أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: نور الدين الهاشمي

       
       
       
       
       

 

الشجرة الناطقة-مسرحية

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

*ولد في حمص عام 1945

*يحمل إجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق عام 1971.

*نشر أعماله الأولى في الصحف والمجلات السورية.

*عمل مدرِّساً للغة العربية في سورية وبعض الأقطار العربية واستقال عام 1995 ليتفرغ للكتابة.

*عضو جمعية أدب الأطفال.

*يكتب القصة القصيرة وأدب الأطفال.

*يكتب الدراما التلفزيونية للكبار والصغار.

*نال عدداً من الجوائز المحلية والعربيّة.

 

مؤلّفاته:

1 ـ غدير الغزلان ـ(مسرحيتان للأطفال)ـ اتحاد الكتاب العرب عام 1992.

2 ـ الصيد الثمين ـ(مسرحيتان للأطفال)ـ وزارة الثقافة عام 1993.

3 ـ جبل البنفسج ـ(مسرحيتان للأطفال)ـ وزارة الثقافة عام1993.

4 ـ نداء في ليل المدينة (قصص قصيرة) ـ دار علا 1996.

5 ـ سرحان في وادي الكسلان (ثلاث مسرحيات للأطفال) ـ دار علا 1996.

6 ـ الأعداد السكريّة ـ(مسرحيتان للأطفال)ـ اتحاد الكتاب العرب 1997.

7 ـ قصة انتحار معلن ـ(قصص قصيرة)ـ اتحاد الكتاب العرب 1998.

8 ـ أغلى الأشياء(قصص أطفال) ـ الإمارات العربية المتحدة 1999.

9 ـ الدب الطمّاع ـ(مسرحيّة أطفال)ـ وزارة الثقافة2001.

10 ـ الدوران في قاع الزمان ـ(قصص قصيرة)ـ اتحاد الكتاب العرب2002.

لقراءة مسرحية (الشجرة الناطقة)

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

صورة بتمسح صورة

تكنولوجيا

القصص الجميلة

حين أشرقت الشمس 

الكرسي البرام

أبو سمرة

حالة نادرة

ألوان

 

 

حين أشرقت الشمس

 

قال الملك: هنيئاً لرعيتي ما زلتُ على قيد الحياة.

قال المرابي: اقترب اليوم الذي سأحطَم فيه عنق مديني...

قالت الحامل: اقترب اليوم الذي سأرى فيه وليدي..

قال الحارس: لا يهمّني من سأحرس هذا اليوم ما دمت سأنال أجري منه آخر النهار.

قال التاجر: السماء قاحلة زرقاء.. مخازني متخمة.. الربح وفير.. حجٌّ وعروس.. شكراً أيتها السماء.

قال العبد: يومٌ آخر سيمضي كبقية الأيام التي مضت.

قال الشاب: اقترب اليوم الذي سآخذ فيه مفتاح البيت.

قالت الأم: لا تنسَ أبداً يا بنيّ أنك كنت قطعةً من لحمي.

قال العاشق: سيكون أجمل الأيام إذا لمحت وجه مَنْ أحب.

قال الجائع: سيكون أطول الأيام إذا بقيتُ دون طعام.

قالت شجيرة الياسمين: لقد أبدعْتُ نجوماً بيضاء فهل سيراها العابرون المتعبون؟

قال الكاتب: قلتُ ما شاءوا فهل سأقول اليوم ما أشاء؟

قالت الشمس: ضيائي يغمر الكون.. متى تخرجون من الكهوف وتطردون حراس الظلام؟

وقالت: إنْ لم تفعلوا فسأشرق يوماً على أطلال مدن لا تعبرها سوى الرياح.

 

 

 

القصص الجميلة

 

بُعيد منتصف الليل غفا أطفالي وزرّ عذاب النهار عيون زوجتي فانسحبت تحلم بنهار لا تعب فيه ولا إرهاق.. تفتّح برعم القصة يدغدغ شِغاف الروح.. أمسكتُ بالقلم الظامئ.. تردّد قليلاً ثم سال حبره يعانق حنايا الكلمات. فجأة سمعت دقّات عميقة على الباب.. تلاطم صداها في كهوف الروح.. فتحت الباب كان ملاك الموت منتصباً بقامته الحجرّية.. لم أسأله ماذا يريد.. بل همست متوسلاً..

-أرجوك أيها الموت أمهلْني حتى الصباح لأني أريد أن أكمل قصتي..

-دُهِشتُ حين أدار لي الموت ظهره ثم توارى في الظلام.

عند بزوغ الفجر تسلّل ملاك الموت إلى غرفتي مع خيوط النور التي استراح بعضها على طاولتي.. كنت مُطفأ وثمة وريقات غضّة الحبر تناثرت والقلم قربها ما زال يختلج برعشة الخلق.. رفعت رأسي وهمست كظامئ انتزعوا منه كأس الماء قبل أن يبلّل شفاهه..

-أنا جاهز أيها الموت.. لقد انتهت حكايتي.

-لم يجبني.. كانت عيونه عالقة بقصتي.. وخُيّل إليّ أنهما تتوهجان، كما لمحت طيف ابتسامة ترفّ على ثغره مغامراً فيها بكل سمعته.. توقف عن القراءة.. وسمعته يقول لي وهو يغادر..

-لن أعود إليك أبداً.. ما دمت تكتب قصصاً جميلة..

 

 

 

تكنولوجيا!

 

بعد أن جال الملك (مسمار التابوت) وصال في بلاد العم جورج والعم سام باحثاً منقباً عن أحدث التقنيات التي تنقل بأمان رعيته المطيعة من حياة التخلّف والتأخّر إلى حياة التقدّم والتحضّر، عاد أخيراً في طائرته الخاصة مع نسائه وحرسه وخدمه وحشمه، وحين وصل أرض المطار كانت جماهيره المحشودة بانتظاره حاملة الصور والرايات واللافتات، وما إن أطلّ بطلعته البهية من باب الطائرة حتى انفجرت حناجر الجماهير بالهتافات، وتراقصت الأيدي والرايات فلوّح بيده المقدسة ذات الخواتم السبعة كما أوقفته الحماسة عند الدرجة الثالثة فوقف يرتجل خطاباً في الجماهير: (يا أبناء رعيتي المخلصين. ها قد عدتُ إليكم والشوق يلتهمني إلى رؤية طاعتكم.. آمركم أن تزغردوا بعفوية وترقصوا وتدبكوا لأني قرّرت أن أنقلكم من عصر الكهف والديجور إلى عصر الحضارة والنور، لقد طفتُ وجلتُ في بلاد العم جورج وأخيه العم سام، وأقسم لكم- وقسمي لا يقدر بثمن كما تعلمون- بأنني لم أذهب للهو والراحة أو البسط والسياحة فأموال رعيتي مصونة وبخزائني مكنونة، بل كان ذهابي وتجشّمي للمخاطر والأهوال من أجل تقدّمكم وسروركم في جميع الأحوال. وبعد البحث والتمحيص ولولا لطف الله ودعاؤكم لي لوقعتُ في حيص بيص. ولكنْ نشلتني العناية الإلهية وإلى طريق الرشاد هدتني، فأحضرتُ لكم آخر ما توصل إليه الغرب الكافر لنفع البلاد وإسعاد العباد). وهنا أشار الملك مسمار إلى رجاله الضخام فأنزلوا من مؤخرة الطائرة صندوقاً كتب عليه:

(Made in USA) مصنوع خصيصاً للعالم الثالث. وُضِع الصندوق أمام الملك وتعالتْ الهتافات شاكرة ممتنة فضل الملك ومتوسلّة فتح الصندوق حتى تكتمل الفرحة فاستجاب الملك مشكوراً لمطالب رعيته وأمر بفتحِ الصندوق، خيم الصمت ثم فغرتْ الجماهير أفواهها وشهقت وتراجعت مذعورة حين لمحت الصندوق ينفرج عن كرسيٍّ فولاذي أسود اللون وحشيّ الهيئة تتدلى من جوانبه وظهره أحزمة وأسلاك. صاح ولي العهد السابع عشرَ في الجماهير المذهولة:

-ألم تعرفوا بعد أيها الحمقى ما جلبه لكم مولاكم ومولانا من بلاد العم سام.

سادت همهمة خفيفة ذليلة وسرعان ما انطفأت حين صرخ ولي العهد السابع والسبعون بعد الألف:

-يا لكم من جهلاء متخلّفين ما ترونه أمامكم أيها المغفلون هو آخر موديل لكرسي الإعدام الكهربائي.. إنه النموذج الأرقى أيّها الحمقى لخطف الأعمار في ثوان قصار.

نخس البصّاصون المنتشرون مؤخّرات أفراد الرعية الذاهلين فانفجرت الحناجر بالهتاف:

-عاش الكرسي الكهربائي.. عاش.. عاش!!

-تسقط وسائل الإعدام الرجعية.. تسقط.. تسقط.. تسقط!!

-يسقط الإعدام بالخازوق.. والفأس.. والسيف والسم والخنق.. والشنق.. يسقط.. يسقط.. يسقط!

ومن أجل إسعاد الجماهير أومأ الملك، وسرعان ما ألقى الحراس إنساناً قيل إنه يشبه شخصاً لئيماً شاهده الملك يَبصقُ عليه في المنام.

وُضِع الباصق المشبوه على الكرسي وكانت أمنيته الأخيرة أن يعتذر للملك عن بُصاق شبيهه بالمنام.. لكنّ الملك ردّ عليه رداً مفحماً ألهب أكفّ الجماهير بالتصفيق حين قال: (اللي بيبصق ما بيلحس).

ثم أّوثق شبيهّ البصاق بالسيور الحديدية وشُدّ ورُبطَ وكُمّم وأصبح جاهزاً للصعق، ولكن الأمر طال ونفد صبر الجميع فصرخ الملك مسمار:

-ما بكم.. هيّا أسرعوا بإزهاق روح هذا المارق الفاسق.

-اقترب كبير الجلادين متردّداً وهمس بخوف في أذن الملك:

-لدينا مشكلة يا مولاي!

-اخرس.. لا يوجد مشاكل في مملكتي..

-مشكلة صغيرة يا مولاي!

-ما هي؟

-كرسي الإعدام لن يعمل يا مولاي!

-لماذا يا مخرّب يا متآمر؟

-لا يوجد كهرباء في مملكتك يا مولاي!!

صُعق الملك وبقي صامتاً ذاهلاً لحظات ثم دار كلُّ شيء حوله وحين مال للسقوط حُمل بسرعة البرق إلى القصر يحيط به الأطباء من كل جانب.. وحين صحا أشار إليهم بالانصراف ثم نهض من سريره يذرع صالونات القصر وممراته وساحاته ممحّصاً مفكّراً ولم يهدأ لـه بال إلا حين قفزت في رأسه فكرة رائعة ارتاح لها ضميره فنام قرير العين..

في الصباح الباكر جمع الملك ولاة العهد ومستشاريه وحكماءه وعلماءه ومَنْ فوّضهم للحديث باسم الرعية وبعد أن حشدوا لـه الرعية وقف يخطب في الجميع:

(لقد جمعتكم لأزفّ لكم يا أبناء شعبي الحبيب بشرى عثوري على حلٍّ رائع قدح في زناد فكري ينهي مشكلة الكرسي الكهربائي الذي دفعت البلاد ثمناً باهظاً له، ولن يضيع بإذن الله فلس واحد أنفق على استيراد هذه التكنولوجيا المتطورة.. لقد قررت ما يلي:

-أولاً: يُستبدل كرسيُّ العرش القديم بهذا الكرسيّ الذي بهرني وسحرني بشكله ومهابته.

-ثانياً: تبقى وسائل الإعدام القديمة.. شنق.. خنق.. قطع.. حرق.. خازوق.. حتى إشعار آخر...

-ثالثاً: يمنع منعاً باتاً إدخال الكهرباء إلى مملكتي من أجل دواعي الأمن والاستقرار..

التوقيع الملك مسمار التابوت 

ولم يكد الملك يلفظ كلمة تابوت.. حتى تشقّقت الحناجر بالهتاف:

(عاش كرسي العرش الجديد.. عاش.. عاش.. عاش)

(عاشت التكنولوجيا.. عاشت.. عاشت.. عاشت).

 

 

 

صورة بتمسح صورة

 

 

لم يغضب (صفوان أبو عصعوص) لأنه رسب في انتخابات مدينته (ماشي الحال) ولم يأبه للتعليقات الساخرة والضحكات المكتومة التي كان يسمعها من زملائه وأقاربه وزوجته بعد أن جاء اسمه في ذيل قائمة الراسبين، فهو لم يراهن أبداً على النجاح، يكفيه انتصاراً ونجاحاً أن صوره قد ملأت جدران البلدة وأعمدة الهاتف والكهرباء.. وأبواب الدور المحلات (انتخبوا المحامي القدير صفوان أبو عصعوص) (من أجلكم مخصوص عدو اللصوص صفوان أبو عصعوص) إنّه واثق الآن أنّ اسمه صار على كل لسان ورسمه ينقّز العيون على الأبواب والجدران.. وسوف يتزاحم الزبائن والمراجعون على مكتبه منذ الآن.. يتوسلون إليه برجاء كي يدافع عنهم. وسيغدو أشهرَ محام في البلاد كلها. لن يأسف أبداً على مئة الألف ونيّف التي صرفها على الدعاية رغم احتجاجات زوجته الجاهلة والتي خاطبته بوقاحة كادت تدفعه إلى طلاقها:

-روح دهّن هالبيت المشحور المنشح.. بالميّة ألف وبلالك مسخرة هالانتخابات!

-مسخرة.. قسماً بالله العظيم.. لولا الأولاد والتوم اللي ببطنك لكنت طلقتك وارتحت منك ومن لسانك.

لقد طار ثلاثة أرباع المبلغ إلى جيب (أبو ضباب) صاحب مكتب الدعاية والانتخاب الذي تعهّد بإلصاق عشرة آلاف صورة، ونصب خيم المضافات وتسيير ثلاث عراضات. وها قد هدأ كل شيء الآن بعد أن غرقت بلدة (ماشي الحال) أسابيع في بحر الصور والزينات والخطابات. وها هو في مكتبه منذ أسبوع ينتظر بين لحظة وأخرى تدفق الزبائن والمراجعين، ولكن لم يدخل مكتبه سوى جامعي التبرعات للمساجد والجمعيات الخيرية وموظفي الماء والكهرباء.. ومنتزعي الضرائب. في الساعة الواحدة فوجئ بأحد زبائنه القدامى يدخل عابساً.. استقبله بحرارة.

-أهلاً وسهلاً.. تفضّل.

لم يجلس الزبون بل بقي واجماً ينظر باستخفاف وقح إلى صفوان.. قلّب صفوان أوراق مفكرته ورسم ابتسامة لطيفة.

-جلسة المحاكمة في العاشر من الشهر القادم..

-أعرف ذلك..

-لماذا جئت إذن؟

-أريد سحب التوكيل منك..!

-لماذا؟!

صرخ صفوان من قلب مفجوع..

-لأسبابٍ خاصة..

-أريد أن أعرفها أنا محاميك هل نسيت؟

-لا أستطيع الاستمرار في توكيلك لقد أصبحت سخرية على كل لسان..

-أنا...!!

-يكفي أن تنظر إلى صورك على الجدران..

لقد كان الأمر مُروّعاً حقاً فقد تشوّهت صور صفوان أبو عصعوص بشكل مرعب خلال أيام، فهنا رسمت لـه أذنان كبيرتان مع تعليق يقول: (لا تحتار.. هادا أكبر حمار) وهذا رسم طُمست فيه عيناه.. (صفوان شيخ العميان). وهنا رسموا لـه أنياباً تقطر دماً.. وهنا لحية وشاريبن.. وهذا رسم ظهر فيه بقبعةٍ مكسيكية.. مطلوب القبض على هذا اللص حياً والأفضل ميتاً. دار صفوان في البلدة، ودار، وفي كل صورة كان يجد رسماً مشوّهاً وتعليقاً يفوق في السخرية ما قبله. فاندفع دون وعي نحو مكتب الحاج ضباب واقتحمه هائجاً صارخاً..

-أطلب منكم أن تزيلوا صوري من كافة أنحاء البلدة كما ألصقتموها.. في الحال.

رد عليه الحاج ضباب بهدوء وهو يقدّم إليه فنجاناً يحتوي في قعره رشفة قهوة مرّة. وهذا ما يفعله الحاج مع كل مرشح جاءه غاضباً راسباً.

-الأمر في منتهى البساطة.. أجرة نزع صورة المرشح خمس ليرات والدفع مُقدّم.

-لا.. هذه قرصنة.. سرقة.. لقد أخذتم مني ليرة واحدة فقط في المرة الماضية أجرة لصق الصورة..

-يا لك من غشيم.. نزع الصورة أصعب بكثير من لصقها.. إدفع خمسين ألفاً وسوف أخفيك من هذه المدينة قبل صياح الديك.

-لن تفرح مني بقرش واحد..

- أنت حر!

قالها الحاج ضباب وهو يشفط بمتعة رشفة القهوة التي رفضها صفوان.

حمل صفوان سلّماً ومجروداً كاشطاً وانطلق في الشوارع بحماس وسرعان ما أسند السُّلَّم إلى عمود كهرباء صدئ أُلصقت في أعلاه صورة له. لم يدر كيف وصل إليها بعض الخبثاء فرسموا لـه خرطوماً وأذنين كأوراق الملفوف.. صعد السُّلّم ونار الغضب تدفعه كالصاروخ إلى الأعلى.. أمسك العمود الصدئ باليد اليسرى وبدأ يكشط الخرطوم باليمنى ولم يكد ينتهي من إزالة نصف الخرطوم حتى شعر بتيار كهربائي يسري في جسده فاندفع من حلاوة الروح معانقاً السلم وانزلق عليه نحو الأرض بسرعة نسناس مُشحَّم وهناك تلقته الأرض برفسة قوية على مؤخرته.. نهض متأوّهاً يتفقّد جسده.. حمد الله على السلامة.. نظر إلى الأعلى فاشتعل حقده من جديد حين لمح نصف الخرطوم يتدلّى هازئاً، صمم على متابعة الكشط مؤجلاً نزع هذه الصورة اللئيمة إلى وقت آخر.

على جدار حجري قديم لمحها، كانت صورةً مرعبة حقاً فقد جعلوا منه قرصاناً بعين واحدة وغطاء يحجب الثانية وفوق رأسه قبعة علتها جمجمة وعظمتان ولفت انتباهه كِبَرُ فتحتي أنف الصورة. أسند السلم وصعد بثقة وتصميم وما كاد يكشط ثلاثاً حتى سمع طنيناً هائلاً اندفع على إثره من فتحتي أنف الصورة سربٌ من الزلاقط راحت تهاجمه بضراوة فألقى بنفسه على السلَّم منزلقاً محتملاً رفسة الأرض ثم اندفع هارباً تلاحقه طلائع الزلاقط.. استطاع مراوغتها والاختباء في دورة للمياه.. بقي فيها ساكناً حتى هدأت الأحوال فتسلّل بهدوء وانتزع سُلّمه ثم مضى مصمماً على متابعة المهمة.. ولم يكد ينتقل إلى الشارع الثاني حتى صفعته صورةٌ لـه أُلصقت بأعلى الجدار تماماً وقد أضافوا لرأسه قرنين طويلين فنصب السُلم وتسلّقه بحقد رهيب وابتدأ بكشط الذقن ثم الفم فالعينين والحاجبين ولكن بقي القرنان في أعلى الرأس لا تطولهما يده فصعد مخاطراً حتى آخر درجة وهناك وجد نفسه في أعلى الجدار يطلُّ برأسه على عرصة الدار وما كاد ساكنو الدار يلمحونه حتى ارتفعت الشتائم والصرخات من رجل أصلع بطين قصير وركضت امرأتان تولولان وتبحثان عن غطاء يستر رأسيهما.. اندفع البطين القصير نصف عار وهو يصرخ الله أكبر... الله أكبر وأشهر عصاً طويلة يدافع بها عن شرفه المثلوم.. أمسك بسُلّم صفوان ورجّه طالباً منه الاستسلام لكنه رفض بإباء.. ولم يدر كيف ارتفع مع السلم ثم مالا في الهواء وهويا على الأرض، ولولا لطُفُ الله وكومة النحاتة ونخوة بعض الأولاد الذين انتزعوه من بين أيدي البطين لكان صفوان في خبر كان..

عاد أخيراً يجرجر أذيال الهزيمة إلى مكتب (أبو ضباب).. وقف مُنكّس الرأس طائش الصواب..

-سأدفع لك المال.

-وأنا سأزيلك من المدينة في الحال.

-أخبرني كيف.. أرجوك..

-الأمر بسيط.. يا منذر.. يا سعيد.. يا وليد..

هنا.. برز ثلاثة غلمان الأول يحمل سلماً والثاني سطل غراء وفرشاة.. والثالث رزمة صور لحفّاضات أطفال.. ألقى ضباب أوامره الصارمة:

-انطلقوا في الحال وجوبوا شوارع وساحات مدينة (ماشي الحال) والصقوا صور الحفّاضات فوق صورة الأستاذ عصعوص.

-وهل ستختفي صوري تماماً..؟

-بالتأكيد.. صورة.. بتمسح صورة!!

 

 

الكرسي البرّام للمدير العام

 

 

حين قذف المستخدم كرسيّ المدير العام البرام في مستودع المهملات كانت الأشياء المستهلكة في هذا المستودع تتنافس على الزعامة حتى تصون نفسها من الإهمال والسرقة والنسيان. صمتت جميعاً حين رأت الكرسي الفخم ملقى بينها بهيبته وجلاله.. تنحنح أخيراً مكبّر الصوت الصدئ وقال بصوت مبحوح:

-لماذا ألقوك.. هنا أيها الكرسي المبجّل؟.. أنت ما زلت صالحاً.. لاستراحة المؤخّرات.

لم يردّ الكرسيّ البرام بل أدار ظهره بصلف للجميع مكتسباً هذه العادة من المدراء السبعة الذين جثمت مؤخراتهم فوقه. قالت الترابيزة ذات الرجل المكسورة:

-اتركوا هذا المغرور ودعونا نكمل بياناتنا الانتخابية.

وقفت خزانة ذات باب مخلوع وظهر مبعوج وصرخت:

-يجب عليكم أن تختاروني أنا.. تذكّروا أنني كنت خزانة التقارير السريّة عن الموظفين جميعاً لا يمتلك مفتاحي إلا أمين سرّ الدائرة. وتقرير واحد يخرج من بطني كان كافياً لإرسال صاحبه إلى كرسي الوزارة أو السجن أو ربما حبل المشنقة.

قرقعت الصينية الصدئة ذات الرسوم الممسوحة وقاطعت الخزانة قائلة:

-اسكتي يا منفوخة البطن يا مخلوعة الظهر. تتباهين بأضابيرك وتقاريرك السرية، النار وحدها هي التي تطهرك وتريح الناس من شرورك.. لن ينتخبك أحد منا أبداً وأعتقد أنهم سينتخبونني أنا. لقد قدّمت القهوة والشاي والزهور والليمون.. والمتة.. لأكابر القوم ومنهم وزيران وسفير، وكان المدراء العامون كلهم لا يرضون بشرب القهوة إلا من فوق صدري اللامع.

هنا صرخت طاولة ضخمة محطّمة الجوانب مفقودة الأدراج:

-اخرسي أيتها الصينيّة الحقيرة. أنت لا تخجلين من نفسك أبداً هل نسيتِ عندما سبّبت القرف لمديرنا الجديد منذ سنتين وقذفك بما تحملينه في وجه المستخدم القذر، وصرت تقدمين المشروبات لصغار الموظفين والمراجعين والمستخدمين.. وأما أنا فقد كنت طاولة المحاسب الأكبر ورأيت من النقود ما لم يره أحدٌ منكم طوال حياته وليتكم رأيتموني في اليوم الأول من الشهر وجموع الموظفين تتزاحم حولي وكلٌّ يريد راتبه قبل الآخر. آه كم كنت أستمتع بالدفع والدفش والضغط وأنتشي بصراخ مولاي المحاسب الأكبر وهو يصرخ بالجموع الملهوفة (ابتعدوا يا موظفون.. يا مفلسون.. يا غجر..) ولكن هيهات أن يبتعدوا عني شعرة واحدة وجيوبهم فارغة وعقولهم طائشة.. لذلك أطلب منكم أن تنتخبوني زعيمة لهذا المستودع.

فجأةً انفجر مكبر الصوت مدويّاً غاضباً.. ألجموا أفواهكم جميعاً. أليس فيكم ذرّةٌ صغيرة من خجل، تتباهون وتتفاخروا بأمجادكم التافهة الهزيلة وكأنكم لا ترونني بينكم.. أنا مكبر الصوت أيها الأدعياء.. بقيت أحد عشر عاماً على باب المديرية أصدح بأفخم الخطابات وأعذب الألحان وقد ضخّمت أصوات خمسة مدراء ووزير وأربعة مطربين بينهم مطرب (فرانكو أراب) أخبروني ماذا كانت ستفعل الجماهير من دوني أقسم بأنه لولاي لما عرف الناس يوم العيد من المأتم أو الاحتفال أو التدشين.. ولهذا فأنا واثق أنني أحقّ الناس بزعامة المستودع ثم بَعَقَ بعقة تهديد ارتجّت لها الجدران وهربت الفئران وارتعش الحديد في الأعمدة والسقوف وهربت الأوراق إلى الزوايا.. ولكنّ هذه الصرخة لم تحسم النزاع إذ سرعان ما ارتفعت الأصوات من جديد وتشابكت الصرخات وكاد الأمر أن يتحوّل إلى الضرب..

فجأةً اعتدل الكرسي البرّام منتصباً على قاعدته ودار ثلاث دورات إلى اليمين ثم ثلاث دورات إلى اليسار فصمتت مهملات المستودع وهي ترنو باحترام إلى الكرسيَّ الذي تقوّس إلى الخلف وصرخ:

اسمعيني أيّتها النفايات جيداً.. إنني أتواضع إلى أقصى حد احتلمه حين أخاطبكم فأنتم تعرفون من أنا؟!

لقد كان لي شرف استقبال ووداع سبع مؤخرات لمدراء عامّين تفاوت زمن جثومهم فوقي، ولكني أذكر تماماً أنهم كانوا يبدؤون بعجيزة نحيلة عجفاء وسرعان ما تمتلئ شحماً ولحماً فتفيض بجوانبها الثلاث.

كان بعض المدراء يجلس فوقي واثقاً من ديمومته فيرخي كامل ثقله وبعضهم يجلس حذراً بطرف مؤخرته يترقب بقلق هاتفاً أو برقية أو فاكساً يقفز به إلى منصب أعلى أو ربما يهوي به أسفل السافلين... غادرني بعضهم لاعناً أو باسماً أو مقهقهاً أو باصقاً ولا أنسى أبداً ما دام جلدي متماسكاً كيف بكى أحدهم حين رفسوه إلى منصب أدنى فتشبث بي حتى آخر ثانية ولم يغادرني إلا محمولاً بالقوة وهو يبكي ويصرخ ويتوسّل.. ولما جاء المدير الجديد منتصراً غسلني بالماء والصابون والعطور وكان يطلق على سلفه (النتن). ولا تسألوا عن هيبتي أبداً سواء أكنت وحدي أم كان المدير منتصباً فوقي. ولا أنسى ما دمت أستطيع الدوران كيف حملوني مرة إلى المنجّد ليكسوني حلّة مخملية فانحنى لي الجميع في ذهابي وإيابي وغضّوا أبصارهم هيبة وإجلالاً.. ولكن يبدو أن الغدر من شيمة هؤلاء المدراء فقد رفض المدير السابع الدخول إلى الغرفة أبداً قبل خروجي فأسرع المستخدم الخاص وحملني مسرعاً ثم دفعني في الممرات شامتاً ورفسني ولطمني بل أنه تجرأ وجلس فوقي بوقاحة ثم رماني بقسوة كما ترون بينكم.. فارحموا عزيز قوم ذل.

تأثرت مهملات المستودع بخطبة الكرسي البرام ولطمت الصينية وجهها وبكى أحد الأباريق بصوت مرتفع وحاول مكبّر الصوت أن يتكلم لكنه اختنق بالعبرات ثم قرر الجميع اختيار الكرسي البرّام ليدافع عن مصالحها.. فجأة فُتح باب المستودع على مصراعيه واقتحم المكان عدة حمالين أخذوا ينقلون مهملات المستودع إلى شاحنة تربض أمام مدخل المديرية.

بيعت أغراض المستودع أو أهديت وتوزّعتها البلاد.. أما الكرسيّ البرّام فقد كان من نصيب مسؤول عن دورة مياه عامة يجلس عليه بفخر ويستقبل أصحاب الحاجات الضرورية.

 

 

 

أبو سمره

 

كنّا نناديه بما نشاء من ألقاب.. لسان العبد.. جربان.. غول.. أبو بسطار.. فيهرول نحونا بقامته الضخمة وثوبه الباهت وحذائه السميك المرقّع، وتفتّر شفتاه المشقّقتان عن ابتسامة خانعة راضية. ولكنْ منذ أن سكنت في حيّنا الصبية الجميلة فاطمة مع أمها الأرملة ونادته.. (أبو سمره) صار هذا أحبّ الأسماء إليه ويطير فرحاً حين نناديه به... وإذا حاول أحدنا مناكدته بأحد الألقاب القديمة فإنه يأتي مطرقاً يجّر نفسه و هو يهمهم محتجّاً.. (أنا أبو سمره) إنه مستعدٌّ لتلبية أيِّ أمر يحتاجه رجال الحيّ ونساؤه وأطفاله يكفي أن تشير إلى غرض ثقيل حتى يقذفه على كتفه أو يحضنه بقوة ثم يهرول أمامك إلى البيت وهناك يرمي حمله ثم يقف بخجل منتظراً ولا يحّتجّ أبداً على أيّ أجر نقدته سواء أكان قطعة نقدية أم رغيفاً أم برتقالة أم قطعة حلوى.. ولا يمكنك أبداً أن تعرف ماذا يعمل فقد تراه يساعد بائع الفول الأعرج في دفع عربته والتناوب معه في النداء طوال النهار. وربما تلمحه وهو يحمل الأغراض أمام عجوز لاهثة قادمة من السوق أو يفرّغ سيّارة بطيخ أو خضار وقد يفاجئك في أحد الأيام وهو ينادي باحثاً عن طفل ضائع فيتعالى صوته في الأزقة والساحات ويحاصر نداؤه أهل الحيّ طوال النهار والليل حتى يعثروا على الطفل الضائع. وأغلى ما يتمناه حين تطلّ الصبيّة فاطمة من بابها الخشبي الأخضر تناديه بصوتها الدافئ الحنون.

-أبو سمره

فيترك كل ما يشغله ويهرع نحوها فَرِحاً ينتظر بكل جوارحه ما تأمره به... وما تكاد تفّوه بطلبها حتى يجري مرحاً ملهوفاً وفي طريقه ينثر ما لديه من دراهم قليلة أو طعام يحمله إلى الأطفال الذين يصادفهم في طريقه.. ثم يعود إلى الصبية الجميلة مشرقاً سعيداً.. متوسّلاً أن تطلب منه شيئاً آخر فتضحك فاطمة راسمة على خدّيها غمّازتين آسرتين ثم تُقِّدم إليه بعض النقود يرفضها في البداية وحين تلّح الصبيّة متصنّعة الغضب يأخذها خجلاً ويقبض عليها كأغلى ما يملك. وتراه يرصد بقلق خروج فاطمة وأمها عصر الخميس إلى المقبرة وما تكادان تطلان من المنزل حتى يسرع نحوهما فيخطف حمل الآس من فاطمة ثم يمشي أمامهما ملتفتاً نحوهما بفرح بين الحين والآخر.. ثم يسبقهما إلى قبر الأب الذي غادر الدنيا وترك فاطمة يتيمة والأم أرملة فينكش تراب القبر بموسه ويسقيه بالماء ثم يقعي بعيداً يرنو بحزن إلى المرأتين وهما تغرزان أعواد الآس وحين يرتفع صوت فاطمة بآيات (سورة ياسين) تنساب دموعه الغزيرة ترسم أخاديد على الوجه الأسمر الذي لم يعرف الماء منذ شهور.

في عصر أحد أيام الصيف كان أهل الحيّ يلوذون ببيوتهم هرباً من الحر وتراخت أجساد البائعين خلف بضائعهم يتثاءبون ولا ينشط سوى النحل والزنانير وأسراب الذباب.. فجأة شقّ السكون الدبق هدير سيّارة صفراء توقفت أمام بيت فاطمة هبط منهما رجلان عابسان قرعا الباب بعنف وحين أطلت الصبيّة انقضّا عليها يجرانها بقسوة نحو السيّارة فصرخت مستنجدة.. أسرعت الأم لإغاثة ابنتها وأخذت تتعارك مع الرجلين اللذين شتماها ودفعاها بقسوة نحو الأرض... علا الصراخ.. واحتشد أهل الحيّ يتفرّجون.. توسّل بعض أهل الحيّ إلى الرجلين.. فشهر أحدهما مسدسه وصرخ مهدّداً.

-هذه الصبيّة ابنة عمي ولن أسمح لها بالزواج من غيري.

تراجع أهل الحيّ خائفين يرقبون الرجلين بصمتٍ ذليل وهما يشدّان فاطمة بشراسة نحو السيّارة.. فجأة هوى حجر كبير فأصاب رأس صاحب المسدس فعوى صارخاً ثم هوى حجر آخر فأصاب صدر الرجل الثاني فتراجع مذهولاً.. ظهر أبو سمره بعيون كالجمر وقد ملأ حجره بالحجارة يصرخ ويقذفها نحو الخاطفين والسيّارة وسرعان ما تخلّى الرجلان عن الفتاة وأسرعا نحو السيّارة وانطلقا هاربين يهدّدان والحجارة تلاحقهما...

بعد أيّام ظهر في أول حيّناً شرطيّ يدفع دراجة قديمة علّق على مقودها الصدئ حقيبة كالحة تزدحم بالأوراق الرسميّة.

استقبل الشرطي أوّل عابر بتكشيرة حامضة وسأله:

-هيه.. أنت..!

-ما الأمر؟

-هل تعرف شخصاً اسمه.. مصطفى العاصي؟

فكّر الرجل قليلاً ثم هزّ رأسه نافياً.. بصق الشرطي وشتم ونعت أهل الحيّ بالكذب والنفاق ثم دفع دراجته بملل.. توقف أمام بائع الذرة الذي يجثم مع دسته قرب جدار المسجد، هرول البائع يقدّم عرنوساً ضخماً يطفئ به غضب الشرطي.. تأمل الشرطي العرنوس وألقى نظرة متفحّصة على القدر الكبير أقنعته بما قدمه البائع فانقضّ على العرنوس يسلخه بثوان ثم سأل وهو يكاد يغصّ

-أتعرف شخصاً اسمه مصطفى العاصي؟

-كلا

-أحذرك.. إنّه هارب من خدمة العلم

-ولكني لا أعرفه

-كلكم كاذبون..!

رمى الشرطيّ بقايا العرنوس بغضب ثم مسح بكمه فمه وشواربه ومضى في طريقه يبحث بعنادٍ فسأل البقّالين والخبّاز والجزّار وبائع الحلويات.. لكنه خرج خائب المسعى ممتلئ البطن حيث أنكر الجميع معرفتهم بصاحب هذا الاسم، تابع الشرطي البحث بيأس في أزقة الحيّ وهناك صادف أبو سمره يجلس على باب داره يرقب بفرح الأطفال وهم يلعبون الكرة يصفّق ويرقص ويهلّل للأهداف ويسرع مذعوراً لنجدة أيّ طفل يسقط ويتعثّر.. توقّف اللعب وجمد الأطفال حين رأوا الشرطي يقتحم ملعبهم عابساً فأخفوا كرتهم ونظروا إليه لاهثين حانقين.. توقّف الشرطي، حدّق إلى الأطفال بارتياب.

-أنتم يا عفاريت.. هل سمعتم بشخص اسمه مصطفى العاصي؟

نظر الأطفال إلى بعضهم ثم هزّوا رؤوسهم الصغيرة منكرين

-كلب خلف جرو.. لا فائدة..

ثم التفت مشمئزاً إلى أبو سمره

-أنت يا أهبل.. هل تعرف مصطفى العاصي؟

همهم أبو سمره محتجّاً ثم أدار وجهه.. وفجأة اندفع مع سرب الأطفال لملاقاة القابلة العجوز (أم سلمى) التي برزت في أول الزقاق.. فتراحموا حولها يقفزون طالبين قطع السكاكر والقضامة.. توقّفت العجوز باسمة ورفعت ظهرها المحني تتأملهم بحنان فقد ساعدت أمهاتهم في إخراجهم إلى الدنيا.. وأخذ كل طفل يذكر اسم أمّه فتمنحه حفنة قضامة أو قطعة من الحلوى. تسلّل الشرطي يدفع دراجته ذات الحقيبة نحو العجوز وألقى عليها السؤال العنيد:

-هل تعرفين أيتها العجوز شخصاً اسمه مصطفى العاصي؟

نظرت العجوز إلى الشرطي بقلق وارتياب

-لا تخافي عندي خبر سار له

-نعم أعرفه

-أين هو؟

-إنه الجالس هناك!

-وأشارت إلى أبو سمره الذي كان يتقاسم قطعة حلوى مع أحد الأطفال

-أتعنين هذا الأهبل الضخم؟

-نعم فقد ساعدت أمه على ولادته في ليلة ماطرة

-لكنه يدّعي بأنه لا يعرف اسمه

-صدّقه يا بني فهؤلاء المساكين لا تعني لهم أسماؤهم شيئاً..

أسند الشرطي دراجته إلى الجدار ثم اندفع مسرعاً لإلقاء القبض على أبو سمره فانتصب مذهولاً ودفع الشرطيّ بعيداً ليسقط على الأرض ثم توارى أبو سمره في بيته.

في صباح اليوم التالي كان خمسة من رجال الشرطة يخترقون الحيّ بشموخ وهم يدفعون أمامهم أبو سمره المقيّد وقد تورّم وجهه، وحين وصل الموكب أمام بيت فاطمة أغَضَّ ببصره وهو يلمح فاطمة وأمها تنظران إليه بحزن وشفقة.

بعد شهور وشهور فوجئ أبناءُ الحيّ في عصر يوم ماطر بمصطفى العاصي يعبر شوارع الحيّ حافياً ضامر الجسد زائغ العينين يرتدي بزّة ممزقة من الخاكي، توجه بصمت نحو بيت فاطمة قرع الباب مرّات ومرّات ولكن لم يجبه سوى الصدى فجلس أمام الباب يتأمّل بذهول الجمع الذي أخذ يحتشد بصمت حوله وأخيراً صرخ أحد الأطفال:

-فاطمة خطفتها السيّارة الصفراء يا مصطفى وأمها ماتت..

نهض أبو سمره، نظر بعتاب مرير إلى الجميع.. بصق.. ثم مضى يجرجر جسده إلى بيته.

في صباح اليوم التالي كان الأطفال يلعبون فسقطت الكرة في دار أبو سمره فأسرع بعضهم إلى الباب الذي لم يغلق أبداً.. ولكنهم صرخوا برعب وهم يحدّقون إلى جسد أبو سمره المتدّلي من عنقه بحبل تؤرجحه ريح الشتاء على غصن شجرة توت عارية.

 

 

 

حــالة نـادرة

 

أمَّك مريضة.. إنها مريضة جدّاً هذه المرّة.. تعال بسرعة أرجوك وأحضر الدكتور وديع معك.. ثم تلاشى صوت أخي على الهاتف مختنقاً بدموعه.. دخلنا غرفة أمّي فتدفقت أمواج الذكريات يثيرها كلّ شيء.. السجادةُ بألوانها الباهتة.. الستائرُ المطرّزة بأزهار اللوز.. الكراسيُّ ومساندها المتعبة.. الخزانة القديمة ومرآتها وخيالاتي مع إخوتي الصغار ووديع نمشّط شعرنا ونمدّ لها ألسنتنا.. ماكينةُ التطريز الصامتة المغطاة التي أسهمت في إطعامنا وتعليمنا.. الأريجُ الذي تنشره شجيرة الياسمين وقد أطلّت من النافذة الشرقية.

كان جسد أمي يحتّل جزءاً يسيراً من السرير بعد أن ذوى إلى حدّ اليباس فَصَغُر إلى حدٍّ أطمعَ فيها أحفادها فأكثروا من عناقها ومحاولات حملها.

-صباح الخير يا حجّة!

قالها الدكتور وديع مبتسماً وهو يخرج أدواته الطبيّة.. فتحتْ أمي عينيها وأشرق طيف ابتسامة على وجهها المتعب.

-جئتك بابنك الدكتور وديع

ازداد إشراق الابتسامة على مُحيّاها وتأمّلت الطبيب بحنان وحب. وديع أخي بالرضاعة شاركني ثدي أمي شهراً كاملاً.. سألتُ أمي مرّة وأنا أرنو بإشفاق إلى ثدييها المتهدلين.

-كم ولداً أرضعتِ يا أماه؟!

شردت أمي قليلاً ثم أخذت تعدّ على أصابعها وتعدّ..

-ربما خمسة عشر.. أو أكثر.. نسيت.. فكثيراً ما كانت  تمرض في حارتنا أمّ طفل أو تغيب.. فننوب عنها في إرضاع الطفل حتى تشفى أو تعود.. لم نكن نعرف حليب الصفيح الذي يسري في عروق أطفالكم..

-وأخي وديع.. كيف أرضعتِه..؟

-مرضت أمه بالحمّى بعد ولادته.. كان يصرخ من الجوع ومع ذلك فقد رفض جميع الأثداء ولم يقبل الرضاعة من أمّ سواي رضعتما معاً وأعانني الله..

وديع صديقي تلازمنا معاً منذ درجنا أطفالاً نتشارك في اللعب والخصام ومقعد الدرس.. وتربية القطط والكلاب وصيد العصافير.. والسباحة في النهر.. لا يفصلنا شيء حتى توهّم معظم الناس أننا توأمان وتفرّقنا أول مرة حين دخل معلم الصف في أحد الأيام متجّهماً وقال:

-درسنا الآن تربية دينية وعلى الطلاب المسيحيين الذهاب إلى الشعبة الثانية .

تلكأ وديع في الخروج والتصق بي.. أصرّ المعلم.. فتوسل باكياً أن يبقى أو أذهب معه.. صرخ المعلم مهدّداً.. فخرج خافض الرأس يداري دموعه.

فحص وديع جسد أمّي ثُمَّ أصغى بهدوء إلى بقايا خلجات الحياة فيه.. وحين انتهى لمحتُ القلق في عينيه.. أخذني جانباً وهمس بألم

-دقّات القلب في اضطراب شديد.. شيء عجيب.. لا أدري كيف يستمرّ بعمله..

ابتسمت بألم

-قلب أمي حالة نادرة!!

-معك حق

غادر الدكتور وديع وبقيتُ قرب أمي ممسكاً بيدها الصغيرة الخشنة التي أعدّت طعامنا وغسلت أجسادنا وثيابنا وسرّحت شعرنا.. مسحت دموعنا وعرقنا وحزننا.. تأمّلت غطاء رأسها الذي انحسر عن شعرٍ رماديّ كانت تغني لـه يوماً وهي تدير ماكينة التطريز.

شعري حبالْ الشمس ومزيّن بريحانْ

لأسبي بجماله شباب الإنسْ

وسوسحْ ملوكَ الجانْ

طافت عيناي فوق الجسد الذي أضحى كومة ضئيلة من جلد شاحب وعظام. ابتسمْتُ حين خطر لي أنّ هذا الجسد الضامرَ قد نثر في الدنيا عشراتِ البنين والأحفاد.. اشتهت شفتاي تقبيل الوجه الذي لا تغيبُ عنه الابتسامةُ أبداً.. فانحنيت ولكنْ خانتني دمعتان بلّلت وجهها.. استيقظت أمي.. أدرتُ وجهي ماسحاً دموعي.

-ما بك؟!

-أنا.. لا شيء!

-أين زوجتك وأولادك؟

-في البيت.

قالت بصرامة عابسة

-اذهب الآن إليهم.. أنا بخير..

نهضت.. سرت بضع خطوات.. فجأةً استوقفني سؤالُها الغريب..

-متى ستلد ابنة خالك سوسن؟

-ربّما بعد أيام. هكذا يقول الطبيب..

ازدادت صحة أمّي سوءاً.. كنت أعرف ذلك من الوجوه الواجمة والحزن الذي يزداد عمقاً في عيني الدكتور وديع.. وفي آخر ليلةٍ تلاقينا قربَ سريرها.. قال وديع:

-سأنقلها غداً إلى المشفى.

-كما تشاء

في الصباح الباكر جئنا معاً.. دخلْنا غرفة أمي.. كان سريرُها فارغاً.. انتفض قلبانا رعباً. وشحب وجه وديع.. دخل أخي الأصغر بهدوء.. صرخت به فزعاً.

-أين أمي؟

-اطمئنّا.. ابنةُ خالك تلد الآن.. وقد أصرّت أمّك على مغادرة السرير لتكون كعادتها كما تعلم في استقبال المولود الجديد

-لكنها مريضة!!

-يبدو أنها تنسى المرض أو ينساها حين يتعلّق الأمر بمولود جديد.

نظر إليَّ الدكتور وديع بذهول ثم ابتسم يردّد..

(حالة نادرة.. حالة نادرة).

 

 

 

ألوان

 

الأبيض

غيوم الربيع.. ثلوج الجبال أجنحة الحمام شراشف أمي.. بريق السيوف.. ثياب العروس ولون الكفن.

الأسود

قناع الليل.. رداء الراهب. جناح السنونو رفوف الزرازير.. سبّورة الصفّ.. حجارة مدينتي.. قلوب الطغاة جلابيب النساء.. عيون طفلتي.. غيوم الشتاء..

الأزرق

غيوم السماء.. موج البحر. خرز الطفولة.. نافورة الحزن.. عيون الوديان

البنفسج

لون القلب.. شراب التوت.. شفاه البرادن.. تنورة المراهقة.. حلمة الثدي.. أفواه الجراح..

الأخضر

لحن المروج.. شهقة النعناع.. أفعى الجنان.. عيون جارتي.. لذعة السعتر.. كفن الشهيد.

الأصفر

خاتم الخطبة.. دموع شجر الخريف.. رمال الصحارى.. وجوه المتعبين.. شعاع الشمس.. غواية الذهب وشعر الدمية..

الأحمر

لون دمي.. كأس نبيذي. وضوء الشهداء.. نجوم العلم.. نجمة الصبح.. لسان النار.. ثوب المحكوم.. زهر الجُلنّار.. شقائق النعمان.. خدود طفلتي..

الرمادي

رداء الجمر.. ساق الحور.. ثوب الأرملة.. جوارب العانس.. شعر أمي

أضيفت في 24/04/2005/ * خاص القصة السورية عن مجموعته الدوران في قاع الزمان الصادر عن اتحاد الكتاب العرب

 

أضيفت في 24/04/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية