في الفصل الثالث، وتؤكد هدى مخاوفها إلى ما سيحدث، وأن عاصفة ستثور، وتفكران بخطة للمواجهة. تظهر هدى من مخبئها وتتبادل المخاوف مع بلقيس، وتقترح عليها أن تترك الأموال والقصر، وترفض بلقيس وتدافع عن المال باستماتة، فلولا المال «لأصبحت فقيرة تعيسة الحظ»، ولكن الخوف منتشر، ويداهم طارق، بلقيس وهدى والشرطة ومن معهم، ويدعوهم لنداء الشعب:

«لقد ثارت العاصفة وهدر السيل يا حامية بلقيس.. إنكم من الشعب.. والثورة لكم.. ومن أجلكم، فافتحوا الأبواب، واتركوا الشعب يدخل، واتركوا بلقيس وحدها أمام الشعب لينهي حسابه معها، ولينهي تلك المليونيرة المزيفة.. فاسمعوا نداءنا أنتم يا اخوتنا.. يا من تحمون ذلك الهيكل البائي.. الذي لم يعد له وجود مع الثورة، فالثورة تسير، ولن يقف في وجهها أحد كبلقيس وأشكال بلقيس».. ويشارك الشرطة في فتح الأبواب والثورة وصوت طارق يعلن عن الشعب والاشتراكية: «أتؤمنين بأن هناك قوة أكبر وأعظم من قوتك وقوة أموالك التي تملكينها.. وبعد أتذكرين كم من أطفال شردت.. وكم من الآباء والشبان قضيت عليهم.. وبأساليبك الغادرة ومرافعاتك الماكرة أتذكرين كل ذلك أيتها المرأة.. وتذكرين كم من الحرمان والجوع والمرض عانينا، وعانى أطفالنا كذلك.. يجب أن تذكري كل ذلك.. ويجب أن تذكري دائماً: أن الشعب هو صاحب السلطة وهو السيد لا المسود.. وهو الحاكم، وله تلك الأموال التي تكنزينها».

ثم تختتم المسرحية بصوت يدعو إلى إسقاط كل أثر للتسلط والاستغلال معلنة انحيازها إلى مسرح عقائدي شعاري واضح، لأن «العاصفة» بالدرجة الأولى، مسرحية ذات بنية تجريبية ترميزية عن الصراع الاجتماعي الطبقي بين من يملكون ومن لا يملكون. فعرض في الفصل الأول أفكاره عن التباين الطبقي بفعل الملكية، ثم وسّع إطار النظر إلى جوانب الصراع في الفصل الثاني منذراً بقدوم العاصفة التي ستجتاح كلّ شيء وتعيد الأمور إلى نصابها، وهي عاصفة الشعب الذي يسعى دائماً لاحقاق حقوقه الضائعة أو المغتصبة.

 

«العاصفة» نص مبكر لفقيد السينما فتيح عقلة عرسان يشير إلى تفكيره الاشتراكي والأخلاقي ورصانته الفكرية التي عرف فيها فيما بعد. تحية لذكرى فتيح عقلة عرسان تتجدد في هذا النص الذي يؤشر في الوقت نفسه إلى خسارتنا بفقد مبدع وإنسان.

 

12

«المؤتمر الأخير لملوك الطوائف»

ومعالجة الموضوع القومي

-1-

عُرِفَ خالد محي الدين البرادعي بمسرحه الشعري النضالي المستمد من التاريخ والتراث الشعبي العربي استجابة للأحداث المصيرية العاصفة التي هزت الوجدان العربي منذ هزيمة حزيران 1967م، ولا سيما الويلات التي جرتها سياسات الرئيس المصري أنور السادات فيما سمي بمعاهدة السلام والتطبيع، وهي السياسات التي أنزلت الضرر الفادح بالنضال العربي، وألحقت الخسائر الباهظة بحركة التحرر العربية، وهذا ما تعبِّر عنه مسرحياته «السلام يحاصر قرطاجنة» و«حصان الأبنوس» و«أشباح سيناء».

ينطلق البرادعي من مقومات الوجود القومي والإيمان بحقيقة الحضارة العربية ودورها التاريخي المستمر والثقة بالمستقبل العربي، ويدين ما هو شائن في السياسات القائمة، ويدعو إلى تفتح الإرادة العربية وتحقق الذات وصيانة العمل القومي، وقد أفصح عن إيمانه المطلق ومبدأيته الصارمة في التصدي للموضوعات القومية في كتابيه النثريين «الغناء الأبدي»، وهو متابعات لحرب تشرين التحريرية على أقلام الأدباء العرب، و«الإبداع من الرؤية القومية إلى المنظور الإنساني» وهو معالجة للأدب القومي العربي من منظور إنساني توكيداً على الصفة الإيجابية والإنسانية لهذا الأدب. أما أعماله المسرحية والشعرية الكثيرة فهي مباشرة للوعي القومي الناهض في روع شخوصه وفي تطلعه لكتابة مسرح شعري نضالي يحتفي بالموضوع القومي على نحو صريح ومعلن.

وفي هذه المقالة، نتوقف قليلاً عند مسرحيته الأخيرة «المؤتمر الأخير لملوك الطوائف» (منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ 1986م) نموذجاً لمسرحه الشعري وتفكيره القومي.

 

-2-

في مقدمته لمسرحيته، يبدي البرادعي تساؤله حول قابليات المسرحية الشعرية العربية الحديثة لمعالجة الموضوعات القومية، ويقول: أرى الإجابات كلها في الطرف الآخر، أي أن المواطن المشاهد القارئ القلق الذي يعيش على الأرض العربية الآن، أبحث عما لا أراه، وأسعى وراء ما لا أملكه، وأحن إلى ما أفتقد إليه، وأتطلع إلى واقع غير هذا المألوف، وكل ذلك لا أتمكن من لمسه إلا في الإبداع. ويكون الإبداع آنذاك مصباح طريق وشريكاً في تغيير الواقع، وإنْ لم يتمكن الإبداع من إيصالي إلى ما أطمح، بل إنَّ لم يتمكن الإبداع من حمل هذه الرؤيا، فلا ضرورة له.

 

وفي جانب المسرح، لا يمكن أنْ تتحقق تلك الرؤيا إلا من خلال المسرح الشعري.

ومفاد هذا القول إنَّ البرادعي لا يرى الرؤيا خارج الموضوع القومي، ولا يرى هذه الرؤيا بمعزل عن وظيفة الفن التنويرية، ولا يرى الإبداع إلا في إطار هذه الرؤيا، ثم يرهن تحقق هذه الرؤيا بإبداع المسرح الشعري بالدرجة الأولى، وهذا يعني أنَّ البرادعي وهب فنه للرؤية القومية، فكيف كان دأبه في مسرحية «المؤتمر الأخير لملوك الطوائف»؟

تعرض المسرحية لأوضاع الأندلس أبان سقوط أمراء الطوائف وقيام دولة المرابطين، وتمعن في وصف ما آل إليه حال العرب والمسلمين في ظل التشرذم والانقسام والتجزئة، من مهادنة العدو (الفونسو السادس) ومحالفته، إلى دفع الجزية له وارتهان الحكم برضاه وحمايته وإذلاله.

يستشعر الفقهاء والعلماء الخطر القشتالي فيستنجدون بأمير المغرب، يوسف بن تاشفين، وهو ما فعله أيضاً المعتمد بن عباد، وتقوم معركة «الزلاقة» المشرِّفة التي انتصر فيها العرب المسلمون على عدوهم، ولكن ابن تاشفين يتابع مسعاه لتوحيد كلمة العرب والمسلمين في الأندلس، فيقضي على ملوك الطوائف استعادة لجوهر الجهاد وروح عبد الرحمن الداخل «صقر قريش».

 

يصوغ البرادعي مسرحيته من هذا الحيز التاريخي الذي يقارب الراهن في قسمين، يضم القسم الواحد تسعة أجزاء، ومن الواضح أن البرادعي قد تصرف في الوقائع التاريخية من أجل هذه المقاربة بين الماضي والراهن، فيما يخص القضاء على ملوك الطوائف ووحدة العمل العربي وإعلان شأن الكفاح المسلح سبيلاً للحرية. والحق أن الشاعر مهموم بالتطلع القومي، أي ما ينبغي أن تكون عليه حال الأمة العربية يؤثر التقليل من سرد الماضي ومواضعاته التاريخية، وهكذا كان الافتتاح خارج القسمين نشيداً جماعياً للفارس العربي الذي طال انتظاره:

«قِيلَ.. تأتينا مع الصبح رسولاً

تحرقُ الخوفَ

وتلغي الحزنَ عنَّا

فالذين اغتربوا قالوا: كيانٌ لن يزولا

قالت العرَّافةُ الواسعةُ العينين

يأتيكم صديقاً بدوياً

حاملاً من خضرة الآتي فصولاً

إنَّ هذي الحلكةَ العمياء جرحٌ عارضٌ

وانتظرناك طويلاً

ومشتْ قافلةُ الإصباح في البحر وفي الصحراء

عجلى

وطوت أوجاعنا جيلاً ـ فجيلاً

ثم لم تأتِ

وظل الحلمُ في الصحراء مخضَّراً وعصفوراً جميلاً

قالت العرَّافةُ الواسعةُ العينين، تأتي

لتقيلَ الليلَ من منصبه

وتوافينا بأحمالٍ من الأفراح والأمن

قبيلاً.. فقبيلاً

وانتظرناك طويلاً

لا تكن يا أيها الغائب عنَّا

أملاً حلواً.. وحلماً مستحيلاً»

إنَّ انشغال الشاعر بما ينبغي أنْ يكون هو الغالب على صياغته الشعرية، مما جعل خطابه مباشراً في مواقع كثيرة، تلهفاً لتغيير العتمة التاريخية وإضاءة مستمرة لموقف قومي هو الأجدر بتطلعه المشروع: نَبْذ الواقع المشوه وبناء عالم جديد، وسنذكر دائماً علامات هذا التطلع كما في هذه الاستشهادات:

- يخاطب الفقهاء والعلماء الأمير عبد الله ابن بلقين:

«أوقفْ دفع الجزية

يتوقفْ زحف الروم

لا يكفي أن تهرب من وجه الوحش دون مواجهته

ارفع رأسك

واجمع فضلة أموال الناس ومالك

لتجِّهز جيشاً يتقن ردَّ الغزو ودرأ السيل»

- ابن رشد يخاطب الأمير ابن صمادح:

«والشعب المستسلم لملوك الردة

أرقام مسودّة

بخزائن هذا العصر الملعون

التجزئة طَرَف

والكفر طَرَف

والروم طَرَف

والجزية خاتمة الأحزان

يدفعها العاري والحافي والجوعان

ونحن سررنا بزيارة حاكم

تتفتح أفواف المجد عليه

بين صباحة جاريةٍ

ونفاق وزير»

- ابن تاشفين يحاكم أمراء الطوائف:

«أنتم نبع الداء

ورؤوس الفتنة

حوّلتم هذا الشعب إلى دهماء

مسحوق جائع

أو مغترب ضائع

أو منتظر خاشع

أنتم حوّلتم صعلوكاً يدعى الفونسو

بطلاً يهزمكم

الواحد تلو الآخر»

 

-3-

تدعو المسرحية للوحدة العربية ومواجهة العدو عن طريق الكفاح المسلح، وتنبذ التجزئة والتفرقة والتحالف مع الأعداء. ويصدر الشاعر عن قيم قومية واضحة، ويربط ما وسعه ذلك، بين واقع المسرحية وراهن الأمة العربية من خلال التوكيد على معطيات الصراع التاريخي والوعي به في التصدي للأعداء والغزاة، وقد تصرف الشاعر في بعض الوقائع التاريخية انسجاماً مع رؤيته ونزعته التبشيرية في تبني موقف قومي صلب.

 

لقد استند الشاعر إلى التاريخ العربي الإسلامي في صياغة الفعلية المسرحية، ولكنه ركز على بؤرة معينة، ليستقيم ذلك لهذه النزعة التبشيرية: وَصْف السوء والمباذل والانكفاء القومي ومهادنة العدو والارتماء في أحضانه مما يدعو للتغيير والجهاد. يسترسل الشاعر في تصوير دواخل قصور الأمراء وملوك الطوائف والفساد المنتشر، مثلما يمعن في سرد الأحداث التاريخية، وهذا كله لا يوافي أساليب المسرحية التاريخية والعمل في كتابتها، وأولها الاختيار والإيجاز والدقة والصدق التاريخي، لأن الصدق الفني لا ينفصل عن الصدق التاريخي بحال من الأحوال، وفي مجال الصدق، أوغل الشاعر في «الفانتازيا» خروجاً عن الإطار التاريخي نحو تكثيف رؤيته وتركيزها تمنياً للقضاء على ملوك الطوائف متجاهلاً المسافة التاريخية بين زيارة ابن تاشفين الأولى، وما تلا زيارته الثالثة. ونذكر أيضاً في مجال الصدق، انحياز الشاعر التام إلى يوسف بن تاشفين، وغمط الآخرين بعض حقهم، وربما كان ذلك إيماناً منه بدور القائد العظيم، ولكن الكتابة في مسرحية تاريخية تعني الصدق ورؤية الحقيقة وتوجيهها من خلال الوقائع.

 

-4-

لنا أن نحتفي بمسرحيات خالد البرادعي، على الرغم من بعض الملاحظات، فهو كاتب ملتزم وشاعر قومي يشيع الأمل والثقة بالمستقبل في كتاباته، مما نحن بأمس الحاجة إليه.

[مجلة «جيش الشعب» (دمشق) 1988]

 

 

13

«ابتسم أنت لبناني»:

هل انتهت الحرب؟

خاض يحيى جابر تجربته الأولى في التأليف والاخراج المسرحي على مسرح المركز الثقافي الروسي ببيروت مطلع العام 1995 في مسرحية اقرب إلى الصوت المتوحد الذي يعتمل بمأساة شعب جعل منه جماعة مغمورة تشير في الوقت نفسه إلى ازمة شاملة لوطن طحنته الحرب، وأثار في هذا الصوت ترجيعاً مأساوياً لجذور العنف والقهر اللذين طبعا حياة اللبنانيين خلال أكثر من قرن من الزمن.

 

كان هذا الصوت هو صوت يحيى جابر الجريء واللاذع والساخر داخل حنين متدفق إلى وجود متكدر تتناهبه مرارات ملء القلب وملء الحلق مجرى النفس، فصار شعره ولاسيما مجموعته «خذ الكتاب بقوة» (1994) حرقة روح تتلظى بمكابدة لاهبة، ثم صاغ في كتابه «نجوم الظهر استسلم ولا أصالح» (1995) نصوصاً جارحة كالسكاكين هي من أكثر التعبيرات سخرية وجرأة في وصف واقع الحال العربي في الكتابة العربية خلال العقدين الأخيرين. من يرى إلى المهزلة؟ إنها رؤية كابوسية مروعة، ألم يقل في كتابه الأخير على لسان الجوقة/ «تنام فيأتيك الكابوس، تفيق فيأتيك الكابوس، لذا لا تفق ولا تنم، لأنه كابوس ملبوس» (ص68).

 

وعندما نشر يحيى جابر مسرحيته « ابتسم.. أنت لبناني» في «الناقد» (العدد 75 - أيلول 1994) كان واضحاً أن ذلك الصوت المتوحد قد وسع تعبيره من إطار غنائي ذاتي للاحاطة بحركة التاريخ ولاسيما وطأة الخيبة الوطنية والقومية على هذا الوجدان المتأسي والملتاع، وهذا هو الفرق بين كتابه «نجوم الظهر» ومسرحيته «ابتسم فأنت لبناني»، بل إنه ليس فرقاً، إنه توسيع لمدى التعبير ومقاربة أعمق للشواغل الوجدانية في لبوس تاريخي أكثر صراحة وأكثر قسوة، فهو اندغام في الشجن المقهور والقاهر، وربما كانت انطلاقة المسرحية من نص إحدى النجوم المسمى «ايها اللبنانيون». ولنلاحظ صيغة النداء في هذا النص وفي هذا النص وفي المسرحية، ولنلاحظ أيضاً ذلك النزوع إلى المسرحية حين صدّر نصه بعبارة تقول: «جميع الشخصيات الواردة في هذا النص هم اناس حقيقيون ولا يمتون إلى الخيال بصلة» يقول في هذا النص يحيى جابر في نص أصغر فيع عنوانه «حرب»:

«لم تنته الحرب

مازلت أنام بثيابي

أنام بأذن مفتوحة

مخافة قصف مفاجئ

لم تنته الحرب

مازلت كلما جادلني أحدهم

أرفع صوتي

اتحسس خاصرتي عن مسدسي مفقود» (ص120).

 

تجري أحداث المسرحية من هذه الانطلاقة، من الحرب، وتبدأ بأغنيات وموسيقى لأغان وطنية عن لبنان وبيروت قبل الحرب. وقد انتهت الحرب، بينما السؤال الذي تريد المسرحية أن تجيب عليه: هل انتهت الحرب فعلاً؟

اختار يحيى جابر لإطروحته النقدية ولشجنه المروع الطويل موضوعة طالما اعتمد عليه السرد الروائي والقصصي عن الحرب اللبنانية هو علاقة مسلم بمسيحية، وعنده المسلم صحفي والمسيحية مترجمة، أما الشخصيات والتفاصيل الأخرى فلا تتجاوز رموزاً وترميزاً لما يسعف الرجل والمرأة على إظهار السيرة اللبنانية بعد الحرب، وهي سيرة ناقصة وملتبسة ومهشمة. هناك ملحم صاحب بناية الشقق المفروشة والسمسار أبو خالد البيروتي الذي يعمل سمساراً على جميع الأراضي اللبنانية والمزور صاحب مكتب السفريات الذي يزيّف تأشيرات السفر وفاروق الحزبي السابق الذي يعمل الآن في مجال العلاقات العاامة وكل شيء لديه قابل للبيع والشراء وكذا البشر، وسكرتيرة تعمل لدى رئيس حكومة.

 

تبدأ المسرحية من احتفال الزوجين عبدالله وروز بالذكرى الخامسة لزواجهما غير أن الاحتفال سرعان ما يتحول إلى تفتيق للوجع اللبناني وإلى استجلاء للقهر اللبناني الطويل. فتمضي المسرحية في تشريح الواقع بانفتاحه عن التجربة التاريخية المشحونة بالعذاب وأوهام الاستقلال والحرية والتقدم، وخلل ذلك كله تشريح لمّاح شديد القسوة وشديد الذكاء غالباً لما يؤدي إلى هذا العذاب، ثمة تشريح للطائفية وللنخب السياسية الحاكمة وللتنظيمات الحزبية ولدخول الطفيلية المنتعشة في مناخ الحرب السائد قبل الحرب وأثناءها وبعدها، وثمة نقد يصل إلى حد المباشرة للإيديولوجيات والنظام الدولي والإقليمي والعربي واللبناني، ومن هذا الباب تصبح المسرحية أدخل في نوع «الكباريه السياسي»، انتشر هذا النوع في المسرح العربي إثر هزيمة حزيران 1967 في مسرح الشوك في سورية، ومسرح القهوة في مصر، وما ماثلها من مسارح أولعت بالانتقاد السياسي وكسر الحائط الرابع وملاحقة أشكال الفساد السياسي والاجتماعي.

 

يبدو موضوع المسرحية وهو الحب والزواج بين المسلم والمسيحية اختباراً لمثل هذا النقد السياسي، غير أن يحيى جابر جاوز مبناه الرمزي الذي اعتقد أنه الأهم في المسرحية إلى الحكم الباتر على علاقة الزواج بالطلاق، فهل هو خيار سياسي أيضاً؟ هل صحيح أن التعايش محكوم عليه بالموت؟ ربما كانت معالجة أخرى لختام هذه العلاقة وهذه المسرحية أفضل للخيارات الفكرية والفنية معاً فقد انتهت المسرحية أو العلاقة، لا فرق، إلى رؤية سوداء اتصفت بها أعمال كثيرة تنتمي إلى ما نسميه في النقد بظلام الظهيرة، ومثل هذه الأعمال تعلن يأسها المطبق من أي أمل متاح، وقد قيلت مثل هذه الرؤى إزاء النظم الشمولية والديكتاتورية على سبيل المثال، ثم بينت حركة التاريخ فيما بعد بتأثير المتغيرات، والتاريخ متغير دائماً، إن النظم الشمولية والديكتاتورية لا تستمر.

 

تحفل المسرحية بمثل هذا النقد للحكم وطبيعته وتكوينه ومؤثراته الداخلية والخارجية في مشهد ينقله صوت السكرتيرة، وفي مشهد آخر يعري الدخول الطفيلية من المتاجرين بالأراضي والبشر، بينما يظل صوت الأسى والشجن هو السائد وفي مشهد ثالث يصب نقمته على غورباتشوف والأحزاب التي انقرضت أو انفرطت أو هي في سبيلها لذلك السبيل.

 

اختار يحيى جابر مخرجاً للمسرحية الاعتماد على طوابع المسرح الفقير وطاقة الممثل وحقق الكثير في إنجاح مسرح شعبي يستمد عناصره الأكثر تأثيراً من الحياة اليومية ولا يقف عنده حدود تصويرها بل يعرض تناقضاتها ولا يتخلى عن العمق الذاتي والرؤية التاريخية، فابتعد عن الإسفاف والإقذاع اللفظي مثمراً المشهدية سخرية لا تضحي بجمالية العرض، ولم ينزلق إلى إغراءات ممثل شعبي هو أحمد الزين عرف بمقدرته الاتجالية وحضوره المدهش. والحق أن أحمد الزين في هذا العرض متألق ولربما كان تألقه نتاج هذا الضبط في الأداء الذي أسهم إسهاماً واضحاً في تقديم عرض مثير للتفكير وممتع في الوقت نفسه.

[جريدة «الأسبوع الأدبي» (دمشق) 1994]

 

 

 

القسم الثاني: في البحث المسرحي

1

شهادة مسرحي:

ملاحظات شخصية حول قضايا هامة

علي عقلة عرسان مسرحي عربي كبير، تأليفاً وإخراجاً وإدارة للمسرح، فهو كتب عدداً من المسرحيات الهامة منذ أواخر الستينات، ولا سيما «السجين رقم 95» (1974)، و«الغرباء» (1974)، و«رضا قيصر» (1975)، و«عراضة الخصوم» (1976)، و«الأقنعة» (1976) و«تحولات عازف الناي» (1996)، وهو كتب في البحث والنقد المسرحيين مجلدين كبيرين في عناية فائقة بالتراث العالمي المسرحي في «سياسة في المسرح» (1978) وبالتراث المسرحي العربي في «الظواهر المسرحية عند العرب» (1981)، وهو أخرج عشرات المسرحيات العربية والعالمية من تأليفه وتأليف سواه، ومنها مسرحيات لسوفوكليس وشكسبير وفيجويردو ودورينمات ومصطفى الحلاج وجان أنوي، وهو ترأس مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة والإرشاد القومي في سورية خلال عقد السبعينات حتى تسلمه عام 1976 معاوناً لوزير الثقافة; وهو قبل ذلك وأثناءه وبعده، كان نقيباً للفنانين، ورئيساً لاتحاد الكتاب العرب في سورية، وأميناً عاماً للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.

 

ولعلي عقلة عرسان إسهام ملحوظ في كتابة أجناس أدبية أخرى مثل المقالة، وله فيها «آراء ومواقف» (جزءان 89 ـ 1990)، و«مشكلات في الثقافة العربية» (1989)، و«دراسات في الثقافة العربية» (1988)، و«المثقف العربي والمتغيرات» (1994)، ومثل الشعر، وله فيه «شاطيءالغربة» (1986)، و«تراتيل الغربة» (1993)، ومثل الرواية، وله فيها «صخرة الجولان» (1982).

 

وكان آخر نتاجه كتابه «وقفات مع المسرح العربي» (1996)، وقد جمع فيه بعض أبحاثه ومقالاته، مما كتب في فترات زمنية متباعدة، حول مشكلات أو موضوعات أو أعلام في المسرح العربي; وتشير هذه الأبحاث والمقالات إلى شغله النقدي والعلمي الذي عرف به من خلال مجلديه الكبيرين اللذين ألمحنا إليها في صدر هذه المقالة، مثلما تفصح عن طابع الشهادة، لأنها جميعها تصدر عن معايشة مسرحي بالدرجة الأولى; ولا سيما مقالة عن «قصة مهرجان دمشق للفنون المسرحية» أو بحوثه عن «المسرح في أدب صدقي اسماعيل» و«المسرح في سورية ماله وما عليه».

 

ضم الكتاب، عدا ذلك، الأبحاث والمقالات التالية:

ـ مارون نقاش، وفيه تقويم نقدي لمسرحياته «البخيل» و«أبو الحسن المغفل وهارون الرشيد» و«الحسود السليط».

ـ أبو خليل القباني، وفيه تقويم نقدي لمسرحياته «ناكر الجميل» و«قوت القلوب وغانم بن أيوب» و«هارون الرشيد مع أنيس الجليس» و«عنتر بن شداد» و«عفيفة» و«ثياب الغرام أو الملك متريدات» و«حيل النساء: لوسيا» و«الأمير محمود نجل شاه العجم».

ـ الفصحى والعامية ولغة الحوار المسرحي، وهو بحث ألقي في مهرجان الجنادرية عام 1990.

ـ المسرح العربي بين الأصالة والتأصيل، وهو استكمال للقول والبحث في كتابه «الظواهر المسرحية عند العرب».

يروي عرسان قصة مهرجان دمشق للفنون المسرحية بعد سنوات من انعقاد دورته الأولى. ومن المعروف أن مهرجان دمشق من أهم المهرجانات المسرحية العربيةحتى حرب الخليج الثانية، فقد تعثر المهرجان مع تردي العمل العربي المشترك في المجالات كافة، ومنها الثقافية. ولعل في عرض قصته من قبل أحد صنّاعه مثالاً للمصادفة والعشوائية والتخبط والمزاجية في التظاهرات الثقافية العربية، فهذا هو عرسان يعترف أن المصادفة وحدها قادت إلى إقامة المهرجان عام 1969، حين أرسلت مديرية المسارح والموسيقى إلى نقابة الفنانين في سورية كتاباً تضع بموجبه مسرح الحمراء ومسرح القباني تحت تصرف النقابة للقيام بنشاط مسرحي، بعد أن أنهى المسرح القومي موسمه، وسافر في جولة إلى المحافظات السورية، ولم يكن لديها ما تملأ به الفراغ الناشيء عن غيابه، وكان الدافع لهذا «إشغال مسرحي الدولة، وتلبية طلب بعض الفنانين النقابيين بتقديم عروض على صالتي المسرحين الرسميين، ووجدت النقابة نفسها أمام واقع معين، وهو وجود صالتين تحت تصرفها لمدة شهر، وعليها أن تملأ هاتين الصالتين، أو تبقيهما فارغتين، وبذلك يذهب إدعاؤها، وادعاء عناصر من أعضائها بأن الدولة لا تقدم لهم المسارح هباء. كان السيد عرسان آنذاك نقيباً للفنانين، ولكن بعد أشهر تسلم مسؤولية المدير العام للمسارح والموسيقى، فحاول أن ينظم المهرجان، لأن صورة المهرجان وأهدافه ومحتواه وأنشطته الموازية وطبيعة المشاركة فيه لم تكن واضحة.

 

لقد عقد المهرجان الأول دون أن يلفت نظر أحد، ثم تولته مديرية المسارح والموسيقى والإشراف عليه في دورته الثانية، وبدأت المتاعب وخلق المشكلات لتعطيله، فكانت مواقف سلبية من جهات وأشخاص ظلت ترافق المهرجان حتى دورته الأخيرة، وظلت صورته شائهة على الرغم من محاولات تصحيح مساره من دورة لآخرى، فهو يفتقر للتقاليد، أو هو لم يرسخ تقاليده، فقد رفعت مديرية المسارح والموسيقى تقريراً لوزير الثقافة بع نهاية المهرجان الثاني بتاريخ 15/8/1970، تضمن النقاط السلبية والإيجابية وطرق معاجتها، وأورد الملاحظات التالية:

 توفير الزمن الكافي، إذ يجب البدء بالاستعداد للمهرجان القادم في وقت مبكر جداً، وذلك ليتسنى للفرق الفنية العربية الشقيقة الاستعداد الكافي في المهرجان ووضعه في حسابها، حتى لا ترتبط بأي عمل آخر خلال الفترة المقررة له.

تأمين المتطلبات المادية، وذلك بتخصيص الاعتمادات المالية اللازمة للمهرجان مع بداية العام.

العناية بالجانب التنظيمي، وذكر التقرير مجموعة إجراءات ينبغي الأخذ بها...إلخ.

وعلى هذا النحو، يمضي عرسان في المصارحة والنقد مدعماً أقواله بالمعلومات والوثائق، ولا تخلو هذه الأقوال من المرارة والألم التي ترشح به كلماته المباشرة الموجعة عن الواقع الثقافي العربي.

 

ولا تختلف مقالته عن «المسرح العربي في سورية: ماله وما عليه» عن قصة مهرجان دمشق، وهي بالأصل محاضرة ألقيت بدعوة من النادي العربي في لندن عام 1992، فقد توشحت كتابة عرسان بنبرة شخصية تندغم في شهادته عن المسرح العربي الحديث في نهوضه المتعثر لأسباب كثيرة موضوعية تتصل بالنهضة الثقافية العربية، وبعوامل ذاتية تتصل بالمسرح والمسرحيين. وتبدو النبرة الشخصية في تشخيصه للتطورات المسرحية، وأحكامه عليها، ما ذكره عن حرية التعبير التي زعم بعض المسرحيين أنهم يفتقرون إليها في الواقع الثقافي، فليس ـ على حد تعبير عرسان ـ ما يعبر عنه الكاتب والفنان في مسرح محكوم إدارياً، ومالياً وتجيهياً، بمناخ الحريات العامة والممارسات الديمقراطية المنقوصة، وبمفاهيم حرية التغبير في بلدان العالم النامي، ولا سيما في الوطن العربي، هو بالضرورة أن يكون ذلك هو أفق إبداعه، وإنما هو الممكن الذي رشح إلى الساحة الجماهيرية والثقافية، مما استطاع هو تمريره، أو مما سمح له بتوصيله، فهناك حالات كثيرة كانت فيها الرقابة معوقاً للإبداع، وهناك حالات كثيرة أيضاً استطاعت فيها المخافر الداخلية التي أقيمت متاريسها في عقول المبدعين وقلوبهم وضمائرهم، أن تعوق الإبداع أو تشوهه.

 

وربما لم نلتفت بالقدر الكافي إلى حالات من تشوه الإبداع، وتشوه الأحكام عليه، وبالتالي تعويفه وإفساد مناخه، فرضها التحزب والتعصب الأعميان، أو التبعية المطلقة لايديولوجيا تطلب من أتباعها أن يكونوا أبواقاً أو شراحاً أو مفسرين ومروجين فقط لما قيل واكتمل، حسب أعرافهم، وحمل العصموية ومفاتيحها أيضاً، وهي بذلك لا تلغي قدراتهم على الإبداع والتعبير الحرّ، وممارسة الحرية لديهم فقط، وإنما تشوه قدرتهم على التفكير والرؤية وإنضاج المعاناة في عمل يصل إلى الناس، ويؤثر فيهم إيجابياً، بعيداً عما يرافقه من دعاوة ذات مخالب. ولا شك، أن مثل هذا التشخيص ومثل هذه الأحكام عن المسرح والمسرحيين في سورية، لا ينضوي بيسر في إطار بحث أو مقالة عن المسرح; لأنها خواطر واستطرادات شخصية عن ضغوط التجربة المسرحية التي عايشها عرسان في سورية; ونظرته إلى ممارسات بعينها لمسرحيين، وهي ممارسات لا يرضى عنها إطلاقاً.

 

ويعبر بحثه عن «الفصحى والعامية ولغة الحوار المسرحي» عن معالجته لهذه القضية الهامة، فكرياً وفنياً، من واقع تجربته المسرحية أيضاً، وإن خلت النبرة الشخصية منه لصالح الجدال والأقناع، فقد حمل البحث دفاعاً مجيداً عن اللغة العربية ومقدرتها على التطور، وحمل الرؤى الفنية والتعبيرية الجديدة. واستغرق في العرض التاريخي لمحاولات التقليل من شأن هذه اللغة وصلاحيتها لعلوم العصر وآدابه وفنونه، ووجد عرسان أن منطلق هذه المحاولات هو الاستعمار والمستشرقون والمغتربون الذين أرادوا إحداث الشرخ الثقافي في جسم الأمة العربية، وتحويل لغة القرآن الكريم والثقافة العربية كلها، وكل ما تحمل إلى لغة  متحفية ومقبرة للمعلومات وللتراث العربي الإسلامي كله. وعززوا نهجهم ذاك بشكل مستمر، وبكل الوسائل. ورصد بعناية حجج أنصار الفصحى وآراءهم، وكذلك فعل مع أنصار العامية، وانتقل إلى المسرح وطبيعته ولغته، وركز على موضوع لغة الحوار في المسرح العربي بين الفصحى والعامية مستنداً قي إيجاز للجانب التاريخي من الموضوع إلى ما سبق، وأوضحه من خلفيات وملابسات واجتهادات وآراء في موضوع الفصحى والعامية ضمن الإطار الثقافي العام، ومستفيداً منه، إلى الحجج  والذرائع في إجمال القضية وشمولها، فعرض لتاريخ لغة الحوار في المسرح العربي، ووجد أن الرواد في بلاد الشام قد اعتمدوا الفصحى لغة للحوار المسرحي.

 

أما في مصر فقد لجأوا إلى العامية، بينما اختار بعضهم المزج بين الفصحى والعامية أو اقتراح لغة وسيطة بينهما، وأورد حجج الذين يعتمدون الفصحى لغة في الحوار المسرحي في بنود واضحة مفصلة، فالمسرح أدب عماده الكلمة المجنحة، والفن والأدب جزء من المعطى والمتصل بها تفكيراً وتعبيراً وانتماء واهتماماً، والعامية لا قواعد ولا معايير ولا أصول ولا ثوابت لها، وكلها متغيرات على غير أساس أو معيار، وهي تتغير من قطر إلى قطر، ومن حي إلى حي، ومن قرن إلى قرن. واللغة العربية الفصحى واسعة ومرنته، ومفرداتها مبثوثة في أكثر من خمسة وتسعين بالمائة من مفردات الدارجة، والعامية تراكيب غير سليمة، وعدم إعراب، وحشو لبعض مفردات غير عربية محلية، أو لكلمات أنتجها خطأ السماع أو الإبدال أو اللسان واعوجاجه عند بعض الأشخاص، ونمّاها الجهل وعدم التدقيق.. إلخ.

وختم عرسان بحثه بإظهار ميله إلى الفصحى، فنحن ننشد السلامة التامة في المكتوب من لغة الحوار، ونريد أن نربي ملكة السمع على الفصحى سليمة في المسرح في بيان ينمي الذوق ويوصل المعنى، ولنعمل قولاً سديداً لابن خلدون الذي قال: «السمع أبو الملكات اللسانية»، وليصبح المسرح داراً للتربية أيضاً.

 

ومن الواضح، أن بحث عرسان مكتوب بهدي تجربته في التأليف المسرحي وإخراجه، فهو التزم الفصحى وتبناها مديراً للمؤسسة المسرحية في سورية قرابة عقد من الزمن، ودعّم أراءه بلغة المنطق والإقناع.

 

وكنت حضرت إلقاء البحث لأول مرة في الجنادية، وكانت المناقشات حوله حادة، وشارك فيها عدد من المعقبين والمتدخلين، أمثال علي جعفر العلاق ومحمد بن سعد بن حسين.وقد بينت في رأيي آنذاك الموافق لرأي عرسان في اختيار الفصحى لغة للحوار المسرحي والتزامها لسبب رئيس، أوردته تعقيباً على البحث، وهو أن الأطروحات التي تدافع عن العامية باسم الواقعية، تتجاهل أن الواقعية الفنية لا تعني النقل الحر للواقع، لأن للغة المسرح مستويات تعبيرية وإيصالية ومجازية، تختلف عن لغة الناس في الحياة اليومية، والفن كله لا يتقل لغة واقعية مباشرة، وإلا خرج عن طبيعته.

 

هل عرفنا بكتاب علي عقلة عرسان الجديد «وقفات مع المسرح العربي»؟ إن ما عرضناه من بحوثه ومقالاته يشير إلى القيمة الفكرية والفنية لهذا الكتاب ـ الشهادة من مسرحي عربي كبير، وقد كانت شهادته حارة عميقة، عالجت من منظورات تاريخية وشخصية بعض أهم قضايا المسرح العربي مثل العامية والفصحى في لغة الحوار، والتأصيل والأصالة، ومهرجان دمشق للفنون المسرحية، مثلما قدمت تقييماً جديداً لرواد المسرح العربي أمثال مارون النقاش وأبي خليل القباني.

وتكشف الأبحاث والمقالات عن خبرة نظرية وعملية لا تخفى، ولعل هذه الشهادة تثري معرفتنا بالمسرح العربي، وتسهم في مجاوزة عثراته الكثيرة في العقد الأخير.

[جريدة «البيان» (دبي) 1996]

 

2

عدنان بن ذريل باحثاً وناقداً مسرحياً

عدنان بن ذريل ناقد وباحث متعدد الاهتمامات والعناية بالأجناس الأدبية وبالفنون مثل المسرح والرقص والموسيقى والفنون الشعبية، وقد توّجها بكتابته الفكرية والفلسفية الغزيرة التي ميّزت نقده وبحثه في الآداب والفنون أيضاً.

 

1ـ إطار التجربة النقدية:

لعلنا ننظر في مكانة المسرح في نقد عدنان بن ذريل من خلال مناقشة كتابه النقدي الأخير «النص والأسلوبية بين النظرية والتطبيق» (2000)، وهو كتاب جديد( ) لشيخ النقاد في سورية يتابع فيه مشروعه النقدي الألسني الذي بدأه رائداً ومجدداً في الثمانينيات من خلال كتبه: «اللغة والأسلوب» (1980م) و«اللغة والدلالة» (1981م) و«اللغة والبلاغة» (1983م) و«النقد والأسلوبية بين النظرية والتطبيق» (1989م).

 

لقد اتجه النقد الأدبي العربي الحيدث منذ مطلع السبعينيات، على استحياء، إلى المناهج الحديثة الغربية كالشكلانية والبنيوية واللغويات وما خالطها من اتجاهات فيما بعد كالأسلوبية واللسانية والعلاماتية والتفكيكية والألسنية، غير أن ابن ذريل، وهو أحد رواد النقد الأدبي منذ الأربعينات دعا إلى التجديد باكراً، وقد كانت له صولات وجولات في التعريف بالرمزية والمنهج النفسي والتاريخي، وتشهد على ذلك مقالاته الكثيرة المثبوتة في الدوريات، وكتابه عن «عبد السلام العجيلي: دراسة وصفية نفسية» (1970م).

وقد اختار الألسنية وما يجاورها من اتجاهات حداثية في السبعينيات فكتب فيها نظرياً وتطبيقياً، ولعل كتابه «مسرح علي عقلة عرسان» (1980م) الجهد الأكبر الملحوظ في سياق تجربته النقدية التي صارت إلى إحاطة أوسع وأشمل وأعمق بهذا الخيار الفكري والنقدي، فقد شكل ابن ذريل على مدار أربعة عقود من الزمن صوتاً نقدياً منفرداً خارج سرب النقد الأدبي الحديث في سورية الذي جرفته الصراعات الأيديولوجية والتبشيرية.

 

ابتعد ابن ذريل عن الجماعات الثقافية والنقدية ولاسيما المتحزبة أو المؤدلجة منها، وحافظ على دور متوازن بين الصحافة والأدب، ونأى عن زج نفسه وقلمه في المعارك النقدية معتقداً أن من الأفضل له وللحركة الأدبية الناهضة في سورية أن يكتب نقداً ضمن مساره الخاص الذي شقّه شاباً، وأعني به تعريب النقد الأدبي الغربي الحديث وتأصيله في حركة الثقافة العربية المعاصرة. ومن الواضح أن شغله النقدي اعتمد على الدوام على مثل هذا التعريب، وليس مجرد الترجمة أو النقل مستنداً إلى خلفية متينة من درس التراث النقدي الغربي، ولاسيما البلاغي الذي سيطوره لتمثل إنجازات الحداثة النقدية التي دعا إليها مغلِّباً الاتجاه الألسني مع ميل بنيوي وشكلاني واضح، وقد كان الاختيار واضحاً تقوى مع استغراقه في نقد السرديات، وهو ميدان تضاعفت أهميته الراهنة بتتويج فنون النثر القصصي على بقية الأجناس الأدبية بوصفها اكثر استجابة للعصر، ويتضح ذلك بجلاء في هذا الكتاب «النص والأسلوبية بين النظرية والتطبيق»، ربما بتأثير انصراف النقد الشكلاني والبنيوي إلى السرديات بالدرجة الأولى، وربما أيضاً بتأثير تعقيد السرديات قياساً على الأدب الغنائي أو الوجداني أو الذاتي حيث فنون النثر تلازم تعدد الحوار وتنوع الكلام وموضوعية الخطاب، وسنلاحظ انصراف القسم النظري في هذا الكتاب إلى تحليل السرد والنص السردي: لغته، أسلوبيته ملاشاته اللغوية، قراءة تحليله، بلاغته وإبلاغيته، منظوره السردي، نجواه وحواريته، إلخ، أما التطبيق فلم يحظ فيه الشعر إلا بفصلين من أصل أحد عشر فصلاً، أحدهما للقصة وثانيهما للمسرحية، بينما كان هناك سبعة فصول للرواية.

 

أراد عدنان ذريل من كتابه أن يعرف بطرائق المنهجية الألسنية في النقد الأدبي والأسلوبية، مركزاً من جهة على النص وخصوصيته، ومن جهة ثانية على الأسلوب وتفرده، فالنص والمجال الحقيقي الذي تنعكس فيه الملامح الأسلوبية للكاتب المنشيء، كما أن الأسلوب هو الألق الشخصي لفرادة هذا الكاتب المنشيء، فخصص ناقدنا الفصل الأول لتعريف النص وفق مأثور النقد الفرنسي الجديد، وأعلامه البارزين كتودوروف وبارت وكريستييفا، موافقاً على أن النص هو لغته، لأن"تحولات اللغة الأدبية تمثل الممارسة الجدلية للذات داخل اللغة، وأن التاريخ هو مجموعة نصوص أكثر منه تاريخية دون لغة.

 

وانطلق ناقدنا في الفصل الثاني «الأدبية والنص» من مأثور الشكلانيين الروس، ولاسيما شكلوفسكي على أن الأدبية (أي الخصائص التي تجعل من الأدب أدباً) هي محك النص ومحل دراسته، غير أن الشكلانية أو التعمق في بحث الخصائص الشكلية لا يكون بمعزل عن واقعه، وهذا ما جعله يخوض في الفصل الثالث في «البيئة الأدبية والأسلوبيات» منطلقاً من مفهوم العلامة عند دي سوسور، إلى البنية الوظيفية عند مدرسة براغ، إلى الأسلوبيات والأسلوب كزخرفة أو كدلالة ذاتية، أو كتمثيل، أو كنمط، لأن عمل المحلل الألسني كما يكتب، يقتصر على «ربط النص» باللغة التي كتب بها، وبذلك تصبح «الأسلوبيات» دراسة مقارنة لأنماط التفصيلات التي يظهرها الكاتب في اختياره للغته، ضمن المصادر اللغوية التي في متناوله، أو بعبارة أخرى، تدرس الأسلوبيات تواترات الاختيار النسبية التي تميز لغة النص عن لغة غيره، أي هي، بتعبير هاليدي، تطبيق للألسنية أكثر منها توسيع لها.

 

ثم درس ناقدنا في الفصل الرابع «ظاهرة الأسلوب ما هي؟» متتبعاً تعاريفه وما يثيره من قضايا تتعلق بالممارسة العملية ومجال الدلالات، فالممارسة العملية هي الفعالية منظوراً إليها في سياقها الحركي، وعلى الخصوص في الظروف الاجتماعية التي تعطيها «دلالتها» في عالم معاش فعلاً. وهكذا توقف ملياً عند تعددية «الشيفرة» والسنن العلامات لأهميتها في فهم ظاهرة الأسلوب وتنظيمه للخطاب أو الرسالة، مميزاً بين البلاغة والأسلوب، ثم انتقل إلى تصنيف الأساليب عند بيير جيرو بالنسبة إلى طبيعة التعبير أو مصادره أو مظهره. ومن الواضح أن ناقدنا يوافق على التصنيف، مما يثير أسئلة كثيرة حول استحكام ظاهرة الأسلوب للعلائق اللغوية أو البلاغية وحدها، ويجعل من البعد الدلالي في شبكة علاقات النص أمراً عصياً على تمثلها، وهو ما تتعمقه علاقات الأبنية التركيبية  أو علاقات الأبنية الدلالية. وعلى وجه الخصوص، حيث ينهض النص إلى أبعد من مستويات تركيبه اللغوي والبلاغي إلى تعدد قابليات تأويله أو انفتاحه على مرجعياته ومفرداته الغائبة.

 

ولعل هذا التركيز على المكون اللغوي أو البلاغي هو الذي قاده إلى تخصيص الفصل الخامس لبحث «البلاغة الجديدة» من خلال تنظير بيريلمان للتوكيد على الفعالية الدلالية، فلا تعود العلامات اللغوية تمثل الأشياء بقدر ما هي تتحول نفسها إلى «أشياء»، فتحتل مكاناً في سلم القيم، كما تسهم في الشعائر، وبينما نجد «اللغة» في المجتمعات الديمقراطية ملكاً لكل الناس، وتتطور بحرية تامة، نجد أن اللغة في المجتمعات المتراتبة يتم تجميدها، بحيث تكتسب طابعاً شعائرياً ومقدساً.

 

ويفرد الفصل السادس لأسلوبية الرواية للإجابة عن أسئلة الأدبية إزاء الواقع كما عالجها باختين طلباً لما تعكسه من علاقات اجتماعية وتاريخية هي شيء مما يعيشه الأبطال من تبانيات ومجاوزة الشكلانية إلى فنية ما وراء الألسنية، حبث امتدادات القول الاجتماعية، وما ترتبها من مفاهيم نقدية مثل «تعددية الاصوات» و«تصادم الأديولوجيات» وغيرها.ويفيد ذلك أن باختين يتجاوز الشكلانية منذ كتابه عن «ديستويفسكي» المسمى«معضلات شعرية ديستويفسكي» (1929) متخطياً فنية الشكلانية الساكنة، أي اللغوية القديمة، فالرواية لا تتجه إلى جلاء وعي المؤلف في عالم وحيد فحسب، وإنما تكشف عن أنواع الوعي الأخرى للأبطال، واحداً، واحداً، بشتى عوالمهم، وهم يندمجون في وحدة حدث معين.

 

وهذا يعني أن البطل لم يعد مجرد موضوع يخص وعي المؤلف، بل هو وعي آخر، وأحياناً غريب، بما يفيد أن المؤلف هو الفاعل للكلام الفردي، أما النص أي الرواية فلم تعد انعكاساً لأيديولوجية وعي المؤلف، وإنما أصبح تصادماً لأيديولوجيات متنوعة،ذلك أن الفكرة في نظر باختين، حدث يجري حتى نقطة التلاقي التي هي الحوارية، إلا أن التفكير الإنساني  لا يتحول إلى فكرة دون الاحتكاك الحي مع فكرة أخرى تتجسد في الآخر، وأيضاً أصوات الآخرين. والكلمة نفسها، أي القول الروائي، تسمح بذلك، لأنها تتكشف عن أنها مأخوذة من عدة أصوات، أو تأتي في تصالب عدة ثقافات، إلا أنها، كما يقول باختين، تكون في الأساس أيضاً كتابة بيضاء تهرب من جميع السماكات للعوالم، أو التي للدلالات الحافة، فتعيد للنظام اللغوي حريته وفنيته.

 

وفي مثل هذا الشرح يمضي ناقدنا في التعامل مع الحامل الأيديولوجي للنص بما هو تحقق لغوي في السرد بالدرجة الأولى، مبيناً تطور فكرة الحوارية من الشكلانيين إلى إنجاز باختين مستنداً إليهم، حيث البذرة كانت موجودة عندهم، وتقوم على فهم خاص لانعكاس الواقع في الأدب، ويتوقف ناقدنا على عجل عند بعض من عالجوا ذلك التطور مثل فولوسينوف ومدفيدييف على أن الأدب يمثل الأيديولوجية في نظرهم، وهو شكل متميز لتجسد التفاعل الاجتماعي.

 

وقد تتبع ناقدنا قضايا أسلوبية الرواية بالنظر إلى بعدها الأيديولوجي المجرد، أو بعدها الأيديولوجي الدعائي والتبشيري فقط كما في كتاب باختين التالي «الكلمة في الرواية» (1941م) للإفصاح عن الأصالة الأسلوبية في الرواية والخصائص المميزة للرواية والنجوى والحوار فيها، ممهداً بذلك للتفصيل في أساس نظريته لفهم الرواية في خطين أسلوبيين، الأول خصيصته أحادية اللغة، والثاني الذي يدرج التنوع الكلامي في صلب الرواية موزعاً توزيعاً أوركسترالياً، ومتخلياً في كثير من الأحيان، عن «كلمة» المؤلف المباشرة، وإليه ينتمي أعظم ممثلي النوع الروائي في أوروبا الحديثة.

 

ثم يشرح ناقدنا في هذا الإطار أنماط التحليل الأسلوبي والأسلوبية السوسولوجية مدخلاً لدرس «النص السردي وطرائق تحليله» وهو موضوع الفصل السابع، وفيه يمعن ناقدنا النظر  والقول في العنصر اللغوي في التحليل البنيوي معالجاً قضايا النص الفردي والقراءة والبويطقيا والنمذجة السردية عند تودورف وباروت وجريماس وجينيت مشيراً إلى بزوغ علم السرد الذي غدا مكرساً مع جهود البنيويين ومن تلاهم، أو حذا حذوهم، أو انطلق من عصر ما بعد البنيوية.

 

ويخصص ناقدنا الفصل الثامن لمصطلح «الملاشاة اللغوية» سواء أكانت تهديماً طبيعياً، تتكشف عنه لغة النص، أو طريقة تحليل لغوي للنص على سبيل التفكيك، ما دامت الملاشاة اللغوية ـ بتعبيره ـ تقوم على جدلية حميمية تكشف عن مركزية الذات، إذ أنها تتحرك في الذات، وبالذات، وضد الذات، أي هي مباشرة ذاتية لإمكانيات اللغة في التعبير، الأمر الذي يعطي الجملة قدرة تعبيرية لتكون «ابتداءاً عاطفياً» أو «ابتداءاً فكرياً»، كما يعطي النص قدرة تعبيرية ليكون مجال «تعددية الأصوات» ومجال «تصادم الأيديولوجيات» بعد ذلك فيبرز ناقدنا طرائق التحليل المختلفة، كما عند جماعة «تل كل»، ويوضح خصوصية مصطلح «الملاشاة اللغوية» كالابتداء وضياع الذات وتخلخل النص وإعادة بنائه والصوت بوصفه ابتداءاً موقفياً، للوصول إلى خلاصة ذات دلالة عن صلة القول السردي بالمؤلف، حين نجد أن المؤلف مبدئياً هو السارد التقليدي للنص، هو صاحبه وصانعه، فيصنع أنواله ويصبغها بصبغة فكره وأيديولوجيته، إلا أن النص يكشف أيضاً عن قائلين غير المؤلف، هم هؤلاء المجادلون لواقعهم، يطمعون إلى تحقيق ذواتهم، فيكونون أصوات مواقفهم في تجربة المسرودية ككل.

ويخصص ناقدنا بقية فصول كتابه للنقد التطبيقي على النحو التالي:

- الفصل التاسع: رواية شكيب الجابري «وداعاً يا أفاميا».

- الفصل العاشر: رواية هاني الراهب «الوباء».

- الفصل الحادي عشر: رواية عبد النبي حجازي «المتألق».

- الفصل الثاني عشر: رواية فاضل السباعي «ثم أزهر الحزن».

- الفصل الثالث عشر: ديوان علي عقلة عرسان «تراتيل الغربة».

- الفصل الرابع عشر: ثلاثة حنا مينه «حكاية بحار».

- الفصل الخامس عشر: روايتا نبيل سليمان «الأشرعة وبنات نعش» (والأصح هما الجزآن الأول والثاني من رباعيته «مدارات الشرق»).

- الفصل السادس عشر: ديوان فؤاد كحل «أزهار القلب».

- الفصل السابع عشر: تجاوز المعيار في روايتين هما «البلاغ رقم9» لمسعود جوني و«الرجل والزنزانة» لوهيب سراي الدين.

- الفصل الثامن عشر: مجموعة مالك صقور القصصية «الجقل».

- الفصل التاسع عشر: مسرحية خالد محيي الدين البرادعي «جزيرة الطيور».

وفي هذه الفصول التطبيقية جميعها يستند ناقدنا إلى إرث النقد الحداثي الذي تقصى بعض جوانبه في فصول كتابه النظرية، فيلتفت في نقده التطبيقي عن أدوات النقد التقليدي الشارح إلى الكشف عن بنيان النصوص وآلياتها الأسلوبية بمزيد من الإيجاز والتكثيف، باذلاً بعض العناية بتاريخية النصوص المدروسة، وموجهاً رأيه النقدي لاستصلاح الاستجابة المتبادلة بين النص وأسلوبيته نحو تبيين القول فيه ومستوياته، وخلل ذلك كله، وفي الأساس، تبيين جماليته، وهو يؤدي ذلك في اتجاهين، الأول: تعريفي ينزع نحو تبسيط المنهج النقدي وتقريب مصطلحه، وقد يدعوه ذلك إلى تكييف المنهج ومصطلحه لطبيعة النصوص العربية لامدروسة، والثاني تقويمي متعاطف غالباً في النصوص المدروسة، ولنأخذ كتابته عن رواية شكيب الجابري «وداعاً يا أفاميا» نموذجاً لنقده التطبيقي. ويقع هذا النقد في أقل من عشر صفحات مبدوءة بنبذة تعرف بمكانة الجابري وروايته في بضعة أسطر، ثم يعلل هذه المكانة بفقرة تحت عنوان «الموجة الأولى» بحدود صفحة واحدة عن الرواية ومرحلتها في التأريخ الأدبي في سورية. أما مدخله لنقد الرواية فكان مصطلح «مونولوجية» كما استعمله باختين، ويقصد به الرواية التي يسيطر عليها صوت المؤلف، وتظل تحت سيطرته، في حين أن روايات ديستويفسكي «بوليفونية»، تعكس تعددية الأصوات، ويظل أبطالها متمايزين عن المؤلف بأصواتهم. ويوضح ناقدنا رأيه بالحديث عن الرواية المدروسة. وفي الفقرة التالية «شاعرية ذاتية» مقاربة أخرى لطبيعة الرواية المدروسة وأسلوبية كاتبها حيث غلبة الملفوظات على السرد، ليكون الترسل الروائي في «وداعاً يا أفاميا» شاعرياً، وعلى الخصوص، متصلاً بذاتية المؤلف وأذواقه، كما ظلت في الحوادث والتحليلات فيها في حدود الرصد القطاعي الرومنطيقي لتجربة شخصية المؤلف، أكثر منها حوادث وتحليلات لمأساة حدثت في ظروف درامية قاهرة أو صعبة.

 

ويعلل ناقدنا في فقرة «لغات» ظهور عدة لغت في الرواية المذكورة مثل اللغة المعلوماتية ولغة الحكواتي واللغة العاطفية، وكيفية وضع هذه اللغات في بنية الرواية السردية، ويفصل القول في اللغة العامية وأساليبها خاتمةً لنقده.

وتثير طريقة الناقد عدنان بن ذريل أسئلة كثيرة أشير إلى أهمها، وهو الموقف من تعريف المناهج النقدية الغربية داخل الصراع بين التبعية والتأصيل، وكأنه لا يقرّ بمثل هذا الصراع معترفاً بمكان رئيس للمثاقفة في الجهود القائمة بتأصيل النقد العربي الحديث، على أن تراث الإنسانية تراث مباشر ومتصل للنقاد العرب المعاصرين، إذ لا جدوى كبيرة من مماحكة شؤون الهوية الثقافية، لأنه، وهو يكتب فصول كتابه النظري، يدرج إسهامات نقد الحداثة الغربية وما بعدها في حركة الثقافة العربية ببساطة، بل إنه يورد تطبيقات جزئية أو إلماحات مقارنة لها من الثقافة العربية والإبداع العربي الحديث أو علم البلاغة العربية، وهذا كثير في متن الفصول وفي الهوامش والإحالات لكل فصل، وهي تطبيقات وإلماحات في غاية الأهمية.

 

ومن الأسئلة أيضاً، تجنب ناقدنا لمسائل انتشار هذه المناهج النقدية الغربية، وتأثيرها في النقد العربي الحديث، كما أنه غير معني بتكون هذه المناهج في بيئتها وفي الثقافة الحديثة، وأذكر على سبيل المثال، أنه تحدث عن باختين مستخدماً إنجازه النقدي دون معالجة الإشكاليات الكثيرة التي رافقته أو تلته، فمن المعروف أن باختين عني باللغة بالدرجة الأولى، وتلمس الإجابة في كتابه المبكر «الماركسية وفلسفة اللغة» (1929م) منطلقاً لمنهجه في نظرية الأدب ولا سيما نظرية الرواية، وأن بحثه في لغة الرواية وأدبيتها أو شعريتها كما شاع عند الكثيرين، لم يجد أجوبته المحددة في بحثه عن ديستويفسكي، مما دعاه إلى العناية «بأشكال الزمان والمكان في الرواية» (1938م) أي حركة التاريخ. أما ناقدنا فقد تجنب هذه الإشكاليات على أن نظرية باختين ناجزة وقابلة للتطبيق، ولا فائدة من المماحكة.

 

وثمة سؤال آخر هام حول تعريب المصطلح النقدي، فعلى الرغم من جهود ناقدنا الشيخ عدنان بن ذريل في هذا المجال، فإنه غالباً ما يورد المصطلحات بلفظها الأجنبي، وهذا أمر يحتاج إلى رأي وتفسير، لأنه لا يستقيم مع جهوده الريادية الكبيرة التي أشرنا إليها، وهي واضحة في كتبه النقدية المتعددة ومنها مجموعة كتبه في مجال اللسانيات، وكنا أشرنا إليها من قبل، ومجموعة كتبه في علم الجمال والمسرحية والموسيقى والفنون الشعبية، وقد زاد عددها على عشرة كتب، وهي واضحة أيضاً في كتبه الفلسفية   ولا سيما الفكر الجدلي والفكر الوجودي، مثل: «البعد الروحي في تفسير الوجود والزوال» (1971م)، و«الفكر والمعنى: تفسير جدلي للمعرفة» (1971م). و«ظواهرية الوجود الجدلي: دراسة وجودية في النقيض» (1972م) و«التفسير الجدلي للأسطورة» (1980م) و«الفكر الوجودي عبر مصطلحه» (1985م)، و«الأرجوزة في الوجود والعدم» (1990م).

 

على أن هذا كله، وربما لهذه الأسباب، يؤكد في الوقت نفسه، أهمية هذا الكتاب ونقد  بن ذريل بعامة في تطوير النقد الأدبي العربي الحديث، وفي تطوير الإبداع العربي الذي يتجه إليه هذا النقد، لأن من فضائل ناقدنا عنايته الفائقة بتعريب المناهج النقدية الغربية وإدراجها في سياق النقد العربي الناهض من جهة، وعنايته الفائقة بنقد الإبداع العربي الحديث بروح إيجابية تكشف عن المستوى المتقدم والمضيء للأدب العربي الحديث في سورية من جهة أخرى.

 

2ـ النقد المسرحي:

كان البحث المسرحي أبرز فعاليات شيخ النقاد في سورية، فقد شرع عدنن بن ذريل بالنشر في الدوريات الأدبية العربية منذ أربعينيات القرن العشرين حين درس الأدب والفلسفة في جامعة القاهرة، وعاد إلى دمشق دون أن يكمل دراسته العليا، ثم تنازعته أهواء الفن الموسيقي، إذ عمل عازفاً لفترة طويلة في الفرق الرسمية والخاصة، والنقد الأدبي والفني، والتأليف الفلسفي، على أن كتابته في بحث المسرح ونقده رائدة في ميدانها.

 

وكان كتابه «فن المسرحية مع تلخيص حديث لكتاب الشعر لأرسطاطاليس» (1963م) الأول المخصص للتعريف بهذا الفن القديم ـ الحديث، ثم تلته الكتب التالية: «الأدب المسرحي في سورية» (1964م)، و«المسرح السوري منذ أبي خليف القباني إلى اليوم» (1971م)، و«في الشعر المسرحي: أحمد شوقي ـ عزيز أباظة ـ عدنان مردم بك» (1970م)، و«مسرح وليد مدفعي» (1970م) و«الشخصية والصراع المأساوي: دراسة نفسية في طلائع المسرح الشعري العربي: أحمد شوقي ـ عزيز أباظة ـ عدنان مردم بك» (1973م)، و«مسرح علي عقلة عرسان» (1980م)، و«رواد المسرح السوري بين أواسط العشرينات وأواسط الستينات» (1993م)، و«فن كتابة المسرحية» (1996م). وهو طبعة ثانية معدلة من كتابه السابق «فنّ المسرحية»( ).

 

وقد وضع عدنان بن ذريل عدة كتب في الموسيقى والفنون الأخرى هي «تطور السماح» (1966م)، و«الموسيقى في سورية: البحث الموسيقي والفنون الموسيقية منذ مائة عام إلى اليوم» (1969م)، و«معجم رقص السماح» (1970م) و«القبا والشيخاني: دراسة في التراث الموسيقي الشعبي» (1971م)، و«تراث الدبكة في الموسيقى الشعبية السورية» (1972م).

 

2-1- التوصيف:

لقد كان البحث المسرحي الأبرز في كتابته بالنسبة للنقد، حتى مطلع سبعينيات القرن العشرين حين مازج بين البحث والنقد في كتبه عن المسرح الشعري العربي ـ وبعض أعلام المسرح في سورية، وهما وليد مدفعي وعلي عقلة عرسان اللذين خصهما بكتابين، طبق على الأول التحليل النفسي والأتباعي، وعلى الثاني التحليل البنيوي، ثم قارب على استحياء بعض النصوص المسرحية في مقالاته وأبحاثه التالية من منظور التحليل الألسني، وكان ظهر منها بحثه عن مسرحية «جزيرة الطيور» لخالد محي الدين البرادعي في كتابه النقدي الأدبي الأخير «النص والأسلوبية بين النظرية والتطبيق» (2000م).

 

أما كتبه الأخرى فتلتزم بالمنهج التاريخي والإتباعي في بحث المسرح ونقده، بل إن الوصف التاريخي والمنهجي هو الأغلب، وهذا ما دعاه إلى تلخيص كتاب الشعر لأرسطاطاليس عام 1963م، وأعاد هذا التلخيص معدلاً في عام 1996م، على الرغم من التطور الكبير في تحديث مناهج النقد الفني والأدبي، ولا يخفى أن عدنان بن ذريل قد مدّ تجريبه البحثي والنقدي إلى التحول المستمر من منهج لآخر، فلا يقع المرء على منهج نقدي وبحثي واحد يتطور من مرحلة لأخرى، فثمة تعدد في المناهج النقدية والبحثية، وثمة استجابة مباشرة للمناهج الحديثة.

 

2-2- موضوعات البحث والنقد:

حرص عدنان بن ذريل على تنوع موضوعات البحث والنقد المسرحي، فعمد إلى التعريف المنهجي بفنّ المسرحية لأول مرة بنظرة، لأنّ هناك عشرات المؤلفات الأخرى التعريفية بفنّ المسرحية، مؤلفة ومترجمة باللغة العربية قبل ظهور كتابه، وقد اعتمد على عدد كبير منها في مقايساته ومقارناته وإيضاحاته، وحاول أن يحدد المصطلحات في أدبيتها بالدرجة الأولى. ويلاحظ أنه أعاد طباعة الكتاب معدلاً بعد أكثر من ثلاثة عقود على تأليفه، وأضاف إليه إشارات إلى مسرحيات ومؤلفات عن المسرح، مما زخرت به المكتبة العربية المسرحية، مثل «علم النفس ـ دراسة للتكيف البشري ـ بيروت 1966م ـ ج1» (ص36)، ومبادئ علم الجمال «لشارل لالو ـ دمشق 1971م »(ص46) و«المسرحية التاريخية في المسرح العربي المعاصر» لأحمد زياد محبك (ص51)، و«الفلسطينيات» لعلي عقلة عرصان (ص70).. الخ.

 

وأضاف تعديلات طفيفة على كتابه، مثل الفصل السادس عن «المسرحية والمكتسبات الألسنية» مما أولع به في العقدين الأخيرين من شغله النقدي (ص77-81)، ومثل الإلماحة إلى التعريف الأدق للمسرحية أو الدراما، وكانت تعريفاته السابقة جميعها تجانب هذا التعريف الذي ذكره إبراهيم سكر في كتيبه «الدراما الأغريقية القاهرة 1968م»، وهو أن كلمة دراما مشتقة من الفعل اليوناني «دراؤ» بمعنى أعمل، فهي تعني أذن أي عمل، أو حدث، سواء في الحياة أو على خشبة المسرح (ص60).

ثم اتجه إلى الدراسة التاريخية للأدب المسرحي في سورية، مما شهد له الكثيرون بمعرفته العميقة والدقيقة بالماضي المسرحي، وعاين تطور الحركة المسرحية مدققاً وشارحاً لمفاصلها وأعمالها وروادها في كتابه «المسرح السوري منذ أبي خليل القباني إلى اليوم».

 

وقد استكمل هذا الجهد التأريخي في كتابه «رواد المسرح السوري» الذي يحفل أيضاً بتفاصيل الحركة المسرحية من حيث الفرق الفنية الهاوية والمحترفة، والعلاقة بالفنون الأخرى كالموسيقى والسينما والتمثيلية الإذاعية، ومن حيث ذكر الإداريين والفنيين والرواد المسرحيين الأبرز في زمنهم مثل عبد الوهاب أبو السعود وتوفيق العطري ووصفي المالح وأكرم خلقي ومحمد علي عبده وعبد اللطيف فتحي وسعد الدين بقدونس ونزار فؤاد ومحمود جبر. وخصص الفصل العاشر من كتابه للنشاطات والتجمعات النقابية والفصل الحادي عشر للتجارب المميزة للرواد المتميزين مثل أنور المرابط وموسى عكرماوي وعبد الله النشواتي أبو شاكر والفصل الثاني لطلائع المسرح القومي، وضم إلى الكتاب ملحق مصور حوى عشرات الصور الناردة في موضوعه (ص221-290).

 

ووضع كتابه «في الشعر المسرحي» الذي يعنى بالمنهج التاريخي الوصفي في رؤية طبيعة هذا التأليف المسرحي وتجلياته لدى بعض أهم رواده العرب في مصر وسورية. ثم طبق المنهج النفسي في بواكيره الأولى في دراسته عن «الشخصية والصراع المأساوي»، ومن خلال نتاج طلائع المسرح العربي العربي أنفسهم، فدرس علم النفس العام وعلم النفس وظهوره في المسرح الشعري والشخصية في علم النفس العام، والشخصية المسرحية، والصراع نفسياً ومسرحياً تمهيداً لدراسة الشخصية والصراع بعامة وشخصيات المسرح الشعري العربي بخاصة.

 

وانتقل إلى دراسة بعض أعلام المسرح في سورية، فحضّ «مسرح وليد مدفعي» بكتيب شارح يمزج بين الوصف التاريخي والتحليل الأدبي والفني والنفسي، ووسع دراسته لمسرح علي عقلة عرسان في كتاب كبير مستفيداً من التحليل البنيوي واللساني الشائع إبان فترة تأليفه.

 

2-3- منهجية البحث والنقد:

لم يستقر عدنان بن ذريل على منهج واحد في البحث والنقد، بل تقلب من منهج لآخر، فاعتنى بالمنهج الرمزي في كتاباته المبكرة وما مازجه من أمشاج نفسية وأسلوبية تطورية( ).

وعالج موضوعاته المسرحية في الفترة التالية (الستينيات على وجه الخصوص) بالمنهج الوصفي التاريخي، ونختار حديثه عن الفصل الأول- الباب الأول: «مصطلحات أدبية»، والفصل الرابع: «الشخصية والطباع» مثالاً لذلك، فقد عرف المسرحية لغوياً وتاريخياً معتمداً على التاريخ المسرحي العالمي حيناً، والفنون الشعبية المسرحية العربية ومحاولات المسرحة العربية حيناً آخر، ويتداخل الحديث غالباً بين المتن والهوامش، فيقلّب المفهوم في المتن، ويعقب عليه في الهوامش، وتتبدى في كتابته كلها وفرة المعلومات التاريخية والحرص على المحاججة المنطقية الصورية، ولطالما كرر أقواله من صفحة لأخرى، ونورد نموذجاً من المتن والتعليق عليه في الهوامش:

«كما نجد المترجمين(1)، مثل إبراهيم سامي مظهر، وأمين حداد، وإبراهيم رمزي، وسامي جريديني، وفرح أنطون أيضاً، وميخائيل جهشان، وخليل مطران، وغيرهم، يطلقون لفظ ـ روايات ـ على مترجماتهم، لأعمال: شكسبير، واسكندر ديماس، وكريستوف شميد وفيكتور هيجو، وغيرهم(2). وقد ظل مصطلح ـ رواية ـ شائعاً، في الدلالة على العمل المسرحي، حتى فترة متأخرة. فهذا أحمد شوقي، يطلق بعد عام 1928م على مسرحياته الشعرية لفظ ـ روايات ـ، وينشرها الرواية تلو الأخرى، مثل رواية مصرع كليوباترة، ورواية قمبيز، ورواية علي بك الكبير، وغيرها.. وقد لوحظ، في تلك الحقبة أيضاً، أن عباس محمود العقاد يطلق على كراسه، في نقد مسرحية قمبيز الشعرية، لأحمد شوقي، عنواناً يحمل لفظ ـ رواية ـ، فجعله: رواية قمبيز في الميزان(3).

 

(1) لوحظ أن الرواد الأوائل في الترجمة، كانوا يترجمون دون إعلان عن ذلك، مثل ذلك عائدة ترجمها سليم النقاش عن الإيطالية، وظلت مدة طويلة باسمه، وكذلك لباب الغرام لأبي خليل القباني، هي نفسها مثريدات لراسين ويرجح أنه ترجمها عن التركية، أو ترجمها له إسكندر فرح، كما لوحظ على الفترة الأولى من المسرح العربي، ترجمة المسرحية الواحدة عدة مرات، مثال ذلك هملت لشكسبير، ترجمت ست مرات، ترجمها طانيوس عبده، وجورج ميرزا، ونجيب حداد، وأمين حداد، وسامي جريديني، وخليل مطران.. كما لاحظ الدارسون، مثل محمود حامد شوكت أن الترجمة الفنية الدقيقة لم تأت إلا متأخرة، فأصبحت بالفصحى، وأبعدت عنها الأشعار، والسجع، وحوفظ فيها على النص الأصلي..

(2) مثلاً ترجم إبراهيم سامي مظهر: ـ رواية توسكا، ذات ثلاثة فصول، تمثيلية، لشكسبير؛ 1899م؛ وإبراهيم رمزي: ـ رواية الملك لير، فاجعة ذات خمسة فصول لشكسبير، مصر، وراجعها خليل مطران، وزكي المهندس، وكي طليمات؛ وأمين الحداد؛ ـ هملت تمثيلية مأساة ذات خمسة فصول، لشكسبير دمشق، 1347هـ؛ كما ترجمها أيضاً سامي جريديني، وغيره وفرح أنطون: رواية البرج الهائل، تمثيلية، ذات خمسة فصول، لإسكندر ديماس، الإسكندرية 1899م وميخائيل جهشان: ـ رواية جنفياف، رواية تاريخية، غرامية أدبية.. ذات خمسة فصول، بيروت 1899م؛ وخليل مطران: رواية هرناني، مسرحية، مصر، كما ترجم عدداً كبيراً من مسرحيات شكسبير.. وغيرهم..

(3) يقول عباس محمود العقاد، ص3: ـ ورواية قمبيز التي نظمها الشاعر أحمد شوقي تدور على قصة قديمة. أو يقول ص4 ـ: ولهذا قصرنا الكلام على قيمة الرواية الأدبية. والتاريخية، ولم نتعرض لقيمتها التمثيلية ـ أو يقول ص5: ـ فضل الشاعر الذي ينظم الروايات التمثيلية يبدو في ثلاثة أشياء هي: 1- حسن النظم، والصياغة، 2- تمحيص حوادث التاريخ، و3- ابتكار الخيال فيما قصر فيه المؤرخون، وسنبدأ بالكلام عن النظم في رواية قمبيز لأنه أحرى الأشياء أن يجيده شوقي وأولاه. ـ وغير ذلك كثير..» (ص13-14)

*          *          *

وشرح مفهوم الشخصية والطباع في المتن، منتقلاً في شواهده من المسرح العالمي إلى المسرح العربي، فيما هو أقرب إلى نظرة الطائر إذ لا يتعمق في التعريف وتحديد المفهوم، مكتفياً بإشارات مدرسية:

«وقد أطلق نفر من المحترفين، من رواد الفن المسرحي العربي، على أعماله المقتبسة، أو المترجمة ألفاظاً أعجمية، مثل: ـ تراجيدة(1)، وتياترو ـ على نحو ما فعلمحمد عثمان جلال، الذي ترجم لراسين، ونعت ترجماته بـ ـ تراجيديات ـ وهي: ـ الروايات المفيدة، في علم التراجيدة ـ استر، افيجينيا، الإسكندر، كما ترجم لموليير، ونعت ترجماته بـ ـ تياترات ـ وهي: ـ الأربع روايات من نخب التياترات ـ الشيخ متلوف، النساء العالمات، مدرسة الأزواج، مدرسة النساء، وقد أجرى هذه الترجمات كافة بالعامية المصرية.

 

(1) من أبرز ما نجد مثلاً، في شرح عنوان، (رواية عائدة)، ترجمة سليم النقاش: تراجيدية ذات خمسة فصول.. أما ترجمات محمد عثمان جلال في التراجيدية، فتحمل الروايات المفيدة في علم التراجيدة.. في حين نجد، في المقابل ترجمة هملت، لنجيب حداد، رواية تمثيلية، مأساة، ذات خمس فصول، أو نجد مثلاً أيضاً في الرجوع إلى أدرنة لمعروف الأرناؤوط، فاجعة تمثيلية، ذات مقدمة، وأربعة فصول، أو نجد أيضاً في أبو مسلم الخراساني تأليف أ. ث، مأساة أدبية تاريخية، ذات ثلاثة فصول يتخللها شعر قديم، وحديث، وغير ذلك كثير.» (ص19-20)

وتتعدد تعريفات المفهوم الواحد حسب المتاح في المراجع المتوفرة، فذكر أكثر من عشر تعريفات لفن المسرحية داخل المتن والهوامش، ونسبها لأجانب وعرب (ص22-30)، وعندما أتيح له تعريف آخر في طبعته المعدلة ، فإنه سرعان ما وضعه في الهامش، دون أن يبدل في مفهومه للمسرحية داخل المتن (تعريف إبراهيم سكر الآنف الذكر).

 

وظهرت الاتباعية التقليدية في فهم المسرح بإلحاحه على تلخيص كتاب أرسطو «فن الشعر»، وباعتماده على فهم عناصر المسرح ضمن مأثور القول الإتباعي المدرسي عنها مثل العرض التمثيلي والحادثة والتطور نحو الحل والفكرة أو فكرة المسرحية، ولا يتواصل عدنان بن ذريل غالباً مع المصطلح المسرحي النقدي السائد والمعروف، فترجم مصطلح كاترثيس «التطهير» بـ«تطهير الأهواء عند رؤيتها ممثلة أو الانفعال بها» (ص32)، وترجم «الإنارة» أو «التنوير» «بالانكشاف» (ص144).

وغفل عن المعنى الاصطلاحي بما هو تواضع متفق عليه لعشرات المصطلحات كأن يعرّف «ميلودرامة» بـ«أغنية» (ص93)، و«الفعل» أو العمل بـ «الموضوع» (ص59).. الخ، بل إنه ينسب «الميلودرامة» إلى اللغة اليونانية، ويعطيها تعريفاً لا يوافي دلالتها في الميوعة العاطفية حيث يقترن العنف (الدم) بالدموع بقوله: «والميلودرامة.. درامة عنيفة، موضوعاتها مغامرات وأعمال مقارنة، في كثير من الأحيان للواقع، وتوحي بالعنف، مثل الفزع والحقد والقهر، كما تتعاورها أقسام مضيئة وحلول متفائلة مختلفة» (ص93).

 

وثمة ولع ظاهر في الخروج من التحليل الوضعي التاريخي أو النفسي أو الأدبي إلى فيض المعلومات داخل المتن أو في الهوامش، فوضع فصلاً في كتابه «الشخصية والصراع المأساوي» عن «المأساة التاريخية: سيرتها وفنيتها»، وكان يذكر سمات المأساة التاريخية الفنية ثم يباشر الحديث عن أمثلة لكتابتها لدى رواد المسرح الشعري العربي، ثم يتداخل ذلك كله مع تجربة اليونان والكلاسيكيين الغربيين في هذا المجال، ثم يعاود الحديث عن ظهورها لدى العرب المحدثين، ويضع خلاصة، ويعود إلى وصف ظاهرة المسرح بوصفها تقليداً للغرب (ص31 وهذا موضع جدال)، ليطلق أحكاماً على التجربة المسرحية الشعرية العربية قبل تحليلها:

«كان شجَّع الاتجاه إلى المآسي التاريخية العاطفية، كون المأساة التاريخية والعاطفية أكثر صلاحية من غيرها لمخاطبة الجماهير، تهذيبهم وتثقيفهم، في فترة ناهضة تعمل لحريتها وكرامتها ومنعتها.

 

ومن هنا كانت الغلبة في هذه المسرحيات التاريخية والعاطفية، ولا تزال إلى اليوم للحوادث نفسها، للأعمال والأفعال، والصراعات المادية، على الأخلاق، أو الصراع الداخلي.

هذا شيء في مسرحنا الشعري العربي، لا يعتبر قدحاً فيه، ما دام أن المأساة التاريخية والعاطفية هي نوعية مسرحية قائمة بذاتها، هي منذ أن وجدت في العالم تقوم على الحوادث والتي من خلالها تتضح الشخصيات كافة..

وبالفعل أن هذا الاتجاه الأصيل، والصادق إلى تغليب رسم الصراعات المادية على الصراعات المعنوية في مسرحنا الشعري العربي، لم يضر قط برسم الشخصيات في هذا المسرح، بل على العكس أكسبه أصولية، وواقعية متنتا بنيانه المسرحي ونوعته تنويعاً ظاهراً، بربطه بالزمان والمكان، وفكرة الموضوع المعروض نفسه، كما سنظهر ذلك مفصلاً فيما بعد...» (ص32).

 

وغالباً ما يورد المعلومات التاريخية اولمقارنة بينها في مكانها وفي غير مكانها، مثل ذكره لهذا الحشد من المسرحيات لمجرد أنها تعد تاريخية برأيه:

«ومن المسرحيات الشعرية التي تعتبر تاريخية أيضاً: ـ الحسين عليه السلام ـ 1932م، لمحمد رضا شرف الدين، وهي من التاريخ العربي الإسلامي؛ ثم رايات ذي قار، 1933م، لعمر أبو ريشة، وهي من التاريخ العربي الجاهلي؛ ثم  ثورة بيدبا 1935م، لرئيف الخوري، وهي من التاريخ الهندي القديم؛ ثم ديك الجن الحمصي 1935م، لمحمد طاهر الجبلاوي، وهي  من تاريخ المجتمع العربي؛ وثورة العراق الكبرى 1938م، لعبد الحميد راضي، وهي في الثورة على الاحتلاف الإنكليزي؛ وهنوريا 1964م، لعبود أحمد عبود، وهي في انهيار الإمبراطورية الرومانية..

ثم اليرموك 1942م لخلدون كناني وسلامة عبيد، وهي في معركة اليرموك بين العرب والبيزنطيين، وولادة 1948م، لعلي عبد العظيم وتروى حياة ولادة وحبها لابن زيدون، وتيبور 1956م، لرفيق معلوف وهي في أحداث ثورية معاصرة في هنغاريا، والمأمونية 1957م، لأحمد سليمان الأحمد، وهي في مأساة عريب التي يقال هي بنت جعفر البرمكي، وقيس ولبنى، ثم نجنون ليلى 1964م لعاتكة الخزرجي وهما من التاريخ العربي.. ومعظم هذه المسرحيات سلفية عمودية..

يضاف إلى ذلك أيضاً خالد بن الوليد، لعامر بحيري، وغرام يزيد والمروءة المقنعة لمحمود غنيم، وسيف بن ذي يزن لمحمد عبده غانم، وأبو عبد الله الصغير، وفارس بني حمدان لأنور العطار، وميسلون لبدر الدين الحامد. وغيرها وغيرها..

أما الاتجاهات الشعرية في التأليف المسرحي الحديث فقد ظهر منها الاتجاه الفلسفي، والأسطوري، ثم الاتجاه الرمزي، فالاتجاه الشعبي، فالاتجاه الملتزم.. وكانت موضوعاته متنوعة، كثير منها من التاريخ، ولكنها كان تتحرر شيئاً فشيئاً من الديباجة العمودية، حتى اصطنعت التفعيلة بدل البحر في الوزن(1).

في طليعة هذه المسرحيات أوبرات أحمد زكي أبو شادي، الآلهة، وهي فلسفة خيالية، وأخناتون، وهي من تاريخ مصر القديم، وأردشير، وهي من قصص ألف ليلة وليلة، ثم إحسان وهي مأساة عاطفية اجتماعية من المجتمع المصري..

ومنها أغنية الأرواح الأربعة 1942م لعلي محمود طه، وهي من تاريخ مصر القديم، ثم أرواح وأشباح وهي حوار فلسفي ذهني وأسطوري..

(1) للشاعر علي أحمد باكثير ما يزيد عن عشرين مسرحية متنوعة شعرية ونثرية، سلفية وحرة، وكثير منها إبداعي عاطفي؛ وكان علي أحمد باكثير فيها من أوائل من أرسلوا الشعر إرسالاً، واصطنعوا التفعيلة بدل البحر في الوزن.. وأولى مسرحياته تعود إلى عام 1933م وهي بلاد الأحقاف، وهناك له قصر الهودج، واخناتون، وسلامة القس وغيرها..» (ص28-29).

 

وفعل الأمر نفسه مع معلومات علم النفس والتحليل النفسي، فقد وضع فصلاً طويلاً عن «الشخصية في علم النفس العام» لا تفيد كثيراً في التفسير النفسي للأدب، مع العلم أن أكثر من كتاب مؤلف ومترجم في العربية في هذا الموضوع، وقد تعسف في إدخالها كبحثه بذكر أمثلة تطبيقية قليلة على المتن في الهوامش، كالإشارة إلى الأحلام حين تظهر الرغبة فيها «في النوم في أشكال تهويمية تصرف طاقاتها المكبوتة»، ثم أورد الهامش التالي عنها:

«أن الأحلام التي نجدها في مسرحية قمبيز لأحمد شوقي ليست كلها تصرف كبت، أو قمع.. وإنما بعضها مجرد نذير سوء، مثل ما كانوا يعتبرون الأحلام قديماً، كالحلم الذي رآه أحد أعضاء وفد فارس من أن العجل آبيس هز بقرنه مضاجعه ثم سفهه، وبعضها مجرد تصريف للتخوف من تماثيل مصر، مثل حلم الطير برأس أنس لأحد أعضاء الوفد أيضاً.. ولكن حلم نتيتاس في القائد نافارس، كا تقول فيه:

الخائن الذي ألى    فارس من مصر أتى

يشي بمصر وأخا   ف أن يكون بي وشى (ص63)

والتي تتصوره على شكل حنش ينفث في النيل، فيجف النهر، وتحترق الضفتان، وتغتالما الضواري.. وهو بالفعل الذي يفضحها في أنها ليست نفريت فيجر على مصر الويل والخراب، وتتحقق نبوءتها فيه، فهو تصريف لكل ما تخفي نتيتاس وتكبت وتقمع من مشاعر خدعتها وخدعة أهلها لقمبيز بأنها نفريت.. وشبيه بهذا الحلم الذي يثيره قدوم نافاريس، حلم العباسة الذي يثيره خوفها على جعفر، إذ تراه مكبلاً بالحديد، وقد جرفه دجلة العاصف المزمجر، ومزقه مزقاً، العباسة لعدنان مردم بك، بيروت، 1968م، (ص53-54)..». (ص47-48).

 

ويلاحظ الميل إلى الاختزال في التحليل دون الاستغراق في إضاءة الاشتغال الفني على صوغ الشخصية أو تنظيم الصراع المأساوي في هذه المسرحية أو تلك، بل إنه غالباً ما يعود إلى ولعه بالمقارنات المفيدة وغير المفيدة في موقعها، فقد تحدث، على سبيل المثال، عن مبدأ الأثر الهام، واستعرض في أكثر من صفحة الموقف مما يقارب هذا المبدأ، مثل التوعية المسرحية والاستهداء بحال التقاليد المسرحية ولاسيما السرد التاريخي في التراث العالمي ومقايسة الأعمال بجماليتها لا بمعايير نوعيات مسرحية أخرى، والإشارة إلى التهجم على الأعمال الشعرية العربية بسبب سعة الموضوع أو تشعبه، والإلماح إلى الموضوع المسرحي وصلته بالمكان أو وحدة المكان، على أنه ذكر المبدأ فجأة دون تعريف أو شرح ملتفتاً عنه إلى وحدة الصراع واصطناع الموضوعات التاريخية واصطناع الخيال وتجربة المأساة الشعرية عند اليونان في عرض الفاجعة، وأن شعراءنا يحتذون حذو هذا التراث العالمي كل على هواه:

«فآثر أحمد شوقي السرد المتداخل المحقق للأثر الهام، كما في مجنون ليلى، ومصرع كليوباترة، وقمبيز؛ وعلي بك الكبير وغيرها.. وتبعه في ذلك عزيز أباظة في معظم مسرحياته، والتي استهلكت مبدأ الأثر الهام بشكل أكثر بروزاً حتى بدا بعضها مزدوج الموضوع كما في قيس ولبنى، والناصر، أو متداخل القصص كما في غروب الأندلس، وشجرة الدر.

 

ووحده عدنان مردم بك تميز مسرحه الشعري بوحدة الموضوع تميزاً ظاهراً بارزاً والتي يحرص عليها يحققها بفن وبداعة.. ألا أنهم كلهم كانوا يعنون بالصراعات الخارجية والداخلية على السواء، حتى عدنان مردم بك نفسه، والذي يقيم وحدة موضوعه في معظم الأحيان، كما سنرى، على صراعات خارجية صريحة، فعالة، وظاهرة، في العباسة، والملكة زنوبيا، والحلاج، ومصرع غرناطة، وغيرها..». (ص90).

وغالباً ما يتداخل رأيه مع آراء نقاد وباحثين آخرين أثناء التحليل المختزل أو المبشر أحياناً، كأن يورد رأي ناقد مباشرة فيما لا يناسب العنوان الفرعي «غاية المأساة التاريخية»، على سبيل المثال، ثم يعاود تعريفه للصراع ثم يعود إلى رأي مندور.. وهكذا..

«كان الناقد الحصيف محمد مندور كما رأينا قرر أن مسرحيات أحمد شوقي تقوم على الصراع، والذي يبدو في بعض الأحيان سطحياً وشلاً في نظره، لا يتعمق أغوار النفس البشرية، كما هو يقول، بحيث أن مسرح شوقي على حد قول مندور يعتمد في أساسه على الصراع، لا على التصوير، أو التحليل، كما تعتمد الدراما الحديثة..

المقصود من الصراع هنا بدون شك هو السرد للصراع والذي يحتل مكان الصدارة في مسرح شوقي، في حين يقل التحليل أو التصوير في هذا المسرح، واللذان هما في نظر مندور سمة الدراما الحديثة.

 

ومع ذلك هناك رأي للناقد محمد مندور يقول فيه أن الهدف الإنساني الباقي للمأساة التاريخية العاطفية التاريخية، هو الغوص وراء حقائق النفوس البشرية، وتصويرها تصويراً يجلو غامضها، ويفضح أسرارها.. وهو رأي مستحق أن نعلق عليه، وقد سجله مندور على مسرحية العباسة أخت الرشيد لعزيز أباظة، قال:

- .. من المعلوم أن الغوص وراء حقائق النفوس البشرية، وتصويرها تصويراً يجلو غامضها، ويفضح أسرارها هو الهدف الأساسي الباقي الذي يمكن أن نخلص به من مثل هذه المسرحيات التي لا تعتبر مسرحيات هادفة، بالمعنى الحديث لهذه اللفظة.

 

وهذا الرأي حقاً فيه كثير من الصواب، ولكن أيضاً فيه غلو وشطط واضحان يحتاجان إلى تفنيد.. خاصة أنه يوحي بأن هذا النوع من المسرح الشعري الذي هو المأساة التاريخية والعاطفية التاريخية فن للفن، وأنه بالتالي مفارق للمسرح الهادف، وخدمته الجماهير..» (ص100-101).

 

ويلاحظ أيضاً أن عدنان بن ذريل لا يركن إلى المصطلحات المتواضع عليها على الرغم من تمحيصه المستمر لها، فهو يورد عدة تصنيفات وتسميات غير متفق عليها مثل «الحب الحياتي» (ص139)، ولا يعرف المرء ما المقصود تماماً بهذا النوع من الحب، و«الشذوذ في الحب» (ص142) بينما يقصد به العلاقة الحرة أو غير الشرعية.. الخ ويضع تصنيفات وتسميات لا تستوعب طبيعة الصراع المأساوي، لأنه تصفه من الخارج،  ولا تبتعثه من سيرورة الموضوع مثل مضامين الصراعات والصراعات من جهة عرضها والصراعات الخارجية والصراعات الداخلية.. الخ. على صعوبة الفصل بين هذه التسميات والتصنيفات، ولعل ذكره للصراعات الداخلية مما يثير التساؤل مثل الصراع العنيد والصراع المتوتر والصراع الذي ينقلب على نفسه، وكأنه يضفي العاطفة على نوعية الصراع، كما في هذه الخلاصة:

«الصراعات المأساوية إذن متنوعة، كما الموضوع والشخصية متنوعان. وقد آثرنا أن توصف الصراعات، الخارجية أو الداخلية، بمضامينها، أو بفنيتها نفسها في العرض المسرحي.. فيقال صراع تآمر، أو تناحر، أو انقلاب، أو اندحار؛ أو صراع واجب، أو ضمير أو حب، أو غيرة، أو هوى.. أو يقال صراع متدرج، أو متقطع، أو عنيد، أو متوتر وهكذا.. الشخصية من خلال ذلك كله تبدو إذن مصممة، مريدة، مترددة، شريفة، مراوغة، ماكرة، عاجزة، ضعيفة إلى ما هنالك.. والمهارة كل المهارة في أحياء الماضي الغابر، ع مقاربة الواقع، من دون تحريف الوقائع التاريخية، أو مناقضتها، أو إهمالها أيضاً..» (ص194).

 

2-4- التوثيق:

تمتاز كتابة عدنان بن ذريل النقدية بعامة، والنقدية والبحثية المسرحية على وجه الخصوص بالتوثيق، حتى إن الحواشي تكاد تبلغ نصف حجم المتن في غالبية كتبه، ففي الباب الثاني من كتابه «فن المسرحية»، وعنوانه «تعريفات ـ شرح، وتفنيد»، على سبيل المثال، يمعن النظر في تعريف المسرحية لغوياً وأدبياً وفنياً، فيذكر تعريفه الجامع المانع بتعبير المناطقة الصوريين، ويضع له حاشية شديدة الدلالة على أسلوبيته: «هذا التعريف للمسرحية لنا، وقد استنتجناه من استقراء العناصر الأساسية الفنية والأدبية للمسرحية القديمة أو الحديثة على السواء» (ص22).

 

ثم ما لبث أن غمر متنه وحواشيه بتعريفات أخرى موثقة لتعريفات المسرحية في الأدبيات العربية المؤلفة والمترجمة، وغالباً ما يورد أمثلة تطبيقية من المسرح العالمي والعربي، بل إنه إمعاناً في دقة التوثيق ينبه إلى نصوص مصادر ومراجع غير مطبوعة أو غير متاحة أو معروفة لدى معاينته لمصطلح «تمثيل»، فقد ذكر أن هذا المصطلح استهلك «في الربع الأول من القرن العشرين للدلالة على المسرح وفنّه. كتب محمد تيمور في ذلك حياتنا التمثيلية ـ مصر 1922م، وكتب محمود خليل: فن التمثيل ـ مصر 1924م. وكتب حسين شفيق: مفكرة في التمثيل ـ مسودة في دار الكتب المصرية. ونعت طه حسين ترجماته ومقالاته في الأدب المسرحي اليوناني والغربي بـ تمثيلي مثل: من الأدب التمثيلي اليوناني. مصر، عدة طبعات. ومن أدب التمثيل الغربي، بيروت 1959م» (ص16).

 

ولعل أبرز سمة في توثيقه هي ندرة مصادره ومراجعه مثل عودته إلى مسودة في دار الكتب المصرية، وثمة كثير منها يتعذر الحصول عليه من مظانه لدى دور التوثيق والكتاب الرسمية والخاصة على حدّ سواء، ولو تأملنا أحد كتبه الحديثة وهو «رواد المسرح السوري» لأدهشنا في وفرة معلوماته المكتوبة وغير المكتوبة، بل إنه يضيف داخل المتن وفي حواشيه معلومات إضافية، فقد كتب عن ممتاز الركابي على سبيل المثال في الفصل الثالث «المسرح السوري والتمثيلية الإذاعية»، فعرف بهذا الممثل الهاوي وخدماته وأعماله وطبيعة علاقاته الفنية والأدبية مثل دعوته للانضمام إلى «الفرقة السورية» عام 1948م، وتلكؤه، «ثم بعد مدة انضم إليها»، ولا يغفل عن تزويد متلقيه بمعلومات مناسبة أو غير مناسبة في موقعها، على الرغم من فائدتها بذاتها في الأحوال جميعها، كأن يتحدث في سياق تعريفه بممتاز الركابي عن «معهد الآداب والفنون» أو أعضاء «الفرقة السورية»، أو أن يشير إلى الدوريات الأدبية التي كتب فيها الركابي مثل «بردى» و«النقاد» و«الناقد» (ص89-90).

 

ولا يخفى أن غالبية مصادره في مثل هذا الكتاب شخصية كما تشير إلى ذلك معلوماته داخل المتن أو في الحواشي، ونأخذ مثالاً لذلك ما كتبه عن أحمد أيوب في «الفصل الرابع: مع الإداريين والفنينن»، وجميعه من مصادر شخصية لا تتوفر لدى أية جهة رسمية أو أهلية، ولا اعتقد أنها متوفرة لدى أسرة الفنان نفسه، ويصرح عدنان بن ذريل بأن مصادره الشخصية، وأبرزها لقاؤه بمن يكتب عنهم أحياناً كقوله:

«قال لي أحمد أيوب: إلا أنه بعد الحرب العالمية الثانية انصرف عن التمثيل، واقتصر على المونولوجات والديالوجات، وكان يؤدي الديالوجات معه ليلى حسني. رجاء أحمد. انطوانيت إسكندر. كيكي. فريال وكلير وغيرهن» (ص119).

 

2-5- التحكميات المسبقة:

ترتهن الكتابة النقدية والبحثية عند عدنان بن ذريل بتحكميات مسبقة على العمل الأدبي أو الفني، وأولها العناية بالعوامل المساعدة شأن النقد التقليدي، كأن يهتم بحياة الأديب وثقافته وظروف كتابته مثلما فعل في كتيبه عن «مسرح وليد مدفعي»، أو في كتابه عن «مسرح علي عقلة عرسان» على الرغم من أخذه بمنهج البنيوية في الكتاب الثاني. ويندر أن قرأنا مقالة أو بحثاً عن المسرحيين لا يعتني فيه عدنان بن ذريل بمثل هذه العوامل المساعدة، التي بدأت تقل في العقدين الأخيرين عندما أغرته المناهج الحديثة، ولا سيما الأسلوبية واللسانية.

 

وثانيها مراعاة العلاقة بالمنتج أو المبدع، فهو شديد الاهتمام بموقف هؤلاء المنتجين أو المبدعين من كتابته النقدية والبحثية قبل الكتابة وأثناءها وبعدها، كما في كتابته عن عدنان مردم بك على سبيل المثال، فقد وضع له أسئلة، وأجاب عليها، ودوّنها في ملحق كتابه «الشخصية والصراع المأساوي» حريصاً على تقدير رأي المؤلف بإنتاجه أو إبداعه، كالسؤال عن طريقة الكتابة أو فهم الصراع في العمل المسرحي أو التأثر بالشخصيات والمذاهب أو مشروعات المستقبل أو الرضى عن الأعمال السابقة أو الاعتقاد بأن الاتجاهات المسرحية الحديثة منافس خطير للمسرح السلفي والفلسفة في الحياة وفي الأدب والمسرح، ويلاحظ المرء أن كثيراً من هذه الأسئلة لا تفيد البحث، بل إن للنقد أن يحفل بداخل النصوص وبعلائقها المتشابكة بالدرجة الأولى، فالناقد هو الذي يجيب على مثل هذه الأسئلة من النصوص ذاتها، ولنأخذ مثالاً سؤاله عن فلسفته في الحياة وفي الأدب والمسرح، وكانت الإجابة:

«- الأدب رسالة فنية وأخلاقية، ولم يكن الأدب زخرفاً، أو ضرباً من ضروب اللهو والعبث..

ورسالة الأدب ترمي إلى رفع المستوى الأخلاقي للإنسان، وأن نحرر إنسانيتنا الخيّرة التي لم تزل سجينة في أعماقنا، بقيود الرغائب والشهوات. والإنسان الخير هو الذي يستطيع أن يحرر نفسه من ربقة شهواته؛ وقد اتخذت من رابعة العدوية المثل لذلك الإنسان الخير، وأوجزت فكرتي بلسانها، حيث جاء معبراً عن رأيي، لمَّا قالت لمن أعتقها من ربقة العبودية المادية:

ليس الرقيق حكاية

                        الجسد الذي ما انفك يشرى

 

الرق في الأرواح كان

                        أشد آلاماً، وأضرى

 

عبد المطامع كان أجدر

                        بالرثاء، وكان أحرى..» (ص197)

 

والأولى أن يجيب الناقد على هذه الأسئلة من خلال قراءته للنص، وفعل ذلك كثيراً أثناء نقده مولعاً بعدنان مردم بك إذ رأى أنه «افتن دون غيره بالأفق الإنساني» (ص108)، وكأن غيره لا يعنى بالأفق الإنساني، وأيد رأيه بأقوال مردم بك نفسه: «ومن هنا راح يصطفي منها ما يوفر لمسرحيته وحدة الموضوع، ووحدة العمل المسرحي، وأيضاً وحدة الفكرة من المسرحية..

لنسمعه يقول في رابعة العدوية:

- ... اخترت حقبةً من حياتها، مادة لمسرحيتي، هي الفترة الأولى من شبابها: حين كانت رقيقاً، لأبين مأساة حياة الرق تلك المأساة البشعة التي لم يخل من عارها عصر.. ـ

حتى يقول:

- .. رأيت أن أسطر مأساة حياة الرقيق، لأنها لم تزل تمثل كل يوم، تحت سمع الناس وبصرهم، وأحببت أن أقدم للناس شيئاً من أريج روحانية رابعة العدوية التي فتحت آفاق المعارف الصوفية في محبة الله تعالى هذه المحبة التي هي رسالة التصوف، وكم نحن اليوم بحاجة إلى مثل هذا الحب السامي، بعد أن انهارت المفاهيم الأخلاقية، وطغت المادة على الروح» (ص109).

 

وثالثها مراعاته للعلاقة بالمنتجين والمبدعين أنفسهم، فقد كان ليناً متسامحاً مع القريبين منه مثل نقده لعدنان مردم بك، بينما تبلغ القسوة حداً بالغاً في نقد البعيدين عنه، ولعلنا نعاين بعض الأمثلة من كتابه «الشخصية والصراع المأساوي»، فقد وصف نقد النقاد وبحث الدارسين عن المسرح الشعري العربي بالظلم والجور والتعسف «سواء الأحكام التي تتعلق بالشخصيات أو التي تتعلق بالصراعات في هذه الأعمال الشعرية المأساوية العربية الحديثة»، وتعهد بالرد «على كثير من المزاعم الخاطئة أو الاعتباطية التي كان يدبجها النقاد والدارسون من شخصيات المسرح الشعري العربي أو صراعاته المختلفة» (ص83). ووصف نقد محمد مندور وصفاً في منتهى القسوة دون مسوغ بقوله: «ومثل هذا الحكم الجائر المغلوط فنياً وعلمياً» (ص124)، لمجرد أن مندور لا يتفق معه في نوال العبرة وتحققها، ويشي بذلك تعليله لرأيه:

«ولو أن مندور تأنى في بحثه ونقده، وتدبر على الخصوص مبدأ الفائدة، أو الأثر الهام، أو الاهتمام العام في المسرحيتين كما قلنا، لرأى إلى العبرة تنطق بكل ثقلها في فصول المسرحيتين، واللتين تلاحقان الأسباب المأساوية والبعيدة في صراعات خارجية، وداخلية، متدافعة، متجاذبة..

بعبارة أخرى، التحليل موجود في المسرحيتين، ورسم الشخصيات موجود فيهما.. ألا أن العمل المسرحي في كل من المسرحيتين يقوم على سلسلة من الحوادث، ويشمل عدة قطاعات توحدها الفائدة الواحدة، أو الأثر الهام منها، أو الاهتمام العام الذي تثيره في الشاهدين والقراء..

وكان أولى به أذن أن يقول إن الشخصيات والصراعات في هاتين المسرحيتين هي في معظمها مرسومة من الخارج، وتخضع للظروف القاهرة، من مثل تسمية يحيى ولياً للعهد بفعل كون أمه رومية، ثم ثورة الشعب على هذا القرار، أو من مثل استسلام أبي عبد الله الصغير لإيحاءات العدو، بفعل أسره له، أو تقوّل الانهزاميين، ودسهم.. الخ..» (ص124-125).

 

ونقد عزيز أباظة بقسوة أيضاً، وهو حكم مسبق لا يستوي مع طبيعة النقد، فالنقد ينظر في العمل الأدبي والفني المستحق، ولا يصح للناقد أن يطلب من الأديب أو الفنان أو يصوغ عمله وفق متطلبات الناقد، فقد أطلق أحكاماً بعيدة عن النصوص كقوله: «في حين أن بطولات الشعب المصري في المنصورة، ضد حملة لويس التاسع على مصر، فقد أهملها عزيز أباظة، مؤثراً سيرة الحكم بين شجرة الدر، وأيبك، والثورات المحلية، وعلى الخصوص سيرة الجانب العاطفي، والعائلي بين هاتين الشخصيتين، وهي السيرة التي تنتهي بمقتل إيبك كما رأينا»..

وتبلغ المغالاة في مراعاة العلاقة بالمنتجين والمبدعين حدّها الأقصى في اعتماده أسلوب التفضيل بإطلاقه، فقد فضّل عدنان مردم بك على سواه من شعراء المسرح الشعري العربي، باستخدام مفردة «وحده» أو «وحدها» في قوله:

«ووحده عدنان مردم بك تميز بحرصه على وحدة الموضوع كما رأينا.. ولكن الذي لمسناه في مسرحياته الشعرية المختلفة أن الصراعات فيها ظلت صراعات خارجية صريحة في الأساس، هي كما نقول، صراعات تآمر، وانهزام، واندحار، واستسلام، كما في أبرز مسرحياته: العباسة؛ والملكة زنوبيا، والحلاج، ومصرع غرناطة وغيرها..

ووحدها مسرحية رابعة العدوية تعتبر لوحة إنسانية ذات صراعات مختلفة عن الرق، وعتقه..

إن هذه المسرحية الإنسانية تقوم هي نفسها على أحداث خارجية، من فتنة الشعب بعازفة الناي رابعة في ترددها على المسجد، وولهها في الله، ثم شرائحها، وعتقها» (ص187).

 

ورابعها تحكيم منظوره الأخلاقي في رؤية العمل الفني أو الأدبي معياراً رئيساً من معايير النقد الأدبي والفني، بينما هي مسألة جاوزها النقد الأدبي منذ زمن طويل، ولعل هذه التحكمية من أشد التحكميات المسبقة مجانبة لطبيعة النقد حين يجعل الناقد من نفسه داعية أخلاق، فوصف الحّب بالمدنس أو العقيم (ما لم يثمر عن زواج):

«أو حب الحكم لشفق في الناصر، ,هو حب عقيم لم يثمر عن زواج، إذ كان شفق متحفظة في حبها، بل متناقضة فيه.. ثم تموت شفق غيلة، وتطوى سيرته.. أو حب أبي الحسن لزوجته ثريا الرومية في غروب الأندلس، وهو بالأحرى حب حسي يسلم أبو الحسن بفعله مقاليد أمره لزوجته مما يثير عليه ثورة شعبية تطيح به.. أو حب بيبرس لعلا جارية شجرة الدر، والذي استغلته شجرة الدر فصارت تقرب منها هذا البطل الشجاع الوفي لها، وتماطل في تزوجيه من جاريتها علا، حتى رضخت في النهاية، وجعلت الزواج ثمناً لقتل إيبك، وهو ما يكون.. أو حب ابن سراج لبثينة في غروب الأندلس، وهو حب عف شريف تدنسه الظروف كما سنرى.. هذه المشاهد ناجحة حقاً، وخدمت العمل المسرحي في مختلف تلك المسرحيات المتنوعة الموضوعات» (ص142).

 

واللافت للنظر أن عدنان بن ذريل أثار الأسئلة حول الأخلاق في المسرحية المأساوية دون أن يجيب عليها، لأنه بثّ آراءه في المتن والحواشي:

«الأخلاق هنا حقاً ذات لونية محلية ظاهرة، تعود إلى الموضوع الذي يحتل الساح المسرحية بخصوصياته، ويصبغ هذه الأخلاق بصبغاته، ويجعلها رديفة للعمل المسرحي نفسه.. نعم.. وإذا سألنا أين الشعور بالواجب في المسرح الشعري العربي؟! وأين الشخصيات اليت تقدس الواجب؟! وأين الصراعات الداخلية التي تقوم على الشعور بالواجب؟!. سواء كان هذا الواجب دينياً، أو قومياً، أو أخلاقياً عاماً؟!..

وجدنا بالفعل أن الموضوعات العربية هي من طبيعتها تقوم بالصراعات الخارجية، كما شرحنا ذلك من قبل، والتي بدورها تعكس الصراعات الداخلية، وتبررها، أو تفسرها.. ومع ذلك الشعور بالواجب ظاهر في سلوك كليوباترة، ونتيتاس، وليلى، وقيس بن ذريح، والرشيد، وعائشة، وبدا.. أو أيضاً أنوبيس، وزبيدة، وبن سراج، وموسى بن أبي غسان؛ أو أيضاً منى، وبن الفضل، ورياح، وصديقه شفيق وهكذا دواليك.. إنهم كلهم يعيشون صراعات فترتهم، وبيئاتهم، وصراعات مواقفهم، ولنقل أيضاً صراعات خصوصياتهم..» (ص154-155).

 

2-6- التبسيط والتعليمية:

تتميز كتابة عدنان بن ذريل حتى نهاية سبعينيات القرن العشرين بالتبسيط والتعليمية، فيعرّف ويشرح ويحلل ويقارن، ويبتعد عامداً عن لغة المصطلحات، وإذا استخدم مصطلحاً، فإنه ينهكه شرحاً وتحليلاً مثل معالجته للشخصية، فقد مهّد لذلك بالفصل الثالث عن «الشخصية في علم النفس العام»، ثم تلاه بالفصل الرابع عن «الشخصية المسرحية قديماً وحديثاً»، فأورد تعريفات نقاد المسرح للشخصية، وختم عرضه بالأخذ برأي أحدهم:

«ومن هنا يخلص وليم آرشر إلى تقرير قريب من محاكاة أرسططاليس، ولكنه حديث، هو: أن الموضوع، أو الحدث، أي العقدة، أو الفعل في المسرحية يجب أن يوجد من أجل الشخصية، وليس العكس.. فإذا عكسنا هذه العلاقة، وأوجدنا الشخصية من أجل الحدث، أمكن أن تكون المسرحية لعبة بارعة» (ص60).

 

وعندما أعاد نشر كتابه «فن المسرحية» باسم «فن كتابة المسرحية» ظل محافظاً على أسلوبه التبسيطي والتعليمي، وفعل الأمر نفسه مع الفصل الخامس «المسرحية والمكتسبات الألسنية» الذي أضيف إلى الطبعة الجديدة المعدلة، فلم يوغل في تقانات المنهج اللساني، وعرّف المنهج باستحياء على سبيل الاكتفاء بفكرة عامة عن مكانته في تطور نقد المسرح، وعاد إلى طريقته الشارحة إياها، فوضع حاشية شارحة أخرى:

«- يذهب لينهارت إلى أن العالم المتخيل في الأثر الأدبي هو مجرد بنية للوعي الاجتماعي، وأن الأديب عاجز عن تكوين رؤية للعالم خارجة عن الوعي الاجتماعي، في حين ظل ماشيريه يؤكد أن الرؤية للعالم شيء اجتماعي» (ص81).

 

ولعل حرصه على إعادة نشر تلخيص «كتاب الشعر» لأرسطوطاليس في الطبعة المعدلة مما يشير إلى شهوة التعليم والتبسيط لديه، على الرغم من انتشار الكتاب، وتعدد ترجماته، وتعدد محاولات التعريف به وبمكانته في النقد الأدبي والمسرحي، وقد اكتفى عدنان بن ذريل في هذا السياق بذكر حاشية عن آخر ترجمات الكتاب مثل محمد شكري عياد للكتاب (مصر 1976م)، وآخر شروح الكتاب لسهير العلماوي وسيد حامد النساج وغيرهما (ص96).

 

2-7- الاستطراد:

ثمة ولع بالاستطراد لدى عدنان بن ذريل في كتابته كلّها، فهو سرعان ما يخرج عن الموضوع المعالج إلى أفكار وآراء جانبية أو معلومات وملاحظات شخصية، فقد مهّد في الفصل الثاني من كتابه «الشخصية والصراع المأساوي» لسيرة المأساة التاريخية وفنيتها، ثم انغمر بالمعلومات التاريخية عن المسرح بعامة والكنيسة ومعجزات القديسين والمسرحيات الدينية بخاصة، وما لبث بعد ذلك أن تحدث عن صراعا المسيحية والعرب في فلسطين، واستطراد في سياق حديثه عن فروق المأساة التاريخية الغربية مستوضحاً هذه الفروق بمقارنتها بالمأساة الشعرية العربية:

«وقد افترقوا بذلك عن اليونان الذين كانوا يؤثرون العناية بالحوادث كما افترقوا عن شكسبير نفسه الذي ظل مع الحوادث بشتى لونياتها.. وسوف يفترق عنهم أيضاً من شعرائنا المسرحيين أحمد شوقي، وعزيز أباظة اللذين سوف لا يلتزمان (الأصح لغوياً أن يقول: لن يلتزما) قاعدة الوحدات الثلاث، وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة العمل المسرحي، ليعود عدنان مردم بك إلى الأخذ بهذه القاعدة، وخاصة وحدة العمل المسرحي فيها كما سنرى.» (ص24).

 

كان الكتاب عن المسرح الشعري، ولكنه ذلك لم يمنع عدنان بن ذريل من الاستطراد إلى المسرح النثريفي مواقع عديدة، ولدى حديثه عن «الشخصية في علم النفس العام» في الفصل الثالث من ذلك الكتاب غاص عميقاً في الشروح العلمية التي لا توافي بحثه، وإن كانت مفيدة بذاتها، مثل ذكر المؤثرات العضوية فيما يخص نمو الشخصية (ص38-39)، أو الغوص على سبيل الاستطراد في سمات الشخصية (ص42-43)، وفي طرائق دراسة الشخصية (ص44)، بينما لا يستدعي ذلك دراسة الشخصية في المسرح، لأن الصوغ الفني والفكري للشخصية المسرحية هو الأجدى والأنفع، ولعلنا نورد نموذجاً لمثل هذه الاستطرادات العلمية في حديثه عن المرض النفسي والعقلي:

«والمرض النفسي وهن في الأعصاب عن تحمل الحياة، وواجباتها، أو عن تحمل مشاقها، أو مواجهة مشاكلها؛ ولذلك يسمى عصاب نسبة إلى الأعصاب. إنه قابلية للإيحاء، وعدم مقاومة ذاتية، يظهران على شكل شعور بالعجز، والإعياء؛ والإنهاك، وأيضاً الخوف، والاضطراب، ثم القلق، والتشتت وغيرها مما يترجم إلى نكوص، أو هياج، أو تفكك.. ويمكن مداواة المرض النفسي، بواسطة الإقناع نفسياً واجتماعياً. وذلك بتطمين المريض المتهيج، أو المنهار المشتت، على حالته، وعلى المشاكل التي تقلقه، وتخيفه، مع مساعدته على حل هذه المشاكل المختلفة. وعندما يعتقد المريض ببطلان شعوره المرضي، وبطلان قلقه وخوفه، وبطلان همه ووسواسه يتغلب شيئاً فشيئاً على وهنه، وإنهاكه، وتهيجه، ونكوصه.» (ص53).

 

لقد أولع عدنان بن ذريل بالاستطراد مما يناسب ثقافته الموسوعية الواسعة الفكرية والفنية، ففي الفصل الثاني «الشخصية والطباع» من كتابه «فن كتابة المسرحية» تجوال معرفي في الحديث الشارح الموجز عن الشخصية والطباع والمسرح واشتراطات الشخصية والصراع، وتداخل ذلك مع الاستطراد إلى رأي أرسطو طاليس في المأساة (ص20) والمأساة في المسرح اليوناني (ص21-22)، ثم عاد إلى شرح الشخصية لدى إيجري (ص23-24)، وختم الفصل برأي علي الراعي (ص25) دون رأيه، وكأن بحثه عرض لهذا الرأي بالذات:

«وقد ذكر الدكتور علي الراعي أنواعاً من نماذج حديثة في تصوير الشخصية المسرحية، هي: رسم الشخصية من الداخل، ورسمها من الخارج، ورسمها رسماً متكافئاً.. يقول علي الراعي في النموذج الأول إنه ينظر إلى الشخصياتا على أنها نفوس، وأرواح: ويدل على ذلك بمثال تحليل نفسي من مسرحية: الآنسة جولي، لستريندبرج. وأما النموذج الثاني، فينظر إلى الشخصيات على أنها تجسيد لأفكار ومعان؛ إذا هي تصارعت، واصطدم بعضها ببعض، فهي حركة فكرية، وبين عقول.. وقد دلل على ذلك بمثال فكري من مسرحية: كانديدا، لبيرناردشو.. في حين أن النموذج الثالث يوازن بين الحياة الداخلية، والحياة الخارجية للشخصية، مع اتخاذ بعض المظاهر الخارجية رمزاً لما يجري في النفس.. وقد دلل على ذلك بمثال من مسرحية: بيت الدمية، لإبسن. ويلاحظ علي الراعي على هذه النماذج والأمثلة عليها أن بعضها ينفذ إلى البعض الآخر، كما يلتقي بعضها بالبعض الآخر؛ وأن معالجتها انعكست على الحوار والسرد والأسلوب.» (ص25).

 

ولا يقف الاستطراد عند عدنان بن ذريل عند حدود المتن، بل يمدّه إلى الحواشي، كما في متن الفصل الثالث «الفصول والمشاهد وأغاني الجوقة» وحواشيه، فأضاف إلى المتن في هذه الطبعة المعدلة اصطناع - بتعبيره - علي عقلة عرسان «للجوقة في مسرحية «الفلسطينيات»، والجوقة فيها عاملة أيضاً، وتظل وراء تطوير العمل المسرحي» (ص70)، وأضاف إلى الحواشي إحالة إلى كتابه «رواد المسرح السوري»، وتقسيم خالد محي الدين البرادعي مسرحيته «جزيرة الطيور» إلى اثنتي عشرة ليلة يروي الراوي في كل ليلة منها قصة المسرحية حتى النهاية (ص71).

 

2-8- النظرة الفلسفية:

غلبت النظرة الفلسفية على كتابة عدنان بن ذريل المسرحية البحثية والنقدية في مراحله كلّها، وفق تطور فكر الفلسفي، إذ بدأ مثالياً متأثراً بالفكر الأرسطي اليوناني، ثم صار إلى المثالية الجدلية متأثراً بالهيجلية، ثم تسربت أمشاح من الوجودية والمناهج المعرفية الحديثة في مراحله الأخيرة.

وتظهر معالم المثالية في كتابه «فن المسرحية مع تلخيص حديث لكتاب الشعر لأرسططاليس»، وظلت بقايا من هذه المثالية في مراحله التالية، وإن خالجتها الجدلية، أو مازجتها النزعة الأخلاقية، أو تخللتها ظلال الظواهرية، فقد أعاد طباعة كتاب «فن المسرحية» معدلاً دون مساس بجوهره الفلسفي بعد أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، فكتب عام 1963 في الطبعة الأولى:

«يرى أرسططاليس أن الشعر بأنواعه محاكاة لأعمال الناس، أي أنه من حيث طبيعته تقليد أو نسخ. ويرى أن وظيفة المأساة، وإلى حد كبير الملحمة أيضاً، تطهير الأهواء، بما تثيره المأساة، أو أيضاً الملحمة من خوف، وشفقة.. والشعر عنده أكثر من فلسفية من التاريخ، لأنه يسعى وراء الحقائق العامة. بينما يتقيد التاريخ بالجزئيات. وقد أجاز في المأساة التزويق والخيال، في الحقيقة التاريخية، شريطة عدم الإسفاف، وذلك في هدي الضرورة، والإمكان، في المحاكاة، والتصوير.» (ص122).

 

وحافظ على الرأي نفسه وإيمانه به في الطبعة الثانية عام 1996:

«وهذه الاعتبارات دفعت أرسططاليس إلى إباحة التصرف في المسرحية بالمعطيات التاريخية.. فليس على الشاعر أن يقص الأشياء كما وقعت فعلاً؛ وإنما عليه أن يصف التي كان من الممكن أن تقع، أي عليه ذكر ما هو ممكن وقوعه، إن كمحتمل، أو كضروري.. وعلى هذه الشاكلة، راح أرسططاليس يميّز بين التاريخ وبين الشعر؛ الأول يروي ما حدث؛ والآخر يروي ما يحتمل أن يحدث.. والشعر بالتالي شيء أكثر بداعة من التاريخ، وأكبر قيمة منه لأن الشعر يضطلع بالحقيقة، ويروي الكلي؛ بينما يضطلع التاريخ بالخصوصيات، ويروي الجزئي.» (ص117-118).

 

وتظهر عناية بالمثالية الجدلية في غالبية مؤلفاته الصادرة في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، فليس هناك إنشاء لغوي مجرد أو تحليل فني لذاته، معتمداً على المنطق والعقلنة والموضوعية ودقة التعبير بما يظهر النظرة الفلسفية المنشودة، كما في هذا الشاهد من كتابه «الشخصية والصراع المأساوي» المخصوص بتحليل مسرحية عزيز اباظة «شجرة الدر»:

«والمسرحية بعد ذلك كله واسعة الفائدة، متشعبة المسالك، تحوي على عدة موضوعات ملحمية، عالجها عزيز أباظة بروح احتفالية ملحمية واضحة.. ومن هنا كان الشعور القومي في شخصياتها مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالزمان، والمكان، وعلى الخصوص بالمواقف الشاقة، التي كان يعيشها المماليك وقتها في مصر والشام، والتي جعلت الأثرة، والمصلحة الذاتية، والطمع في الحكم، والتنافس عليه تمازج الشعور القومي، وتفسده..» (ص151).

ذلكم هو شيخ النقاد في سورية عدنان بن ذريل، رائداً ومجدداً، في أن يصير النقد المسرحي إلى قعالية ثقافية مفعمة بالفلسفة والحكمة والحضارة وفهم الظاهرة الفنية والأدبية في قلب ذلك كله.

 

3

فرحان بلبل ناقداً وباحثاً مسرحياً

اقترن البحث المسرحي عند فرحان بلبل بممارسته مبدعاً في التأليف والإخراج في مرحلته الأولى حتى أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وقد استمرت هذه المرحلة قرابة عقدين من الزمن، ثم غلبت على مرحلته الثانية طوابع الباحث المنهجي، واستقراء فكرة المسرح وغلبة الموضوعي على العقائدي. وظلت خصائص بحثه ونقده لم تتبدل في جوهرها، ولاسيما ذلك التبشير العقائدي على الرغم من المتغيرات العاصفة خلال عقد الثمانينيات على وجه الخصوص.

 

1ـ التوصيف:

رافق بلبل تجربته المسرحية بالبحث والنقد منذ سبعينيات القرن العشرين حين شارك لأول مرة مؤلفاً ومخرجاً لفرقة المسرح العمالي بحمص في مسرحيته «الحفلة دارت في الحارة» في مهرجان الهواة (1971)، وإن كانت شهوة البحث والنقد الأدبي ملازمة له، إذ نشر آنذاك بعض البحوث والمقالات في نقد الشعر، وما لبث أن انخرط في تجربته المسرحية منظراً ومتأملاً في الرؤى الفكرية والفنية لجوانب متعددة من الظاهرة المسرحية العربية، بل إنه انغمس لفترة غير قصيرة بالنقد التطبيقي للعروض المسرحية، وقد اختار من كتابات تلك المرحلة محتوى كتابه «المسرح العربي المعاصر في مواجهة الحياة» (دمشق 1984)( )، وخاض بلبل غمار البحث العلمي في المسرح عندما درّس مادة الإلقاء في المعهد العالي للفنون المسرحية، وكانت حصيلته كتابه المتميز «أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي» (دمشق 1991)، وعمد بعد ذلك خلال تسعينيات القرن العشرين إلى تأريخ التجربة المسرحية في سورية في تاريخها البعيد في كتابه «المسرح السوري في مئة عام 1847-1946» (دمشق 1997)، ونظر عميقاً في «المسرح التجريبي الحديث عالمياً وعربياً» (القاهرة 1998)، وقرأ الأدب المسرحي في سورية قراءة نقدية في مقالاته وأبحاثه في «الحياة المسرحية» (لأعداد 3 خليل هنداوي، 4 و5 و6 مراد السباعي، 7 و8 وليد إخلاصي، 9 حسيب كيالي، 17-18 رياض عصمت، 45 سعدالله ونوس...الخ)( )، مما لم يجمعه في كتاب بعد، وقام بمراجعات متعددة في المسرح العربي منذ النشأة حتى اليوم، عن تناول «المادة التاريخية في المسرح العربي»، و«نشأة النقد المسرحي العربي وتطوره»، و«المسرح العربي: كيف بدأ وإلى أين انتهى»، و«المسرح الذي كتبناه: موقعه ومصيره»، وهو كتاب معد للطبع.

 

2ـ المرحلة الأولى:

عرفت بلبل منذ بداءة تجربته مبدعاً وإنساناً، وعايشت حماسته مسرحياً جعل من فرقة المسرح العمالي بحمص مختبراً للفن والتجربة بمعناهما العميق الذي يعتمل فيه المسرحي بشواغل الثقافة الجماهيرية وتوجهاتها الفكرية والوظيفية وتلمس طرائق جديدة لمخاطبة الجمهور والتأثير فيه، وتتبعت خطواته واجتهاداته عن كثب محاوراً دواعي اشتغاله ومنظوراتها وأساليبها وتطلعاته، وكتبت ناقداً عن أعماله نصوصاً وعروضاً إبان عقد تألق المسرح في سورية، وأعني به عقد سبعينيات القرن العشرين، إذ ما لبث أن دوهم المسرح بعوامل ومتغيرات ضاغطة داخلية وخارجية،حدّت من مكانته داخل أجهزة الثقافة الجماهيرية تبدلاً في إدارته وتخديمه وسيرورة تشريعاته وعمل مؤسساته وقنواته إلى مصاعب ارتياد جمهوره إلى أماكن عرضه وتقلص مساحته الاجتماعية أمام عشاقه من مشتغليه إلى متلقيه، فيما شهدته سورية من إرهاب الهجمة الرجعية حتى منتصف الثمانينيات، فتقلصت التظاهرات والمناشط، وتعطلت القنوات أو كادت، وخملت الثقافة والتثقيف في ميادينه، وتراجع التأليف، على الرغم من تعدد روافده العلمية، وانتظام نظرة الدولة إليه خدمة ثقافية ووسيلة حية من وسائل الاتصال بالجماهير، وكنت دونت تألق المسرح في كتابي «التأسيس: مقالات في المسرح السوري» (دمشق 1979)، وعانيت صعوباته المتفاقمة في كتابي «الإنجاز والمعاناة: حاضر المسرح العربي في سورية» (دمشق 1989)، ويوجد في الكتابين مقالتان عن فرحان بلبل:

ـ «لا تنظر من ثقب الباب: الميلودراما وتنازع الأساليب المسرحية» (ص127-140).

ـ «لا ترهب حدّ السيف: الأمثولة والتفكير الشعاري» (ص252-258).

وثمة كتابات أخرى كثيرة عن شغله المسرحي، ماتزال مبثوثة في الدوريات. وسأنظر في كتاب «المسرح العربي المعاصر في مواجهة الحياة» نموذجاً لمرحلته الأولى.

 

2ـ1ـ الكتابة من داخل التجربة:

حرص بلبل في كتابته دائماً على رؤية المسرح من داخل تجربته بخاصة، والتجربة المحلية والعربية بعامة، التماساً لوعيها الفني والتاريخي دون أن يعنى بالقضايا النظرية أو التطبيقية لذاتها. وقرن هذه الكتابة بمسعى صريح هو «محاولة صياغة بعض الأسس والقواعد في الفن المسرحي، من خلال ما هو كائن عليه مسرحنا، وما نحلم به أن يكون» (ص5)، وارتهان ذلك بشواغل الهوية المؤرقة، «فليس المهم أن نعرف فنّ المسرح، وأن نضع له النظريات، بل المهم أن نجعل مسرحنا يحمل هويتنا، وأن توضع أصوله وقواعده في بوتقة أوضاعنا وذوقنا الجمالي، بحيث تخرج من بين أيدي رجالنا المسرحيين وكأنها مخلوقة خلقاً جديداً نابعاً من خصائص الأرض وسمات الوطن ونفحات العروبة» (ص5).

 

أقر بلبل أن بحوثه حصيلة أعوام طويلة من ممارسة العمل المسرحي ومعايشته وملاحظته (ص6)، ولطالما أمعن في نقد المسرح المحلي من منطلقات خبرته مؤلفاً ومخرجاً ومدير فرقة، أي منطلقاته «مسرحياً» تتلاقى في خبرته جوانب العمل المسرحي كلّها، وهذا واضح في نقد التطبيقي لأبرز عروض المسرح الرسمي والمسرح الخاص، مما اختاره من عشرات المقالات على سبيل المراجعة أو المتابعة مشفوعة بشواغله الرئيسة حول المسرح المنشود برأيه، وأكتفي بذكر خصيصتين لذلك، الأولى الحرص على الجماهيرية، والثانية التبشير العقائدي فيما يناسب المقام أو لا يناسبه، وعلى الرغم من معالجته للمسرح والجمهور في بحث كبير، تناول فيه علاقات المسرح بالجمهور، ولاسيما عقباتها ودليلها، وخصوصية المسرح وعمومية الجمهور، وعلى الرغم من تمحيصه لتجربة فرقته المسرحية، فرقة المسرح العمالي بحمص في مواجهة الجمهور في بحث كبير أيضاً، إلا أنه لا يغفل عن قضية الجماهيرية في كتاباته كلّها، بل جاوز اهتمامه بهذه القضية إلى الارتهان المسرحي بتحققها، ولنتأمل هذا الشاهد من رأيه بالمسرح التجاري، والتسمية بذاتها موضوع اختلاف:

«وتزداد خطورة هذا الموقف الطبقي للمسرح التجاري، إذا تذكرنا أن العمال والفلاحين صار لهم دورهم الكبير على صعيد المجتمع والسياسة. وصاروا يسعون إلى تغيير البنية الاجتماعية، مما يجعل العداوة سافرة بينهم وبين خصومهم الطبقيين من البرجوازية الصغيرة وبقايا الكبيرة. فيكون الضحك (عليهم) أداة حرب عليهم وسخرية من محاولاتهم وإحباطاً للدور الاجتماعي الذي يريدونه. وهو في الوقت نفسه أداة إقناع لكل من الطرفين المتخاصمين أن لا يتخطى أحدٌ منهما مكانه. فحق ابن الشعب أن يكون محل الهزء والسخرية وليس له أكثر من هذا، وحق البرجوازي أن يضحك ويسيطر وليس له أقل من هذا.

 

قد يكون هذا الكلام غريباً ومفاجئاً ومؤلماً. لكني أرجو من القاريء أن يراجع النماذج الإنسانية التي رأها في المسرح التجاري، وأن يسأل نفسه: هل تؤدي هذه النماذج إلى احترام ابن الشعب باعتباره القاعدة الصلبة للبنيان الاجتماعي والمرتكز الأول للتضحية في سبيل الوطن، والمهيأة لقيادة المجتمع؟ أم تؤدي هذه الاستهانة إلى انتزاع دوره النضالي الذي قام به منذ أيام الانتداب الفرنسي حتى الآن، وإلى تجريده من الفعالية الاجتماعية؟ وهل تدفع ابن الشعب إلى التطور وفهم الواقع، أم تحكم عليه بالجهالة والتخلف؟

قد يسأل سائل بعد هذا: أيجب إلغاء هذه المسرحيات الخفيفة الضاحكة؟ فأقول: لا. لكن يجب أن تخضع لمراقبة شديدة، وأن تنال المساعدة المالية والفنية اللازمة حتى لا يحتج أصحابها بضرورة الكسب المادي للعيش. وأن توجه لتخدم التطور والتقدم. وعند ذاك تصبح استراحة حقيقية للتخفيف من عناء العمل، كما تساهم في بناء المجتمع من خلال النكتة والضحكة، أو تمنح المرح دون أن تنقض بنيان المجتمع.» (ص32-33).

 

وعندما يكتب بلبل نقداً تطبيقياً لعرض ما، فإنه يطوّع عناصر نقده كلها لقضية الجماهيرية، ويحكم على المشهدية برمتها من خلال علامات التلقي الجماهيري، وقد يصير معه النقد التطبيقي، بتأثير هذه القضية، إلى أحكام قاسية، تلغي معها العمل الفني ومؤسسته أيضاً، كما في رأيه حول عرض «موليير» التي أخرجها حسين إدلبي للمسرح القومي في موسمه 1974-1975:

«ولكي يحقق المخرج نجاحه فقد لجأ إلى وسائل المسرح التجاري، فاعتمد على أناقة الثياب ـ ولا بأس بالشفاف منها ـ واعتمد على التهريج. وإذن، فإن الإقبال الجماهيري ليس دليل نظافة في العرض المسرحي، وليس دليلاً على وعي من المسرح القومي للتعامل مع الجمهور، وإنما هي محاولة لسرقة الجمهور من المسرح التجاري. فكأن الجمهور مخدوع مرتين. وبعد كل هذه الضوضاء، كان المخرج ـ ومعه المسرح القومي ـ كالمنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى» (ص60).

 

أما التبشير العقائدي فهو متغلغل في بنية كتاباته حتى النخاع، فهو مولع بالمسرح الاشتراكي، وهو مصطلح ملتبس أيضاً، وقد بلغ ولعه حداً يطلق أحكاماً تفتقر إلى الملموسية الواقعية والفكرية في وعي المسرح وهويته وفهم تجربته بعد ذلك، فرأى أن هوية المسرح العربي متعذرة «مادام الوطن العربي مقسماً إلى هذه الدويلات التي تحجرت حدودها واستغلظت تخومها» (ص177)، وجعل الهوية رسماً سياسياً جغرافياً على الأرض وخريطتها، لا قضية فكرية وفنية، فكان أن أطلق آراءه «الغريبة» عن وجود «هوية مسرحية واحدة» لقوميات الاتحاد السوفييتي، ووجود «هويتين مسرحيتين» للمسرح الألماني، كما في قوله:

«وللمقارنة فقط، نذكر أن الاتحاد السوفياتي مثلاً، رغم تعدّد قومياته ذو هوية مسرحية واحدة نظراً لوجود التكامل الاقتصادي والجغرافي فيه، بينما لا نجد هذه الهوية الواحدة للمسرح العربي رغم انتماء العرب إلى قومية واحدة حية قوية. ونذكر أيضاً أن الولايات المتحدة ذات هوية مسرحية واحدة أيضاً رغم الاختلافات الكثيرة بين الولايات أو بين شمال البلاد وجنوبها، بينما نجد المسرح الألماني يحمل هويتين مسرحيتين تبعاً لانقسام الألمان ـ وهو شعب واحد قوي قادر ـ إلى دولتين تتخذ كل منهما أسلوباً خاصاً في الفكر والسياسة والاقتصاد. ولذلك يبدو من الواضح الجليّ أنه بمقدار ما تلغى الحدود بين الأقطار العربية، وبمقدار ما يتكامل الاقتصاد العربي، يقترب المسرح العربي من وضوح الهوية وبروز الشخصية» (ص177-178).

 

ولعلنا نورد أمثلة أخرى لهذا التبشير العقائدي في نقده التطبيقي، فهو لا يعالج مسألة فكرية أو فنية دون إخضاعها للحديث عن الاستعمار والإمبريالية والنظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، فهذه مسرحية «زيارة السيدة العجوز» التي ألفها فريد ريش دورنيمات وأخرجها علي عقلة عرسان للمسرح القومي في موسمه 1970-1971 «تحلل نظاماً وتفضح قارة»، فالمسرحية عنده «تحلل النظام الرأسمالي من أبسط علاقاته الاقتصادية وحتى أكثرها تعقيداً. وتشرح انعكاسات هذا النظام الاجتماعية والفكرية والأخلاقية. وتشرح، من خلال هذه العملية المعقدة، الموقف الحضاري لأوربا الغربية وامتدادها المتضخم إلى حد سرطاني: أمريكا. وهذه النظرة المتكاملة هي التي تعطي المسرحية قيمتها الشمولية والآنية. ومن هنا مشقة أدائها وإخراجها في آن معاً» (ص44).

 

وأسقط بلبل في نقده لمسرحية «العنب الحامض» التي ألفها فيجو يردو وأخرجها علي عقلة عرسان للمسرح القومي في موسمه 1971-1972 (كانت إعادة آنذاك) مفاهيم وأفكاراً مغالية توغل بعيداً في التبشير العقائدي، كما في نقده:

«بهذا الشكل تأخذ المسرحية صفتين تعتبران قوام كل أدب خالد، هما الشمول والآنية. أما الشمول فحين تتحدث عن شوق الإنسان الأبدي إلى الحرية. هذا الشوق الذي ظل أبد الدهر دافعاً جباراً يحرّك الثورات في وجه الطغاة والمستبدين. وأما الآنية فحين تُلْمِحُ إلى واقع سياسي معاصر، وإلى حالة معينة من حالات تفتيش الإنسان عن الحرية، تتمثل في تبيان علاقة الحكومات المستبدة بالشعوب المستضعفة. بل أنها ترجع إلى الجذور التاريخية للاستعمار الحديث لتكشف ما في الحضارة الغربية من زيف استطاعت بواسطته فرض استغلالها على الشعوب. فنحن نعلم أن أوربا ـ ومن بعدها أمريكا ـ إنما فرضت استعمارها تحت ثوب براق من ادعاء نشر الحضارة، لتحويل عملية الاستعمار من لعبة مكشوفة مفضوحة، إلى رسالة إنسانية وواجب حضاري. ولعبة كهذه، مازلنا نجد أوقح أشكالها حين تدّعي اسرائيل أنها رسول الحضارة إلى الشرق الأوسط المتخلف.

 

ونحن نعلم أيضاً، أن هذا الثوب البراق يخفي تحته ارتباط النظام الرأسمالي بالتفاوت الطبقي، هذا الارتباط الذي يصل بالنظام الرأسمالي إلى أعلى مراحله، وهو الاستعمار ثم الإمبريالية» (ص49-50).

 

ثم بلغت المغالاة حدوداً قصوى في مقالات نقدية تطبيقية أخرى تصل إلى حدّ إدانة المؤلف والمخرج والمؤسسة المسرحية، كما في نقده الغاضب لمسرحية «الزير سالم» التي ألفها ألفريد فرج وأخرجها رفيق الصبان للمسرح القومي في موسم 1971-1972:

«وقد يكون للمسرحية قيمة إذا كان كاتبها غير عربي. أو إذا قدم مسرحيته في إحدى بلدان العالم الرأسمالي. وإذن لكان موقفه منسجماً مع دعاوات النظام الرأسمالي المثاليّة التي تطالب الشعوب المستضعفة بإدارة الخد الأيمن لمن ضربك على خدّك الأيسر، أو منسجماً مع أدباء النظام الرأسمالي الناقمين عليه، لأنه ساق العالم إلى حربين مدمّرتين. أما عندنا ـ ونحن شعب مهزوم أكثر من مرة، ومسلوب الأرض والحق في أكثر من موضع ـ فإننا بحاجة إلى القتال وإلى من يدفعنا إليه، ويحرّض شبابنا على الاستماتة في ميادينه. ولا نريد من يقنعنا بالأخوّة (الإنسانية) حتى لا ندير للعدو خدّنا الأيمن بعد أن أشبع خدّنا الأيسر صفعاً ولكماً.

وهذا العرض المسرحي مفصل تماماً لجمهور البرجوازية المثقف الذي يناقش (أجلّ) الأفكار والنزعات (الإنسانية) وهو (ينكش) أسنانه بعد عشاء دسم. و(يحلّق) سامياً فوق المعاناة المحلّية. وهذا العرض المسرحي يعود بالمسرح القومي إلى أصله الأول، ويتوجه إلى هذه الفئة (المختارة)، وليذهب الواقع الاجتماعي والسياسي والعسكري إلى الجحيم» (ص69-70).

 

2ـ2ـ التطلع لمثال مسرحي:

آمن بلبل بمثال مسرحي، وتطلع إليه على الرغم من تأبيه على الواقع واستحالة تحققه الفكري والفني، وقوام هذا المثال تفكير أخلاقي وسياسي ينظم رؤيته المسرحية مما أورثه تنازعاً بيناً بين الواقع والمثال، وحيرة عميقة بين المطلق والمتغير، بين الذات والتاريخ، بين الفرد والطبقة..الخ.

تعلق بلبل بالفكر الاشتراكي، فجعل مسرحه وكتابته عن المسرح دعوة إلى الاشتراكية، ومثّل لدعوته فنياً بالتزام مذهب الواقعية الاشتراكية في الوقت الذي كان هذا المذهب يواجه تغيرات عنيفة داخل بيئته الأولى والكبيرة: الاتحاد السوفييتي، وفي البيئات الأخرى مثل فرنسا والدول الاشتراكية الأخرى( )، وفهم بلبل تطور المسرح وديمومته وفاعليته على هذا النهج المستند إلى النقاط التالية:

الأولى: «إن البنية الفنية للمسرحية كانت تتغير مع تغير الطبقات، وبذلك لم يدخل المسرح قانون الصراع الطبقي فحسب، بل كانت بناه الفنية وأساليبه وأشكاله تنسجم مع هذا الصراع، وتعبر عنه» (ص146).

 

الثانية: «هي أن نماذج الشخصيات كانت تتغير مع تغير الطبقات السائدة، فمن الأبطال أنصاف الألهة إلى السادة النبلاء إلى البرجوازيين الكبار والصغار إلى العمال والفلاحين. وهذا أمر طبيعي أيضاً، فإن كل طبقة تريد أن تثبت مفاهيمها، وترسخ تقاليدها، وتؤكد دورها الاجتماعي والسياسي، ولا يمكن أن يقوم بهذه المهمة إلا شخصيات منبثقة عنها» (ص147).

 

الثالثة: «هي أن مسرح الواقعية الاشتراكية هو مسرح المستقبل، لأنه يدافع عن طبقة تقدمية صاعدة هي طبقة العمال والفلاحين» (ص148)، و«كما أن مسرح الواقعية الاشتراكية وريث كل القيم النبيلة، فإنه أيضاً وارث لكل الأشكال المسرحية السابقة» (ص150) و«بسبب هذا الإرث الكبير والحرية الواسعة، نجد تغريب بريخت إلى جانب كلاسيكية الكسي أربوزوف في بعض وخروجه عنها في البعض الآخر. وقد نجد الكاتب الواحد يستخدم أسلوباً جديداً في كل مسرحية. وإضافة إلى هذا، ليس على الكاتب أن يقلد أحداً سبقه، أو أن يقول: إن هذا الأسلوب هو الأسلوب الوحيد. ولذلك قلنا عن مسرح الواقعية الاشتراكية: إنه مسرح المستقبل» (ص151).

 

لا أريد أن أناقش نظرة بلبل وما تتضمنه من أحكام لا توافي تاريخ المسرح أو التاريخ الأدبي كالحديث عن كلاسيكية أربوزوف، أو الحديث عن وراثة الواقعية الاشتراكية لكل الأشكال المسرحية السابقة، أو الحديث عن الواقعية الاشتراكية مذهباً محدداً أو دقيقاً أو غير ملتبس على الأقل، بل إنني أوردت هذا الرأي نموذجاً لتلك الحيرة ولذلك التنازع مشدوداً لمثال مبهم أو غامض، ومسلح بتفكر الإخلاقي والسياسي الصلب، بما يرقى بهذا المثال إلى رتبة الإيمان، وبذا يغدو كل ما جانب هذا الإيمان عند بلبل إثماً، بتعبير القديس أوغسطين.

 

ولعلنا نلاحظ أصداء لذلك في معالجته لقضايا المسرح جميعها متجلية في لغة شعارية مشبعة بالأحكام القيمية المطلقة: هل تقترب صور المسرح من المثال أم لا؟ فقد ناقش، على سبيل المثال، تأصيل المسرح العربي، فجزم بانعدام التراث المسرحي (ص166)، وهي فكرة تتردد في أبحاثه ومقالاته على الدوام مثما هي موضع اختلاف في الرأي، وعدّ الصراعات السياسية والفكرية الأساس في التأصيل، إذ ينقسم رجال المسرح إلى قسمين متقابلين:

«الأول: يقف فيه أصحاب المسرح (البرجوازي) الذين يخدعون الجمهور عن قضاياه وعن صراعه مع الاستغلال والاحتلال. ويضم هذا القسم مجموعة ضخمة تبدأ من تجار المسرح الذي حوّلوه إلى ملهى يمتع ويلذّ بأسوأ أنواع المتع وأشدها ابتذالاً، وينتهي بأصحاب المسرح (الطليعي) الذي (يتسامى) فوق الجمهور ويتجه إلى النخبة، مروراً بالمسرح الذي يدّعى أنه إنساني فيعرض لنا المسرحيات العالمية الرائعة التي تناقش أموراً إنسانية عامة لا تمتّ إلينا بصلة، ولا ترتبط بواقعنا، وليست مهمتها إلا صرفنا عن التفكير في حياتنا» (ص164-165).

 

«الثاني: يقف فيه الذين يريدون لهذه الأمة أن تسير في طريق الاشتراكية، وأن تحدّد لنفسها هويتها. وهو ينطلق من الواقع دراسةً وتحليلاً، ويقدمه إلى الجمهور ليحرّضه ويعلّمه. وهو لذلك مضطر إلى إيجاد الأشكال الفنية الملائمة لمضمونه الواقعي التحريضي التعليمي. وبهذه الطريقة وحدها تتوضّح لمسرحنا تقاليد وأشكال فنية تنبثق عن مضمون الواقع الاجتماعي، وتبرز وجودنا القومي والإنساني. وهذه هي الهوية.

 

ولاشك أن القسم الأول هو الأقوى الآن لأنه هو الذي يملأ الساحة. ولاشك أيضاً في أن عناصره تقف متكاتفة في وجه القسم الثاني رغم ما بينها من خلاف ظاهري يجب أن لا ننخدع به. وهو الذي يعطي مسرحنا هذا التشويه. لكنه بالتأكيد سيصير إلى ضعف وانعدام. وبالتأكيد سينتصر القسم الثاني لسبب بسيط جداً هو أن العرب أنفسهم يسيرون في طريق إثبات وجودهم المادي الحضاري، ويصارعون مظاهر التخلف والاستغلال. والمسرح يعبر عن هذا الصراع بما فيه الآن من حدّة وقوة، وبما سيصير إليه من انتصار» (ص165-166).

 

ثم يظهر التنازع على أشده والحيرة ساطعة في نفيه للتراث المسرحي العربي ودعوته في الوقت نفسه إلى المحافظة «على الأصول المسرحية التي هي عماد هذا الفن. لكن يجب أن نضعها في أشكال منبثقة عن مضموننا نحن وواقعنا نحن. ولن تكون هذه العملية سهلة أو سريعة، بل سوف تمرّ بفترة طويلة وشاقة قبل أن تترسخ لنا هذه الأشكال الخاصة بنا» (ص166).

 

2ـ3ـ الدأب على الاجتهاد:

عني بلبل بفكرته عن المسرح في جهادها الثقافي (انتظامها في الأنساق الثقافية على الرغم من جزمه بالقطيعة الثقافية العربية التاريخية والمعرفية مع فنون المسرح)، وفي بيئتها الثقافية (انتظامها جهاز تثقيف ووسيلة اتصال بالجماهير مؤثرة وفاعلة في التكوين الإنساني النبيل على الرغم من رهن هذه الممارسة بالتطلع إلى مثال مرتجى أو مشتهى). وتبين أقسام كتابه المذكور طوابع هذا الدأب على الاجتهاد في مقايسة فكرته عن المسرح على الواقع المسرحي أو تجربته المسرحية على وجه الخصوص، فنظر في القسم الأول إلى الحركة المسرحية في سورية، وعالج في القسم الثاني المسرح والجمهور، وتأمل في القسم الثالث بعض القضايا النقدية المتعلقة بتأصيل المسرح العربي مثل هوية المسرح العربي وشخصية المؤلف المسرحي العربي وتأثره بالتيارات المسرحية العالمية والاتجاهات الفكرية في المسرح العربي، وعاين في القسم الرابع والأخير تجربة فرقته، فرقة المسرح العمالي بحمص في مواجهة الجمهور من خلال تطبيق عملي.

 

اتسمت نظرة بلبل إلى مشكلات المسرح بالنقد وبالبحث عن حلول، بل إن النقد امتد إلى ضرورة توافر ـ برأيه ـ التوجيه الأدبي، وهو من طوابع التجربة السوفيتية في إدارة الأدب والأدباء بما يستلزم من رقابة ووظيفية مباشرة وتخطيط لأجناس الكتابة وموضوعاتها وأساليبها، وأذكر مثالاً لذلك حديثه عن العقبات التي تواجه المسرح الجماهيري، وقسّمها إلى أقسام ثلاثة رئيسة، قسم يتعلق بالجمهور نفسه، وقسم يتعلق بالتأليف أو المؤلف، وقسم يتعلق بالإخراج أو المخرج، ولنأخذ خلاصة توجيهه في نهاية نقاشه لكل عقبة:

«إن الجمهور لا يعرف، وعلينا أن نعلمه. وهذا يقتضي منا أن نصبر عليه قليلاً، وأن نأخذه بشيء من حزم المعلم أمام طلابه وجبه لهم. وهذا التعليم لا يتم بين يوم وليلة. إنما يتم بالتأكيد وفي زمن قريب» (ص118).

 

«وأنا أقول لكتابنا: استغرقوا في المحلية، وخذوا شخصياتكم من صميم الواقع، ولا تهتموا بالعالمية. صوّروا الإنسان العربي العادي في مجتمعه، واذكروا قول بريخت (إنني لا أريد لمسرحياتي أن تعيش أكثر من عشرين عاماً) وعندها سوف تعيش مسرحياتكم طويلاً كما عاشت مسرحيات بريخت، وكما عاشت كل اآثار الأدبية التي صورت واقعها بصدق» (ص123).

 

«ولاشك في أن هذه النقطة الثانية لتعامل الإخراج مع النص المسرحي هي مفتاح عظمة المسرح، وهي المهمة الأولى للمخرج، والتي من أجلها تكون له (وجهة نظر) يدير العمل المسرحي على أساسها، ويسوق كل أجزائه إلى نقطة معينة. وهي التي تحقق لجمهورنا الاطلاع على التراث المسرحي الإنساني الذي لا يمكن تجاهله والذي لابد منه. ولاشك أيضاً أن عدم الانتباه إلى هذا الأسلوب الفني هو الذي جعل المسرح الأجنبي قاصراً على النخبة المثقفة، وجعل بعض النقاد والمسرحيين يتهمون الجمهور بعدم الفهم. ولاشك أيضاً أن الانتباه إلى هذا الأسلوب الفني يدخل ضمن (تعليم) الجمهور لفن المسرح.

 

إن هذه العقبات الثلاث هي التي توقع مسرحنا في تخبطاته. وحينما نتجاوزها فسوف نخلق المسرح الجماهيري الذي يلتزم بالجماهير، ويقوم بدور فعال في المجتمع والحياة، لأنه المسرح الذي يخاطب خلاصة الأمة وقادتها وقواها الثورية وروح الأمل فيها، ولأنه المسرح الذي يبني الاشتراكية ويحرر الإنسان من الظلم والطغيان، ولأنه المسرح الذي سيكون عظيماً ورائعاً باعتباره معبراً عن الحياة لا في ظاهرها، بل في حركتها.» (ص126).

 

وعندما تحدث بلبل عن التأريخ النقدي للمسرح العربي، باشر التوجيه الأدبي والفني للمسرحيين ضمن نزوعه الدائم إلى التبشير العقائدي إياه، كما في قوله:

«في البحث السابق وصلنا إلى النتيجة الأساسية التالية وهي: أن هوية المسرح العربي تقوم في إيجاد الأشكال الفنية المميزة له، والقادرة على حمل المضمون المعبر عن واقعنا الاجتماعي في حركته التقدمية، مع الاستفادة من كل التجارب المسرحية الأجنبية القديمة والحديثة. شريطة أن توضع في الاتجاه نحو تلك الصيغة التقدمية. وهذه النتيجة الهامة الصحيحة تصبح ناقصة وخطيرة المرامي البعيدة إذا أخذناها وحدها. لأنها تهمل تأريخ المسرح العربي من ناحية، وتتخذ شكلاً إقليمياً محلياً من ناحية ثانية، وتتناسى الواجب القومي للمسرح من ناحية ثالثة. وهذه النقاط الثلاث يسهل الوقوع فيها لأن طبيعة التوزيع السياسي للأمة العربية، وانشغال كل قطر بقضاياه الخاصة الملحة في هذه المرحلة المزدحمة بالمصاعب، يدفعان المسرح العربي في هذا الاتجاه الإقليمي. وهذا هو الخطر. فإن إهمال التاريخ المسرحي يؤدي إلى انعدام التواصل التراثي، ويقلل من عملية التراكم التي هي أحد السبل الهامة لتأصيل المسرح العربي، كما أن الوقوع في إقليمية المسرح يقصّ كل الأجنحة التي تنبت للمسرح العربي. ولذلك تبدو المهمة القومية للمسرح مرتبطة بالتاريخ المسرحي العربي وبمحاربة الإقليمية السياسية في آن معاً» (ص167).

 

وبلغت ذروة مباشرته لاجتهاده بتطوير المسرح في التوجيه الأدبي والفني الذي يشبه الأوامر الداخلية لجماعة سياسية أو إدارية ما، كما في نظرته إلى التأسيس المسرحي السليم:

1ـ «التخلص من الترجمات العشوائية، وذلك بالعودة إلى تصنيف المسرحيات الأجنبية حسب عصورها ومدارسها وظروفها الاجتماعية التي أوجدتها. وسوف ندرك إذ ذاك أن كثيراً من المسرحيات «العالمية» التي نحتفي بها، ونسلتهم منها ليست ذات صفة إنسانية، وأن حيفاً كبيراً لحق بنا حين نشرت بيننا» (ص194).

2ـ «وضع خطة واضحة لمسارحنا الرسمية، فلا نترك الأمور لأهواء المخرجين ينتقون من المسرحيات الأجنبية ما يقف أحياناً عائقاً أمام وعينا» (ص194).

3ـ «وضع اتفاق بين وزارات الثقافة في الدول العربية لتوزيع المسرحيات العربية بين الدول العربية..الخ» (ص195).

4ـ «إعادة النظر في طريقة نقدنا المسرحي... أما نقدنا المسرحي فيجب أن يسير في عكس اتجاه النقد الأجنبي... ولذلك لا يجوز للنقاد أن يحاسبوهم على قواعد النقد المسرحي الأجنبي، بل عليهم أن يرصدوا تجارب الكتاب المسرحيين، وأن يستخلصوا منها القواعد والمقاييس، مع الاستنارة بالنقد الأجنبي، وبهذه الطريقة بستطيع النقاد تأسيس نقد مسرحي عربي» (ص196).

 

أما نصائحه وتوجيهاته للكتاب، فليس أمامهم إلا طريقان لا ثالث لهما، «أولهما أن يتجه إلى الجمهور العريض من العمال والفلاحين وبقية القوى من الفقراء والمسحوقين، وأن يخاطبهم، ويحرضهم باعتبارهم القوى الحقيقية في المجتمع والأداة الفعالة في بناء المجتمع بناءً صحيحاً ووقود الحرب وقوة السمتقبل، وثانيهما أن يتخلى عن هذا الجمهور ويتجاوزه إلى أعدائه من المستغلين، وعند ذاك سيجد نفسه متخبطاً بين الأشكال والتيارات، وسوف يظل معلق العين والقلب والذهن بكل تلك الأشكال العرجاء التي تظهر في المجتمع الرأسمالي المضطرب المتفجر عن فقاقيع تزيد الإنسان الغربي انهياراً وبؤساً» (ص198).

 

وقد كان بلبل في غالبية مواقفه، وهو يدأب في اجتهاده، متفائلاً بمستقبل المسرح تحت وطأة التبشير العقائدي كمثل قوله عن مستقبل مسرح الشبيبة والعمال:

«رغم كل هذه العقبات، فإن مسرح اتحاد شبيبة الثورة واتحاد العمال، سوف يقوى ويستمر. وسوف يشكل وجهاً مسرحياً جديداً ناضجاً وواعياً. ومن الواضح تماماً أنه في الوقت الذي بدأ المسرح القومي ينحدر وتتوالى أزماته، أخذت هذه الفرق تصعد. وما ذلك إلا لأنها هي القادرة على التعبير عن مجتمع ينمو ويتطور. وإذا كانت هذه الفرق حتى الآن لم تظهر بالقوة الكافية التي تفرض بها وجودها، فإنها تحمل في طياتها بذور قوتها وتطورها. وكل ما هي بحاجة إليه، هو أن نملك القدرة على رؤية المستقبل وندفعها إليه. وقد كان المستقبل دائماً، جنيناً صغيراً في رحم الحاضر» (ص39).

 

هذه هي طوابع المرحلة الأولى من البحث المسرحي عند بلبل، وقد آثرت أن أكشف عن خصائصها وعناصرها بأسلوب النقد التحليلي متجنباً إطلاق الأحكام، لأن مراجعة نقدية راهنة من مؤلفها كفيلة بتقدير قيمتها التاريخية بالدرجة الأولى شهادة على الثقافة العربية والنقد الأدبي العربي في زمنها، كونها سجلاً حياً لاعتمال المسرحي العربي بقضاياه الفكرية والفنية شهوة لتغيير الواقع عن طريق الفن بالتطلع إلى مثال مشتهى قوامه الرئيس تفكير أخلاقي وسياسي صلب.

 

3ـ المرحلة الثانية:

تمتد المرحلة عند بلبل ناقداً وباحثاً على مدار العقد الماضي، في تسعينيات القرن العشرين، وإذا كان التأليف والإخراج المسرحيات غلبا على المرحلة الأولى، فشملت مسرحيات طويلة وقصيرة ومسرحيات للأطفال هي إبداعه الأبرز، فإن فعاليته المسرحية خلال المرحلة الثانية تكاد تقتصر على النقد والبحث المسرحي، إذ وضع ثلاثة كتب، وجهز للطبع كتابين تغطي قضايا مسرحية نظرية في كتابه «أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي» (1991)، وتاريخية نقدية في كتابيه «المسرح السوري في مئة عام 1847-1946» (1997)، و«المسرح التجريبي الحديث عالمياً وعربياً» (1998)، ونقدية تطبيقية في كتابيه «مراجعات في المسرح العربي منذ النشأة حتى اليوم»، و«الأدب المسرحي في سورية»، كما تشير غالبية عنوانات البحوث المنشورة في «الحياة المسرحية».

أما السمات الأبرز لنقد بلبل وبحثه في هذه المرحلة، فهي العلمية المنهجية واستواء فكرة المسرح في تاريخها وفي راهنية تجربتها وغلبة الموضوعي على العقائدي، وإن شاب كتابته حنين إلى ذلك التطرف في التبشير العقائدي.

 

3ـ1ـ البحث العلمي المنهجي:

يعد كتاب «أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي» نقلة نوعية في نقد بلبل وبحثه المسرحي، إذ جاوز فيه حدود الكتاب التعليمي، على الرغم من كونه حصيلة تدريسه لهذه المادة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وحدود فهم المسرح ظاهرة مجتلبة حين جعل من تجربته المسرحية بخاصة والتجربة المسرحية العربية بعامة في نسقها الثقافي، لغة وتقاليد فرجة وتواصلاً مع المتلقي، مصدراً رئيساً للخبرة المسرحية، وحدود التنظير وحده إلى إدغامه بالممارسة العملية بوضع الإلقاء «ضمن بوتقة العرض المسرحي وبناء الشخصية الدرامية بدءاً من تدريبات الممثل الأولى على دورة وانتهاء بالتعامل الجمهور في صالة المسرح» (ص9-10)، وحدود الانشغال بشؤون الواقع المسرحي وشجونه إلى بصيرة حاذقة ويقظة بعناصر العرض المسرحي وترسيخها ضمن التقليد المسرحي العربي الحديث الذي يتأسس قوياً خلال العقدين الأخيرين على الرغم من المعضلات السياسية والاجتماعية الكثيرة في هذا القطر أو ذاك، فعمد إلى معاينة خصوصية الإلقاء لكل لغة، وإلى ربط الإلقاء بالعرض المسرحي، مما دعاه إلى الحديث الموجز عن علوم اللغة العربية، وإلى التطرق لبعض الأبحاث النظرية في بناء الدراما وأصول التمثيل والإخراج، مثلما تعرض «لبعض أساليبنا وعيوبنا في نطق الكلام عند أصناف المتكلمين وعند الممثلين لوصف ما هو كائن وصولاً إلى ما يجب أن يكون» (ص10).

 

تتبدى العلمية المنهجية في هذا الكتاب في أكثر من جانب، وأولها دقة مصطلحه، كما تدرج دراسته من الصوت «أعرف صوتك»، إلى الكلام «هل تعرف كيفف تتكلم؟»، إلى الإلقاء «هل يحب الناس حديثنا؟»، إلى الإلقاء المسرحي «الكلام على الخشبة»، إلى الإلقاء في المسرحية «هل أنت ممثل؟»، وثانيها وضوح منهجه الموضوعي في رؤية بحثه في مساره التاريخي وأبعاده الفنية، وثالثها ضبط لغة البحث والنقد في معايير محددة، ورابعها سهولة العرض وقوة المحاجة ويسر التعبير، وخامسها خبرة مسرحية توائم بين النظرية والممارسة.

 

وقد دعم بلبل أطروحاته بنصوص مختارة من الأدب العربي القديم حيناً لتعين «القاريء على النطق الصحيح للأحرف العربية، وأن تجبره عليه، شريطة أن يتقيد بقواعد النطق، وأن يتقصد إبراز الأحرف من مخارجها الصحيحة» (ص79)، وبنصوص مسرحية من الأدب العربي والعالمي مثل «الملك لير» لشكسبير (ص134)، و«الملك هو الملك» لسعدالله ونوس (ص162)، و«حفلة سمر من أجل 5 حزيران» لونوس (ص171)، و«الوباء» لهاني الراهب (ص176)، و«هملت» لشكسبير (ص182 و195)، و«طرطوف» لموليير (ص185)، و«الوحوش لا تغني» لممدوح عدوان (ص202)، و«جونو والطاووس» لشون أوكيزي (ص205)، و«أوديب: مأساة عصرية» لوليد إخلاصي (ص216)، ناهيك عن الاستشهاد بعشرات الأعمال المسرحية في المتن. فقد تحدث، على سبيل المثال، عن خلق الشخصية المسرحية، من خلال التفتيش عن الصوت المناسب وكشف أبعاد الشخصية كالبعد الجسدي والبعد الاجتماعي والبعد النفسي الذي يتحقق بأمرين هما درجة انفعال الشخصية والدوافع النفسية المحركة للشخصية، وقد عالج الأمر الثاني من خلال مشهد صغير من مسرحية أوكيزي ليصل إلى الخلاصة التالية:

«ولا توجد قاعدة في الإلقاء المسرحي تكشف البعد النفسي للشخصية. والوعي العميق لدوافع الشخصية يجعله يبرز في الإلقاء. وتلعب درجات الانفعال وارتعاشات الصوت وأسلوب نطق الحروف والكلمات دوراً هاماً في هذا المجال. أما الشيء الذي يلعب الدور الرئيسي في إبراز البعد النفسي للشخصية فهو قاعدة التشديد أو التركيز. فإن الكاتب المسرحي ينثر في ثنايا الدور مجموعة من الكلمات نابعة عن الدوافع النفسية للشخصيات. وعلى الممثل أن يفتش طويلاً عن هذه الكلمات التي تأتي غالباً في سياق الكلام وكأنها ثانوية أو هامشية. وبعدما يحصرها ويحددها يخضعها لقاعدة التركيز مبرزاً من خلالها الدافع النفسي.

 

لكن الممثل مضطر إلى التركيز على عدد كبير من الكلمات والجمل في دوره لتلبية مقتضيات الدور، فهو يؤكد على عدد من المواقف، ويبرز مفاصل الصراع، ويمهد للحكاية، ويشارك فيها. وفي زحمة هذه الكلمات والجمل المركزة تدخل الكلمات والجمل الدالة على الدوافع النفسية فلا تمتاز عن غيرها ولا تحقق مقصودها.

 

وليس أمام الممثل إلا سبيل واحدة لتمييز هذه الكلمات عن بقية الكلمات الواجب تركيزها، وهي أن يستخدم أسلوباً واحداً لتركيز هذه الكلمات، دون أن يستخدم هذا الأسلوب في بقية الكلمات والجمل الواجب تركيزها لغايات أخرى. كأن يغير طبقة صوته عند نطقها، أو أن يضعها وحدها بين فاصلي صمت، أو يغيّر سرعة كلامه فيها وحدها. وبهذا الشكل تتحول هذه الكلمات إلى ما يشبه ضربة ناقوس تأتي المتفرج في الحين بعد الحين. وعندما تتوالى هذه الضربات بالإيقاع نفسه، يربط المتفرج بينها، ويتغلغل مع الممثل في دهليز البعد النفسي للشخصية.

 

وأعترف أن هذه الطريقة من أصعب الأمور. ولا يستطيعها إلا ضياغمةُ الممثلين الذين يكدحون طويلاً في بناء أدوارهم، مع طولِ خبرةٍ وعمقِ تمرّسٍ في صناعة التمثيل.» (ص205-206).

 

وكان ثمة حرص لدى بلبل على الانطلاقة من تراث الإنسانية في المسرح وإنجاز رواده، فقد تصادت أصوات ستانسلافسكي بوصفه رمز التقليد المسرحي في التجسيد الذي ناهضته أو عارضته تجارب وتيارات معاصرة وتالية مع أصوات المسرحيين الكثر الذين جمعهم بلبل في كتابه الثمين، ولعل دراسته للإيقاع وفترات الصمت مما يؤيد أثر هذا الكتاب متعة فكرية وذوقية غامرة، كما في قوله:

«إن فترات الصمت (الفواصل النفسية والمنطقية) أول ما يعطي الإيقاع سرعته الزمنية المطلوبة وتأثيره الفكري والشعوري. وعلى الممثل أن يحسب حساب الصمت بدقة، موازياً بين تكرار أزمان الصمت وبيت تغييرها، خالقاً من ذلك انسجاماً لحنياً. فكأن في عقله ضارب إيقاع ذكياً، وأن يتحاشى البطء والسرعة الزائدين، فالانقطاع الطويل يجعلنا ننسى الكلام أو الفعل الذي سبق. (أما الانقطاع القصير جداً أو الفعل العجول جداً فينقصان من الصدق والإيمان بأصالة الفعل الجاري).

 

ولاشك أن سرعة الكلام واختصار زمن الصمت يزيدان من سرعة الإيقاع، والعكس صحيح، لكن هذا لا يعني أن يخرج الممثل عن قاعدة (لا تستعجل) الذهبية، فمهما أسرع الإيقاع وجب أن يظل الكلام واضحاً، وأن تأتي فترة الصمت جلية محسوساً بها. وكثيراً ما يخشى الممثل من فتور الإيقاع أو بطئه فيهرع إلى اللهاث السريع بالكلام مدمراً فترات الصمت. فيقع عندئذٍ، لا في الفتور الذي خاف منه فحسب، بل في انفلات الإيقاع منه أيضاً.

 

وليعلم الممثل أن فترات الصمت أثمن ما في الإيقاع. وإذا أحسن نطق الكلام ونبره وانسيابه قبل الصمت وبعده فسوف يكون إلقاؤه فعلاً مسرحياً هائلاً. وليعلم أيضاً أن انتقاء مواضع الصمت ومدتها ونبراتها هي التي تبرز خصائص النص الأدبية والجمالية» (ص256-257).

لقد اعتنى بلبل بأسلوب النقد والبحث ولغتهما، وهي عناية قلما نقع على مثلها في الكتب الصادرة هذه الأيام، فهو يوجز القول بليغاً غالباً، كما في ختام كتابه:

«وبعد.

يمكننا في النهاية تلخيص كل قواعد الإلقاء المسرحي التي وردت في هذا الكتاب بمايلي:

ـ أفهمُ النصَّ بالتحليل وأتعمّق.

ـ أتصورُ الكلمات بالإحساس وأُجسَّد.

ـ أنطقُ الكلام بالإيقاع وأوضح.» (ص260).

3ـ2ـ استواء فكرة المسرح:

لا يصدر بلبل في مرحلته عن رغبة الباحث والناقد المجرد أو التقني في موقع أكاديمي أو بحثي، بل هو ناقد وباحث صاحب رؤية ومشروع ثقافي في المسرح، وما الأعمال النقدية والبحثية إلا عمليات إضاءة وكشف ووعي في هذه الرؤية وفي هذا المشروع الثقافي الذي امتد من التأليف إلى الإخراج إلى الإدارة إلى التعليم إلى المختبر والتدريب والتأهيل لعناصر فرقته إلى مخاطبة الناشئة مشغلاً بعمق على قضايا التأصيل والانتشار في آن معاً. ويختزن كتاباه «المسرح السوري في مئة عام 1847-1946» و«المسرح التجريبي الحديث عالمياً وعربياً» أسئلة جوهرية حول تشكيل التجربة المسرحية: كيف صارت إلى فنّ في سورية في الكتاب الأول، وكيف صارت إلى فن تجريبي في العالم وفي الوطن العربي في الكتاب الثاني، فهما مقاربة للسيرورة المسرحية في تجربة مشخصة خلال مراحل نشأتها ونموها الأصعب هي سورية، وفي معنى التجريب الذي هو سمة لديمومة المسرح وتجدده وحيويته.

 

لاشك في أن فكرة المسرح قد استوت في تفكير بلبل، وتخلصت إلى حد كبير من القبليات المتحكمة برؤيته في المرحلة الأولى من التبشير العقائدي المهيمن إلى ضغوط نداءات الثقافة الجماهيرية التي طالها التحول والتغير خلال العقدين الأخيرين، فوضع بلبل كتابه الأول متجاوزاً عمل المؤرخ الباحث إلى الناقد الذي يقرأ سيرة المسرح، ويمعن في فقهها، «والفقه، برأيه، في بعض وجوهه، هو التعمق في معاني النصوص واستنباط الأحكام منها. وهذا ما فعلته. فقد كنت أمهد للوقائع والأحداث قبل إيرادها. قم أستخلص منها النتائج والخصائص» (ص5-6)، فاجتمع في الكتاب مفهوم اللوحة التي تتكامل أجزاؤها قدر الإمكان (لأن ثمة فترات وأماكن فقيرة بالتوثيق) ومفهوم تفسير هذه اللوحة.

 

إن هذا الكتاب بحث في جذور الظاهرة المسرحية في سورية بتعبير أدق، فقرأ بلبل ريادة المسرح العربي في لبنان وسورية ومصر، بغية استخلاص استنتاجات حول نشأة المسرح العربي، ثم انتقل إلى موضوعه الرئيس، فقرأ مراحل المسرح السوري بعد الريادة الأولى الثلاث:

ـ المرحلة الأولى حتى الحرب العالمية الأولى (من خلال دراسة المسرح في حمص ودمشق وسمات المدرسة الشامية).

ـ المرحلة الثانية حتى الثورة السورية الكبرى (من خلال دراسة المسرح في دمشق وحمص وحلب).

ـ المرحلة الثالثة حتى الاستقلال (من خلال دراسة المظاهر الأساسية لعودة المسرح السوري، والوقوف عند الفرق المسرحية الزائرة بنوعيها الراقي والاستعراضي، ودراسة نشاط المسرح السوري بنوعيه الراقي (الجاد) والمحترف (التجاري) ودراسة أعلام من المسرح في هذه المرحلة والسمات العامة للمسرح السوري فيها).

 

وختم بحثه بثبت بالعروض المسرحية من 1847 حتى 1946. على أن كثيراً من آراء بلبل قابلة للنقاش وموضع خلاف منهجي وفكري، كالموقف من مصطلح «المسرح السوري» واحتراز استعماله مطلقاً، مما يجافي رأي بلبل نفسه الداعي إلى الهوية العربية ومراعاة البعد القومي وأهميته في سيرورة التقاليد الأدبية والأنساق الثقافية، والموقف من مصطلح «سورية» و«السوري» تاريخياً ومعرفياً، فلم يصبح هذا المصطلح سياسياً إلا في ثلاثينيات القرن العشرين لتداخله مع مصطلح «الشام» في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وقد بدأ التداخل بيناً في استعماله للمصطلح حين عاد عنه إلى تعبير «المدرسة الشامية» (ص129)، والموقف من تفصيل القول في ظروف نشأة المسرح العربي الحديث ومعطياته التاريخية والفنية، والموقف من الانقطاعات في تطور المسرح العربي، والموقف من الاصطلاحات والتسميات مثل «الراقي» و«الجاد» و«الاستعراضي» و«المحترف» أو «التجاري»..الخ.

 

أما «الأسقاط» في التفسير والتحليل بإضفاء دلالات ومعان لا تشير إليها الوقائع أو الأحداث أو النصوص صراحة أو يمكن أن تفضي إليها فهو كثير الاستخدام في نقده وبحثه، كحديثه عن ضرورة الالتزام المبكر في المسرح، بينما ظهر مصطلح الالتزام فيما بعد الحرب العالمية الثانية مع تجاذبات الواقعية الاشتراكية والوجودية، كما في محاورته لبعض صنيع يعقوب صنوع:

«وقبل أن نغادر صنوع وما فعله في ريادته للمسرح العربي في مصر، ننقل ملخصاً عن مسرحيته (موليير مصر وما يقاسيه).

يقول في مقدمة المسرحية (أهديكم يا سادتي سلامي وتحيتي واحترامي. وأتمنى لكل أفندي ومسيو وسنيور، العز والهنا والسرور). ثم يحاول أن يعلق على الظروف التي مر بها في مسرحه وعلى مشكلات الممثلين المهنية ورسالة المسرح بصفة عامة. ويبين أن العلاقة بينه وبين الخديوي اسماعيل، تشبه العلاقة بين موليير ولويس الرابع عشر. وقد سماه الخديوي موليير مصر لكي يتشبه بالملك العظيم أكثر مما قصد إلى تسميته بموليير.

 

إن التشابه واضح بين «ارتجالية فرساي» لموليير وبين هذه المسرحية. فكل واحدة منهما تدور في جو عائلي بين صاحب فرقة وممثليه. وكل منهما تتضمن تذمر صاحب الفرقة من عبث الممثلين الذين كما وصفهم صنوع «الأولاد بيسوقوا عليّ الشيطنة، والبنات بتسوق عليّ الدلاعة». وقد شكا منهم موليير (فالحيوانات الغريبة أسلس قياداً من هؤلاء الممثلين).

 

وفي المسرحية شرح للمتاعب التي لقيها في إنشاء مسرحه منها أنه (لما أنشأت التياترو العربي، الناظر المكار علي باشا مبارك مني غار). كما أنه إذا لم تكتب روايات (تذكر فيها لفظة حرية وحب وطن ومحاربات قل على التياترو العربي يا رحمن يا رحيم). وهذه إشارة هامة إلى ضرورة الالتزام في المسرح نجدها منذ ذلك الوقت المبرك» (ص56-57).

 

ولعل زعمه المتكرر في مؤلفاته عن خلو الثقافة العربية من المسرح والتراث المسرحي مما يثير النقاش باستمرار، لأن هذا يقودنا إلى إعادة الرأي حول نشأة الظاهرة المسرحية ذاتها من الطقس والشعيرة في أحضان الدين حتى العصر الحديث، والاعتراف بأهمية الظواهر المسرحية لكل شعب من الشعوب، فليس المعمار اليوناني أو فكرة المسرح عند اليونان هي معماره أو فكرته لدى شعوب الشرق مثل اليابان والصين والهند ومصر القديمة، بل إن نشأة الظاهرة المسرحية اليونانية، ومقلدتها الرومانية مدينة للمسرح في الشرق في مصر القديمة وفي الهند، كما أن فكرة المثاقفة المعكوسة تبدو جلية في نهضة المسرح في الغرب، بالأخذ عن مسارح الشرق وأنساق الفرجة الثقافية فيه، أي أن المسرحي الغربي في تجريبه (الحداثة وما بعد الحداثة) يستلهم عناصر شرقية كثيرة في المبنى المسرحي وأساليب خطابه، وأكتفي برأي من آرائه يستدعي الرأي الآخر:

«لكن حمل الرسالة القومية التوجيهية هذه كثيراً ما جعل المناقشة الفكرية لمشاكل العرب وهمومهم تبدو صارخة فجة. فدخل المسرح في المباشرة والخطابية في كثير من الأحيان. ولأن المسرح ـ كالشعر ـ يواجه الجمهور مواجهة مباشرة وحاسمة، فقد غرق المسرحيون في هذه الخطابية التي كثيراً ما تصل إلى الوعظية وهم يظنون أنهم يؤدون رسالة المسرح خير أداء. وكذلك فعل الشعر. لكن الشعر العربي عريق قديم في تاريخنا الأدبي. وله من عراقته ما يجعل الشعراء يوازنون بين المضمون الخطابي المباشر وبين الصناعة الفنية. أما المسرح فهو فن جديد ليس له تراث عريق يستمد منه المسرحيون قوة التقاليد والأصول. وليس له أيضاً تراث نقدي. أي أن المسرحيين لم يكونوا يهتدون في بنائهم المسرحي بمن سبقهم من الكتاب أو من النقاد. ولهذا لم يكن لهم ما يصون مسرحياتهم من السقوط في الضعف الفني. على عكس الشعراء الذين كان لهم هرم إبداعي وهرم نقدي يصونان أكثر إنتاجهم من التردي في الضعف.

 

بهذا الشكل يمكن لنا أن نفهم السبب الكامن وراء ضعف البناء الدرامي في كثير من النصوص المسرحية التي كتبها العرب طوال قرن ونصف قرن. وبهذا الشكل ندرك لماذا لم يستطع أكثر المسرحيين الموازنة بين معالجة ما هو آني من هموم الأمة العربية، وبين ما هو إنساني عام يمسُّ جميع نفوس البشر، ولماذا لم يترك المسرحيون كثيراً من الأدب المسرحي ذي البناء الدرامي المصقول. وبهذا الشكل أيضاً، ندرك لماذا يصعب علينا اليوم أن نقدم على خشبة مسرحنا ما كتبه الجيل السابق لنا. وهكذا.» (ص70-71).

 

ويظهر استواء فكرة المسرح لدى بلبل في كتابه الآخر «المسرح التجريبي الحديث عالمياً وعربياً»، فقد حدد مصطلحه فيما هو متاح من أفكار ورؤى وتجارب، على الرغم من أن المصطلح نفسه موضع نظر، إذ يستطيع المرء أن يسارع إلى القول بقلقلة المصطلح وهلهلته، لأن التجريب راهن وملازم لفعل التجديد أو التحديث في عصور الأدب المختلفة، ولأن غالبية الأعمال التجريبية، وهذا يعتمد على قيمتها الفكرية والفنية، تغدو تقليدية في زمن تال، وقد تلمس بلبل حدود المصطلح مما ورد في إسهامات المشاركين بدورات المسرح التجريبي بالقاهرة بالدرجة الأولى، ورأى أن الكتّاب المسرحيين هم قادة التغيير، وأن الأصول الجديدة المبتدعة تحتوي الأصول القديمة، وأن كلّ ظاهرة مسرحية تعبير عن منعطف اجتماعي وسياسي جديد وحاسم في حياة المجتمع (ص14-17)، وهي آراء قابلة للنقاش أيضاً، لأنها تنزع إلى ذلك الفهم الميكانيكي الذي يربط بين التطور الاجتماعي والتطور الفني، بينما يؤكد رأيه على انبثاق الجديد من رحم القديم جوهراً للتجريب، أما إطلاق الرأي حول الكاتب المسرحي قائداً للتغيير فيجافي فكرته نفسها في تعليله لأسباب ظهور المسرح التجريبي وخصائصه على أن المخرج بطل أوحد في التجريب، ولعل تتبع نظرته إلى عناصر العرض المسرحي تفسر ذلك التداخل في فهم فكرة المسرح، ولاسيما مكانة الكلمة في المسرح، فثمة عروض مسرحية أو أنواع مسرحية  لاتحفل بالكلمة، ولاتقوم على الكلمة، وثمة عروض كثيرة من المسرح التجريبي لا تعتمد على الكلمة، وذكر بلبل نماذج لعروض تعنى بالحالة بدل الفكرة، وكانت أثيرت الكلمة في المسرح في كلمات المسرحيين العالميين في يوم المسرح العالمي أعوام 74 و75و 1976 حين دعا موريس بيجار في كلمته إلى المسرح الخالص بجسد الممثل وحركته ورؤى المخرج وتجاريبه، وتعد مناقشة بلبل لهذه القضية إحدى ذرى استواء فكرة المسرح لديه ووعيها تاريخياً وفنياً:

«وهكذا ظل النص المسرحي الركن الثاني في العرض المسرحي حتى الهزيع الأخير من القرن العشرين حين ظهر المسرح التجريبي الذي اعتبر النص المسرحي عدوه الثاني وهدمه. ومع أن الكلام المنطوق ظل عنصراً من عناصر المسرح التجريبي، فقد صار شرط هذا الكلام المنطوق ألا يكون نصاً أدبياً قوياً. فكان هذا الكلام المنطوق واحداً من ثلاثة:

ـ كلام مرتجل. والاتجال في المسرح التجريبي يعني شيئاً محدداً هو أن يشارك الممثلون تحت إشراف المخرج في اقتراح نص يتكون بالتدريج أثناء التدريبات. ويكون هذا النص خاصاً بالعرض نفسه بحيث لا يمكن تقديمه مرة ثانية، لأنه مصاغ بطريقة تناسب أسلوب المخرج في بناء العرض وتخدم سيطرته عليه.

 

ـ نص معروف يقوم المخرج بإعداده. والإعداد هنا ليس مجرد عملية تشذيب تحافظ على بناء النص درامياً وتضعه في سياق العصر الذي يقدم فيه، بل هو عملية تمزيق للنص لكي يؤلف منه المخرج مادة نصية تناسب عملية الإخراج التجريبي في إطار إخفات دور الممثل وإبراز دور السينوغرافيا.

 

ـ نص يكتبه المخرج هو أشبه بالسيناريو لعرض مسرحي وليس نصاً أدبياً. إن هذه الأنواع الثلاثة من الكلام المنطوق تصاغ بطريقة أسلوب المخرج. وبذلك سار المسرح التجريبي في تعامله مع الكلام المنطوق في طريق معاكسة لتاريخ المسرح كله. فبعد أن كان فريق العمل المسرحي ينتقي نصاً مسرحياً ما ثم يتم العمل عليه، صار المخرج يضع مخططه الإخراجي، ثم يركّب له نصاً مسرحياً خاصاً به. ومن هنا انتهى النص (المؤلف) في المسرح التجريبي، وظهر النص (المؤلف). وهو نص لا حياة له خارج العرض المسرحي.

 

إن من يراجع عروض المسرح التجريبي في العالم يجد مصداقية النسف للنص المسرحي وتوليف نصوص مفصلة على قد العرض المسرحي، بحيث تحول جميع المخرجين إلى مؤلفين أو معدين. وجميع نصوصهم تدمّر أصول البناء المسرحي إضافة إلى ما ذكرناه من تحويل النص المسرحي إلى عرض إيمائي أو عرض راقص» (ص36-37).

وتدعو مناقشته للمسرح التجريبي العربي للإعجاب فهماً لفكرة المسرح وتطويرها في تجارب عربية كبيرة من كسر الإطار التقليدي إلى بزوغ تيارات تجريد متعددة، إلى ملامسة إشكاليات المسرح التجريبي العربي بقوله:

«ـ هو الأكثر شيوعاً في الوطن العربي لأنه الأقوى تعبيراً عن حالة الانهيار الاجتماعي والإحباط النفسي الذي صرنا إليه.

ـ قوام هذا المسرح الاهتمام بالناحية البصرية.

ـ اعتماده على الخبرة المسرحية العالية في مجالي التمثيل واستخدام التقنية.

ـ عدم التحرش بالموضوعات الاجتماعية والسياسية حتى ظهرت أصوات كثيرة تستنكر اهتمام أي نوع من أنواع المسرح بموضوعات المجتمع والسياسة.

ـ لا أهمية للإقبال الجماهيري الواسع والاقتصار على نخبة النخبة.

ـ عدم توفر التقنية اللازمة لتطور المسرح التجريبي العربي.

لكن هذه الخصائص، تثير عدداً من التساؤلات، حول مشروعيته في الوجود وقدرته على الاستمرار ومافظته على صفة التجريب. وقد تنبه عبدالكريم بن جواد بن علي إلى هذه التساؤلات حول المسرح التجريبي، ولخصها في خمس نقاط سماها إشكاليات وهي كمايلي:

الإشكالية الأولى: ألا يجب أن يكون هدف التقنية الجديدة المستخدمة في المسرح التجريبي هو تطوير الحركة المسرحية؟ ولو وجدت التقنية لتحقيق أهداف واحتياجات وظروف أخرى قد تكون اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، أفلا تعتبر مسرحاً تجريبياً؟

الإشكالية الثانية: هل من الممكن اعتبار العروض المسرحية المحققة لتقنيات جديدة معبرة عن فلسفة فكرية معينة، مسرحاً تجريبياً من الممكن مقارنته بعروض أخرى أدخلت التقنية الجديدة في أحد عناصر العرض المسرحي؟

الإشكالية الثالثة: إن رؤية العمل المسرحي التجريبي تختلف من بلد إلىة بلد، فالتقنيات المسرحية التي تعتبر مسرحاً تجريبياً في بلد ما لأنها جديدة ولم يسبق استخدامها، قد تعتبر مسرحاً تقليدياً في بلد آخر اعتادها وعرفها وخبرها منذ فترة طويلة. بل وقد تختلف رؤية مشاهد عن آخر في العرض الواحد، فمن سبق أن شاهد التقنية يعتبرها مسرحاً تقليدياً، ومن يشاهدها لأول مرة يعتبرها مسرحاً تجريبياً. وهذا مصدر لبس دائم فيما هو تجريبي وغير تجريبي.

الإشكالية الرابعة: إن المنهج أو التقنية المسرحية الجديدة تعتبر تجريبية طالما ظلت تعاني جهد الظهور وإثبات الوجود حتى تحقق النجاح فتتحول إلى تقليد. وهذا يؤدي إلى تغير مستمر وعدم ثبات تمتاز به الحركة المسرحية التجريبية. ويشكل أيضاً مصدر لبس في فهمها أحياناً.

 

الإشكالية الخامسة: هل يجوز التجريب من أجل التجريب أو بدافع التغيير أو المزاج دون أن تحقق التقنية الجديدة هدفاً فنياً محدداً أو حاجة أو فكرة مسرحية معينة؟ أي أن تظل شكلاً جديداً فقط؟

إن هذه الإشكاليات تحوط المسرح التجريبي بكثير من الغموض حول تعريفه وأهدافه. والمسرحيون التجريبيون يعانون من هذه الإشكاليات. لكنهم لم يعتبروها بعد، أسئلة لابد من الإجابة عليها حتى تتضح ملامح مسرحهم الذي يواجه غيره من أنواع المسارح، وحتى تترسخ أقدامهم في ميدان المسرح. كما أن النقد المسرحي العربي نفسه مايزال بعيداً عن تمثل خصائص المسرح التجريبي بإطاره العالمي العام وبإطاره العربي.

نتيجة لهذه الإشكاليات والتساؤلات والضياع في فهم المسرح التجريبي، رأى كثير من النقاد والمسرحيين أن المسرح التجريبي حالة تراجع وانهيار في المسرح العربي. وكثيراً ما أطلقوا عليه ـ ساخرين أو جادين ـ اسم (التخريب) بدل التجريب. فهو يدمر عناصر العرض المسرحي المعروفة، ويقطع التواتر الحي الذي عرف به المسرح العربي منذ نشأته حتى اليوم» (ص109-111).

3ـ3ـ غلبة الموضوعي على العقائدي:

حملت المرحلة الثانية بعض الحنين إلى التبشير العقائدي، غير أن الموضوعي، بما هو ابتعاد عن الذاتي والانطباعي والتحزب وبقية القبليات الأخرى التي غالباً ما تؤثر على النقد والبحث، هو السمة الغالبة على كتابات هذه المرحلة، وقد نختلف مع بلبل أو نتفق في معالجته للأدب المسرحي في سورية واختيار بعض أعلامه تحليلاً ونقداً واستنتاجات للبحوث، غير أن الجلي هو موضوعيته في البحث والنقد، وإن شابته في موقع أو آخر نبرات إيديولوجية وقبلية. ويصدق هذا الرأي على أبحاث كتابه «مراجعات في المسرح العربي منذ النشأة حتى اليوم»، وقد تجنب مثل هذه النبرات بالنظرة العامة واختيار بعض الكتّاب أو الأعمال أو الظواهر التي تؤيدها، أي أن تناول المادة التاريخية في المسرح العربي أو معاينة نشأة النقد المسرحي العربي وتطوره لا تبحث بهذا الاختزال والعمومية والانتقائية، بينما يستدعي بحث هذه الموضوعات الإحاطة بهذه القضايا وعناصرها ومراحلها وممثليها البارزين وإشكالياتها الكثيرة، على أن بلبل اكتفى بالإشارات التي يمكن أن نرى فيها غلبة للموضوعي الذي يستكمل في بحوث لاحقة.

 

لقد جعل بلبل نقده وبحثه قريناً لتجربته المسرحية العريضة والثرية، تأليفاً وإخراجاً وإدارة، ومكوناً من مكونات رؤيته، ورافداً من روافد مشروعه الثقافي الذي اختار الفن المسرحي سبيلاً لخطابه، ولقد تطور هذا النقد والبحث من مرحلته الأولى حتى منتصف الثمانينيات بطوابعه المشمولة بممارسته المسرحية وتبشيره العقائدي إلى مرحلته الثانية خلال العقد الأخير حيث البحث العلمي المنهجي واستواء فكرة المسرح في تاريخها وفي راهنية تجربتها وغلبة الموضوعي على العقائدي.

 

4

عبدالفتاح قلعه جي ناقداً مسرحياً

اتجه عبدالفتاح رواس قلعه جي إلى البحث في المسرح ونقده في نهاية السبعينيات في إطار مشروعه المسرحي، ثم مالبث أن انغمر في الحياة المسرحية ناقداً تطبيقياً بالدرجة الأولى، فقد ظهر له كتابه المسرحي الوحيد «مسرح الريادة»(1988) في خضم مقالاته الكثيرة في النقد المسرحي (هناك 106 مقالات في النقد التطبيقي و60 مقالة في النقد النظري حتى نهاية عام 1998 مما هو منشور في الدوريات العربية والمحلية).

 

غلبت على مقالاته في النقد التطبيقي صفة المراجعات أو المتابعات لعروض مسرحية، أو التعليقات حول الواقع المسرحي منذ مقالته الأولى المؤرخة بـ21/2/1975 في جريدة «الجماهير»(حلب)، ثم توالت هذه المقالات حتى عام 1981 عندما التفت إلى النقد النظري أو تناول بعض قضايا المسرح بالرأي والبحث والنقد والتعليق، وشرع في مثل هذا النقد النظري بمقالته «معالم في الطريق إلى مسرح عربي أصيل» (السفير 31/5/1981)، والمسرح العربي الأصيل هو أحد شواغله الرئيسة، ومعززاً بمشروعه المسرحي، وعماده أمران، الأول هو توجيه المسرح للدفاع عن قيم إنسانية وأخلاقية محددة، والثاني هو التجريب اليقظ بما يثمر قابليات التعبير عن هذه القيم، ولطالما عني قلعه جي بإطار هذا المشروع المسرحي مستنداً إلى القواعد التالية:

1. الانطلاقة من تصور عربي جديد للمسرح في فهم التراث المسرحي واستمداده في الممارسة العربية الحديثة.

2. الانطلاقة من تقاليد المسرحة العربية وتطويرها في النظرية والممارسة معاً.

3. الانطلاقة من وعي تراث المسرح الإنساني توطيداً للقواعد الآنفة الذكر.

4. الانطلاقة من وعي المسرح فناً له أصوله وخصائصه وتقاناته.

5. الانطلاقة من أهمية الممارسة المسرحية عبر الفرق والجماعات وقنوات الاتصال المسرحي المختلفة، والفعل المسرحي بأشكاله المتعددة.

يظهر كتاب «مسرح الريادة» طبيعة النقد المسرحي عند قلعه جي، ولاسيما طابعه الأساسي على أنه حادي ركب الحياة المسرحية مبشراً وطليعة ثقافية ترشّد الإبداع المسرحي وتواكبه، تأصيلاً وتحديثاً، بقوله القاطع:

«وكان المسرح ينتظر طويلاً حتى يتاح له رواد مقامرون يخرجون به من التقليد إلى التجديد، ومن التبعية إلى الريادة. وفي هذا الكتاب نعرض لثلاث اتجاهات قادها رواد مغامرون في المسرح، ثم نعرض مشروعاً آخر في المسرح العربي، ويحدونا في ذلك إيماننا بأن هذا المسرح يحتاج إلى مغامرة ريادية تخرج به من التبعية الغربية إلى الأصالة العربية، وتوقف اختراقات الغرب لنا في هذا المجال من غير أن نغلق على أنفسنا باب التثاقف والاستفادة من تجربته»(ص6).

ثم أوجز هذا التأصيل بأن عرضه «للمسارح الريادية الثلاثة: تشيخوف، الطليعي، الملحمي، مقدمة لمشروعنا في الدعوة إلى ريادية مسرحية عربية ينهض بها المسرحيون العرب ليخرجوا بالمسرح العربي من تبعيته وأزمته إلى مرحلة تأسيس الوجود المستقبل والهوية الخاصة والتأصيل المنطلق من بنية الفكر العربي وتاريخه وخصوصياته الجمالية»(ص7).

برهن قلعه جي بعرضه لمسارح تشيخوف والطليعي والملحمي عن معرفة مسرحية نقدية عميقة وشاملة باتجاهات المسرح العالمي الحديث، ففي دراسته عن «مسرح تشيخوف: دراما الأفول والإشراق»، أبان قلعهجي معرفته بأدب تشيخوف القصصي والمسرحي، ووضع مقدمات نقدية من شأنها أن تضيء فكره وفنه المسرحي، مثل ايديولوجية الكاتب ونقاط التلاقي بين أدبه وحياته دخولاً في البنية الدرامية لمسرحياته، وبروز شخصياته، والشاعرية والموسيقى، غير أن قلعه جي لا يخفي نظرة خاصة في مسرح تشيخوف انتقادية لا تسوغها لغته النقدية كمثل قوله:

«أخيراً، يجد الدارس لمسرح تشيخوف أن الجدلية فيه قائمة في البنية الفكرية لشخوص المسرحية، وفي البنية الاجتماعية الطبقية لهم، وفي البنية الفنية حيث تتشابك خيوط الملهاة بخيوط المأساة، وفي البنية النغمية حيث نسمع في المسرحية الواحدة نغمات متباينة. لكنها جدلية لا تأخذ الطابع المباشر الحاد، لأنها إفراز للإرهاصية، وليست إفرازاً للايديولوجية، ولهذا كان الصراع الناجم عنها سكونياً ـ تحتياً، ومع ذلك ففيها يكمن سر من اسرار خلود مسرح تشيخوف وجدته»(ص33).

ولاشك، أن قلق التركيب واللغة والمصطلح جلي في مثل هذه الآراء المواربة؛ فثمة تسمية اصطلاحية للملهاة المأساوية، وهي الملهاة السوداء كان تشيخوف من طلائعها، ولا يقع المرء على معنى محدد للإرهاصية، ولا يعرف كيف يكون الصراع الناجم عنها سكونياً ـ تحتياً، ولابد أن يتساءل المرء عن النتيجة غير المنطقية لمثل هذه الآراء: سر من أسرار خلود مسرح تشيخوف وجدته!

وتغلب هذه النظرة على دراستيه التاليتين عن المسرح الطليعي والمسرح الملحمي، كأن يوحي بأن جذور المسرح الطليعي تكمن في تراثنا الشعبي، على أن مثل هذه الآراء مسبوقة كما في كتاب يوسف الشاروني «اللامعقول في الأدب العربي»(1969)، أو الاتفاق على مصطلح المسرح الطليعي شاملاً لاتجاهات اللامعقول والعبث، وهي تسمية اهتدى إليها الباحثون المسرحيون والنقاد العرب في ندوة مهرجان دمشق للفنون المسرحية في دورته لعام 1974، ولم يشر قلعه جي لذلك، وعلى العموم، فإنه لا يوثق آراءه، ولايذكر مراجعه ومصادره إلا نادراً. وقد عوض قلعه جي عن ذلك بمعرفته النقدية العميقة والجريئة، وباستبصاراته الثرية في التحليل ورحابة الرؤية، كما في قوله:

«هكذا يتحمل الكاتب المسرحي مسؤوليته في الثورة والتغيير إزاء كل ما هو سائد من قيم وتصورات وأشكال يشكل بقاؤها منعاً لحركة التقدم. فلا شيء يمنع من الثورة على أشكال ومضامين قديمة في المسرح، ولا شيء يمنع من المغامرة أو الاستفادة من أحدث التجارب المسرحية في العالم»(ص65).

 

ثمة أمر لا يخفى في نقد قلعه جي هو إضفاؤه لذاتيته، ولاسيما تفكيره المسرحي أو عقيدته على موضوعاته النقدية، ففي نقده «للمسرح الملحمي خارج الدوائر المسرحية» دان قلعه جي مسيرة بريخت المسرحية من خلال قصيدة غنائية عن حزنه في شبابه وحزنه الآن في شيخوخته، وعزا ذلك إلى خيبة الأمل في الايديولوجية الماركسية، دون أن يعضد رأيه أو تحليله بشواهد من مسرحياته:

«ولم تحمل له كإنسان التجربة الشيوعية في ألمانيا الشرقية الفرح الكامل ومنتهى الأمل، على الرغم ممن عظيم اقتناعه بالايديولوجية الماركسية، فمواقفه تنبع من التزام حرّ بالعقيدة، وليس من التزام ميكانيكي بالنظام الشيوعي. وهذا يفسر الأسى العميق الذي لازمه في شبابه، واستمر حتى السنوات الأخيرة من عمره، وهو عضو من الطبقة الأولى للنظام في برلين الشرقية»(ص101).

 

ولاشك، أن النقد لا يفترض الربط الميكانيكي بين الكاتب وأدبه من جهة، أو بين الكاتب وتحزبه من جهة أخرى، أو بين الكاتب وأحد تعبيراته الغنائية بينما الغالب على إبداعه هو الأدب الدرامي والمسرحي من جهة ثالثة.

 

أما الأهم في بحثه المسرحي ونقده فهو مشروعه الأخر في المسرح العربي، لما يحفل من قراءة نقدية عارفة ومتعمقة للتراث المسرحي العربي من منظورات أصيلة وحديثة في الوقت نفسه، وهذا المشروع الآخر قابل للمناقشة، ولكنه منسجم ودقيق في الاستجابة لراهن المسرح العربي وتأزمه المستمر.

أعاد قلعه جي طرح السؤال القائم: هل عرف العرب المسرح؟ وأثار مجدداً بعض الآراء والأفكار الدائرة على اقلام الباحثين والنقاد المسرحيين العرب، وأضاف إليها جانبين، الأول هو دأبه على توكيد خصوصية كل تراث مسرحي أو تجربة مسرحية لدى أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، والثاني هو تلمسه الفياض لهذا التراث المسرحي لدى العرب مثل:

1. مساخر الصبيان: بيضا بيضا.

2. أبو حشيش ـ أبو الريش.

3. مساخر خميس السكارى.

4. خميس المشايخ.

5. مساخر البرد.

وقدم قلعه جي قراءات مسرحية في نصوص من التراث العربي:

1ـ التراث الديني: توليفة مسرحية لنصوص قرآنية ـ أحاديث نبوية للمسرح.

2ـ التراث الأدبي: المقامات بانوراما اجتماعية في لوحات مسرحية ـ مسرح الأقنعة الحكمي التعليمي في كليلة ودمنة.

3ـ التراث الشعبي: مسرح البطولة القومية في حمزة البهلوان ـ الخروج من منطقة الحدث إلى منطقة الرواية في درامية بني هلال ـ مسرح البطولة الفردية والقبلية في درامية عنترة ـ مسرح الليالي في ألف ليلة وليلة.

4ـ ألوان من الحياة العربية: طقوس واحتفالات الختان «الطهور» ـ طقوس واحتفالات ذهاب الحاج إلى الأراضي المقدسة وعودته ـ الاحتفالات التي تقام بمناسبة شفاء المريض ـ طقوس قراءة المولد النبوي ـ الطقوس والاحتفالات الدينية التي تقام سنوياً حول مصرح الحسين ـ احتفالات الإسراء والمعراج ـ احتفالات محرم ـ طقوس المآتم ـ طقوس الأعراس ـ طقوس أخرى مثل فتح الفنجان.. الخ.

وشرح قلعه جي ألواناً من الطقوس المسرحية في الحياة العربية مثل:

1ـ مسرح الطقوس في احتفالات الأعراس.

2ـ مسرح المسجد: الأذكار وعرض المولوية.

ومما يبعث على الإعجاب بشغل قلعه جي مقدرته الفائقة على الكشف المعمق والثري لمسرحة النصوص التراثية المختلفة، كما في تحليله لنص شعبي من «حمزة البهلوان»:

«وينتهي المشهد السابق بارتحال كسرى أنوشروان إلى عاصمته المدائن، ثم بصلب الوزير بختك وإحراقه بالنيران.

التركيب الدرامي في هذا المشهد، أو في مشاهد أخرى مؤلف من: الحوار، السرد الحكائي، الوصف المادي والنفسي، الشعر، الشخصيات المتنادة (؟!) والتي يتأزم بحركتها وطموحها الصراع المسرحي. أما مكان الحدث فهو مزيج من المكان الواقعي والأسطوري. الزمن المسرحي تاريخي، وهو مجرد إطار واسع لاستيعاب أحداث بعيدة عن أن تكون تاريخاً موثقاً»(ص138).

وختم قلعه جي تصوره لمشروعه المسرحي بأحد أسسه الراسخة:

«لكل شعب فرجته الخاصة، ولكل فرجة قوانينها وضوابطها، ومن الظلم أن نخضع أشكال هذه الفرجة إلى ضوابط المسرح الأغريقي أو الأوربي المعاصر فننفي بعضها، وندرج بعضها الآخر تحت اسم ظواهر مسرحية.

 

لكل أمة تراثها الفرجوي، وقوانين هذا التراث لا تستورد وإنما تستخرج من التراث نفسه، إذا استطعنا أن نحقق هذه الخطوة، فإننا نكون قد وضعنا أيدينا على المفتاح الحقيقي للخلاص من الأزمة التي يعاني منها المسرح.

وإلى أن يكون للمسرح العربي مثل هذه النظرية المتولدة من العقلية العربية، والمنطلقة من جذوره الحضارية، وإلى أن تتحول هذه النظرية إلى ممارسة فنية وإبداع، سيظل المسرح يعيش أزمته»(ص174).

 

ولم يتوقف قلعه جي عن النظر في تصوره لمسرح آخر، فنقح مشروعه عام 1992، كما في بحثه المطول «نحو مشروع آخر في المسرح العربي» (المنشور في مجلة «الفكر العربي» ـ بيروت ـ العدد69 ـ تموز ـ أيلول 1992 ـ ص ص 54-80) اختزالاً في مواقع، وتدقيقاً في مواقع أخرى، مجدداً أسئلته إياها على مدار عقدين من الزمن. ولعله جعل بحثه أكثر تشذيباً، وأصفى لغة، وأقل محاججة ونماذج وقراءات مسرحية.

 

لا يختلف مسعى قلعه جي في التأصيل عن مساعي المؤصلين الآخرين في العرض والتأليف والنقد: سلمان قطاية ـ ابراهيم حمادة ـ توفيق الحكيم ـ سعدالله ونوس ـ روجيه عساف ـ الطيب الصديقي ـ يوسف إدريس ـ عزالدين المدني ـ عبدالكريم برشيد ـ محمد يوسف نجم ـ محمد المديوني ـ علي الراعي.. الخ. والأهم والأكثر جهداً في نظرية شاملة علي عقلة عرسان في سفره «الظواهر المسرحية عند العرب»(1980).

 

لقد عني قلعه جي بالنقد المسرحي عناية أوفى وأكمل رؤية ومنالاً في مطلع الثمانينيات في بحثه الموسوم «حركة النقد المسرحي في سورية» (المنشور في مجلة «الموقف الأدبي» ـ دمشق ـ العدد131 ـ آذار 1982 ـ ص ص 65-77)، انطلق فيه، كعادته في البحث، من مسلمات جازمة، بينما هي أفكار قابلة للنقاش، كأن ينعي على النقد تقليده لضوابط النقد الإغريقي القديم أو الأوربي المعاصر، بينما حكم على جهود النقاد والباحثين الرواد بمقايسة هذا التقليد: «البرهنة على وجود النص المسرحي العربي في حالته البدائية، أو العرض المسرحي في شكله المجهض»(ص65)، ثم قرر أن النقد المسرحي ناء تحت أثقال تبعيتين: «تبعيته للعرض المسرحي، وتبعيته لقوانين الفكر النقدي الأوربي»(ص66)، وهي حيرة مرجعية وفكرية ونقدية لم يحسمها البحث، وضاعف من تبعات حيرته قلق منهجي في فهم المسرح المؤلف في كتاب أو دورية أو المعروض على خشبة، وفي فهم المصطلح، والتطور التاريخي، وتمييز عناصر التأليف عن عناصر العرض، فلا نجد على سبيل تحديداً لمصطلح «النقد المسرحي العلمي» أو تعريفاً لحدود «الولادة الجديدة للمسرح السوري» أو «الولادة الأخرى للنقد المسرحي»(ص68)، أو توضيحاً لجهود النقّاد المسرحيين في المساهمة التاريخية، أو المساهمة النقدية التطبيقية أو النظرية، أو المساهمة النقدية العامة، في المساهمة المستمرة أو العرضية، فجمع بين نزيه الحكيم وحسين حجازي وأحمد الحمو من جهة، ورياض عصمت وحنا عبود وعلي عقلة عرسان من جهة أخرى، إذ لا يستوي من كتب بعض المقالات أو الأبحاث مع النقاد المستمرين الحاضرين في النقد والبحث التاريخي والنظري والتطبيقي، وثمة ملاحظة يشترك فيها قلعه جي مع كثيرين من النقاد والباحثين هي نفورهم من التوثيق وإثبات المرجعية، مما يعرض النقد والرأي النقدي إلى مجانبة الصواب في العنوان أو الدقة الواجبة كما في عرضه لجهد علي عقلة عرسان النقدي في كتابه «الظواهر المسرحية عند العرب» الآنف الذكر؛ فقد وضع له عنواناً آخر، وحكم على مؤلفه أنه «يخضع ما يقرؤه إلى ضوابط المسرح الأرسطي أو الأوربي المعاصر، من غير أن يجعل هذه النصوص هي المنطلق لمعرفته ضوابط المسرح العربي الذي هو مظهر من مظاهر العقلية العربية وتعاملها مع الحياة»(ص72)، ويجافي هذا الحكم واقع الحال في بحث عرسان الذي برهن عن وجود «مسرحي» في النصوص والحياة العربية، وهو ما حذا حذوه باحثون ونقاد عرب، ولا يبتعد مشروع قلعه جي عن هذا السعي.

 

ويفيد بحث قلعه جي في تأطير دراسته حركة النقد المسرحي في سورية في جوانبها التنظيرية والنظرية، أو التطبيقية، ويتساءل المرء بعد ذلك كله عن العرض الموجز لبعض الكتب المسرحية، بينما جرى إغفال كتب أخرى، ربما ساوت الكتب المعروضة أهمية، مثل كتاب «سياسة في المسرح»(1976) لعلي عقلة عرسان، أو كتاب «هموم وتجارب مسرحية»(1977) لنصر الدين البحرة، أو «التأسيس»(1979) لعبدالله أبوهيف..الخ.

 

ويتساءل المرء أيضاً عن الأحكام القاطعة، كأن يقول:

«اثنان كتبا عن مسرح خيال الظل: عادل أبو شنب في كتابه «مسرح عربي قديم ـ كراكوز وسلمان قطاية في كتابه «نصوص من خيال الظل ولعادل فضل السبق»(ص71)، ومن المعروف، أن الكتاب المذكور هو إعادة لبعض ما ورد في كتاب ابراهيم حمادة عن خيال الظل وكوميدياته الصادر في مطالع الستينيات.

 

استغرق قلعه جي في النقد التطبيقي الموجز غالباً، ولو تأملنا مقالاته وأبحاثه التطبيقية في «الحياة المسرحية» (دمشق) مما يستدعي التحليلات المطولة، فسنجد أن غالبيتها تمر عجلى على العروض المسرحية، على سبيل المراجعات أو المتابعات أو التعليقات الصحفية، كما هو الحال في مثل هذه الأبحاث والمقالات:

1ـ «اتجاهات وطعوم مختلفة» (منشورات في «الحياة المسرحية» العدد 26-27، ص ص29-32).

2ـ «شرفة على المشهد المسرحي في المهرجان العاشر» (المنشورات في «الحياة المسرحية»، العدد 30-33، 1988 ص ص111-124).

3ـ «الحياة المسرحية في حلب» (المنشورات في «الحياة المسرحية»، العدد 36، 1991 ص ص19-27) (من أسف لا يوجد تأريخ للعدد على غلافه الأول الخارجي والداخلي، وإنما مجرد إشارة للمطبعة وسنة الطبع).

4ـ «مهرجان حمص السادس» و«مهرجان حماة الرابع» (المنشورات في «الحياة المسرحية»، العدد 39، 1993 ص ص 128-137).

5ـ «مهرجان المسرحي الثالث لدول مجلس التعاون الخليجي» (المنشورات في «الحياة المسرحية»، العدد 40، 1994 ص ص144-158).

ويشير البحثان الثاني والخامس إلى تمكن الناقد من آلته النقدية وإحاطته باتجاهات المسرح، وإلى بصيرته النقدية النافذة، وإلى معرفته بطبيعة المسرحة والتجسيد المسرحي، وإلى لغته النقدية المتطورة عن كتابه «مسرح الريادة»، وهذا واضح في تقصيه لخصائص العروض المقدمة في المهرجان العاشر:

المسرح الشعري ومأزق العبور من بوابة التفعيلة.

1. الخلق البصري ولغة الجسد.

2. الطليعة والتجريب.

3. نقد الواقع السياسي والتحريض.

4. نقد الواقع الاجتماعي والإرهاص بالتغيير.

مثلما يحفل بحثه عن عروض المهرجان المسرحي الثالث لدول مجلس التعاون الخليجي بالأناة والدقة في التحليل وموقعه النصوص تاريخياً وفكرياً وفنياً، وإن مال إلى الإيجاز الشديد في بعض الأحيان.

 

وكانت عناية قلعه جي بالنقد التنظيري والنظري الأقل قياساً إلى النقد التطبيقي، وغلب عليها الاختزال وتلبية حاجات الحياة المسرحية فيما واجهه من عروض أو كتب أو مسرحيات أو ظواهر أو قضايا. وأتوقف عند مقالته «جدلية العرض المسرحي بين الكاتب والمخرج مثالاً» (المنشورة في جريدة «الثورة» ـ دمشق ـ العدد 9689 تاريخ 19/4/1995 ص9)، وهي نتاج مشاركته في ندوة تحمل العنوان نفسه مع مسرحيين ونقاد آخرين أقامها المعهد العالي للفنون المسرحي بمناسبة يوم المسرح العالمي، وتبين هذه المقالة الانشغال العميق لقلعه جي بالقضايا النظرية للمسرح واستقلاليته الفكرية في الاهتداء إلى حلول خاصة للعمل المسرحي، كما في مثل هذا الرأي المتبصر:

«ولكي يحقق النص مستويات أفضل للعرض لابد أن يترك المؤلف فسحة واسعة للمخرج في الإبداع والتخيل والحركة والتفسير، كما يترك المخرج للممثل فسحة واسعة للارتجال ويوطن المؤلف نفسه على أن يغادر نصه مرتين: المرة الأولى حين ينتهي من كتابة النص، والمرة الثانية حين ينتهي من لقاءاته مع المخرج والممثلين وقبل الدخول إلى معمل التدريبات، ومع العرض الأول يدخل إلة نصه المعروض من جديد موطناً نفسه على أن يقرأ نصاً جديداً لا يعتمد المحاكاة لتصوراته الذهنية، وإنما تكون تلك التصورات قاعدة للخلق الإبداعي في مجال التشخيص. بهذا نكون وتكون العلاقة بين المؤلف والمخرج ليست علاقة نسخ ومحاكاة.. ولا علاقة تضاد أو تغاير كلي، وإنما هي علاقة تكاملية».

 

ويؤيد هذا التقدير لنقده النظري ما ورد في شهادته العارفة لهذا الفن «التجربة التي لا تتكرر: رحلة مؤلف مع التجريب في المسرح» (المنشورة في مجلة «فصول» ـ القاهرة ـ المجلد الرابع عشر ـ العدد الأول ـ ربيع 1995 ـ ص ص 419-422). مما يجعل آراءه النظرية صادرة عن خبرة طويلة مع العمل المسرحي:

«وأنا، رغم إيماني بأهمية الكلمة في التجريب بوصفها أداة توصيل رئيسة للفكرة، فإنني أصر على ترك هامش عريض لمخرج العرض ومبدعيه، لأن المسرح فن مركب، لأن العرض المسرحي له لغته التي تعتبر فيها الكلمة المنطوقة واحدة من عناصرها المتعددة»(ص419).

 

 

 

الخاتمة

 

لعل القيمة الرئيسة لأبحاث الكتاب ومقالاته تكمن في معايشة مؤلفها لحركة المسرح العربي المعاصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهي حركة نضالية محتدمة بالتحديات الكثيرة نحو ترسيخ المسرح في حياتنا الثقافية، فقد دخل هذا الفن الملتبس بجذوره وطبيعته المتعالقة مع الظاهرة الاجتماعية في صلب عمليات التنمية الثقافية، وأنجب تجارب متعددة جديرة بالتقدير، وهو ما تظهره بجلاء مواد الكتاب التي استشرفت حيناً، أو  رافقت حيناً آخر، أو عاينت حيناً ثالثاً الجهود العربية المميزة في مواجهة هذه التحديات من أجل التحقق الذاتي المسرحي.

وماتزال أسئلة الكتاب راهنة وضاغطة على وجدان المثقفين والمسرحيين العرب حتى اليوم كما هو الحال مع شؤون الهوية والتأصيل والمثاقفة ووعي الذات وثنائية التقاليد والتجديد وسواها، وقد بينت سعي الحشد الأكبر من المسرحيين العرب لخوض غمارها العاصفة في معمعان التنوير والتقدم، إذ أصبح المسرح العربي المعاصر حقيقة حيّة ورافداً من روافد تراث الإنسانية، على الرغم من المشكلات التي رافقت نهوضه. مثلما حرصت على أن تكون مواد الكتاب أقرب إلى السجل التأريخي والفني والفكري لمعاينة الإنجاز المسرحي العربي نحو أصالته وإنجازاته البادية للعيان.

 

ويلاحظ القاريء أن الطابع الغالب على مواد الكتاب هو تعبيرها عن تشكل الجوهر الصلب لفنّ عريق متعدد التكوينات والوجوه ولصيق بالتقاليد القومية للفنون الشفاهية والفرجة والمشهدية واللغة والتلقي والعرض والاستعراض، وهذا ما جعلني أمعن النظر في بداءة اهتمامي بقضايا المسرح المتصلة بالتقاليد والتجديد في مطلع السبعينيات كما عاينتها في المسرح العربي بعامة وفي حالته بالمغرب بخاصة، لأن المغرب صاحبة أكبر التجارب التأصيلية استلهاماً للتراث وابتعاثاً لتقاليده في لبوس التجديد والعصرنة والتواصل مع الآخر المتقدم، ثم كان البحث الأخير عن فاعلية النص المسرحي في المثاقفة الحضارية، كونها تتعدى حدود المؤثرات الأجنبية أو التقليد المجرد للآخر الغربي أو التبعية الثقافية لثقافة أخرى غازية أو مهيمنة أو قاهرة إلى الاعتمال اليقظ بالإسهام المشترك في تراث الإنسانية كما هو الحال مع المثاقفة المعكوسة أيضاً.

 

ثم نظرت إلى ظواهر كثيرة من أحوال القطيعة المعرفية أو  الانقطاع الثقافي بين المسرحيين العرب وتاريخهم أو بين المسرحيين العرب أنفسهم مما يؤثر سلباً على التواصل المسرحي العربي وإدغامه في التنمية الثقافية المنشودة لهذا الفن الأثير إلى أوسع قواعد الجماهير، فهو قناة رئيسة من قنوات الثقافة الجماهيرية، وثمة قابليات لتطويره بالاستفادة من الثورة التقنية والاتصالية والمعلوماتية فيما لو أحسن استعمال معطياتها ليصبح المسرح سبيلاً للتقارب الإنساني بمنظوماته القيمية المتكاملة والمتوازنة فناً جماهيرياً وراقياً بمحتواه الثقافي الرفيع، وهو  ما تتيحه أشكال المسرح المتعددة والمتجددة على الدوام.

وتقصيت حالة نهوض المسرح والوعي به في قطر عربي محدد هو سورية نموذجاً آخر للتطوير في الخطاب المسرحي، ولاسيما مسرح الأطفال الذي خرج من أحضان التعليم إلى رحابة الفكر والفنّ، ودعمت ذلك بفهارس مفصلة قدر الإمكان للجهد المبذول من أجل انتشار المسرح إلى جماهيره الواسعة.

وعلي أن أشير أخيراً إلى طابع الكتاب الجدالي، فقد تعمدت أن أتجنب التحليل الوصفي أو الشارح إلى الرأي في هذه الشؤون المسرحية العميقة والثرية، فأبرزت الآراء المتعارضة أو المختلفة وحاورتها لإيماني بأن المسرح العربي المعاصر يتأسس من جديد بروح الأصالة والتفتح والحرية والإبداع كما أوضحت مواد هذا الكتاب.

 

المصادر والمراجع

ـ الكتب ـ

- ابن ذريل، عدنان:

- «فن المسرحية» مع تلخيص لكتاب الشعر لارسططاليس، دار الفكر، دمشق، 1963.

- ‏«الشخصية والصراع المأساوي: دراسة نفسية في طلائع المسرح الشعري العربي - أحمد شوقي- عزيز أباظة - عدنان مردم بك»، مطابع ألف باء الأديب، دمشق، 1963.

- «الأدب المسرحي في سورية»، صالة الفن الحديث، دمشق، 1970.

- «مسرح وليد مدفعي»، دار الأجيال، دمشق، 1970.

- «في الشعر المسرحي: أحمد شوقي - عزيز أباظة -عدنان مردم بك»، دار الأجيال، دمشق، 1970.

- «المسرح السوري منذ أبي خليل القباني إلى اليوم»، دمشق، 1973.

- «مسرح علي عقلة عرسان»، مطبعة الكاتب العربي، دمشق، 1980.

- «رواد المسرح السوري بين أواسط العشرينات وأوساط الستينات»، وزارة الثقافة، دمشق، 1993.

- «فن كتابة المسرحية»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1996.

- «تحولات عازف الناي»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1997.

- «النص والأسلوبية بين النظرية والتطبيق»، منشورات اتحاد الكتاب، العرب، دمشق 2000.

- سليمان، نبيل: «النقد الأدبي في سوريا»، ج1، دار الفارابي، بيروت، 1980م.

- أبو هيف، عبدالله:

- «التأسيس: مقالات في المسرح السوري»، منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، 1979م.

- «الإنجاز والمعاناة - حاضر المسرح العربي في سورية»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1988.

- «عن التقاليد والتحديث في القصة العربية»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1993.

- «القصة العربية الحديثة والغرب: سيرورة التقاليد الأدبية في القصة العربية الحديثة»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1994م.

- إدريس، يوسف: «نحو مسرح عربي»، الوطن العربي للنشر، القاهرة 1974م.

- إسماعيل، إسماعيل فهد: «الكلمة ـ الفعل في مسرح سعد الله ونوس»، دار الآداب، بيروت 1981م.

- أطيمش، محسن: الشاعر العربي الحديث مسرحياً، بغداد 1977م.

- إلياس، ماري (إعداد بالاشتراك مع حنان قصاب حسن): «المعجم المسرحي: مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض» عن مكتبة لبنان، ناشرون، بيروت، 1997.

- باختين، ميخائيل:

- «الخطاب الروائي»، (ترجمة وتقديم محمد برادة)، دار الفكر، القاهرة، 1987.

- «الكلمة في الرواية» (ترجمة وتقديم يوسف حلاق)، وزارة الثقافة، دمشق، 1988.

- باكثير، علي أحمد: «فن المسرحية من خلال تجاربي المسرحية»، مطبوعات جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية.

- باييخو، انطونيو بويرو:

- «القصة المزدوجة للدكتور بالمي» (ترجمة وتقديم: د. صلاح فضل، مراجعة د.محمود مكي)، سلسلة من المسرحي العالمي 55، الكويت 1974م.

- «وصول الآلهة» (ترجمة د. صلاح فضل)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1976م.

- بحراوي، حسن: «المسرح المغربي: بحث في الأصول السوسيوثقافية»، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء 1994م.

- بدوي، عبدالرحمن: «دور العرب في تكوين الفكر الأوربي»، دار الآداب، بيروت، 1966.

- برشيد، عبد الكريم: «حدود الكائن والممكنة في المسرح الاحتفالي»، دار الثقافة، الدار البيضاء 1985م.

- بركات، وائل: «الواقعية الاشتراكية ـ المغامرة والصدى ـ دراسة مقارنة»، وزارة الثقافة، دمشق، 1997.

- بلبل، فرحان:

- «المسرح العربي المعاصر في مواجهة الحياة»، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1984.

- «أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي»، منشورات وزارة الثقافة، المعهد العالي للفنون المسرحية، دمشق، 1991.

- «المسرح السوري في مئة عام 1847-1946»، منشورات وزارة الثقافة، المعهد العالي للفنون المسرحية، دمشق، 1997.

- «المسرح التجريبي الحديث عالمياً وعربياً»، منشورات وزارة الثقافة، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، القاهرة، 1998.

- بن زيدان، عبد الرحمن:

- «قضايا التنظير للمسرح العربي»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1992م.

- «من قضايا المسرح المغربي»، مطبعة صوت مكناس 1978م.

- بنتلي، اريك (تقديم وتحرير): «نظرية المسرح الحديث»، (ترجمة يوسف عبد المسيح ثروت)، بغداد 1975م.

- بوتيتسيفا، مارا الكساندروفنا: «ألف عام وعام على المسرح العربي»، (ترجمة توفيق المؤذن)، دار الفارابي، بيروت 1981م.

- بيكوك، رونالد: «الشاعر في المسرح»، (ترجمة ممدوح عدوان)، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1978م.

- تودوروف، تزفيتان: «المبدأ الحواري: دراسة في فكر ميخائيل باختين»، (ترجمة فخري صالح)، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1992.

- الحكيم، توفيق:

- «الملك أوديب»، مكتبة الآداب، القاهرة، (د.ت).

- «قالبنا المسرحي»، المطبعة النموذجية، القاهرة (د. ت) 1967م.

- «زهرة العمر».

- الراعي، د.علي: «المسرح في الوطن العربي»، سلسلة «عالم المعرفة»، 25، الكويت، 1980م.

- زنكنة، محي الدين: «اليمامة»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1982م.

- السلاوي، محمد أديب: «المسرح المغربي، من أين وإلى أين؟»، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1975م.

- سوتدرز، فرانسيس ستونر: «الحرب الباردة الثقافية: المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون الآداب» (ترجمة طلعت الشايب)، «المشروع القومي للترجمة»، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2002م.

- شلش، علي: «الدراما الإفريقية»، سلسلة «كتابك» رقم 100، دار المعارف.

- الشوباشي، مفيد: «رحلة الأدب العربي إلى أوربا»، دار المعارف، القاهرة، 1968.

- صقور، مالك: «بوشكين والقرآن: دراسة في الأدب المقارن»، دمشق، 2001.

- عاشور، نعمان: «الناس اللي تحت»، دار النديم، القاهرة.

- عدة مؤلفين:

- مؤتمر الأدباء العاشر ومهرجان الشعر الثاني عشر الجزء الأول والجزء الثاني، الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، وزارة الإعلام والثقافة، مطابع الشركة الوطنية للنشر والتوزيع (د.ت).

- المؤتمر الحادي عشر للأدباء العرب، منشورات اتحاد الأدباء والكتاب بالجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، مطابع دار الخلود، بيروت (د.ت).

- مؤتمر الأدباء العرب، الدورة الرابعة، الكويت 20-28 كانون الأول/ ديسمبر 1958م، الكويت، مطبعة الحكومة 1958م.

- «المسرح العربي بين النقل والتأصيل»، سلسلة كتاب «العربي»، الكويت، 1988.

- «قضايا الأدب العربي»، الجامعة التونسية، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، تونس، 1978.

- المؤتمر العام الثاني عشر للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ومهرجان الشعر الرابع عشر، ثلاثة أجزاء، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1979م.

- «رؤى إسبانية في الثقافة العربية»، (ترجمة صالح علماني)، وزارة الثقافة، دمشق 1990م.

- «الثقافة العربية ـ الإسبانية عبر التاريخ»، وزارة الثقافة، دمشق 1991م.

- «مفهومات في بنية النص» (ترجمة د. وائل بركات)، دار معد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 1996م.

- عرسان، علي عقلة:

- «الظواهر المسرحية عند العرب»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1981م.

- «وقفات مع المسرح العرب»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1996م.

- عساف، روجيه: «المسرحية.. أقنعة المدينة»، دار المثلث، بيروت 1984م.

- العشري، جلال: «مسرح أو لا مسرح»، مطبوعات الجديد، العدد 39، تموز 1975م.

- الغمري، مكارم: «مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي»، سلسلة «عالم المعرفة»، الكويت، 1991.

- فضل، صلاح: «تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي»، دار المعارف، القاهرة، 1971.

- فيلاندت، روتراند: «صورة الأوروبيين في أدب المسرح والقصة العربية»، بيروت 1980م (باللغة الألمانية) مع خلاصة باللغة العربية.

- قطاية، سلمان: «المسرح العربي من أين؟ وإلى أين؟»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1972م.

- قطب، سيد محمد السيد (وزميله د. عبد المعطي صالح): «أيقونة الحداثة: صلاح فضل»، دار شرقيات، القاهرة.

- قلعة جي، عبد الفتاح: «مسرح الريادة»، دار الأهالي، دمشق 1988م.

- كامب، جان: «الأدب الإسباني» (تعريب بهيج شعبان)، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1956.

- لوتمان، يوري: «تحليل النص الشعري ـ مهاد نقدي»، ترجمة محمد فتوح أحمد، منشورات النادي الأدبي، جدة، السعودية، 1999.

- المديوني، محمد: «إشكاليات تأصيل المسرح العربي»، بيت الحكمة، قرطاج 1993م.

- مكي، الطاهر أحمد: «ملحمة السيد: دراسة مقارنة»، دار المعارف، القاهرة، 1970.

- المنيعي، حسن: «أبحاث في المسرح المغربي»، مطبعة مكناس، مكناس، 1974م.

- المهماه، مصطفى: «المجتمع الأهيلي والمسرح»، الرباط.

- الموسوي، محسن جاسم: «ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي»، دار الآداب، بيروت، 1986.

- موسى، فاطمة (إشراف): «قاموس المسرح» (عدة أجزاء)، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 1993-2001.

- ونوس، سعد الله: «الاغتصاب»، دار الآداب، بيروت 1990م.

 

ـ الدوريات ـ

- أبو النجار، د. السيد عطية: «المسرح في الوطن العربي عالمياً» في مجلة «المعرفة» (دمشق)، ع136، حزيران 1973م، ص212 وما بعدها.

- أبو هيف، عبد الله:

- «جبل من كتّاب المسرح المصري المعاصر» في مجلة «المعرفة» (دمشق)، ع104 تشرين الأول 1970م، ص121 وما بعدها.

- «المدنسة بين ليبرالية الكاتب والتزام المخرج» في جريدة «الثورة» (دمشق)، 30/1/ 1970م.

- «النوايا الطيبة في مؤتمر المسرح العربي» في مجلة «جيل الثورة»، دمشق، العدد 76-16 حزيران 1973م، ص28-29.

- «جهود كبيرة وضائعة» في جريدة «البعث»، دمشق، 28/8 و4/9/1980.

- برشيد، عبدالكريم:

- «المسرح العربي: تجارب وأسماء وتوجهات» في مجلة «الحياة المسرحية»، دمشق، ع22-23، 1984.

- «واقع الحركة المسرحية بالمغرب» في مجلة «الثقافة الجديدة»، المحمدية، س2، ع7، ربيع 1977م.

- «شكل المسرح العربي» في مجلة «الحياة المسرحية»، دمشق، ع24-25، صيف 1985.

- «الثقافة الجديدة المغربية: ألف باء الواقعية الاحتفالية في المسرح»، س2، ع7 ربيع 1977م.

- «ألف باء المنهج الاحتفالي في النقد»، في مجلة «الزمان المغربي»، الرباط، س3، ع5 شتاء 1981م.

- بلبل، فرحان:

- «الأدب المسرحي في سورية، خليل هنداوي»، «الحياة المسرحية»، دمشق، العدد3، شتاء 1977/1978.

- «الأدب المسرحي في سورية، مراد السباعي وبواكير تأصيل المسرح»، «الحياة المسرحية»، دمشق، العدد4+5، ربيع صيف 1978.

- «الأدب المسرحي في سورية، القسم الثاني 1950-1967»، «الحياة المسرحية»، دمشق، العدد6، خريف 1978.

- «دراسات في المسرح السوري الجزء الثاني، وليد إخلاصي»، «الحياة المسرحية»، دمشق، العدد 7+8، شتاء ربيع 1979.

- «المسرح السوري الجزء الثاني (2) حسيب كيالي»، «الحياة المسرحية»، دمشق، العدد9، صيف 1979.

- «الأدب المسرحي في سورية المرحلة الثالثة»، «الحياة المسرحية»، دمشق، العدد13، صيف 1980.

- «الأدب المسرحي في سورية، رياض عصمت»، «الحياة المسرحية»، دمشق، العدد17+18، صيف+خريف 1981.

- «ونوس والمسرح التجريبي»، «الحياة المسرحية»، دمشق، العدد45، 1998.

- الجزائري، سليم: المسرح الأسود التشيكوسلوفاكي، الأقلام، البغدادية، عدد خاص، المسرح العالمي، العدد 1، 1979م.

- حسني، المختار: «من التناص إلى الأطراس» في مجلة «علامات»، جدة، ج25، م7.

- حمادة، إبراهيم: «توفيق الحكيم والبحث عن قالب مسرحي عربي» في مجلة «فصول»، (القاهرة)، المجلد2، ع3، نيسان-أيار، حزيران 1982.

- الحمو، أحمد: «الملك هو الملك أم الرجل هو الرجل بين سعد الله ونوس وبرتولت بريخت» في «الموقف الأدبي»، دمشق، العدد 86، حزيران 1978م، ص ص116-121.

- الريحاني، أمين البرت: سلسلة مقالات عن «مسرح الشاعر»  في «نهار الأحد» اعتباراً من 26 شباط 1978م.

- سالم، اكويندي: «التركة والاستئناف في مسرح الهواة» في مجلة «المدينة»، الدار البيضاء، ع4- 5 حزيران 1979م، ص136.

- سعود، أحمد:

            - «ملاحظات أولية حول ما يسمى بمسرح «الهواة» المغرب» في مجلة «أقلام»، الرباط، السلسلة الجديدة، ع6 سبتمبر 1977م ص104.

            - «من منطلق الرد على الاحتفالية في انتقاداتها المبريشتية» في مجلة «أقلام»، الرباط، السلسلة الجديدة، عدد 3 أبريل 1978م.

- السلاوي، محمد أديب:

- «إطلالة على التراث المسرحي للمغرب: الاحتفالية أو ما قبل المسرحية» في مجلة «الأقلام» بغداد ع6، آذار 1980م.

- «مسرحنا العربي بين الاحتفالية والتراث» في مجلة «الأقلام»، بغداد، س15، العدد 2 تشرين الثاني 1997م.

- «النص المسرحي في المغرب» في مجلة «الحياة المسرحية» دمشق، ع2، خريف 1977م ص89.

- «الاحتفالية المسرحية بين آفاق المستقبل والإشكالية التراثية» في مجلة «الحياة المسرحية» دمشق، ع10 خريف 1979م.

- السيد، غسان: «سعد الله ونوس وانطونيو باييخو ـ الصوت والصدى» في مجلة «جامعة دمشق للآداب والعلوم الإنسانية»، دمشق، المجلد 17، العدد الأول 2001م، ص83-99.

- الشريف، عبد الرحيم (وإرشاد حسن): نفسه: «حول الاحتفالية، القسم النظري» في مجلة «الثقافة الجديدة»، المحمدية، ع17، س5، 1980م.

- الشمعة، خلدون: «المثاقفة الأليوتية»، في مجلة «فصول»، القاهرة، المجلد 15 العدد 3 خريف 1996م، ص62.

- الصبان، د.رفيق: «الرؤية المسرحية» في مجلة «المعرفة» (دمشق)، ع124- 125.

- عدة مؤلفين:

- «وثائق ندوة الحمامات ومناقشات ندوة مهرجان دمشق الرابع» في مجلة «المعرفة» (دمشق)، ع104 تشرين الأول 1970م.

- «دراسات مؤتمر المسرح في الوطن العربي» في مجلة «المعرفة» (دمشق)، ع136، حزيران 1973م.

- فصلية «معلومات المسرح العالمي» بالإنكليزية والفرنسية. شتاء 1973م.

- «وثائق مهرجان دمشق السادس» في مجلة «الموقف الأدببي» (دمشق)، ع1- 2 السنة الخامسة، أيار، حزيران 1975م.

- «المسرح العربي ومشكلة التبعية» في مجلة «عالم الفكر»، الكويت، المجلد17، العدد4، آذار، 1987.

- عطية، أحمد محمد: «نحو تأصيل المسرح العربي» في مجلة «قضايا عربية»، بيروت، عدد خاص «أزمة المسرح العربي»، س7، ع12، كانون الأول 1980.

- العيوطي، أمين: تعقيب على بحث «شكل المسرح العربي» في مجلة «الحياة المسرحية»، دمشق، ع24-25، ربيع، صيف، 1985.

- كرم، رئيف: «في المسرح ومكانته في حياتنا الاجتماعية» في مجلة «الفكر العربي»، بيروت، ع14، آذار-نيسان، 1980.

- محمد، خراف: «نشأة المسرح المغربي وإسهامات الطيب الصديقي» في مجلة «الأقلام»، بغداد، س15، ع6، آذار 1980م.

- المدني، عزالدين: «نحو كتابة مسرحية عربية حديثة» في مجلة «الحياة الثقافية»، تونس، ع4، شباط 1978.

- المسناوي، أحمد: «البطل في المسرح التراثي العربي من خلال نموذجين» في مجلة «أقلام»، الرباط، س15، ع5-6 دجنبر 1980م.

- نيوف، نوفل (ترجمة): «ألف عام وعام على المسرح العربي» في مجلة «الحياة المسرحية»، دمشق، العدد 3 شتاء 77-1978م.

- ونوس، سعد الله: «حول مقارنة الدكتور الحمو بين مسرحيتي الملك هو الملك والرجل برجل» في «الموقف الأدبي»، دمشق، العدد 90، تشرين الأول 1978م.

- يوسف، فاضل: «المسرح التقليدي: عناصره الفكرية والجمالية» في مجلة «الثقافة الجديدة»، المحمدية، س5، ع20، 1980م.

 

أضيفت في 01/11/2008/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية