أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: حنا مينه

       
       
       
       
       

حوار أدبي

 أضواء على السيرة الذاتية

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

* ولد في اللاذقية 1924 لعائلة فقيرة، وعاش طفولته في حي (المستنقع) في إحدى قرى لواء اسكندرون. بعد ضم اللواء لتركيا عام 1939، عاد مع عائلته إلى اللاذقية حيث عمل حلاقاً.

* احترف العمل بداية في الميناء كحمّال ثم احترف البحر كبحّار على المراكب.

* اشتغل في مهن كثيرة ، من أجير مصلّح دراجات، إلى مربّي أطفال في بيت سيد غني، إلى عامل في صيدلية، إلى حلاّق، إلى صحفي، إلى كاتب مسلسلات إذاعية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة ، إلى روائي، وهنا المحطة قبل الأخيرة،

* أرسل قصصه الأولى إلى الصحف الدمشقية.

* انتقل إلى بيروت عام 1946 بحثاً عن عمل ثم إلى دمشق عام 1947 حيث استقر فيها، وعمل في جريدة الإنشاء حتى أصبح رئيساً لتحريرها.

* البداية لأدبية الأولى كانت متواضعة جداً ، فقد أخذ بكتابة الرسائل للجيران، وكتابة العرائض للحكومة

* ثم  تدرّج، من كتابة الأخبار والمقالات الصغيرة، في صحف سوريا ولبنان، إلى كتابة القصص القصيرة.

* بدأت حياته الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية ولما ضاعت تهيب من المسرح

* أولى رواياته التي كتبتها كانت (المصابيح الزرق)

*الأعمال الأدبية (30 رواية حتى الآن) منها حوالي الثمان خصصها للبحر الذي عشقه

* من  روايته الشهيرة  (النجوم تحاكم القمر)، و(القمر في المحاق ) ، ( نهاية رجل شجاع ) ، ( بقايا صور ) .. ومنها ما تحول  إلى أعمال تلفزيونية .

*دخل المعترك السياسي الحزبي مبكرا وهو  فتى في الثانية عشرة من عمره وناضل ضد الانتداب الفرنسي، ثم هجر الانتماء الحزبي  في منتصف الستينيات، وكرّس حياته  للأدب، وللرواية تخصيصاً

* عاش رحلة اغتراب قاسية بين المدن : انطلق من اللاذقية إلى سهل أرسوز قرب أنطاكية، مروراً باسكندرونة ، ثم  اللاذقية من جديد، وبيروت، ودمشق، وبعد ذلك تزوج، وتشرد مع عائلته  لظروف قاهرة، عبر أوربا وصولاً إلى الصين، حيث أقام خمس سنوات، وكان هذا هو المنفى الاضطراري الثالث، وقد دام العشرة من الأعوام.

* ساهم مع لفيف من الكتاب اليساريين في سورية عام (1951) بتأسيس رابطة الكتاب السوريين، والتي كان من أعضائها : سعد حورانية ـ فاتح المدرس ـ شوقي بغدادي ـ صلاح دهني ـ مواهب كيالي ـ حسيب كيالي ـ مصطفي الحلاج وآخرون، وقد نظمت الرابطة عام (1954) المؤتمر الأول للكتاب العرب بمشاركة عدد من الكتاب الوطنين والديمقراطيين في سورية والبلاد العربية.

* ساهم في تأسيس اتحاد الكتاب العرب

* كتب الكثير من الروايات، معظمها يصف حياة البحارين في اللاذقية وصراعهم مع أخطار البحر.

* أب لخمسة أولاد، بينهم صبيان، هما سليم، توفي في الخمسينيات، في ظروف النضال والحرمان والشقاء، والآخر سعد، أصغر أولاده ، وهو ممثل ناجح  الآن، شارك في بطولة المسلسل التلفزيوني (نهاية رجل شجاع) المأخوذة عن رواية والده ولديه ثلاث بنات: سلوى (طبيبة)، سوسن (مخدرة وتحمل شهادة الأدب الفرنسي)، وأمل (مهندسة مدنية) وقد تزوجن

* كما شارك بدور البطولة (شاهين) في المسلسل التلفزيوني المهم (الجوارح) وكلا المسلسلين من إخراج نجدت إسماعيل أنزور

 

يقول عن نفسه

(أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين) فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذّته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً.إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى في حي (المستنقع) الذي نشأت فيه في اسكندرونة، مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، هذه التي هي الخطوة الأولى في (المسيرة الكبرى) نحو الغد الأفضل

 

يقول عن مهنته الأخيرة

مهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة.

لا تفهموني خطأ، الحياة أعطتني، وبسخاء، يقال إنني أوسع الكتّاب العرب انتشاراً، مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قبّاني وغزلياته التي أعطته أن يكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين.

 

يطالبونني، في الوقت الحاضر، بمحاولاتي الأدبية الأولى، التي تنفع النقاد والدارسين، لكنها، بالنسبة إلي، ورقة خريف اسقطت مصابيح زرق

 

يقول عن البحر الذي عشقه

إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل:

هل قصدت ذلك متعمّدا؟ في الجواب أقول:

في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر!

أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟

إنه يتعمّد بماء اللجة لا بماء نهر الأردن، على طريقة يوحنا! أسألكم: أليس عجيباً، ونحن على شواطئ البحار، ألا نعرف البحر؟ ألا نكتب عنه؟ ألا نغامر والمغامرة احتجاج؟ أن يخلو أدبنا العربي، جديده والقديم، من صور هذا العالم الذي هو العالم، وما عداه، اليابسة، جزء منه؟!

البحّار لا يصطاد من المقلاة! وكذلك لا يقعد على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة.

إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء!

الأدباء العرب، أكثرهم لم يكتبوا عن البحر لأنهم خافوا معاينة الموت في جبهة الموج الصاخب.

 

لا أدّعي الفروسية، المغامرة نعم! أجدادي بحّارة، هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحّار على المراكب. كان ذلك في الماضي الشقي والماجد من حياتي، هذه المسيرة الطويلة كانت مشياً، وبأقدام حافية، في حقول من مسامير، دمي سال في مواقع خطواتي: أنظر الآن إلى الماضي، نظرة تأمل حيادية، فأرتعش. كيف، كيف؟!

أين، أين؟! هناك البحر وأنا على اليابسة؟! أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلماً جميلاً؟! السبب أنني مربوط بسلك خفي إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي الشام الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيّم ببردى، لذلك أحب فيروز والشاميات.

 

 من أشهر رواياته

"المصابيح الزرق" و"الشراع والعاصفة" و"الياطر" و"الأبنوسة البيضاء" و"حكاية بحار" و"نهاية رجل شجاع".

 

 

أضواء على السيرة الذاتية

 

لم أكن أتصور بأنني سأصبح كاتبا

 

لم أكن أتصور حتي في الأربعين من عمري أنني سأصبح كاتباً معروفاً، بدأت رحلة التشرد وأنا في الثالثة من عمري، وهذه الرحلة من حيث هي ترحال مأساوي في المكان، عمرها الآن ثمانون عاماً، أما رحلتي في الزمان فهي أبعد من ذلك وستبقي ما بقيت .

كان أبي رحمة الله رحالة من طراز خاص، لم ينفع ولم ينتفع برحلاته كلها، أراد الرحيل تلبية للمجهول، تاركاً العائلة أغلب الأحيان، وفي الأرياف للخوف والظلمة والجوع، ولطالما تساءلت وراء أي هدف كان يسعي؟ لا جواب طبعاً، انه بوهيمي بالفطرة .

كنت عليلاً، أمي وأخواتي الثلاث عملن خادمات، عملت أنا الصبي الوحيد، الناحل، أجيراً .

بداياتي الأدبية كانت متواضعة جداً، فقد أخذت منذ تركت المدرسة الابتدائية بكتابة الرسائل للجيران، وكتابة العرائض للحكومة، كنت لسان الحي الي ذويه، وسفيره المعتمد لدي الدوائر، أقدّم لها بدلاً من أوراق الاعتماد عرائض تتضمن شكاوي المدينة ومطالبها، هنا كنت صدامياً ومنذ يفاعتي: اننا جياع، عاطلون عن العمل، مرضي، أميون، فماذا يريد أمثالنا؟ العمل، الخبز، المدرسة، المستشفي، رحيل الانتداب الفرنسي ومطالبة الحكومة في فجر الاستقلال أن تفي بوعودها المقطوعة لأمثالنا... بدأت حياتي الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية، صرخت فيها علي كيفي، غيرت العالم علي كيفي، أقمت الدنيا ولم أقعدها، ضاعت المسرحية ومنذئذ تهيبت الكتابة للمسرح ولم أزل، القصص ضاعت أيضاً، لم اشعر بالأسف وكيف أشعر به وحياتي نفسها ضائعة؟ ثمّ انني لم أفكر وأنا حلاق وسياسي مطارد بأنني سأصبح كاتباً، كان هذا فوق طموحي رغم رحابة هذا الطموح صدقوني انني حتي الآن كاتب دخيل علي المهنة وأفكر بعد هذا العمر الطويل بتصحيح الوضع والكف عن الكتابة، فمهنة الكتابة ليست سواراً من ذهب بل أقصر طريق الي التعاسة الكاملة .

لقد كتبت عن مصادفات في حياتي كنت فيها قريباً من البحر وقادراً أن أكون بجواره، ولكنني لا أقبل أن أقيم الا في بيتي في دمشق التي أحبها جداً وأتغزل بها حيثما ذهبت. 

حملت صليبي منذ ستين عاماً ولم أجد من يصلبني لعلني أستريح، لقد بت أكره الكتابة بت أكره هذه المهنة الحزينة التي لا فكاك منها الا بالموت وقد بت أخاف ألا أموت وكان ذلك عقابا لي علي اختراقي للمألوف، أعيش في قلق، وأبارك هذا القلق ثلاثاً وألعن الطمأنينة، دودة الفكر التي تنقب في دماغي لا تتركني أستريح والنفس تأبي أن تستريح، الروح المجروحة المدماة لا تشيخ بل تنزل مع صاحبها الي القبر، الجسد هو الذي يخون وقد خانني جسدي . 

عشت عمري كلّه مع المغامرة، كنت علي موعد مع الموت ولم أهبه، الموت جبان لمن ينذر له نفسه. ثمانون عاماً تضعني علي مزلقها والموت الذي أسعي اليه يفرّ مني !

 

من أي جامعة تخرجت 

 

 

الراحل الدكتور عادل العوا، استاذ الفلسفة في جامعة دمشق، سألني وأنا إلى جانبه في احدى المناسبات: "دكتور حنا، من أي جامعة تخرّجت؟" أجبته بغير قليل من الجدية "من جامعة الفقر الأسود!" قال: "عجيب، أنا لم اسمع بهذه الجامعة!".

 

الدكتور العوا كان طيباً، درس الفلسفة وعلّمها في جامعة دمشق، لكنه، كما يبدو، انصرف إلى قراءة الفلسفة، وتعليمها، وكتب بعض المؤلفات، ومنها كتابه المعروف "الكرامة"، ولم يكن لديه وقت لقراءة الأدب، وهذا مؤسف، إلا انه واقع، فالطبقة الليبرالية في سورية، وربما في الوطن العربي أيضاً، لا تقرأ الأدب، ولماذا تقرأه، وهي تسعى إلى ما هو أنفع، فمتاع الدنيا الغرور، ينفع كثيراً، سواء في الوجاهة، أو جمع ما يؤكد هذه الوجاهة، ويثبتها، ويجعلها بريقاً أصفر، يسطع كنور الشمس في أيام الصيف، وتبقى قراءة الأدب ترفاً، يمارسه من ليس له ترف، في الوجاهة أو السيادة، أو المكانة المرموقة في المجتمع، مثل بعض المثقفين، والطلاب الجامعيين، والشرائح التي تسعى إلى المعرفة، لإدراك ما يجري في العالم من حولها، عربياً ودولياً!

 

بالنسبة لي، أنا خريج جامعة الفقر الأسود، الفقر نوعان: أبيض كالذي اعيشه الآن، وأسود كالذي عشته في طفولتي، حين كنت جائعاً، حافياً، عارياً، حرصت أمي، على ادخالي المدرسة، كي يتعلم "فكّ الحرف"، وأن أصبح، بعد فكّه، كاهناً أو شرطياً، ولا توسط بينهما، وبعد ان كبرت، وألقيت بنفسي في التيار الهادر لمقاومة الاحتلال الفرنسي، تمنت الأم لو لم ترسلني إلى المدرسة، وان أكون راعياً، بدل ان أكون مكافحاً في سبيل الاستقلال، وما عانيته في السجون الفرنسية، وحتى السجون الوطنية، على امتداد عهد الاقطاع، بعد الاستقلال، كان يؤرقها.

 

آمال الأم خابت كلها، فلم ارتسم كاهناً، ولا دخلت سلك الشرطة، أو قدّر لي ان أكون راعياً، مع انني مارست من المهن ما هو أبشع منها وأفظع، فقد عملت، كما هو معروف من سيرة حياتي، أجيراً واجيراً وأجيراً، وتطوعت في البحرية بعد دخول قوات فرنسا الحرة إلى سوريا، في الحرب العالمية الثانية، ولما لم يكن لي حظ التعبئة والتسويق إلى العلمين، لقتال جيش رومل، ذئب الصحراء، فقد تركت الخدمة كجندي في البحرية، لأصبح بحاراً، لمدة قصيرة، على المراكب الشراعية، التي تنتقل بين مرافئ المتوسط العربية، وعلى هذه المراكب، خلال العواصف، عاينت الموت، في نظرات باردة، لأفعى اللجة، ومن هنا كان ولعي بالبحر، ثم الكتابة عنه، عندما تعاطيت مهنة الحرف الحزينة، القذرة واللذيذة، حسب تعبير ارنست همنغواي، والتي لا انفكاك منها سوى بالموت.

 

لقد قلت، صادقاً، انني ولدت بالخطأ، ونشأت بالخطأ، وكتبت بالخطأ، فالطفل العليل، الذي تنوس حياته كذبالة الشمعة الواهنة، لم تطفئ ريح المتون ذبالة شمعته، وبعد الابحار على المراكب، غدا الرغيف خيَّالاً، وعلي، سداً لجوع العائلة، ان اركض وراءه، ولا أزال، وفي مزدلف الشوط، لم يكن لي، بعدُ، شرف الفروسية، فقد اضطررت للعمل حمالاً في المرفأ، ثم حلاقاً على باب ثكنة في مدينة اللاذقية، ومن الحلاقة إلى الصحافة، ومن الصحافة إلى كتابة المسلسلات الاذاعية، بالفصحى والعامية، ومنها إلى الوظيفة في وزارة الثقافة، وقبل ذلك إلى المنافي، لأسباب قاهرة، حيث التشرد في أوروبا، والنوم تحت الجسور في سويسرا، وطلب العمل، لا العلم، في الصين، وكل هذا، أو أكثره، معروف من القراء الأعزاء، اذكره للشكر لا لعرض الحال، والشكر، هنا، لأن حياتي الحافلة بالتجارب القاسية، قد نفعتني "أنا الحديدة التي تفولذت بالنار" في المقبل من أيامي، عندما بدأت بالكتابة الفعلية في الأربعين من عمري.

 

إن العمل في البحر، افادني في كتابة الشراع والعاصفة" والعتالة في المرفأ، اتاحت لي ان اكتب "نهاية رجل شجاع" والاختباء في الغابات، أيام مطاردة الفرنسيين، وفر لي المادة لكتابة "الياطر" أي مرساة السفينة، التي ستغدو أشهر رواياتي، رغم اني لم اكتب الجزء الثاني منها، والناشر لأعمالي يلاحقني كي اكتب هذا الجزء، وأعد، ويتلو الوعد وعداً، والوفاء، منذ ثلاثين عاماً، في مطاوي السحب الأبيض، الارجوانية عند الغروب، حتى بلغت من العمر عتياً، وصار الجزء الثاني نسياً منسياً، ويئس القراء مني، فاسترحت كما لم استرح من قبل، وادرك من حولي، انني نصف عاقل نصف مجنون، وانني، كما أقول، أفضّل نصفي المجنون على نصفي العاقل!

 

المشكلة ان "من شبّ على شيء شاب عليه" كما يقول المثل، وقد شببت على حب المغامرة حتى صارت في دمي، وصرت على موعد معها، فحيث تكون أكون، ولأنها كائنة في حلق الردى، فإنني من هذا الحلق امرق، فارداً جناحي، في تحليق كتحليق المغامر عباس بن فرناس، دون ان اسقط أو تدق رقبتي، إلا ان هذا التحليق، بحثاً عن المغامرة وفيها، سيتكرر، فالمرء الذي اختاره القدر ليكون كاتباً، أمامه خياران: جنح عصفور أم جنح نسر، وفي الشعر لابد أن يختار الشاعر جنيح نسر، وإلا ظل خائباً كبعض الذين يرفرفون بأجنحتهم فوق مستنقع الكتابة، دون ان يطيروا، ان يحلقوا، فالتحليق في الابداع له شروطه، وفي رأسها ألا يخاف الموت، فالموت، رغم ارتهانه لمشيئة الله، جبان في رأيي، وهو يأتي الحذَر من مكمنه، وأكثر الذين يخافون الموت، ويحتاطون في أمره، في الطعام والشراب والتغامر، أو بحثاً عما يقتل رتابة العيش، يموتون في رتابة عيشهم، وقبلاً يموتون، في الخوف من الموت، في موت أشد إيلاماً، تماماً كالذين هم، في الخوف من الفقر، في فقر، رغم اكتنازهم المال، لأن ما يصرف منه، هو وحده ملك صاحبه، أما ما يتبقى فإنه ملك الورثة، يبعثرونه، غالباً، في وجوه غير مستقيمة، انتقاماً من المورّث الذي حرمهم، في حياته، بعض ما يجعل عيشهم هنيئاً، أو أقل قتامة وادقاعاً.

 

وإذا كان الشعر، في التوسط، لا شعر، وان الشاعر، بغير تحليق، بغير حلم في هذا التحليق، يسقط في العدم، فإن القاص، مثل تشيكوف، أو مثل يوسف ادريس، له ايضاً سبب، وحتى ضرورة، في ان يرتفع بفنه، ومعه، إلى أعلى، ودائماً إلى أعلى، فالغمام الابداعي في الأعالي يكون، ومنها ينهمر عطراً على شباك فيروز، سفيرتنا إلى النجوم حسب تسمية سعيد عقل، وما يقال عن القاص، يقال بقدر أكبر، عن الروائي، الذي دون تغامر في التجارب، ولو فيها هلاكه، لن يبلغ أن يكون روائياً من لحم ودم، أو حتى ان يتوصل إلى جعل شخوص رواياته من لحم ودم، وبذلك يفقد قارؤه نشوة الانجذاب إليه، أو التحليق معه في الفضاءات التي ينبغي أن يحلق فيها، انطلاقاً من الواقع، وفي صيرورة هذا الواقع واقعاً فنياً، من خلال الانعكاس، في الذات الابداعية، والصدور عنها في معالجة ابداعية، تتطلب الخلق والخيال والتخييل والابتكار في السرد والحوار معاً.

نعم! أنا خريج جامعة الفقر الأسود أو لم يكن لي خيار، في دخول جامعة سواها، أو حتى مدرسة اعدادية، كي اعرف ان اكتب عن الجامعات والمدارس!

الخميس 2003/08/28 م

 

 

أنتم تسألون عن حياتي.. وأنا أجيبكم!

 

بلغت الثمانين من عمري، في 9 آذار 2004م وحتى هذا التاريخ كنت أخدع نفسي، أو تخدعني نفسي، فأقول للناس، وللقراء الأعزاء أيضاً، ان السبب في شهرتي كروائي، وسعة انتشاري في وطني العربي، وفي العالم كله، مردّه إلى الحظ، فأنا محظوظ جداً، يقرؤني الفقير والأمير، وانني، في سعة الانتشار، أكاد أقترب من سعة انتشار الشاعر المرحوم نزار قباني، وفق بيانات دار الآداب، العريقة بين دور النشر في لبنان كله، وربما في الوطن العري كله.

 

وقد سألتني سيدة مليحة، تحمل شهادة دكتوراة في تربية الأطفال، وهي رئيسة قسم الأطفال في وزارة الثقافة السورية، عن الانتشار الواسع هذا، فأجبتها:

- الحظ يا سيدتي!

قالت:

- وبعد الحظ؟

- الحظ ولا شيء آخر!

- لا! هناك شيء آخر فما هو؟ أجبني بصدق.

قلت بغرور:

- ما أريده أن يكون، يكون فعلاً!

سكتت السيدة، بعد أن أدهشها جوابي، لكنني أنا، عند بلوغي الثمانين شتاء أدركت أنني كاذب في امرين: الأول أن ما يقال عن ذكائي تهمة باطلة ستكشف في يوم من الأيام، والأمر الثاني انني غير محظوظ، لأنني نكبت في ثلاثة أجيال من عائلتي، ولا ازال رازحاً تحت نير اخطائي الكثيرة، غير المبررة بأي وجه، وانني احمل همي في طريقي الى، وأتألم من ثلاث عاهات: أولها معدتي التي لا ينفع فيها دواء، لأن بها كسلاً في الأمعاء، وتشنجاً في الجهاز الهضمي، وثانيها نتوءات عظمية في ظهري، أكاد أصرخ من ألمها، وثالثها ركبتي اليمنى، وما فيها من جفاف، لهذا ينصحني الأطباء أن أكتب ساعة واحدة، أستريح بعدها، وأنا أعاند وأكتب ساعات متواصلة.

 

ماذا أسمي هذا كله!؟ وهل أحيلكم إلى رواياتي فاتعبكم!؟ الأفضل ان أعرض الأمور بإيجاز، قدر المستطاع، وأن أحدثكم عن حياتي الأدبية، وكيف بدأت، وعن نشئتي الأولى! إنني لم أكن أتصور، حتى في الأربعين من عمري، إني سأصبح كاتباً معروفاً، فقد ولدت، كما هو معروف عني، بالخطأ، ونشأت بالخطأ، وكتبت بالخطأ أيضاً، ولنبدأ بالكلام على حياة الطفولة، هذه التي أصبحت بعيدة جداً الآن، من حيث هي ترحال مأساوي في المكان، عمرها الآن ثمانون عاماً، أما رحلتي في الزمان، فهي أبعد من ذلك، وستبقى ما بقيت، بسبب أن التأمل، التلفت، الاستشراف، تمثل الوعي الأول للوجود، وكل هذه الذكريات التي تنثال في الخاطر، أصبحت مرنقة الآن، وأنا ألعنها لأنها تغتالني بلا رحمة!

 

والدتي اسمها مريانا ميخائيل زكور، وقد رُزقت بثلاث بنات كن، بالنسبة لذلك الزمان، ثلاث مصائب، عانت منهن الكثير الكثير، فالوسط الفقير الى حد التعاسة، كان يشكل عقلية سلفية بالغة القسوة، وقد تعاون هذا الوسط، وما فيه من ظلم ذوي القربى، على اذلال والدتي، باتهامها أنها لا تلد إلا البنات، وكان المطلوب أنه تلد المرأة الصبيان، وفي الأقل الأقل، أن تلد صبياً بعد بنت، لكن القدر شاء أن تحمل وتلد البنات الثلاث بالتتابع، الأمر الذي كان يحمل إليها مرارة الشقاء، بالتتابع أيضاً.

 

وستقول لي أمي، حين أكبر: «أسمع يا حنا! أنت ابن الشحادة، فقد شحدتك، منذ تزوجت أباك، وفي كل مرة كنت أحمل فيها، كانت تعاقبني، فأرزق ببنت، أنا التي كنت أسألها الصبي، أسألها أنت، وأنت لم تأت إلا في الحمل الرابع، الذي بكيت فيه من الفرح، بينما كنتُ، قبل ذلك، أبكي من الحزن. لقد منحتني إياك بعد طول انتظار، وطول معاناة، لكن المحنحة كانت، حتى مع الشكر، منحة مهددة بالأمراض، والخوف عليك منها، ثم الدعاء إلى الله، في أن تعيش، كرمي لي، حتى لا أعيش الخيبة من جديد، وهذ ما حدث، فقد ولدت عليلاً، ونشأت عليلاً، وكان الموت والحياة يحومان حول فراشك، الذي كان طراحة على حصيرة في بيت فقير الى حد البؤس الحقيقي.. كنت شمعة تنوس ذبالتها في مهب ريح المرض، وكنت اسأل الله، وأنذر النذور، وأسأل الريح، بكل ما في الابتهال من ضراعة، ألا تنطفئ الشمعة التي كنتها، حتى لا أفجع فجيعة تودي بي إلى القبر، وشاء الله، سبحانه وتعالى، أن تعيش في قلب الخطر، وهذا الخطر لازمك حتى الشباب، وعندها تحول من خطر الموت إلى خطر الضياع، في السجون والمنافي، هذه التي أبكتني بكاءً مضاعفاً، خشية ألا أراك، وأنت تعطي نفسك للعذاب في سبيل ما كنت تسميه المتحرر من الاستعمار الفرنسي، وتحقيق العدالة الاجتماعية!».

 

هكذا ولدت في قلب الخطر، وترعرعت في جوف حوته أيضاً، وناضلت ضد هذا الخطر بلا هوادة، فكان المبدأ الذي شببت عليه، عاملاً أساسياً في شفائي الجسدي والنفسي، لذلك قلت يوماً، بعد أن صرت كاتباً: «أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين» فالكفاح له فرحة، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحياة الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن، في أغماقك، أن انقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها ايضاً.

 

إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى، في حي «المستنقع» الذي نشأت فيه في اسكندرونة، مثل للتجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، هذه التي هي الخطوة الأولى في «المسيرة الكبرى» نحو الغد الأفضل.

 

لقد تقضى العمر، في حلقاته المتتابعة، بشيء وجوهري لدي: هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس. أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فُرض علي من قبل المجتمع، فعشت حافياً، عارياً، جائعاً، محروماً من كل مباهج البراءة الأولى، فإن السياسة نقشت صورتها على أظافري بمنقاش الألم، فتعلمت، مبكراً، كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل اغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنساناً تواقاً الى ما يريد أن يكون، لا إلى ما يُراد له أن يكون.

 

وكان المحيط الاجتماعي الذي نشأت فيه، بتمام الكلمة، أمياً، متخلفاً، إلى درجة لا تصدق.. لم يكن في حي المستنقع كله، من يقرأ ويكتب. كان سكان هذا الحي، والأحياء المجاورة، من المعذبين في الأرض، الباحثين، دون جدوى، عن الخلاص، وعن العدالة الاجتماعية التي لا يعرفون اسمها بعد!

لكنهم سيتعلمون تدريجيا، سيعرفون الفقر ليس من الله جل جلاله، وسأقول لهم، ما قاله الصحابي عمر بن الخطاب «ما اغتنى غني الا بفقر فقير» وان الذين فوق ليسوا سيئين كلهم، وان الذين تحت ليسوا فضلاً كلهم بالمبدأ!

أضيفت في 24/04/2005/ * خاص القصة السورية

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

 النار بين أصابع امرأة

 

 

النار بين أصابع امرأة

 

 

 كانت امرأة غير عادية وكان رجلاً غير عادي ولا بد لأحدهما أن يموت كي يعيش الآخر, إلا أن الموت والحب, كلمتان معلقتان على شفتي القدر, والقدر صمت حين يريد, وكلام حين يحكي ولا أحد يدري, حتى في لوح سيناء, متى صمت القدر, ومتى كلامه فالنقش في اللوح, ظاهر وخفي, والظاهر كالباطن,و يقرأ ولا يقرأ والباطن كالظاهر يسبر ولا يسبر ونحن جميعاً نتدافع نحو نهايتنا متعجلين الأيام دون أن نفكر أن كل يوم, كل ساعة, كل دقيقة, كل ثانية تقربنا من هذه النهاية ثم لا نرعوي فنتوقف عن هذا التعجل ولا نتعظ بمصير الذين تعجلوا فسبقونا إلى نهايتهم.‏

 

في شارع شادي في بودابست, كان أيهم القمطور يجلس على حقيبة سفره, في معاندة مع هذه الحقيبة التي لا يريد أن يفتحها, كيلا تتطاير أشياؤه, وتستقر في أمكنتها من الخزائن المفتوحة وكانت النوافذ مغلقة والستائر مسدلة, والغرفة بما فيها يلفها عنكبوت العتمة وهو أيهم مصر على البقاء في العتمة تجنباً لرؤية ما حوله لا يفتح الباب لصاحبة البيت التي أرادت أن تسبقه, مرحبة به, فتناول المفتاح منها وصرفها شاكراً, دون أن يقول كلمة أخرى, وهذا ما أثار استغرابها فظنت به الظنون وراحت من شرفة منزلها في الطابق الذي تحته ترقب أن يشعل الضوء, أن يفتح نافذة, أن ينير شمعة على الأقل دون جدوى.‏

 

كان اسمها مرغريت وتحبباً ينادونها مارغو, وقد صبرت ساعة على هذا الساكن الجديد, غريب الأطوار الذي لم تسمع ولو وقع قدميه, على الخشب اللماع فوقها وكادت تهتف إلى البوليس ليأتي ويكشف ولو جزءاً, من سر هذا الرجل الغامض الذي باتت تخاف على نفسها وبيتها ذي الطوابق الثلاثة من تصرفاته المجنونة أو العاقلة ولكن المبهمة فربما كان مخبلاً أو مهرباً أو لصاً أو ممن يتعاطون المخدرات ويتاجرون بها, إلا أن ابنتها غبريلا منعتها من الاتصال بالأمن إشفاقاً على هذا الشاب الغريب, الذي ربما كان يصلي أو يقوم باليوغا أو ينام من تعب السفر, أو يفكر بما مر معه في حياته, أو يرتب أفكاره أو يستشعر الغربة أو هو في صيام عن الطعام, أو أنه يأنس بوحدته لكونه من أتباع الوحدة التي هي عبادة عند أنصارها!‏

 

غبريلا انداش امرأة في نحو الخامسة والعشرين من عمرها, وهي جميلة وردية البشرة نجلاء العينين لها أنف دقيق وفم صغير وذقن خفيف التحدب وعنق رائع, ووجه بيضاوي فيه وسامة وشعر كستنائي مسترسل على كتفيها العاريين, وفي نظراتها المتراوحة بين الوداعة والشراسة بريق ومضي, ينم عن روح متحدية مغامرة شهاء الرغبة يفتنها في الحياة كل ما هو غامض ويستثيرها أيضاً!‏

 

ولأنها بسبب هذا الشاب الغريب, الذي لا يعرف دينه من جواز سفره أو عمله من سلوكه أو غايته من المجيء إلى بودا والسكن في هذا المنزل ودفعه أجرة شهر كامل بغير نقاش ومظهره الذي لا يدل على الغنى أو الفقر, فقد توترت أعصابها, وارتعش جسمها الفتي, مستشعرة لأول مرة في حياتها أن هناك رجلاً موجوداً وغير موجود وأنها على اعتدادها تكترث به, من غير أن تعرف ما إذا كان يكترث هو بها, وأن تناول القهوة مع الشراهة في التدخين لم يجلبا لها الهدوء الذي تنشد.‏

 

كانت أمها تراقبها, ترى بفراسة الأنثى أن الأنثى التي تجلس قبالتها مستثارة وأنها تفكر بغير هدوء لأن هناك شيئاً يغيظها شيئاً تتمنى أن تعرفه لكنها في اضطرابها الخفي تخاف أن تعرفه أو لا تجد الوسيلة لإخفاء خوفها من معرفته وأن هذه الحالة العصبية التي عليها ابنتها, ليس مردها إلى بعد زوجها إمري عنها, حيث يدرس الموسيقا في ألمانيا بل مرده إلى هذا الرجل الغريب الذي اقتحم حياتها فأثر فيها دون أن يتأثر بها ومن الطبيعي ما دامت ابنتها الوحيدة غبريلا في نضج الأنوثة أن تسغب هذه الأنوثة وتعوي كذئب جائع, في طلب الذكر للارتواء إلا أن غبريلا لا تعاني الحرمان فهي لا تسأل زوجها إمري أليوش ماذا يفعل في ألمانيا وزوجها لا يسأل عما تفعل في بودا بست, والجوع الجنسي إلى انتفاء في هذه الحال, إذن ماذا هناك؟‏

 

كانت غبريلا على دراية ولو من طرف خفي, أن أمها تراقبها وترى إلى انفعالها غير المألوف وتحس كأنثى أن الذي يشغل بال ابنتها ليس الشوق إلى زوجها الغائب ولا الإخفاق في الاستحواذ على ما تشتهي من مأكل وملبس, وإنما الشوق إلى صديقها المجري, الذي كان أمس معها, في وسعها إذا كان قد عاودها الشوق إليه, أن تهتف له, وسيكون سعيداً بهاتفها, ومغتبطاً بالمجيء إليها, إذا ما أرادت مجيئه وهناك غرفة لخلوتهما ولممارسة الجنس إلى حد الارتواء, لأن الأم في هذه الحال ستكون سعيدة أيضاً وعدا عن أنها لا تغار من ابنتها فإنها تلذ من التنصت عليهما, سواء بالنظر من ثقب الباب, أو من الاصغاء إلى التأوهات الصادرة عنهما, وهذا مؤكد ومؤكد أيضاً أنها ستنبش الغسيل لترى الفوطة التي عليها آثار تلك الممارسة الشهية, التي عرفتها في صباها وتعيش الآن على ذكراها!‏

 

قالت الأم مارغو:‏

 

- لماذا لا تهتفين إلى صديقك غابور مولينار لتسعدي معه قليلاً؟‏

- قالت غبريلا لأمها:‏

- ومن قال لك أني أريده أو أسعد معه؟‏

- وهل نسيت أنني أم, تتمنى أن ترى ابنتها مغتبطة؟‏

 

أنا لا أفكر بما تفكرين به!‏

- بماذا تفكرين إذاً؟‏

- هل علي أن أقدم لك تقريراً عما أفكر به؟‏

- لا أنا لا أقول هذا, أنت حرة في أن تفكري بما تشائين وعلى النحو الذي تشائين لكنني لا أطيق أن أراك مهمومة.. ما رأيك أن تسافري إلى زوجك امري إذا ما كنت قد اشتقت إليه؟‏

 

- ولماذا لا يأتي هو إذا كان قد اشتاق إلي؟‏

-لأنه هناك للعمل وليس لشىء آخر.‏

-أنت تخرفين.. إنه للعمل وللشيء الآخر, أنا أعرف زوجي.‏

- وزوجك يعرفك!‏

- وما الجديد في هذا؟ إننا في هذه المسائل, على اتفاق.. هو يتسلى.. قاطعتها أمها:‏

- وأنت تتسلين أيضاً؟‏

- نعم! أتسلى للتسلية وقت, وللصلاة وقت آخر, أم تريدينني أن اترهبن؟‏

 

- أنا لا أريدك مهمومة, مثلك الآن, ماذا هناك؟ ماذا ينقصك؟ هل طلبت شيئاً وقصرت في تلبيته؟ أنت تعيشين على غير ما كنت أعيش, وبعد أن مات أبوك لم أتزوج لأجلك للسهر على راحتك, لتوفير كل ما يلزمك قبل الجامعة وبعدها فما علي أن أفعل بعد؟‏

 

قالت غبريلا بحنق:‏

 

أفضل ما تفعلينه أن تتركيني بحالي.. من أين جئت بهذا الشيطان الذي يسكن فوقنا؟‏

 

- من حيث يأتي جميع الشياطين الذين يسكنون فوقنا عادة!‏

 

هذا شيطان من نوع آخر.. إنه غبي لا يطاق, أو أنه محتال يدبر أمراً ما..‏

 

- فكرت بهذا, واردت استدعاء البوليس, فرفضت. ماذا أفعل لك وله؟‏

- أنت لا تفعلي شيئاً.. أنا التي ستفعل... سأطرده من هذا البيت لأني لم أعتد مجاورة المعتوهين أمثاله..‏

- لكن حذار أن يؤذيك!؟‏

 

أنت مع الأسف تجهلين كيف اتصرف مع الأوغاد أمثاله...‏

 

-نحن لا نعرف بعد, ما إذا كان وغداً.‏

- إنه وغد وسافل.. سأطلع إليه.‏

- وإذا كان المسكين نائماً؟‏

- هذا ليس بمسكين ولا بنائم.. إنه متشرد وربما هارب من الأمن لذلك يختبىء هنا, دون أن يشعل الضوء أو يفتح نافذة.. أعطني سكيناً.‏

 

تناولت غبريلا سكيناً قاطعاً, مرهف الشفرة, حاد النصل من المطبخ وقالت لأمها:‏

 

إذا حاول ايذائي, أو قتلي ربما سأطعنه بهذه السكين وعندما تسمعين صراخي الحقي بي..‏

 

قالت الأم:‏

 

- وإذا حاول اغتصابك؟ فكري في هذا كوني لطيفة معه, إنه كما رأيت شابا وسيما وربما كان محروماً.. وماذا يفعل الرجل المحروم؟‏

 

على كل حال لا أريد أن استبق الأمور.. قد يكون أفضل من هذا اللعين الذي اسمه غابور مولينار.. على كل اترك الحرية لك.. ومن جانبي سأتسلح بعصا, صحيح أنني تقدمت في العمر قليلاً, إلا أنني لا أزال قوية.. اذهبي وليحرسك الله.‏

 

ذهبت غبريلا اخفت السكين في مكان من معطفها, كانت متوترة, غضوباً,, يختلج الشر في جوارحها لكنها كانت خائفة أيضاً ليس من الاغتصاب, بل من الموت, وبخطا خفيفة تسلقت الدرجات وتقدمت ببطء وحذر من الباب.. توقفت, انصتت, وأخيراً قرعت الباب وقالت بلغة انكليزية سليمة واهنة إلى حد ما:‏

 

- أيها السيد.. أنا غبريلا, افتح الباب من فضلك.. إنني انتظر.. لكنها دهشت لأنه فتح الباب فوراً, وقال لها:‏

- تفضلي, لكن اتركي كل شيء على ما هو.. لا تشعلي النور, إنني ارتاح للعتمة..‏

 

صاحت:قال بهدوء:‏

 

- اشعليه أنت إذا كنت خائفة, أو إذا كنت تصرين على ذلك..‏

 

أشعلت غبريلا الضوء, كان أيهم قد عاد إلى مجلسه على حقيبة سفره, ولم يكن قد مس ايما غرض في الغرفة, ولم يرفع نظره إليها, عاملها بصمت, بكياسة, بلا مبالاة, ولم يعرها اهتماماً.. وحتى عندما سارت إلى النوافذ وفتحتها لم يعترض, ولم يقل لها تفضلي اجلسي, تركها وشأنها, تقف, تجلس, تدور, تتحرى الاشياء, تتفقد الغرف, المطبخ, الحمام, تخرج إلى الشرفة, تطل على الشارع, وحتى عندما اخرج علبة سجائره, لم يقدم لها سيجارة, كما تقضي الاعراف, مع سيدة جميلة, أنيقة, وفوق ذلك صاحبة البيت.‏

 

أخيراً جلست غبريلا على كنبة, لاذت بالصمت, أسفت لأنها لم تجلب سكائرها معها, تفحصته بنظرات غير مباشرة, قالت له:‏

 

- لماذا تجلس على حقيبة السفر؟‏

 

قال أيهم:‏

 

- لأنني قد أسافر.‏

- اليوم جئت, واليوم تسافر؟‏

- وما الغرابة في ذلك؟‏

- الغرابة!؟ ألا تشعر أنت بالغرابة!؟‏

- أبداً!‏

- وأجرة الشهر التي دفعتها؟‏

- استرحت مقابلها على حقيبتي!‏

- ولماذا على حقيبتك وليس على سريرك؟‏

 

- لأنني لم أشعل الضوء, ولم أدخل الغرفة, ولم أر السرير, ولم أشرب حتى جرعة من الماء.‏

- ولم تأكل أيضاً!‏

- نعم, لم آكل أيضاً, وليست لي شهية.‏

 

قامت غبريلا عن مقعدها, دارت حوله وحول حقيبة سفره, ذهبت إلى الباب الذي تركته مفتوحاً ونادت أمها:‏

 

- ماما أنا بخير!‏

- وهو؟‏

- بخير أيضاً, اطمئني.‏

- يجلس على حقيبة سفره!‏

- هل هو معتوه؟‏

- قليلاً!‏

- ولماذا أنت باقية عنده؟‏

- اوه ماما.. دعي أسئلتك إلى ما بعد..‏

 

انتهت المكالمة بين غبريلا وأمها باللغة المجرية, ولم يكن أيهم قد فهم شيئاً, رغم أنه يعرف المجرية, أو اهتم أن يفهم شيئاً, وعندما دخلت إلى الصالون ثانية, تركت الباب مفتوحاً, فقال لها:‏

 

- هل أنت خائفة؟‏

- وممَ أخاف؟‏

- من هذا الجالس على حقيبة سفره!‏

- هذا المعتوه لا يخيفني!‏

- إذاً ارفعي السكين, لأنها ثقبت جيبك.‏

- تهزأ مني؟‏

- تقريباً!‏

 

سحبت السكين, ألقتها على الكنبة, تمايست أمامه, راحت, جاءت, دارت, وفجأة سألته:‏

 

- لماذا تجلس على حقيبة سفرك؟‏

 

رد وهو يبتسم:‏

 

- حتى لا تهرب الأغراض منها!‏

- وما هي هذه الأغراض؟‏

- بعض الثياب, بعض الكتب, بعض الكوكائين!‏

- كف عن هذا الهزء غير اللائق.. احترم, كرجل, الأنثى التي أمامك.‏

- وهل احترمتني هي عندما قالت لي: هذا المعتوه لا يخيفني؟‏

 

أضاف:‏

 

- سيدتي الجميلة, أنا رجل مخصي, مثل خصيان السلطان عبد الحميد, فلا داعي لعرض مفاتنك علي..‏

- وهل رأيت مفاتني؟ معنى هذا أنك لم تكن جالساً على حقيبة سفرك طول الوقت, وأنك رأيتني من الطاقة وأنا عارية أمام المرآة؟‏

 

قال أيهم وهو يضحك:‏

 

- أنت تغرينني بأن أنظر من الطاقة إليك وأنت عارية ولكنني لن أفعل!‏

- أنا لا أغريك بشيء, لكنني أحذرك أن تفعل شيئاً, فهناك قوانين وعقوبات لمن يتنصتون على الغير, أو يتلصصون عليهم.. وأنت.. ما اسمك؟‏

 

- أيهم قمطرون, وهذا, مع كل التفاصيل الأخرى, تجدينه في جواز السفر الذي لديكم, أو لدى رجال الأمن, كي تكون الأمور نظامية مئة بالمئة.. لقد دار في بالكم أنني مجنون, أو معتوه, أو لص, أو مهرب مخدرات.. وقضيت يا سيدتي, وقتاً طويلاً, أنت والسيدة الوالدة, في حالة من التشوش الذهني, إذا لم أقل الاضطراب النفسي, بسبب وجودي في الطابق الثاني من بنايتكما, دون أن أشعل الأضواء, أو أفتح النوافذ, أو حتى انتقل من مكاني فوق حقيبة السفر التي أجلس عليها.. كنتما تودان سماع وقع أقدامي لترتاحا, ولأنني لم أنم, ولم أتحرك, ازداد خوفكما, حتى فكرتما باستدعاء رجال الأمن, وأنا جاهز, دون أن أتحرك من مكاني, لاستقبالهم.. هل في هذه الشقة هاتف؟ لابد أنه موجود, أديري القرص بهدوء, واطلبي منهم أن يأتوا لاعتقالي, بأي تهمة تريدين.‏

 

قالت غبريلا:‏

 

- لا! لن أفعل.. رجل الأمن ليس أقوى مني.. إنني معك بمفردي, وأتحداك أن تأتي بأية حركة ضدي, حتى لو كنت لصاً أو قاطع طريق!‏

 

ابتسم أيهم وقال:‏

 

- هناك لصوص ظرفاء, وقطاع طرق شرفاء أيضاً.. وأنا, هنا, ساكن مسالم, ككل النزلاء المسالمين الذين سكنوا قبلي, فإذا كان وجودي, في هذه الشقة, يضايقك, فأنا مستعد للرحيل فوراً, بدليل هذه الحقيبة التي لم أفتحها بعد.‏

 

- ولماذا تضايقني؟ وهل تستطيع حتى لو أردت ذلك؟!‏

- أفهم من هذا أن سيدتي لاعبة كاراتيه؟ في هذه الحال علي أن أخافك!‏

- ولماذا تخافني؟ أنت تريد أن تقول إنك لا تخاف, أليس كذلك؟‏

- وهل أجرؤ؟ إنني أخاف طبعاً, لكنني أصمد للخوف, وهذه هي الشجاعة! ولعلمك أقول: الخوف أساس كل الأمراض النفسية, وربما أساس كل المشاعر الخسيسة, وهو, الخوف, توءم الشجاعة, كما الموت توءم الحياة, والصراع أزلي أبدي بينهما, وكل منهما يريد أن ينفي الآخر, وهذا ما يسمونه نفي النفي في الفلسفة, فالحياة تنفي الموت, والموت ينفي الحياة, لكن الحياة تعود لتنفي الموت, لأنها حقيقة.. من أي جامعة تخرجت أنتِ؟‏

 

- من جامعة بودابست, قسم الموسيقا, وأنت؟‏

- من جامعة البحر!‏

- وهل في البحر جامعة؟‏

- ومعاهد عليا أيضاً.‏

- هل أفهم من هذا أنك بحار؟‏

- لا! لست بحاراً, ولكنني أجن بالعواصف البحرية, وفيها أسبح!‏

- أنت, ياسيد, عاقل مجنون, وفي اللحظة الراهنة, هل أنت مجنون أم عاقل؟!‏

- أنا أجلس على حقيبة السفر, منذ دخلت هذه الشقة, وأترك الاستنتاج لك.‏

- مجنون!‏

- تماماً!‏

- وغامض!‏

- تماماً!‏

- ومشعوذ!‏

- تماماً!‏

 

نبرت:‏

 

- ما هذه تماماً تماماً تماماً؟‏

- تماماً!‏

- تسخر مني؟‏

- ليس من عادتي أن أسخر من أحد.‏

- ولماذا تجلس منذ ساعات على هذه الحقيبة؟‏

- لكي أفكر بهدوء, فأقرر البقاء أو الرحيل.‏

- وبعد التفكير بهدوء, ماذا قررت؟‏

- لم أقرر بعد!‏

- ومتى تقرر؟‏

- عندما أصل إلى قناعة في أن ما أقرره تأكدت صحته.‏

- وبعد أن رأيتني؟‏

- أنا لم أر فيك إلا سكيناً!‏

- خفت أن أطعنك بها؟‏

- وإلا لماذا حملتها؟ هيا اطعني, في الجانب الأيسر من الصدر!‏

- سأفكر في هذا على طريقتك, بهدوء تام!‏

- لكنك لن تتوصلي إلى أيما نتيجة!‏

- هل هذا لأنك غريب الأطوار؟‏

- أطواري الغريبة فكرت فيها مع أمكِ, قبل أن تأتي إلي!‏

- وما أدراك أنت؟‏

- السكين التي معك!‏

 

ضحكت غبريلا وقالت:‏

 

- السكين كانت وسيلة وليست غاية.. أستطيع, في هذه اللحظة, أن أقذف بها من النافذة, إذا كانت تخيفك إلى هذا الحد.‏

- ولماذا تقذفين بها من الشباك؟ قد تفيدك في تقشير البصل!‏

- وقح!‏

- لم أصل بعد إلى حد الوقاحة!‏

- وحين تصل ماذا تفعل؟‏

- أقول لك: شكراً, ياسيدتي, وأبقى جالساً على حقيبتي, دون أن أنهض إلى الباب لوداعك كما يليق بالرجل المهذب.‏

- تطردني؟‏

- لا! وإنما أشعر بالملل!‏

- أنت تكذب.. مثلي لا يُمل منها, ولم أسمع, قبل الآن, من أي رجل مثل هذه الكلمة.‏

- هل لديك دفتر يوميات؟ في مثل هذا الدفتر يكتب المرء خصوصياته, من غير أن يخشى اطلاع أحد عليها.. هذه الليلة أنا سأكون ضيفاً على دفتر يومياتك السرية, وأعرف سلفاً, ماذا ستكتبين عني, فالشتائم, بكل أنواعها, لا تؤثر فيّ.. إنني وغد, وقح, كذاب, معتوه, كل هذا ستقولينه, أو ترسمينه بالكلمات, لكنك, عندما ستحاولين النوم, لن يكن نومك هنيئاً, كما قبل أن تأتي إلي, وتلك السكين اللعينة مخبأة في جيب معطفك الرائع.. تعرفين لماذا؟ لأني قدرك, وأنت لست قدري, لأن لا قدر لي.. تفضلي بالانصراف, لأن الزيارة انتهت, وأرجوك أن تغلقي الباب وراءك, لأنني لن أتزحزح عن مقعدي فوق حقيبة سفري.. فإذا أفقت غداً وكنت أنا قد غادرت هذا البيت, فتذكري أنك قابلتِ رجلاً غير عادي, وعندئذ لا يأخذك الندم!

 

أضيفت في 24/04/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية