أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: يحيى عبد الرحيم الكفري

       
       
       
       
       

 

حلاق للموتى-قصص

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

مواليد: رقة 1961

متزوج عدد الأولاد 2

التحصيل العلمي :

- إجازة في الفنون المسرحية –قسم التمثيل . تاريخ التخرج 1988 تقدير جيد جداً.

- دبلوم هندسة ديكور – قسم التصميم الداخلي . تاريخ التخرج 1983 تقدير جيد .

- عضو نقابة الفنانين السوريين منذ عام 1988 .

- عضو المسرح القومي في سوريا منذ عام 1991

الأعمال التي أنجزتها :

في المسرح :

-إيزابيل ثلاث مراكب ومشعوذ  / ممثلاً

-الزنزانة / مخرجا مساعداً

-بيت الدمى (    =       =     )

 

في التلفزيون :

-تل الرماد   إخراج نجدت أنزور  / ممثلاً

-العوسج         =      =    =        (  =   ) .

-الموت القادم إلى الشرق = =        (   =  ) .

-مسرح بلا جمهور إخراج حاتم علي / كاتباً وممثلاً  .

-عش الزغاليل إخراج زهير ديوب   / كاتباً

-كثير من الأعمال البدوية  / ممثلاً

 

في الدوبلاج :

=ممثلاً ومخرجاً ومعداً ومراقباً مايقارب 4000 أربعة آلاف حلقة

من الرسوم المتحركة .

= عضو مؤسس في قناة سبيس تون تم تكريمي في القناة لعامين متتالين 2004 / 2005

= مؤسس ومديرقسم المسرح في قناة سبيس تون وشاركت في مهرجانات عربية من خلال

تقديم فعاليات فنية ( مسرح – برامج ترفيهية في كل من الدول التالية : السعودية

مهرجانات جدة غير للأعوام 2000 -2001 -2002-2003 – مفاجآت صيف

دبي للأعوام 2002-2003-2004-2005 – البحرين 2002 – الكويت 2002-

عُمان مهرجانات عيد العيود في مسقط للأعوام 2002- 2003 . مهرجان سبيس

تون في الخرطوم لعام 2006 ودام عشرة أيام. 

 

في الكتابة والإخراج :

كتبت وأخرجت مسرحيات  منها : باباي – النمر الوردي – فلة والأقزام السبعة – كونان ولغز الطفل المفقود

– أبطال الديجيتال ج 1-2 – أوبريت سبيس تون

مدته ساعة ونصف ( برنامج استعراضي ) قدمته في مهرجانات دبي والخرطوم .

صدرت لي مجموعة قصصية عام 1996/ حلاّق للموتى

نشرت قصص قصيرة وقصائد في العديد من الدوريات العربية   .

السينما :

-انتاج وإخراج فيلم تسجيلي قصير عن الموسيقار الراحل صلحي الوادي .

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الحسن بن علي

هواجس الشيخ 

 

 

سعدان الشيخ بصراوي وهواجس الشيخ

-1-

قبل أن تنزل من سيارتك المرسيدس السوداء رأيتك ورأيتهما، رجلان طويلان ترجلا قبلك، مسحا المكان بنظراتهما الذئبية، ثم اتجه أحدهما إلى الباب الخلفي، وفتحه لك كي تهبط...

فهبطت...

لففت  عباءتك حول جسمك، فالطقس بارد هنا كالموت، ونحو مكتبك اتجهت، يسير بمحاذاتك الرجلان اللذان هبطا قبلك.

-2-

في مكتبك الدافئ....

واجهتك صورتك المزينة بأوسمة قديمة، كانت قد علقت على صدرك قبل خمسين سنة، حدجتها بنظراتك مدة طويلة ككل صباح، لكن في هذا الصباح، أحسست في داخلك شيئاً ما يتحرك للمرة الأولى، فالتفت وراءك، خمسون سنة مضت، تقاطرت تجر بعضها بعضاً، وتجرها كقطار شاخ و"..............." عليه الزمن.

-ياه يا بصراوي. قد تأخروا كثيراً... كثيراً.

حدثت نفسك.

طُرق بهدوء باب مكتبك، وبهدوء أُدخلت القهوة ككل صباح أيضاً. لكنها لم تقطع حديثك مع نفسك... بالعكس... ذكرتك بالقهوة التي كنت تشربها، أو وأنت تسكر مع الضباط الفرنسيين في ظل جثث الذين أسقطتهم في أيدي قوات الاحتلال أسرى.

-أربعون سنة مذ رحلوا... وفي العودة تأخروا كثيراً... كثيراً يا بصراوي.

قالوا لك:

-لك الأرض وما عليها، وأنت لنا، فافعل ما شئت يا بصراوي، أنت هنا الشيخ، فرحت.... ورحت تجوب السهول والجبال، ككلب تبحث عن فرائسك، وحين تجدها تعلقها... تصنع لهم منها ظلاً، لم يقدروا هم أن يصنعوه، وتقدم لهم القهوة العربية... وأشياء أخرى لم تكن تعرف مسمياتها.

أربعون سنة مضت مذ رحلوا، أو مذ بكيت لأول مرة لرحيلهم، بكيت كما النساء، ومنذ ذلك اليوم، لم يغمض لعينيك جفن، وأنت تنتظر عودتهم التي وعدوك بها سراً. وفي الفراش يزداد بكاؤك ليلاً، لأنك تعرف أنه سيأتي يوم تنفق فيه، دون أن تترك وراءك رجلاً يحمل أوسمتك حين يجيئون.

-3-

تمد يدك إلى جريدة الصباح، تنزلق نظراتك، تتقرّى العناوين، ثم لا تلبث أن توقفها عن الانزلاق حين تصطدم بخبر ينتصف الصفحة الأخيرة، كان صغيراً بسيطاً.

"تيس في البوكمال يحلب"

لم تصدق، أعدت قراءة الخبر. "ومن مزاياه أنه يعالج العقم".

ولم تصدق، لكن بعد لحظات قلت لنفسك:

-ربما يكون ذلك صحيحاً، فزمن المعجزات لم ينته، جاءك الفرج يا بصراوي، فما بعد الانتظار سوى الفرج.

تلفنت لزوجتك.. وفي الليل، كنت وإياها في جوف سيارة المرسيدس السوداء تغادران المدينة إلى البوكمال سراً.

-4-

كانت الطريق إلى البوكمال طويلة، وزادها الليل والمطر طولاً ومشقة.. في داخلك، كنت تلعن المطر، وهو يتساقط على زجاج السيارة، يرسم خطوطاً تزيلها الريح وقطرات جديدة تسقط لتمتد وتمتد... وتمتد لتزول هي الأخرى، سراً تلعن المطر، مثل خروجك من المدينة سراً... تشغل ماسحات الزجاج، ومن الداخل تمد يدك لتمسح البلور، تدعس دواسة السرعة، وتستغفر ربك بصوت مرتفع تسمعه زوجتك الجالسة إلى جانبك...

وما بين سرك وعلنك بحار جفت المياه فيها، فتشققت قيعانها. ما بين سرك وعلنك... صحارى ماجت رمالها الملتهبة، صحارى ليس فيها إلا جثث فسختها حرارة الشمس والزمن، جثث أنزلتها من المشانق بعد أن سكرت تحتها وتفيأت، أكوام من جثث باردة وأوسمة على صدرك بدأت تصدأ.

الطريق إلى البوكمال طويلة جداً...

وبينك وبين "التيس" حلمت بطفل، انتصب عالياً... عالياً، أعطيته رجولتك ليحمل أوسمتك من بعدك، لكن بدا كمشجب قديم تافه.

تتهادى السيارة على الطريق، والمسافة التي أطالها الليل والمطر ومنزلقات الطريق ما فتئت تتقلص.

مع الفجر كنت وزوجتك هناك، وعندما نزلت من سيارة المرسيدس السوداء، استطلت كمادر أفلت من قمقمه، تنبعث منك رائحة الموت والعفونة، رغم كل العطورات الفرنسية التي دلقتها على جسدك قبل أن تجيء، فانفتحت لك الطريق إلى ضرع "التيس" وهناك قالوا:

-من أراد طفلاً ذكراً فلينبطح تحت التيس، ويشرب من ضرعه.   

-لكن أنا الشيخ بصراوي... قلت

-هي مشيئة التيس، وأنت تعلم يا شيخ: التيس... تيس.

-ليرفع إلى الأعلى.

-لا يمكن يا شيخ... ستأتي بنت.

-......

وانبطحت ترضع مثل جرو.

-5-

عندما عدت إلى المدينة من البوكمال كان المطر قد توقف عن الهطول، لكن السماء ما زالت ملبدة بالغيوم السود، والشوارع قد أفرغت تماماً ليمر موكبك، فكثير من الناس لاذوا ببيوتهم أو بالسيارات التي انحشرنا فيها كالحشرات، وبعضهم لطى مسمراً بجدران وسور المدينة، وتأخر موكبكم يا شيخ كثيراً ونحن ننتظر... انتظرنا ساعة أو يزيد، لم نكن نسمع أثناءها سوى زعيق الدراجات النارية، كان قادماً من بعيد، كذلك زعيق سيارات الشرطة. الجو داخل الحافلات التي انحشرنا فيها كالحشرات خانق جداً، حار جداً على الرغم من برودته في الخارج، لم يتذمر أحد، وأقسم يا شيخ على ذلك- نعم لم يتذمر أحد لأن الانتظار طال، الكل كان ينضح عرقاً وروائح، وصمت... في داخلهم صمت... وفي المدينة انتظار وروائح وصمت...

صمت وعيون تحدج الطريق علك تمر...، وحين قال رجالك المنتشرون في الطرقات:

-اخفضوا رؤوسكم فالشيخ... سيمر.

أخفضناها.. وانحنينا... أخفضناها حتى سقطت بين أقدامنا، وحين مررت بسيارتك السوداء، سرقت نظرة تجاهها، فلم أرَ أحداً بداخلها، فقد كان بلورها أسود هو الآخر.

وبعد أن مررت سرت الحركة في الطرقات، وعلا الضجيج في المدينة... سيارات وباعة ووقع أحذية.... وبدأ العرق الناضح من الأجساد يتلاشى، كما الصمت الذي تحول إلى نحنحات تزيل الوسخ المتجمع في الصدر.

-6-

تسد باب المؤسسة الاستهلاكية كتلة من البشر، تتداخل أجسادهم، أيديهم مرتفعة كلوحة خربشها فنان تشكيلي ليعبر عن قوة الجماهير.

من بين هذه الكتلة برز وجه لوحته شمس الجزيرة، وجه لامرأة حانية الظهر، قالت:

-العمى، شوي، شوي، كلكم ستحصلون على ما تريدون، فقط انتظروا، حتى يجيء مولود الشيخ بصراوي ويفرح الشيخ، أنا متأكدة أنه سيزداد السكر والرز والشاي والمازوت و....

-ومن قال لك إن الذي سيجيء ولد...

قاطعها صوت نسائي مرتجف. التفتت المرأة العجوز ناحية صاحبة الصوت، كانت عجوزاً أخرى، اقتربت من أذن الأولى وهمست:

-إن لزوجة الشيخ بصراوي ردفين كبيرين، وهذا دليل يا حبيبتي على أنها حامل ببنت، وإذا لم يكن كذلك ابصقي على شيبتي.

وأخرجت من تحت عصبة رأسها بضع شعرات بيض.

-لا يا ستي، الطبيب الخاص للشيخ هو ابن خالة أبي، قال لنا إن الأطباء أجمعوا في تشخيصهم على أن الجنين ذكر.

استل رجل عجوز نفسه من الكتلة البشرية، وأشار على المرأتين أن تفسحا له الطريق، ودمدم:

-الكلاب لا تنجب إلا كلاباً

ودبّ باتجاه بيته، يتبعه خيط أبيض من السكر وظل ليس له.

بعد تسعة أشهر، كانت غرفة العمليات تعج بالأطباء، والممرضين والممرضات، وأكياس الدم من زمرة السلبي، والمشارط والشاش المعقم والقطن والدم المنداح على أرض الغرفة. وكنت في مكتبك تستفسر عبر الهاتف عن المرحلة التي وصل إليها المولدون. قال لك الذي على الطرف الآخر من الهاتف:

-مبروك يا شيخ...

فتأوهت السماء من رصاص رجالك، وانحدر الناس كتلة صغيرة ما لبثت أن كبرت مثل كرة الثلج المنحدرة من قمة جبل. قال بعضهم:

-لا بد أن الشيخ سيزف لنا الفرحة بنهاية الحرب.

رد بعضهم الآخر:

-وبذلك يكون هذا أول حزيران لنا.

طللت من النافذة. ابتسمت، وكان الهاتف لا يزال يصلك بالطرف الثاني:

-ذكر أم أنثى؟

سألت.

-ذكر.... لكن قرد.

سقطت سماعة الهاتف...

سقطت الابتسامة... والأوسمة كذلك... سقطت بلا رنين. خرجت للناس... قلت:

-انتصرنا.

-على من؟

جاءك السؤال، 

بحثت في جمجمتك عن جواب... طال البحث... أخيراً قلت:

-على مجموعة من الكفرة، خرجت عن سور المدينة ليلاً، تركب الحمير بالمقلوب وتحمل قناديل، تبحث عنه "جل جلاله".

أشرت بيدك... صمت الرصاص... دخلت تجر خلفك ذيل عباءتك التي لففتها حول جسمك.

بعد ساعات وجد تيس البوكمال مقتولاً برصاصة في ضرعه.

-8-

-عجيب أمر جيل هذا الزمان يا شيخ

أملت رأسك قليلاً، أغمضت عيناً، وفتحت الأخرى تجاه القفص الحديدي.

-ما به؟ قلت.

-يقول إن الإنسان أصله قرد.

-أعوذ بالله.

انتفضت.. ارتعش الجميع.. واستنكر القرد في قفصه.

-أقسم لو أمسكت بواحد منهم لقطعت لسانه.

-نعم يا شيخ... لكن الحق على داروين الذي علمهم ذلك.

-من؟

-داروين.

-ومن أي عشيرة ابن الكلب هذا؟

-لا يا شيخ ليس عربياً... إنه إنكليزي.

-لا؟....

-إي بالله...

صمت، حككت رأسك، أردفت:

-يجوز....

مددت يدك إلى ذقنك، هرشتها هي الأخرى...

دارت عيناك في محجريهما دورات قليلات، بينما وسعت ابتسامة صفراء، حين راح السعدان يقفز.... يرقص ويضرب قفصه الحديدي بمواجهتك، كطفل رأى أباه...  

ابتسم الرجل الصغير الذي يقف بمحاذاتك.... همس:

-شيخ... يبدو أن السعدان أحبك... هه..... هه

امتعضت... ابتلع الرجل الصغير ابتسامته... وابتلعته، فغاب كما غاب الذين ولدوا طفلك.. عفواً؟... سعدانك، الذين قيل عنهم.... إن الجن قد اختطفهم إلى أقبية عطنة، كرائحتك.

1986

 

 

الحسين بن علي يبعث في بغداد من جديد

 

-1-

الحسين بن علي يعود إلى ما قبل الهجرة

-متى تعود...؟

-لا أدري... لكني قريباً أعود...

-سيقتلني انتظارك...

-....

... حين تركت يديها شعرت بانقطاع الحرارة التي تسربت إلى جسدك خلالهما... ونفاذ قشعريرة البرد تتغلغل كالسرطان في كيانك... وانسللت بين حارات "الرميلة"... تلتهمك الظلمة..

ومريم لا زالت تقف في باب البيت تشيعك بنظرها... وعمود سقف الغرفة، الذي رأته في الحلم -ليلة أمس- يتكسر بشدة، ما برح يأكل دماغها... فيتولد انقباض يدق أوتاد خيمته في صدرها... بينما زحف الجفاف يشقق حنجرتها التي تيبست منذ لحظات... همست:

-مع السلامة...

وسقط المطر غزيراً.....

قرع الأبواب وسقوف المنازل، بطرقات قوية... لم تعهد المدينة مثله منذ أمد بعيد... لم يفتح أحد للمطر أبوابه... إلا مريم... ووحيدة كانت في الباب.

ووحيداً كنت تسير في دربك المظلمة حيناً... والمضاءة ببريق الرعد حيناً.

... هادئاً رغم محاولات الريح التي تدعوك للرقص المجنون... فتشدك من ثيابك، ثم تتركك تمشي كما تشاء.... وتبدو كأنها تلاطفك في لحظات الوداع الأخير... آه يا ذلك الوداع... يا قصيدة عشق لم يستطع السيّاب كتابتها عندما ودع "جيكور"*

شيء ما يشدك إلى "الرميلة" المترامية الأطراف... دون تنظيم... يشدك إليها وبيوتها تتبعثر كبثور تفترش جسدها الممدود إلى جانب الفرات... تعبق برائحة التراب حين يسقط المطر شتاء... والطيارات الورقية التي تطير في ظروف جوية غاية في السوء، لما تداهمها زوابع الصيف التي تثقب السماء بشكل لولبي... محملة بسفير القمح... وأكياس الورق التي يصنعها الفقراء وقد اختطفتها منهم... متجهة صوب النهر لتنفصل هناك عن الأرض... لكنها تستمر في تكدير صفو السماء.

آه يا الحسين...

ها هي الذكرى تفرّ إلى رأسك... كما العاصفة حين تداهم عصافير الدوري... لتفرّ إلى أوكارها في شجرة حاصرتها الصحراء...

فتلج إلى دماغك تلك الليلة... ومريم... وحارات الرميلة المظلمة.. والفرات... ونباح الكلاب الضالة في الليل... ورائحة التفل المنبعثة من مصنع السكر... وحكايا الجن... الجن التي تجوب الطرقات ليلاً، كما الشرطة تماماً.

هي الذكرى يا الحسين... تنتفض في رأسك كلما شقت سكون الليل صفارة الحارس الليلي، فتأتيك أمواجاً هائجة لا شط لها... تقتحم المدن... وتمر بأعمدة الهاتف التي لا تحصى.... وتعبر إليك الآن...

وها أنت الآن... أنت وحذاؤك تمزقان الطريق نهباً نحو البيت... الطريق التي ترتفع صرخاته ألماً كلما رفعت قدمك وأنزلتها بمضيك نحو الأمام... فيمتد دونك بلونه الأسود، يتوسطه رتل من أشجار نخيل تعانق ضوء القمر... الضوء الذي يكشف عن حراب تنتصب متأهبة إلى كل الاتجاهات، فتتبين سعفات النخيل وعلى ذوائبها وقفت النجوم تلتمع. تمسح وجهك غلالة حزن.... تخفيها أعمدة النور وهذا الشارع الفارغ حين يداهمك شعور خفي يعمل في قلبك شر تمزيق... يرتفع إلى أعلى ويهبط... ويرقص كديك مذبوح...

تسمع أنيناً... تلتفت ناحية الصوت... آه... هو ذا "دجلة" يرقص محزوناً.. تحدق في وجهه.. تنعكس صورتك ونفس غلالة الحزن تراها تعسكر فيه... تلتفت يميناً... شمالاً... أمام... خلف... عيون... عيون... عيون... بتثاقل تجر قدميك. وقلبك لا زال مشدوداً إلى "دجلة"... تتركه وتمضي... وإيقاع الرقص الممزوج بالأنين... يتبعك.

-2-

خروج على طاعة خليفة بغداد:

... الوقت متأخر...

والليل بدأ يأفل، تسحبه خيوط ضوئية تعلن أن الفجر في طريقه للانبثاق. تستلقي على فراشك، تريح رأسك إلى الوسادة... ثم تسدل جفنيك... وتنام.

... قبل لحظات وفي الليل الملبّد كانوا أربعة يتسللون من غرفتك خارجين كل إلى بيته. يسرعون الخطى في كثير من الأحيان، ويندسّون بالأزقة المظلمة في بعض الأحيان..

..."لا لقاء بينكم بأمر من الخليفة المعتصم بحبل الله" بلا سبب... فقط لأنكم آتون من أعماق الفرات... لكنهم أربعة، وكنت الخامس التقيتم تحت سقف من الأعمدة المهترئة والطين.

تحدثتم عن كل شيء في هذا العالم المتقدم والمتأخر... عن الجنون النووي الأمريكي... وآلاف الأطفال الذين يموتون جوعاً يومياً في العالم الآخر... مخيمات الفلسطينيين ومخصصاتهم التي تسرقها بعض الحكومات العربية... السمن الهولندي الذي يغزو الوطن العربي.. سيارات الـ"رينو" والـ"مرسيدس" والـ"بويك" وهي تفتت شرايين المدن الغارقة في محيطات النفط.. والأزمة أمام أفران الخبز المحروق... تحدثتم عن كل ما في العالم.

ذهاباً مع خطوط الطول وإياباً بخطوط العرض... مروراً بالأمم المتحدة وقوات الانتشار السريع، والقوة المتعددة الجنسيات، والفيتو الأمريكي... وفيتنام.. وسقوط الشاه، ورصاصة المنصة التي قتل عليها "أمير المؤمنين" بولاية مصر... مروراً بأشعار أمل دنقل ورسائل توفيق الحكيم إلى الله... وضبابية القلم العربي في ساحة الأنظمة.. وحرب الخليج.. ثم الأسلاك الشائكة الرابضة بين دجلة والفرات... لم تنسوا الحديث عن "الرميلة" و"بغداد"...        

وحين انسلّوا في الليل أربعة، ثقبت أجسادهم "عيون" تلفها العتمة.

-3-

زيارة الخليفة لبيت الحسين بن علي:

-طق... طق.. طق..

... هادئاً يأتيك الصوت....

تتململ في فراشك... ثم يعاد الطرق ثانية...

-طق... طق.. طق..

تفتح عينيك... تنصت... والصمت مولود مرمي في أعماق بئر لا حياة فيها... تزيح اللحاف عنك... تشق العتمة إلى الباب، لترى من القادم قبل انبلاج الفجر...

-من.....؟

-أنا.... افتح يا حسين.

تسري الطمأنينة إلى نفسك... تخطو بخطى متئدة نحو الباب... تفتحه... تخرج... ترد الباب خلفك بهدوء، و... حين تلتفت ناحية الرجل.... تلمع في عينيك الأسلحة. قبل أن تتبين الوجوه.... يخترق الصوت أذنيك:

-الحسين بن علي... مواليد الرملة... وتقيم هنا في بغداد؟

-نعم....

-تفضل معنا.

-إلى أين....؟

تقطع اللكمات السريعة سؤالك... لتخر صريعاً... تمرّ لحظات... تشعر بعدها أنك تهتز داخل سيارة يطبق الصمت عليها، إلا محركها الذي راح يئن بقوة... ولا ترى أحداً، فتلفي عينيك معصوبتين...

-4-

زيارة الخليفة الثانية للحسين بن علي:

بلا ضجيج يجيء...

بلا ضجيج يطل الرأس ذاته بعمامته، ويبدو كصندوق فارغ... يطل من درفة باب الزنزانة، يرسم على وجهه ابتسامة صفراء.. لا تبتعد عن "التكشيرة" كثيراً....

-إي صديقي الحسين....

قيل إنك تضع في بيتك حبل غسيل لا تنشر عليه ثياباً.. لكن تري الناس أشياء لم نرها حين رأيناه.. فما رأيناه ليس سوى بضع لقاطات وضعت من زمن بعيد... وبعضها جديد وأماكن لأخرى ستوضع... فأين الترخيص؟

-ولكن يا مولانا الخليفة -يا خليفة الله في الأرض- قد أوصى الرب من خلف المنبر وأمام جمع من ملائكته الذين صفقوا له بحماس منقطع النظير... قد أوصى أن يصنع كل منا حبل غسيل حين يكون لذاك لزوماً... هو ذا ترخيصي يا مولانا كتبه الرب في التوراة وفي الإنجيل... وفي القرآن... وفي صحفنا المحلية كذلك... فماذا فعلت؟

أين الذنب يا مولانا إن أذنبت؟

-اصمت... اصمت... اصمت...

هذا الترخيص أعطاه الرب لمن لا يملك يدين وعينين وأذنين وفماً... اصمت... وإلا أرسلت رصاصة تفتح في رأسك نافذتين... يدخلهما جوعى وكلاب الأرض لتلعق دمك وتأكل أحشاءك.

-لكن يا مولانا... لا أذكر إلا ما قال الرب...

-آه.. ها أنت تكفر ثانية حين تلوك اسم الرب... أقسم بحذاء الرب، وثانية أقسم بحذائه هذاالرأس يخطو نحو أنشوطته... هيئه يا الحسين... فعبد الله بن محمد سيلقاك غداً..  

يخرج صافقاً الباب خلفه... والزبد يمرغ وجهه..

يقف السجان أمامك... يمسك بباب الزنزانة... يحكم إغلاقه... يحدق في وجهك طويلاً... ثم يغيب...

-5-

الحسين بن علي يولد في بغداد

يصر باب الزنزانة صريراً مرتفعاً، فيرتد صداه في الليل الساكن، وأنت تتكوم على نفسك... وقع خطوات قليلة، لا يلبث بعدها أن يعم السكون كل شيء... ثمة أحد... يمسكك من خلف عنقك... يرفعك إلى أعلى... تقف.. يدفعك إلى أمامه... تستدير إليه... السجان... يضع على عينيك ربطة سوداء... ثم تسيران في بهو السجن، وباب الزنزانة ما زال مفتوحاً.

يبدأ رحلة الانتظار القصيرة... وقد بدا كفرس بلا فارس.

بعد دقائق...

يتوقف هدير السيارة... ينزلك السجان... وتسير بضع خطوات... وبضع درجات خشبية تصعد.. تتوقف... يفك الربطة السوداء... ودفعة واحدة يندفع العالم إلى عينيك عبر الأنشوطة المتدلية.. الخليفة القابع كصرصار في زاوية العرش.. ورجال بلا ملامح يلتفون حوله... والنهر الذي يجري بجانبك بصمت.. مثل شيخ عجوز يتلمس طريقه وهو ينوء تحت كومة حطب ثقيلة... مريم... والرميلة.

تمسح وجه الخليفة بنظرات ثاقبة.. وتطيل فيه النظر... تتتسع حدقتا عينيك... تتسع... تتسع... تتسع... وفجأة تتجمد الصور فيها بعد أن يدفع أحد رجال الخليفة الكرسي من تحتك.. لتسمع قرقعة عظام رقبتك تدوي بصوت مرتفع... تفزع الخليفة والغربان المعششة بالأشجار المتاخمة للشط... تمر لحظات كسلحفاة تزحف فوق لوح تنكي أملس... يتوقف فيها تيار المياه المندفعة إلى الرافد الآخر ثم إلى الخليج... عندما يعود طيفك إلى المدينة ماراً فوق النهر.

الرقة 1984

 

أضيفت في 03/10/2008/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية