أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: سجيع يوسف قرقماز

       
       
       
       
       

مسرحيات الكاتب

الأبجدية والتعليم في أوغاريت

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

ـ المواليد: سورية. اللاذقية. رويسة القسيس ,1954.

ـ المؤهل العلمي: إجازة في اللغة الانكليزية وآدابها ,من جامعة حلب ,1984.

ـ العمل: محرر رئيسي في جريدة الثورة , بدءا من 1985.

 

المؤلفات:

1ـ  اللاذقية حضارة المتوسط الأولى .(دار المنارة – اللاذقية ,1988 )

2 ـ اللاذقية ./ نشرة اقتصادية /. (دار المنارة – اللاذقية , 1990).

3ـ دليل اللاذقية /سياحة, تجارة , صناعة, زراعة, خدمات .

(إصدار غرفة تجارة وصناعة اللاذقية 1995).

4 ـ مع جبرائيل سعادة / دراسة في حياته وأعماله /. (دار المنارة 1996).

5ـ مفترق الطرق / مجموعة قصصية / . ( اتحاد الكتاب العرب1999 ).

 

سيناريو وحوار في المجال التلفزيوني:

1 ـ   فيلم: أحلام حمود.

2 ـ فيلم: الديك .

من إنتاج ( الشام الدولية ) بطولة: أيمن زيدان. إخراج : محمد إسماعيل آغا.

 

المادة العلمية والتعليق للأفلام الوثائقية التالية:

1 ـ النهر الكبير الشمالي .

2 ـ الثروة السمكية في اللاذقية .

3 ـ رجل ومدينة (عن حياة وأعمال المؤرخ والباحث جبرائيل سعادة) .

4 ـ اوغاريت , بوابة الحضارة .

5 ـ قلعة صلاح الدين , مسكن دائم للشمس.

6 ـ اللاذقية.

وهي من إنتاج (مديرية الإنتاج السينمائي ـ التلفزيون العربي السوري).

 

أفلام على الـ (C.D):

1 ـ .... وحرف.

2 ـ  القائد الخالد.

3ـ الأمل الواعد.

4ـ أوغاريت.

من إنتاج مركز الباسل للمعلوماتية في جامعة تشرين باللاذقية.

 

إخراج مسرحي:

1ـ الغزاة, تأليف:آغون وولف.

2ـ قصة حديقة الحيوان تأليف:ادوارد أولبي.

 

مسرح ملحمي:

1 ـ أقهت ابن دانييل 1995.

2ـ البعل 1996.

3ـ كارت 1997.

(مثلت في مهرجان الشبيبة للفنون)

اعادة صياغة المسرح (الأسطورة) الأوغاريتي:

1ـ أقهت ابن دانييل.

2ـ كارت.

3ـ البعل.

 

تحت الطبع:

1ـ  أساطير وملاحم اوغاريت

 (دراسة وإعادة صياغة مسرحية تتضمن مسرحيات / أقهت ابن دانييل, كارت,البعل) .

2 ـ و.... حرف (مجموعة قصصية).

 

مخطوطات:

شكسبيريات (مخطوط)

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

وغصة

ودم

وتكونين

رحلة إلى أوغاريت

 

رحلة إلى أوغاريت

                              

عندما قلت له :" نقماد الثاني" صديقٌ عزيز  ،دهش  الرجل .

 قال :  أنت تتحدث عن ملكٍ  حكم ( أوغاريت  ) من عام 1370 حتى 1340 قبل الميلاد ، ونحن في العام 2003م  فكيف لك بمعرفته ؟

أكدت له ذلك , تابعت :

المحراث الذي نحرث به الأرض اختراع ٌ أوغاريتي , وكان اسمه  " صمد " .

بعد أن دمرت أوغاريت حوالي 1180 ق. م لم يستطع أحدٌ أن يعرف أين موقعها إلى أن جاء يوم ٌ في نهاية 1928 وكان أحد فلاحي قرية( برج القصب) في اللاذقية  يحرث أرضه ,والمحراث أداته  , وما يزال يسمى " صمد" , اصطدم الصمد بأحد الأحجار الكبيرة , أزيح الحجر , فوجيء الناس أن خلفه قبر  , ومن خلال القبر عرفوا أن  (أوغاريت ) ترقد في قريتهم ¸ بين أكوام  تل (رأس الشمرة ) . 

- إذا ً أعاد الصمد اكتشاف صانعه، وأرض صانعه ؟     قال صديقي . 

- أجل كان الصمد  وفيا ً,وهذه القصة زادت اهتمامي بأوغاريت وتاريخها , وجعلتني أهتم أكثر بأشهر ملوكها  " نقماد الثاني", والآن  إذا رغبت نذهب سوية ً وأعرفك  على (أوغاريت), وعلى ملكها   . لم يتردد  ألح بالذهاب  .

حينها كنا في  -الدائرة السادسة عشرة-    في( باريس ), انتقلنا جوا ًإلى (مرسيليا  ), وهناك ركبنا مركبا ً قديما ً اتجه بنا شرقا ً, نحو الشمس: إلى( أوغاريت ).

بدأت مظاهر  حضارة  القرن الواحد والعشرين تتوارى خلفنا , التفتنا معا ً نحاول إلقاء نظرة ٍ أخيرة ٍ إلى هذه الحضارة التي كانت تنسحب بهدوء،  مفسحة ً  المجال لحضارة ٍ أخرى مختلفة , كنا نسافر في التاريخ . تقطع السفينة بنا الشواطيء الفرنسية, والإيطالية , واليونانية ,  متجهة ً إلى جزيرة قبرص , حيث الزرقة , و الخضرة , والسفن , وبعض الناس بثيابهم البسيطة ,لم يكن هناك سياح كثر  من دول العالم . استرحنا قليلا ً في قبرص , رأينا بعض البحارة السوريين , حمّلونا سلاما ً   لأرضهم , وممالكهم , وخصوا (أوغاريت ) بالسلام الأكبر .

عندما اقتربنا من الشاطئ السوري لمحنا قرية ً صغيرة ، قلت له :

إنها (راميتا ) , قرية صيادين تتبع المملكة الأوغاريتية , والتي تعرفها أنت باسم (اللاذقية ) , وهناك إلى الشمال قليلا ًَ تظهر      ( أوغاريت ) بكل هيبتها , وجمالها .

قال فايز (صديقي ) : وما هذا البناء العالي , الذي يظهر إلينا  واضحا ً من التلة العالية في أوغاريت ؟ .

ـ إنه معبد الإله (بعل ) إله الخصب عند الأوغاريتيين ، وأهم آلهتهم ،  وهو حامي الصيادين الذين يهتدون به  نهارا ً ، وليلا ً بالنار التي تشعل على  سطحه, وترى هنا بين البضائع المنوعة  المراسي الحجرية,  والتي يوجد مثيل ٌ لها في المعبد , حيث توضع هناك كالنذر لحفظ البحّار في رحلته , وعودته سليما ً . إضافة ً إلى معبد( بعل) يوجد معبد ٌ آخر مهم لـ ( داجن ) إله الحنطة , وتشهد هذه المعابد طقوس عبادة آلهة الأوغاريتيين , الأيل , البعل , عناة, يم , عشيرة , شمش , يرح , ...

لقد حاول الأوغاريتيون تفسير الكون والخلق من خلال الظواهر الطبيعية حيث مجموعة من الآلهة تسيطر على هذه الظواهر فبنى الأوغاريتي معابد لهذه الآلهة , وكانت تقام فيها الطقوس الخاصة بعبادة كل إله , كما كانت تتلى فيها أشعار الأوغاريتيين من أساطيرهم,وملاحمهم, وتنشد فيها الأناشيد الدينية,والتراتيل مصحوبة ً بالعزف على الدفوف , والطبول , والصنوج .

وصلنا إلى المرفأ , بدأت حركة ٌ  كبيرة ٌ , فالعمال بدأوا بالتحضير  لتفريغ المركب, وصاروا ينقلون البضائع المختلفة المستوردة إلى ( أوغاريت ), من جرار فخارية مليئة بالمواد الأولية, إلى أنياب الفيلة وأسنان فرس النهر , وبعض المواد الزجاجية الأولية في قوالب .إضافة ً إلى أنياب الفيلة , وأسنان فرس النهر,لصنع الأدوات العاجية  وأيضا ً مواد أولية كالنحاس, والقصدير, والكهرمان ,واللازورد , و العاج . 

نزلنا إلى اليابسة , كان الجو جميلا ً , وكان بعض سكان هذا المرفأ الأوغاريتي قد أقبلوا إما للفرجة , وإما للسلام على معارفهم , وأقاربهم من  البحارة العائدين , وكان عمال ٌ  آخرون على الشاطئ  قد بدأوا بنقل الجرار الفخارية المليئة بالزيت والخمر والمتنوعة الأحجام إلى السفينة , وبعض السبائك البرونزية, والمراسي الحجرية , وكؤوس خمر برونزية , وفضية , وذهبية وأساور فضية , وأقراط ذهبية , وبعض الأختام المتنوعة الأحجام ,  وبعض القطع الصغيرة الجميلة التي يظهر أنها هدايا موجهة من ملك (أوغاريت ) إلى بعض أصدقائه من ملوك سورية , ومصر , وقبرص  .

كان (فايز ) يزداد تعجبا ً من تنوع هذه الهدايا , قال :

ـ يبدو أن (أوغاريت ) مملكة ٌ غنية ٌ .

ـ نعم , وقصر ملكها" نقماد الثاني" من أهم القصور في المنطقة .

- هل هذه السبائك البرونزية هي التي استخدمت كوحدة تبادل سلعي في العالم القديم ؟

- أجل , وقالب الصب الوحيد الموجود في العالم هو على بعد خطوات من هنا , في هذا المرفأ الذي يعرفه العالم اليوم باسم موقع(  رأس ابن هاني ), وهو أيضا مصيف ملوك أوغاريت , وأهم منشآتهم الاقتصادية .

تمشينا باتجاه مكان القالب الذي يشبه شكل جلد الثور , وقال لنا المسؤول عن المكان إن هذا الشكل أصبح كذلك لأن الثيران كانت هي وحدة التبادل قبل اختراع  هذا القالب

 

كان البحارة الذين ينتقلون في المرفأ يرتدون أزياء متنوعة : بعضهم من قبرص, وآخرون من اليونان, ويكثر البحارة المصريون هنا .

 هؤلاء البحارة  يعرفون من تنوع لباسهم , وكذلك الناس الموجودون في المرفأ , الذي كانت بيوته نسخةً مصغرة ً عن  بيوت أوغاريت .

 الناس في أوغاريت يتحدثون لغات مختلفة , البابلية , الأكادية , المصرية , لكن الأوغاريتية المحلية كانت تطغى على اللغات كلها بالأبجدية التي سهلت الكتابة , وكان بعض الأوغاريتيين يتحدثون بصوت ٍ مرتفع ٍ , قال فايز :

-ليك ولو ابن السما , وكأنهم من اللاذقية .

-أجل يا فايز إن لهجتهم تذكر بلهجة أهل اللاذقية الشعبية القديمة . وهم يستخدمون الكثير من المفردات التي ما تزال مستخدمة ً في أزقة اللاذقية القديمة .

في طريقنا إلى أوغاريت كان هناك مرفأ آخر , قلت لصديقي إنه مرفأ (المينا البيضا ), وهو المرفأ الرئيسي لـ           (أوغاريت) , وفيه السفن الخاصة بالملك ,  وسنصعد منه إلى بوابة القصر الملكي .

 اجتزنا المرفأ ,أطلت القلعة الكبيرة التي تنظر إلى البحر من عل ٍ , والسور الحجري الكبير الذي يسور العاصمة الكنعانية ,  واضحٌ كم هو جميل مدخل القصر الملكي , الذي يعتبر من أكبر القصور  في تلك الفترة , ويضم حوالي تسعين غرفة :

- هذا المدخل الشرقي ,هو لكبار الضيوف فقط،أي أنه مدخل القصر الملكي ,  بينما يدخل الناس العاديون والعربات من الباب الذي يقع جنوب المدينة، حيث   بنيت عبّارة فوق نهر ( الدلبة ) لعبور الناس وعرباتهم، كما أنشأ السيد "أورتينو" تجمعاً للعربات في هذا المكان بعد أن تدخل المدينة.

في مدخل القصر،استوقفنا بعض الحراس، أدخلونا إلى غرفة خاصة، نزعوا عني ثيابي،وأعتقد هذا ما فعلوه مع صديقي (فايز )هم يتأكدون مما نحمل قبل أن ندخل القصر...

عندما تدخل قصر أوغاريت، يجب أن تمنع نفسك عن الانسياق وراء جمال المنظر الذي يواجهك في الصالة الرئيسية، والتي تقع إلى يمينك مباشرة بعد الدخول، لكن لماذا... لأنه يجب عليك أن تزور أولاً قاعة الرقم الطينية (المكتبة ) ، ثم الغرفة التي تشوى فيها هذه الرقم (الفرن ) ، وكذلك الغرفة التي تجاورها، والتي تبدو كمدرسة، صحيح ٌ إنها من أصغر الغرف التسعين التي يتكون منها القصر ,  لكنها من أهمها,دلفنا إلى اليسار, إلى المدرسة:حيث أحد الكتبة ويدعى " إيلي ميلكو " يشير لصبي ٍ في العاشرة من عمره أن يقف , يبدو أن الصبي قد ارتبك بسبب وجود غرباء في القاعة , ألح عليه " إيلي ميلكو " بدأ بقراءة ما تعلمه للتو من معلمّه :

- أبجد هوز خطي /

قاطعه التلاميذ الآخرون, وهم يضحكون بصوتٍ مرتفع  :

- حطي .حطي.... حاء وليست خاء .

ارتبك التلميذ ثانية ً . جلس ولم يتابع .

أنبه المعلم , لكنه لم يتهاون أيضا ً مع التلاميذ الذين حاولوا  إهانة زميلهم الذي أخطأ . 

تابعنا طريقنا إلى غرفة الشي , توقفنا,كانت بعض القطع الطينية ( الرقم )في الفرن تعد للإرسال , وكان العاملون منهمكين بترتيب البعض الآخر , وأشار فايز إلى  الرفوف المليئة بالألواح متسائلا ً .

- يمكن أن تدعوه أرشيف ( أوغاريت)  ,أوضحت  له ,    إنه الرسائل الملكية الواردة , ونسخ ٌ عن الرسائل التي يرسلها ملوك أوغاريت , وبعض الألواح التي فيها ترجمات من وإلى اللغات الأخرى , وخاصة ً الأكادية , والسومرية , والمصرية . وهناك إلى اليمين قواميس منوعة ٌ في الطب والقانون والملاحة , وإلى اليسار آداب الأوغاريتيين من أشعار وأساطير وملاحم , وحكم وأمثال , أما أهم الرقم فهو هذا اللوح الذي يضعه               " إيلي ميلكو " على يمينه , وفيه ترتيب الأحرف بشكل ٍ أبجدي , وهو فخر (أوغاريت ) , لقد دونت فيه أقدم أبجدية ٍ في التاريخ , وقد اخترعها الأوغاريتيون .وذلك الذي يجاوره يحتوي على أقدم تنويط موسيقي معروف حتى الآن ,   التقطت لوحا ً آخر ,  وقلت لفايز  :

- أشعار الأوغاريتيين , التي دونت كملاحم,  وأساطير, فيها قصص ٌ كثيرة ٌ عن الخلق ,ومحاولة تفسير الكون وظواهره , وسبر ٌ للحياة الدينية , والاجتماعية في أوغاريت , وفي هذا اللوح نصيحة من أب ٍ لأبنه في طريق السفر والحياة , لكن اسمح لي أن أتصرف في صياغتها كي أنقلها لك : 

       

-  أنا  في طريق السفر والحياة يا أبي  ...     

+  إذا ً اسمع مني هذا الكلام..

واتعظ من كلامي,  فأنا أحبك يا بني

-  قل يا أبي , وأنا أيضا ً  أحبك

+ ما في كيس نقودك لا تطلع زوجتك عليه ..

لا تشتر الثور في الربيع ...

- لماذا يا أبي؟

+المرعى وفير في الربيع يأكل الثور جيدا ًً ,

يصبح الثور سمينا ً ..

- صدقت يا أبي

+لا تختر   حسناء تراها في العيد ...

- لماذا يا أبي:

+ يا بني في العيد تتجمل الفتاة , تلبس أزهى ثيابها ..

- صدقت يا أبي

+ أكرر  يابني :

لا تشتر الثور في الربيع ...لا تختر حسناء تراها في العيد ...

- صدقت يا أبي

- صدقت يا أبي

 

-وكأن من يقولها يعيش بيننا هذه الأيام يا سجيع .

-صدقت يا فايز , صدقت يا فايز .

ضحكنا من القلب , تابعنا طريقنا إلى القصر ,  كانت الحركة في القصر قليلة، كان الملك في رحلة صيد ٍ مع حاشيته, وأصدقائه وبينهم  : المحافظ , سائس الخيل , مسؤول العربات , قائد الجيش , وبعض المستشارين , أما ولي العهد فقد بقي برفقة والدته , الملكة الأم , وبعض أفراد العائلة المالكة ,لن  نستطيع لقاءهم فقد كانوا في اجتماع رسمي .  

أخبرنا أحد القيمين على القصر أن ملك (ماري ) قد زار القصر , وأبدى إعجابه الشديد بجماله , والزخرفة الجميلة على حيطانه .وهذا ما لاحظناه  ونحن في الصالة الرئيسية , لقد اعتمد المهندس المعماري على الأحجار الضخمة في بناء القصر , وعلى التيجان الخشبية الكبيرة التي تزين الأعمدة , كما شاهدنا  الأبواب الكثيرة المؤدية إلى الطوابق العليا , و الغرف , والصالات الأخرى : صالة الولائم , الاستقبال , السباحة , ثم الحديقة الملكية الكبيرة , وهي مزينة بالزهور والنباتات , وبعض التماثيل , وفيها نوا فير المياه تسقي الزرع .

خرجنا من الحديقة باتجاه منازل السكن الخاصة بالمواطنين العاديين , سألني فايز :

-وأين الملك نقماد , وعدتني بلقائه ؟

-وأنا ما أزال عند وعدي لكن بعد أن يعود من الصيد .   في هذه الأثناء دعني أعرفك على الناس العاديين في بعض بيوتهم .

دلفنا إلى زقاقٍ ضيق ٍ , توقفنا أمام بيت يبدو أنه لأسرة ٍ متوسطة الحال :

مصطبة من الطين أمام البيت , يجلس عليها رجل ٌ عجوز ٌ وزوجته التي تصغره ببضع سنين , ثيابها داكنة , وترتدي شالاً أبيض تغطي به رأسها , ينظران إلى الناس , لا عمل لهما , ردا التحية , ألحا علينا بدخول البيت , استقبلتنا صبية ٌ جميلة ٌ , دعتنا للجلوس على مصطبة ٍ أخرى من الخشب , وأمامها طاولة منخفضة , في هذه الأثناء جاء صاحب البيت مسلما ً تتبعه زوجته وهي تحمل منقوع العنب , وبعض الفواكه .

كان فايز يبدي إعجابه بالبيت الأوغاريتي , وبالأثاث الخشبي الذي يطغى على المكان , حيث طاولة أخرى أكبر من التي أمامنا , وعليها بضعة كراسي :

- إنها لكبار الضيوف , وأنتم منهم , تفضلوا , قالها صاحب البيت .

شكرناه من القلب , احتسينا شراب" الشمرة" الساخن , بينما كان يشرح لنا عن محتويات الطابق الثاني , والذي يستخدم للنوم . وحدثنا عن أسرته البسيطة المؤلفة من أبيه , أمه, زوجته , وابنتيه , وأنهى حديثه بالتمني أن يرزق بابن ذكر يحمل اسمه , ويساعده في أعباء الحياة , يدحل سطح بيته عندما يكبر في السن , ويكون سندا ً له في عجزه . غادرنا البيت , وهدفنا بيت ٌ آخر يبدو أفخم :

إنه بيت"ربانو ", وهو من الأشخاص المعروفين في العاصمة الأوغاريتية , منزل ٌ كبير ٌ , بئران للمياه في الفسحة السماوية , مع بعض الورود ، تنورٌ لطهي الخبز ,  موقدة ٌ كبيرة ٌ في واجهة المنزل , أساس فخم ٌ , طاولة ٌ أعدت على عجل للضيوف القادمين ( نحن ) :

كان الخبز من القمح وليس من الشعير , كما نرى في بيوت الناس  العاديين , وكانت الوجبة الرئيسية من البرغل المزين بالسمك ,أما الزيتون  وزيته فيزينان الطاولة ,  وكانت الفواكه موزعة ً بشكلٍ  يبعث على الجوع ,أما الفواكه المجففة , فتنويعا ً من التين , والعنب . اجتمعنا  حول الطاولة ..حدثنا الرجل عن الأحوال الاجتماعية في أوغاريت ,وعن العمال الذين يجدون في عملهم خدمة ً لملكهم ومملكتهم التي تقدم لهم الأمن والأمان, وكيف هم ملتفون حول ملكهم وخاصة في المحن ,  كما حدثنا عن النقابات العمالية , والصناعية , واتحادات أصحاب السفن , والقضاة, وعن جاره "القاضي دانييل" الذي يفخر به وهو المعروف بالعادل, كان القاضي يظهر لنا من البعيد وهو يجلس تحت شجرة ٍ وارفة الظلال ويقوم بدوره بكل  أمانة ٍ وإخلاص , إنه ينصف الفقير والأرملة , ويحق حقوق الضعفاء , والملك لا يتوانى عن دعم القاضي وقراراته, لثقته الكبيرة بحياده , وموضوعيته ,اقتربنا من القاضي كان يفض النزاع بين زوجين , قال لهما :

-يجب أن ، تتحملا بعضكما ,يمكن أن يكون  الزواج أقل روعة ً من العزوبية , لكنه أكثر أمانا ً .

أعجبنا كثيرا ً بما يقوله,

-وماذا عن وضع المرأة , سأل فايز ؟

-في قانون أوغاريت " على  الرجل إذا أهان أمه , أو أساء إليها , أن يغادر البيت ملعونا ً , يخلع جلبابه , يضعه على قفل الباب الخارجي , ويذهب عاريا ً كما ولدته أمه " ,  والمرأة ترث كالرجل , وتحتفظ بإرثها , ومهرها , والأراضي والأملاك التي وهبت لها ...

 

أما بالنسبة للزواج ,تابع القاضي ,   فمسموحٌ  للأوغاريتي أن يعدد زيجاته   ( لكن لمن استطاع إلى ذلك سبيلا ً ) والعبودية موجودة ً لكن بأصول تلتزم بها الأطراف كلها . ومع أن الملكية السائدة ذكورية , فهي لا تحجب حق المرأة في التملك , والتصرف بملكيتها ,وإرثها , بل ومهرها .. ولها الدور الكبير في المساهمة في الحياة السياسية والاجتماعية ,فقد لعبت المرأة دورا ً فاعلا ً في ذلك لوجودها الفعلي في هذا الموقع,   ونظرة هادئة ً إلى الوضع الاجتماعي للمرأة يدلنا على المقام الذي وصلت إليه, فهي ربة بيت , وتعمل في التجارة,  لها خاتمها الشخصي الخاص بها , تستخدمه في عمليات البيع والشراء, ولها  دورها السياسي, وتنوب عن الملك في غيابه, وتقوم بمهامه .

كان المهر ملكا ً خاصا ً لها , ولم يكن لينتقل إلى الزوج بأية حالة , و لها حق الاحتفاظ به في حال طلاقها. ومن أهم المظاهر الاجتماعية للمرأة :

لا تعمل المرأة في الأرض , بل تقوم بجلب الماء من البئر , وجمع الحطب , وتحضير الطعام , واستقبال الضيوف , وغزل الصوف , وصيانة الملابس . ولها حق التملك ,قبل وبعد الزواج . وعندما يأتي الحب فإن أهل العريس يذهبون إلى أهل العروس, ويطلبونها للزواج بمهر ٍ معروف ٍ , ولا بد من موافقة الفتاة قبل الزواج , عندها يحدد المهر من أرض ٍ ونقود ٍ وحيوانات وتبدأ الولائم والاحتفالات ,أما إذا رأت المرأة أن عائلة زوجها قد أساءت معاملتها  فيحق لها العودة إلى بيت أهلها  مصحوبة ً بمهرها .

 استخدام الخاتم الشخصي دليل على استقلاليتها .فهي تقوم بالعمليات التجارية مثلها مثل الرجل ,كما أنها  ترث , وتتصرف بما ترثه كيفما تريد .

 شهادة النساء مقبولة في المحاكم مثل شهادة الرجل . أيضا ً يحق للمرأة أن تقوم بعمليات التبني مثلها مثل الرجل .

ثياب المرأة الأوغاريتية  تصنع من القماش المصبوغ وتحزم  بدبابيس طويلة , وتوضع شالات بيض ذات أطراف حمراء أو زرقاء تحت الخصر .وقد اهتمت المرأة الأوغاريتية بلباسها , وأناقتها ,وزينتها , وأكسسوارها, ولها أدوات للتبرج كما للعطور, واهتمت بشعرها, وزينته , و بلباسها وألوانه, و مكانتها الاجتماعية المتميزة ضمن هذا المجتمع .

كانت نساء أوغاريت مغرمات  بالزينة : بالخلخال , والأقراط , والخواتم , وعقود الرقبة , ومعظمها من الذهب والفضة , والبرونز . ويستعملن الكحل , وتلوين الوجه (الماكياج ) . زجاجات العطور الملونة والفخمة فقد كان لها أهمية ٌ كبيرة ٌ عند المرأة الأوغاريتية . أما أحذية النساء والرجال فهي  من الجلد . 

خرجنا من الحي الراقي , اتجهنا إلى وسط المدينة ,الدكاكين المختلفة , الحدادون , النجارون , النسّاج , والعاملون في دباغة الجلود , و صباغة الأرجوان , بعد الدكاكين , مقهى المدينة الذي يجتمع فيه الساهرون ,إناء حجري ٌ كبير ٌ يشبه الكأس , والنادل يتحرك بخفة ٍ لخدمة زبائنه:  بحارة , عمال , صناع ,أجانب , وغرباء ,  يتحدثون عن رحلاتهم , مشاكلهم , حياتهم , ... كان مجموعة من البحارة يتحدثون عن خبرياتهم خلف البحر ,وعن عاصفة ٍ هوجاء واجهتهم في المغرب ,وهم ينزلقون خلف المحيط ,  وكان الباقون يصغون باهتمام وخوف شديدين ..حدثنا النادل عن السهرات اليومية في هذا المكان , وعن الأحاديث والأخبار الغريبة , وعن مختلف ألوان الناس الذين يرتادون المكان , من جميع بلدان المتوسط.

من الطرف الشرقي تبدو جبال الساحل , وإلى الشمال جبل   (صافون ) الأقرع , وكان منظر البحر رائعا ً في ذلك الوقت ومياهه نظيفة ً رقراقة ً. وكانت معابد أوغاريت تتطلع إلى الجبل الأقرع حيث الآلهة تسكن  هناك لحماية  الحبيبة أوغاريت . معبد ( البعل ) ومعبد ( داجون ) بأعمدتهما المرتفعة ,وصالاتهما المستطيلة الفسيحة , وبالنذر الكثيرة , وأصوات الموسيقى  ممتزجة ً بالترتيلات الدينية , ورائحة البخور تعبق بالمكان . وأهل أوغاريت يتحركون من وإلى الأكروبول بنشاط ٍ شديد ٍ .   

تحركنا جنوبا ً , صرنا في مدخل المدينة الجنوبي , عبّارة على مجرى النهر , كانت طلائع الملك وحاشيته تقترب تدريجيا من المدخل , ابتهجت , قلت لفايز حانت اللحظة الجميلة للقاء  الملك :

ترجل ( نقماد الثاني ) عن حصانه ,فعل  الجميع  مثله , تقدم منا محييا ً , صافحناه بحرارة , بادرته بتقديم صديقي إليه :

-فايز مقدسي , مهتم ٌ بتاريخ أوغاريت , وحضارتها ومذيع ٌ في إذاعة  " مونت كار لو" التي تهتم كثيرا ً بالحضارات القديمة .

-أهلا ً بك وبضيفك يا سجيع , تفضلوا .

تطلع فايز بإعجاب إلى اللقاء الودي الذي بادرنا به  الملك ,  سرنا معا ً , وصلنا إلى منزل "أورتينو"  الذي كان يرافق الملك , قرر الملك ,احتراما ً لصديقه " أورتينو"أن يستقبلنا لاستراحة ٍ قصيرة ٍ في بيته,  و الذي كان يعتبر بمثابة المدخل إلى أوغاريت .

كانت بضعة عربات من خارج العاصمة تنتظر في ساحة البيت الكبيرة , وصلنا إلى الصالة الرئيسية , جلس " نقماد " , جلسنا إلى يمينه ويساره أنا و"فايز".

- كنا في الجبال الجنوبية , نصطاد بعض الطرائد , وقد ذهبنا إلى هناك من الجهة الساحلية الشمالية , أي من البسيط , مرورا ً بالغابات الكثيفة في طريقنا ,وكان الصيد وفيرا ً .                                                                                        

- هذا يعني, جلا لتكم ,أنكم درتم حول حدود المملكة ,قلت له .     

- أجل لكننا لم نصعد إلى جبل صافون ( الأقرع ) , فلا  طرا ئد هناك .

ولا إلى البحر , فرحلة البحر لها ترتيباتها الخاصة , يمكن أن تقول أننا زرنا الشرق والجنوب , ووصلنا إلى حدودنا مع "سيانو "

- وكيف كانت رحلتكم ,بادر "فايز" بالسؤال ؟

- تسلينا بالجو الجميل , والإطلاع على أحوال الرعايا في الأماكن التي زرناها .

حضر الطعام بأنواعه العديدة والشهية , وتابعنا الحديث حول العالم والصراع الذي يدور في المنطقة , وعن صمود أوغاريت في وجه الأطماع المتعددة شمالا ً و جنوبا ً , وكانت أفكار "نقماد الثاني " مطابقة ً لأفكارنا في الحرية والعدالة , رغم الفارق البسيط في التطبيق ,  والكبير في الزمن الذي يفصل بيننا . 

نهض الملك عن المائدة , نهضنا معه :

 

- لدي رسالة لكم . قالها لنا بثقة .

 

- ونحن على استعداد لإيصالها قلت بحزم .

 - إنها  بعض الأشعار الأوغاريتية .

تقدم "إيلي ملكو" الجميع وبدأ يقرأ بصوت ٍ مرتفع ٍ :  

 

لديَّ رسالة أقولها لكْ :

رسالة الشجر، وهمس الحجر

تنهدات  السماء إلى  الأرض

همهمات القمر إلى الكواكب

وأغنيات البحر مع النجوم

 

لديَّ رسالة أقولها لكْ :

اسكب سلاماً في جوف الأرض

أكثر من المحبة في قلب الحقول

كي نقيِم في الأرض وئاماً

ونغرس في التراب محبة

 

لديَّ رسالة أقولها لكْ :

تعالوا نزرع في التراب محبة

و في الأرض وئاماً

سلاما ً لبني البشر

 

محبة في الحقول,  فرحة على البيادر

عطرا ً على الجبال ,  دواء ً على التلال

 

سلاما ً لبني البشر

سلاما ً لبني البشر , سلاما ً لبني البشر

 

كنا نغادر مجلس الملك الكبير , ورسالته ترافقنا , رسالة أناس عاشوا في العصور القديمة لكنها تبدو كموعظةٍ  للعصر الحديث , بكل مافيه من مظاهر التقدم والعدالة , والحرية , والمساواة ؟

 - ألهذا تصر أن نقماد الثاني يعيش بيننا ؟ قال فايز.

 - ولهذا ألح أنه صديقي , وأنه واحد ٌ من الرجال الكبار الذين يعيشون في كل الأزمنة .

كان فايز سعيدا ً وهو يدردش معي  في هذه الرحلة , وكنا نطل على (باريس ) من مبنى (راديو مونت كارلو ) عندما  بدأت موسيقى أوغاريت تتسرب إلى حوارنا , قالت مسؤولة الصوت :

- انتهى وقتكم , مرت ساعة البرنامج بسرعة كبيرة .

- قال فايز : لم نشعر بها إلا دقائق .

- تابعت : ربما أقل .

ارتفع صوت موسيقى أوغاريت , كان العام 2003 يتأهب  للرحيل , وكان العالم يستعد  للاحتفال بالذكرى 75 لبدء التنقيب في أوغاريت في عام 2004 . 

السبت 29-11-2003

نشرت القصة بالفرنسية ، في كتاب ٍ صدر في فرنسا بمناسبة الذكرى 75 لبدأ التنقيب في أوغاريت ،مع مجموعة من النصوص الأدبية حول أوغاريت ،بعنوان :

(أوغاريت الأرض والسماء ) .

OUGARIT

LA TERRE LE CIEL

 

فكرة القصة :

برنامج إذاعي في إذاعة "مونت كارلو للمذيع" فايز مقدسي "  بعنوان : حكاية حجر , استضافني فيه وتحدثت معه حول رحلة متخيلة إلى (أوغاريت ) .

سجلت الحلقة في باريس يوم السبت 22-12-2001, وأذيعت يوم الأحد 13-1-2002 الساعة الثامنة مساء ً .  

 

 

... وتكـويـن

 

(1)

عندما بدأت بتكوينها كانت في السابعة والعشرين من عمرها . قلت في نفسي :

ـ تأخرت .

لكن عندما لاحظت ما يحدث أدركت أني أملك الوقت الكافي لذلك ، وأنها كانت تنتظرني أنا لأكـونها .

في السابع عشر من شهر الربيع بدأت أشكال ٌ جديدةٌ تتكون في أكثر من مكان في جسدها. تمددت الأشكال ، وأخذت لوناً ورائحةً مختلفين ، يومها قالت لي :

ـ أشعر بالحاجة إلى تغيير ثيابي ، وبأن المرآة بدأت تتلصص علي ، لم تكن كذلك من قبل ، كانت بريئةً جداً .

 

يومها أدركت أنها كانت تستجيب لأصابعي بسرعةٍ كبيرة ، وأنها تتكون بشكل صحيح، مثلها مثل النباتات المنتشرة على شرفة منزلي ، فقد بدأت بالتلصص علي ّ ، ولم أجرؤ / كعادتي الصباحية / أن أقبلها ، و " صباح الخير " ، بل نظرت إليها من بعيد : أصبحت النباتات مراهقات ، لم يعدن تلك الطفلات البريئات اللواتي أقبل كل صباح .

 

(2)

في الشهر السابع تكونَتْ واسترحْتْ . انتظرتها ، وانتظرتْ ، لكنها لم تأتِ . أرسلت إليها آلاف الرسائل مع كل عصافير الدوري المجتمعة في حديقة المدينة ، لكنها لم تأت. لاحقت جسدها الذي تكون بشكل مثير أفقدني صوابي ، لم تلتفت، لم تأت . حلمت باللعب بشعرها الأسود .الغزير. الناعم. الجميل. اللطيف.القادر. الوهّاب .المثير. الطويل .الأجمل من الليل .الواصل قبل المؤخرة بقليل . الـ.....لكنها لم ترسل أي رد .

 

(3)

وفي اليوم السابع من الشهر السابع جاءت، كما تجيء النسمة أواخر صيفٍ جاءت، غزت عينيّ، ووجهي، وشعري، وجسدي، وروحي ..

و ...أيقظتني من عمري .. وفي ذلك  اليوم السابع من الشهر السابع بدأت الرحلة : بدأت أصابع يدي، بهدوء، تتلمس أصابع قدميهـا، ساقيهـا، الـسرة، العـنـق ،الفـم، وأخيراً حـقـقت حلمي / غزوتُ  الشعرَ الأسودَ . الغزيرَ. الناعمَ . كالـلـيلِ. الواصل ... / عندها ضجت بالحديث :

ـ كونّي من جديد .

وتراجعت إلى الخلف بحركة سريعة ،عارية ً  من المجتمع ، فاتحة ً  يديها للسماء ، ناثرةً شعرها الأسود كالليل في كل الغرفة :

ـ كـونّـي .

نظرت فوقي :

- يا آلهة الأرض !!! صرخت بأعلى صوتي ، وشتمتُ جميع رسامي ونحاتي  العالم قهراً منهم:    

 ـ  كيف لي أن أرسم تلك الصورة التي كونتُها أنا ، ثم كونَتها هي ،وذلك التكوين الذي ضمنّا معاً ؟.

عندها عطف علينا رسامو ونحاتو الأرض ، وبدؤوا يحاولون تكويننا من جديد لكنهم لم يفلحوا.

وقتها جاء " ذاك اللامعروف من أوغاريت " وبيده كمشةً من ترابها . وبدأ ...

    

(4)

وفي اليوم السابع أيقظْنا النومَ ، ونهضنا .كنا قد تداخلنا ، وتكونّا معاً ، وكان " ذاك اللا معروف من أوغاريت " ينظر إلينا مسروراً :

ـ لقد كونتكما كما يجب ، أنتما تنتميان إلينا الآن ، انهضا.

ونهضنا عاريين إلاّ من كمشةٍ من التراب الأوغاريتي الذي به تكونّا .

ـ اقرأا باسم أوغاريت ، فأنتما منها .

 

تابع" اللا معروف من أوغاريت " ، وشقّ الغيم َ متجهاً صوب ( الجبل الأقرع) ، حيث( البعل) ينـتظره ، لوّح لنا بجناحيه ، وكانت ضفتا ( نهر أدونيس ) تمتلئان بـ (شقائق البعل النعمان ) ، وكانت الشمس الذاهبة خلف ( المتوسط ) تزيّن  (الجبل الأقرع ) ، وهو يحنو على ابنته الحبـيـبة (أوغاريت )، وكان الأصدقاء يثرثرون عن( أوغاريت)، وعظمة أجدادهم الأوغاريتيين ، أوقفتُهم :

ـ الأوغاريتيون ليسوا أجدادكم ، فالفرق كبيرٌ بينكم وبينهم . تخلّوا عنـي ، تابعـوا تجوالـهم فـي( أوغاريت) ،تابعت حلمي في (أوغاريت)

 

(5)

سبع مرّات اعتلاها ( البعل)، وأنجب منها ( الثور المقدس) سبع مرّات، وسبع درجات بين الولادة والموت، بين النطفة والتراب. عددت الدرجات، وبصوتٍ مرتفع:

ـ واحد،اثنان ،ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة .

بعدها مدخل القبر ، هبطت إليه ، ومن الداخل عددت حتى السبعة  أيضا . سبع درجات  والقبر الأوغاريتي الجميل يغري بالموت .

ـ يبعث الرهبة /قالتها شابةٌ في الثامنةَ عشرةَ.

ـ بل بالطمأنينة/ أردفت امرأة في الأربعين.

ـ وما رأيك أنت ؟ / سألت ثالثة.

ـ يغري بالموت / أجبت بهدوء / شرط أن يتكون الإنسان  بشكل صحيح ، ولا يندم على ما ترك / قلت في نفسي.

 

كان الجميع قد ابتعدوا ، نسوا أني في القبر ، كنتُ هادئاً ،هانئاً ، مطمئناً ...كالنفس الراجعة إلى ربها ...، غفوتُ، لا أدري كم من الوقت، لكن الظلام كان أسود عندما استيقظت ، وحينما انتبهت إلى  وجودي في القبر كان الحلم ضيقاً، وغزاه  الأرق، حاولت أن أطرد الأرق، وأحلم بها ، لكن أخرى أتت بدلاً منها:

ـ تلك الساق، السرة، العنق، الشفة، الشعر الأسود، كل ذلك التناسق لم يأت، بل أتت أخرى متضاربة الأشكال والنتوءات ... لم تأت ثانية.

ـ أيتها الآلهة ماذا يحصل ؟ لماذا؟

 

(6)

عندما بدأت بتكوينها لم أكن أعرف إلى أين المصير . لكن بعد أن كونتُها أدركت.. الآن فقط أدركت  أنها الخسارة الوحيدة في حياتي :

ـ أيها الإله الطيب ، ماذا يحصل لنا أنا وأنت ؟ أنا أكوّن و أنت تكوّن ، ثم فجأة ً يتحطم الطين ، ونخسر كل شيء . يا إلهي كم هو ثقيل هذا الحزن الذي يلفنا أنا وأنت ؟ يا إلهي أيها الـ / .

وضع يده بهدوء  على فمي ،لم يتركني أكمل كلامي ، أحس بعذابي ، عرف مقدار خسارتي ، أمسك بيدي ، قال لي " اللامعروف من أوغاريت " :

ـ انهض .

ونهضت . عارياً إلا من كمشةٍ من تراب أوغاريت .

ـ اقرأ باسم أوغاريت ، وانهض من هذا المكان الجميل  الذي أنت فيه . قم إلى العالم من جديد ، فالشمس قد شوت الأرض التي تنتظر أن تحيى من جديد ، ويبدأ فيها الزيتون بالتبرعم، والدالية بالحبات الخضر . قم فأمامك الكثير .

- وماذا عنها ؟

ـ ستراها من جديد ، أنا من كونكما ، ستكونان معاً من جديد .

 

(7)

نهضت ُ ، قرأتُ باسم أوغاريت ، صليتُ لذاك النائم في حضن الجبل الأقرع ، حملت عصايَ ، تابعت تجوالي بين الحقول ، وهناك رأيتها :

كان (تموز) قد بدا يغور في قلب الأرض ، و(البعل) ينزرع في التربة من جديد .

رأيتها كما (عناة ) تحمل رحاها ، وتستعد لطحن (موت) ، وذرّ بقاياه في الأرض . قبضت على يدها . سرنا.مشينا . ركضنا . سابقنا السحب . انطلقنا بكل سرعة إلى ذلك المكان الذي كان قبراً ، ذلك الموقع الجميل . كان "ذاك اللامعروف من أوغاريت " ينتظرنا . رفع الدرجة الأولى ، الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة، السادسة ،فالسابعة . مدّ السلم باتجاه ذلك المكان الجميل حيث سندخل :

1 ـ متشابكة أيدينا .  2ـ متداخلة أجسادنا .  3ـ ملتصقة شفاهنا .

4 ـ متصالبة شراييننا .5ـ وبقلبٍ واحدٍ .   6 ـ ونفس ٍ واحدةٍ .  7ـ وروح ٍ واحدةٍ ....                        

دخلنا ذلك المكان الجميل ،  وكان  "ذاك اللامعروف من أوغاريت " قد بدأ يعدّ الدرجات :

- واحد، اثنان، ستة /ودعنا :

ـ المكان يليق بكما / سبعة .

 

صار الظلام أسود ، ازداد سواده ،كنا نمتلك بعضنا بعناقٍ أبدي ٍ  . وكانت روحنا الواحدةُ تهدأ ، تستعد للانطلاق ، وكان  (البعل)حينها  قد شمر عن ساعديه، ليطلع

"بخور مريم "  و "شقائق النعمان ".

19  ـ4 ـ 1999

 

 

... ودمّ

إلى: (نائل وآيتان).

 

حلمٌ يرافقه منذ ولادته، ويعتقد أن الحلم ولد معه، الحلم لا يتغير.

حلمٌ يرافقها ، ولد معها، لم يتغير .

لم يستطع تحديد معالم  حلمه  . لم تعرف حلمها بوضوح .

( نائل) من ـ مجدل الشمس الجنوبية ـ  ، (حورية ) من ـ إنطاكية الشمال ـ.

لم يكن يعرف شيئاً عن حلمها ، لم تكن تعرف شيئاً عن حلمه .

 

عشرين عاماً عاش الحلم معهما ، عندما عادا بعد عشرين عاماً إلى ـ دمشق ـ ، ومن بين آلاف الطلاب المنتشرين في جامعتها، التقت نظراتهما :

نظر مباشرة في عينيها، تطلعتْ مباشرة في عينيه، عندها: سكب  في عينيها بعضاً من حلمه. تحدثا عن حلم، حاولا رسم صورة واضحة للحلم:

"سرب حمام يشكل لوحة ً  نادرة ً  في السماء الزرقاء الصافية، تبدأ الغيوم بالتجمع معكرة ً  صفاء السماء، حمامتان تفصلان عن السرب : واحدة تتجه شمالا ً ، والأخرى جنوبا ً ، والغيوم تتحول إلى خط أحمر قان ٍ  يفصل بينهما "

 

- هذا ما وصلنا إليه بعد لملمة أجزاء الحلم / قال نائل/

-لا تفاصيل أخرى ؟ .

-لم نتذكر أكثر من ذلك ./ أجابت حورية /

-يبدو أن شيئاً يمنع لقاءكما .

-وكيف نعرفه ؟

-لنذهب إلى العراف في معبد ـ داجن -  في - أوغاريت- ، استقبلنا العراف، كان لطيفا ً  معنا، سألنا عن غايتنا، روى له (نائل). فكر كثيراً ، التجأ إلى الصلاة ، انفصل عنا...

تجولنا في -أوغاريت-، تسلينا بلقاء أهلها ، كانوا طيبين معنا. عدنا إليه ، كان قد انتهى من صلاته :

-خلقتما معاً، وستبقيان معاً . عائق واحد في طريقكما . دمٌ جديد..

صمت العراف، صمتنا ، غادرنا –أوغاريت- نزولاً إلى الصخور البيض عند البحر، وكانت مياهٌ تغسل الصمت. 

تقابلت أيديهما، شفاههما، كنت أغوص بعيداً في البحر، كان موجه هادئاً، وأشعة شمس ٍ  جميلة، وكان حب...

 

كانت –أوغاريت- قد أعلنت التعبئة، وبدأت تجمع دماءها من أجل استرجاع منزل البعل الذي بناه (كوثر) في -الجبل الأقرع- ، وتفنن في صنع نوافذه المطلة على -المتوسط - في الغرب، وعلى -أوغاريت- في الجنوب ، وكان جبل الجنوب الشيخ - حرمون - يبعث بالرسائل نسماتٍ باردة حيناً، ويحمّلها للعاصي أحياناً، وكان - البرابرة - شمالاً وجنوباً، يحاولون منع اللقاء. "وكان نهر العاصي لا يكترث بالسدود، ولم يكن يكترث بالحدود، ويعبرها دون جواز سفر ، حاملاً رسالة حبّ ٍ تبعث بها بلادٌ بأسرها إلى عاصمتها المفقودة - إنطاكية- ، وعندما يطل من البعيد على –الجبل الأقرع- كان الجبل يقول له:

-سنسهر أنا وأنت دائماً على هذه البلاد، ونبقى معها، سنحبها، ونتألم من أجلها."*

 

والألم يزين الحب (نائل وحورية) قصة حب مختلفة، ترعرعت بين صخور - المينا البيضا- ، شهودها ملوك أوغاريت ، وأشعة الشمس النقية، وكانت - أوغاريت- القلب .

 

عندما كانا يغيبان خلف الجبل، كانت نجوم السماء مجالاً رحباً لنداءاتهما، كانت (حورية ) تسألني من خلف - الأقرع - :

 

-أنت في القلب ، أخبرني هل أستطيع إرسال رسالة من وراء الجبل / عبر مجموعة الدب الأكبر/ في هذا الوقت ؟ .

 

 ودون تفكير كنت أقول:

-السماء صافية هنا، ستصل الرسالة إلى - حرمون- ويتسلمها ( نائل).

كانت الرسائل تصل. وكلٌّ منهما يؤكد من جهته أن السبب في وصول الرسائل هو -أوغاريت- التي تحدد الاتجاه الصحيح، إضافة إلى جهودي المشكورة.

 

كانت تغني له:

نسمت من صوب سورية الجنوب

قلت أين الملتقى يا حبيبي

 

هو بعيد، و(حورية) تغني ، وتحاول معي إيجاد طريقة تجمعهما إلى الأبد في رباط مقدس. أذكر أني قلت لها شيئاً يساعدها في الوصول إلى حل، لكن بعد الكأس الرابع، الخامس، لم أعد أذكر، أذكر فقط أن شيئاً ما في رأسي يمنعني من النوم، وصوت مستمرٌ لمنبه سيارة إسعاف، صفير، ينتفض رأسي، أخلع عني لحافي، يستمر الرنين، إنه صوت الهاتف:

-أين حورية؟

-حورية !!

-مالك يا رجل ؟

ـ آ ه /نائل/؟                                                                                     

-إي /نائل/

-لا أدري .

-لا تدري؟

-آ .آ . انتظر (نائل) ربما هي في الغرفة المجاورة؟ لا . لا (نائل) ربما في دمشق .

-وماذا تفعل؟

-أذكر قبل الكأس الأخير، وقبل أن يلبسني النومُ قلقاً ومشوشاً، نصحتها أن تلجأ إلى الصليب الأحمر الدولي، وحقوق الإنسان، وحزب الخضر... و /

-هيه ، سجيع ، سجيع ، ماذا تقول ؟

-أنا جاد يا (نائل)

-لماذا؟

-كي تلتقيا

-أنت تمزح .

-صدقني ، ذهبتْ من أجل ذلك.

-وماذا ستفعل ؟

-لا أدري.  لقد حدثَتني البارحة عن حبها الكبير ، وبأنها لا تستطيع العيش بعيداً عنك، فقلت لها الطريق الوحيد أمامك هو الأمم المتحدة .

-وصدّقتْ ؟

-سننتظر أنا وأنت ، ربما تتصل هاتفياً؟ .

 لم تتصل، يومان مرّا ، مساء اليوم الثاني، هبطتْ من سيارة أجرة، ابتسامة تملأ وجهها، ركضت إليَّ:

-وعدوني بحل المشكلة.

-أو تعتقدين؟

-هذا ما فهمته، ما لك أنت ؟

-اتصل (نائل) وهو قلقٌ جداً.

-هل سيتصل ثانيةً .؟

-لا ، سيصل هذه الليلة.

 بعد أن فهم (نائل) أنّ ( حورية) كانت جادةُ في ذهابها إلى الأمم المتحدة، وصليبها الأحمر، قرر أن يبقى قريباً منها.

-ألن تتزوجا ؟    

-لا يهم / قالتْ /.

-المهم أن نكون معاً /قالْ/.  

-تزوجا في إنطاكية /قلتُ/.

-لا نستطيع /قال نائل/. لا يُسمح لي بالذهاب إلى هناك دون جواز سفر (بربري) .

-طيب ، ليكن في (مجدل شمس).

-وأنا لا يُسمح لي بالذهاب إلى هناك /قالت حورية/ .

-إذا ً هنا .

-لا يمكن /غصّا معاً/

-فلتبقيا عندي، وليأت الحل، فلا بد أن يأتي،

-من الصليب الأحمر؟ / قال /

-ربما من الزمن ؟ / قلت غير مطمئنٍ مع إحساسي بأن الأمل يتسرب من بين أصابعي، لكن وكعادته، عند الحاجة الماسة إليه، جاء (ذاك اللامعروف من أوغاريت) جاء يرتدي الأخضر الموشى بالأرجوان:

-أنهض .

-أنت ؟

-أنهض باسم ذاك الذي أبدع الحرف.

 

ونهضتُ ، نهضا معي، سارا صامتين دون أن يعرفا إلى أين، تقدمنا (ذاك اللامعروف من أوغاريت) ، دخلنا قصراً جميلاً . قال :

-قصر (نقماد) ، ملك أوغاريت. 

-صديقي أعرفه ،/ قلت/ .

-أدخلوا بأمان .

 

كان (نقماد) بانتظارنا ، سألنا وأجبنا، سار وسرنا، صعد درجاً يؤدي إلى السماء، صعدنا، سبعاً بسبع ٍ ، سبعين،توقف ( نقماد) توقفنا، ركع، سجد،استقام، رفع صوته كالرعد عالياً،كانت سحابة تظلله، وكان يستمع إلى صوتٍ قادم ٍ من السماء ، خرّ ساجداً ،طال سجوده، طال صمتنا، نهض بهدوء مستبشراً :

ـ الدم في قلب ـ أوغاريت ـ طازجٌ ما يزال .انهضا ،اللقاء في القلب ، موعدكما في ـ أوغاريت ـ ، هي القلب لكما ..

 

وبينما كانت السماء تجمع غيومها ، ورعودها ، وبروقها، وأمطارها ، لتلقي بها في الاتجاهات كافة،تسمّرنا عند  الدرجة السابعة والسبعين بعد المائة السابعة ، كان (نقماد) يواصل ارتقاءه  ، وكان (البعل) بانتظاره عند شرفة قصره العالي الواصل إلى السماء، في حضن الجبل الأقرع,  بدأت العاصـفــة ، وبدأنا نهبط الدرج الواصل إلى الأرض . التـفتّ خـلفي لألتــقط آخــر ظـهــور  لـ (البعل ) و(نقماد) قبل أن ألحق ب (نائل) و(حورية) ، حيث أخذ (ذاك اللامعروف من ـ أوغاريت ـ أيديهما قاصداً     القلب ...

 

كانت ـ أوغاريت ـ ، ورغم العاصفة ، تسيّر الدم بين العروق شمالاً وجنوباً ، ويستمر القلب بالنبض ، وإرسال الدم ، وكان ـ جبل الشمال الأقرع ـ يرسل التحيات إلى ـ جبل الجنوب الشيخ ـ ، وكان ـ الشيخ ـ يرسل الرسائل الداعمة مع النهر العاصي الذي لا ينسى ، وكان الدم يجد بين ذرات التراب منفذا ً هنا ، وآخر هناك ،  وبدأت الأرض  ترتدي  ثوبها   المزركش  بـ :

( شقائق النعمان ).

* من مقدمة محاضرة (انطاكية وشقيقاتها الثلاث) لــ جبرائيل سعادة –22-11-1965

17/ 3 /2000

 

 

... وغصة

 

 

(ابتكرت الحياةُ الموتَ لكي تملأ دائماً رئتيها بهواء آخر، ولكي تظل جديدة ً دائما ً.)

                                                              أدونيــس

 

لماذا تقف (جاكلين)في تلك الشرفة ولا تغادرها ؟ لم أكن أدرك ذلك ،سألتها ولم تجبني .

وأنا أدرك لماذا سمى (هاني الراهب ) ولده"تموز" ، وان لم أسأله عن  ذلك.

لم أكن أعرف قصة (جاكلين) في البداية . وأعرف لماذا أطلق (علي أحمد سعيد ) على نفسه اسم "أدونيس".

 

أحب نوعين من الزهور يخرجان من رحم الأرض مع بوادر الربيع : شقائق النعمان ، بلونها الدامي ، وبخور مريم بالأرجوان ثوباً جميلا ً .

أعي تماماً أنكم لا تعرفون (جاكلين) ،لا تستعجلوا ستتعرفون عليها ، وربما ستلومني هي لإفشاء سرها .

 

أدرك أن البعض منكم يعرفون أن  (البعل، أدونيس،تموز) هي أسماء لرمز ٍ واحد ٍ طقس ٍ واحد ، هو الخصب والتجدد الذي يطلع من الأرض بعد موتٍ  طقسي ٍ  ،والذي يُخرج من نــــهر ـ إبراهيم  ـ ( أدونيس  )، مع كل ربيع، شقائق تنزرع على ضفتي النهر ، وحيث تستمر الحياة في صراع  بين الولادة والموت ، بين الخير والشر، بين الحضارة والبربرية ، ويستمر ( البعل ) رمزا ً  لتجدد الحياة ، وأنيسا ً  لأنبل بني البشر في موتهم الطقسي ، وتظل الصاعقة في يده، وتخضر العصا في يده الثانية ، ولن يحني هامته لقوةٍ في الأرض .

 

تهتز الأرض في مطار (خلخلة) قرب الشام ، ينطلق النسور ، نودعهم بصمت ، وبين السرب والسرب كنا نعود إلى المذياع ،نتابع أخبار الحبيبة (بيروت) ،واجتياح البـرابـرة لهـا .يعود بعضٌ من السرب ،

نعدها: ...غصــة:

ـ ستسمى مدرسة ٌ  باسمه .

ـ أنطلق مع مظلته بعد أن اشتعلت النيران .

ـ تبعثر مع طائرته بعد أن أسقط طائرتين للبرابرة .

لكن بعيداً عن سماء المعركة ،كان النبلاء قد شقوا الأرض ، ووصلوا إلى بيت ( البعل) الموسمي ، أحاطهم (البعل) بيديه ، وانتظروا معاً الربيع التالي .

 

أسمها(جاكلين)، وهي في حوالي الستين من عمرها . أسمى (سجيع ) و يعني :هد يل الحمام  ، ولقبي (قرقماز) ويعني لا يخاف ،أقترب من الخمسين , وأنا أعيش التناقض الدائم  بين هد يل الحمام والجرأة ، بين الخوف والشجاعة ، الدمعة الحزينة وخشونة الحياة ، حب الحياة الشديد وبساطة تـقبل الموت .

  

(جاكلين) تعيش في مدينة اللاذقية أجمل مدن سورية ، وأنا أعيش فيها مذ كانت قرية صيادين صغيرة أسمها - راميتا- ، وكانت تحت لواء المملكة الأوغاريتية . درستُ الابتدائية في( مدرسة الشهيد يوسف العظمة) والإعدادية في   (ثانوية الشهيد رفيق اسكاف)، والثانوية في (ثانوية الشهيد جول جمال) . أسكنُ حالياً مقابل (ثانوية الشهيد سهيل أبو الشملات)، وأشتري الصحف والمجلات من (مكتبة البيطار ) ، ربما تعرفون المكتبة ، لكنكم لا تعرفون امرأة تسكن بالقرب من المكتبة اسمها (جاكلين). هي ليست (جاكلين كندي ) التي صارت لغيره من بعده .(جاكلين ) هذه استمرت مخلصةً في حبها .

 

حملتُ صحفي ،اخترقت الزقاق الضيق،اتجهت إلى (ساحة الشهداء )  قلب مدينة اللاذقية ، وكان صوت (فيروز ) ينطلق من أحد المحلات : " اللي حامل عكتافه  زيتون وسنابل ... " إنه الجنوب ،وجبل الشيخ الجنوبي يذكر بالشام  ، يبدأ التاريخ من الشام ، ويعلو صوت (فيروز)، يذكر بالشام، تعلو الهامة الشامية، تكبر الأرض السورية، وكعادتها أواخر صيف ، جاءت فيروز تغني للشام.

- وكيف لك أن تحضر هذه الأمسية الصيفية في الشام؟ قلت في نفسي، لكن ما اعتقدته صعباً صار بسيطاً بفضل (علي غدير) وليف الطفولة. "وكنا يافعين عندما جاء قائد ٌ مغوار، وانتقى بعض الشبان اليافعين للتطوع معه، كان (علي) بينهم، ومن يومها وهو في – المغاوير- ويعيش في الشام"

 - تفضل. هذه بطاقتك، قال (علي).

 

احتضنته فرحا ً، تسمرت في مقعدي، أتابع وهم "المحطة" والبطاطا، وصوت فيروز الذي يغني للشام ، لجبل الشيخ / دمعت عينا (علي) . فهمت. لم أنظر في وجهه مباشرة./ من منكم يعرف (علي غدير)؟  من منكم  يعرف كتيبته التي اقتحمت (مرصد جبل الشيخ )؟/ لقد استمر في القتال ، وعلق في الجهة التي يسيطر عليها البرابرة، ولكثرة إصاباته استسلم للخدر في جسده، معتقداً أنه حقق حلمه بالشهادة  فوق الأرض المقدسة، لكن هذه الأمنية لم تتحقق، فزحفه بين شرايين (الجبل الشيخ) ، أوصله إلى زاوية الحدود اللبنانية دون أن يدري، فُأنقذ، ورغم الجراح الكثيرة عاش... لكن العربة المدرعة التي اقتحمت في تشرين صفوف البرابرة لم تستطع حماية (سهيل أبو الشملات) فاستشهد، ربما كنتم لا تعرفون (سهيلا ً ) ؟‍‍‍‍! ولا تعرفون    (أحمد حداد)،  (أحمد )  لم يقاتل ، كان تلميذاً ، وقد اختبأ من قنابل البرابرة وسط حقل للخضار، ومع ارتفاع صوت القنابل مد رأسه مستطلعاً ، فقطعته شظية قنبلة ٍ  ألقيت على الحقل .               

في الجانب الآخر من الحقل يقع بيت            (محمد خرماشو) ، تعرفون (محمداً ) فقد  هرب من الحياة إلى التمثيل،  والغصة ما تزال تملأ قلبه حزناً على والده الذي سُمي مفقوداً، هو ليس شهيد ٌ ً يوضع اسمه في مكان لائق، لكن الحياة تستمر...

 

وتستمر الحكاية " حكاية شعب وثأر"   ويأتي صوت   (عبد الحليم) من  (النيل) : 

خلي السلاح صاحي . ويحكي حكاية القنال و الحرية والشعب وناصر. تحار الدمعة في عيني، ويحار صديقي، ولا يستطيع حتى الآن معرفة سر هذه الدمعة التي تحار في عيني، والغصة التي تملأ قلبي وأنا أسمع صوت ( عبد الحليم ) قادماً إلى الشام ... الشام تفتح شهية البرابرة منذ بدء التاريخ للغزو، والدم ، ومنذ بدء التاريخ تعلن الشام بالحرف، وبالدم أنها باقية ومستمرة. تقول لي (جاكلين) :

-أينتهي الصراع بالمصافحة ؟

-لا

-بالمصالحة ؟

-لا .

-يرحل (أمل دنقل) : "لا تصالح ولو قلدوك الذهب" . يغتال البرابرة (ناجي العلي)، لكن (حنظلة) يعيش.

يسألني صديقي :

-والسلام ؟

-بين الحرف والبرابرة ؟

-لا . سلام الشجعان.

-أضحكتني يا رجل، جعلتني أتذكر (الختيار أبو عمار) وهو يؤدي التحية لكل من هب ودب.

-ماذا تريد إذاً؟

-أريد أن أشحذَ ذاكرتي، وأحافظ عليها حرةً نقية كقطرة ماء تخرج من قلب الصخر، فهي سلاحي الوحيد الذي يجب أن يبقى صاحيا ً . تستوقفني (جاكلين):

-ما الجديد

-وزيرنا يرفض مصافحته.

-وهل تكفي المصافحة ؟

-وسائل الإعلام تبحث عنها .

-ما الذي حدث إذا ً ؟

-تبادلا بعض العبارات في صالة التدريب الرياضي؟. اعتبريها نوعاً من الروح الرياضة.

-لكنها ليست المصالحة ؟

-أبداً . المصالحة : سلام ، سفارات ، تعاون أمني ، (علمٌ أزرق وأبيض) يرفرف فوق الـ ...

أشاحتْ  بوجهها، دخلتْ البيت، تابعها قلبي:

عادتْ إلى ذكرياتها،إلى العام 1956، عندما كانت صبية، بل أجمل الصبايا، وتقف على الشرفة التي أراها عليها. كانت تنتظره من بين كل شبان اللاذقية - ، وكان (جول) مخلصاً لهذا الانتظار ، ولم يكن يطيل الغياب، ولم يتركها تنتظر طويلا ً ... إلا في تلك الليلة من عام 1956 حين أقيم القداس لراحة نفسه ، وكان جسده يتراقص شقائق للنعمان  في  (البحر السوري المتوسط) . أعتقد .. متأكد .. تعرفون (جول جمال) تتذكرونه. ترى هل كانت(جاكلين) تحلم بـ  ( جول) يقرع باب بيتها في يوم من الأيام ؟هي ما تزال تتذكره في كل لحظة .

 

وكانت الذاكرة سلاح (الأبنودي ) وهو يتذكر (ناجي العلي) ويناجي أمه ،ربما يناجي (عناة ):

 

يا أماي ، وآنت بترحي الرحى

بتوب الحزن.

لا تهللي فيها. لا تولولي.

قولي فيها اسم واحد مات

كان صاحبي يا اما ..

 

وبينما كانت (عناة) تستمر في رحي الرحى ، وتهمس ، دون صوت، (للبعل) ورفاقه كي يخرجوا إلى الأرض من جديد ، كانت(جاكلين) تتطلع  بألم ، أتابعها من بعيد، أدرك بماذا تفكر، وتكبر الغصة لتملأ الوطن الكبير والدم يملأ الأوردة التي تكاد تنفجر. كان المتوسط بحر الشام ينقل حزن ربابة (الأبنودي)، وريشة (ناجي)، وصوت (فيروز) الذي سيظل يغني للشام  حتى آخر الدهر.. وبينما .. وبينما.      

 

امتطى (جول جمال) قدره . اتجه مباشرة إلى الهدف. نظر خلفه ليلتقط من صفحة المتوسط آخر ظهور له قبل أن يدخل الشرنقة، حيث سيخرج مع – البعل- حرا ً بجناحين تدفعهما ريح الجنوب الحنونة إلى سورية، وحيث سيزيل الحزن من على وجه (جاكلين)، لكن ستبقى في القلب:  غصــــــة ...

8/ 3 /2000

 

أضيفت في 19/06/2008/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية