أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: محمد بن يوسف كرزون

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

- مواليد 19 آذار - مارس 1955 في مدينة حلب -سورية.

- حصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب بجامعة حلب عام 1982.

- اللغة ودرجة إتقانها : الفرنسية – وسط.

- العمل : موظف إداري في المؤسسة العامة لاستصلاح الأراضي – فرع حوض الفرات الأعلى – حلب.

 

- يكتـب المقالة والدراسة الأدبية والقصة القصيرة والشعر في المجلاّت الثقافية العربية، منذ عام 1983، منها :

•أسامة – دمشق ؛ المعرفة – دمشق ؛ الثقافة الأسبوعية – دمشق ؛ البيئة والتنمية – بيروت ؛ البيان  -الإمـارات العربية المتحدة ؛ أخبار الخليج – البحريـن ؛ دراسـات عـربيـة  - بيروت ؛ رسالة الأطلس -الجزائر ؛ شؤون اجتماعية – الإمارات ؛ الصدى – الإمـارات العربية المتحدة ؛ العالِِم – المملكة العربية السعودية ؛ الفيصل – المملكة العربية السعودية ؛ القبـس – الكويت ؛ الكويت - الكويت ؛ المجلة الخلدونية – الجزائر ؛ المجلة العربية للعلوم الإنسانية  - جامعة الكويت ؛ الرافد – الإمارات العربية المتحدة ؛ المنتدى – الإمارات العربية المتحدة ؛ نهج الإسلام – دمشق؛ الوحدة   - المغرب ؛ رأس الخيمة – الإمارات العربية المتحدة ؛ الهلال – القاهرة.

 

- كتب صدرت له :

•جحا رائد الظرفاء – دار الشرق العربي – بيروت – 1992.

•الخنساء : سيرة تاريخية أدبية - دار المعارف – حمص – الطبعة الأولى - 1999. الطبعة الثانية – دار الوعي العربي – حلب -2005.

•نزار قباني : رحيل قارّة شعرية (بالاشتراك) – دار المعارف – حمص  – ط1 – 1998.

•عودة جحا : دار المعارف – حمص – ط1 – 2000.

•عوالم قصصية (مجموعة مشتركة مع أدباء من سورية والوطن العربي) – دار المعارف – حمص – ط1 – 2002.

•العودة المبكرة (مجموعة قصصية) – دار الوعي العربي – حلب – 2005.

•النجاح في العمل والدراسة (دراسة) – دار كتابنا – المنصورية – لبنان – 2007.

•اللغة العربية : هموم وطموحات – دراسة – مخطوطة.

•المكتبة المنـزلية – دراسة – مخطوطة.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

عود عمران

 قرط رشيدة

 الدخان والحقيقة

 

 

الـدخـان.. والحـقـيـقـة

 

يضع «أبو نعيم» كؤوس الشاي في الصينية ، يرتّبها على عجل ، يمسك بعدد من مكعبات السكّر، يضعها في صحن صغير ، يمسك بحفنة من الملاعق الصغيرة ، يوزّعها على الكؤوس بخفّة عجيبة ، يحمل الصينية براحة يده ، ينطلق بها إلى الزبائن وهو يرسم بها دوائر في الهواء ، يصل إلى الزبون الأول ، ينزّل له طلبه بسرعة ، عبارات الترحيب تواكب حركات يده الرشيقة مع كلّ الطلبات التي يحملها للزبائن ، وابتسامته المحبّبة تزداد تألقاً لأنــّها ليست ابتسامة جامدة ، بل هي ابتسامة نابضة بالحيوية ، وكأنــّما كلّ روّاد المقهى أحبابه وأصحابه ، بل كأنــّما المقهى هو بيته ، والروّاد ضيوفه الحميمون..

المزاجات المختلفة لروّاد المقهى قابلة للتحمّل مادامت في الحدّ المقبول ، ومادامت تلطيشاتهم وتقريعاتهم لا تجرح المشاعر جراحاً عميقة.. فقد اعتاد على التعليقات والتنقيرات ، ولا يجد مناصاً من عدم المبالاة بما يقولون مادامت نيّاتهم صافية ، أو هكذا يُفترض أن تكون..

عندما يكون مريضاً ، غير قادر على الحركة بما فيه الكفاية ، يحشره «المعلّم» وراء المواقد لغلي الشاي والقهوة يشعر كأنــّه حبيس سجن غائر تحت الأرض ، فيتحامل في اليوم التالي علـــى نفسه ، ولا يصدّق أنــّه قد عاد إلى التنقّل بين الزبائن ، حيث ميدانه الذي يجول فيه بامتياز..

 

المطر يهطل بغزارة في الشارع الرئيسي ، والزبائن لا تكاد تجد لهم موطئ قدم في صالة الشاي، ولكن طلباتهم تكاد تكون معدومة ، فكلّ زبون قد أخذ طلبه منذ ساعتين أو أكثر ، وحسب عرف المقاهي فيكفي للزبـــــون أن يتناول طلباً واحداً حتى يجلس المدّة التي يرغبها ، طالت أم قصرت..

يجلس على حافّة الكرسي ، ينهض ، يمشي ، يمسح بعض الصواني النظيفة بصدّارته البيضاء حيناً وبكمّه حيناً آخر.. يعود إلى الكرسي ليجلس عليه من جديد بضع ثوانٍ.. يهرب إلى الباب الرئيسي.. يفتحه.. يشمّ رائحة المطر الرطبة المنعشة.. يمدّ يديه إلى الهواء ليلتقط بعض قطرات المطر.. يفرك يديه.. يمسح بهما وجهه..

أصوات روّاد المقهى المختلطة تزداد ضجيجاً ، وأيديهم ترتفـــع وتنخفض ، وكلّ يدافع عن وجهة نظره أمام محدّثه ، تتقاطع الأحاديث ، تتعقّد النقاشات ، تتشابك الأنفاس ، تتداخل أدخنة السجاير الوطنية بالسجاير الأجنبية الفاخرة ، بأدخنـــــة تبغ النارجيلة و«البايب» لتتبخـّر جميعها في فضاء المقهى ، ثمّ تتكاثف وتتّحد لتلوّن جدران الصالة بلون شاحب ، دون أن تتميّز أنواعها ، وإن كان يُشاع أنّ الدخان الوطني أكثر كثافة من غيره..

يحاول النظر إلى وجوه الناس ، لعلّه يجد تفسيراً لهذا المكوث الطويل على الكراسي، وتلك المقدرة الفائقة على التحمّل عندهم ، ويعجب من أحاديثهم الطويلة المديدة التي لا تكاد تنتهي ، فهو يؤمن بأنّ أفضل الحديث ما كان «كلمة وردّ غطائها» فما بال الناس يغرقون في أحاديثهم ، ولا شكّ عندهم أنّ أغلبهم بعد ساعة من الزمن ينسى بماذا بدأ حديثه ، ولماذا هو يخوض مع أصحابه في هذا الموضوع الجديد..

هو لا ينكر أنّ البعض القليل من روّاد المقهى يغلب عليهم الصمت ، وهؤلاء «يشترون أكثر مما يبيعون» ، ويضحك في سرّه : «ماذا لو كان الحديث بضاعة ؟ لكنتُ أغنى الناس لِما يُعرَض عليّ من كميات كبيرة من هذه البضاعة يومياً»..

المطر يزداد غزارة.. والصالة تكتظّ ، والدّرج الموصل إلى الصالة العليا «السقيفة» يحتاج في الغد إلى تنظيف ، «اترك عمل الغد إلى الغد يا شيخ.. أتريد أن تسبق الدنيا ؟» قال ذلك في نفسه وقد عزم على أن يشرب كأساً من الشاي.. يكاد يمرّ عليه أسبوع كامل دون أن يتذوّق شاي المقهى ، وتعجب زوجته منه في البيت عندما تراه يكثر من شرب الشاي ، فلا تكفيه كأس ولا ثلاث ، لا يردّ رأسه إلاّ إبريق الشاي كاملاً.. يضعه إلى جانبه ، مع علبه السكّر الناعم الأبيض ، ويشرب دون أن يترك لأحد مجالاً ليعدّ عليه الكؤوس التي يشربها..

يختار كأساً كبيرة.. يجلس على إحدى الدرجات الموصلة إلى «السقيفة».. يأخذ شريحة من الليمون ويعلّقها بطرف الكأس.. يتلمّظ وهو يرشف الرشفة الأولى.. وما يلبث أن يسمع تصفيقاً من أحد الزبائن ، فيركن الكأس على طرف طاولة معلّمه ويسرع إلى الطلب..

-ما هذا ؟ ساعتان ولا نرى وجهك ؟ ما هذه الخدمة المتدنــّية في هذا المقهى ؟ لقد صار الجلوس فيه لا يُطاق..

يقول الزبون هذا وهو يرفع صوته يريد أن يُسمعَ المعلّم.. بينما يقف النادل أمامه يحاول استلطافه ويَعِدُهُ بتأمين طلبه الذي لم يفصح عنه حتى الآن رغم أنــّه يرغي ويزبد..

-أمرك يا بيك.. ماذا تريد ؟

-زفت.. قطران.. فنجان قهوة طبعاً..

الصمت يسود المقهى ، الذي التفت روّاده إلى الأصوات، وهالهم ما رأوه من تواضع النادل ، وتكبّر الزبون.. المعلّم يترك مقعده من وراء طاولة الحساب ، يتّجه إلى الزبون ، يرجوه أن يجلس ليصله طلبه بأسرع وقت.. الزبون يزداد تهجّماً وتعلو أصواته أكثر.. الزبائن يقفون ، وبعضهم يقترب من طاولة الزبون المغتاظ.. وكلمة لا إرادية تنطلق من «أبي نعيم» كأنــّها صاروخ موجّه :

-إذا كنتَ مغلوباً في اللعب فما ذنبنا نحن ؟

وترتفع يد الزبون لتصفع النادل الصفعة الأولى.. ثمّ كانت الثانية لكمة موجّهة إلى وجهه.. والثالثة رفسة.. ويسقط النادل أرضاً وكأنــّه قد تلقّى الضربة القاضية في حلبة صراع..

المعلّم يحاول أن يتوازن ، فما يراه ليس بقليل ، ولكن أين قاعدة «الزبون دائماً على حقّ» ؟

الروّاد يتحلّقون ، بعضهم يمدّ يده للنادل ليرفعه ، وبعضهم يهدّئ من روع الزبون الحانق ، ولكنّ أكثرهم يُبدون استهجاناً واحتقاراً لفعلته ، ولا يرون لها مسوّغاً.. وإن كان بعض من في زاوية الصالة يعتبر أنّ ما حدث لا يعنيه في شيء !

  

النادل يُحمَل إلى بيته ، إصابته الجسدية لا تبدو كبيرة ، ولكن دموعه لا تكـاد تقف ، هي دموع لا إرادية ، وتمنــّى أن يقتلع عينه إذا كــان القلع يوقف بكاءها.. ماذا فعل ، وماذا قال ، حتى حدث ما حدث؟؟!!

أحد روّاد المقهى ، الذي كان مرافقاً له إلى بيته ، أسرّ في أذنه وهم في الطريق : «تستطيع أن ترفع دعوى.. دعوى ردّ اعتبار..» !!

زبون آخر يردّ : «ليس وقته الآن.. وأبو نعيم على العين والراس.. كلّنا رجالك يا أبا نعيم..».. ويستدرك : «فعل خسيس من رجل خسيس !»..

كيف سيدخل البيت ؟ ماذا سيقول لأولاده وزوجته ؟ ماذا سيكون موقف معارفه وأقربائه ؟

  

أبو نعيم يدخل صامتاً ، بعد أن ودّع الشباب الذين أوصلوه إلى بيته ، لا يبدو عليه أي أذى ، ولكن امرأته تلاحظ الإرهاق والوهن عليه ، ولا تدري ما السبب.. البرد يداهم أبا نعيم وكأنــّه لم يشعر بمثل هذا البرد من قبل.. يأوي إلى فراشه.. تأتيه امرأته بكأس شاي حار.. ينهرها ، يلعن الشاي وساعته ، تحاول أن تواسيه ، يهدأ ، تقول له :

-من أي شيء حصل لك هذا يا أبا نعيم ؟

يحاول أن يوضّح لها :

-المطر.. تغيّر حالة الطقس.. الملابس القليلة التي لبستها اليوم.. الثرثرة.. كلّ هذه الأشياء سببت لي صداعاً وزكاماً.. دُخْتُ وسقطتُ على الأرض...

أبو نعيم يغطّ في نوم عميق.. يهذي.. ومن سوء حظّه أنّ امرأته ، التي لم يغمض لها جفن ، سمعت هذيه ، ولكنــّها لم تفهم منه شيئاً ، سوى أنــّه ليس على حالته الطبيعية..

 

أمل أبو نعيم ليـس قليلاً بمعلّمه الذي سينصفه بكلّ تأكيد : «بعد قليل.. بل قبل أن يحين الظهر سيأتي معلّمي.. سيعلمني كيف ردّ للزبون الصاع صاعين.. كيف تجمّع حوله الروّاد إلى أن طردوه خارج المقهى.. بعد قليل سيحكي لي معلّمي كيف وجد ذلك الظالم نفسه تحت المطر الغزير.. كيف صار مثل الكلب يتلوّى تحت الشرفات.. بعد قليل سيأتي معلّمي»..

صاح أبو نعيم على زوجته :

-إذا جاء معلّمي أدخليه عليّ بسرعة.. قولي له إنــّني في صحّة جيدة وإنــّني اليوم فقط لن أنزل إلى العمل.. انظري إليّ ألستُ على خير ما يرام ؟ فقط أريد بعض الدلال من معلّمي !!

أخفت زوجته عنه كلّ ما تراه من ملامحه البائسة ، من اصفراره ، من إرهاقه وكأنــّه لم يذق طعم النوم منذ أشهر.. وردّت بلطفها المعهود :

-طبعاً.. أنت تمام ، ولكن من حقّك بعض الدلال.. الدلال ليس عليّ فقط ، بل على معلّمك أيضاً !!

الباب يُطرَق.. تطير أُذُنا «أبي نعيم» يدخـل زميله «أبو صبحي» ، يحمل بيديه بعــــــض الفواكه ، أبو نعيم يعدّل جلسته ، يحاول النهوض ليسلّم على زميله ، يحلف أبو صبحي ، يجلسان :

-معلّمنا شهم ومعدّل.. والله فيك الخير أنتَ ومعلّمنا.. احكِ لي ماذا حصل بعد خروجي من المقهى ؟

-كلّ خير.. كلّ خير.. كلّ واحد أخذ نصيبه وانفضّت على خير !!

-والمعلّم ؟

يحاول أبو صبحي أن يخفي شيئاً عن زميله المنكوب :

-أنت تعرفه أكثر منــّي ، المهمّ كيف حالك أنت ؟

-بخير ، ولكنــّني أريد بعض الدلال من المعلّم !!

-أنتَ رجل.. يا شيخ ! ابتعد عن تفكير الأطفال أو النساء.. كن رجلاً..

-أليس من حقّي ؟

-لا يا صاحبي ، فالرجال أكبر من الدلال ومن حركات الولدنة !!

-إذن ، انتظرني أجهّز نفسي وأذهب معك إلى العمل !!!

وجد أبو صبحي صعوبة كبيرة في إقناع أبي نعيم بضرورة تأجيل خروجه من البيت ولو ليوم واحد، وودّعه دون أن يجعله يشعر أنــّه يخفي عنه شيئاً ما..

  

الصمت يلفّ حباله على أبي نعيم ، هو لا يريد أن يكلّم زوجته ، ولا أولاده.. لا يريد أن يستقبل زائراً : «أسبوع ؟! أسبوع كامل ولم يأتِ معلّمي ؟! ماذا حصل له ؟ ألم تجرِ الحادثة أمامه ؟ والله لولا خاطر معلّمي ومصلحة المقهى لكنتُ حطّمتُ ذاكَ النذل الذي تطاول عليّ.. إيه أنا أبو نعيم أنا !! أبو صبحي – مع احترامي الشديد له – لا يكفي.. صحيح أنــّه لم يقطعني صبحاً ولا مساءً ، ولكن إذا لم يأتِ المعلّم بذاته سأكبّرها.. سأرفع دعوى.. عندي مليون شاهد.. الصالة كانت على أكملها زبائن.. ثلاثة شهود يكفون.. شاهدان فقط.. المعلّم وأبو صبحي.. وإن لم يشهدا فكلّ زبائن المقهى أصحابي وإذا تخلّى عنــّي أحدهم فلن يتخلّى الجميع عنــّي !!»..

 

أمّ نعيم تحمل كأس اللبن إلى زوجها ، تحاول أن تفهم منه بعض ما يعانيه ، يلاطفها، يبعدها عن الموضوع من جديد ، ولكن بليونة أكبر من سابق أيّامه..

أبو صبحي يدخل وفي يده ظرفاً ، فيه بعض المال :

-هذا أجر الأسبوع كاملاً من المعلّم..

-أنا لا أريد مالاً ، أريد أن أرى المعلّم..

-المعلّم بخير ، ويسلّم عليك..

-من بعيد لا يكفي ، أنا من عمر أبيه ، ربّيته على يديّ هاتين منذ أن كان في الثانية من عمره ، وأعرفه أكثر مما يعرف نفسه ، أنا لستُ أجيراً ، أنا في مقام والده.. عمّه على الأقلّ !!

-المعلّم يرجوك أن تسامحه ، فهو طوال الوقت في المقهى..

-مهما كان مشغولاً فأنتَ مشغول أكثر.. ومع ذلك لم تتغيّب عنــّي..

-لكلّ واحد ظروفه !

ازداد شعور أبي نعيم أنّ زميله يخفي عنه أمراً ، وقد اعتاد عليه كتوماً ، فالمقهى أيضاً له أسراره، هكذا تعلّموا منذ ثلاثين سنة ، وأبو صبحي خير من يكتم سرّ عمله ، ولكن لا بدّ أن يأتي الوقت الذي يتعرّف فيه إلى سبب تقصير المعلّم في حقّه..

أراد أبو نعيم أن يفاتح زميله في رغبته برفع دعوى على الزبون ، ولكن زميله سارع إلى الردّ:

-إيّاك !! فسمعة المقهى ستصبح على كفّ عفريت.. ستصبح في الأرض.. سيشمت بنا أصحاب جميع المقاهي وسنفقد أغلب زبائننا !!

-ولكن هل يرضيك أن تُهان كرامتي على تلك الصورة التي رأيتها ؟

-لا ، ولكن تلك كانت عابرة ، أمّا المقهى فهو الدائم.. باب عيشنا يا رجل !!

-والله ما كسر ظهري إلاّ إعالتي لأسرتي.. بسيطة.. الله يفرجها علينا..

  

خرج أبو نعيم من بيته قاصداً المقهى ، كانت نفسه تحدّثه كيف سيستقبله المعلّم والروّاد : «الحمد لله على السلامة.. ولن أعرف على مَنْ أردّ وعلى مَنْ لا أردّ.. سأسلّم على المعلّم ، ولكن سأفهمه أنــّه قد قصّر في حقّي.. إيه والله والله يبست العروق في ساقيّ من طول الجلوس في البيت.. العمل صحّة.. ولا فائدة من قلّة الحركة غير وجع الراس.. بعض الزبائن سيجلسونني على طاولاتهم ويطلبون لي الشاي مرحّبين مهللين.. معلّمي سيعتبر كلّ الطلبات في تلك الساعة مجّانية على حسابه.. أبو نعيم ليس قليلاً!!»..

دخل أبو نعيم المقهى ، سلّم على المعلّم ، ردّ المعلّم بجفاف ، الصمت يهيمن علــــى الرجلين ، عينا أبي نعيم تجول صالــــة الشاي ، وعينا المعلّم تحاولان تجاهل أبي نعيم ، صرير سحّابة الطاولة يكسر الصمت عندما يسحب المعلّم من درج طاولته ظرفاً فيه بعض الأوراق وبعض المال.. يقول لأبي نعيم :

-«من فضلك وقعّ الأوراق ، وخذ حقّك الموضوع في الظرف.. لعلّك تستطيع أن تشتغل بهذا المبلغ عملاً آخر ، فيبدو أنّ مزاجك لم يعد ملائماً للعمل في المقاهي !!!

أحسّ أبو نعيم بالنار تأكله من قدميه إلى عينيه إلى قمّة رأسه.. ترك الظرف على الطاولة ، وانسحب..

تذكّر أنّ تلك اللكمات والرفسات التي سدّدها إليه اللئيم لم تكن بقوّة هذه الكلمات التي يسدّدها إليه معلّمه الآن..

  

أبو نعيم يجد نفسه متجهاً إلى أحد المحامين الذين هم من روّاد المقهى : «الأستاذ خيري لم يكن حاضراً يوم الحادثة ، ولكنــّني أستطيع أن أرويها له ، ويستطيع المحامي أن يحصل على تفاصيل أكثر من الشهود ، وما أكثرهم !!»..

المحامي يقابل أبا نعيم بترحيب ، يستمع إليه ، يتفهّم حقّه المشروع في ردّ اعتباره.. يعده خيراً.. يودّعه على أمل..».

 

لم يجرؤ أحد من روّاد المقهى أو عمّاله أن يشهدوا بما جرى لأبي نعيم ، وقتها اكتشـف أبو نعيم أنّ : «كلّ الثرثرة التي كانت تجري في المقهى رخيصة ، فارغة ، حتى ولو كانت تتحدّث في أهمّ المواضيع.. وهل أهمّ من الحقّ ؟ معقول هذا الرغاء اليومي ، وتلك الضجّة ، بل وتلك الصيحات المدوّية من أفواه أكثر روّاد المقهى بضرورة نصرة الحقّ وصون حرّيات الناس وكراماتهم ، ثمّ يحوّلون كلامهم ذاك إلى كتابات على أوراق الصحف والمجلات والكتب ، وعندما يتطلّب الأمر شهادة حقّ يهربون منها ؟ أُفٍ لهم ولما يدّعون» !!!

  

أبو نعيم يمرّ بعد سنة من أمام المقهى ، يقف ليتأمّل ، يرى دخاناً أسود كثيفاً ينبعث من نوافذ المقهى ، ينظر إليه مليّاً : «دخان.. في دخان.. في دخان.. هذا دخان مؤلّف من مزيج من دخان التبغ وأحبار الأقلام المتناثرة وأشياء تنفث مــن الصدور.. ياه !! كم تحتاج هذه الدخاخين إلى عمل وجهد لتنظيف المكان منها !! الحمد لله الذي أنقذني من دخانهم.. وهداني إلى بيع السحلب على أبواب مدارس الأطفال !!».

  

 

قُرط رشيدة 

 

لم يكن صباحاً عاديّاً ذلك الذي شاع فيه خبر موت رشيدة في القرية ، فهـــي امرأة إن لم تكن دخلت كلّ بيت ، فعلى الأقل كانــت حديث كلّ البيوت.. أمّا الأطفال ، فمُناهم أن يذهبوا إليها في بيتها ، ليطلبوا منها الكشف عن أذنها المشرومة ، فتتمنــّع في البداية ، ثمّ ما تلبث أن تحسر المنديل عن رأسها قليلاً لتريهم أذنها اليمنى وقد استطالت.. وهي لا تنسى أن تقدّم للأطفال السكاكر وبعض المأكولات الخفيفة ممّا يتيسّر لها.

وحكـــأيـــة أذنهـا بالأمس كانت حقيقة ، وأمّا اليوم – بعد أن ماتت – فقد صارت أقرب إلى الأسطورة.. يذكر أهل القرية جيداً منذ خمس وعشرين سنة أو أكثر ، عندما كانت رشيدة في الثلاثين من عمرها ، حديث أبي فارس معها ، عندما جاء يشكو لها مرض ولده الوحيد فارس، وقال لها إنــّه قد تركه في مستشفى المدينة ، وأنــّهم قد طلبوا منه دماً.. فقالت رشيدة : خذوا ما تشاؤون من دمي.. وعندما أكّد لها أبو فارس أنّ دمها لا يصلح ، فكّت قُرطها من أذنها اليسرى ، ثمّ همّت تفكّه من أذنها اليمنى ، فلم تسعفها يداها المرتعشة حزناً على فارس ، فشدّت القُرط من أذنها ، فشرمتها.. وأخذ أبو فارس القُرط..

تبيّن أنّ الحكاية لم تكن مرض فارس ، ولم تكن المشكلــــة مشكلة حاجة إلى دم ، ففارس  كان في المدينة فعلاً ، ولكن من غير مرض ، الحكاية هي أنّ أبا فارس كان يرغب في شراء زوج حمام نادر ، وليس معه ما يكفي..

قُرط رشيدة لم يكن في الحقيقة قُرطها وحدها ، كان قُرط أمّ جدّتها ، هو من الذهب العتيق ، ومزدان بأحجار كريمة.. هذا القُرط اشتُهِر بالرهن ، فكلّما شعر إنسان في القرية بضيق مادّيّ كان يلجأ إلى جدّة رشيدة ، لترهن له قُرطها ، ليفكّ أزمته.. وتنفرج الأزمة ، ويصبح المعسر موسراً ، ولكنه ينسى حكـاية رهن قُرط الحاجّة ، وكانت الحاجّة – رحمها الله – على يقين من هذا التصرّف ، ولذلك كانت تجمع بيض دجاجاتها ، وتبيع ما يزيد عن حاجتها منه ، وتحيك شالات من صوف أو من قطن ، وتبيعها ، وتجمع المبلغ ، وتفكّ رهنيّة قُرطها..

ولكَ أن تتخيّــل نفسيّــة المُرتَهِنِ ، وهــو يتسلّم المبلغ ، إنــّه يعدّ ، ويعيد العدّ ، ويدقّق ، لعلّ المبلغ يكون ناقصاً ، لا لشيء سوى لأنــّه يريد أن يستبقي القُرط عنده أكبر مدّة ممكنة.. فقد شاع اعتقاد أنّ هذا القُرط بالذات يجلب الرزق لمن يكون في حوزته..

وتتكرّر العملية مع رجال القرية ونسائها ، فهذا يريد أن يشتري بغلة بعد أن وهنت بغلته المسنــّة، وتلك ترغب أن تزوّج ابنها على حياة عينها ، وذلك يريد أن ينزل إلى المدينة ليتعرّف إليها .. وتتفتّق عبقريّات أهل القرية عن حاجات ورغبات ، والقُرط يرتهن ، ثمّ يُفَكّ رهنه.. وعندما آل إلى رشيدة لم تكن تريد أن تبطل سنــّة أمّها وجدّتها وأمّ جدّتها.. ورغم أنــّها كانت موسرة في أوّل أمرها ، فقد كانت تحبّ أن ترهنه ، لعلّها تجلب البركة على المُرتهِن..

لم يكن قُرط رشيدة وحده القابل للرهن ، فهي ترهن حتّى سجّادتها العجميّة ، ولكن لا تقبل أن ترهن قِدرها الكبير ، فماذا تفعل إذا فوجئت بزيارة غير متوقّعة لأكثر من عائلة من إحدى القرى المجاورة ؟!

عَمَدَتْ رشيدة إلى شراء قُرط جديد ، وراحت تخبّئه في علبته ، فهو لا يرى النور إلاّ قليلاً عندما تتفقّده رشيدة وهي منفردة.. إنــّها تخبّئه لابنتها التي لم تأتِ.. فقد كانت الغصّة الكبيرة لها أنــّها لم تُنجب، وكانت تتساءل في نفسها : والدة جدّتي أنجبت بنتاً وحيدة هي جدّتي، وجدّتي أنجبت ثلاثة أطفال لم يعش لها منهم سوى والدتي ، وأنا وحيدة أمّي.. هل كُـنّ مريضات بمرض ما ، وترسّبت كلّ آثار المرض فــيَّ ؟؟!! ثمّ كانت تعزّي نفسهـــا وتقول : لا يا بنت ! ألا ترين إلى بنات القرية .. إنــّهنّ كلّهنّ ينادينكِ (أمّي) .. أنتِ أمّ حقيقيّة وإن لم تنجبي..

وقد تركت رشيدة القُرط الجديد احتياطاً لعلّها في يوم من الأيّام تُجبَر على بيع القُرط القديم ، فماذا تفعل ؟ وماذا سترهن بعدها ؟

ويقع المحظور ، وتصل الحالة برشيدة إلى حدّ أنــّها يئست من أبي فارس أن يعيد لها القُرط.. هي لم تتأثّر بشيء بقدر ما تأثّرت بأنّ أذنها لم تعد تستطيع أن تعلّق بها قُرطاً ، والقُرط في أذنها – في حدّ ذاته – دليل بركة.. لا القُرط القديم عاد ، ولا الجديد ينفع في التئام شحمة أذنها المتدلّية.. آه يا رشيدة !

مضت سنون ، وأبو فارس يتناسى القُرط.. ويتناسى رشيدة.. مواسم الخير تتلاحق ، والأرزاق تتدفّق عليه وعلى القرية جميعاً.. ووعده بإعادة القُرط ذهب أدراج الرياح.. صحيح أنــّه باعه – كما أشيع في القرية – إلاّ أنــّه من المهمّ أن يزور رشيدة ليخفّف من معاناتها بعد أن فقدت زوجها مبكّراً ، ويحمل بيده شيئاً من الخيرات وبعض الدراهم ، فرشيدة اليـــوم غير رشيدة بالأمس.. وهي تكابر .. تتظاهر بالسعة.. ولكنــّها تهزل.. المرض يأكل جسمها أكلاً ، وربّما الجوع معه ، والمكابَرة تتعاظم..

رشيدة بحاجة إلى غذاء .. إلى أي إدام.. أهل القرية كلّهم ينظرون إلى أذنييها.. لعلّهم يرون قُرطاً جديداً ، فترهنه لأحدهم.. أذنا رشيدة مجرّدتان من أي حلي.. وجسدها يزداد نحولاً.. أرزاق كثيرة ضاعت أو أُهديت أو تبدّدت.. ولم يبقَ لها سوى جارتها أم صالح ، التي تؤوي لها ثلاث غنمات وعنزة، فتنفعها بحليبها ، ولا تنسى أن تحسب حسابها بخبز طازج كلّما عجنت وخبزت..

العمر يتقدّم برشيدة ، وكذلك المرض ، وتذهب إلى صندوقهـا ، فتخرج منـه القُرط الجديد الذي ادّخرته ليوم كهذا ، وتقرّر أن تذهب إلى المدينة لتبيعه وترى طبيباً يرى حالتها ويكشف عن سبب وهنها وضعفها..

تصادَفَ أن كانت رشيدة في الحافلة نفسها التي يستقلّها أبو فارس.. ولكنــّها لم تنتبه لوجوده.. فكّت صرّة صغيرة ، وأمسكت بالقُرط الجديد تقلّبه ، فلمع بريقه ، وجذب نظر أبي فارس.. اقترب منها بهدوء دون أن تنتبه لحركته.. رَبَـــتَ على كتفها ، ففزعت .. قال لها بابتسامة باردة :

-           قُرط ؟! وما ينفعكِ القُرط وأذنكِ مشرومة ؟!

لفّت رشيدة صرّتها ، ولم تجبه ، وتلملمت على بعضها..  أما أبو فارس ، فقد أغراه القُرط في أن يقدّم اقتراحاً لها :

-           رشيدة ! أنت تحبّين أهل القرية جميعاً.. وفارس مثل ابنكِ .. بل هو ابنكِ حقاً.. ما رأيكِ لو ترهنين القُرط ؟ فحفيدي – ابن فارس – مقبل على الزواج ! فـنفرح وتفرحين معنا ..

فلتت من رشيدة كلمات لم تدرِ كيف خرجت ، قالت له :

-           أما زال الدم الذي اشتريته بثمن القرط العتيق يجري في عروق فارس ؟ أم أنتَ الذي تحتاج إلى دم جديد ؟! هل نشف دمكَ ؟!

ابتعد أبو فارس عنها بعد أن قطّب حاجبيه.. لامت رشيدة نفسها على طريقة ردّها .. أغمضت عينيها.. أسندت رأسها إلى مسند المقعد الذي أمامها.. اعتصرت عينيها.. بلّلت الدموع حجرها.. شهقت .. ارتمت على أرض الحافلة.. وفارقت الحياة..

عندما أُعيدت رشيدة إلى بيتها سارعت أمّ صالح لتعلن للناس أنّ وصيّة رشيدة أن يُباع القُرط الجديد لينفق ثمنه على دفنها.. ولم تدرِ أنّ رشيدة قد عادت وقد فارقها القُرط كما فارقتها الروح..

ومازال الناس يبحثون عن قُرط رشيدة ليعيدوا البركة إلى القرية.. تلك القرية التي فقدت قُرط رشيدة العتيق .. وأضاعت قُرطها الجديد..

  

 

عود عمران

 

 

 

كان يراودني من حين إلى آخر شوق عارم لسماع ترنيمات شادٍ.. فتقتحم علي كل أنواع  «الملتميديا» لتفرض نفسها ، فأعافها جميعا.. فأنا في شوق لسماع صوت بَشَرِيٍّ مباشرة ، من الحنجرة إلى الأذن ، ولا بأس إن كان يحتضن عوده ، أو يعانق كمانه.. أو يلثم نايه... فأجد نفسي وقد سرت في الطريق ماشيا إلى بيت «عمران».. أدعوه لزيارتي ، أو أدعو نفسي للدخول إلى بيته..

والحق أن  عمران صار يفهم الغرض من زيارتي ، فإن كان مزاجه عامراً  رحّب وأوسع لي طريق الدخول.. وإن كان مزاجه معكّراً نفث في وجهي نفثتين محمّلتين بالهموم.. مع مدة من الصمت الطويل.. فأفهم ، فإما انسحب وأعود أدراجي إلى بيتي بواسطة «تاكسي أجرة» هذه المرّة.. وإما أدخل لأستمع إلى شكواه  من هذه الدنيا التي ندر فيها الذوق والتذوق !

وكان يبدو  وكأنــّه لا شكوى له من أحد بعينه ، قريباً كان أو صديقاً.. أكثر همومه عامّة.. إلى الحدّ الذي كنتُ أسمع منه صدى لشكاوى الآخرين ومعاناتهم أكثر من همومه الشخصية..

وما أبــرع  عمران وهو يصول ويجول بين طبقات أصواته ، ومقامات الموسيقى العربية ، وأصابعه تلاعب الأوتار بخفة عجيبة.. ما أروعه وقد تملّكه الطرب ودخل ملكوت الإبداع.. وما أسعدني وأنا أعيش لحظات صافية لا يعكّر صفوها معكّر.. وما أشقاني عندما ألوم نفسي : لماذا لم أصادق الموسيقى بدل الهندسة الميكانيكية ؟! لقد حوّلت هذه الهندسة اللعينة تفكيري إلى أن الحياة عبارة عن أقراص مسننات كبيرة ومتوسطة وصغيرة ، وكل مسنن يدفع غيره ويندفع بقوة من غيره.. والكلّ يدور ، ولكن لا يدري لماذا يدور ، ولا إلى متى يدور ، ولا لمن يدور.. حتى بتُّ أشعر أن مسننات حياتي بدأت تتآكل وتتعثـّر وتطقطق ، ولم يعدْ ينفع معها زيت الآلات في مرونة حركتها وتخفيف ضجيجها الرتيب.. وليس لها من مصير إلا الإهمال أو الصهر وإعادة التصنيع..

محظوظ  عمران.. الحياة عنده كلها أوتار.. ولكلّ وتر نغمة جميلة.. الحياة جمل موسيقية متتابعة ، ولكنــّها ليست متدافعة.. هكذا كان يبدو لي هذا الرجل... إلى أن أدخلني ذات يوم بفعل قوة جذبه التي لم تنفع معها قوة نبذي :

- يا صاحبي... لا موسيقى بعد اليوم .. لا غناء .. لا طرب ... يا صاحبي.. الحياة.. ما الحياة ؟ دعني ألخصها لك بكلمات.. في كل مرة تأتيني فأستمع إلى منطقك .. وتستمع إلى أوتاري.. اليوم أريدك أذناً لا فماً لتستمع إلى منطقي.. هذري.. جنوني.. سمّهِ ما شئت.. اليوم أريدك مستمعاً.. مستمعاً وحسب !!!

بدا علي بعض الغباء ، وبعض البلاهة ، من هول المفاجأة.. ولكنني سرعان ما عاد إليّ شعوري الإنساني النبيل الذي طالما صفّاهُ  عمران بعزفه الصافـي من كل شائبة..

- معك أنا يا عمران .. أسمع .. وأفهم  !! معك وبين يديك ..

وقمت لأجلس قربه وأضع يدي على كتفه.. ويدي الأخرى على صدره :

- انفث ما في هذا الصدر من دخان.. واحكِ ما تريد..

أعتدل  عمران.. وخفّف من ثورته.. ثم نهض يعمر إبريق الشاي .. المنكّه بنكهة الليمون :

- عشرون عاماً.. وأنا أظن أنّ كل الأصدقاء مثل صديقي العود.. قصتي – يا صاحبي – باختصار .. ليس هناك من صديق كالعود.. لا تؤاخذني.. فأنا لم أرَ منكَ في أي يوم تصرفاً قبيحاً.. ولكن في نفس الوقت لم أجرّبك.. لم يحدث أنْ...

وصمت برهة ، ثم عاد إلى القول :

- ومن يدري ؟ فقد تكون مثلهم !!!

وعاد إلى الصمت من جديد.. وعمران لا يدري كيف يخرج من مأزق انتقاده لي ، ورغبته في (الفضفضة) و(بثّ الهموم).. فرأيت أن أبادر إلى إخراجه إلى برّ الأمان :

- كل ما تقوله صحيح.. وأنا لم أزعل.. ولن أزعل منك.. يا شيخ حرام عليك كلّ هذا التفكير قبل الدخول في الموضوع.. ادخل في صلب الموضوع.. ولا يهمّك.. أنا معك.. في الماضي معك.. وفي الحاضر والمستقبل معك.. يا شيخ حرام عليك تتعب نفسك!!!

وفجأة ، انقضّ عمران على صندوق خشبي كبير في زاوية الغرفة ، أخرج منه ورقة :

- انظر ، ما تاريخ هذا التنازل ؟! سبعة عشر عاماً.. منذ سبعة عشر عاماً تنازلتُ لهم عن كل ميراثي من والدي عندما رأيتهم مختلفين.. وقلتُ لهم : يكفيني من ريحه هذه العمامة وتلك المخطوطات... وكتابه الوحيد في (المناجاة)..  وضحكوا في سرّهم... أنا متأكّد أنهم قد ضحكوا في سرّهم ، لأنــّني – كما يعرفونني – بحثتُ عن الأشياء الروحية.. المعنوية ، وتركتُ مال الدنيا لهم.. وظنــّوني مسكيناً ، ولكن هم المساكين.. تركتُ لهم البيت الكبير ، والمحلّ الذي في السوق القديمة.. وبعض الأملاك الأخرى.. تنازلتُ عنها جميعاً مقابل العمامة وبعض الكتب.. واليوم يتّهمونني بأنــّي استأثرتُ بكل شيء.. صحيح أنّ العمامة والكتب هي عندي كل شيء ، ولكن تركوها لي بإرادتهم ، وتركتُ لهم كل شيء برضا وطيب نفس.. لقد باعوا كل التركة وتقاسموا ثمنها فيما بينهم.. ولم يبقَ من أشياء عينية سوى ما بقي عندي..

حتّى هذه اللحظة لم أجد مشكلة في كلام عمران.. لم أجد ما يثير.. ولا أخفي أنّ بعض الملل قد ظهر عليّ.. ولكن لم يكن في يدي حيلة.. عليَّ أن أتابع إلى الأخير..

كان الشاي قد صار جاهزاً.. صبّ بعضاً منها في فنجاني.. وشعر بتململي.. وبدأ يبدي اعتذاره غير المباشر ، وحاول أن يغيّر الحديث ، ولكنــّني استعدتُ نشاطي ، وصحوتُ لأمري معه ، وبإصـــــرار قويّ منــّي طالبته بالمتابعة :

- مؤتمر !! يا سيّدي مؤتمر حول جدّي.. الآن اكتشفه الباحثون ، فصار كل ما مسّته يديه ثمين ، وكلّ ما وضعه على رأسه ذا قيمة.. إحدى المنظمات الثقافية الدولية اكتشفت أنّ والدي – رحمة الله عليه – كان ناثراً مجدّداً من خلال كتابه الذي احتفظتُ به ، والذي طبع منه أقلّ من ألف نسخة عندما كان على قيد الحياة.. ويعلم الله كم عانينا من تلك النسخ ، عشر سنين لم يبع منها أكثر من مئتي نسخة.. إلى أن جاء الحاج أمين الكتبي ، فأخذها بربع قيمة كلفتها.. وفرحنا وقتها ، وفرح والدي بتلك الصفقة.. وظننــّا جميعاً أنّ القصّة انتهت وانطوت.. واليوم يُعقد مؤتمر خاص بهذا الكتاب.. وقد جاءت وفود من بلاد متعددة.. ووُجِّهتْ ودعوات خاصّة للمشاركة فيه لمن بقي من أصدقائه ، مع تكريم خاص لأولاده أو أحفاده.. وقد سمعتُ أنّ اللجنة المنظمة للمؤتمر قد عرضت مبلغاً ضخماً لقاء حصولها على المخطوطة.. لا أخفيك أنــّني قلتُ لهم : اشتروا البيت الذي بعناه وحوّلوه إلى متحف صغير ، ولكن أخوتي عارضوني وطلبوا أن لا اذكر مثل هذا الاقتراح ، فماذا يقول الناس إذا سمعوا أنــّنا فرّطنا في البيت من أوّل شهر بعد وفاته ؟! وبصراحة ، المبلغ الذي سيدفعونه للبيت لن يأتينا منه شيء ، ولن نستطيع الانتفاع من البيت لأن إدارة المتحف ستشغله...

بدأتُ أشعر أنّ رواية من نوع غريب تُنسج.. وصار عندي فضول إلى سماع تفاصيلها كاملة..

-           وماذا حصل بعد ذلك ؟

- ما حصل هو دعوى مقامة ضدّي بأنــّني أستأثر بميراث والدي ولا أدع الورثة ينتفعون به.. فأنا أمنعها عنهم قاصداً أو أكتم عنهم (ثروة قومية) باستئثاري بـ(مناجاته) والدخول في الجوّ الروحي العظيم الذي تركه لنا قلمه.. ولا أقدّم قائمة بالكتب التي كان لها الأثر في ثقافته وشخصيته.. أو كرّاسته التي دوّن فيها بعض المعلومات عن شيوخـه وتلامذته... هل تصدّقْ أنْ أتّهمَ بكلّ هذه الاتّهامات ؟!

وهممتُ بسؤاله : لماذا تحبسها عنهم ، ولكنــّي فضّلتُ أن يسترسل في حديثه لعلّه يكشف جوانب أخرى لم أفهمها بعدُ..

ودونَ أن يدري ، ذهب إلى عوده.. أزال عنه الغلاف القماشيّ.. ركنه بقربه.. وهمّ باستئناف الحديث ، ولكنــّه فضّل أن يخبّئ الكثير.. وفجأة قال :

-           لا أحد يستحقّ الكتاب أكثر منــّي.. إنــّني أشمّ منه رائحة أبي.. عطر مداده.. عبق فكره الصافي عندما يتضرّع إلى الله.. لا أطمئنّ إلاّ عندما يكون بقربي.. لن يسرقوه منــّي.. لن أمكّنهم من النيل منه.. لا أحد يفهمه مثلي..

نسي كلّ ما قرّر في حقّ صديقنا (الموسيقى) وهجرانه لها.. انكبّ عليه يدندن بأوتاره ما تيسّر من نفسه..

كانت سهرة من أجمل سهرات عمري ، وربّما أجمل سهرات عمره أيضاً.. ولم أستطع أن أقاوم الدموع التي انسلّت من عينيّ..

في نهاية السهرة غلّف عمران مخطوطة أبيه بقماش من الحرير الأخضر ، وأعطاني إياها ، وهو يقول :

- فليأخذوها.. لقد حفظتها.. بكل مقاطعها وحروفها.. بكلّ خلجة من خلجات أبي عندما كان يناجي بها ربّه.. أرجوك خذها وسلّمها لهم فلستُ أنا من أحبس مناجاة أبي التي ملأت الآفاق.. هذه أمانتي إليك ، فهل تساعدني ؟! ادعُ ربّنا أن يهيّئ لهذا الكتاب من يفهمه.. لا من يأخذ به شهادة عليا لينتفع بها في دنياه..

وكان ذلك آخر عهدي بعمران......

 

أضيفت في 03/12/2008/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية