أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتبة: سلوى الرفاعي

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

أديبة وكاتبة قصة سورية من مواليد مدينة اللاذقية

 

لها عدة اعمال قصصية منشورة:

-بقعة ضوء تحت الرماد (مجموعة قصصية)

-دمي يزهر في راحتك (مجموعة قصصية)

-دنيا مجموعة قصصية (مجموعة قصصية)

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

أهديك صيفا آخر

الاكتشاف

إغفاءة قصيرة

 أحلام بيضاء

التجربة

 

 

أحلام بيضاء

 

 

في غرفتي  الصغيرة أتهيأ للنوم. أتوجه إلى النافذة كي أسدل ستارتها

أنا لا أسدل ستارتها كل يوم, فهي تطل على فناء الدار, حيث زرع والدي ياسمينة, وشتلات قرنفل

أمي لا تحب البيوت المغلقة مثل علبة الكبريت, لذلك لم يتحول بيتنا إلى طابق

في أمسيات الصيف, تشطف أمي أرض الدار, وتعد الشاي التي نشربها, ونحن نستمتع بالبرودة والهواء النقي

 

أمي دائماً تقول بعد أن نشرب الشاي "الله يديم هالنعمة" وهي تتأمل السماء, حيث تومض النجوم بفرح, ثم تنهض لتسقي الياسمين والقرنفل.

اقترح والدي أن يزرع دالية في الحوض الصغير, فقالت: لا, إنها تغم الدار, ثم إننا لن نخلص من النحل والدبابير.

أنا لا أحب الدبابير, لكني أحب الياسمينة. زهرها أبيض مثل الثلج. الثلج الذي أعشقه. لكنني أكره البرد.

إحساسي بالبرد الشديد, دفعني إلى النافذة كي أسدل ستارتها, هي لا تطل إلا على فناء الدار, لكنها كافية لتنقل لي أحوال الطقس.

سمعت نقرات خفيفة على زجاجها, فاعتقدت أنه المطر. لكن ما إن اقتربت حتى رأيت شيئاً آخر. هي ندف الثلج, ترقص في فضاء الدار, بعضها يفلح في ملاصقة زجاج النافذة, يتشبث به قليلاً, ثم ينساح مشكلاً ارتسامات غريبة. القمر يمد أصابعه مراقصاً عرائس الثلج في ابتهاج طفولي.

نسيني النوم فجلست على كرسي صغير قرب النافذة. الثلج المنساح على الزجاج, يلاعبني, ينبعث طفولة, وولادة, وعشقا,ً وحزناً, وفرحاًً.

قالت لي أمي إنني ولدت في ليلة ثلجية, وإنها بعد المخاض مباشرة, جلست على سريرها, وطلبت, أن يفتحوا لها النافذة. عظيمة هذه المرأة, بدل أن تغفو بعد إجهاد الولادة تتوق إلى الفضاء. إنها فعلاً جديرة بالولادة. ربما لهذا السبب وضعت بعدي سبعة أطفال, وما زالت تحتفظ بحيويتها. قالت إنها حين سرحت ببصرها عبر النافذة, ! كان كل شيء أبيض, تذكرت قصة بياض الثلج والأقزام السبعة, فطلبت من أبي أن يسميني بياض الثلج, لكنه أصر أن يطلق علي إسم والدته, ولم تجرؤ أمي طبعاً أن تعترض. إلا أنها مازالت, حين تريد أن تدللني, تناديني يا ثلجة.

 

أنا لا أحب الثلج و(الآيس كريم) قالت لي: عيب البنات لا يلحسن (الآيس كريم) في الشوارع.

كان أخي معنا, مدّ لي لسانه شامتاً, وهو يبتلع آخر لقمة من (ساندوتش الهمبرغر).

عندما دخلت المدرسة, أصبحت زبونة دائمة لبائع المثلجات المجاور لمدرستي.

صرخ أحمد: أيتها المجنونة, سوف تصابين بالمرض, وهو يحاول منعي من التهام قبضة ثلج بيدي, عن حافة أحدى النوافذ ذات شتاء.

سنقضي شهر العسل في الاسكيمو - قلت له - ونبني بيتنا من الثلج. قهقه وهو يمرغ وجهي بكومة ثلج حار: لن نقضيه إلا في أفريقيا, كي تشويك قبائلها أكلة لحوم البشر.

كتب لي في رسالته الأخيرة: مللت هذه البلاد الباردة, أحن إلى حضنك كي أتدفأ.

كتبت له: ليتني إلى جانبك, أدفئك, واستمتع بجبال الثلج من حولك. كم سأحتمل الانتظار؟ كم سيحتمل جسدي مقاومة الإغراء القادم من خلف النافذة؟ وتلك الدعوة الصريحة للانصهار!!

 

 

يدي تمتد لتفك إزار النافذة المعدني, وتلج بشوق إلى فضاء الدار, راحتي للأعلى تتلقى ندف الثلج, فتذوب لفرط حرارتها. على حافة النافذة شكلت حبيبات الثلج قطعة مغرية, تهفو إليها نفسي فأمد يدي أجمعها, أكورها, ألقمها, أحس ببرودتها اللذيذة تداعب دفء جوفي.

 

سأستيقظ غداً قبل الجميع, كي ألاعبهم بكرات الثلج, سأصنع رجل ثلج, أعانقه, وأتصور إلى جانبه وأرسل الصورة لأحمد.

أف ف- يا لجرس الهاتف الملعون, من هذا المجنون الذي استفاق يحلم بالثرثرة؟.

أنفض بقايا أحلام بيضاء عن جفوني, وتمتد يدي كسولة تتناول السماعة - إنها أمل - أيتها الشقية, دائماً تهتفين في أوقات غير ملائمة. ما الذي أيقظك باكراً في هذا العصف؟ قاطعتني: انهضي يا كسولة, لتري قمة قاسيون ما أبدعها, إنها مكسوة بالثلج تماماً.

ظاهرة لم تشهدها دمشق منذ سنوات.

 

إلى السطح سبقني فرحي, أجراس كنائس, وغناء حساسين, ألعاب نارية تتشابك في قبة السماء, بالونات, وشرائط وأوراق ملونة, تتطاير في فضائي, إلى أن صرت هناك, مشتعلة بتوق وهاج لمصابحة قمة بيضاء, مثل الياسمين, مثل الفل, مثل طرحة العروس, مثل كل الأشياء البيضاء التي أحبها. لكنه كان هناك ينتظرني, رابضاً كالموت. رمادياً كالحاً, يرمقني بعينين صوانيتين, كحجري الرحى.

إنه جدار البناء المجاور, الذي ارتفع أمام بيتنا في  الصيف الماضي, وكنت لشدة لهفتي قد نسيت.

 

 

إغفاءة قصيرة

 

 

 

تلك هي النافذة, تصفقها الريح. زجاجها المحطم يلتمع في ضوء الشمس

ألملم أجزاء جسدي المبتل, وأرتد إلى فضاء رحب, ولأمواج تهدي لي وحدي على شاطئ بالأمس فقط لم يكن مهجوراً

قال: سنحتفي بذكرى حبنا بطريقة خاصة

قلت: البحر

قال: يذهبون إليه في الصيف

قلت: سنذهب برفقة المطر

قال: يرتدون الثياب الثقيلة

قلت سنتخفف منها ونشعل الحرائق

شدني من ذراعي وركضنا صوب البحر

 

ربما أمس, أو أول أمس, على هذه الصخرة الملساء أو تلك, ساهرنا ليل شفيف, وزجاجة نبيذ, تناوبنا على تقبيل عنقها, وتسامرنا مع القمر, من لحظة توهجه حتى غيابه.

تكلم البحر فينا, تأملت صفحات وجهه كثيراً, ابتسم هيا, إنه ينادينا.

- أشعر بالرهبة

- ضحك وأنا معك؟

- ماذا لو ضيعتك في الظلام؟

 قبَّلَني: عيناي ضوئك

دفعني أمامه إلى حضن الموج.

 

لم أكن أتقن السباحة. فتشبتثت بعنقه واستسلمت. قادني إلى حيث العمق, أحسست بدفء الماء ويداه تشدانني إلى جسده.

قال: خطر لي خاطر مرعب. ماذا لو افترقنا؟

- لن نفترق

قال: إفرضي ذلك.

- : لن تكون عادية نهايتنا. ولن أبدو كامرأة متفهمة تؤمن بالظروف الموضوعية, والضرورات.

قال: لكنك لن تقذفيني بالنعوت السيئة وترمي علّي اللوم, وتصوريني وحشاً بشعاً استغلك لأجل متعته ثم رمى بك إلى الرصيف.

- ربما أفعل

قال: لا أصدق.

- قدماي لا تصلان القاع, قدني إلى الشاطئ.

قال: أفكارك سوداء.

أوهمتني أمي ذات مرة أنها تقرأ أفكاري في عيوني وعندما كبرت اكتشفت سر خديعتها. أما أمامك فأنا شفافة نقية. أقرؤك ما في عيني بإرادتي. أجلو أفكاري كما جسدي. أغلغل إلى عمق دماغي وأحشائي دعنا نخرج, بدأت أرتجف.

تراخت يدي من حول عنقه فعضني الماء. صرخت وابتلعت شيئاً منه.

شدني من شعري إلى الشاطئ.

***

في الطريق إلى (الشاليه) وأنا متكئة على زنده فكرت: لماذا تزداد هواجسه في لحظاتنا الحلوة؟ فكرت أيضا: ماذا لو هجرني؟.

اصطدمت قدمه بحجر فكاد أن يقع، لم يسبق أن خطر ببالي ذلك, أن يتركني؟! ليته يموت بدل أن يفعل ذلك.

أغلق باب (الشاليه) وسبقني إلى غرفة النوم, كان شاحباً.

قال: أحس بالبرد وبخدر في أطرافي.

قلت: ستتحسن بعد حمام ساخن.

أحب دائماً أن أسبقه إلى الفراش وأترك عليه مهمة إطفاء النور,لكنه لم يفعل. تركه مضاءً وتبعني.لم يكن بلهفته التي اعتدتها. لم يداعبني, استلقى إلى جانبي صامتاً.

اعتقدت أن حديثنا أصابه بالاكتئاب. حاولت أن ألطفه, أزاحني عنه بهدوء, كان لا يزال شاحباً.

- سأعد لك شرابا ساخناً.

رفض وأبقاني إلى جانبه بإشارة من يده.

قال: إنني, إنني ولم يكمل. شخص ببصره.

لا تمزح, لا تمزح, لا أطيق هذا المزاح, تمتمت, اقتربت منه.

يداه باردتان, حاولت أن أعدل جسده كي يستوي في الفراش, كان جسده ثقيلاً جداً, ابتعدت عنه, نظرت في عينيه. ربما حزن , ربما خواء أو ألم, فمه منفرج قليلاً, وكأنه يريد أن يقول شيئاً.

لكن الكلمات نامت على شفتيه, لم أفهم بعد, أو لا أريد أن أفهم.

هل هو الموت؟ تلّفتُّ حولي, بمن أحتمي؟

أهذا هو الموت؟ وبكل هذا الهدوء, بلا أسباب وبلا مقدمات؟

لا.. ليس بهذه السرعة. هززته, توسلته أن ينهض.

وعدني مرة أن لا يموت قبلي, لماذا يحنث بوعده, لماذا لا يكلمني. هززته, توسلته أن ينهض.

وعدني مرة أن لا يموت قبلي, لماذا يحنث بوعده, لماذا لا يكلمني. لينظر إلي, ليفعل أي شيء, ليتركني ويمضي إن أراد, ولكن هل بوسعه أن يريد؟ هو الآن في مكان آخر لا أعرف طريقه.

أنهض إلى النافذة. الشاطئ خال وكئيب, قمر صغير يتوارى خجلاً خلف غيوم رمادية والليل كهف حالك يحاول ابتلاعي.

أغلق النافذة, وأسقط معه في الخواء.

 

هي إغفاءة قصيرة, سيقوم بعدها ويقبلني, ثم يجبرني على إعداد القهوة. كم تمنيت لو يعدها مرة, ولمَ يفعل؟

سأعدها أنا, وسيعوضني بابتسامة.

ليست سوى إغفاءة فلأحضنه وأنام. أترك النور مضاءً كما رغب, أنسل إلى جانبه, إنه بارد قليلاً, لا بأس, أدفئه بحرارة جسدي.

لكنني أرتعد, ماذا لو كان فعلها حقاً؟,ماذا؟!.

يا رب الرياح والشمس, يا رب الموت والحياة, يا رب الغضب والسلام, يا رب النور والظلام, يا رب الحب والخصب, أيتها القوى جميعاً, الشريرة منها والطيبة, التي أعرفها والتي لم أسمع بها, أتوسل ألا تتركوا البرد الشنيع يخترق عظامه. لا تدعو عينيه تائهتين في ذلك الخواء الرهيب. هل له بشيء من الدفء يا رب؟, بشيء من حياة؟!.

 

*****

هل غفوت؟ هل جننت؟ أم أنني في كون آخر, أسبح في فضاء هلامي, يغمرني نور ساطع, تطوقني موسيقى قادمة من أعماق أغوار سحيقة, أطياف تتماوج من حولي, تدنو مني, تتفحصني بنظرات حيادية ثم تبتعد, أتساءل: لماذا أنا هنا؟.

صوت يجيب: هل نسيت توسلاتك, من أجل حبيبك الذي فارق الحياة؟!.

إننا مشفقون عليك, لذلك سنعيده, شرط أن تموتي بدلاً عنه أو نستعيده.

فتحت فمي كي أستفسر, أسكتني نفس الصوت مضيفاً: لا جدال خذي هذه الزجاجة, قطرة منها تحييه - إن أردت - وأخرى لك كي تموتي, لا وقت طويل للاختيار, وإن تأخرت سنسترجعه.

*****

الزجاجة على الطاولة, ترقبني, تترصد حركاتي وأفكاري. تناولتها بلهفة. حتماً أريده أن يعود, مازال هادئاً كطفل وديع, نقطة واحدة تكفي, هكذا أخبروني.

تململ قليلاً ثم فتح عينيه ببطء. سألني: هل نمت طويلاً؟ لم أجبه, كنت أرتجف. شدني إليه, قبلني, طعم القبلة بارد, لم أبادله إياها, حتى أنني لم أضمه بلهفة كما اعتقدت أنني سأفعل حال استيقاظه, بل ابتعدت عنه قليلاً.

- تعالي, هل أنت مريضة؟

لكنني أمعنت في الابتعاد, كأنني ما زلت أنظر إليه ميتاً.

- لماذا ترتعدين؟ هل حدث ما روعك وأنا نائم؟

لم أعد أسمعه. أصداء أصوات عنيفة ودوار. إما أنت أو هو!!

رمقت الزجاجة بطرف عيني. ضبطني فانتبه.

- ما هذه الزجاجة؟ ومد يده كي يتناولها.

لا تمسها صرخت.

أعاد يده متأثراً بصرختي.

هل آخذ القطرة؟ كيف هو الإحساس بالموت؟ لم أفكر بهذا من قبل. الحياة بكل صخبها سرقتني من لحظات التفكير به. كان علي أن أجد وقتاً أتهيأ فيه لمثل هذا الموقف.

ليتني أجرؤ أن أفاتحه بالأمر. ماذا علي أن أفعل الآن؟

لِمَ أودعه وليمت منا بعدها من يموت.

اقتربت منه, طوقته بذراعي, همست في أذنه: أرغب أن نعيش طقس عشق جنوني.

لا بأس - قال - وهو يبعدني عنه بلطف: ولكن ليس قبل أن أفهم ما بك!

- حسناً, ماذا كنت ستقول لي بالأمس قبل أن تـ .. قبل أن تنام؟

- لا أذكر, كنت متعباً قليلاً, ربما كنت سأطلب منك إطفاء النور. لماذا تركته مضاءً؟

- لكنك رغبت أن تقول شيئاً آخر, كلمة وداع ربما, أو وصيه. لابد أن رغبت أن تقول شيئاً من هذا القبيل.

- تهذين, وكأن أحدنا سوف يموت.

- لكنك بحكم المـ.. وتجمدت الكلمة على لساني, هل اخترت؟

ما أقساني, ما أقساني! عقارب الساعة تتراجع إلى نقطة البداية, راقبت عقرب الثواني يدور دورة تامة.

فتح فمه كي يقول شيئاً ما, لكن صوته غاب. غابت معالم الأشياء, تراخت يداه, نظراته تسبح في خواء رهيب.اقتربت منه بهدوء. مددته على الفراش, غطيته خشية البرد.

تذكرت الزجاجة. طوحت بها عبر النافذة, فهشمت الزجاج.الزجاج الذي يلتمع الآن تحت أشعة شمس دافئة.

قفزت من النافذة؟ مطر غزير. تعثرت خطواتي على رمل الشاطئ المتوحد بصمته, ليل أسود وعويل رياح, أطياف تراقصني وأشباح تتقاذفني وترميني على صخرة. نفس صخرة الأمس, أو أول أمس.

حضنتني الصخرة, هل طبعت على جبينه قبله. هل تبادلنا الحب على هذه الصخرة في كل مكان؟ هل رغبت له أن يموت؟ هل كان سيهجرني لو لم يمت؟ هل أنا حزينة؟ هل أنا أنا.. أنا..

******

أتحسس جلدي, أشعر بدبق ولادة ما. أسمع وجيب قلبي تك تك تك,كما صوت هذا المطر, على الصخرة التي تحضنني.

بهجة تغمرني, لأن جسدي دافئ, فأنا لم أمت إذن, لم أمت.

أقف, أمشي, أجرب صوتي, أصرخ, أصرخ, أغني, أقفز.

لكن هل أجرؤ على الاقتراب من تلك النافذة التي يلتمع زجاجها المكسور؟

أمشي خطوة. أقف, أتردد هنيهة, أستدير, أدندن لحناً لأغنية ما, فرح سري يجتاحني, أطلق ساقي للريح.

 

 

الاكتشاف

 

لم تكن سوزي رائقة المزاج ذلك المساء، فهي مضطرة للخروج بالبنطال، وهي التي ترغب دائماً أن تلبس تنورتها القصيرة لتبرز جمال ساقيها. أما لماذا لبست البطال، فالإجابة واضحة، ومع ذلك نستطيع أن نحدس السبب، فلا شك أن شعر قدميها قد طال إلى الحد الذي أجبرها إلى إخفاء ساقيها.‏

أغلقت باب دارها بعصبية، ولم تأخذ الطريق المعتاد، بل انحرفت جهة اليسار حيث يقبع بناء ضخم تحيطه حديقة كبيرة مسورة بأسلاك شائكة، ولا بوابة سوداء ثبت في أعلاها لافتة كتب عليها بأحرف بيضاء "مستشفى الأمراض العقلية" ويقبع أمامها حارس كسول.‏

اعتادت سوزي أن تختار هذه الطريق كلما أحست بالملل.. تتوقف أمام البناء وتراقب المجانين من خلف السور.. وربما تتبادل معهم الحديث من أجل التسلية، حيث لا يأبه الحارس العجوز لتصرفات نزلاء المستشفى.‏

انتبهت سوزي إلى أحدهم، وكان يبدو أنه نزيل جديد، يهجم على ملابس زملائه وهي عبارة عن جلابيات زرقاء، يرفعها، يحدق بأقدامهم ثم يركض وهو يصرخ فزعاً، ثم يعاود المحاولة.‏

 

لامست سوزي سور الحديقة فانتبه إليها واقترب منها بحذر... حدق فيها طويلاً واستقرت نظراته على قدميها، وفجأة صرخ بها ارفعي بنطالك، ابتسمت سوزي في سرها واعتقدت أنه لابد أنه رأى ساقيها الجميلتين في إحدى المرات التي كانت ترتدي فيها تنورتها القصيرة وتمنت لو كانت ترتديها الآن، فحتى المجانين يلاحظون جمالهما. اعتذرت بغنج لأن بنطالها ضيق ولا تستطيع تلبية رغبته، خفف صوتها الهادئ من توتره فقال: لا بأس إذن اخلعي حذاءك فامتثلت زيادة في التسلية. نظر إلى قدميها، كان الجوربان يغطيانهما تماماً اخلعي جوربيك. أجابت: آسفة لا أستطيع فهما يمتدان كثيراً تحت البنطال.‏

قال: على كل حال لا يهم.. يبدو أنك "منّا"... سأخبرك سراً بسر ما.‏

ازداد فضول سوزي لمعرفة السر فاقتربت أكثر ومدت يديها من بين الأسلاك وأمسكت براحتيه لتشعره بالاطمئنان، بينما بدأ هو يتلفت حوله، وانطلق صوته هامساً متهدجاً: اسمعي... هناك... يوجد في المدينة أشخاص... كلا ليسوا أشخاصاً... لا أستطيع أن أبوح بأسمائهم..‏

أخاف أن يسمعوني... يعلم الله ما سيحل بي... يوجد... يوجد..‏

لا بأس قالت سوزي.. لا نذكر أسماءهم ولكن أخبرني ماذا حدث معك.‏

 

قال: حسناً لنبدأ من البداية. أنا سيائق كميون.. ف ف ف.. وحرك يديه من يقبض على مقود سيارة.. أسافر من مدينة إلى أخرى. أنقل البضائع. وأحب الحكايات، كما أنني أحب النساء ولا أمانع أن ترافقني إحداهن إلى أحسن مطاعم المدينة كي نتعشى ونستمتع بوقتنا. هل أنا مخطئ...‏

 

أجابت سوزي.. كلا.. إذن حين أخرج من هنا أنت ومن سيساعدني سأدعوكم إلى أحسن مطعم في المدينة، هل لديك مانع، قالت سوزي وقد بدأ الملل يتسرب إلى نفسها، كلا... ولكن أخبرني أولاً ما هي قصتك...‏

 

نعم.. نعم.. يبدو أنك مستعجلة يا سيدتي.. أين كنا.. آه كنت قادماً تلك الليلة إلى مدينتكم، من طريقها الوعرة.. وكل طرقها وعرة.. وكان الطقس عاصفاً وماطراً وكدت أنحرف بسيارتي إلى الوادي عدة مرات، وبدأت أشعر بالخوف.. وفجأة برزت فتاة في منتصف الطريق، كانت تلوح بيديها وتطلب مني الوقوف. فتوقفت، وطلبت مني أن آخذها في طريقي إلى المدينة ففرحت.. هاهي فتاة ساحرة، سترافقني بقية الطريق، وستنسيني مخاوفه وربما تقبل دعوتي إلى العشاء... خلعت معطفي ودثرتها به، قدمت لها شراباً دافئاً ورحت أغني وأنا أقود سيارتي فرحاً... لهذه المصادفة الحلوة.‏

 

بعد وقت ليس بقصير أردت أن أتبادل معها بعض الحديث، نظرت إليها بطرف عيني كانت تلقي برأسها إلى الخلف، فاعتقدت أنها نائمة، ولاحظت انحسار تنورتها القصيرة عن ساقيها... فقلت لنفسي استمتع يا ولد.. منذ زمان لم تر اللحم الأبيض... امتدت نظراتي إلى ما فوق الركبة ثم إلى ما دونها، وقبل أن أعود بنظري للأعلى لاحظت شيئاً غريباً عند مشط قدمها... أقصد ليس عند مشط قدمها... ماذا أقول... لم يكن لها مشط قدم.. لا تصدقينني؟ نعم لم يكن لقدمها مشط... لست مجنوناً لقد شاهدت شقاً فوق قدم غضروفية... وكان لها ظلفان أيضاً... كانت قدم ماعز.. ظننت نفسي أتخيل، لم أعرف كيف مددت يدي إلى قدمها كي أتأكد مما أراه... وفعلت، وعرفت نظرت إليها... كان ينطلق من عينيها ضوء أزرق.. وعلى وجهها ابتسامة صفراء... صرخت من الفزع، تركت الكميون وقفزت... ما عدت أريده وهو كل ما أملك في هذه الدنيا... قفزت هارباً أريد النجاة بنفسي وبينما أنا في هذه الحال التقيت برجل، فرحت، شعرت بشيء من الأمان، هاهو أنسي مثلي سأحدثه بقصتي، ربما ساعدني. بعد أن أخبرته ضحك وخلع حذاءه ثم سألني هل كان لها قدم كهذه..كهذه؟ صرخت نعم كهذه وركضت بأقصى سرعتي وصت قهقهته يلاحقني... لا أعرف كيف وصلت المدينة، كان علي أن أخبر أي شخص بما رأيت، ويستحسن أن يكون ذا مرتبة من نوع ما ولم أجد أمامي سوى شرطي السير، ورغم الازدحام وزعيق السيارات، كنت مصراً أن أخبره عما شاهدت على تخوم المدينة، فربما يوجد منهم الكثير، وهم يهددون المدينة.... سمع جزءاً من روايتي ولم ينتظر الباقي لكنه خلع حذاءه الطويل وسألني. هل كان لهما قدمان كهذه... نظرت في عينيه.. الضوء الأزرق الرهيب نفسه كاد أن يحرق وجهي، صرخت وركضت.. ركضت.. هؤلاء الـ (....) هل بدؤوا غزو المدينة... علي أن أسرع إلى أقرب مخفر شرطة.. لأحذر السلطات العليا.. أين هو المخفر لم يسبق لي أن دخلت مخفر الشرطة هنا.. ورحت أستوقف كل من أصادفه في طريقي لأسأله وكذلك لأحذره من الغزاة الجدد وكلما أوقفت أحدهم لأسأله وكذلك لأحذره من الغزاة الجدد ولكما أوقفت أحدهم لأسأله كان يشمر عن قدميه ويسألني "مثل هذه؟!.. مثل هذه.. يخلع الجميع أحذيتهم يرقصون في الشوارع يقهقهون.. يرقصون، يتعرون... رأيتهم بعيوني يأكلون الأطفال... يقطعون أشجار الحدائق يشعلون الحرائق في كل مكان. السيارات تمشي بالمقلوب، شرطي السير يضاجع فتاة تحت شارة المرور، بلدوزرات تحفر الشوارع تهدم البيوت، الدخان والغبار يملأ المكان يملأ عينيّ: أنفي..‏

 

وأولئك الـ (..) يرقصون، يأكلون الأطفال يرقصون ويلوحون لي بأقدامهم أقصد بأظلاف الماعز.. ويقهقهو.. انظري انظري إلى ظهري وصدري.. هذه آثار رفساتهم وركلاتهم... لكنني ظللت مصراً أن أجد مخفر الشرطة... رحت أركض وهم يلاحقونني.. إلى أن وجدت المخفر فاندفعت، وكان الوقت مازال ليلاً... ليلاً حالكاً. كان معظم أفراد الشرطة قد خلعوا نعالهم وألبستهم الرسمية واسترخوا فوق الفراش، وقبل أن أخبرهم بما رأيت نظرت إلى أقدامهم... أقصد أظلافهم... كانت جميعها مشقوقة من الأمام وذات غضروف ضخم، لكنها تتميز عما رأيت من أظلاف أنها جميعاً دقت في أسفلها حذوات معدنية.. وبدل الكلام هجمت على أول بندقية في متناول يدي، لأحمي نفسي، وأطهر ذلك البناء الرسمي من هؤلاء الـ (....) لكنهم تكاثروا علي وقيدوني... وانهالوا علي ضرباً... وعندما أفقت من غيبوبتي وجدت نفسي هنا... في هذا السجن.. غير قادر أن أفعل شيئاً وأحاول أن أرسل إشارة للسلطات العليا، قبل أن يستفحل أمرهم.. فهل تساعدينني أرجوك.‏

 

ابتسمت سوزي بهدوء، وابتعدت قليلاً عن سور الحديقة.. ووعدته أن تساعده. عاد وأكد عليها أن تكتم الأمر حفاظاً على حياتها، وتوصل السر إلى السلطات العليا.. فوعدته وانطلقت عائدة أدراجها إلى البيت.‏

 

بعد دخولها مباشرة وضعت قليلاً من السكر في مقلاة، أضافت إليه بعض الماء والليمون واستمرت في التحريك. وحين حصلت على قطعة لينة متماسكة، خلعت بنطالها وألصقتها على ساقها، وبينما راحت تقبع قطعة السكر التي التصقت بكمية كثيفة من الشعر الأسود ابتسمت وهي تنظر إلى مقدمة قدمها المشقوقة وإلى ظلف خشبي ملون في نهايتها وتمتمت: يا للمجنون المسكين.‏

 

 

 

أهديك صيفاً آخر

 

أهديك صيفاً آخر، صيفاً واحداً فقط. تفرست في عتمةِ عينيه مروعة من الضجيج. ثمة طائر أزرق صفق الأفقَ بجناحيه. لو كانت الأمور أكثر شفافية لتحدثا عن الطائر والمدى. في الأعماق ابتلعت سمكة كبيرة قافلة أسماك صغيره. رائحة صيف نفاذه تلتصق بالزجاج المغبش.‏

"أتنفس مثل جبل" استرسلت مع الفكرة. لم تكن مهتمة بالرجل الذي أهدته صيفاً آخر وهو محملق في الفراغ. رأسها مثل ضباب بدأ يتبدد. بدايات النهاية، فكرت.. نظرت إليه عبر الضباب، في الهواء رائحة واخزة، رائحة خيانة ما. ربما لم تحدث واقعياً، لكنها غزت خاطره ولو لوهله، وإلا لماذا تشقق جلد وجهه؟ لماذا نبرات صوته ثقيلة وظالمة.‏

 

ـ حمقاء وغبيه! انظري في المرآة، عيناك مطفأتان. تذكرت لقاءاتهما الأولى على سرير المرض حين كانت تراه رجلاً قادماً من بلاد النار، حاملاً في عينيه سرير الشهوه، بكت على كتفيه وانتابتها الرغبة أن تستلقي على ذلك السرير العالي الجاف عارية من كل الأقنعة، حين داهمها السؤال فجأة: لماذا أنت مستعجل أبداً، تود أن تلتهم الحياة التهاماً؟ تلك اللحظة كان المنظر يبدو سخيفاً. امرأة نصف عارية تثرثر وطبيب يدلك يدها المعطوبة ولا يفلح في جعلها تسترخي، ثم فجأة وبانحراف صغير يحدثه بإبهامه يجعلها تصمت وتسترخي تماماً، ثم يطبع قبلة خاطفة. عندها فقط ارتسم على وجهها سؤال الحيرة الذي سيلازمها طيلة حياتها.‏

حاولت أن تخاطبه بلغة الزهور مرة، وبخبث راقبته كيف يتعامل مع المسألة. اكتشفت حياديته تماماً، ولم تلحظ انبهاراً في عينيه لأجل باقة أمضَت ساعاتٍ تنسقها بيدٍ واحدة.‏

واجهته بقسوة، قالت له: أنت تحب تدمير أشياء صغيرة حلوة لدى الآخرين، في لحظة عابرة، هل تعرف أي ألم ينتاب المرء أن يكون ابن لحظة عابرة تمضي وهو يتمنى أن تدوم؟‏

تبتسم! أحاولت مرة معرفة سر الطبيعة والبشر كطفل بلا خبرة؟ كتلك الزهرة التي نمت على طرف قلبي مرة تنتظر قطرة ندى فقتلتها السيول الجارفة؟‏

ـ ما رأيكِ أن تتحللي مني حتى لو ارتكبتِ المعصية الكبرى‏

كلامكَ يشبه الرماد.. لو قليل من المطر.‏

أحست بالشلل، عادت إلى فكرتها "أتنفس مثل جبل". تذكرت قصصاً عن أناس صادقوا جبالاً، بل هي نفسها صادقت مرة جبلاً. أصغت إلى همهمات بطنه، وشمت فيه روائح بشر. نامت في طيات مغاوره، سمعته ينوح ويبكي، تجرأت أن تدخل أحلامه. كانت أحلام رجال يحنون إلى موائد طعام حولها زوجات وأطفال، يتمنون حيوات هانئه وسهرات حول كانون شتوي، وأباريق شاي. في الصباح أيقظتها مواويل وعَتابات تستقبل خيوط الشمس الضئيلة. قيل لها فيما بعد إن في بطن الجبل معسكر اعتقال، لكنها أبت أن تصدق واحتفظت للجبل بذاكرة خاصة.‏

رددت: أتنفس مثل جبل. أنا حبلى بأوجاع الكلام.‏

استسخف الفكرة وابتسم هازئاً، ملاحِظاً الهالات الزرقاء المنزرعه حول عينيها.‏

ـ "تفقدين تألقك". لم تهتم بموضوع التألق، لكنها ودت أن تخبره أنها تحب تلك الصفرة الخفيفة التي صبغت سحنته نتيجة الإعياء. واعترفت لنفسها أنها تفضل الرجل ذا الملامح المتعبة.‏

كيف تبدأ النهايات؟ أهي كالزلازل وانكسارات الصخور تفاجئك بغتة؟ أم كالبراكين يسبقها الدخان؟ أم هي موت يتسلل صامتاً يختلس منك أنفاس الحياة ثم يختفي؟‏

فكرت: إن النهايات أصعب من البدايات رغم أنها واقعياً أكثر سهولة لأنها حتمية.‏

قال لها: أنذرك!! هذه فرصتك الأخيرة معي...‏

أحبت أن تفلسف الأمور، سألته لماذا لا نختصر هذه الحرب؟ أم ينبغي علينا أن نموت إنما بكرامة كما تفعل الجيوش الغبية؟ الخاسر محدد سلفاً، لكن لا بد من المعركة. والمضحك أن الرابح هو من يصر عليها كي يستمتع بلذة الانتصار.‏

 

هناك بلاهة ما تسيطر على المائدة. طلب لها أفخر الطعام مضغت الطعام كمن يلوك جلد ميت.‏

ـ لم لا تأكل؟ أجبر نفسه على تناول لقمة لم يبتلعها. ودت لو تطيح بكل الأطباق. مطت قطة رمادية رقبتها من النافذة فضربتها بالملعقة على رأسها بلا شفقه، ثم تابعت أكلها بكل رصانه بالملعقة نفسها.‏

تمنت لو أنهما يأكلان الآن أقراص الفلافل في الشارع كما كانا يفعلان سابقاً. لو تمتطي واحداً من قوارب السباق تلك فينقلب على رأسه ويبتلعها حوت.‏

قال لها: أصبحت امرأة مشوشة. زمنك مرتبك.‏

نظرت إليه طفلاً عمدته مرة بماء عينيها. كان كالصيف يلوح تارة ثم يختفي.‏

أدارت ظهرها للأمواج. أوغلت في صمت جبال بكر. احتمت بسكونها لئلا ترتمي في الضجيج. على يمينها مدينة: ضجيج فناء. على يسارها بحر: ضجيج أبدية. اختارت قمة نائية. تتمعن في الوقت. يعبرها الضوء فترده من القطب إلى القطب. تتفحص جسدها خلية فنبضة، وزفراتها، لا تذرف الدموع. تنظر إلى السماء بعينين جامدتين. تفرك التراب براحتها. تستحضر كل الأرواح التي عرفتها ولو لمرة ولو لخاطرة ولو لمنام. لن تصرخ، لأنها فقدت صوتها الذي كان علامة موائمة للعشق، الرياح تعول بدلاً منه. تصغي لنبض الحجر. ترفض ضياء قمر خجول. سترسله إلى البشر المنشغلين بالصيد فهم يحتاجونه لينسكب مرايا على صفحات الماء. باحثين عن الأوهام الصغيرة. ستكتشف على تلك القمة بساطة الأشياء في ألوانها الترابية. مازالت تبتسم! أشم رائحة اهتراء. رائحة تقول لي أن بوابة النجوم ليست سوى رحلة في ضباب محطات الانتظار وطرقات السفر، ليست سوى قلق سخيف، صداع وعمى، تقود إليها خطوات مرتبكة في بحث غير مجدٍ بين أوراق صفراء وأشرطة موسيقى ورنين أقداح... سأترك هذه الأطباق من أجل القطط.‏

 

السكون يلف كل شيء. قطع ثلج ذائبة تسقط عن إفريز نافذه أو غصن شجره، ثم يعود الهدوء. واجهتها مرآتها المتجمدة. قالت للمرأة التي أطلت عبر الزجاج: مع كل هذا الموت الأبيض لا شيء يمنع إضافة موت آخر. موت تافه وحقير كالذي حصل في قلبي.‏

 

حملت جثثاً صغيرة لألوان قوس قزح، لأمواج البحر، لذاكرة ترمدت. وارتهم صدر المرآة قبل أن تحولها شظايا. توجهت إلى زاوية الغرفة. جثت أمام قبر أزرق لرجل تعمد مرة بماء عينيها، قرأت عليه ثواني يومها. رسمت على شاهدته أحلامها. كاشفته بوجل بما خطر وبما لم يخطر على بالها. تناسلت من رحمها آلاف النساء يحطنه بالعطف والغناء. ضمته إلى صدرها تسبِّح في ملكوته. حضوره اللامرئي يملأ عليها المكان. روحها تتحول إلى زبد. تتكئ على صدره ثم تغفو.‏

 

 

التجربة

 

في مرج شقائق النعمان وجدوها مسجاة، أسراب الحمام تهدل حولها وتنقر الحب الذي رشته للتو. أغمضت عليا عينيها وانطوت على جسدها غريبة ووحيدة كما كانت في كل الأوقات، لا تملك عنوان أهلها. لا ينتظرها شخص بعينه. لا أحد من ملتها يقيم صلاة لأجل راحة نفسها.‏

 

أهل قريتنا لا يعرفون إلا صلاة واحدة، تردد الشيخ كثيراً قبل أن يقيمها، حين أهالوا عليها التراب تلوت في سري كلمات كنت أسمعها ترددها: إلهي الذي في السموات ليأتي ملكوتك أغفر لنا ذنوبنا ولا تدخلنا في التجارب. كلبها الأعمى عوى عواءً حزيناً لم يتوقف صداه، ونبعت دموع تحت جفنيه المسبلين.‏

قلت لجدتي: كلب الغريبة يبكي. زرّت جدتي عينيها الرمداوين هامسةً:‏

للكلب روح أيضاً وهو يشعر مثل المؤمنين منا بقلبه ولا يعتمد على عينيه حتى لو كان مبصراً.‏

مات الكلب بعد أيام. ودفناه نحن الأطفال في حفرة مجاورة لقبرها. وصرنا نزور القبرين ونزينهما بالزهور البرية إلى أن كبرنا ونسينا درب المقبرة.‏

كل ما تبقى من عليا وشاح أزرق، رافقني في طفولتي وما زلت أحتفظ به بين أشيائي العزيزة. قالت لي: خذيه يا ابنتي، هذا الوشاح من جدتي، سيحميك من الشرور.‏

سخرت مني أختي وأنا أكدس أشياءَ اعتبرتْها لا تلزمني في سفري إلى البلاد الغريبة.‏

قلت لأختي: أخاف أن أواجه الغربة بلا ذاكرة.‏

تغير صوت هدير الطائرة، وأعلنت المضيفة عن نهاية الرحلة وهنأتنا بوصولنا سالمين.‏

وقفت كما كل المسافرين أمام جهاز يدور ويدور وينقل الحقائب لأستلم حقيبتي.‏

الازدحام شديد ولا أجد لقدمي موطئاً. شاهدت الحقيبة قادمة. بلهفة جاهدت كي أتناولها. لكن رجلاً فظاً انحنى أمامي ينقل عدة حقائب منعني من الوصول إليها فعادت من حيث أتت. انفض الجمع قليلاً فاقتربت لأتلقفها في الدورة الثانية. انتظرت طويلاً. تناول الجميع حقائبهم وغادروا. لكن حقيبتي لم تعد. أدور حول الجهاز، لا أثر لها. الفراغ يصدمني. لا شيء، لا شيء. الجهاز يتوقف عن الدوران وأنا ما أزال واقفة أحدق في الخواء.‏

 

تراجعت إلى الوراء، تهالكت على مقعد. تلفت حولي. الموظفون منشغلون، المسافرون اختفوا من القاعة. تشبثت بيد المقعد هل يحدث أن تضيع حقيبة في مطار؟ علي أن أبلغ الموظف، أدقق النظر في الورقة التي ناولني إياها لأكتب اسمي رقم هاتفي وعنواني الذي سأنزل فيه ومحتويات الحقيبة الضائعة. عدت إلى المقعد الذي لا أعرف غيره عنواناً فدفتر عناويني وهواتفي في الحقيبة.‏

 

كتبت: هل ستعوضون تميمتي الزرقاء التي علقتها أمي على رداء طفولتي كي ترد عني شرور العين والحساد. دميتي التي صنعتها من قماش رفيقة لسهري ونومي.‏

 

مصحفي الصغير الذي دسته جدتي تحت وسادتي ليبعد كوابيس الليل وأشباح الظلام عني.‏

 

حكاياتها ورائحة الهال في قهوتها وطعم البلوط المشوي على جمرات كانونها والخبز الساخن في طابونها. أصدافي التي جمعتها في أول رحلة للبحر حيث وقفت ذاهلة أمام زرقته ونسيت الكلام. دفترَ أشعاري وأسراري الذي خبأت فيه نجمة انتظرتها في الصباح.‏

 

جدلت من ضفائرها حكاياتي، أعطيتها التماع الزهر في شفتي ومن عيني بحراً. لففتها بمنديلي أهديتها لولد عيناه سوداوان كان يجمع لي الحصى الملونة من قاع النبعة، صور لصبيان وبنات خربش الزمن خطوطاً صفراء على سوادها. وشاحَ عليا الذي خبأتهُ ليومٍ أقفُ فيه عارية العنق كي يدفئني ويعبقَ بضوع تراب تعشقناه وجبلناه أنا وعليا بأنفاسنا، قلت للموظف: تفضل يا سيدي، ردوا علي ملامحي فأنا الآن بلا ذاكرة ولا حقيبة.‏

 

تشوه وجه الموظف بنظرة استخفاف، حذرني إن لم يجدوا الحقيبة فلن يعوض علي بمبلغ محترم لقاء أشياء تافهة.. تركته يتكلم، توجهت إلى المقعد، تحسست مسنده الخشبي، لذت به، تجمعت على نفسي، أغمضت عيني، أصغيت لعواء كلب بعيد لم ينقطع صداه، أتاني الخوف صامتاً، متشبثاً بيد عليا، وعليا تركض خلف وشاحها الأزرق الذي تطيره الريح. أحكم الخوف إغلاق نوافذي.‏

 

أحتار في الدمعة التي سقطت في يدي، أخبئها في جيبي، يتغلغل الخوف في عينيَ. أخاطبه لا أنتظرك، لا أنتظر أحداً. هذا المكان لا يخصني. أبتهل ربي، أبتهل رب عليا. من أعماقي يتردد صوتها: إلهنا الذي في السموات، ليتقدس اسمُك ليأت ملكوتُك، لتكن مشيئتُك التي في السماء كذلك على الأرض. أعطنا خبزنا كفاف يومنا اغفر لنا ولا تدخلنا في التجارب... آمين، يمتلئ مقعدي بشقائق النعمان ذوات الخدود المجروحة وانحني باحثة عن بعض مني فيما بينها.‏

 

أضيفت في15/02/2006/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية