أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 02/09/2022

دراسات أدبية - أدب الطفل / الكاتب: د. سمر روحي الفيصل

أدب الأطفال وثقافتهم

 إلى صفحة الكاتب

لقراءة الدراسات

 

 

الدراسات

قصص الخيال العلمي 

تربية الإبداع الأدبي

 أدب الأطفال

المقدمة 

القراءة والترجمة واللغة 

ثقافة الأطفال

الثقافة المستقبلية

 

 

 

أدب الأطفال وثقافتهم قراءة نقدية

بقلم الكاتب: د. سمر روحي الفيصل

 

مقدّمة

 

لا أشك في أن أسئلة أدب الأطفال وثقافتهم انتقلت من المعالجة الوصفية والتاريخية في السبعينات إلى المعالجة النقدية في أُخريات التسعينيّات. فقد كنّا - في بداية السبعينيّات- نبحث عن صيغ تضمن الاعتراف الرسمي والشعبي بهذا الأدب الوليد، ونجهد في أن ننقِّب عن تاريخه، وصوره التراثية، وجهود روادَّه، ووسائله المقروءة والمسموعة، وترسيخ أجناسه وتحقيق التوازن بينها وتشجيع الأطفال على الإقبال عليها... وشرعنا، رويداً رويداً، ننتقل إلى أسئلة مغايرة، تدور حول حقوق الطفل، وعلاقة أدبه بواقعه، وتوافر الطبيعة الفنية فيه.ثم ترسّخَتْ هذه الأسئلة في شكل جديد للخطاب الثقافي، عماده السؤال عن منظومة القيم، والإستراتيجية الثقافية العربية الإسلامية، والصورة المستقبلية للطفل العربي. والظن بأن هذا الكتاب يحاول التشبُّث بهذا الشكل الجديد للخطاب الثقافي الموجَّه للطفل العربي، ويسعى إلى أن يربطه بالخطاب الثقافي العربي العام في حاضره وتطلُّعاته، ويبدأ يناقش أثر الثقافة العربية السائدة في شخصية الطفل، وأساليب تربية الإبداع والقراءة لديه، ويلاحق أثر وسائل الإعلام في لغته، وطبيعة الأدب المترجم المقدَّم له، وإشكالية قصص الخيال العلمي، وتكوين ثقافة الطفل ضمن الصناعة الثقافية العربية.. وقد آثرتُ تقسيم هذا كلّه قسمين: أوّلهما خاص بأدب الأطفال، وثانيهما خاص بثقافة الأطفال.

وعلى الرغم من أن المنهج التحليلي الذي اصطنعته في هذا الكتاب ميّال إلى الانتقال من الثقافة إلى الأدب، فإنني آثرتُ الانطلاق من المعالجة النقدية للأدب حتى أتمكّن من تقديم صورة تحليلية لأبرز جوانب ثقافة الطفل العربي، تُعينني على اقتراح الاتجاه الجديد في هذه الثقافة، وتسمح لي بقيادته إلى الارتباط العضوي بالمجتمع العربي في حاضره ومستقبله، دون أن أتخلّى عن نقده وملاحظة إيجابيّاته وسلبيّاته. وليس النقد هدفاً، بل وسيلة إلى تعديل صيغة الخطاب الثقافي العربي الموجَّه للطفل، وهذا التعديل هو الغرض الذي أحاول تحقيقه في هذا الكتاب.

د.سمر روحي الفيصل العين 1998

 

 

القسم الأوّل أدب الأطفال

الفصل الأول نحو أدب مُوَحِّد

 

لابدَّ، بادئ ذي بدء، من الإشارة إلى أنني أستعمل عبارة (الأدب الموحَّد) بمعنى النصوص الأدبية الفنية التي تُسهم في بناء الشخصية القومية للطفل العربي. وقد اشترطتُ أن تنطلق معالجة الموضوع من النصوص الفنية لأُبعد الحديث عن تحليل الجانب الفني في أدب الأطفال، وهو جانب مهمّ ولكنني لستُ معنياً به هنا، لأنني مؤمن بأن توافر المستوى الفني يسبق أي تحليل لمحتوى أدب الأطفال. بل إن معالجة موضوع  الشخصية القومية للطفل العربي لا معنى لها إذا لم تنطلق من نصوص أدبية قادرة على التأثير في الطفل وإقناعه وإمتاعه. كما أنني انطلقتُ من أن (الأدب الموحِّد) رافد من روافد الشخصية القومية للطفل العربي، أو مكوِّن من مكوِّناتها.

 ذلك لأنني مؤمن بوجود روافد أخرى، كالتربية ووسائل الإعلام والنوادي والمراكز الثقافية وغيرها. وهذه كلها تُسهم في بناء الشخصية القومية إذا أُحسن توجيهها والإشراف على علاقة الطفل العربي بها. وعلى الرغم من ذلك فإنني أرنو إلى أن ألفت نظر الباحثين إلى أهمية منظومة القيم في بناء الشخصية القومية للطفل العربي، وأن أقترح تعديلاً لمنظومة القيم العربية الإسلامية تستطيع الروافد كلّها الاهتداء به، لأنه شامل وليس خاصاً بأدب الأطفال. وقد آثرتُ استعمال المصدر (نحو) في العنوان لأُبقي المنظومة المقترحة قابلة للمناقشة والإضافة والتعديل، ولأنني أعتقد - من الناحية المنهجية- أن تصوُّراً من هذا النوع القومي لابدَّ من أن ينطلق من الخطة الشاملة للثقافة العربية.

 

1- أدب الأطفال والقيم:

 نما أدب الأطفال العربي نموّاً واضحاً بين السبعيّنيات والتسعينيّات، وأصبح الباحث قادراً على أن يعثر في كل دولة عربية على رصيد مقبول من النصوص الأدبية ذات المستوى الفني الجيّد. وهذا الأمر يدعو إلى التفاؤل بمستقبل أدب الأطفال في الوطن العربي. ويُعزِّز هذا التفاؤل شيءٌ آخر هو حرص النصوص الأدبية على القيم الإيجابية، حتى إنه ليصعب العثور على نص عربي للأطفال ليس فيه قيمة وطنية أو قومية أو اجتماعية أو أخلاقية إيجابية، ويُخيل إليَّ أننا لا نعثر، إذا حللّنا النصوص منفردةٌ، على أية مشكلة تمس الشخصية القومية للطفل العربي. ولكننا إذا حلّلنا النصوص مجتمعةً لاحظنا أمراً ذا بال يتعلّق بالقيم المفضية إلى بناء الشخصية القومية للطفل العربي. ولكي يتّضح هذا الأمر سأشير إلى ثلاث دراسات حلّلت المحتوى القيمي لنصوص موجَّهة للطفل العربي:

 أ- استخرجتُ في عام 1979 القيم المطروحة في (138) نصاً قصصياً للأطفال(1) نُشرت في مجموعات قصصية موجَّهة لأطفال المرحلة العليا (بين 9- 12 سنة). وقادني تصنيف القيم في مجموعات استناداً إلى تصنيف (وايت) إلى النتيجة الآتية:

- المرتبة الأولى لمجموعة القيم المعرفية الثقافية: 42 قيمة (40 قيمة معرفية، وقيمتان للذكاء. أما قيمة الثقافة فلم تنصرف إليها أية قصة).

- المرتبة الثانية لمجموعة القيم الاجتماعية: 28 قيمة (10قيم لوحدة الجماعة، وقيمة لقواعد السلوك، وثلاث قيم للتواضع، وأربع قيم للمماثلة، وأربع قيم للكرم، وست قيم للأسرة، أما قيم الظرف واللطافة والتسامح والصداقة فلم تلتفت إليها أية قصة).

- المرتبة الثالثة لمجموعة قيم تكامل الشخصية: 19 قيمة (انصرفت القصص إلى قيم القوّة والعدوان والسعادة والمظهر، وابتعدت ابتعاداً كاملاً عن قيم الحرص والانتباه والتصميم).

- المرتبة الرابعة لمجموعة القيم الوطنية القومية: 17 قيمة (تمركزت القيم كلها إلى جانب قيمة حرية الوطن، وأهملت القيمة الوطنية وقيمة وحدة الأقطار المجزّأة).

- المرتبة الخامسة لمجموعة القيم العملية الاقتصادية: 7 قيم (انصرفت القيم إلى العمل، وأهملت الضمان الاقتصادي والملكية).

- المرتبة السادسة لمجموعة القيم الأخلاقية: 5 قيم (انصرفت القيم إلى الأخلاق، وأهملت العدالة والطاعة والدين).

- المرتبة السابعة لمجموعة القيم الجسمانية: قيمتان (انصرفت القيمتان إلى الصحة، وليس هناك ذكر لقيم الطعام والراحة والنشاط والرفاهية والنظافة).

ب- استخرجتُ في عام 1984 القيم المطروحة في (223) نص قصصي للأطفال(2) نُشرتْ في مجلات لأطفال المرحلة العليا (بين 9-12 سنة). وقادني تصنيف القيم في مجموعات استناداً إلى تصنيف (وايت) إلى النتيجة الآتية:

- المرتبة الأولى لمجموعة القيم المعرفية الثقافية: 97 قيمة (78 قيمة معرفية، وخمس قيم للذكاء، و14 قيمة للثقافة).

- المرتبة الثانية لمجموعة القيم الاجتماعية: 40 قيمة (توزَّعت القيم الأربعون على قيم المجموعة كلها، مع اهتمام خاص بقيم قواعد السلوك، وإهمال نسبي لقيم التسامح والظرف والتواضع).

 - المرتبة الثالثة لمجموعة القيم تكامل الشخصية : 29 قيمة (انصرفت القيم إلى التحصيل والنجاح والعدوان، وأهملت قيم التصميم والمظهر والسيادة).

- المرتبة الرابعة لمجموعة القيم الترويحية: 26 قيمة (12 قيمة للخبرة الجديدة، وثماني قيم للتعبير الذاتي المبدع، وست قيم للمرح. وكان هناك إهمال لقيم الإثارة والجمال واللعب).

- المرتبة الخامسة لمجموعة القيم العملية الاقتصادية : 11 قيمة (انصرفت القيم إلى العمل غالباً، وأهملت الضمان الاقتصادي والملكية).

- المرتبة السادسة لمجموعة القيم الوطنية القومية: 10 قيم (خمس قيم للوطنية، وخمس قيم لحرية الوطن، وليس هناك أية قيمة لوحدة الأقطار المجزّأة).

- المرتبة السابعة لمجموعة القيم الأخلاقية: 5 قيم (انصرفت القيم إلى الأخلاق، وأهملت قيم الصدق والعدالة والطاعة والدين).

- المرتبة الثامنة لمجموعة القيم الجسمانية: 5 قيم (انصرفت القيم إلى الصحة، وأهملت قيم الطعام والراحة والنشاط والرفاهية). 

 

ج- حلَّل خلف نصَّار محيسن الهيتي استناداً إلى تصنيف (وايت) 809 صفحة من صفحات صحافة الأطفال (3)، فعثر على (3489) قيمة. ولدى تصنيفه هذه القيم لاحظ بروز قيم المجموعة الوطنية القومية كلها، وبروز قيم الجمال والخبرة الجديدة والتعبير الذاتي المبدع من مجموعة القيم الترويحية، كما لاحظ بروز قيمتين من مجموعات القيم الآتية: الاجتماعية (حب الناس- وحدة الجماعة)- المعرفية (المعرفة- الذكاء)- تكامل الشخصية(التصميم- الحرص) -العملية (العمل- الملكية)- الجسمانية (النشاط والصحة- سلامة الجسم). أما مجموعة القيم الأخلاقية فلم تكن إلى جانبها أية قيمة.

 

انتهت الدراسات الثلاث السابقة إلى نتائج تكاد تكون متقاربة، يهمّني منها الذاتية أو الفردية في طرح القيم على الأطفال، والافتقار إلى منظومة قيم يستند الأدباء إليها في أثناء إبداعهم النصوص الأدبية الموجّهة للطفل العربي، فالأدباء، كما تدل الإشارة الموجزة إلى الدراسات الثلاث، اهتموا بمجموعة القيم المعرفية الثقافية أكثر من اهتمامهم بمجموعتي القيم الأخلاقية والجسمانية. كما أنهم انصرفوا، ضمن مجموعات القيم، إلى قيم دون أخرى. فكان هناك تركيزٌ واضح على قيم المعرفة وقواعد السلوك ووحدة الجماعة والتحصيل والنجاح وحرية الوطن، وإهمالٌ لقيم التسامح والتواضع والطاعة والدين ووحدة الأقطار المجزّأة... وليس هناك تعليل لذلك كله غير انطلاق الأديب من ذاته وخبرته وثقافته. فهو يطرح القيم التي يرتضيها ويراها أساسية في التربية القيميّة للطفل العربي، من غير أن يُعير مايطرحه زميله الأديب أي اهتمام. فالقيمة المعرفية التي نعثر عليها في نص أو نصين لأحد  الأدباء تبقى إيجابية مقبولة، ولكنّ اهتمام الأدباء كلهم بهذه القيمة المعرفية شيء سلبي مرفوض. وقد أكّدت الدراسات الثلاث هذا الاهتمام المرفوض، لأنه يعني أن الأدباء يعتقدون بأن الطفل العربي صفحة بيضاء يجب أن تُملأ بالمعارف. وهذا الموقف الأدبي من الطفل هو نفسه موقف المدرسة منه. فهي ترى واجبها مقصوراً على تنمية معارف الطفل، لأن المعارف لبوس المتعلِّم ووسيلته في الحياة. وإذا كان الطفل يقبل موقف المدرسة ويُسوِّغه، فإنه ينفر من النص الأدبي الذي يتقمّص الموقف نفسه. ويترسَّخ نفوره إذا تقمّص النص الأدبي موقف المدرسة وأسلوبها معاً. والمراد هنا لجوء النص الأدبي إلى أسلوب الوعظ والإرشاد في طرح القيم. ذلك أن الطفل يُقبل على النص الأدبي طواعيةً، آملاً في العثور على المتعة والتشويق، فإنْ رأى هذا النص يُكرِّر موقف المعلّم وأسلوبه انصرف عنه إلى غيره.

 

إن خبرة الأديب الفردية وشعوره بالمسؤولية الأدبية دفعاه إلى طرح القيم الإيجابية، ولكنهما لم يكونا كافيين لاجتماع الأدباء على طرح قيمٍ يُكملِ بعضها بعضاً، وليس فيها تكرار لما تطرحه المؤسسات الأخرى المعنية بثقافة الطفل العربي وتربيته. ومن ثمّ كان هناك تركيز على قيم وإهمال لقيم أخرى. وزاد من الأثر السلبي للتركيز والإهمال خضوع خبرات الأدباء الفردية لمؤثِّرات التجزئة والإعلام.

 

فالتجزئة السياسية التي تعاني منها الأمة العربية، خلقت أنظمةَ حكمٍ متباينة في عقائدها السياسية وفي القيم التي تُجسِّد هذه العقائد. واللافت للنظر أن يتأثّر الأديب بالقيم التي يُحبِّذها نظام الحكم في دولته، فيعكسها في النصوص التي يكتبها للطفل، ويهمل قيماً أخرى لا تُقرُّها السياسة في دولته ولا تُشجّعه على طرحها، أو لا تسمح له بنشرها في كتب الأطفال ومجلاتهم التي تُصدرها وتُشرف عليها وتحرص على أن تعكس القيم المفضَّلة لديها. ويمكن الاطمئنان إلى أن التجزئة السياسية العربية لا تُشجِّع على إبداع أدب الأطفال ذي محتوى قيميّ واحد موحِّد، بل تُشجِّع على طرح قيم متباينة غير متكاملة. وتكمن المشكلة في أن الأدباء العرب لم يكتفوا بالتأثر بالتجزئة السياسية وحدها، بل راحوا يتأثرون بتوابعها، أقصد هنا الطبيعة الآنية للإعلام العربي. ففي أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وبعده في زمن المقاومة الوطنية في جنوبي لبنان، ثم في الانتفاضة الفلسطينية، كان الإعلام العربي يُعلي من قيم المقاومة والدفاع عن الوطن والشهادة في سبيله، وقد برزت القيم نفسها في نصوص أدب الأطفال التي واكبت هذه الأحداث، وكأنّ أدباء الطفل  تشبَّثوا بإيقاع الإعلام العربي وحماسته، وراحوا يجسِّدون مايرغب فيه. وهذا ما دفعني إلى الشك في أن يكون أدب الأطفال تابعاً للإعلام وليس مستقلاً عنه أو رائداً له. وعزّز هذا الشك خلوّ أدب الأطفال من القيم نفسها بعد تلاشي الاهتمام الإعلامي بهذه الأحداث، كلها أو بعضها.

 

مهما يكن الأمر فإن أدب الأطفال العرب يعاني من ظاهرتي التركيز والإهمال، التركيز على قيم أو مجموعات قيم، وإهمال قيم ومجموعات أخرى. وسواء أكنا نعزو هاتين الظاهرتين إلى انطلاق الأدباء من خبراتهم الفردية ورؤاهم الذاتية المتباينة أم نعزوهما إلى تماهي أدب الأطفال بالبيئة التي يُنْتَج فيها وأخلاصه للقيم التي يدعو إليها نظام الحكم في دولته، فإن النتيجة التي أخلص إليها هي أن أدب الأطفال العربي ليس أدباً موحِّداً، لأنه يطرح قيماً لا تقود - على تفاوتها في التركيز والإهمال- إلى بناء شخصية قومية واحدة للأطفال العرب. وهذا يعني أننا نحتاج إلى حل مقبول لمشكلة القيم في أدب الأطفال إذا أردنا لهذا الأدب أن يكون موحِّداً لهؤلاء الأطفال مهما يختلف الأدباء وتتباين الأنظمة وتتعدّد الظروف.

 

2- أدب الأطفال ومنظومة القيم:

 تحتاج علاقة الأديب العربي بالقيم إلى الارتقاء من الفردية الذاتية إلى الموضوعية. ذلك لأن الأدباء العرب جميعاً يعون أهمية القيم في حياة الطفل، وخصوصاً قدرتها على توجيه نشاطه وتحديد سلوكه وتكامل شخصيّته. غير أنهم متباينون كثيراً في وعي الطبيعة العلمية للقيم، أقصد: كون القيم تُوجِّه نشاط الطفل وتعكس الواقع، فهي أفكار أو ظواهر للوعي الاجتماعي، يُعبِّر الناس بوساطتها عن واقعهم وأهدافهم. ولابدَّ من أن يكون الأديب قادراً على معرفة المُثُل الاجتماعية العليا التي تُعبِّر عن واقع العرب وأهدافهم حتى يتمكّن من طرح القيم الملائمة لهم. وهذا التباين بين الأدباء العرب عائد إلى اعتمادهم النظرة الفردية للقيم، وابتعادهم عن دراسة نظرية القيم، وهي دراسة فلسفية تُعين على معرفة طبيعة القيم ومشكلاتها وجوانبها.

 

فما هو شرٌّ عند هذا الأديب ربما كان خيراً عند أديب آخر لتباينهما في النظرة الفردية الذاتية التي تُكوِّنها الثقافة وتبلورها العقيدة. وتكمن المشكلة في أن مفهوم الخير أو الشر معيار لتقييم كثير من السلوك البشري في الحاضر، كما أنه مطلب أخلاقي في الوقت نفسه، أيْ أنه رغبة في أن يتحقّق هذا الخير أو الشر. ومن ثمّ لا يصح أن تبقى النظرة إلى الواقع والمستقبل مقصورة على النظرة الفردية الذاتية، لأن هذه النظرة لا يضبطها ضابط موضوعي يُحدِّد صلة القيم المطروحة في الأدب بالممارسة الاجتماعية، ويوضِّح جانبها الإنساني العام. ويمكنني الادعاء بأن هذا الضابط الموضوعي هو (منظومة القيم) الواضحة المحدَّدة المستمدَّة من ماضي الأمة العربية الإسلامية، المعبِّرة عن حاضرها وتطلُّعها إلى المستقبل.

 

 ولاشك في أننا لم نكن نملك، قبل بداية النصف الثاني من الثمانينات(4)، أية محاولة عربية لصنع منظومة قيم خاصة بنا. وهذا أمر بديهي، لأن اقتراح هذه المنظومة يحتاج إلى تحديد معالم الهوية العربية، وإلى الخروج من مأزق التجزئة السياسية. ولنقل على سبيل الإيجاز إنّ مناقشات المثقفين العرب حول قضية الهوية بدأت تحمى وتتأجّج ابتداءً من أُخريات القرن التاسع عشر، في هيئة الأصالة (أو القديم) حيناً، وهيئة المعاصرة (أو: الحديث) حيناً آخر. ولم تكن محاولات التوفيق بين الأصالة والمعاصرة غائبة عن الفكر العربي، ولا ضعيفة فيه، لأنها انطلقت من التلازم بين العروبة والإسلام، وكان التراث في مفهوم الأمة العربية الإسلامية (5) مكوِّناً من مكوِّنات الهوية وليس المكوِّن الوحيد لها.

 

بيد أن ظروف التجزئة السياسية لم تكن مواتية لتجسيد أحلام المثقفين في تحديد الهوية العربية. فقد أفرزت التجزئة أنظمة متباينة في وجهات نظرها وعقائدها ومصالحها، وفي نظرتها إلى القيم أيضاً. وجهدت هذه الأنظمة في توظيف أجهزتها ومؤسساتها لترسيخ القيم التي آمنت بها، ونتج عن ذلك تباين واضح بين الأقطار العربية في القيم السائدة في أدب الأطفال لديها. ولم يكن هذا التباين مقصوراً على الأنظمة ذات العقائد السياسية المختلفة، بل شمل الأنظمة السياسية المتقاربة في عقائدها ونظرتها إلى الحياة والكون. ومن ثمَّ لم يكن غريباً أن تتباين القيم في أدب الأطفال العرب، وأن يصح وصف هذا الأدب، تبعاً لذلك، بأنه أدب غير موحِّد.

والدليل على ذلك ماثل في أن نقد أدب الأطفال الذي بدأ يتضح في السبعيّنيات لم يعثر، وهو يتجه إلى تحليل المحتوى القيمي، على أية منظومة عربية للقيم، فاضطر إلى اصطناع منظومات غريبة، وراح يطوِّعها لتلائم الثقافة العربية. وهو محقّ في ذلك. لأنه نظر إلى القيم على أنها الشيء الذي يُحدِّد سلوك الفرد وأفعاله(6) ومواقفه الاجتماعية والأخلاقية والسياسية وأهدافه العامة في الحياة (7)، كما رغب النقد في الكشف عن القيم السائدة في أدب الأطفال ليتمكّن من تحديد موقع الأدب من التغييرات الاجتماعية واستجابته للمُثُل القومية العليا. وما الدراسات الثلاث التي أشرتُ إليها في بداية الفقرة السابقة إلا نموذج للدراسات التي اصطنعت منظومة القيم التي قدَّمها (رالف وايت). وهناك دراسات اصطنعت منظومة وايت نفسها في تحليل المحتوى القيمي لكتب المطالعة العربية وللطلبة الناشئين (8)، مماجعل هذه المنظومة أكثر شهرة لدى النُّقاد والباحثين في الوطن العربي. وأود، هنا، تقديم الصورة المطوَّرة لمنظومة (وايت) كما طرحها خلف نصَّار محيسن الهيتي(9)، لأن هذا التطوير راعي الثقافة العربية. وسنلاحظ، بعد، أن هناك إمكانية للإفادة من هذه المنظومة في تعديل المنظومة التي اقترحتها الخطة الشاملة للثقافة العربية.

 

تضم منظومة (وايت) المطوَّرة ثماني مجموعات، فيها سبع وأربعون قيمة على النحو الآتي:

أ- مجموعة القيم الاجتماعية: وحدة الجماعة- الظرف واللطافة- قواعد السلوك- التواضع- المماثلة- (التشبُّه)- الكرم والعطاء- التسامح- حب الناس (الجنس الآخر- الأسرة- الصداقة).

 

ب- مجموعة القيم الأخلاقية: الأخلاق- الصداقة- العدالة- الطاعة- الدين.

ت- مجموعة القيم القومية الوطنية: الوطنية - حرية الوطن (استقلاله)- وحدة الأقطار المجزّأة (عربية - غير عربية).

ث- مجموعة القيم الجسمانية: الطعام - الراحة- النشاط- الصحة وسلامة الجسم - الرفاهية - النظافة.

ج- مجموعة القيم الترويحية (التسلية - اللعب): الخبرة الجديدة- الإثارة- الجمال- المرح- التعبير الذاتي المبدع.

ح- مجموعة قيم تكامل الشخصية: التكيُّف والأمن الانفعالي- السعادة- التحصيل والنجاح- التقدير- اعتبار الذات (احترام الذات)- السيطرة (التسلُّط)- العدوان- القوة- التصميم- الحرص والانتباه- استقلال الفرد- المظهر.

خ- مجموعة القيم المعرفية الثقافية: المعرفة- الذكاء- الثقافة.

د- مجموعة القيم العملية الاقتصادية: العملية (الواقعية)- العمل - الاقتصاد- الضمان الاقتصادي- الملكية الاشتراكية.

 

3- نحو أدب موحِّد:

صدرت الخطة الشاملة للثقافة العربية عام 1986، بعد عمل دؤوب استمر أربع سنوات تقريباً (1982-1985). وتنبع أهمية هذه الخطة من أنّها أول تقنين للهوية العربية الإسلامية تُصْدِره جامعة الدول العربية، ويحظى بموافقة الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي. وقد روُعي في وضع الخطة خمسة أمور تلبي الحاجة إلى التنمية القومية الشاملة، وهي(10):

أ- تحديد المنظور المستقبلي العربي، والرؤية الواضحة لنوع الإنسان الذي نريد، وشكل المجتمع الذي نبني. وبناء نظرية ثقافية متكاملة تُعَدّ إطاراً مرجعياً للسياسات الثقافية العربية في تنويعاتها القطرية. وفي مواجهة تحديات المستقبل ومتغّيراته.

ب- تطوير الثقافة العربية لتصبح ثقافة علمية معاصرة محافظة على تراثها وهويّتها، مسهمة في الوقت نفسه في التقدُّم العربي والبشري.

ت- الاستجابة للأعمار كافة، من المهد إلى اللحد، بمرونة قادرة على التكيُّف مع تنوُّع البيئات العربية وحاجاتها المتجدِّدة.

ث- الاستجابة لتحدّيات المعرفة والتقنية المتزايدة، وللصراع مع الثقافات المالكة لها.

ج- الاستجابة لحاجات الأطفال والناشئين الثقافية بإقامة توازن بين الثقافة التي يجري إعدادها لهم من تراثنا وعصرنا، والثقافة التي يحتاجون إليها في المستقبل.

جسّدت الخطة الشاملة للثقافة العربية الأمور الخمسة السابقة، فحدَّدت الهوية الثقافية العربية، ووضعت الأهداف والمبادئ الأساسية، وفصَّلت في أسس العمل ووسائله، ورسمت عناصر السياسات والبرامج الإقليمية والقومية. والمعروف أن جامعة الدول العربية لم تكتف بإصدار الخطة، بل راحت تعقد الندوات لمناقشتها وتوضيحها (11)، وليس غريباً في مثل هذا العمل العلمي أن تحتلَّ القيم مكانة الصدارة، وأن تُطْرَح على أنها منظومة القيم العربية الإسلامية (12). ولاشك في أن تقديري جهد جامعة الدول العربية يفرض عليَّ مناقشة المنظومة قبل الدعوة إلى اعتمادها إطاراً مرجعياً لأدب الأطفال العربي. ذلك لأن الخطة الشاملة للثقافة العربية صنَّفت منظومة القيم العربية الإسلامية في أربعة جوانب، يضم كل جانب قيماً رئيسة تتبعها قيم فرعية تُوضِّحها أو تزيدها تفصيلاً. ويمكنني، تمهيداً للمناقشة، تقديم الصورة الموجزة الآتية لهذه المنظومة:

أ- من الناحية السياسية: تكريم الإنسان بوصفه إنساناً (نفي التمييز العنصري)- الشورى أسلوباً للحكم- العدل- رفض الظلم- الحرية (إطلاق ملكات الإنسان- تحرير الإنسان من الاستغلال- حرية التعبير)- المساواة في الفرص (استناداً إلى معيار: قيمة المرء مايُحْسِن).

ب- من الناحية الاجتماعية: احترام الأسرة (رعاية الوالدين- التراحم بين ذوي القربى- قضايا الإرث- قضايا الزواج- صوت حقوق المرأة)- إيثار المروءة- العفو هو الأساس في العلاقات الاجتماعية- التكافل الاجتماعي- (الرعاية الاجتماعية- توفير حاجات الإنسان الأساسية-نبذ الأنانية الفردية - الصداقات والزكاة- إشراف الدولة على المشافي- إحياء الأرض- المحاسبة- الوقف)- العدل الاجتماعي (تحريم الربا- إنكار استغلال الإنسان- التعليم المجاني)- المسؤولية الاجتماعية العامة للجماعة (تنظيم الحرف- مراقبة الأسواق والأسعار- منع الغش- الحفاظ على النظافة- الرفق بالحيوان- السهر على القضاء وتنفيذ الأحكام- منع الاحتكار).

 

ج- من الناحية الاقتصادية: تقديس العمل النافع والإنتاج (العمل واجب ديني ودنيوي)- الاستثمار الإنتاجي ومنع الاكتناز والاحتكار (معيار استثمار المال هو توفير الحاجات الأساسية للإنسان) -مسؤولية الدولة عن أعمال النفع العام- الثروات العامة ملك الدولة، تديرها لصالح الجميع.

 

د- من الناحية الفكرية والثقافية: رفض الأمية وتكريم العلم- الدعوة للإبداع والتفكير في آلاء الله والطبيعة والذات الإنسانية - البحث عن الحكمة والمعرفة (التلاقح الثقافي).

حدّدت الجوانب الأربعة للمنظومة المحتوى القيمي للثقافة العربية، وشكّلت الإطار المرجعي له. كما راعت مكوِّنات الهوية العربية الإسلامية من تراث روحي وثقافة وشخصية اجتماعية محدّدة، مستندة في ذلك إلى عراقة الثقافة العربية، وسماتها الإنسانية، وقابليتها للنمو والإبداع والتطوّر، وأصالتها التي منحتها القدرة على التلاقح ومواجهة الغزو الثقافي. ولا أشك في أن ذلك كله منح المنظومة خصوصية عربية تفتقر إليها منظومة (وايت) المطوَّرة على الرغم من التقائها المنظومة العربية في ثلاث مجموعات، هي المجموعة الاقتصادية والفكرية الثقافية. ولعل افتقار منظومة (وايت) إلى المجموعة السياسية يدل على رغبة واضعها في جعلها مطلقة غير مقيَّدة بمجتمع معيّن، في حين رغبت المنظومة العربية في أن تبدأ بالناحية السياسية لإدراكها أهميتها في المجتمع العربي.

 

وإذا قارنا مفردات القيم في المنظومتين لاحظنا الخصوصية العربية نفسها. فقيمة الأسرة الفرعية في منظومة وايت أصبحت أساسية في المنظومة العربية، لأن الأسرة كالعمل واجب ديني ودنيوي عند العرب، عبَّرت عنه الثقافة العربية وجسَّده الواقع بحرصه على التماسك الأسري، وتشجيعه العمل النافع، ومحاربته البطالة. كما تشير المقارنة إلى أن منظومة وايت لا تضم قيماً عربية أصيلة، كتكريم الإنسان، ونفي التمييز العنصري، والمساواة في الفرص، والدعوة إلى التفكير، والإبداع، والاستثمار الإنتاجي لصالح الناس كافة، وتكريم العِلْم، ورفض الأميّة، والعدالة الاجتماعية...

وفي المقابل، تخلو المنظومة العربية من مجموعتين التفتت إليهما منظومة وايت، هما: مجموعة القيم الوطنية القومية، ومجموعة القيم الجسمانية. ولهاتين المجموعتين أثر كبير في تنمية الحس القومي والوطني لدى الطفل العربي، وفي الحفاظ على صحته وسلامة جسده، كما تفتقر المنظومة العربية إلى قيم لها صدى في الثقافة العربية، كالكرم وحب الناس والصداقة والجمال والمرح والتصميم نفي العدوان والتسلُّط.

 

كما أن المنظومتين معاً تحتاجان إلى قيم أخرى روحية وثقافية واقتصادية واجتماعية، تسدُّ ثغرات في النظام القيمي المعبِّر عن الهوية العربية الإسلامية. وقد لاحظتُ أن الخطة الشاملة أشارت إلى بعض هذه القيم في أثناء حديثها عن تنمية القيم الروحية واستلهامها(13)، وعن الهوية الثقافية (14). ولكنها لم تضمّها إلى المنظومة لسبب أو آخر. وهذا كله يعني، في رأيي، أن منظومة القيم العربية الإسلامية المقترحة في الخطة الشاملة للثقافة العربية تحتاج إلى جهد آخر لتصبح شاملة.

وصفة الشمول في منظومة القيم ضرورية جدّاً إذا أردنا لأدب الأطفال أن يُسهم في بناء الشخصية القومية السليمة للطفل العربي. ذلك لأن تنمية قيم دون أخرى تُصيب النظام القيمي للطفل بالخلل وبشيء غير قليل من الصراعات التي تؤدّي إلى اضطرابات عصابية عنده. وهذا مادفعني إلى تقديم صورة معدَّلة لمنظومة القيم العربية الإسلامية التي اقترحتها الخطة الشاملة. وقد راعيتُ في التعديل الأمور الأتية:

- المحافظة على منظومة القيم العربية الإسلامية، مع تعديل بعض القيم الفرعية فيها(15).

- إضافة مجموعتي القيم الوطنية القومية والجسمانية من منظومة وايت، مع تعديل بعض قيمهما الفرعية (16).

- إضافة القيم التي لم تُذكر في المنظومة العربية ومنظومة وايت(17).

- إضافة القيم الروحية التي أُدرجت في الخطة الشاملة، ولم ترد في المنظومة العربية(18).

 - اعتماد التصنيف المستند إلى (مجموعات).

- اعتماد القيم الفرعية داخل كلّ مجموعة حرصاً على التخصيص وابتعاداً عن التعميم.

 

4- المنظومات العربية الإسلامية المعدَّلة:

أ- مجموعة القيم الأساسية: تكريم الإنسان لذاته- نفي التمييز العنصري- اعتماد الشورى أسلوباً في الحكم- العدل- رفض الظلم- حريّة التعبير والرأي- تحرير الإنسان من الاستغلال- إطلاق ملكات الإنسان- حرية المعتقد(19)- التسامح الديني(20)- رفض التسلُّط- المساواة في الفرص استناداً إلى معيار: قيمة المرء بما يُحسن.

 

ب- مجموعة القيم الاجتماعية: احترام الأسرة- رعاية الوالدين- التراحم وصلة ذوي القربى- التقيُّد بقضايا الإرث الشرعي- تشجيع الزواج المتكافئ (21)- صون حقوق الطفل والناشئ والكهل والمرأة (22)- إيثار المروءة والعفو في العلاقات العامة- الرعاية الاجتماعية- توفير الحاجات الأساسية للإنسان- نبذ الأنانية الفردية- تشجيع الصدقات والزكاة- إحياء الأرض- اعتماد مبدأ المحاسبة (23)- العدل الاجتماعي- تحريم الربّا- نفي استغلال الإنسان- التعليم المجّاني- المسؤولية العامة للجماعة عن تنظيم الحِرَف- المسؤولية العامة للجماعة عن مراقبة الأسواق والأسعار- المسؤولية العامة للجماعة عن نفي الغش- المسؤولية العامة للجماعة عن نزاهة القضاء- المسؤولية العامة للجماعة عن منع الاحتكار- المسوؤلية العامة للجماعة عن سيادة القانون(24)- المسؤولية العامة للجماعة عن مراعاة الجوار(25)- المسؤولية العامة للجماعة عن الحفاظ على وحدة الجماعة- المسؤولية العامة للجماعة عن حبِّ الناس- المسؤولية العامة للجماعة عن الملكية العامة- المسؤولية العامة للجماعة عن الآداب العامة- المسؤولية العامة للجماعة عن تحويل المبادئ إلى مؤسسات اجتماعية (26)- اللباقة (27)- الصداقة- التواضع- احترام الصداقة.

 

ت- مجموعة القيم الاقتصادية: تقديس العمل النافع (العمل واجب ديني ودنيوي) - الاستثمار الإنتاجي (استناداً إلى معيار: استثمار المال مشروط بتوفير حاجات الإنسان)- مسؤولية الدولة عن أعمال النفع العام- التضامن الاقتصادي العربي(28)- توفير الضمان الاجتماعي- نفي التبذير (29)- ترشيد الاستهلاك(30)- منع احتكار الحاجات الأساسية واكتنازها (32)- التكافؤ بين العمل والأجر(33).

 

ث- مجموعة القيم الفكرية الثقافية: رفض الأميّة- تكريم العلم والعلماء (34)- الدعوة للإبداع- الدعوة للتفكير في آلاء الله والطبيعة والذات الإنسانية- البحث عن المعرفة والحكمة- التلاقح الثقافي مع الثقافات العالمية (35)- احترام الكلمة (36)- احترام الحوار (37)- رفض الاستلاب الفكري(38)- احترام التراث وإحياؤه(39)- التكيُّف مع الحاضر والإعداد للمستقبل (40)- عدم التعارض بين العقل والنقل(41)- احترام الفكر العلمي وتشجيعه (42)- ممارسة الاجتهاد(43)- تنمية الأحاسيس الجمالية (44)- التحصيل والنجاح- احترام الذات- التصميم- الحرص والانتباه.

 

ج- مجموعة القيم الوطنية القومية:

احترام الوطن والأمة العربية (45)- الشهادة في سبيل الوطن والأمة العربية(46)- الحفاظ على حرّية الوطن والأمّة العربية(47)- وحدة الأقطار العربية(48)- نفي العدوان(49).

ح- مجموعة القيم الجسمانية:

الاعتدال في الطعام والشراب(50)- الحفاظ على الصّحة وسلامة الجسد(51)- النظافة- الرياضة (52).

تضمّ المنظومة العربية الإسلامية المعدّلة ست مجموعات، فيها ثلاث وثمانون قيمة. ولا أشك في أن هذه المنظومة، في أصولها الأولى وفي صورتها المعدَّلة، لم تُوضع للأطفال العرب فحسب، بل وُضعت لمتلّقي الثقافة العربية في مراحلهم العمرية كافّة. ذلك لأننا نهدف إلى أن يُسهم أدب الأطفال في بناء الشخصية القومية للطفل العربي، أي أن يكون أدباً موحدّاً. غير أننا نعي جيّداً أن أدب الأطفال لا يهدف إلى إمتاع الطفل وجَعْلَهُ يعيش حاضره فحسب، بل يهدف في الوقت نفسه إلى إعداده للمستقبل. ومن الضروري ألاّ يختلف النظام القيمي للطفل حين ينتقل إلى مرحلة المراهقة فالرجولة فالكهولة، إذا أردنا للشخصية القومية أن تُبْنَى بناءً سليماً متماسكاً. ولهذا السبب لم تقترح الخطّة الشاملة للثقافة العربية منظومة واحدة للأطفال وأخرى للناشئين وثالثة للرجال والنساء، بل اقترحت منظومة واحدة للثقافة العربية، وانطلقت من أن ثقافة الطفل إحدى الثقافات الفرعية في المجتمع العربي.

وإذا كان أدب الأطفال مكوِّناً من مكوِّنات ثقافة الطفل فإن الحرص على إنتاج أدب موحِّد للأطفال العرب لا يتحقّق إذا لم يتقيَّد الأدباء الذين يكتبون للمراحل العمرية اللاحقة بالمنظومة نفسها ليبقوا الأدب الموحِّد موحِّداً، قادرا في كل مرحلة عمرية على تعزيز الشخصية القومية وتنميتها، وبذلك يتّجه الأدب العربي كله نحو غاية واحدة، هي ترسيخ أدب موحِّد للشخصية القومية العربية.

 

الإحالات:

1- مشكلات قصص الأطفال في سورية- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1981.

2- انظر جزئّيات التحليل في الفصل الخاص بالقيم وصحافة الأطفال من كتابي: ثقافة الطفل العربي- اتحاد الكتّاب العرب- دمشق 1987.

3- انظر القيم السائدة في صحافة الأطفال العراقية- خلف نصّار محيسن الهيتي- وزارة الثقافة والفنون- بغداد 1978.

4- الإشارة هنا إلى عام 1986، وهو تاريخ طباعة الخطّة الشاملة للثقافة العربية.

5- للتفصيل انظر: البحث عن الهويّة العربية- د. فؤاد مرسي- مجلة الوحدة- العدد 53- فبراير/ شباط 1989- ص 7.

6- انظر ص 53 من: خليفة، د. عبد اللطيف محمد- ارتقاء القيم- عالم المعرفة 160- الكويت 1992.

7- المرجع السابق- ص 54.

8- منها تطوّرات في قيم الطلبة- محمد إبراهيم كاظم- مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة 1974. وذكر خلف نصّار محيسن الهيتي دراسات أخرى، كدراسة عائشة حسين طوالبة (القيم السائدة في كتب المطالعة العربية للمدارس الابتدائية)، ودراسة محمد الياس بكر (دراسة مقارنة في القيم بين طلبة الجامعة).

9- انظر القيم السائدة في صحافة الأطفال العراقية- ص 51، ومابعد.

10- الأمور الخمسة مستمدّة من تصدير الخطة الشاملة للثقافة العربية- ص 24/25- الط 2- تونس 1990.

11- عقدت المنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ندوات عدّة لمناقشة الخطة الشاملة للثقافة العربية، من هذه الندوات ندوة (الثقافة والقوى البشرية) التي التأم عقدها في تونس بين 16/19-11-1992

12- انظر الخطة الشاملة للثقافة العربية - ص 54 ومابعد.

13- المرجع السابق - ص 82 ومابعد.

14- المرجع السابق - ص 50 ومابعد.

15- سأشير في الهوامش إلى كلمة (معدَّلة) تمييزاً لها.

16- سأشير في الهوامش إلى كلمة (معدَّلة) تمييزاً لها.

17- سأشير في الهوامش إلى كلمة (مضافة) تمييزاً لها.

18- سأشير في الهوامش إلى كلمة (روحية) تمييزاً لها.

 

 

الفصل الثّاني: تربية الإبداع الأدبيّ

 

 

إذا كانت منهجيّة البحث تُلزم الباحث بالرّيث والأناة في أثناء الحديث عن تربية الإبداع الأدبي لدى الأطفال، فإنها تفرض عليه بادئ ذي بدء الاعتراف بأن أدبيّات الإبداع الفنّي تشير إلى أن الرابعة عشرة هي الحدّ الأدنى للعمر الذي يظهر فيه الإبداع لدى المبدع في الحقل الفنّي(1). ففي هذه السنّ قاد موزارت أوبرا في ميلانو، ونظّم بيتهوفن حفلات موسيقية في الساحات العامة. وفي السنّ نفسها أو بعدها بقليل شرع عدد من الشعراء العرب ينظمون الشعر، كطرفة بن العبد وكعب بن زهير وأبي تمام والمتنبي ودعبل الخزاعي وعلي بن الجهم والمعرّي وجبران والشابي والجواهري وإبراهيم طوقان وغيرهم(2).

 

وعلى الرغم من أن أسماء المبدعين تكثر كلّما ارتفع العمر فوق الحدّ الأدنى فإن الأمر الذي لا يخطئه الباحث هو أن الإبداع الفنّي يبدأ في مرحلة المراهقة، ثم يستمر دون أن يعرف سنّاً يقف عندها. وهناك باحثون ينصّون على أن الإنتاج الإبداعي ينمو بين الثلاثين والأربعين ثم يهبط تدريجيّاً. وقد رفع بعضهم هذه السنّ إلى الخامسة والأربعين، ونصّ على أن ذلك لا يعني التحديد الدقيق للعمر الذي يظهر فيه الإنتاج الإبداعي. فقد أبدع فيردي أوبرا فالستاف وهو في الثمانين، وكتب مارك توين (جورنال حوّاء) في الحادية والسبعين، وطوَّر غراهام بيل الهاتف في الخامسة والخمسين، وحل مشكلة ثبات التوازن في الطائرة وهو في السبعين(3). أما مرحلة الطفولة فليس لدّي مايبعث على الاطمئنان بإمكانية عدّها مرحلة زمنية صالحة لظهور الإبداع الفنّي. وليس في تاريخ الأدب العربي، في حدود ماأعلم، أمثلة وافرة تُعين على القول إن الطفل قادر على الإبداع قدرة الراشد عليه. وربّما لاحظنا لدى الأطفال أحياناً شيئاً من الإنتاج الأدبي، إلاّ أن المفهوم العلمي للإبداع لا يعدُّ هذا الإنتاج إبداعاً فنّياً، بل يعدّه عملاً ابتدائياً لا يرقى إلى المستوى الفنّي، ولا يعبِّر عن خبرة جمالية ناضجة.

 

وهذا يعني، أول وهلة، أن دراسة الإبداع الأدبي لدى الأطفال ليس لها أي سند علميّ ولا مسوِّغ واقعيّ. بيد أن إنعام النظر في الموضوع نفسه يقود إلى أن الإشارة إلى الحدّ الأدنى لعمر المبدعين صحيحة دقيقة إذا درسنا الإبداع من زاوية الإنتاج الإبداعي الذي قدّمه المبدعون أوّل مرّة. أيْ أن الذين حدّدوا البداية بالرابعة عشرة بالنسبة إلى الإبداع الفنّي، والخامسة عشْرة أو السادسة عشْرة بالنسبة إلى الإبداع العلمي انطلقوا في تحديدهم من دراسة سيرة حياة المبدعين، فلاحظوا أن فئة منهم نشرْت أول إنتاج إبداعي لها وهي في الرابعة عشرة، ومن ثمَّ عدُّوا هذه السنّ حدّاً أدنى للإنتاج الإبداعي.

 

غير أن أدبيّات علم النفس تنصّ أيضاً على أن الباحث قادر على دراسة الإبداع من زاويتين أخريين غير زاوية الإنتاج الإبداعي، هما: دراسة الإبداع انطلاقاً من أنه عملية عقلية ذات مراحل معيَّنة، ودراسة الإبداع ابتداءً من قدرات المبدعين وأساليب كشفها واكتشافها(4). وهاتان الزاويتان مهمّتان بالنسبة إلينا لأنهما تؤكدان أن المبدع بدأ ينتج في الرابعة عشرة، ولكنّ هذا الإنتاج لم ينجم فجأة دون مقدّمات، بل سبقته سنوات من الإعداد والاكتساب والاختمار هيّأت لظهوره وطبعته بطابعها، سواء أكان هذا الطابع خاصاً بجدّة الإنتاج أم أصالته أم قيمته. وهذا يقودنا إلى أننا إذا رغبنا في أن ندفع أبناءنا إلى الإبداع في مرحلة المراهقة أو في المراحل التالية عليها، فإننا مطالبون بإعدادهم لذلك في مرحلة الطفولة، وإلاّ فإننا مضطرون إلى الاستمرار في قبول الأمرين اللذين درجنا عليهما، وهما وأد كثير من المواهب في مهدها دون أن يعذّبنا ضميرنا لإهمالنا قدراً من ثروتنا القومية، وإبقاء القدر الآخر من المواهب عرضة للمصادفات التي تدفعها إلى الاستمرار في تغذية موهبتها وتنميتها وقيادتها إلى الإبداع بعد قدر غير قليل من الجلد والجهد ومغالبة الصعاب في الساحة الإبداعية.

 

وإذا كان ذلك يُسوِّغ إقدامنا على تربية الإبداع لدى الأطفال، فإنني قادر على تعزيزه وتقديم السند العلمي له. ذلك لأن العاملين في الحقل التربوي متفقون على أن الطفل لا ينمو من تلقاء نفسه، بل ينمو بمقدار ما توّفره البيئة الاجتماعية من عوامل التربية ومقوماتها(5). وهذا الاتفاق يُعزّز القول السابق الخاص بإعداد الطفل لدخول حقل الإبداع، ويضيف إليه أمراً آخر مهماً هو أن الإبداع ذو جذر اجتماعي. إذ أن البيئة تساعد على تفتُّح الموهبة وقيادتها إلى الإنتاج الإبداعي إذا كانت تعي مهّمتها التربوية. والعكس صحيح أيضاً. أيْ أن القضية كلها منوطة بالوعي التربوي. لأن التربية معنّية أساساً ببناء شخصية الإنسان بناءً سليماً، وقادرة على توفر المناخ الملائم لهذا النمو. ولاشك في أن الأطفال الموهوبين بعضٌ من الأطفال في المجتمع وإنْ كانوا يحتاجون إلى رعاية خاصة. ولهذا السبب شرعت أدبيّات الإبداع تهتم في السنوات الأخيرة بتربية الإبداع لدى الأطفال. بل إن هناك دراسات سعت إلى تربية هذا الإبداع لدى أطفال الرياض انطلاقاً من أن تربية القدرات الإبداعية غير مقصورة على الطفولة المتوسطة والمتأخرة، بل هي سابقة عليها، معنيّة بالسنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل عموماً، وبمرحلة الرياض حتى السادسة خصوصاً. ففي هذه السنوات تبدأ شخصية الطفل تتضح، ويُقال إنها تكتمل، ولكنّ التربية تؤمن بإمكانية الاستمرار في تربية الإنسان من المهد إلى اللحد.

 

إن تربية الإبداع لدى الطفل ممكنة إذن، بل إنه يمكن عدُّها هدفاً من الأهداف الرئيسة للتربية في الوطن العربي، على أن نفهم هذا الهدف في حدود الإعداد والتهيئة، ولا نفهمه في حدود القدرة على إنتاج شيء جديد نافع للمجتمع. ولكي يتّضح هذا الهدف ويبتعد عن اللبس لابدَّ من القول إنني أنظر إلى الموهوب والمبدع نظرة تراتبية، يقبع العبقري في أعلاها، يليه المبدع فالموهوب. والمجتمع، أيّ مجتمع، يضمّ قدراً وافراً من الموهوبين، وقدر أقلَّ من المبدعين، ويندر وجود العباقرة فيه عادة، لأن العبقري (بحكم تعريفه هو الشخص الذي يحرز للإنسانية انتصاراً في اتجاه ما لم تحرز مثله الغالبية العظمى من أبناء المجتمع)(6). ويمكن القول، ضمن النظرة التراتبية، إن الموهوب يُقاس بمن هم في سنّه وعمره العقلي، في حين يُقاس المبدع بمن هم أكبر منه سنّاً وعمراً عقلياً(7)، وإن العبقري يتحرّر من قيود السنّ فيقدِّم إنتاجاً جديداً أصيلاً لا يستطيع المبدع تقديمه. والمرجع في القياس السابق هو الدلالة الخارجية. إذ يُعرف الموهوب في الحقل الأدبي من تفوّقه في القراءة والتعبير، وميله إلى المطالعة وتذوّق الجمال في النصوص المكتوبة والمسموعة، وقدرته على مخاطبة الآخرين وإيصال أفكاره إليهم، وإسهامه في النشاط اللغوي العام، واندفاعه الذاتي للنقد والحكم والتحليل. ويُعرَف المبدع من تحلّيه عادة بالدلالات الخارجية السابقة الخاصة بالموهوب، إضافة إلى القدرة على الإنتاج الإبداعي الذي يتصف بالجدّة. ولكنّ الجدّة أمر نسبي وليس مطلقاً، ونسبيّتها واضحة في مرحلة الطفولة، إذ تعني فيها إنتاج الجديد بالنسبة إلى الأطفال وليس الجديد بالنسبة إلى الحقل الأدبي أو العلمي في بيئتهم. ومن المفيد أن أنصّ على أن الموهوب يصير مبدعاً، والمبدع يصير عبقّرياً، إذ توافر المناخ التربوي الملائم، وإلا فإن العبقرية تُعطِّل كما يُعطِّل الإبداع وتموت الموهبة. وهذا يقودنا إلى أن تربية الإبداع لدى الأطفال يجب أن تُعْنَى بالموهوبين أوّلاً لأنهم أكثر عدداً، ولأن هذه العناية قادرة على قيادة الموهبة إلى الإبداع إذا توافرت في الموهوب قدرات كامنة تستطيع التربية إثارتها وحفزها على الظهور. وربّما برز العبقري من صفوف المبدعين إذا كانت القدرات الكامنة والاستعدادات الوراثية أكثر أصالة وميلاً إلى العمل.

 

أستطيع؛ بعد الحذر المنهجي السابق، اقتراح العناية بالأمور الأربعة التالية، وأنبِّه قبل تفصيل القول فيها إلى ضرورة توافرها كلها مجتمعةً، لأن الخلل في أمر منها يقود إلى خلل تربية الإبداع الأدبي لدى الأطفال.

 

1- المناخ العام للإبداع:

 المراد بالمناخ العام للإبداع طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه المبدعون. فإذا كان هذا المجتمع ديمقراطيّاً يشجِّع أبناءه على الحوار وحريّة التعبير، ويقبل الرأي الآخر، ويُقدِّر الشريف المفيد العامل على خدمة الأمة ورفعة شأنها، نما المبدع في مناخ ملائم للإبداع. وإذا كان هذا المجتمع تسلُّطياً قمعياً، يشجِّع أبناءه على النفاق والزيف، وكمّ الأفواه، ويرفض الاعتراف بحقوق الإنسان، ويُقرِّب المخادع المداهن، شعر المبدع بالاختناق وأحسّ بالقيود التي تُكبِّل رأيه وعمله، فسكت خوفاً أوهاجر إشفاقاً على نفسه من مواجهةٍ هو وحده الخاسر فيها.

 

ولستُ في معرض الحديث عن ميزات الديمقراطية، فما هي بالأمر البعيد عن أحد في هذا الزمان، ولكنني أودّ التذكير بأن الديمقراطية جوهر الإبداع، ولا إبداع في المجتمع دون ديمقراطية. وعلى الرغم من أن هناك أمثلة على مبدعين نشؤوا في مجتمعات قمعية، فإن هذه الأمثلة لا تداني في المجتمعات نفسها نسبة المبدعين الذين مات الإبداع في نفوسهم أو حملوه وهاجروا إلى بلدان أخرى. ذلك لأن الديمقراطية لا تعني الحقوق السياسية والاجتماعية وحدها، بل تعني أيضاً إتاحة الفرصة لكل إنسان حسب قدراته واستعداداته. فلا يرتفع الوضيع لأنه يمدح ويداهن، ولا يُهان المبدع لأنه يجهر بالحق ويحرص على أن يُبدي رأيه وينفر من المجاملة. إن الديمقراطية تضع الإنسان حيث يجب أن يُوضع، وتُقدِّره حقّ قدره، وتُنشئ المؤسسات والمعاهد والجامعات والمدارس التي تُربي الإبداع لدى الموهوبين من أبنائها. وليس بين الشرق والغرب خلاف حول هذا الأمر. ففي الولايات المتحدة يوفِّر المجتمع ثلاثة أمور أساسية(8): التجميع والإسراع والإثراء. أما التجميع فيعني إنشاء صفوف خاصة بالمتفوقين بغية جمعهم في مدارس معيّنة وعزلهم عن أقرانهم العاديين. وأما الإسراع فيعني السماح للمتفوقين بالانتقال بين المراحل الدراسية بسرعة غير السرعة التي يُسمح بها لأقرانهم العاديين. وقد تتم هذه السرعة بتخطّي الصفوف أو ضغطها في مرحلة واحدة، إضافة إلى القبول المبكّر فيها للطالب الذي ثبت تفوّقه. وأما الإثراء فيعني اختيار أنشطة خاصة تُنمِّي مهارات المتفوّق ومواهبه. وفي الاتحاد السوفييتي السابق كان المجتمع يوفِّر مدارس خاصة بالمتفوقين، ويتمّ قبولهم في (الأولمبياد الأكاديمي) بعد خضوعهم لاختبارات محدَّدة لمعرفة قدراتهم. وهناك مدارس اختصاصية ببعض الفنون (الموسيقى والباليه مثلاً)، ومدارس أخرى تقبل الطلاب في سن مبكّرة، ومدارس من نوع ثالث تستند إلى مناهج تتمتّع بالمرونة والقدرة على الوفاء بحاجات المبدعين.

 

والحديث ذو شجون عن طبيعة المجتمع، سواء أكانت ديمقراطية يتوافر فيها المناخ العام للإبداع أم كانت تسلُّطية تخنق هذا المناخ وتُميتُه. بيد أنني أرى من المفيد تخصيص القول في المجتمعات العربي، ومن ثمّ لابدَّ من السؤال التالي: ماطبيعة المجتمع العربية، أهي ديمقراطية أو تسلُّطية؟ الحقُّ أن الدراسات الاجتماعية التي حلّلت المجتمع العربي قليلة جداً، ولكنّها متفقة على أنه مجتمع متخلِّف يُوصَف لتحسين الشكل وتخفيف الوقع بأنه مجتمع نام، ويسمِّيه هشام الشرابي(9) بطركيّاً يتألّف من خليط متضارب من العلاقات والقيم والبنى الاجتماعية القديمة والمستحدثة. كما أنه مجتمع تابع، ينقصه الاستقلال الذاتي، ويعيش أزمة التحوُّل في ظلّ الهيمنة الخارجية سياسياً واقتصادياً وحضارياً، ويتميَّز بتركيب اجتماعي نفسي متناقض ينعكس في حالة العجز والشلل التي هو فيها: عجزه الوظيفي في ممارساته الروتينية، وعجزه السياسي في نظامه الداخلي وفي تحقيق أهدافه الوطنية والقومية، وشلله العسكري والتنظيمي في حماية مصالحه العليا، وتقصيره في التخلُّص من التبعيّة وفي التوصُّل إلى الاستقلال الحقيقي. وعلى الرغم من ذلك كله فإن هذا المجتمع البطركي في رأي هشام الشرابي يتمتّع بقدر كبير من الدهاء والمقدرة على البقاء. فهو قادر على حجب ماهيّته البدائية المتخلّفة بمظاهر الحداثة والرقي، فيبدو كأنه مجتمع متطوّر يوشك أن ينتقل إلى مرحلة اقتصادية أعلى، وهو قادر على إشباع نهم طبقاته الاجتماعية المسيطرة وفي الوقت نفسه على تخدير جماهيره الواسعة. وربّما كان تحليل الدكتور الشرابي مؤلماً للراغبين في أن يتمكّن المجتمع العربي من تجسيد إنسانية الإنسان بوساطة التربية، غير أنه تحليل سليم في جوهره. وهو، أوّل وهلة، يُعزِّز القول بالطبيعة التسلُّطية القمعية للمجتمع العربي، ومن ثمَّ ينفي إمكانية توافر المناخ العام للإبداع فيه. ذلك لأنه يشير إلى أن مؤسسات المجتمع كلها تعيد إنتاج الذات البطركية، مما يجعل الحلْقة مفرغة. فالتربية، على سبيل التمثيل لا الحصر، لا تربّي شخصية الطفل على قيم الحق والخير والعدالة والحريّة والمساواة والأثرة والإخلاص وغير ذلك من القيم الإيجابية، بل تربي في هذه الشخصية قيم الطاعة والرضوخ والاستكانة والأنانية والنفاق، ولكنها تتظاهر بعكس ذلك حين تعلن أهدافاً جميلة، ومن ثمَّ تُرسِّخ  التناقض بين القول والعمل، وبين الأهداف النظرية وتطبيقاتها العملية.

 

إذا أنعمنا النظر في التحليل السابق لاحظنا أنه لا ينوي تعزيز الطبيعة التسلُّطية للمجتمع العربي، بل يحلّلها ليُشكِّل لدى الإنسان نوعاً من الوعي بطبيعتها. وهذا الوعي أوّل طريق النقد الذاتي الذي يقود إلى كسر الحلْقة المفرغة. ولهذا السبب لم يكن غريباً أن يقترح الدكتور الشرابي الاهتمام بالطفل والمرأة والأسرة النووية. ذلك لأن طبيعة المجتمع العربي ليست قَدَراً، بل هي واقع يمكن تغييره وتعديله وتبديله. ولاشك في أن العناية بالطفل ليست اقتراح الدكتور الشرابي وحده، بل هي مرتكز من مرتكزات المهمّة لدى المثقفين والتربويين وعلماء النفس والاجتماع والاقتصاد. كما أنّها وسيلة تحقيق الأمل الذي تعقده على الطفل القادر على تغيير المجتمع العربي وقيادته إلى الحضارة. ومن الطبيعي أن يكون مفهوم العناية بالطفل واسعاً شاملاً الأطفال كلهم، لأنه يعني توفير الحاجات الأساسية الجسدية والنفسية والروحية والمعرفية، وتنمية المهارات والاتجاهات، وغير ذلك من (مقوّمات عملية التنشئة الاجتماعية التي يتم من خلالها تشكيل الوليد البشري والانتقال به من كائن بيولوجي إلى مواطن راشد له شخصيّته المميزة التي يستطيع من خلالها أن ينتج ويسهم في رفاهية مجتمعه)(10). وليس لديَّ شكٌ في أن مفهوم العناية بالطفل يشمل الراشدين أيضاً. إذ لا معنى للحديث عن هذه العناية إذا لم يكن الراشدون يعون أهمية التنشئة السليمة للطفل، ويتقنون أساليب تجسيدها، ويعرفون أبعادها الاجتماعية والنفسية والوطنية والقومية. ومن ثمَّ تدخل حقل هذه العناية تلك الدراساتُ والمحاضراتُ والندواتُ واللقاءاتُ التي تُسهم في تشكيل وعي الراشدين بطبيعة الطفل العربي في الحاضر وصورته المأمولة في المستقبل.

 

2- المناخ الخاص للإبداع:

 إذا كان المناخ العام يعني المناخ الديمقراطي المواتي للإبداع ضمن دائرة العناية بالأطفال كلهم دون تمييز بينهم، فإن المناخ الخاص يعني وعي طبيعة الموهوبين والمبدعين. وقد مرّ وقت طويل كنّا نعتقد فيه أن الإنسان المبدع شخص مختلف عن أقرانه في الذكاء والاستعدادات الوراثية والسلوك الاجتماعي والإلهام. ومن ثمَّ لم نكن قادرين على أن نوفرّ له مناخ الإبداع، بل كنّا نحتاج إلى أسطورة (عبقر) أو مثيلها لنقنع أنفسنا بهذا الاختلاف ونريحها من عناء التفكير فيه. والحقُّ أن الدراسات الحديثة أثبتت خطل هذه النظرة إلى الإنسان المبدع، وساعدتنا على فهمه فهماً علمياً يؤهلنا -إذا كنّا جادين مخلصين- للنهوض بمهمة العناية به وتوفير المناخ المواتي لإبداعه. وأستطيع اختزال ماقدَّمته أدبيّات الإبداع الحديثة في النقاط التالية(11):

أ- كل فرد يملك القدرة على الإبداع. أيْ أن لديه (الاستعداد) أو (الإمكانية) أو (الطاقة) على ذلك. وهذا الأمر لا يمنع من القول إن هذه القدرة تختلف وتتفاوت بين الأطفال تبعاً للفروق الفردية بينهم في القدرات والسمات، ومن ثمَّ لابدَّ من أن تُوجّه التربية عنايتها بادئ ذي بدء إلى الأطفال كلهم بغية حفز طاقاتهم على الظهور.

ب- بروز القدرة على الإبداع في هيئة أعمال إبداعية يتوقّف على أمور كثيرة، يرجع بعضها إلى العوامل الوراثية والدوافع الشخصية، ويرجع بعضها الآخر إلى الظروف البيئية.

ت- العوامل الوراثية لا تقود وحدها إلى الإبداع:

ولعلّ الذكاء أبرز العوامل الوراثية التي اختلط أمرها على الدارسين حتى الخمسينيات، ومازال اللبس سائداً حولها لدى العامة. إذ كان الدارسون يعتقدون بأن ارتفاع درجة الذكاء فوق الحدّ المتوسّط أو العادي (وهو 100درجة) يقود إلى الإبداع، ثم اكتشفوا بعد أن نشر (تيرمان) تقاريره الثلاثة (في الأعوام 1925-1957-1959)(12). أن درجة الدنيا اللازمة للإبداع هي (120) درجة تزيد أو تنقص قليلاً ولا أهمية للارتفاع الكبير في هذه الدرجة، مما قادهم إلى أن نسبة الذكاء ليست معياراً دقيقاً للموهبة الإبداعية. فقد كان بين الموهوبين الذين تتبّع تيرمان حياتهم من الحادية عشرة إلى الخامسة والأربعين أربعون موهوباً ارتفعت نسبة ذكائهم فوق (180) درجة، ولكن نتائج هؤلاء لم تختلف عن نتائج أقرانهم الذين وصلت نسبة ذكائهم إلى (140) درجة.

 

ث- دلالات التفوّق العامة كالتحصيل المدرسي والتوافق المهني والاجتماعي والصحة النفسية والجسدية ليست معايير دقيقة للموهبة الإبداعية. فقد كان دارون غبيّاً في المدرسة، ونيوتن بليداً، وباستور مخفقاً، وهيوم مخيِّباً للآمال، ولكنهم في مراحل حياتهم اللاحقة أصبحوا عباقرة يُشار إليهم بالبنان.

ج- يظهر السلوك الابتكاري لدى الأطفال في أحد مجالات المعرفة، ويندر أن نجد طفلاً مبدعاً في المجالات كلّها.

 

ح- القدرات التي تُشكِّل التفكير الإبداعي نوع من المهارات العقلية قابل للتنمية والتحسين والرعاية عن طريق التدريب والممارسة. ومن العبث الظن بأن هذه القدرات وراثية لا يستطيع الإنسان تعديلها وتبديلها.

 

إن النقاط السابقة لا تحيط بطبيعة الموهوبين والمبدعين، ولكنّها تُصوِّب نظرتنا إلى علاقة الذكاء بالإبداع، وتدعونا إلى رعاية الأطفال كلهم لنحرِّض طاقاتهم ومواهبهم الدفينة، وتبعدنا عن الظن بأن الموهوب متفوّق في المجالات جميعها، وتنبِّهنا على أن قدرات التفكير الإبداعي مهارات عقلية نستطيع تنميتها. وهناك، دون شك، أمور أخرى زخرت بها أدبيّات الإبداع، لا مفرّ لأي راغب في تربية الإبداع لدى الأطفال من معرفتها والغوص في دقائقها ليتمكّن من أداء عملّه على نحو علمي دقيق. وربّما كانت سمات الإبداع وقدراته أبرز هذه الأمور في رأيي.

 

3- سمات الإبداع الأدبي وقدراته:

لا يستطيع أحد الادعاء بأنه راغب في تربية الإبداع الأدبي لدى الطفل إذا لم يكن يملك معرفة كافية بسمات الإبداع وقدراته. ذلك لأن الباحثين بذلوا كثيراً من الجهد لتعرُّف سمات شخصيّات المبدعين والقدرات الإبداعية التي يملكونها بغية الإحاطة بعملية الإبداع وضبطها والسعي إلى تنميتها. وعلى الرغم من أن هذه الدراسات تناولت المبدعين بعد أن اشتهروا في حقل الإبداع، فإن نتائجها قابلة للتعميم والتنبّؤ بالإبداع. وبتعبير آخر، فإن هناك سمات شخصية وقدرات عقلية معيّنة عملت معاً في أثناء إنتاج الآثار الإبداعية لدى المبدعين، ومن المتوقّع أن تؤدي العناية بهذه السمات والقدرات لدى الطفل إلى الإبداع في مراحل حياته اللاحقة، استناداً إلى إمكانية تعميمها وإنْ لم تكن شاملة المبدعين كافة.

 

تمثّل السمة عند علماء النفس (استعداداً عاماً أو نزعة عامة تطبع سلوك الفرد بطابع خاص، وتُشكّله وتلوّنه وتُعيِّن نوعه وكيفيّته. وهم يقصدون من استخدام هذا المفهوم للسمة إلى محاولة تفسير السلوك الظاهري للأفراد عن طريق افتراض وجود استعدادات معيّنة عندهم، تكون مسؤولة عن هذا السلوك وعن الثبات والأتساق الذي نلاحظه فيه...وأكثر الناس تسيطر على سلوكهم وتُشكّله مجموعة قليلة من السمات التي يمكن وصف شخصيّاتهم من خلالها، إضافة إلى أن كل فرد من الأفراد يتمتّع بعدد من السمات الصغرى التي تثيرها مجموعة من المنبّهات المحدودة الضيِّقة، وتنتج عن آثارها كذلك مجموعة من الاستجابات المحدَّدة الضيِّقة المكافئة لها.

 

ويمكن أن نطلق على هذه السمات الثانوية اسم الاتجاهات بدلاً من السمات، وذلك لتعدُّدها واتصالها بمواقف محدَّدة)(13) ثم إن هذه السمات التي تستعمل في وصف الشخصية متنوِّعة، تبدو أحياناً متناقضة وغير شاملة المبدعين كلهم، ولكنها في الحالات كلها تُشكّل الدوافع الداخلية والمزاجية للإبداع، ومن أبرزها: السيطرة، والاستبطان (التأمُّل الذاتي)، وتقبُّل الذات، والرصانة، والاستقلال، والبعد عن الانصياع، والصحة النفسية، والتحرُّر من الانضباط الزائد، والبعد عن العصابية، وغير ذلك.

أما القدرات العقلية للإبداع فقد سُمِّيت قدرات التفكير الابتكاري، كما سُميِّت أيضاً الخصائص العقلية للإبداع. ومهما تكن التسميات -وهي مترادفة تقريباً- فإن هناك إجماعاً على اعتماد ماقدَّمه (جيلفورد) حولها. إذ نصَّ على ثلاث قدرات هي: الطلاقة والمرونة والأصالة (14). ولكن أحد الباحثين العرب (15) أضاف إليها قدرتين أخريين هما: مواصلة الاتجاه واللغة. ويكاد الإجماع ينعقد على أن (الأصالة) أكثر القدرات الإبداعية أهمية، بل إن بعضهم أطلق عليها تسمية (حجر الرحى في تكوين العقل الإبداعي). والمراد بهذه القدرة إنتاج أفكار جديدة أو طريفة. وقد لاحظ الدارسون(16) أن استجابات المبدع الأصيل تتسم بالمهارة والبراعة أو تكون غير شائعة، أو تبدو العلاقات بعيدة بينها. كما لاحظوا أن المبدع نفسه ميَّال إلى التعبير الجمالي والتفكير التأمُّلي المنطلق. أما الطلاقة فهي القدرة على إنتاج عدد كبير من الأفكار في وقت واحد، أو هي السهولة والسرعة التي تتم بهما التداعيات(17). في حين يُراد بالمرونة السهولة التي يُغيِّر بها الشخص موقفاً ما أو وجهة عقلية معيّنة(18).... كما يُراد بمواصلة الاتجاه قدرة المبدع على تركيز انتباهه وتفكيره في مشكلة معيّنة زمناً طويلاً جداً.(19).

 

إن الإطار العام السابق للسمات والقدرات مفيد في تعرّف عملية الإبداع العلمي والفنّي معاً. فإذا رغبنا في تخصيص القول بالإبداع الفنّي عموماً وبحقل من حقوله، هو الإبداع الأدبي، خصوصاً واجهتنا قضايا دقيقة، كالخبرة الجمالية والقدرة المعرفية والتخييليّة واللغوية والتعلُّق بالأدب ومهارة اختيار الأدوات الفنيّة واستعمالها وتوظيفها، وغير ذلك مما يُعين على الصناعة الأدبية ويُنمِّي موهبة الطفل فيها.

 

4- تربية الإبداع الأدبي:

إذا توافر المناخان العام والخاص للإبداع، وأضحت السمات والقدرات معروفة، غدت الطريق ممهَّدة أمام التربية للإسهام في تنمية الإبداع الأدبي لدى الأطفال. وأودّ قبل أن أُقدِّم اقتراحي الخاص الإشارة إلى الأمور الآتية:

أ- هل نربي الإبداع الأدبي لدى الطفل الفرد أو لدى جماعة الأطفال؟! الحقّ أن غالبية أدبيّات الإبداع ميَّالة إلى تربية الإبداع لدى الطفل الفرد لأنها مؤمنة بأن الإبداع عملية فردية لا يلتقي فيها مبدعان، ولا يمكن للجماعة أن تنهض بها للفروق الفردية بين المبدعين ولتنوُّع سماتهم وقدراتهم. بيد أن هناك أدبيّات أخرى قليلة تميل إلى الإبداع الجماعي(20) وتراه ممكناً، انطلاقاً من إيمانها بالجماعة وابتعادها عن الفردية. على أن واقع الإبداع يشير إلى أن الحقل الأدبي يحتاج إلى العناية بالطفل الفرد، في حين يستطيع حقل البحوث الأدبية العناية بالإبداع الجماعي والاستعانة بتقنيات العصف الذهني وغيرها. ولكن الواقع العربي لا يسمح بتربية الإبداع الأدبي لدى الطفل الفرد، ولهذا السبب لابدَّ من وضع الطفل الموهوب ضمن أقرانه، على أن يكون عدد الموهوبين في مكان التدريب قليلاً بحيث يستطيع المشرف العناية بهم فرداً فرداً. وعلى الرغم من أن هذا الحل واقعي بالنسبة إلى المجتمع العربي، فإن اللجوء إليه يحمل معه دائماً خطر الابتعاد عن الإنجازات الإبداعية الجيدة في الأعمال الأدبية التي تستند إلى الرؤى والخبرات الجمالية المتنوّعة. 

 

ب- يتصل بالأمر السابق سؤال آخر هو: هل نعزل الموهوبين أو نتركهم صحبة أقرانهم العاديين؟ إن الإجابة عن هذا السؤال مازالت موضع خلاف، فقد جرّبت دول العالم النوعين. والمعروف أن الاتحاد السوفييتي السابق عزل الموهوبين في الموسيقى والبالية في مدارس خاصة، وترك الباقين في صفوف عادية خلال السنوات الثماني الأولى من الدراسة، ثم أخضعهم لبرامج معيّنة تلائم مواهبهم. وقد أثبتت إحدى الدراسات العربية(21) ضرورة عزل الموهوبين في صفوف خاصة لأن ذلك يضاعف تفوٌّقهم، ويجعلهم يحافظون على مركز الصدارة، ويتيح لهم فرص النشاط القيادي ومصاحبة أقرانهم الموهوبين والابتعاد عن مشاكسات أقرانهم العاديين، إضافة إلى التنافس والرضى النفسي وجودة المناخ الاجتماعي(22). على أنني لم أعثر على مثال واحد يعزِّز القول بضرورة عزل الموهوبين في الأدب، في حين تترى أمثلة العزل في حقلي الموسيقى والباليه، وتكثر جداً في حقول الإبداع العلمي. وربّما رجع ذلك إلى حاجة الإبداع الأدبي إلى الفردية، أو رجع إلى اهتمام المجتمعات الحديثة بالعلم وإهمالها الأدب. ومهما تكن الأسباب فإن الواقع الموضوعي في الوطن العربي لا يسمح في الغالب الأعم بإنشاء مدارس خاصة، وماتوافر من هذه المدارس في بعض دول الخليج وفي مصر يُعدُّ إرهاصاً لابدَّ من الاستمرار في دراسته دراسة علمية للنهوض ببرامجه وأساليب رعاية الموهوبين فيه. والسائد الآن أن تلجأ غالبية الدول العربية إلى زجّ الموهوبين في الصفوف صحبة أقرانهم العاديين، وتخصيص أمكنة معيّنة لهم يمارسون فيها نشاطاتهم خارج الدوام المدرسي.

 

ج- كما يتصل بالأمرين السابقين أمر المشرفين على تربية الإبداع الأدبي لدى الأطفال. ذلك لأن المعلّم العادي لا يصلح للإشراف لافتقاره إلى معرفة طبيعة الأجناس الأدبية. ولهذا السبب يسعى المجتمع العربي إلى الإفادة من الأدباء في تقديمه العون للمشرفين الذين تلقوا تدريبات جديدة تُؤهلّهم لتلمُّس الإبداع ومعرفة طبائع المبدعين في الحقل الأدبي. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك نقصاً فاضحاً في إعداد المشرفين يخص جانب (التفكير) في علاقته بالثقافة. فمن أساليب تربية الإبداع تدريب المشرفين على نبذ التفكير الخرافي والتسلُّطي واللفظّي(23) لدى الأطفال، وطبعهم على سمات التفكير العلمي، وخصوصاً: التراكمية والتنظيم والبحث عن الأساليب والشمولية واليقين والدقة والتجريد(24)، وقيادتهم إلى التفكير السليم(25) في الواقع المحيط بهم، تجسيداً لما هو معروف من أن الأديب الحقّ يعكس الخاص والجوهري في موضوع ملاحظته الآخرين. فهو يدخل عالمهم الداخلي، ويعيش حياتهم، ثم ينظّم ملاحظاته ويسكبها في تعبير جمالي (26) لئلا يخسر التعبير الإبداعي(27) الذي يعيد إنتاج الواقع الموضوعي بوساطة الفن، غير أن العناية بالتفكير لا تكفي وحدها، لأن المشرف مطالب بربط تفكير الموهوب بالثقافة، تبعاً لكون الثقافة تُحدِّد التفكير وتبسط ظلّها عليه. والمشكلة التي يواجهها المشرف العربي هي: هل يربط تفكير الطفل الموهوب بالثقافة العربية السائدة؟! إنْ فعل ذلك جعل الطفل الموهوب يعيدُ إنتاج الذات البطركية في المجتمع العربي التسلُّطي،  وإنْ دفعه بعيداً عن هذه الثقافة خلعه من مجتمعه وسمح له بالاغتراب الثقافي. وللتخلُّص من هذا الإشكال ينصح العاملون في حقل الاتصال الثقافي أن يربط المشرف الطفل الموهوب بالإيجابي في الثقافة العربية انطلاقاً من هدف رئيس هو الثقافة الملائمة للحاضر والمستقبل، القادرة على بناء شخصية متكاملة متوازنة للطفل الموهوب(28)، أو مايمكن وصفه بالثقافة الدينامية، وليست القضية هنا قضية مفردات الثقافة، بل هي الأساليب والوسائل التي تتيح للطفل فرص امتصاص الإيجابي من ثقافة مجتمعه، إضافة إلى تدريبه على مهارة الإفادة من الثقافة دون عون من الآخرين، والتزام مواقف ومعايير ذاتية واجتماعية (29) تُمكنِّه من اختيار طريقه في حياة ذات ثقافة متجدِّدة متغيِّرة.

 

 ولكنْ، كيف نربي الإبداع الأدبي لدى الأطفال بعد هذا كله؟ إنني لا أملك إحابة علمية عن هذا السؤال، ولكنني أقترح على المربين المشرفين بناء الخبرات التالية لارتباطها بإنتاج العمل الأدبي مهما تختلف أجناسه.

 

* الخبرة اللغوية:

إن اللغة هي الوعاء الرمزي للتفكير الابتكاري، والوسيلة التي يتجسّد بها هذا التفكير في شكل أدبي محسوس. وعلى الرغم من أهميّتها الكبيرة في الإبداع فإن غالبية الدراسات أهملتها وكأنها ثانوية. ومن المفيد ألا نكرّر هذا الخطأ، وأن نصرف الوقت والجهد في تشكيل الخبرة اللغوية لدى الطفل الموهوب لإعداده لمرحلة الإنتاج الإبداعي في مراحل حياته اللاحقة. وتربية هذه الخبرة غير مقصورة على الجانب المعرفي الخاص بقواعد النحو والصرف، بل هي قبل ذلك وبعده تكوين الحس اللغوي السليم الذي يسمح للموهوب بانتقاء القوالب اللغوية الملائمة للمعاني دون التنازل عن جمّالياتها وقدرتها على التأثير والإمتاع والإقناع، ولابدَّ في هذه الحال من أساليب جديدة لتمكين الموهوب من البلاغة العربية بعيداً عن الأسلوب المدرسي الذي يُشجِّع اللفظية بما تضمّه من حفظ التعاريف واختيار الشواهد المناسبة لها. ذلك لأن البلاغة علم نظم الكلام وتزيينه بما يرفع مستوى جماله وتأثيره في المتلقّي، إضافة إلى أنّه التجسيد الحقيقي لمهارة انتقاء الألفاظ والتراكيب. وغير بعيد عن ذلك زيادة الثروة اللغوية للموهوب، وتحليل النصوص من الزاوية اللغوية لمعرفة مواطن قوّتها وضعفها وطرائق تصرُّفها بالمعاني.

 

ولاشك في أن هناك تدريبات لغوية كثيرة، منها المباراة بين الموهوبين في التعبير الشفوي والكتابي الجميل عن شيء واحد محسوس، أو عن فكرة معنويّة مجرّدة، أو عن تناقض بين موقفين. ومنها التدريب على إبدال التعبير الجميل بآخر مثله أو يفوقه، أو إعادة سرد قصة بأسلوب يفوق أسلوبها متانة وجزالة. ومنها مهارة التلخيص، تلخيص عدد كبير من الصفحات بعدد قليل منها، فأقلَّ، مرّة بعد مرّة، بغية إعداد الموهوب لمهارة التركيز والتكثيف اللازمة للشعر والقصة القصيرة والمسرحية. وليس الغرض ههنا حصر التدريبات، بل الغرض التنبيه على أن الخبرة اللغوية تنمو إذ أُحسنت تربيتها، وتضمر إذا تركها المشرف تنمو وحدها دون عون منه. وإذا لم يكن من الهيِّن أن يحسن الموهوب التصرُّف باللغة العربية الفصيحة، فإنه ليس من العسير الانتقال درجات في إتقان هذا التصرُّف إذا عرفنا أن الموهوب والمبدع يتمتّعان دائماً باستعداد لغوي يعينهما على الطلاقة اللفظية والتعبيرية.

 

*الخبرة الفنيّة:

ليس هناك أديب دون خبرة فنيّة في حقل اهتمامه الأدبي، ولكن مستوى هذه الخبرة ليس واحداً، فقد ترتقي وتضعف، وتبدو عميقة أوابتدائية. والمشكلة أننا اعتدنا إطلاق اسم (الأديب) على الشخص الذي يكتب في أحد الأجناس الأدبية، ولكننا لم نعتد السؤال عن مستوى الخبرة الفنيّة الذي يملكه ويتحكّم في إنتاجه.  صحيح أننا نطلق أحياناً أحكاماً قيمة على مستوى هذا الأديب أو ذاك، إلاّ أن أحكامنا تستند إلى مرجعيّة عامة هي موهبة الأديب. فنحن نقول مثلاً: ضعيف الموهبة -متوسّط الموهبة- موهوب جداً.. وما إلى ذلك من أحكام تقييمية عامة تفتقر إلى التحديد. ومن الصعوبة بمكان سؤال الأديب في الوقت الحاضر عن خبرته الفنيّة، لأن الإجابة ستكون واحدة دائماً، هي: الموهبة إضافة إلى الثقافة. أمّا الموهبة فهي عطاء إلهي، وأما الثقافة فهي جهد ذاتي فردي. وهذا كله صحيح في الحدود العامة، إذ لابدّ للأديب من الموهبة والثقافة، ولابدَّ من أن يختلف مستوى الأدباء وأن ينعكس هذا الاختلاف في إنتاجهم الأدبي ضعفاً وقوّة وجودة ورداءة وعمقاً وسطحية وضحالة ورقيّاً.. بيد أن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة محدّدة هو: ما الذي صنع هذا كله؟ هل هو تباين الموهبة والثقافة؟ أو هو نقص الخبرة الفنيّة؟.

 

أعتقد بأن للموهبة أثرا بالغاً في المستوى الفنّي للإنتاج الأدبي. ولكن هذه الموهبة تقوى كما تموت وتضعف وتتهاوى تبعاً لتعهدُّها بالرعاية أو إهمالها. والمراد هنا تنظيم التثقيف لاكتساب الخبرة الفنيّة التي تساعد الموهبة على الارتفاع إلى الحد الأعلى. فالأدباء يقرؤون، ولكن القراءة المفيدة هي التي تتجه أولاً إلى تنمية الخبرة الفنيّة بالجنس الأدبي الذي انصرف الأديب إلى الإنتاج فيه. ذلك لأن الموهبة القصصية تتألّق إذا عرف القاص تقنيّات القصّ، وأصبح ماهراً في استعمالها وتوظيفها. ومن ثمَّ لا يكفي أن يقرأ قصصاً انعقدالاجتماع على جودتها الفنيّة، بل يحتاج إلى السؤال: كيف صنع القاصون هذه القصص الجيّدة؟ ولابدَّ أيضاً من (تفكيك) هذه القصص وتركيبها وتأمُّل جوانبها المضمونية واستعمالات الأدوات الفنيّة فيها، وغير ذلك مما يُسهم في صنع الخبرة الفنّية القصصية. ولأنني لا أعرف مقدار ماهدر الأدباء من مواهبهم حين أغفلوا تنظيم تثقيفهم، فإنني أقترح الاهتمام بهذا الأمر في تربية الإبداع الأدبي لدى الأطفال. وأشير إلى أن هناك تدريبات كثيرة تساعد على تكوين الخبرة الفنّية، منها تقديم فكرة أو حدث ثم المباراة في صوغه قصصياً، ومنها تفكيك القصص وإعادة تركيبها، ومنها الدروس المباشرة في فن القصة(30) والشعر والمقالة، ومنها تدريبات الأداء الشعري والمسرحي، وتبديل الشخصيّات والخواتيم القصصية، وتأليف المشاهد المسرحية، وتكملة الأشطر الشعرية، وإنشاء الخطب، وما إلى ذلك من تدريبات على الخبرة الفنيّة تعين الإلهام على التجسيد في العمل الأدبي.

 

على أن هناك جانباً آخر في الخبرة الفنيّة لا يقلُّ أهميّة عن المهارة في استعمال التقنيّات، هو الجانب الجمالي الذي يرهف العمل الأدبي ويجعله ينتسب إلى الفنّ. ذلك لأن الجمال جوهر الفنّ، وحين يستعمل الأديب هذه التقنية الأدبية أو تلك فإنه يهدف إلى توفير الجمال للعمل الأدبي. ومن ثَمَّ لابدَّ له من تثقيف نفسه جمالياً إذا رغب في أن يقود موهبته إلى التجسيد في عمل فنّي ما تع مؤثِّر. والمشكلة هنا عسيرة جداً، لأن الخبرة الجمالية(لا ترجع إلى ما تنفعل به النفس، فهي ليست في جوهرها إحساساً بالسار أو بالمكدِّر، باللذة أو بالألم، وإنْ كانت مجسَّمة فيما يعتري النفس من حركات وانفعالات. كما أنها في جوهرها ليست إشارة إلى الموضوع الحسّي الخارجي، ولا تمثيلاً، به، وليست ضرباً من التصوُّر الذهني ولا تعبيراً عن أمر موضوعي، أي أنها لا تنتمي إلى الواقع العلمي كما يصوغه العقل وإنْ كانت تلجأ إلى بعض الوسائل التعبيرية التي يستخدمها العلم من أصوات وأشكال. إنها ولادة جديدة تتجدّد مع كل خبرة جمالية. كما أنها قدرة على التذوّق وكشف سريع عن جوهر الوجود قبل أن تمزّقه الحواس وتشتّته، وقبل أن يحبسه العقل في العلاقات المنطقية والتركيبات العلمية)(31). ولذلك كلّه تُعَدُّ الخبرةُ الجمالية مهارةً(32) التذوّق التي تسهم إسهاماً فعَّالاً في عمليّة الإبداع. وعلى الرغم من دقّة هذه الخبرة الجمالية فإن تنميتها ممكنة دائماً. وسبيل ذلك تذوُّق النصوص الأدبية، لأن للخبرة تاريخاً لا ينفصل العمل الأدبي فيه عمّا أنجزه سابقوه في الحقل نفسه، ولا ترتبط قيمته الجمالية بزمن ظهوره، ولا بمرحلة محدَّدة لذاتها ينتسب إليها في خط تطوّر فنّ الكلمة(33). ولهذا السبب عُنيت برامج تدريب الموهوبين بالتعريف بالثقافة الإنسانية، وتحليل جماليّاتها الخاصة، بغية الإسهام في تشكيل الخبرة الجمالية.

 

* الخبرة الخياليّة:

تستطيع الخبرة الخيالية مساعدة الطفل المبدع على خلق عوالم جديدة، لأن الخيال -كما سيلي في أثناء الحديث عن قصص الخيال العلمي- قوّة معرفية تركيبيّة جديدة، يملكها الناس كلهم على تفاوت بينهم في درجاتها تبعاً لاختلاف تركيب أدمغتهم. هذه القوّة العقلية مرتبطة بالقوى العقلية الأخرى كالإدراك والتذكُّر، ولكن ارتباطها بها ليس حتميّاً، إذ يمكنها الاستقلال بنفسها وارتياد عوالم وحوادث لم يؤدّ إليها التذكُّر ولم يدركها الإنسان من قبل. والحريّة عماد هذه القوّة وركنها المكين، وبواسطتها يُحلِّق الخيال في الزمان والمكان، دون أن يكون مقصوراً على زمان محدَّد ومكان معيَّن. والارتفاع فوق الواقع سمة رئيسة في الخيال، لأن نقل الواقع كما هو لا يُعدّ خيالاً، بل يُعدّ استعادة. ولكن ذلك لا يعني أن الخيال منفصل عن الواقع، بل يعني أنه لا خيال إذا لم تُصْنَع من العناصر المستمدّة من الواقع صورة جديدة ليس لها شبيه في هذا الواقع، ولكن الإنسان يفهمها ويُصدِّقها ويتفاعل معها ويتأثَّر بها. ومن ثَمَّ هناك إمكانية لتربية هذه القوّة الفطرية بغية تنميتها ودفعها إلى إنشاء الصور والحوادث والمجتمعات الجديدة.

 

ومن المفيد لتربية الإبداع الأدبي لدى الأطفال أن يراعي المشرف القاعدة الذهبيّة التالية: (كلما اتجه التفكير إلى الواقع قلَّت الصور)(34). أيْ أن هذا المشرف مطالب بدفع الطفل الموهوب إلى تشكيل الصور استناداً إلى خياله، سواء أكان لها سند في الواقع المحيط بالطفل أم لم يكن. وليس الغرض من ذلك إبعاد الطفل الموهوب عن الواقع، بل الغرض تدريب خياله على التحليق فوق الواقع ليتمكَّن من نقله إلى شكل تركيبيّ جديد معبِّر عن آليّته وحركته الموضوعية وإنْ لم يكن مطابقاً لشكله الظاهري.

وقد سعتْ أدبيّات علم النفس الخاصة بالإبداع إلى فهم العلاقة بين الصور والخيال لعلّها تُقدِّم العون في أثناء تربية الخيال الابتكاري لدى المبدع. وتحدَّثتْ هذه الأدبيّات عن(التصوُّر الارتسامي) الذي يظهر لدى الأطفال الأسوياء. أما الأطفال الذين يتصفون بفقر الخيال فيضعف هذا التصوّر لديهم، ويضطرون إلى تناول الأمور كما تبدو في الواقع دون تعديل أو تبديل. على أن المهمّ بالنسبة إلينا هو أن هذا التصوّر الذي يرافق الطفل يمكن أن يخبو ويتضاءل إذا لم تتعهَّده التربية بالرعاية والتدريب. وقد طرح مصري عبد الحميد حنّورة السؤال المهم التالي(35): هل يمكن التحكُّم إرادياً بهذا العالم الخيالي، سواء أكان التحكُّم على مستوى التقدُّم الزمني للفرد أم على مستوى اللحظة المباشرة للتصوير؟ بمعنى، هل يمكن التحكُّم في تنمية القدرة على التصوّر والخيال لدى الفرد؟ وهل يمكن تدريب الأفراد على كيفية التعامل مع تصوُّراتهم وخيالاتهم عندما يحاولون أن يُنشئوا صورهم وأفكارهم الخيالية؟. ويطرح مصري عبد الحميد حنّورة قبل الإجابة عن السؤال ما ذكره الشاعر والناقد الإنكليزي وودورث عن الكيفيّة التي يتمكن بها الشخص من تكوين قصة أو حادثة وقعت، فيقول إن هذا الشخص لا يتمكّن من بناء القصة أو الحادثة على النحو الذي حدثت به، ولكنه في أفضل الأحوال يميل إلى أن ينتج قصة تشبه الأصل. قد تزيد أو تنقص. وهذا الإنتاج هو على نحو جزئي عمل من أعمال الخيال بأكثر مما هو عمل يتعلَّق بالذاكرة. وقد انتهى مصري عبد الحميد حنّورة إلى جوهر الخبرة الخيالية، وهو ثراء الخيال وخصوبته، ذلك الثراء الذي يبني القصة أو الصورة الفنيّة في الشعر. وكأنّ مدار تربية الخبرة الخيالية هو انتقاء الأساليب الفضلى للإفادة من التخيُّل. وأفضل هذه الأساليب ما انطلق من إثارة اهتمام الطفل بالموضوع ودفعه إلى التعلُّق به، وكأنه أمام مشكلة تحتاج إلى حلّ. ومن ثَمَّ تشجيعه على تخيُّل الحلول الملائمة لها. ولا شك في أن ذلك يساعد الطفل على تخيُّل حلٍّ ينمّ عن رؤيا إبداعية تجاوز الواقع وما اختزنته الذاكرة إلى عالم جديد هو عالم الفنّ.

والمعروف أن الخبرة الخيالية لا ترتفع فوق الواقع لتعيد بناءه دائماً، فهي في بعض الأحيان تنطلق من الواقع إلى المستقبل ولا ترجع مباشرة إلى الواقع. والخيال آنذاك يُوصَف بأنه علمي، يرود المستقبل حين يرسم آفاقه المحتملة انطلاقاً من حقائق علمية ثبتت صحّتها في الواقع، وسأوضِّح هذا الأمر على نحو أكثر تفصيلاً في حديثي القابل عن قصص الخيال العلمي. وأرغب، هنا، في القول إن الخيال قد يجنح إلى الخوارق ويتخلّى نهائياً عن الواقع، ولكن الخبرة الخيالية الأصلية قادرة دوماً على ضبطه والإفادة منه وربطه بالواقع لجعل ابتكاراته نافعة مفيدة للناس.

أخلص من ذلك كله إلى أن تربية الإبداع الأدبي لدى الأطفال لا يمكن فصلها عن وضع الأطفال عموماً في المجتمع العربي، وعن المعارف العلمية التي قدَّمتها أدبيّات علم النفس المعنيّة بالإبداع، وعن وعي طبيعة الإبداع الأدبي وأثر الخبرات اللغوية والفنيّة والخيالية في تشكيله بطريقة ماتعة مؤثِّرة مقنعة.

 

الإحالات:

(1): خصص ألكسندرو روشكا في كتابه(الإبداع العام والخاص) فصلاً، هو الفصل السابع، للحديث عن الإبداع والعمر. انظر ص 147 وما بعد من الترجمة العربية(ترجمة: د. غسّان أبو فخر)- عالم المعرفة 144- الكويت 1989.

(2): انظر الحديث عن الأدباء والشعراء الذين نبغوا مبكّرين في ص 147 وما بعد من: أدب الناشئة- تأليف بالاشتراك(عبد الرزاق الأصفر- نزار نجّار- سمر روحي الفيصل)- وزارة التربية- دمشق 1989.

(3): انظر ص 148/ 149 من: روشكا، ألكسندرو- الإبداع العام والخاص.

(4): انظر ص 8 من: عيسى، د. حسن أحمد -الإبداع في الفن والعلم- عالم المعرفة 24- الكويت 1979.

(5): انظر ص 9 من: الخوالدة، د. محمد محمود -اللعب الشعبي ودلالاته التربوية- الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية- الكويت 1988.

(6): انظر ص 96 من: سويف، د. مصطفى -العبقرية في الفن- مطبوعات الجديد- القاهرة- الط 2- 1973(صدرت الطبعة الأولى عام 1960).

(7): انظر ص 21 من: الفيصل، سمر روحي -تنمية ثقافة الطفل العربي- الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية- الكويت 1988.

(8): انظر ص 115 وما بعد من: أبو علام، د. رجاء -الأطفال المتفوّقون وتربيتهم (ضمن كتاب: الطفولة العربية ومعضلات المجتمع البطركي)- الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية- الكويت 1984.

(9): انظر ص 18/ 19 من: الشرابي، د. هشام- الطفل العربي ومعضلات المجتمع البطركي(ضمن كتاب: الطفولة العربية ومعضلات المجتمع البطركي).

(10): انظر ص 48 - 49 من: فراج، د. عثمان لبيب- الطفل العربي، حاضره ومستقبله(ضمن كتاب: الطفولة العربية ومعضلات المجتمع البطركي).

(11): استفدتُ في تحديد النقاط استفادة مباشرة من: د. حسين حمدي الطوبجي- وسائل تربية الإبداع في رياض الأطفال(ضمن كتاب: الطفولة العربية والعدالة التربوية الغائبة)- الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية- الكويت 1987. ومن: الإبداع في الفن والعلم للدكتور حسن أحمد عيسى.

(12): انظر حول دراسة تيرمان ونتائجها ص 113 من: الإبداع في الفن العلم- د. حسن أحمد عيسى. وص 31 وما بعد من: العبقرية في الفن- د. مصطفى سويف.

(13): الإبداع في الفن والعلم- د. حسن أحمد عيسى- ص 279 / 280 .

(14): انظر حول معايير جيلفورد ص 349 من: سويف، د. مصطفى- الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة-دار المعارف- القاهرة- الط3- 1970(صدرت الطبعة الأولى عام 1951). وص 97 و 286 من: الإبداع في الفن والعلم- د. حسن أحمد عيسى.

(15): انظر ص 23 و 49 من: حنورة، د. مصري عبد الحميد- الأسس النفسية للإبداع الفني في الرواية- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1979.

(16): انظر ص 288 / 189 من: الإبداع في الفن والعلم.

(17): المرجع السابق- ص 101 .

(18): المرجع السابق نفسه- ص 103 .

(19): الأسس النفسية للإبداع الفني في الرواية- د. مصري عبد الحميد حنورة- ص 22.

(10): من ذلك مثلاً: ألكسندرو روشكا في كتابه(الإبداع العام والخاص). فقد عقد في هذا الكتاب فصلاً للإبداع الجماعي، ولكنه قصره على الإبداع في حقل البحوث العلمية. ولعل روشكا -وهو روماني- متأثر بسياسة بلده الاشتراكية، عامل على ترسيخها، فقد ألّف كتابه عام 1981 قبل تغيير طبيعة الحكم والاتجاه السياسي في رومانيا، وليست لديّ توقُّعات حول رأيه في الإبداع الجماعي الآن.

(21): هي الدراسة التي نهض بها الدكتور بدر عمر العمر في الرسالة التي تقدَّم بها لنيل درجة الماجستير عام 1976، وعنوانها: دراسة تجريبية لأثر وجود الطلاب المتفوقين في فصول خاصة وأثرها على زيادة تحصيلهم الدراسي وسهولة توافقهم الشخصي والاجتماعي.

(22): انظر تلخيصاً لنتائج دراسة الدكتور بدر العمر في ص 109 - 110 من الأطفال: المتفوقون وتربيتهم للدكتور رجاء أبو علام.

(23): انظر ص 94من: الهيتي، د. هادي نعمان -ثقافة الأطفال- عالم المعرفة 123- الكويت 1988.

(24): انظر ص 17 وما بعد من: زكريا، د. فؤاد -التفكير العلمي- عالم المعرفة 3- الكويت 1978.

(25): انظر ص 229 وما بعد من: ثاولس، روبرت -التفكير المستقيم والتفكير الأعوج (ترجمة: حسن سعيد الكرمي) عالم المعرفة 20- الكويت 1979.

(26): الإبداع العام والخاص -ألكسندرو روشكا- ص 121.

(27): الأسس النفسية للإبداع الفني في الرواية -د. مصري عبد الحميد حنورة- ص 52 / 53 .

(28): ثقافة الأطفال -د. الهيتي- ص 106.

(29): المرجع السابق- ص 107 و 109 .

(30): انظر حول فن قصة الطفل: الشكل الفني لقصة الطفل في سورية- سمر روحي الفيصل- مجلة الموقف الأدبي -دمشق- العدد 208 / 209 / 210- تشرين الأول 1998 .

(31): من مقدمة الدكتور يوسف مراد لكتاب (الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة) لمصطفى سويف.

(32): انظر حول المهارة ووظائفها الجمالية ص 53 وما بعد من: كاجان- الإبداع الفني(ترجمة: عدنان مدانات) -دار ابن خلدون- بيروت 1980 .

(33): انظر ص 45 من: خرابتشنكو، م - الإبداع الفني والواقع الإنساني(ترجمة: شوكت يوسف) -وزارة الثقافة- دمشق 1983 .

(34): انظر ص 57 من: الأسس النفسية للإبداع الفني في الرواية -د. حنورة.

(35): المرجع السابق -ص 62.

 

 

الفصل الثالث: قصص الخيال العلمي

 

الحديث عن قصص الخيال العلمي ليس هيِّناً كما يبدو أوّل وهلة. ذلك لأن أوهاماً عدّة تكتنف تعريفه وتحديد المراد منه وبيان طبيعته ووظيفته واتجاهاته ومستويات الخطاب فيه. وقد أنعمتُ النظر في هذه الأوهام، فرأيتها تنطلق من غموض دلالة المصطلح، ومن عدم تحديد طبيعة هذا اللون القصصي ووظيفته. ومن ثَمَّ آثرتُ تقديم آرائي من خلال الحديث عن هذين الأمرين، مؤمناً في الوقت نفسه بأن حركة نقد هذا اللون القصصي ستجانب الصواب إذا لم تستند إلى تحديد معرفي صارم للأمرين نفسيهما.

أوّلاً: دلالة المصطلح:

أعتقد بأن مفهوم(قصص الخيال العلمي) غامض جداً في الأدب العربي على الرغم من أن الدلالة العامة لهذا المصطلح واضحة جداً. فإذا بدأنا بالمصطلح (science fiction) الذي ابتدعه هوغو جونزبتش عام 1926 في مجلة(القصص المذهلة)(1)، لاحظنا تبايناً في ترجمته إلى اللغة العربية. وربّما كانت العبارات التالية أبرز ترجماته السائدة: القصص العلمية- القصص العلمي التصوُّري- الرواية المستقبلية- قصص الخيال العلمي- رواية الخيال العلمي- أدب الخيال العلمي. وقد اخترتُ من هذه الترجمات واحدة هي(قصص الخيال العلمي) لأسباب ستتضح في أثناء الدراسة. وليس هناك خارج التباين في ترجمة المصطلح شيء غير صوغ دلالته. وقبل أن أقدِّم الصوغ الذي أقترحه أودّ الإشارة إلى أن دلالة هذا المصطلح واضحة لدى المعنيين بهذا اللون الأدبي في الغالب الأعم، ولعل تحديده القابل يزيده وضوحاً لديهم.

 

قدَّم مجدي وهبة التحديد التالي لمصطلح قصص الخيال العلمي بعد أن ترجمه بالقصص العلمي التصوُّري ووضع إلى جانب هذه الترجمة ترجمة ثانية هي الرواية المستقبلية(2): (ذلك الفرع من الأدب الروائي الذي يعالج بطريقة خيالية استجابة الإنسان لكل تقدم في العلوم والتكنولوجيا. ويعتبر هذا النوع ضرباً من قصص المغامرات، إلا أن أحداثه تدور عادة في المستقبل البعيد أو على كواكب غير كوكب الأرض، وفيه تجسيد لتأملات الإنسان في احتمالات وجود حياة أخرى في الأجرام السماوية، كما يصوِّر ما يمكن أن يُتوقع من أساليب حياة على وجه كوكبنا هذا بعد تقدُّم بالغ في مستوى العلوم والتكنولوجيا.. ولهذا النوع من الأدب القدرة على أن يكون قناعاً للهجاء السياسي من ناحية، وللتأمل في أسرار الحياة والإلهيات من ناحية أخرى). هذا التحديد لدلالة مصطلح(قصص الخيال العلمي) أكثر التحديدات جودة في رأيي، لأن له نصيباً من الدقّة والصواب. غير أنه يقصر المصطلح على الرواية، وهذا غير دقيق إذا أنعمنا النظر في ترجمة لفظه(fiction) التي تعني القصة كما تعني الرواية والأدب القصصي والخيال، مما يُبعد من دائرة التحديد قصص الخيال العلمي الخاصة بالأطفال وبالكبار، إضافة إلى أن ترجمة fiction بالرواية دون تخصيص يضفي على المصطلح شيئاً من العمومية، لأن القارئ يتساءل عمّا إذا كانت الرواية للكبار أو للفتيان؟. ولا يُشتْرَط في قصص الخيال العلمي أن تدور في المستقبل البعيد كما ذكر وهبة، بل يمكن لها أن تدور في الحاضر وفي المستقبل القريب والبعيد. وليس شرطاً أن تدور على كواكب غير كوكب الأرض، بل يمكن لها أن تدور على الأرض نفسها. كما أن قدرتها ليست مقصورة على أن تكون قناعاً للهجاء السياسي وللتأمُّل في أسرار الحياة والإلهيات فحسب، بل تملك قدرة أخرى هي التوظيف لأغراض سياسية. ومن أمثلة هذا التوظيف في الغرب رواية(لو خسرت إسرائيل الحرب) لرتشاردز تشسنوف وادوارد كلاين وروبرت لتل. وقد صدرت هذه الرواية عام 1969، واستخدمت حرب عام 1967 خلفية لها، منطلقةً من فرضيّة محدَّدة هي أن العرب هم الذين انتصروا في الحرب(3). وهي تهدف من خلال تصويرها النهب والاغتصاب إلى تشويه صورة العربي وتأييد وجهة نظر الصهاينة. وقد وصف المؤلِّفون روايتهم بأنها من(القصص العلمية السياسية) دون أن يقدِّموا برهاناً على صحَّة فرضيّتهم.

 

ومهما يكن الأمر فإنني أعتقد بأن مصطلح(قصص الخيال العلمي) يحتاج إلى تعريف لا ينقصه الوضوح والتحديد والشمولية. ومن ثَمَّ أقترح التعريف التالي: (قصص الخيال العلمي تعني القصص والروايات المكتوبة للأطفال أو الفتيان أو الكبار.وهي تتنبَّأ بأحداث أو مواقف أو مجتمعات علمية محتملة في الحاضر أو المستقبل، في الأرض براً وبحراً وجوّاً، وفي الفضاء الخارجي، انطلاقاً من حقائق أو فرضيّات علمية معروفة في الحاضر).

وعلى الرغم من أن هذا التعريف المقترح واضح وشامل، فإنه غير كاف في رأيي لتحديد المراد من(قصص الخيال ا لعلمي). إذ إنه يضم ألفاظاً تحتاج إلى فضل بيان، كلفظة القصص، ولفظة الخيال، ولفظة العلمي، ولفظة التنبُّؤ، ولفظة الاحتمال. ما المراد من هذه الألفاظ؟ لنبدأ بلفظة(الخيال) فهي أكثر هذه الألفاظ غموضاً.

 

1- الخيال:

الخيال لفظة متداولة في الحياة اليومية، يستعملها الناس في الإخبار عن إنسان ما، فيقولون: فلان خياله واسع، وهم يقصدون بذلك أحد معنيين: الأول إيجابي يفيد بأن هذا الإنسان يتصوَّر أموراً غير مألوفة، والثاني سلبي يفيد بأن هذا الإنسان بعيد عن الواقع(4). والتمييز بين المعنيين يتم بواسطة سياق الحديث عادة. ولهما معاً أصل في اللغة العربية، إذ إن الخيال لغةً هو الظن والتوهُّم والتصوُّر(5). ولا يمكن الركون لما تقدِّمه الحياة اليومية من معنى للخيال، ولكنني أستمدّ من المعنيين المستعملين للفظة الخيال شيئين مهمّين باقيين، هما: الارتفاع فوق الواقع، والتصوُّر. أما الارتفاع فوق الواقع فسمة من سمات الخيال، لأن نقل الواقع كما هو لا يّعَدّ خيالاً ولا يدخل حقله. وأما التصوُّر فهو إنشاء الصورة أو تكوينها، وهذه سمة أخرى من سمات الخيال، إذ لا خيال دون صورة أو إنشاء أو تركيب.

 

الخيال أيضاً لفظة متداولة في الأدب شعره ونثره. وقد قيل إنه ليس هناك أدب دون خيال، لأن الخيال لصيق بالأدب، ويكاد يكون لازمة من لوازمه؟. ففي الشعر هناك الخيال الشعري أو الخيال الذي يصنع الصور الشعرية، أي الذي ينهض بمهمة التعبير عن المعاني تعبيراً جديداً مبتكراً غير مألوف للسامع رغبة في التأثير فيه.

وينبع هذا التأثير من العلاقات التي يقيمها الشاعر البليغ بين الأشياء، ومن ثَمَّ دخل الخيال الشعري ساحة البلاغة فقيل في(أنشبت المنية أظفارها) تخييل أو استعارة تخييلية، وقُسم الجامع بين الجملتين في الفصل والوصل إلى عقلي ووهمي وخيالي، وأُطلق اللفظ في فن البديع على تصوير ما سيظهر في العيان بصورة المشاهد(6).

 

ويهمني من هذا الخيال الشعري طبيعة عمله. يقول محمد الخضر حسين: (تتداعى المعاني بوسيلة التذكُّر، ثم المخيّلة تنتخب منها ما يناسب الغرض. وهذا العمل، أعني الانتخاب، يسميه علماء النفس تخييلاً تحضيرياً، لأنه العمل الذي تتمكن به المخيّلة من استحضار العناصر المناسبة للمرام. وبعد أن تنتخب المخيّلة ما يليق بالغرض من العناصر تتصرف فيها بالتأليف إلى أن ينتظم منها صورة مستطرفة، ويُسمَّى هذا التصرُّف تخييلاً إبداعياً أو اختراعياً)(7). وهذا يعني بالنسبة إليَّ أن الخيال الشعري هو الذي يُؤلِّف الصور من خلال تذكُّر العناصر والانتخاب منها ثم تأليفها في تركيب مجازي جديد، سواء أكان اسمه استعارة أم تشبيهاً أم غير ذلك(8). وكنتُ قرَّرتُ أن التركيب سمة من سمات الخيال كما يدل استعمال اللفظة في الحياة اليومية، وها أنا ألاحظ السمة نفسها في الخيال الشعري، مما يجعلني موقناً بأن مهمة الخيال الرئيسة هي تقديم تركيب جديد. وإذا كان هذا التركيب مقصوراً على عبارة مجازية في الشعر، فهو يمتدّ في النثر القصصي إلى تركيب الحوادث والمجتمعات. ويشير حديث محمد الخضر حسين إلى أن الخيال مرتبط بالذاكرة التي تستدعي العناصر التي سبق إدراكها وفهمها. وهذا يعني أن هناك علاقة بين الخيال والذاكرة والإدراك.

 

ولتوضيح هذه العلاقة وترسيخها لابدَّ لي من اللجوء إلى مفهوم الخيال في الفلسفة عموماً وعلم النفس خصوصاً قبل أن أحدّده في النثر القصصي.

يصنف الفلاسفة الخيال بين القوى النفسية، ويعدونه نشاطاً نفسياً، أو قوّة تتصرف في صور المعلومات بالترتيب تارةً والتفصيل أخرى. وقد استمدّ المعنيّون بالمصطلحات الأدبية تعريف الخيال من الفلاسفة وعلماء النفس، فقالوا: (إن الخيال مَلَكَة من ملكات العقل، بها تُمَثَّل أشياء غائبة كأنها ماثلة حقاً لشعورنا ومشاعرنا)(9). كما قالوا إنه(الملكة المولِّدة للتصوّرات الحسيّة للأشياء المادية الغائبة عن النظر. وهي على نوعين: إما أن تستعيد الصور التي شاهدها صاحبها من قبل وتُسمَّى عندئذ المخيَّلة المتذكّرة أو المستعيدة، أو تعتمد صوراً سابقة فتولِّد منها صوراً جديدة وتسمّى عندئذ المخيَّلة الخلاَّقة)(10). وقالوا أخيراً إنه(القدرة التي يستطيع العقل بها أن يشكِّل صوراً للأشياء، أو الأشخاص، أو مشاهد الوجود)(11). وهذه التعريفات متَّفقة، كما هو واضح، على أن الخيال قوّة من قوى العقل، وعلى أن عمله هو تشكيل الصور. وقد استندت المعجمات اللغوية الحديثة إلى المعنى الذي قدّمته الفلسفة، فعرَّفت الخيال بأنه(إحدى قوى العقل التي يُتَخيَّل بها الأشياء)(12).

 

وعلى الرغم من أهميّة الفلسفة في لفت الانتباه إلى أن الخيال إحدى العمليات العقلية أو المعرفية، فإنها لم تحدّده تحديداً صارماً. ولعل إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء كانوا أكثر دقّة في رسائلهم من الفلاسفة. فقد عقدوا فصلاً لبيان القوّة المتخيِّلة، وضَّحوا فيه ثلاثة أشياء مهمة(13):

أ- إن تباين الناس في العلوم والمعارف والآراء والمذاهب عائد إلى تفاوتهم في هذه القوّة المتخيِّلة لاختلاف تركيب أدمغتهم. يقولون في ذلك: (اعلم أن الناس في هذه القوّة متفاوتو الدرجات تفاوتاً بعيداً جداً. والدليل عليه أنك تجد كثيراً من الصبيان يكون أسرع تصوّراً لما يسمعون، وأجود تخيُّلاً لما يصف لهم كثير من المشايخ والبالغين. وذلك أن كثيراً من العلماء والعقلاء والمرتاضين في العلوم والآداب تعجز نفوسهم عن تصور أشياء كثيرة قد قامت الحجة والبراهين على صحتها. ثم علم ان العامة في تفاوت درجات الناس في هذه القوة ليست من اختلاف جواهر نفوسهم، ولكن من أجل اختلاف تركيب أدمغتهم واعتدال أمزجتها أو فسادها وسوء مزاجها)(14). ولا يقرّر إخوان الصفاء في هذا النص أن الخيال قوّة يملكها الناس كلهم فحسب، بل يقرّرون أن الخيال درجات وليس درجة واحدة، يتفاوت نصيب الناس منها لاختلاف تركيب أدمغتهم واعتدال أمزجتهم أو فسادها أو سوئها. وسأشير في أثناء توضيح لفظة القصص إلى ثلاث درجات لهذا الخيال، ولكنني هنا معنيّ بالقول إن النص السابق يقدّم لنا حقيقة معرفية مهمة هي أن خيال الأطفال أكثر نشاطاً وجودة من خيال الكبار، أيْ أنهم بتعبيرنا الحديث قادرون على بناء عوالم متخيَّلة أكثر من قدرة الكبار على بنائها. ونجد في علم نفس الطفل مصداقيّة هذا الأمر، إذ أن هناك تصنيفاً للطفولة بحسب الخيال، هو:

- مرحلة الواقعية والخيال المحدود بالبيئة(3 - 5 سنوات):

(خيال الطفل في هذه المرحلة حاد ولكنه محدود بإطار البيئة التي يحيا فيها. كما يكون إيهامياً، فالطفل يتصور غطاء القِدْر مقود سيارة يلف به ذات اليمين وذات الشمال)(15).

- مرحلة الخيال المنطلق(6 - 8) سنوات):

خيال الطفل في هذه المرحلة إبداعي أو تركيبي موجَّه إلى هدف عملي. (ويتميّز الطفل في هذه المرحلة بسرعة نمو تخيُّله، وبشدة تطلُّعه إلى الآفاق البعيدة. لذا يتبلور ولعه بالقصص الخيالية التي تخرج في مضامينها عن محيطه وعالمه)(16).

 

- مرحلة البطولة(8- 12 سنة): خيال الطفل في هذه المرحلة أقرب إلى الواقع، بعيد عن التخيُّل الجامح، قريب من الحقائق(17).

ب- يؤمن إخوان الصفاء بأن الخيال مرتبط بالإدراك الحسي. يقولون في ذلك:

((ومن خاصة هذه القوّة أنها تعجز عن تخيُّل شيء لم تؤد إليه حاسة من الحواس، لأن التخيُّل أبداً في تصوُّره للأشياء تَبَعٌ للإدراك الحسيّ، والعقل في استنباطها تَبَعُ الدليل النفسي)(18). وقد جعل إخوان الصفاء مكان القوّة المتخيِّلة مقدَّم الدماغ، والقوة الحافظة مؤخَّر الدماغ، والقوّة المفكِّرة وسط الدماغ. ثم ربطوا بين هذه القوى العقلية استناداً إلى أن القوّة المفكِّرة هي التي تضبط عمل القوّتين الأخريين. وهذا صحيح دقيق أقرّه علم النفس الحديث، لأن العمليات المعرفية كالإدراك والتذكُّر والتخيُّل والتصوُّر مرتبطة بالتفكير، (وكثيراً ما تنتهي هذه العمليات إلى تفكير، لذا فهي تشكّل خلفية للتفكير، وليس من الممكن القيام بالتفكير دون بعض أو جميع هذه العمليات. وبسبب التلازم بين هذه العمليات يخلط البعض بينها، فيقال إننا نفكر عند محاولة تذكُّر تاريخ موقعة أو استعادة صورة صديق في الذهن أو إنشاء صورة جديدة، مع العلم أننا في الحالة الأولى نتذكر، وفي الحالة الثانية نتصوّر، وفي الحالة الثالثة نتخيّل)(19) وقد ميَّزت المعجمات بين المخيِّلة المستعيدة والخلاّقة على أساس ارتباط الأولى بالذاكرة، وانطلاق الثانية حرة من غير ارتباط، مما يرسخ لدينا إمكانية ارتباط الخيال بقوّة عقلية معرفية أخرى، وإمكانية انطلاقه حراً دون الارتباط بشيء.

 

ج- يؤمن إخوان الصفاء بأن الحرية عماد الخيال، وأنه بوساطة هذه الحرية يتجوَّل دون قيد من زمان أو مكان. يقولون في ذلك:(إنها من أعجب القوى الدَّراكة، وإن العلماء تائهون في بحر هذه القوّة وعجائب متخيّلاتها. وذلك أن الإنسان يمكنه بهذه القوة، في ساعة واحدة، أن يجول في المشرق والمغرب، والبر والبحر، والسهل والجبل، وفضاء الأفلاك وسعة السموات، وينظر إلى خارج العالم، ويتخيّل هناك فضاء بلا نهاية، وربما يتخيل من الزمان الماضي وبدء كون العالم، ويتخيل فناء العالم، ويرفع من الوجود أصلاً، وما شاكل هذه الأشياء مما له حقيقة ومما لاحقيقة له)(20). ويضيف إخوان الصفاء إلى ذلك مثالاً ذا دلالة هو: (أن الإنسان يمكنه أن يتخيّل بهذه القوّة جملاً على رأس نخلة، أو نخلة ثابتة على ظهر جمل، أو طائراً له أربع قوائم، أو فرساً له جناحان، أو حماراً له رأس إنسان)(21). ويمكن القول إن الحرية ليست سمة لازبة للخيال وحده، بل هي سمة للمناخ الخارجي الذي يتحرك الخيال فيه، سواء أكان المناخ اجتماعياً أم سياسياً. ذلك لأن القمع يؤثّر في الخيال فيجعل أجنحته مهيضة، ويتركه عاجزاً عن رسم الحوادث والمجتمعات، في حين تحرّضه الحرية على الانطلاق وارتياد الآفاق. وميزة إخوان الصفاء هنا أنهم لم يُقيِّدوا الخيال بما له حقيقة في الواقع، بل أطلقوه ليُعبِّر عما له حقيقة وعما لا حقيقة له.

 

كما أنهم لم يقيِّدوه بالفضاء، بل أطلقوه في الأرض أيضاً، ولم يقيّدوه بالمستقبل، بل جعلوه حرّاً في الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل.

ومهما يكن الأمر فإن تلك السياحة في دلالات الخيال تسمح لي باقتراح التعريف الآتي للفظة الخيال: (الخيال قوّة معرفية تركيبية جديدة، يملكها الناس كلهم على تفاوت بينهم في درجاتها تبعاً لاختلاف تركيب أدمغتهم. هذه القوّة العقلية مرتبطة بالقوى العقلية الأخرى كالإدراك والتّذكُّر، ولكن ارتباطها بها ليس حتميّاً، إذ يمكنها الاستقلال بنفسها وارتياد عوالم وحوادث لم يؤد إليها التّذكُّر، ولم يدركها الإنسان من قبل. والحرية عماد هذه القوّة وركنها المكين، وبوساطتها يحلِّق الخيال في الزمان والمكان، دون أن يكون مقصوراً على زمان محدَّد ومكان معيَّن. والارتفاع فوق الواقع سمة رئيسة في الخيال، لأن نقل الواقع كما هو لا يُعَدُّ خيالاً بل يُعَدُّ استعادة. ولكن ذلك لا يعني أن الخيال منفصل عن الواقع، بل يعني لا خيال إذ لم تُصَنْع من العناصر المستمدَّة من الواقع صورة جديدة ليس لها شبيه في هذا الواقع، ولكن الإنسان يفهمها ويصدّقها ويتفاعل معها ويتأثَّر بها. ومن ثَمَّ هناك إمكانية لتربية هذه القوّة الفطرية بغية تنميتها ودفعها إلى إنشاء الصور والحوادث والمجتمعات الجديدة).

 

2- القصص:

تُرجمتْ لفظة fiction ترجمات عدّة حين قُرنتْ بلفظة science. والترجمات التالية أكثرها سيادة: قصص الخيال العلمي- القصص العلمية- القصص العلمي التصوّري- الرواية المستقبلية- رواية الخيال العلمي- أدب الخيال العلمي.

 

وأعتقد بأن ترجمة مصطلح  science fiction بقصة الخيال العلمي أكثر دقّة، على أن نفهم لفظة القصة بالمعنى الواسع، أيْ النثر القصصي الذي يضم القصة القصيرة والطويلة والرواية. ذلك لأن لفظة story تعني أيضاً القصة بالمعنى الواسع(22)، غير أن هناك لفظتين تفيدان التخصيص، هما short story أيْ القصة القصيرة، و novel أيْ الرواية. وسواء أكنا نستعمل لفظة fiction أم لفظة story فإننا أمام معنى واحد هو المعنى الواسع للقصة، أيْ النثر القصصي، وأما توافر الخيال. إذ ليست هناك قصة لا خيال فيها ما دامت تنتقي من الواقع عناصر تعيد تركيبها في بناء جديد. غير أن المعنى الواحد للفظتين لا يعني إمكانية استعمال إحداهما بدلاً من الأخرى. فحين نقول science story فنحن نقصد القصة العلمية، أي القصة التي تتناول حدثاً علمياً ثبتت صحته لتصوغه في قالب قصصي مستخدمة الخيال في عملها. وحين نقول Science Fiction فنحن نقصد قصة الخيال العلمي، أي القصة التي تستند إلى فرضيّات علمية لم تثبت صحتها لتنتقل منها إلى حوادث ومجتمعات علمية جديدة، استناداً إلى أن هذه الحوادث والمجتمعات محتملة الوقوع.

 

وهذا كله يعني أن لفظة  fiction حين تُقرن بلفظة science تصبح مصطلحاً ليست له ترجمة دقيقة غير(قصة الخيال العلمي). ومن ثَمَّ لا صواب، في رأيي، لترجمة هذا المصطلح بالقصة العلمية أو القصص العلمي التصوّري، لأن هذين المصطلحين ينطلقان من حقائق علمية، ويحاولان تقريبها من الأفهام بصوغها في قالب قصصي. ولا حاجة إلى استعمال مصطلح(الرواية المستقبلية) لأن قصص الخيال العلمي تلتفت إلى الحاضر كما تلتفت إلى المستقبل. أما مصطلح(رواية الخيال العلمي) فصحيح في حدود تخصيص الدلالة، شأنه في ذلك شأن قصة الخيال العلمي القصيرة أو الطويلة. فإذا أُطلق المصطلح دون قيد أُريد به القصة القصيرة والطويلة والرواية. أما(أدب الخيال العلمي) فمصطلح شامل لأنه يعني الشعر والمسرح والقصة والرواية، في حين يدل مصطلح science Fiction على جنس أدبي واحد هو النثر القصصي.

 

والقصة، أية قصة، لابدَّ من أن يكون الخيال مكوِّناً من مكوِّناتها الرئيسة. بيد أن قوّة الخيال ليست درجة واحدة في القصص ولدى القاصين. ويمكن التمييز هنا بين ثلاث درجات في هذه القوّة: درجة ضعيفة يحلِّق الخيال بوساطتها حرّاً في حدود الممكن، وجامحة يحلِّق الخيال بوساطتها حرّاً خارج حدود الممكن والمعقول ويدخل حقل الخرافة ويُدعى آنئذ الخيال الخرافي(23). وأعتقد بأن لفظة الخيال حين تُستعمل في الحقلين الأدبي والعلمي يُراد بها الدرجة المتوسطة التي تُبقي الحوادث والمجتمعات القصصية في حدود الممكن عقليّاً، ولا يخرج الخيال في قصص الخيال العلمي عن هذه الدرجة التي تجول في الممكن عقلياً. بل إن هذا الأمر معيار رئيس يستطيع الباحث الاستناد إليه في التفريق بين الخيال العلمي والخيال الخرافي، أو بين التصوُّر والوهم. وللأمر نفسه علاقة بواقعية القصة ولا واقعيتها. فحين يبقى الخيال في حدود الممكن عقلياً لا تخرج القصة عن الواقعية، لأن وظيفة الخيال في الدرجة المتوسطة هي النظر إلى الحاضر المجهول والمستقبل القريب والبعيد من أجل توسيع الإدراك الحالي للقارئ(24). غير أنه في وسع الخيال النظر إلى المستقبل البعيد( حتى لا تعود هناك أية رابطة بين رؤياه وبين حياة الشخص المألوفة)(25)، ومن ثَمَّ يخرج من حدود الممكن عقلياً ويدخل حدود الاستحالة العقلية أو الخرافة. وقد واجهتني دائماً نصوص قصصية ادّعت الانتماء إلى الخيال العلمي، ولكنها لدى الفحص الدقيق المستند إلى المعيار السابق خرجتْ من حدود الخيال العلمي ودخلت مملكة الخرافة.

 

وعلى الرغم من أن لفظة(الخرافة) تبدو منبوذة وسلبية هنا، فإن الباحث لا يستطيع الحديث عن قصة الخيال العلمي دون الاستعانة بوهم الخرافة. إذ إن هذه القصص توهم بأنها خرافية أوّل الأمر، ولكن منطقها العلمي المتماسك يقود القارئ إلى نتائج يقبلها العقل وإنْ لم يكن لها مثيل في الواقع، أيْ أنه يُدْخِلها ساحة الفكر العلمي ويُبعدها عن ساحة الفكر الخرافي مستنداً في ذلك إلى المخزون العلمي للقاص.

 

وإذا كانت القصة، أية قصة، تتحدّث عن الحاضر أو الماضي، فإن قصص الخيال العلمي تتحدّث عن الحاضر أو المستقبل القريب والبعيد ولا تلتفت إلى الماضي. وهي، في الأعم الأغلب، تتحدّث عن المستقبل من أجل حفز إرادة القارئ على التقدُّم العلمي، وسأشير إلى هذه السمة التنبّوئية في أثناء حديثي عن لفظة(العلم)، وتكفيني هنا الإشارة إلى أن الخيال حرّ في الزمان، يتناول الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنه في قصص الخيال العلمي يكاد يكون مقصوراً على المستقبل. وهذا وحده يُعلِّل ذكر لفظة(الخيال) في مصطلح(قصص الخيال العلمي). فالقصة بطبيعتها الفنيّ‍ة تضم خيالاً، ولكنها في قصص الخيال العلمي معنيّة بالخيال الذي يرود آفاق  المستقبل، وليست معنيّة بالخيال الذي يصوِّر الماضي. ولهذا السبب اقتصرت قصة الخيال العلمي على النسق الزمني الصاعد، ولم تعرف النسق الزمني الهابط ولا التلاعب بالأزمنة كما هي حال القصة خارج حقل الخيال العلمي. وقد فرض عليها الالتزام بالنسق الزمني الصاعد التزاماً آخر بالبناء التقليدي للقصة. ولا بدَّ من توضيح هذا البناء للتمييز بين قصة الخيال العلمي وقصة الطفل وقصة الكبير في الأنساق الزمنية والحبكة والحوادث والشخصيات والسرد والحوار وغير ذلك. ويمكنني القول، في هذا الشأن، إن قصة الطفل الفنيّة تضم العناصر الآتية:

 

أ- الحكاية:

الحكاية، سواء أكانت للأطفال أم للكبار، مجموعة من الحوادث المرتَّبة زمنيّاً. غير أن حكاية الأطفال تمتاز من حكاية الكبار بالمحافظة على الترتيب التأريخي للزمن، بحيث تُرتَّب الحوادث ترتيباً تصاعدياً من البداية إلى النهاية دون أي تلاعب في هذا الترتيب. فالحدث الأول يعرض البيئة والشخصيّات، ويطرح بداية الفكرة الرئيسة، ثم ترد الحوادث الأخرى حاملة تفاعل الشخصيّات مع البيئة وحوادثها، فتنمو الفكرة الرئيسة وتتضح وتتأزّم ثم تؤول إلى نهاية محدَّدة معبِّرة عن المغزى بوضوح. أما الحوادث في حكايات الكبار فالترتيب التأريخي ليس شرطاً لازباً فيها، بل إنه أصبح دلالة على تقليدية القصة والرواية. وما ذكرتُه في التعريف من أن حكاية الكبار مرتَّبة زمنيّاً يعني أن الحوادث تقع حسب ترتيب زمني يرتضيه القاص، كأن يذكر الخاتمة في البداية ثم يعود إلى الوراء ليسرد الحوادث التي أدّت إلى هذه الخاتمة، أو يبدأ بالأزمة، أو يترك الحوادث تختلط وتتداعى في ذهن الشخصية، وما إلى ذلك من أمور تدخل حيّز التلاعب الفنّي بالحوادث. أما حكاية الأطفال في قصص الخيال العلمي وغيره فالترتيب التأريخي ضروري فيها، لأن الطفل غير قادر على استخدام ذكائه في أثناء القراءة ليربط بين الحوادث أو يعيد ترتيبها كما يفعل الكبير.

 

ثم إن حكاية الأطفال في البناء التقليدي للقصة لا تكون جيّدة ما لم توفّر للطفل التشويق وإثارة الفضول القرائي. وليست هناك طرائق محدّدة لبث التشويق في الحكاية، إلا أن الصراع شيء ضروري لتوفير التشويق في الحكاية، تليه في الأهمية إحاطة الحوادث بشيء من الغموض وبقدر من المفاجآت، وبشيء غير قليل من مخالفة توقّعات الطفل. والتشويق، في العادة، عمل فنّي صرف تابع لمقدرة الكاتب وفهمه حاجات الطفل ورغباته. وأستطيع القول إن سبب إقبال الأطفال على الحكاية الشعبية كامن في أنها ترسم عالماً موازياً للعالم الواقعي الذي يعيش الطفل فيه، يضم الخير والشر والسحر والجاذبية وقدراً كبيراً من مثيرات الخيال. كذلك الأمر بالنسبة إلى قصص الخيال العلمي، فهي تشد الطفل من خلال المتعة إلى عالم آخر مواز للعالم الواقعي، مملوء بالإثارة والمعارف الجديدة، وهذا ما يجعل الطفل يتعرّف الحياة بواقعها وآفاقها المستقبلية. وعمليّة التعرُّف التي تتقن قصص الأطفال أداءها ضرورية إذا أردنا لحكاية الأطفال أن تكون شائقة. وبتعبير آخر، فإن التشويق الذي أرجعتهُ إلى قدرة الكاتب وفهمه حاجات الطفل يعني الاهتمام بعمليّة التعرُّف والالتفات إلى أنها تؤدي عملاً تربوياً وجمالياً. إذ أن الطفل يحتاج إلى خبرات تجعله قادراً على التكيُّف الاجتماعي والتّحلّي بشخصية سليمة خالية من الصراعات الداخلية.

 

ب- الحبكة:

ترتبط الحبكة بمفهوم الحكاية، وهي غير مساوية للعقدة، لأنها الحوادث كما يطالعها القارئ في نص القصة، أيْ أنها الترتيب الذي يُقدِّم القاص بوساطته حوادث قصته إلى القارئ. فإذا قدَّم هذه الحوادث بحسب تسلسلها والسيي والزمني(1- 2- 3- 4... الخ) طابقت بدايةُ الحبكة بدايةَ الحكاية. ولكن القاص على تقديم حبكات لا حصر لها للحوادث التي تضمّها حكايته. غير أن تقديم الحوادث بحسب تسلسلها الزمني والسببي ملائم للطفل، أيْ أن الحبكة في حكاية الأطفال تبدأ حيث تبدأ الحكاية، ولا يُشْتَرَط هذا الأمر في حكايات الكبار. إذ إن القاص الذي يملك حكاية مؤلَّفة من ثلاثة حوادث قادر على الإتيان بست حبكات:

الحبكة  ترتيب الحوادث

1      1- 2- 3

2      1- 3- 2

3      2- 3- 1

4      2- 1- 3

5      3- 2- 1

6      3- 1- 2

فكيف تكون الحال إذا كان القاص يملك حكاية تضم كثيراً من الحوادث؟. إن الإمكانات وافرة للإتيان بحبكات كثيرة إذا كان النص موجَّهاً للكبار، في حين تحتاج حبكة الأطفال إلى البساطة والوضوح والتّمسُّك بترتيب الحوادث ترتيباً زمنيّاً وسببيّاً.

 

ت- الفكرة والمغزى والقيمة:

لا تخرج قصة الطفل عن الحيّز التربوي مهما تكن مكانتها عالية في سُلَّم الفن. إذ إن المتعة والترفيه ضروريّان للطفل، ولكنهما وسيلة القصة لأداء وظيفتها التربوية. وعلى الرغم من أننا نعلي من مكانة الترفيه والتسلية، ونحرص عليهما حرصاً شديداً ونعي وظيفتهما التربوية في تنمية شخصية الطفل، فإننا نطالب في الوقت نفسه بوظيفة تربوية أخرى تؤديها فكرة القصة، أو مغزاها، أو القيمة الواردة فيها.

فقد تعالج حوادث القصة فكرة معيّنة، كالرحلة إلى كوكب آخر في قصص الخيال العلمي، أو هجرة السنونو في الصيف والشتاء، وتعليل أشكال الحيوانات وطبائعها في القصص غير العلمية. وقد تؤدي الحوادث إلى مغزى معيّن، أو قيمة محدّدة كالحريّة والدفاع عن الأرض والوطن والعمل والصحة والتعاون وما إلى ذلك، وقد تلتقي في القصة الواحدة الفكرة والمغزى والقيمة، وقد تنفرد القصة بواحد من الأمور الثلاثة، إلا أن وظيفة القصة لا تتحقّق دون فكرة أو مغزى أو قيمة، ولا يكون تحقُّقها سليماً مؤثّراً في الطفل إذا كان طرحها مباشراً بأسلوب الوعظ والإرشاد.

ومن هنا نبعت أهميّة الأسلوب الضمني في الطرح. إذ إن الطفل ينفر من الوعظ والإرشاد، ويستعيد في أثناء قراءته القصة أو سماعه لها عالم المدرسة بما فيه من زجر وتنبيه وإرشاد(افعل كذا- اترك كذا- انتبه إلى كذا- تقيَّد بكذا- ابتعد عن كذا...).

 

ث- الشخصيّات:

اهتمام الطفل بالشخصية القصصية نابع من أنه يبحث دائماً عن أشياء يقتدي بها، ويرى فيها نفسه، ويحقّق من خلالها رغباته وطموحاته. ولابدَّ للشخصية القصصية من صفات تلتقي رغبات الطفل وحاجاته، وإلا فإنها تخفق في التأثير فيه. ولهذا السبب تحتاج قصة الطفل إلى الاهتمام بشخصية من الشخصيّات، بحيث ترفعها إلى مرتبة(البطل)، وتُبقي الشخصيّ‍ات الأخرى دائرة في فلكه. وبتعبير آخر، فإن البطل شيء رئيس في قصة الطفل، وكل قصة تخلو من البطولة الحقيقية تجعل الطفل يُصاب بخيبة أمل كبيرة. ذلك لأن البطل يُجسِّد آمال الطفل ورغباته، فإذا كانت الشخصيات متساوية في أهميتها أو مألوفة في الواقع، أو تفتعل المغامرة في الفضاء البعيد، خلت القصة من بؤرة شعور مركزية يقع الطفل فيها ويتمركز حولها ويقارن الآخرين بالاستناد إليها. وعيب كثير من قصص الأطفال في الوطن العربي أنها لا تهتم بالبطل، أو أنها تطرح بطولة هامشية بسيطة لا تثير الطفل، ولا تجعله يهتم بها اهتماماً حقيقياً. والخير في أن يلتزم القاص ببطل قصصي واحد، يكتب عنه قصصاً كثيرة، بحيث يراه الطفل في حالات متباينة، مما يضمن للكبار فرص تربية الطفل من خلال البطل.

 

بيد أن بطل القصة لا يكون مهماً عند الطفل إذا لم يكن واضحاً لديه. والوضوح هنا يعني أشياء كثيرة، أهمها أفعال البطل، إذ إن الأفعال العادية لا تشدّ الطفل إليها، فهو يحتاج إلى أفعال عظيمة فيها كثير من المغامرات والمفاجآت وتحدّي الصعاب ومقارعة الشر والأشرار. لابدَّ من أفعال ملموسة يؤديها البطل في أثناء نضاله من أجل المجتمع ومكافحته الشر، ومساعدته الصالحين والضعفاء وأصحاب الحقوق.

 

ومن الوضوح أن يكون للبطل اسم محدَّد، وصفات خُلُقية وخَلْقية معيَّنة. ومن السخف أن نعطي البطل رقماً كما هي الحال في بعض قصص الخيال العلمي، أو نطلق عليه صفة عامة كالحدَّاد والنجَّار ورائد الفضاء، لأن التسمية تُجسِّد ما يريده الطفل. كما أن الصفات الخُلُقية والخَلْقية ضرورية جداً تؤثّر في الطفل وتدفعه إلى التحلّي بها. صحيح أن البطل اللص أو المجرم يشدّ الطفل إليه، ويثير خياله، ولكنه، في هذه الحال، بطل سلبي ينقل قيماً لا ترضى التربية السليمة عنها. وهذه النقطة تشير إلى جانب آخر من وضوح البطل، هو نضاله الإيجابي، أيْ أن أفعال البطل تؤدي إلى شيء مثالي على الرغم من أن حوادث القصة تنقل إلى الطفل الحياة بحلوها ومرَّها. وليس هناك شيء من التناقض بين نقل الحياة بحلوها ومرَّها(أي تحقيق عملية التعرُّف) وبين قيادة القصة للتعبير عن شيء مثالي. ذلك لأننا ننقل الحياة بحلوها ومرِّها إلى الطفل لنُعرِّفه بها ونعدّه للمستقبل، إلا أننا نعي، في الوقت نفسه، أن الطفل غير قادر على تقييم الأمور بالاعتماد على عقله، وأن أحداث الحياة لا تضم دوماً انتصار الخير على الشر، فإذا عرَّفنا الطفل بواقع الحياة، وقدناه إلى انتصار الشر على الخير مقتدين بالواقع الحياتي، أصبناه بالارتباك لأنه غير قادر على تقييم الأمور والحكم عليها ومعرفة الحكم عليها ومعرف دوافعها وأسبابها ومحاكمتها منطقياً والانتهاء منها إلى انتصار الشر مؤقّت غير نهائي، وما إلى ذلك مما يعيه الكبير ويعرفه. ولهذا السبب كان النضال الإيجابي ضرورياً للقصة، وكانت قيادة القصة إلى التعبير عن شيء مثالي تجسيداً لهذا النضال الإيجابي، دون أي تناقض مع مبدأ نقل واقع الحياة إلى الطفل.

 

تضاف إلى الوضوح صفات أخرى، منها الجرأة وحب الخير والكرم والمغامرة، يتحلّى البطل بها لئلا يكون أحادي الجانب. فبطل قصة(قصير الذيل) لا يملك الصفات الجسدية التي تؤهّله للبطولة، فهو قزم، ولكن المؤلّف جعله على هذه الصورة ليطرح التباين بين أفعاله العظيمة وصفاته الجسدية التي لا تلفت الانتباه. إنه جريء، لا يترك أمراً قبل أن يفهمه، يتحلّى بالريث والأناة قبل الإقدام على أي عمل، ذكي، حنَّكته تجاريب الحياة، غيور، عطوف.....

ثم إن البطولة في قصص الأطفال غير مقصورة على الإنسان، فالحيوان يصلح للبطولة كما تصلح الجمادات لها. إلا أن طفل المرحلة المتأخّرة يميل إلى البطل الإنسان، لأن ارتباطه بالواقع بدأ يقوى ويشتدّ على الرغم من أنه مازال يقبل أن يتحدّث الحيوان ويفرح ويغضب، كما يقبل أن تؤدي حبة القمح ما يؤديه الإنسان في العادة. ذلك لأن الطفل لا يهتم بأنواع الأبطال بمقدار اهتمامه بأفعالهم وأعمالهم.

 

ومن ثَمَّ لا يعني البطلُ الإنسانُ لديه البطلَ الرجلَ فحسب، بل يعني أيضاً البطل الطفل ذكراً أو أنثى، والبطل العجوز، وإنْ كان الطفل الذكر يميل إلى الأبطال الذكور في هذه المرحلة، كما تميل الأنثى إلى البطلات، تبعاً لنمو الاهتمامات والفوارق بين الذكر والأنثى في هذه المرحلة العمرية.

 

أما طريقة القاص في رسم شخصية البطل فتكاد تكون مقصورة على الصورة الخارجية أو ما يُسمّى في المصطلح النقدي بالشخصية المسطّحة التي لا تنمو طوال الرواية. وسبب ذلك محافظة بطل قصص الأطفال طوال القصة على صفاته التي عرفها الطفل فيه منذ البداية، في حين تنمو الحوادث وتتبدّل وتؤول إلى نهايات معيَّنة. ومن ثَمَّ فقصة الطفل قصة(حوادث) وليست قصة(شخصية)، مما يدفعنا إلى الاهتمام بالصورة الخارجية للبطل والعزوف عن الطريقة الداخلية في رسمه(أي الطريق التمثيلية). وهذا الكلام لا يناقض الاهتمام بالبطل، ولا يؤثّر في ارتباط الطفل به، لأننا، في حقل قصص الأطفال، لا نعالج الشخصيات لنخرج منها بدلالات اجتماعية معيَّنة كما هي الحال في قصص الكبار، بل نطرح الشخصية لتتفاعل مع حوادث معيَّنة دون أن تُغيّرها الحوادث أو تدفعها إلى النمو. إن شخصية البطل في قصص الأطفال ثابتة الأفكار والعواطف والاتجاهات والمواقف، وما حولها متغيّر دائماً لا يعرف الثبات.

 

أما الشخصيات الثانوية في قصة الطفل فلا يوجِّه القاص إليها اهتماماً مماثلاُ لاهتمامه بالبطل، لأنها تؤدي عملاً ثم تنصرف من ساحة القصة، أو تبقى فيها ولكنها لا تتفاعل مع الحوادث تفاعلاً يجعلها تطفو على سطح القصة، وهي في المقابل ضرورية للقصة، لأنها تطرح الوجه الآخر للبطل، أو توضِّح بعض صفاته، أو تقدِّم له شيئاً من المساعدة، أو تكون نتيجة فوزه ونضاله. ومن البديهي أن تتجلّى باسم معيَّن وصفات خاصة وصورة خارجية واضحة.

 

ج- السرد والحوار:

لا تختلف قصة الطفل عن قصة الكبير في حاجتها إلى السرد الذي يلخِّص الحوادث بقدر قليل من الجمل، والحوار الذي يوضِّح طبيعة الشخصيات وأفكارها ويعين على نمو الحوادث. إلا أن السرد في قصة الطفل يلتزم في الغالب الطريقة المباشرة التي تجعل الكاتب يشرف على القصة من بدايتها إلى نهايتها دون أن يشعر القارئ الطفل به.

ومن المفيد ألا يبالغ القاص في السرد، فيملأ القصة به، لأن الأفعال التي يذكرها السرد تتسم بسمة الإخبار، في حين يطلب الطفل أفعالاً ملموسة تضج بالحركة.

وهناك طريقة أخرى في السرد يلجأ إليها بعض القاصين، هي طريقة السرد الذاتي التي يتحدّث البطل فيها عن نفسه، كما هي حال قصة(رائحة الوطن) لدلال حاتم. فقد تحدّثت عائدة عن نفسها مستخدمة ضمير المتكلّم على النحو الآتي:

(اسمي عائدة، أسكن مع أمي وأبي في بيت يطل على جبل عال تسكوه الأشجار).

على أن الخلاص الحقيقي من رتابة السرد يتم بوساطة الحوار الوظيفي، الواضح، القصير، الموحي. ولابدَّ في أية قصة تجمع بين السرد والحوار من متحاورين على أقل تقدير، لأن الحوار الداخلي يكاد يكون مرفوضاً في قصص الأطفال، لأنه يعبِّر عن حركة ذهنية، ويبتعد ابتعاداً واضحاً عن الحركة الخارجية الملموسة. ثم إن الحوار في قصص الأطفال وظيفي دائماً، يعبِّر عن معان توضّح أفكار المتحاورين وطبائعهم، وتدفع الحدث إلى النمو، وإلا فإنه حشو لا فائدة منه، يحسن بالقاص حذفه. أما اللغة المستعملة في السرد والحوار فيجب أن تتسم في قصص الخيال العلمي خاصة بالسمة العلمية، سواء أكان المراد هنا الألفاظ أم التراكيب أم المصطلحات. وهذه اللغة تكاد تتصف بالتشابه والتكرار من أجل ذلك(26)، وقد تتصف بالغرابة إنْ لم يكن القارئ يملك زاداً معرفياً منها، أو لم يكن المؤلِّف قادراً على توضيحها من خلال السياق.

 

3- العلم والخيال العلمي:

العلم هو المعرفة المنظَّمة التي تدور حول موضوع معيَّن، وتقوم على منهج مقرَّر، وتؤدي إلى نتائج وقوانين متطابقة(27). وتُطْلَق لفظة(العلم) على العلوم الطبيعية التي تحتاج إلى مشاهدة واختبار، سواء أكانت أساسية كالكيمياء والطبيعة والفلك والرياضيّات والنبات والحيوان والجيولوجيا أم تطبيقية كالطب والهندسة والزراعة والبيطرة(28). وهذه اللفظة جديدة نسبياً، لم تُكتَب لها السيادة قبل بداية القرن التاسع عشر(29) على الرغم من الإرهاصات الأولى التي ترجع إلى القرن السادس عشر. ومهما يكن أمر العلم فإن الهدف منه هو فهم العالم وتعديله وتذليله لخدمة الإنسان. ولابدَّ له من أن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظرة الفلسفية العامة للعالم، لأن هذه النظرة تُسلِّحه بفهم لنظرية المعرفة ولمنهج البحث وللقوانين التي تحكم العالم الموضوعي(30).

 

على أن حديثي عن لفظة(العلم) ليس مطلقاً، بل هو مقيَّد بإضافة الخيال إليه، ومن ثَمَّ يظهر نوع من التعارض بين اعتماد العلم على الحقائق الموضوعية والملاحظة والتجريب، وانطلاق الخيال من الأحلام والأماني والفضول الذهني إلى حوادث ومجتمعات ليس لها شبيه في الواقع. ولا رغبة لديَّ في إعطاء هذا التعارض شيئاً من الأهمية، فقد ثبت أنه تعارض شكلي وليس جوهرياً، لأن الخيال يكمن وراء الاختراعات والاكتشافات العلمية كلها إنْ لم نقل إنه الحافز عليها والمحرِّض على الاستمرار في البحث والتنقيب عنها والتأمُّل فيها. كما أنه يكمن وراء الأعمال الفنيّة القصصية التي خلقت حوادث ومجتمعات علمية، وجعلت الإنسان يعيش فيها ويتأثَّر بها دون أن يكون لها مثيل في واقع المؤلِّفين والقرّاء. وخيال العالم والفنَّان واحد هنا، إذ إنه مرتبط بالقضايا العلمية، ومن ثَمَّ سُمِّي بالخيال العلمي تمييزاً له من الخيال الأدبي الذي يخلق حوادث ومجتمعات ليست مطابقة لما يضمّه الواقع، ولكنها لا تخرج في جوهرها وملامحها ودلالاتها عنه. والخيالان العلمي والأدبي يختلفان أيضاً عن الخيال الفلسفي الذي يخلق حوادث ومجتمعات ليس لها شبيه في الواقع ولكنها تجيب عن أسئلته الكبرى والصغرى، كتلك المدن الفاضلة عند الفارابي وتوماس مور وفرانس بيكون وادوارد بيلامي وويلز(31)، أو قصة حي بن يقظان في التراث الفلسفي العربي. كما تختلف الأخيلة السابقة عن الخيال الفنّي التشكيلي الذي يلجأ إلى الخط واللون في تجسيد أشكال فنيّة جديدة ليس لها مثيل في الواقع، كما هي الحال لدى لوناردو دافينشي(32). وليس الهدف هنا تعداد أنواع الأخيلة، بل الهدف هو الإشارة إلى أنها جميعاً تشترك في القفز فوق الواقع، وفي رسم عوالم جديدة، تبعاً لاعتمادها الخيال أساساً في حركتها. وعلى الرغم من أنها كلها مرتبطة بالواقع ارتباطاً مباشراً أو غير مباشر، لأنها تتخيَّل أشياء من أجل سعادة الإنسان أو من أجل(كمال البشر الوضيع) على حدّ تعبير كولن ولسن(33)، فإن الخيال العلمي يختلف عنها في شيء جوهري هو إمكانية تحقيق النبوءة.

 

ذلك أن المخيِّلة المبدعة تتنبّأ دائماً، ولكن تنبّؤ الخيال العلمي يستند إلى فرضيّات أو ظواهر أو حقائق علمية تجعل النبوءة ممكنة التحقيق في منطق التفكير العلمي. أي أن التنبّؤ العلمي(بمستقبل الإنسان غير مبني على أوهام، ولا هو نابع من فراغ، لأن الأساس فيه يرتكز على ما بين أيدينا من بحوث علمية عميقة تشير إلى إحداث تغييرات جوهرية، ليس في الاختراعات التي تطوّر حياة الإنسان وحسب، وإنما في أمور أكثر خطراً من ذلك كتغيير طبيعة الإنسان البيولوجية)(34). وهذا يعني لديَّ أن هناك معياراً لفحص ما إذا كان التنبّؤ علمياً أو خرافياً، هو السند العلمي أو المعارف العلمية التي يملكها الإنسان في الحاضر، واحتمال تحقُّق النبوءة. فإذا خرج التنبّؤ عن السند العلمي والاحتمال دخل ساحة الخرافة،(فالتنبؤ بما سيصير عليه الطقس العام لكوكب الأرض لأيام قادمة ليس رجماً بالغيب، بل ينبع من علوم لها أصولها وتطبيقاتها وحساباتها ومعادلاتها)(35). كذلك الأمر في الكسوف والخسوف، إذ يستطيع العلماء التنبؤ بالموعد(بالشهر واليوم والساعة والدقيقة والثانية، ومكان حدوث هذا أو ذاك، وتقدير الزمن الذي يستغرقه الكسوف والخسوف، وهل سيكون كلياً أو جزئياً)(36) وعلى سبيل التمثيل لا الحصر نقول إن العلماء حدَّدوا موعداً لكسوف الشمس في عام 2186 على النحو التالي: (في موقع محدد بجنوب المحيط الأطلنطي سوف يسجل العلماء في هذا الزمان أطول كسوف لم يحدث مثله منذ مئات السنوات، إذ ستنكسف الشمس مدة سبع دقائق و 28 ثانية في يوم 16 تموز عام 2186)(37). وفي المقابل يُعَدُّ التنبّؤ(بنجاح العلم في المستقبل بنقل الإنسان أو الأشياء من مكان إلى مكان بسرعة الضوء- أي بسرعة 186 ألف ميل في الثانية- نوعاً من التنبّؤ الخرافي وإن تأسس ظاهرياً على فكرة علمية. فمن ذا الذي يستطيع أن يُحوِّل الإنسان من صورته المادية الحية إلى موجات كهرومغناطيسية تنطلق بسرعة الضوء، ثم تتجمع في مكان آخر وتتحول من حالتها الحية إلى جسيمات فذرات فجزئيات فخلايا فأنسجة فأعضاء فمخلوق حي كامل بشحمه ودمه ولحمه وعظامه؟‍)(38).

 

وإذا كانت تلك حال النبوءات العلمية الخاصة بالمستقبل، فإن الأمر لا يختلف حين يرغب الباحث في تفسير الظواهر التي عرفها الإنسان في الماضي. ففي التراث الشعبي العربي فيض من الحكايات عن(بساط الريح) و(مصباح علاء الدين) و(المارد المحبوس في القمقم) و(طاقية الإخفاء).... وهذه كلها شذرات من مخيِّلة الفنَّان العربي، ولكنها لا تستوي في النظر العلمي الحديث. إذ تستحيل علمياً قضية اختفاء الإنسان حسب طاقية الإخفاء، ولكن المارد المحبوس في القمقم، والمصباح السحري، والطيران على بساط الريح، أمور ممكنة علمياً، أو هي تستند إلى أسس علمية مقبولة. وقد رفض عبد المحسن صالح، وهو من رجالات العلم المعروفين، قضية طاقية الإخفاء وعدَّها خرافة، في حين قَبِلَ قضية المارد المحبوس على أنها تشير إلى نوع من الطاقة الكامنة ذات القوّة البالغة العنف والضراوة، وشبَّهه بالقنبلة الذرّية، كما قبل قصة علاء الدين والمصباح السحري انطلاقاً من أن خيالها المحض تحقَّق في التلفاز الذي يجعلنا نرى الأحداث ونسمعها مهما تكن نائية عنا. وعلى أية حال، فإن تفسير ظواهر الماضي في ضوء التطور العلمي الحديث خلافي، ولكن الثابت هو أن الخيال الذي رسم الظواهر المذكورة لم يكن خيالاً علمياً بل كان خيالاً أدبياً صرفاً. وليس بغريب أن يقبل المنطق العلمي الحديث بعض هذه الظواهر ويدخلها ساحته بعد أن رآها متماسكة ومقبولة في منطقه، في حين رفض ظواهر أخرى وعدَّها خرافة لمجافاتها التماسك والمنطق العلمي.

 

ثانياً: طبيعة قصص الخيال العلمي ووظيفتها:

تلك، في رأيي، حدود الألفاظ التي يضمّها مصطلح(قصص الخيال العلمي). وهذه الحدود كافية لتوضيح المراد من المصطلح، ولكنها تحتاج إلى فضل بيان لتحديد طبيعة هذه القصص ووظيفتها.

 

1- طبيعة قصص الخيال العلمي:

قصص الخيال العلمي أدب وليست علماً. هذه طبيعتها الرئيسة. ذلك أن كاتب هذه القصص لا يُقدِّم لقرائه كتاباً علمياً بغية تغذيتهم بما يضمه من معارف علمية نظرية وتطبيقية بل يقدم لهم قصة قصيرة أو طويلة أو رواية بغية إمتاعهم، ومن خلال هذا الإمتاع يُزودّهم بالمعارف العلمية النظرية والتطبيقية. ولابدَّ من أن تُخلص قصص الخيال العلمي لطبيعتها إذا رغبت في أن تنتمي إلى الأجناس الأدبية.

 

ويتجلى هذا الإخلاص بإعلائها الجانب الفنّي وتمسّكها به، بما يعنيه هذا الجانب من قدرة على رسم حوادث ومجتمعات تقنع القارئ وتمتِّعه وتؤثّر فيه. فإنْ خسرت الإقناع أو الإمتاع أو التأثر تجافت عن طبيعتها الفنيّة ولم تكن أمينة لها. وهذا التجافي يجعلها خطاباً تقريرياً أو وعظياً أو شيئاً آخر يعوق تحقيق وظيفتها. ولا أشك في أن توفير هذه الطبيعة يحتاج إلى الموهبة القصصية وإلى الخبرة في الصوغ القصصي والمران عليه.

 

بيد أن الطبيعة الأدبية ليست خالصة في قصص الخيال العلمي، بل هي مقيَّدة بالمضمون العلمي الذي يضمه الخطاب الأدبي. ومن ثَمَّ يحتاج القاص الموهوب ذو الخبرة والمران إلى معرفة علمية غزيرة متماسكة دقيقة. ذلك أنه يتنّبأ بمكتشفات ومخترعات في المجتمعات العلمية التي يبدعها خياله، ولابدَّ من أن تستند نبوءاته إلى الإنجازات العلمية في الحاضر لتبدو منطقية في التفكير العلمي، ولتبتعد عن الخرافة.

 

وهذا يعني أن موهبة القاص وحدها لا تنفع في هذا اللون القصصي، كما أن المعرفة العلمية لا تكفي وحدها فيه، بل يجب اجتماع الموهبة والمعرفة العلمية في كاتب قصص الخيال العلمي ليتمكّن من تقديم نصوص تُجسِّد دلالات المصطلح دون أي خلل فيها. وقد قيل إن اجتماع الموهبة القصصية والمعرفة العلمية صعب. وهذا صحيح لما نعرفه من ضعف الثقافة العلمية في الوطن العربي عموماً ولدى الأدباء خصوصاً، ولأننا اعتدنا الفصل بين الأدب والعلم نظراً وممارسة. إلا أن صعوبة الجمع بين الموهبة القصصية والمعرفة العلمية لا تعني العزوف عن هذا اللون القصصي ذي البعد المستقبلي، إذ إن ممارسته ممكنة شريطة توافر الأمور التالية:

أ- القدرة على تأمُّل إنجازات الحاضر العلمية وما يمكن أن تقود إليه في المستقبل من كشوف واختراعات.

ب- القدرة على التمييز بين الإمكانات العلمية والإمكانات الخرافية.

ت- القدرة على تقديم نص قصصي مقنع ماتع مؤثِّر.

ث- القدرة على استعمال لغة علمية تلائم المخاطب سواء أكان كبيراً أم فتى أم طفلاً.

وأعتقد بأن الطبيعة الفنيّة لقصص الخيال العلمي تجنح في الأعم الأغلب إلى الاتجاه التقليدي وتعاف الاتجاه الجديد. أيْ أنها ميَّالة- كما سبق القول في أثناء الحديث عن القصص- إلى الحكاية والحبكة والشخصيّات الواضحة المحدَّدة ذات الحوار الوظيفي، وليست ميَّالة إلى الحكاية ذات الحوادث الداخلية النفسية والشخصيّات الغائمة ذات الأبعاد المتعدّدة أو تلك التي فقدت صلتها بالواقع المحيط بها. ولعل ميل قصة الخيال العلمي إلى التقليدية يجعل طبيعتها حريصة على الإيصال. إذ إن خيال القاص يجول في عوالم جديدة غير مألوفة، ولكنه لا يقطع صلة القارئ بهذه العوالم ولا يُفقده ارتباطه بحاضره. ومن ثَمَّ يسعى إلى أن يكون مضمون القصص واضحاً بعيداً عن اصطناع الغرابة وعن الإكثار من المصطلحات العلمية، قريباً من اللغة العلمية القادرة بألفاظها وبناها على الوصول إلى القارئ.

 

ومن البديهي أن تتوافر طبيعة قصص الخيال العلمي في المستويات الثلاثة السائدة في العالم: مستوى قصص الأطفال ومستوى قصص الفتيان ومستوى قصص الكبار. ذلك لأن قصص الخيال العلمي عامة في دلالاتها وطبيعتها مهما يكن مستوى المخاطب بها. وحين تتوافر الدلالات والطبيعة بالمعنى العام الذي ذكرتُه في الصفحات السابقة كلها تكون القصة صالحة للكبار، وتبقى من مهمات القاص تبسيط الأسلوب ليصلح للفتيان أو للأطفال بحسب رغبته في تحديد المخاطب. والشائع أن تقتصر قصص الخيال العلمي الموجَّهة لأطفال المرحلة الثانية على القصة القصيرة، ولأطفال المرحلة العليا على القصة القصيرة والطويلة نسبياً، في حين تستوي القصة القصيرة والطويلة والرواية في الأدب الموجَّه إلى الفتيان والكبار.

 

وعلى الرغم من أن الفارق الرئيس بين المستويات الثلاثة لقصص الخيال العلمي يكمن في الأسلوب وطول النص أو قصره، فإن هناك شيئاً يكاد يكون مشتركاً بينها هو اعتماد شكل المغامرة أو الرحلة الفردية والجماعية. ولا شك في أن شكل المغامرة يقتضي نوعاً من البطولة المتميّزة جسدياً أو معرفياً، وإنْ كان الفضول الذهني أكثر الدوافع حفزاً على النهوض بأعباء المغامرة. وربما قيل إن المغامرة في المستويات الثلاثة ليست واحدة. وهذا صحيح تبعاً لتفاوت المستوى المعرفي للمخاطب، ولكن صحّته نسبية مقترنة بكون النص قصة قصيرة أو طويلة أو رواية. وتبدو القاعدة هنا واضحة. فكلما قصر النص ضمرت المغامرة، وكلما طال النص اتسعت جوانب المغامرة وتعدَّدت أركانها. إضافة إلى أن ذلك مرتبط أيضاً بقدرة المخاطب المتلقّي على التواصل مع النص. فأطفال المرحلة الثانية لا يستطيعون التواصل مع النص الطويل، في حين يستطيع الفتيان التواصل مع النص القصير وإنْ كانوا يفضِّلون النص الطويل. ولا شك في أن المغامرة مطلوبة في المستويات الثلاثة لقصص الخيال العلمي لسبب آخر، هو قدرتها على توفير التشويق. ويرتبط التشويق عادةً بالإمتاع الذي جعلتُه شرطاً من شروط الطبيعة الفنيّة لقصص الخيال العلمي، ولعله عامل مهم في توفير هذا الإمتاع. ولا أُبالغ حين أقول إن قصة الخيال العلمي التي تفتقر إلى التشويق تخسر جزءاً كبيراً من معركة الإيصال، لأن الطفل والكبير معاً يقرأان هذا النوع من القصص للحصول على المتعة، ولا أعتقد بأن أحداُ منها يقرؤها بهدف الحصول على المعرفة العلمية. غير أن القاص قادراً على تقديم المعرفة العلمية وعلى تحريض خيال القارئ إذا كان قادراً على توفير التشويق لقصصه، ومن ثَمَّ يبدو التشويق هدفاً ووسيلة في آن معاً.

 

مهما يكن الأمر فإن قصص الخيال العلمي حريصة دائماً على الرحلة الخيالية، سواء أكان الحاضر زمناً لهذه الرحلة إلى العوالم المجهولة في الأرض والفضاء، أم كان المستقبل القريب أم البعيد زمناً لها. وهذا ما يميّزها عن الرحلة الخيالية إلى الماضي(39) وإن التقتها في المغامرة. وهذا الحرص على الرحلة الخيالية يُعلي دائماً من شأن المكان في قصص الخيال العلمي، ويكاد يجعله بطلاً متمتِّعاً بالغرابة والبعد عن المألوفية. ومن ثَمَّ كان الكُتَّاب حريصين على استعمال المقاطع الوصفية في تحديد هذا المكان الغريب بغية قيادة القارئ إلى التواصل مع حوادث القصة. ويبدو وصف المكان معياراً للمعرفة العلمية التي يملكها القاص، لأن الوصف الإنشائي لا يخدمه، ولأنه مضطر إلى استعمال معارفه العلمية في وصف الأرض والفضاء، كلياً أو جزئياً، تبعاً لما هو ثابت عنهما في الأدبيّات العلمية.

 

2- وظيفة قصص الخيال العلمي:

نستطيع أن نلاحظ بسهولة أن الحديث السابق عن طبيعة قصص الخيال العلمي ضمَّ إشارات كثيرة إلى وظيفة هذه القصص، مما ينمّ عن أن هذه الطبيعة لا تنفصل عن الوظيفة التي ترنوا إليها القصص المذكورة. بيد أنه من المفيد القول إن وظيفة قصص الخيال العلمي تكاد تكون مقصورة على الأمور التالي:

 

أ- التثقيف العلمي:

تستخدم قصص الخيال العلمي معارف الحاضر العلمية بغية الانطلاق منها إلى عالم المستقبل العلمي. ولا شك في أن استخدام هذه المعارف يسهم في ترسيخ الثقافة العلمية للقارئ(40) بشكل مباشر أو غير مباشر تبعاً للمستوى العلمي لهذا القارئ من جهة، ولقدرة القاص على توضيح المعارف التي يستخدمها دون أن ينطلق من معرفة القارئ لها أو من كونها بديهية في الثقافة العلمية. وتزداد في الوطن العربي أهميّة التثقيف العلمي عموماً، وتوضيح المعارف المستخدمة خصوصاً، لانخفاض المستوى العلمي للقراء وللمجتمع على حدّ سواء. ومن المفيد أن يتذكّر القاص هذا الأمر قبل أن يُقْدِم على الكتابة للكبار وللفتيان وللأطفال. إذ إن قصص الخيال العلمي مازالت في بداياتها الأولى في الوطن العربي، ومن المناسب في هذه المرحلة ألا يستند القاص إلى معرفة علمية دون أن يوضّح المراد منها ليتمكّن من تحقيق التواصل مع قارئه أولاً، وتحقيق التثقيف العلمي ثانياً. ولا يستطيع الباحث المغامرة بالقول إن التثقيف العلمي وظيفة جليلة إذا لم يكن يعلم علم اليقين أن المعرفة العلمية المستخدمة في القصص واضحة للقارئ المتلقّي، وإلا فإن بدايات قصص الخيال العلمي في الوطن العربي ستُرسِّخ نوعاً من الانفصال بين القارئ والنصوص، وستزيد الوهم السائد حول الجفاء بين الأدب والعلم.

 

ب- التذوُّق العلمي:

تنطلق قصص الخيال العلمي -كما سبق القول- من إنجازات الحاضر العلمية إلى المستقبل العلمي، لأن عالم المستقبل هو هدفها. وإذا كان التثقيف العلمي يدور حول إنجازات الحاضر العلمية فإن التذوُّق العلمي(41) يدور حول ما بناه الخيال من إنجازات علمية في المستقبل. والمراد بالتذوُّق العلمي هنا تدريب القارئ على تذوق لذّة الكشف العلمي، وجعل إحساساته العلمية مرهفة قادرة على تلمُّس الأساليب القادرة على قيادة إنجازات الحاضر العلمية إلى كشوف واختراعات يُحْتَمَل حدوثُها في المستقبل العلمي للبشرية. ذلك أن التذوق ليس عملاً خاصاً بالأحاسيس وحدها، بل هو عمل يتعلّق بالعقل أيضاً, فهو يبدأ وجدانياً وينتهي عقلياً، ولا يخرج عن ذلك حين يغادر الأدب إلى العلم. وإذا كان التذوق متصلاً بالمشاعر والعقل معاً فإن وظيفته غير مقصورة على اللذة العلمية، بل تتجاوز ذلك إلى أمرين أساسيين في الحياة العلمية للقارئ: أولهما تنمية الحدس العلمي، وثانيهما تنمية القياس العلمي. أما الحدس العلمي فهو القدرة على الربط بين إنجازات الحاضر العلمية وما يمكن أن تؤول إليه. وأما القياس فهو مهارة تجسيد الحدس، لأن كل قياسي -كما نص نزار العاني(42)- يقتضي إعمال الفكر أولاً بغية اكتشاف قوانين الطبيعة، والقياس عليها ثانياً بغية الخروج بأشياء علمية جديدة، وكأن التذوق نوع من تربية الباحث العلمي بوساطة إكسابه أساسين مهمّين في الحياة العلمية، هما الحدس والقياس، إضافة إلى الأسس المعرفية التي يكتسبها من الحقول المعرفية الأخرى، وخصوصاً المشاهدة والتجريب والاستقراء.

 

ت- تحرير الخيال وتحريضه:

الحريّة عماد الخيال، ولكن الأدباء عموماً يحاولون توظيف أخيلتهم الأدبية في خلق مجتمعات تعبِّر عن واقعهم وتنتقده. وهذه وظيفة مهمة من وظائف الخيال الأدبي، ولكن الاهتمام الدائم بها جعل الخيال يحلِّق قريباً من الواقع ولا يوغل بعيداً عنه. ولهذا السبب يُقال إن قصص الخيال العلمي تُحرِّر الخيال من التحليق الدائم قرب الواقع، وتفتح له كوى يحلِّق بوساطتها في عالم المستقبل، فتقوى أجنحته ويملك حرّيته كاملة ضمن حدود الخيال العلمي ولا يملكها مطلقة من القيود كلها. ويُخيَّل إليَّ أن تحرير الخيال ليس وظيفة بسيطة أو هامشية، إذ إن هذا التحرير يسهم إسهاماً كبيراً في تحريض الإرادة البشرية على ارتياد المجهول، وربما أسهم في قيادة بعض القرّاء إلى تجسيد ما توحي به القصص التي يقرؤونها، أو مساعدتهم على تلمُّس الحلول للمشكلات العلمية التي يفكرون فيها، أو حفز عقولهم على السير في طرق جديدة. كما يسهم تحرير الخيال في دفع القارئ إلى التفكير في مستقبل البشرية، وخصوصاً الكشوف والاختراعات القادرة على خدمة الإنسان، وتلك التي تستطيع تدميره والقضاء على العالم الذي يعيش فيه. ويمكن أن يؤدي تحرير الخيال إلى أمور مهمة أخرى، كوضع الفرضيّات العلمية وتعديل مسالك التأمُّل والملاحظة، وتخليص القارئ من التبعة للأفكار السائدة، وما إلى ذلك.

 

ث- تحديد الهويّة:

يخيَّل إليَّ أن قصص الخيال العلمي تُسهم إسهاماً غير مباشر في الإجابة عن سؤال الهوية: من أنا؟. ذلك أن قصص الخيال العلمي تنسجم وحياة القارئ في البلدان المتقدّمة حضارياً، لأنها تواكب إنجازات حاضره العلمية وترتقي بها وتُنميِّها.

 

ومن ثَمَّ لا يجد القارئ نفسه غريباً في أثناء قراءة هذه القصص. وعلى الرغم من ذلك فإن هذا القارئ يتساءل عما إذا كانت حياته العلمية الصرف كفيلة بتحقيق إنسانيته، وعما إذا كانت هذه الحياة تخلو من اللطافة الروحية. وهذا السؤال جوهر الهوية: من أنا في هذا العصر التقني؟ ومن سأكون في المستقبل؟. ولعل هذا السؤال سيساعده على تحديد هويّته التي لا تخرج عن الموازنة بين الروح والمادة في أية حياة تضمن لأبنائها الحد الأدنى من رغد العيش. ويختلف مضمون السؤال إذا كان قارئ قصص الخيال العلمي من البلدان المتخلِّفة حضارياً، لأن هذا القارئ يسأل سؤال الهوية نفسه مع اختلاف واضح في المضمون. فهو يتساءل في أثناء القراءة: أين أنا من هذا التقدم العلمي؟ وأين سأكون في المستقبل العلمي؟. وهو -بذلك- يُحدِّد هويته ضمن العالم المتخّلف، ويحدّد حجم الكارثة التي ستحلّ به في المستقبل إذا استمر على هذه الحال من التخلُّف العلمي. ولعله يعي أنه أكثر روحانية من الحد المطلوب للحياة في المجتمع الحديث، وأقلّ مادية من الحد الأدنى اللازم للنهوض بالحياة في العالم الثالث. وأعتقد بأن تحديد الهوية على النحو السابق ينفي القول إن قصص الخيال العلمي تسهم في ترسيخ التخلُّف لدى القارئ المتخلّف، لأنها تجعله يدرك عجزه عن اللحاق بركب الأمم المتقدّمة وتضعه أمام عالم تقني حديث يتقدَّم بسرعة هائلة وهي البطيء العاجز عن الحركة الحرّة. ومسوّغ النفي هنا هو أن المجتمع المتخلّف ليس مجتمعاً سكونياً بمعنى الخلو من الحركة، بل هو كذلك بمعنى سكون السطح الخارجي والأشكال الظاهرية، وغليان الأعماق وتحفُّزها للحركة. ومن ثَمَّ هناك احتمال كبير لإسهام قصص الخيال العلمي في دفع الغليان من الأعماق إلى السطح، وتحريض الحركة الداخلية الكامنة على أن تصير حركة خارجية فاعلة.

ومهما يكن الأمر فإن تحديد الهوية وظيفة من وظائف قصص الخيال العلمي لا يُستهان بها، ولعلها تبدو بعد الفحص الدقيق أكثر أهمية من الوظائف الأخرى.

 

الإحالات:

(1): انظر ص 503 من: وهبة، مجدي -معجم مصطلحات الأدب- مكتبة لبنان- بيروت 1974.

(2): المرجع السابق نفسه.

(3): انظر ص 32 من: الأصبحي، منير صلاحي -الحقيقة والرواية- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1987. وانظر الصفحة نفسها ترجمة مصطلح Science Fiction بالقصص العلمية، وتحديده لها بأنها(تستعمل لوصف الأعمال التي تجري في المستقبل بعد أن يكون التقدُّم العلمي والتكنولوجي قد وصل آفاقاً جديدة، أو التي تصف ما كان يمكن أن يجري في فترة من الماضي غير البعيد)..

(4): قارن هذين المعنيين بما ذكره محمد الخضر حسين في: الخيال في الشعر العربي- الطبعة الثانية 1972(صدرت الطبعة الأولى عام 1922)

(5): انظر 2/ 305 - 306 من: الكفوي، أبو البقاء- الكليات(معجم في المصطلحات والفروق اللغوية)، تح: د. عدنان درويش ومحمد المصري -الط 2- وزارة الثقافة- دمشق 1982. وص 93 - 94 من: الأحمدي، موسى بن محمد بن الملياني- معجم الأفعال المتعدية بحرف- دار العلم للملايين- بيروت 1979. والمعجم الوسيط- مادة(خيل).

(6): انظر ص 12 - 13 من: حسين، محمد الخضر- الخيال في الشعر العربي.

(7): المرجع السابق -ص 18 - 19 .

(8): نص الدكتور عز الدين إسماعيل على أن(الصورة الفنية تركيبة عقلية تنتمي في جوهرها إلى عالم الفكرة أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع). انظر ص 66 من: التفسير النفسي للأدب- دار العودة/ دار الثقافة - بيروت- د. ت.

(9): انظر ص 22 من: خان، محمد عبد الحميد- الأساطير العربية قبل الإسلام- القاهرة 1937.

(10): انظر ص 244 من: عبد النور، جبور- المعجم الأدبي- دار العلم للملايين- بيروت 1979.

(11): انظر ص 164 من: وهبة، مجدي- معجم مصطلحات الأدب- مكتبة لبنان- بيروت 1974.

(12): انظر المعجم الوسيط- مادة(خيل).

(13): انظر 3 / 416 من: رسائل إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء- دار صادر- بيروت 1957.

(14): المرجع السابق 3 / 418.

(15): انظر ص 85 من: الهيتي، د. هادي نعمان -ثقافة الأطفال- عالم المعرفة 123- الكويت 1998.

(16): المرجع السابق - ص 87 .

(17): المرجع السابق - ص 88 .

(18): انظر 3/ 417 - 418 من: رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء.

(19): انظر ص 92 من: الهيتي، د. هادي نعمان- ثقافة الأطفال.

(20): انظر 3/ 420 من: رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء.

(21): المرجع السابق  3/ 416.

(22): انظر المورد لمنير بعلبكي- مادة(Story).

(23): يعرف مجدي وهبة الحكاية الخرافية بأنها تلك التي لا تمت بصلة للواقع ولا تخضع حوادثها لما يتوقع عقلاً من الأحداث، كما أنها لا تدخل حيز الخرافة التي هي سرد رمزي لما يفهمه البشر من شؤون الكون، إذ هي تتطور اتفاقاً حسبما يمليه الخيال الحر. انظر ص 165 من: معجم مصطلحات الأدب.

(24): انظر ص 237 من: ولسن، كولن -المعقول واللامعقول في الأدب الحديث- ترجمة أنيس زكي حسن -دار الآداب- بيروت 1966.

(25): المرجع السابق نفسه .

(26): انظر المرجع السابق - ص 161.

(27): المعجم المدرسي- ص 723 / 724(وزارة التربية- دمشق 1985).

(28): المعجم الوسيط- مادة(علم).

(29): الموسوعة العلمية الميسّرة -المجلد الأول- الجزء الأول- ص 142- وزارة الثقافة- دمشق 1980 .

(30): الموسوعة الفلسفية- رونتال ويودين- ص 300(دار الطليعة -بيروت - ط2 -1980). ويعد إدجار زلزل مثالاً بارزاً هنا، إذ نحا نحواً ماركسياً في تفسيره قيام العلم الحديث، فربط بين التطورات التي طرأت على الاقتصاد وبين ظهور العلم الحديث وتطوره. انظر ص 25من: العمر، د. عبد الله - ظاهرة العلم الحديث، دراسة تحليلية وتاريخية- عالم المعرفة 69- الكويت 1983 .

(31): لجأ مور وبيكون وبيلامي وويلز إلى الشكل الروائي في الحديث عن مدنهم الفاضلة. انظر تفصيلات حول ذلك في ص 142 وما بعد من: ولسن، كولن -المعقول واللامعقول في الأدب الحديث. وانظر أيضاً: العاني، نزار -القصة العلمية- الأسبوع الأدبي- دمشق العدد 23- 10/7/1986 .

(32): نص نزار العاني في مقالته السابقة على أن دافينشي خلَّف خمسة آلاف صفحة موضَّحة بالرسوم، تحوي مشاهداته وتلخيصاً لمبتكرات عدّة واقتراحات خاصة بها.

(33): المعقول واللامعقول في الأدب الحديث - كولن ولسن- ص 165 .

(34): انظر ص 10(بتصرف) من: صالح، د. عبد المحسن- التنبّؤ العلمي ومستقبل الإنسان- عالم المعرفة 48- الكويت 1981 .

(35): المرجع السابق - ص 19 .

(36): المرجع السابق - ص 25 .

(37): المرجع السابق نفسه.

(38): المرجع السابق - ص 34. وانظر أيضاً حديث د. طالب عمران عن المتطفّلين على هذا النوع من الأدب في مقالته: في أدب الخيال العلمي- الأسبوع الأدبي- دمشق العدد 87- الخميس 22/10/1987 .

(39): نظر الحديث عن الرحلة الواقعية والرحلة الخيالية إلى الماضي في ص 165 وما بعد من: فهيم، د. حسين محمد- أدب الرحلات- عالم المعرفة 138- الكويت 1989 .

(40): انظر: في أدب الخيال العلمي للدكتور طالب عمران- مرجع سبق ذكره.

(41): المرجع السابق نفسه.

(42): انظر: القصة العلمية للدكتور نزار العاني- مرجع سبق ذكره.

 

 

الفصل الرابع: مشكلات القراءة والترجمة واللغة

 

يحتاج أدب الأطفال إلى علاج لمشكلات القراءة والترجمة واللغة، لأن هذه المشكلات تفعل فعلها في الطفل العربي، فتقلِّل من فرص إتقانه مهارة القراءة، أو تجعله، في حال صلاحية الكتاب وتوافره بين يديه، يقرأ نصوصاً تغرس فيه قيماً مغايرة لقيم الأمة العربية الإسلامية، إضافة إلى تأثُّر لغته الفصيحة بالإعلام، وسيادة العامية في الخطاب الموجَّه إليه. وعلى الرغم من أن القراءة تبدو أوّل وهلة بعيدة عن الإعلام واللغة والترجمة والاختراق الثقافي، فإن إنعام النظر يقود إلى أن الخلل فيها مرتبط بالقيم التي يبثها الأدب المترجم، وبالمستوى اللغوي الذي يصل إليه الطفل العربي نتيجة اتصاله بالإعلام. ولسوف أسعى، هنا، إلى توضيح حدود المشكلات الثلاث وآثاره في الطفل العربي، وأساليب العلاج الملائمة لها.

 

أولاً: مشكلة القراءة:

لا يشك أحد في أن للطفل حاجات قرائية لابدَّ من تلبيتها لتكتمل شخصيّته ويتمكّن من التكيُّف مع مجتمعه والإسهام في بنائه. وتتنوّع هذه الحاجات وتختلف تبعاً لتنوُّع المجتمعات واختلافها. ويمكن الاطمئنان إلى أن مشكلات القراءة لدى الأطفال العرب تنبع من المجتمع ولا علاقة للأطفال بها، لأن طفلنا العربي كأيّ طفل في العالم قارئ جادّ فضوليّ يحب الموضوعات كلها ويرغب في الاطلاع عليها، إلا أن واقعنا لا يوفِّر الفرص الكافية للأطفال ليكتسبوا عادة المطالعة ويتّصلوا بالكتاب. ومن ثَمَّ برز لدينا ما تصحّ تسميته بمشكلة القراءة.

 

ولابدَّ، قبل الحديث عن هذه المشكلات، من الإشارة إلى أنني أتحدَّث عن الطفل السوي وليس المعوق الذي يعاني من مشكلات التخلُّف في القراءة نتيجة أسباب جسدية(1) كضعف البصر، أو نفسية كتشتُّت الانتباه، أو عقلية كالقصور في الفهم والإدراك(2). ذلك لأن مشكلات القراءة لدى المعوقين ذاتية لها علاجها الطبيّ والنفسيّ، أما الأطفال الأسوياء فهم الذين لا يعانون من أية مشكلة تعوقهم عن القراءة ولكنهم لا يقرؤون، أو يقرؤون قليلاً، لأسباب ترجع إلى الكتاب والمكتبة والتربية والمدارس الخلفية.

 

1- المشكلات النابعة من التربية:

القراءة مهارة لغوية تُعْنى بتحليل الرموز المكتوبة وإعادة تركيبها. ولا يستطيع القارئ فهم معنى الكلمة إذا لم يتمكّن من تحليل رموزها وإعادة تركيبها. ولهذا السبب عُدَّت القراءة عملية نفسية لغوية معقَّدة، تبعاً لارتباطها بعدد من المهارات  العقلية كالإدراك والتذكُّر والفهم والاستنتاج. ولا أشك في أن التعليم في المدارس العربية غفل عن هذا الأمر يوماً، بل إنني أدّعي أن المعلمين العرب فهموا القراءة على أنها عملية تعليم الحروف متَّصلة ومنفصلة ونطها نطقاً سليماً، وتزويد الطفل بزاد من الألفاظ يلبّي حاجة النموّ اللغوي لديه. وهذا المستوى، مستوى معرفة آلية القراءة، لا يعاني من قصور نوعي، ولكن مشكلة القراءة لدى الأطفال العرب تبدأ منه. ذلك أننا لا نُعلِّم القراءة لذاته، بل نعلِّمها لتكون وسيلة الطفل لفهم الحياة والتكيُّف مع تطوّرها. أيْ أننا نريد لقراءة الطفل أن تُحقِّق وظائفها المعرفية والنفسية والاجتماعية، فتصله بأفكار الآخرين وتساعده على التكيُّف النفسي معهم، وتُنمّي ميوله واهتماماته. ولا يتحقّق هذا كله إذا لم يكن رصيد الطفل اللغوي كافياً لدفعه إلى القراءة. والقضية هنا جدلية، فزيادة الثروة اللغوية تساعد على فهم النصوص المقروءة، وممارسة القراءة تزيد الثروة اللغوية.

 

ويُخيل إليَّ أن التربية العربية لم تدرك ذلك جيداً، لأنها ربطت القراءة بمادة اللغة العربية وبالنصوص التي تُقدَّم في كتب هذه المادة عموماً، وفي كتب القراءة خصوصاً. أما الموادّ الأخرى فمعلِّموها يعتقدون بأن القراءة ليست من اختصاصهم، وبأنهم لا يخسرون شيئاً إذا لم يدقّقوا فيها. وههنا تتعقَّد المشكلة، فالنصوص التي تُقدِّمها مادة اللغة العربية لا تُقدِّم ذخيرة لغوية تكفي الطفل لمتابعة الموادّ الأخرى، ونصوص الموادّ الأخرى ليست مبنيّة استناداً إلى الذخيرة اللغوية التي ملكها الطفل من مادة اللغة العربية، مما يجعله يتأخَّر في تحصيله المدرسي أو يتلكأ فيه.

 

ثم إن معلِّمي مادة اللغة العربية يعتقدون بأن إتقان آلية القراءة يعني إتقان القراءة، ومن ثَمَّ لا يلتفتون إلى مهارات قرائية أخرى أساسية، هي الاستعراض والمرور السريع والتَّصفُّح(3)، فينشأ الطفل العربي وهو يفتقر إلى المهارات التي تعينه على التغطية السريعة المنظَّمة للنصوص، وعلى المرور السريع الذي يُقدَّم له بعض التفصيلات عنها، وعلى تصفُّحها ليحدِّد حاجته منها. وهذه المهارات ضرورية لتحصيله المدرسي ولرفد هذا التحصيل بمعلومات مستمدّة من الكتب غير المدرسية.

ومن ثَمَّ يغادر طفلنا مرحلة الطفولة من غير أي تدريب تمهيدي يُؤهِّله في مراحل حياته اللاحقة للاتصال بالكتب والمكتبة والإفادة منهما.

 

وما هو أكثر خطراً أن تُهمل التربية مهارتي الفهم والحكم(4). فالفهم لا يعني معرفة المعاني والأفكار فحسب، بل يعني قبل ذلك وبعده قدرة الطفل على ترجمة الرموز المكتوبة إلى مشاعر وآراء وعواطف تغني أحاسيسه وتسهم في تنمية شخصيّته. ومن الواجب ألا ندع الطفل يكتفي بفهم ما يقرؤه، بل علينا تدريبه على أن يُكوِّن رأياً في المادة المقروءة، فيحكم عليها ويميّز جيّدها من رديئها لئلا يبقى عبداً لما يقرؤه. ومما يساعد على ضعف مهارتي الفهم والحكم لدى الطفل العربي إهمال تدريبه على القراءة الصامتة، والتركيز على القراءة الجهرية السليمة في الدروس المخصّصة للقراءة.

 

ذلك أن فهم المقروء يرتفع إذا مارس الطفل القراءة الصامتة، ويتدنّى إذا مارس القراءة الجهرية، تبعاً لاختلاف الحواس المشاركة في القراءتين. ولا شك في أن القراءة الجهرية مفيدة وأساسية، ولكن ذلك لا يعني الاهتمام بها وحدها، لأن القراءات التي تهدف إلى المتعة والتحصيل والبحث وحلّ المشكلات تنتمي كلها إلى القراءة الصامتة وتتمّ بوساطتها. وهذا يعني أن إهمال تدريب الطفل على القراءة الصامتة هو إهمال لوسيلة قرائية أساسية في حياته المدرسية والعامة.

 

أخلص من هذا الموجز إلى أن التربية في المدرسة الابتدائية العربية بذلت الوقت والجهد في تعليم الطفل العربي آلية القراءة، ودفعته بعد ذلك إلى ممارستها، وزوّدته بوساطتها ببعض الألفاظ الجديدة. ونتج عن ذلك إهمال القراءة الصامتة، وتقييد الطفل بنصوص كتب القراءة، وعزل الموادّ بعضها عن بعض، وضعف التدريب على المهارات الأساسية للقراءة، مما جعل القاعدة التي تستند إليها عادة المطالعة لدى الطفل العربي هشَّة غير راسخة في نفسه. أو فلنقل إن القراءة في المدرسة الابتدائية العربية تتمّ تأدية لأغراض التحصيل المدرسي في مادة اللغة العربية وحدها، والواجب أن ينعكس الأمر فتصبح مادة اللغة العربية بتدريب الطفل على مهارات القراءة ليستعملها في تحصيل الموادّ الأخرى ولتتمكّن من نفسه فتصبح عادة لا يستطيع الفكاك منها.

 

2-المشكلات النابعة من المدارس الخلفية:

التربية ليست مسؤولة وحدها عن مشكلات القراءة لدى الأطفال العرب. ذلك أن المدارس الخلفية، وخصوصاً الأسرة ووسائل الإعلام، تسهم في المشكلات نفسها. فالمطالعة ليست عادة من عادات الأسرة العربية، والطفل الذي ينشأ في أسرة لا تقرأ لا نتوقع له أن يكون قارئاً، لأن القراءة مهارة مكتسبة وليست فطرية. فإذا رأى الطفل أبويه وإخوته يقرؤون نشأ على مصاحبة الكتاب ومحبّته ومطالعته. وينصح التربويون الأبوين دائماً بترسيخ عادة القراءة لدى أطفالهما بتحويل المكافآت المادية إلى كتب، ومناقشة الطفل فيما يقرؤه، وتسجيل اشتراك له في مجلة تصله باسمه على عنوانه مما يشعل اهتمامه ويدفعه إلى الارتباط بالكتاب واحترامه والمحافظة عليه. ويعاني الأبوان العربيان من وسائل الإعلام، ويدّعيان أن التلفاز لا يمكّنهما من ترسيخ عادة القراءة لدى أطفالهما. والحقّ أن التلفاز غزا البيت العربي، وشارك الأبوين في تربية الطفل، ولكن التلفاز ليس ضاراً إذا لم يكن بديلاً من القراءة. ومسوّغ ذلك كامن في أن التلفاز يقدّم معارف وخبرات شتّى، ولكنه يتركه متلقياً سلبياً تبعاً لتقديمه كلّ شيء له. أما القراءة فتجعل الطفل متلقياً إيجابياً، لأنها تُعينه على إعمال ذهنه وخياله لينفذ وراء الرموز المكتوبة ويفسرّ إيحاءاتها تفسيراً ذاتياً.

 

كما أن القراءة تراعي حريّة الطفل في التدقيق في المقروء، فتتيح له العودة إلى صفحة كان قرأها ليدقّق فيها أو يسبر غورها من جديد، في حين يعجز عن ذلك أمام التلفاز، لأن الصور المتحركة تترى وليست هناك إمكانية لإعادتها إلى الوراء. كما أن هذه الصور تُقدِّم الهيئات والأبعاد كاملة فتقضي على مخيّلة الطفل أو تجعلها تضمر لأنها لا تعمل. وإذا كان ارتباط الأطفال العرب بالتلفاز شديداً فإن ذلك لا يبيح للأبوين والمربين التقليل من شأنه، بل يدعوهم إلى العمل على ترسيخ عادة المطالعة في الطفل لئلا ينفرد التلفاز بتربيته.

 

والقضية، هنا، ذات شأن. ذلك أن التلفاز ينقل إلى الطفل ما يجري في العالم القريب والبعيد، فيقدّم له عادات البشر وتقاليدهم وأفراحهم وأفكارهم وبيئاتهم وطبائعهم، فتتسع معارفه وخبراته، ولكنها تبقى معارف وخبرات مشتتة تحتاج إلى تنظيم، وليس هناك شيء مؤهَّل لتنظيمها غير القراءة. فالقراءة وحدها هي التي تُدرّبه على التفكير والشعور بالعالم والحكم على الجيّد والرديء، وتغرس فيه القيم الإيجابية، وتُنمّي قدرته على التخيُّل، فتغدو بنيته النفسية منظّمة وشخصيّته مستقلّة غير تابعة. إن التلفاز يوسّع دائرة اطّلاع الطفل، وهذه السعة هي الخطوة الأولى في تطوّر عالمه الروحي. أما عبء الخطوة الثانية فيقع علينا وعلى القراءة، وهو عبء لا يلغيه التلفاز لأنه يعني انصرافنا وانصراف القراء إلى الوقلئع التي اطلع عليها الطفل، ومساعدته على تعرُّف العالم المحيط به، وتعويده التفكير والشعور المستقلّ، وتطوير قدرته على التصوّر والتخيُّل، وبذلك وحده تصبح معارفه واسعة بالمعنى التربوي لا الحياتي وحده.

 

3-المشكلات النابعة من الكتاب والمكتبة:

تعني القراءة، من قبل ومن بعد، توافر الكتاب الصالح للطفل. ومشكلات كتاب الطفل العربي كثيرة جداً، أقربها إلينا قلّة عدد النسخ التي تُطْبَع من الكتاب الواحد، وصعوبة اختراق الكتاب الحدود بين الدول العربية، وغلبة الكتب المترجمة على المؤلّفة. ولكن هذه المشكلات تبدو هيّنة إذا قيست بالمشكلات غير المنظورة، وأبرزها عدم توافر المؤثرات الخارجية والداخلية في كتاب الطفل(5). فالخارجية تعني حجم الكتاب الملائم لكل مرحلة عمريّة، وبنط الحروف المطبوعة، وضبطها بالشكل أو إهمال الضبط، ونوع الورق، وقضية اللوحات، وما إلى ذلك كتدوين المرحلة العمريّة التي يصلح لها الكتاب على الغلاف الأخير. والواضح أننا حائرون في مواجهة هذه المؤثّرات الخارجية، ولا بدّ من التخلّص من هذه الحيرة باعتماد الحجم الكبير للأطفال بين السادسة والتاسعة، والحجم المتوسّط للأطفال بين العاشرة والثانية عشرة. واعتماد الضبط اللغوي الكامل في الكتب المقدّمة للفئة الأولى، والضبط المتدّرج في الكتب للفئة الثانية، لنتيح للطفل القراءة السليمة في الأولى، واستعمال معارفه النحويّة في الثانية. ولا بدّ من أن تكون اللوحات المرفقة بالكتاب فنّية تنمّي تذوّق الطفل الجمالي، وتعينه في الوقت نفسه على توضيح المعاني التي تطرحها الرموز اللغوية.

 

أما المؤثّرات الداخلية فهي المفهومات التي تساعد على تطوّر العالم الروحي للطفل، وتنمي قدرته على التفكير والشعور، وغير ذلك مما أشرتُ إليه في أثناء حديثي عن المدارس الخلفية. والواضح أن كتب الأطفال العربية عُنيتْ عناية كبيرة بمفهوم الأنسنة الذي يعني إضفاء صفة الحياة على الحيوان والجماد. وقد استند هذا المفهوم إلى ضعف ارتباط الطفل بالواقع. ولكن الكُتَّاب بالغوا في الاعتماد على هذا المفهوم في تطوير العالم الروحي للطفل، فانحرفوا أحياناً إلى الترميز، ولم يدركوا في أحايين كثيرة أن الأسنة تصلح للأطفال بين السادسة والتاسعة. أما الأطفال بين العاشرة والثانية عشرة فيبدؤون يرتبطون بالواقع ويفضّلونه على الأنسنة، ويطلبون أن تدور الكتب حوله، وتمتح منه. ولهذا السبب عُدَّ المفهوم الإنساني صالحاً لهم، وهو مفهوم يساعدهم على تصوير الأشكال التي تظهر فيها الحياة كالخير والشر والصدق والكذب، مما يربّي لديهم القدرة على التكُّيف والتمييز بين الحق والباطل، ويمدهم بغذاء روحي فكري يساعدهم على تنمية شخصيّاتهم.

 

ولا شك في أن العاملين في حقل أدب الأطفال يدركون أن ضعف الاهتمام بالمؤثرات الخارجية والداخلية ينبع أساساً من أن الكُتّاب لم يتعمّقوا البحث في علم نفس الطفل، ولم يعايشوا الأطفال العرب ليتعرّفوا حاجاتهم وميولهم واتجاهات الرأي عندهم. ولعلهم ظنوا أن مواهبهم الأدبية تكفيهم للكتابة للطفل، فاقتصروا عليها وخسروا أحياناً المؤثّرات التي تشدّ الطفل إلى الكتاب وتغريه بقراءته. ولا يداني هذا الظنّ غير اعتقاد المسؤولين عن مكتبات الأطفال بأن المكتبة مكان لتنظيم الكتب وجمعها فحسب. ولهذا السبب اكتفوا بشراء ما يستطيعون من كتب الأطفال، وحشروا ما اشتروا في خزائن للكتب وضعوها في قاعة خصصوها للأطفال. وفاتهم أن مهمّتهم الرئيسة هي تنظيم القراءة، ووضع الكتاب الملائم في اليد الملائمة، والعمل على ترسيخ العلاقة بين الطفل والكتاب، وإعداد المشرفين المؤهّلين لمساعدة الطفل على البحث عن الكتاب وتشجيعه على أساليب التعلُّم غير المباشر منه.

 

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن مكتبة الطفل العربي تعاني من مشكلة خطيرة، هي غلبة الكتب الأدبية على الكتب ذات الصبغة العلمية. فالكثرة الكاثرة من كتب الأطفال قصص وحكايات ومسرحيّات. أما الكتب العلمية التي توضِّح للطفل ما وراء ظواهر الطبيعة فنادرة. كما أن الموسوعات العلمية أكثر ندرة لدينا. ويدخل حقل الندرة كلُّ كتاب يجعل الطفل العربي يعي حقوقه وموقعه في المجتمع، ويُفسِّر له ما يجري في عالم الكبار، ويضفي عليه شيئاً من البهجة والمرح تخفيفاً من الاتجاه الأحادي الخاص بمعالجة الموضوعات معالجة جادة، وكأننا ننظر إلى الطفل على أنه راشد مصغَّر أو نُعدّه لحياة الرجال بدلاً من بهجة طفولته. وذلك كله يشير إلى أن مكتبة الطفل العربي تفتقر إلى التنوّع الضروري لتلبية ميول الأطفال وحاجاتهم، ومراعاة الفروق الفردية بينهم، وخصوصاً التباين بين ذكورهم وإناثهم في طبيعة الموادّ المطلوبة للقراءة.

 

إن المشكلات السابقة كلها تُعبِّر بشكل غير مباشر عن وعينا بأهمّية القراءة للطفل، وبالثغرات التي تحول دون تلبيتها على الوجه السليم. ولكن ذلك لا يعني أننا لا نملك شيئاً إيجابياً في حقل قراءات الأطفال، بل يعني رغبتنا في التخلُّص من المشكلات التي تُبعد طفلنا عن أن يكون قارئاً حصيفاً مستعداً لاستقبال القرن الحادي والعشرين والعيش فيه، وهذا ما يدعونا إلى فحص أدب الأطفال المترجم لمعرفة أثره في الطفل العربي.

 

ثانيا: مشكلة الأدب المترجم:

هناك رأي سائد في الساحة الثقافية العربية، مفاده أن الترجمة هي المؤثّر الأساسي في نشوء أدب الأطفال عند العرب. وكنتُ صوَّبتُ هذا الرأي(6)، وانتهيتُ إلى أن أدب الأطفال بدأ بالتأليف وليس الترجمة(7)، ونهض بعبئه مربُّون عرب لمسوا حاجة الطفل- داخل المدرسة غالباً- إلى الأدب، وارتباطه به، وتأثيره التربوي والجمالي فيه. وقد آثرتُ التذكير بهذا الأمر هنا لئلا يعتقد أحد بأن أدب الأطفال وفد إلينا من الغرب بوساطة الترجمة كما وفدت الآلة والعلوم التطبيقية. ذلك لأن الترجمة لم تكن غير عامل من عوامل ظهور أدب الأطفال، نهض بها روّاد كعثمان جلال وأحمد شوقي وكامل الكيلاني، دون أن يخضع هذا العامل للتمحيص بغية التمييز بين الترجمة والمثاقفة. فلافونتين الذي استفاضت شهرته لدينا بعد ترجمة أحمد شوقي وعثمان جلال(8) حكاياته شعراً، قرأ (كليلة ودمنة) بعد ترجمتها من الفارسية إلى الفرنسية وقبل تأليفه حكاياته. بل إنه كتب حكاياته للكبار أساساً، فنقلها شوقي وجلال للأطفال دون أن يعيرا خطرها ومجافاتها الروح العربية أي اهتمام. ولم يكن كامل الكيلاني أفضل حالاً(9)، فقد ترجم ونقل واقتبس نثراً كثيراً من الحكايات المستمدّة أساساً من (ألف ليلة وليلة) كالسندباد البحري (1927)، على الرغم من أن شعره للأطفال(10) أكثر دقة في التعبير عن ريادته من القصص التي ترجمها ونقلها واقتبسها وبسَّطها وألبسها لبوساً عربياً ناصعاً.

 

وليس المراد من ذلك أن الترجمة لم تؤثّر في أدب الأطفال العرب، بل المراد أن موقع الترجمة في نشأة هذا الأدب تابع لموقع المثاقفة التي تلي التأليف. وما الترجمة إلا وسيلة من وسائل المثاقفة، فرضتها الحاجة إلى أدب الأطفال بعد انتشار التعليم وبروز الطفل في الساحة الثقافية والاجتماعية العربية. وإذا كانت بدايات أدب الأطفال المترجم ترجع في حدّها الأعلى إلى أوائل القرن العشرين، فإن ازدهارها لم يبدأ قبل الستينيات ولم يجاوز الثمانينات. بل إن العقدين الأخيرين شهدا انحساراً واضحاً في حركة ترجمة أدب الأطفال نتيجة نموّ التأليف، وظهور أدباء عرب يكتبون للطفل ويقدّمون نصوصاً فنيّة تلبّي حاجة الأطفال وتجعلهم أكثر ارتباطاً بواقعهم.

 

ويهمّني القول إن طبيعة أدب الأطفال المترجم لم تُدْرَس، ولم تُمحَّص آثارها الإيجابية والسلبية، اكتفاءً بالحديث الوصفي عن تاريخها. والظن بأن حديثي هنا يحاول تحقيق هذا الهدف، وإنْ كنتُ ميّالاً إلى الاهتمام بعلاقة هذا الأدب المترجم بالاختراق الثقافي.

 

1-طبيعة أدب الأطفال المترجم:

يُخيَّل إليَّ أن طبيعة أدب الأطفال المترجم تتجلّى في ثلاثة أمور، هي:

أ-تُرجم أدب الأطفال غالباً عن إحدى اللغتين الانكليزية والفرنسية، لأن هاتين اللغتين كانتا لغتي المستعمر الأجنبي الذي احتلّ الوطن العربي، وفرض لغته، وحصر البعوث التعليمية في بلاده. ولم تتغيَّر الحال بعد استقلال الدول العربية، إذ بقيت السيادة في الترجمة لهاتين اللغتين، لأن مترجمي أدب الأطفال تلقّوا تعليمهم بهما، ولم يكن العدد القليل من المترجمين الذين أتقنوا لغات أخرى قادراً على تعديل السيادة أو التخفيف منها. وربما كان أدب الأطفال المترجم عن الروسية في بعض الدول العربية، كسورية مثلاً، مؤهّلاً لاحتلال المرتبة الثالثة بعد الانكليزية والفرنسية، تبعاً لانصراف العائدين من البعوث العلمية إلى الاتحاد السوفييتي (سابقاً) إلى الترجمة عن الروسية، إضافة إلى أن داري التقدّم ورادوغا كانتا تترجمان أدب الأطفال إلى اللغة العربية، وتُصدِّرانه إلى الوطن العربي مترجماً بأثمان بخسة.

 

ولا شك في أن سيادة الترجمة عن الانكليزية والفرنسية قادت إلى أن يتعرّف الطفل العربي نصوص أدب للأطفال نابعة من بيئة مغايرة لبيئته، معبِّرة عن أيديولوجيا هذه البيئة وفهمها الطفل، وما يرتبط بذلك من قيم وموضوعات. كما قادت فوضى الترجمة، وفقدان التخطيط العلمي لها، واعتمادها على الرغبات الفردية للمترجمين، إلى خلل واضح في تلقّي الطفل العربي الأدب المترجم عن الانكليزية والفرنسية. إذ تداخلت النصوص التي تنتمي إلى تاريخ أدب الأطفال بالنصوص التي صدرت بعد الثلاثينيات وهو العقد الذي أعلن بداية الفهم الحقيقي العلمي للطفل، وبداية الكتابة له وليس عنه. وهكذا قرأ الطفل العربي نصوص الكتاب الفرنسي شارل بيرو (1628-1703) من القرن السابع عشر قبل أن يقرأ نصوص الكاتب الإغريقي إيسوب الذي عاش في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. كما قرأ الطفل العربي نصوص الكاتبة الانكليزية اينيد بلايتون (1900-1968) التي عاشت في القرن العشرين قبل أن يقرأ نصوص الكاتب الدانماركي هانز أندرسون (1805-1857) الذي عاش في القرن التاسع عشر، أو نصوص الكاتبة الفرنسية صوفي دي سيغور (1799-1884) التي عاشت في القرن الثامن عشر.

 

ومن المفيد القول إن هناك نصوصاً للأطفال تُرجمتْ عن الانكليزية أو الفرنسية لكُتَّاب من الهند والصين وألمانيا وإسبانيا وغيرها من الدول الأجنبية. وكان لذلك أثر سلبي آخر، هو أن النصوص تُرجمتْ أوّل الأمر من لغتها الأصلية إلى الانكليزية أو الفرنسية، ثم تُرجمتْ ثانية من الانكليزية أو الفرنسية إلى اللغة العربية. وفقدت، تبعاً لذلك، كثيراً من روائها وجمالها ودقّتها، وخصوصاً النصوص الشعرية التي حملت إيحاءات اللغة التي كُتبتْ بها، ثم فقدتها مرّة أخرى نتيجة انتقالها عبر اللغة الوسيطة إلى الطفل العربي.

 

ب-تأثّرَ الطفل العربي بموضوعات الأدب المترجم وقيمه. ولا شك في أن هذا التأثُّر ذو وجهين: وجه إيجابي تجلّى في اطّلاع الطفل العربي على عادات الأمم الأخرى وتقاليدها، وعلاقة أطفالها بمجتمعهم وأسرهم وأوطانهم. وهذا ما عزَّز لدى الطفل العربي مجموعة من القيم المعرفية والاجتماعية والوطنية والإنسانية، إضافة إلى المتع الفنيّة النابعة من الحكايات الشائقة والشخصيات المحّببة التي تستجيب لتطلّعات الطفل وحاجاته. أما الوجه السلبي فقد تجلّى في التركيز على العوالم العجيبة والغريبة، والشخصيات المستمدّة من الأساطير والحكايات الشعبية، وخصوصاً الجان والسحرة والكائنات الغريبة، وما يرتبط بذلك من خوارق كالطيران والسحر ومسخ الإنسان حيواناً وانقلاب الأحجار ناراً(11). وليس هذا الوجه خاصاً بالقصص التي ترجع إلى ما قبل ثلاثينيات القرن العشرين، بل هو عام، لاحظتّه في قصص (الأرنب والتمساح) لا ينيد بلايتون(12) حين منحت الأرنب القدرة على المكر والخديعة للإيقاع بحيوانات الغابة.

 

ويختلط أحياناً الوجهان الإيجابي والسلبي، فترى في قصة (أليس في بلاد العجائب) للكاتب الإنكليزي لويس كارول(1832 - 1896) شخصية محببة ومغامرات شائقة وتعاطفاً إنسانياً وعلاقات اجتماعية راقية. وترى في الوقت نفسه الخوارق والأشباح وعوالم باطن الأرض وتحوُّل الطفل إلى خنزير والبائعة إلى عنزة، وقيم القلق والخوف والاضطراب والخجل والتردّد. وقد تخلّصت القصص المترجمة عن البلغارية والروسية من مأزق الوجهين السلبي والإيجابي، فقدّمت قصصاً تُعْنَى بالوظيفة التربوية دون أن تتخلّى عن الحكايات والمغامرات والشخصيات المحبّبة، والأنسنة، وتزويد الطفل بقيم الحب والوطنية والمعرفة العلمية والتعاون، كما هي حال قصص (الأرنب قصير الأذن) لكيريل أبوستولوف(13)، و(الخاتم المعدني) لباوستوفسكي(14)، و(الضفدعة السائحة) لغارشين)(15)، و(دنيا الحكايات) لمجموعة من المؤلّفين(16) وغيرها.

ويهمّني القول إن الاختراق الثقافي للوظيفة التربوية التي يعمل الأدباء العرب على تجسيدها، ويعدّونها هدفهم الأساسي، بدأ بالأدب المترجم المعبّر عن أيديولوجية مغايرة للأيديولوجية العربية. وتوقيت البداية مبكّر نسبياً، ولكن تأثيره السلبي ضعف تدريجياً، نتيجة اهتمام الأدباء العرب بالكتابة للأطفال، وزيادة عدد القصص والقصائد والمسرحيات التي تراعي البيئة العربية وتربّي الطفل من خلال الأدب على التكيّف معها والارتقاء بها.

 

ج- تباينت لغة الترجمة بين ما تُرجم في النصف الأول من القرن العشرين، وما تُرجم في النصف الثاني منه. ففي الترجمات الأولى كان هناك حرص واضح على نقاء اللغة العربية ودقّتها وسننها وصورها وحوارها. بل إن الروّاد الأوائل اتّهموا بالمغالاة في التقيُّد باللغة العربية، فترجموا نصوص أدب الأطفال الشعرية والنثرية بلغة راقية يعجز الطفل العربي عن التواصل السليم معها أحياناً. أما الترجمات التي بدأت تترى في النصف الثاني من القرن العشرين، وخصوصاً السبعينات، فقد ضمر حرصها على اللغة العربية، وبات تقيُّدها بها فردياً تابعاً لقدرة المترجم وثروته اللغوية. ولم يكن غريباً أن يتصدّى للترجمة في أخريات السبعينيات وبدايات الثمانينات مترجمون ليس لهم نصيب وافر من العربية، كما هي حال الترجمة التي قدَّمتها رباب هاشم لمجموعة (الأرنب المخملي). وعموماً، فقد شرعت لغة الترجمة تقترب من لغة الطفل العربي، لأنها استبدلت بالسلامة والنقاء والدقّة والرغبة في تنمية معارف الطفل اللغوية معايير السلامة اللغوية والرغبة في إيصال المعاني بدقّة. بيد أن الشكوى من الضعف اللغوي لبعض المترجمين لم تنقطع من الساحة الثقافية العربية، تبعاً للحرص العربي على أن يتقن المترجم اللغة المترجم منها واللغة المترجَم إليها.

 

2-الاختراق الثقافي:

لا أشك في أن مصطلح (الاختراق الثقافي) يدل على مفهومين متناقضين، إيجابي وسلبي، ذلك أن أدب الأطفال المترجم يسهم في اتّساع أفق الطفل العربي ومعارفه، حين يُطلْعه على عادات الشعوب وأحوالها وتاريخها ونضالها ومفاهيمها للحياة والكون، وما إلى ذلك من أمور إيجابية. ولكنه في الوقت نفسه يُهدِّد قيم الطفل العربي وعاداته وتقاليده وارتباطه بأسرته ومجتمعه ووطنه وأمته حين يطرح قيماً مناقضة لها، نابعة من أيديولوجيّته وبيئته وتاريخه. والواضح بالنسبة إليَّ أن الدلالة الإيجابية لمفهوم (الاختراق الثقافي) انتقلت إلى مصطلح آخر هو (المثاقفة)، وبقيت الدلالة السلبية لصيقة بمصطلح (الاختراق الثقافي). ومن ثمّ أصبح الاختراق الثقافي دالاً على مفهوم العمل الثقافي الذي يُراد منه خلخلة ثقافة معيّنة، وجعْلُ معتنقيها يشعرون بضعف الثقة بثقافتهم، وبالحاجة إلى تبديلها باعتناقهم ثقافة القويّ الغازي، والتماهي بقيمها وعاداتها وتقاليدها، دون أيّ تمييز بين الحضارة والمدنيّة.

 

وإذا كان الأدب ذا طبيعة إيجابية دائماً، فلماذا نخاف على أطفالنا من الاختراق الثقافي بوساطة الأدب المترجم؟ أعتقد بأن كل أمّة تُنتج أدباً لأطفالها ملائماً لها، معبِّراً عن نظرتها إلى الطفل في حاضره ومستقبله، عاملاً على إمتاعه ومساعدته على التكُّيف مع مجتمعه وإعداده للمستقبل. ولا يتوقّع أحد أن يكون هذا الأدب سلبياً من وجهة نظر أصحابه ومنتجيه، ولكنه يتوقّع أن تتباين الأمم في ثقافاتها، وأن تسعى الأمم القوية إلى فرض ثقافاتها على الأمم الضعيفة لتمحو هويّتها وتجعلها تابعة لها. وهذا ما نشهده اليوم في عصر المعلومات والتقنيات والأقمار الصناعية. وهو عصر يجعل الأدب المترجم وسيلة لتغريب الطفل العربي عن واقعه ومجتمعه وأمته، لأن هذا التغريب هو الهدف الأساسي للاختراق الثقافي ببعديه السياسي والاجتماعي، وهذا إيجاز لهذين البعدين.

 

أ-البعد السياسي للاختراق الثقافي:

يُقدّم الأدب المترجم موضوعات وقيماً تُعبّر عن أيديولوجيّة منتحية. فالأرنب شخصية عالمية محبّبة للطفل، ولكن اينيد بلايتون في مجموعتها (الأرنب والتمساح) جعلت الأرنب يتفوّق على التمساح، ويخدعه في مكمنه فيأكل بيوضه وينجو بنفسه، دون أيّ عقاب(17). ولا يختلف ذلك عمّا فعله الأرنبُ بالثعلب في قصة (الثعلب والخوخات البيض)(18). أي أنه يستخدم دائماً المكر والخديعة في التفوّق على الحيوانات الكبيرة في الغابة. أما الأرنب في مجموعة (الأرنب قصير الأذن) للكاتب البلغاري كيريل أبو ستولوف فهو أرنب مسالم صديق للحيوان، يحاول أن يتعلّم ويفهم كما هي حاله في قصة (حديث مع النجمات)(19).

 

ماذا يعني ذلك على المستوى الأيديولوجي؟. إنه يعني اختلاف أيديولوجيّتين، ويتجسّد التعبير عن هذا الاختلاف في فكرة (الصغير). فالأيديولوجيا الأولى الرأسمالية تعتنق فكرة تغلُّب الصغير على الكبير بالمكر والخديعة. وهذا واضح من أن الأرنب صغير في حجمه، ولكنه يتفوّق بالمكر على التمساح والثعلب وهما كبيران، كما هي الحال تماماً في أفلام الرسوم المتحركة المصنوعة في الولايات المتحدة، كتوم وجيري وميكي ماوس وما إلى ذلك. أما فكرة (الصغير) في الأيديولوجيا الثانية (البلغارية- الاشتراكية) فهي المرحلة العمرية التي يعيش فيها الصغير، ويحاول في أثنائها تعرُّف العالم المحيط به، ويسعى إلى التجربة التي تقوده إلى معرفة الحياة. وهذا يعني أنه صغير لا يناهض الكبير ولا يعاديه، بل يصادقه ليتعلّم منه. ولهذا السبب تكثر في هذه الأيديولوجيا صور الأرنب العجوز، وهي صور معبِّرة عن فكرة (العجوز) الحامل للمعرفة، الراغب دائماً في نقلها إلى (الصغار).

 

وإذا كانت الأيديولوجيا الأولى (الرأسمالية) تُعبِّر ضمن خطابها عن شخصيات مماثلة للأرنب، كالفأر ميكي وبوباي، فإن تعبيراتهما الأخرى لا تختلف عن ذلك، سواء أكنا نتحدّث عن أشرطة حرب الكواكب أم السوبرمان أم غريندايزر. ذلك أن الهويّة التي تطرحها من خلال الأدب المترجم هوّية معبِّرة عن أيديولوجيّتها. تلك أيضاً حال الأيديولوجيا الثانية (الاشتراكية)، فهي تُعبِّر ضمن خطابها عن شخصيات مماثلة للأرنب، كالكلب والقنفذ، ولا تختلف تعبيراتها الأخرى عن الدعوة إلى السلام والتعاون وحب الناس والطبيعة، وما إلى ذلك مما هو معبِّر أيضاً عن هويّتها النابعة من أيديولوجيّتها.

 

وإذا كانت الأمم تُعبِّر عن هويّتها من خلال أدبها، فإن سيادة أدب ما في موطن أدب آخر ستعني واحداً من أمرين، الأول: محاولة سلب الهوية الحضارية العربية الإسلامية إذا كانت قيم الهوية في الأدب المترجم مناهضة قيم الهوية العربية الإسلامية. والثاني: تعزيز الهوية الحضارية العربية الإسلامية إذا كانت قيم الهوية في الأدب المترجم منسجمة وقيم الهوية العربية الإسلامية. ويُخيَّل إليَّ أن البعد السياسي للاختراق الثقافي كامن في سيادة الأدب المترجم المستمد من الأيديولوجيا الرأسمالية، لأن سيادة هذا الأدب تُعين على إغراء الطفل العربي بالعالم الغربي، وتجعله شيئاً فشيئاً يغترب عن هويّته ويسعى في مستقبله، مراهقاً وراشداً، إلى اللحاق بالهوية التي رسخت فيه من خلال الأدب المترجم الذي قرأه.

 

ب-البعد الاجتماعي للاختراق الثقافي:

تخلق موضوعات الأدب المترجم المستمد من الأيديولوجيا الرأسمالية عالماً وهمياً، تضع الطفل العربي فيه، وتدفعه إلى التغريب من خلاله. قد يكون العالم في هذا الأدب عالم الغابات والبحيرات والكهوف وناطحات السحاب والكواكب والجزر المأهولة والنائية والأساطير.. ولكن هذا العالم وهميّ بالنسبة إلى الطفل العربي، لأنه لا يعثر عليه في واقعه، فينقم على هذا الواقع ويحاربه(20). وضمن هذا العالم يرى أبطالاً وهميين بدلاً من أبطال الواقع العربي، كما يرى أوهاماً علمية بدلاً من العلم. وتكرار هذا العالم الوهمي في الأدب المترجم يجعل الطفل العربي يغترب عن مجتمعه وثقافته، ويرنو إلى ثقافة وهويّة أخرى، مما يسلبه هويّته الحضارية ويلحقه بأخرى لا أمل له في الوصول إليها خارج الخيال. وإذا كان مجتمع الطفل العربي لا يُقدِّم له ما يساعده على بلوغ الهوية المرجوّة، فإن الطفل العربي يستعدّ للاغتراب عن مجتمعه عندما يصبح مراهقاً، ويغدو -وهو راشد- بعيداً عن هذا المجتمع، قريباً من الجنوح.

 

3-مواجهة الاختراق الثقافي:

لا شيء في عصر العلم والتقنيات الحديثة وثورة المعلومات وسيادة الأقمار الصناعية يستطيع تحصين الطفل العربي من الغزو الثقافي إذا بقيت الأمة العربية في موقع المنفعل، ولم تبادر إلى مواجهة هذا الغزو بعقلانية وعمل علمي دؤوب. وإذا قصرتُ الحديث على مواجهة الاختراق الثقافي من خلال الأدب لاحظتُ أن المواجهة تفرض الأمور الآتية:

 

أ-الانفتاح على أدب أطفال الأمم المجاورة لنا، وخصوصاً الإفريقية والآسيوية، بترجمة نصوص أدب أطفالها من لغاتها إلى اللغة العربية دون اللجوء إلى اللغة الوسيطة. وهذا الانفتاح كفيل بتعزيز قيم الطفل العربي، لأن أدب الأطفال عند هذه الأمم يجاهد جهادنا نفسه للتحرُّر من السيطرة الثقافية، ويُعبِّر بوساطة أدبه الموجَّه للطفل عن واقع لا يختلف كثيراً عن واقعنا العربي. لا بأس في أن يمتدّ هذا الانفتاح إلى الأمم المتقدّمة التي لا ترغب في السيطرة الثقافية، كاليابان والصين مثلاً. فأدب الطفل في اليابان -على سبيل التمثيل لا الحصر- يغرس قيم التضحية والعمل الجماعي والتفاني في سبيل الأسرة، وهي القيم التي نعمل على أن نغرسها في الطفل العربي.

ب-التجويد الفنيّ للأدب الموجَّه للطفل. إذ إن السمة الواضحة لأدب الأطفال في الولايات المتحدة وانكلترة وفرنسة هي الحرص على تقديم نصوص فنيّة شائقة، تشدّ الطفل إليها بما تطرحه من حوادث وشخصيات. وهذا أمر نرنو إليه بعيداً عن القيم التي يُعبِّر الأدب نفسه عنها. فالحكاية الماتعة هدف يتقدّم على الوظيفة التربوية ولا يتخلّى عنها. ولا بدّ من العناية بالصوغ الفنّي للأدب إذا أردنا تحقيق الهدفين الجمالي والتربوي.

 

ت- لا بدّ لنا- كما سبق القول في أثناء الحديث عن الأدب الموحّد-من إنجاز منظومة القيم العربية الإسلامية إذا أردنا لأدب الطفل أن يُعبّر عن قيم متكاملة، تخلق شخصية قادرة على التكيُّف مع مجتمعها ووطنها وأمتها وتاريخها، والتحلّي بهويتها الحضارية وبالقدرة على مواجهة الاختراق الثقافي مهما تكن مؤثراته قويّة.

 

ث-لا بدَّ من السعي إلى بناء صناعة ثقافية راقية، يندرج الأدب المترجم فيها، بحيث يحبّ الطفل ما ترجمناه من أدب، ويُقبْل على قراءته، لأنه مناسب له مقاساً ولوحات ولغةً ومضموناً. وهذه الصناعة الثقافية تكفل مراقبة الموضوعات والقيم، وتتشبَّث باللغة العربية المستمدة من معجم الطفل، وتعرقل السهولة في ترجمة الأدب ونشره.

 

وليست قضية مواجهة الاختراق الثقافي مقصورة على الاقتراحات السابقة، لأنها قضية الحاضر والمستقبل. ومن ثمّ نحتاج إلى إنعام نظر فيها من الهيئات والمؤسسات والوزارات، إضافة إلى الأفراد الأدباء والباحثين في علم النفس والاجتماع. وقبل ذلك كله يحسن النظر إلى هذه المواجهة نظرة كليّة، لا تختلف بين الكتاب والتلفاز والإذاعة والمسرح. كما أن الجهود المبذولة من أجلها يجب أن تتكامل بين الأدب والتربية ووسائل الإعلام، ولهذا السبب سأفحص في الفقرة القابلة علاقة الإعلام بلغة الطفل، تبعاً للارتباط الوثيق بين الهوية العربية الإسلامية وإتقان اللغة العربية الفصيحة.

 

ثالثاً: مشكلة إعلام الطفل واللغة:

لا يشك أحد في أن وسائل الإعلام تؤثّر في الطفل، فتوسّع مداركه، وتزوّده بالمعارف والخبرات، وتغرس فيه القيم، وتلّبي حاجاته الفكرية والنفسيّة والجماليّة، وتبعث الحياة في مخيّلته، وتجعله قادراً على التكيُّف مع محيطه. ولا يتحقّق هذا كله إذا لم تتوافر ثلاثة أمور:

الأمر الأوّل: التخطيط العلمي الواعي لأهداف التثقيف والتنشئة الاجتماعية.

والأمر الثاني: اللغة الملائمة للايصال، النابعة من معجم الطفل اللغوي.

والأمر الثالث: المعرفة العلمية بطرائق الطفل في اكتساب اللغة العربية.

وليس هناك تباين بين هذه الأمور الثلاثة، بل هناك تكامل بينها من جهة، وبين إعلام الطفولة والتربية من جهة أخرى. وكل خلل في هذا التكامل يؤثّر تأثيراً سلبياً في شخصية الطفل ولغته، فيورّثه صراعات عصابية، ويجعله يتلكّأ في إتقان لغة أمّته، أو يعجوز عن الإحاطة بمهارتها الأساسية.

 

ومن المفيد، قبل الحديث عن علاقة إعلام الطفولة باللغة، القول إن المراد بإعلام الطفولة هنا هو الإعلام المرئي والمسموع والمقروء الموجّه خصيّصاً للطفل العربي، سواء أكان تلفازاً أم إذاعة أم مجلّة أم صحيفة، وسواء أكان محتواه دراميّاً أم قصصياً أم معرفياً أم ترفيهياً أم دعاوة وإعلاناً. والقيد العامّ للحديث عن إعلام الطفولة هنا هو استعمال اللغة منطوقة أو مكتوبةً أو مسموعةً، لأن الهدف الأساسي لهذا الحديث هو تحديد العلاقة بين الإعلام ولغة الطفل.

 

أوّلاً: اللغة في الخطاب الإعلامي:

اهتمّ المسؤولون عن إعلام الطفولة العربية بمحتوى خطابهم الإعلامي أكثر من اهتمامهم بلغته. وهذا واضح من تصريحاتهم ومعايير اختيارهم للموادّ المقدّمة للطفل. فهم يُفضّلون المادّة التي تُرسّخ قيمة إيجابية أو معرفة علمية أو تخصّ على سلوك اجتماعي مرغوب فيه. أما اللغة، وهي شكل خطابهم، فاهتمامهم بها عامّ جداً وغير علمي، لأنه مقصور على إيثارهم اللغة العربية الفصيحة ونفورهم من العاميّة. بل إنني ميّال إلى أن إيثار الفضيحة والنفور من العاميّة علامة على الموقف الراهن من اللغة في الخطاب الإعلامي العربي الموجّه للطفل. وهذا الإيثار موروث من المرحلة السابقة، مرحلة نشأة الإعلام الموجّه للطفل العربي. ففي مرحلة النشأة كانت السمة البارزة هي التدقيق في محتوى الخطاب، والاقتصار في شكله على الصراع بين الفصيحة والعاميّة. وقد رسّخت هذه المرحلة معايير ذات شأن، بعضها عام وبعضها الآخر خاصّ. فالعامّ الذي يشمل إعلام الطفل العربي كله هو التشبُّث بالقيم الإيجابية وطرائق غرسها في الأطفال، وتنويع المحتوى العلمي والأدبي، وربط النصوص بالبيئة. أما المعايير الخاصة فقد اختلفت بين التلفاز والإذاعة والمجلّة. ففي التلفاز كان هناك حرصٌ على المسلسلات المؤلفة خصيّصاً للطفل العربي، وتخلُّصٌ من الترجمة المكتوبة المرافقة للمسلسلات الأجنبية. وفي المجلات كان هناك اهتمام بالإخراج والطباعة والألوان وتنويع الموادّ المقروءة. وانصرفت عناية الإذاعة إلى المؤثّرات الصوتية.

 

والأمل ألا يفهم أحد أن الآثار السلبية للمرحلة السابقة قد تلاشت نهائياً، وأن محتوى إعلام الطفولة في الوقت الراهن ارتقى إلى مستوى الأماني، وارتفع فوق النقد. ففي هذا الإعلام من السلبيات ما يدفع الباحث إلى اليقظة لئلا يضيع الطفل في غابة الرسائل التلفازية الغزيرة، فيتخلّى عن قراءة الكتاب والمجلّة، ويتدنّى تحصيله المدرسي. ويهمّني القول إن مرحلة النشأة ترجَّحت أوّل الأمر بين الشكل الفصيح للخطاب الإعلامي والشكل العاميّ، ثم حسمت هذا الترجُّح باعتماد اللغة العربية الفصيحة. بل إن البرامج والمجلات الوافدة إلينا عُرّبتْ بالفصيحة نفسها، وأُرسلتْ إلينا ناطقة بها. وقد ورثنا اللغة الفصيحة في شكل الخطاب الإعلامي، وأصبحت عواطفنا اللغوية مطمئنّة إلى أن لغة الخطاب الإعلامي موحَّدة موحِّدة للأطفال العرب.

 

بيد أن الاطمئنان العاطفي شيء، والاطمئنان العلمي شيء آخر. ذلك أن قضية لغة الخطاب الإعلامي الموجّه للطفل العربي تكمن في (الإيصال)، إيصال محتوى الخطاب بوساطة اللغة. وقد حوّلت قضية الإيصال السؤال المنهجي من الاطمئنان للغة الفصيحة إلى البحث عما إذا كان المحتوى الإعلامي يصل إلى الطفل العربي بوساطة هذه اللغة. والواضح بالنسبة إليّ أن التلفاز - وهو أكثر وسائل الإعلام أهميّة وخطورة- أعلن هذا التحوّل إلى اللغة القادرة على الوصول إلى الطفل العربي. وكان برنامج (افتح يا سمسم) الذي أنتجته مؤسسة الخليج للانتاج البرامجي تحدّياً كبيراً في هذا الحقل، لأن الدراسات اللغوية التي مهدّت لهذا البرنامج برهنت على أن قضية اللغة في الخطاب الإعلامي غير مقصورة على اللغة الفصيحة، بل هي القدر الملائم للطفل العربي من هذه اللغة، بحيث يصحّ القول إن هناك لغة خاصة بالطفل، وأخرى خاصة بالراشدين، ضمن اللغة الفصيحة نفسها. فإذا رغب الخطاب الإعلامي في الوصول إلى الطفل فإنه مطالب باصطناع لغة عربية فصيحة مستمدّة من معجم الطفل نفسه. وهذا يعني أن العلاقة بين إعلام الطفولة واللغة ليست علاقة بسيطة أو تابعة للعواطف اللغوية القومية، بل هي عمل علمي واع، رائدة اصطناع شكل لغوي فصيح لإيصال المحتوى الإعلامي، يفهمه الطفل ويتفاعل معه، ويتمكّن من التأثير فيه.

 

ثانياً- الطفل العربي واللغة:

العلاقة بين الطفل واللغة هي التي تُحدّد العلاقة بين شكل الخطاب الإعلامي ومحتواه، لأن وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية قادرة على تكييف خطابها إذا كانت تعرف لغة الطفل المخاطب معرفة علمية. وهذه المعرفة- في رأيي- معرفتان: معرفة بطريقة الطفل العربي في اكتساب اللغة الفصيحة، ومعرفة بمعجمه اللغوي. وساُقدّم بعض التفصيلات والآراء حول هاتين المعرفتين لأهميّتهما وخطورتهما، محذّراً بادئ الأمر من أن الدراسات اللغوية العربية الخاصة بالطفل ما زالت ضعيفة تابعة للجهود الفردية.

 

أ-اكتساب الطفل العربي اللغة:

يبدأ الطفل العربي، كغيره من أطفال الأمم الأخرى، يكتسب اللغة من ولادته، حتى إن اللغويين يعدّون فترة المناغاة دليلاً على الاستعداد لتلّقي اللغة(21). والذي تهمّني الإشارة إليه هو أن الطفل يملك كفاءة لغوية، أو قدرة فطرية على اكتساب اللغة المستعملة في محيطه. وهذه القدرة اللغوية الفطرية تُمكّنه من (تكوين الفرضيّات واستعمال قواعد خاصة به، يُعدّلها باستمرار إلى أن تُشْبه القواعد التي تحكم لغة الكبار)(22) وكأنه (يعلم بشكل آلي أن اللغة محكومة بقواعد معيّنة عليه اكتشافها)(23). وتُعْزى نظرية القدرة اللغوية الفطرية إلى العالم الأمريكي اليهودي نوام تشومسكي. وقد نُوقشت هذه النظرية كثيراً، فأثبت اللغويون صحّتها(24)، وأضافوا إليها قولهم إن الطفل لا يتخلّى عن فرضية قديمة بمجرّد اكتشافه فرضيّة جديدة، بل يتمسّك بالقديمة فترة تطول أو تقصر(25). وهذا يدّل على أنه يملك عقلاً نشطاً ذا تركيب معقّد جداً، يسمح له باستنباط قواعد اللغة. وقد قوَّضت نظرية القدرة الفطرية ما كان شائعاً حول العلاقة الوثيقة بين مستوى الذكاء واكتساب الطفل اللغة. فالطفل، أي طفل، مفطور على تعلّم اللغة البشريّة، بل إن لديه قدرات لغوية بيولوجية وعقلية وعصبية تساعده على اكتساب لغة محيطه، سواء أكان مستوى ذكائه منخفضاً أم مرتفعاً. كما قوّضت نظرية القدرة الفطرية رأياً آخر شائعاً، هو أن تدريب الوالدين طفلهما على اكتساب اللغة كفيل بإتقانه لغة محيطه. والمراد من هذا التدريب تمكين الطفل من اللغة، لأنه لا يستطيع ذلك وحده. وهذا الرأي غير علمي، لأن الطفل يتمكّن من إتقان لغة محيطه، سواء أكان هناك مَنْ يُدرّبه على ذلك أم لم يكن. وليس للتدريب من أهميّة غير الإسراع في الإتقان ونوعيّته.

 

وما هو أكثر خطورة في الدراسات اللغوية الحديثة يكمن في أن الطفل يكتسب اللغة في سنّ مبكّرة جداً لا تُجاوز الخامسة من عمره، ويبطئ في إتقانها بعد ذلك إلى أن تتلاشى قدرته على تعلّمها بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمره. والقاعدة العامّة في ذلك هي أن التعلّم ينخفض كلما زاد عمر الطفل، ويرتفع في سنواته الأولى. ففي هذه السنوات الأولى يتعلّم المبادئ المتعلّقة بتصنيف المفردات اللغوية في أُسَر. وكان الاعتقاد السائد أنه يتعلّم في هذه السنّ مفردات متفرّقة مبعثرة. وقد انطلق هذا الاعتقاد من ملاحظة الطفل وهو يستعمل الكلمات المفردة وحدها. والجديد في حقل اكتساب اللغة أن استعمال الطفل هذه المفردات لا يعني أن تعلّمه يجري على هذا النحو من إتقان الألفاظ، بل يعني أنه يستعمل هذه الكلمات ضمن مفهوم المجموعات أو الأسر، (فكلمة كرسي مثلاً تشير بالنسبة إلى الطفل إلى أسرة الكراسي جميعاً بغضّ النظر عن أحجامها وألوانها والموادّ المصنوعة منها. كما أنه يكتسب أوّلاً الأسس التي بموجبها يمكنه تركيب الأصوات مع بعضها بعضاً بحيث تنتج عنها الكلمات)(26). وقد أثبت لوي بلوم (أن الأطفال في هذه السنّ المبكّرة جداً، بين العام الأول والرابع، خلاّقون في اللغة التي يستعملونها بدليل استخدامهم تراكيب لم يسمعوها من قبل)(27).

 

ولكن اللغويين الذين اكتشفوا القدرة الفطرية، وبحثوا في جوانبها، غربيّون. وليس لنا، نحن العرب، من فضل غير متابعتهم في هذا الاتجاه، لأنهم نصّوا صراحة على أن هذه القدرة عامّة شاملة الأطفال في الحضارات كلها. غير أن هذه المتابعة تفرض علينا مسؤوليّات الإفادة والحذر، وتنبِّهنا على الخطر الذي يحيق بطفلنا العربي. أما الإفادة فسأشير إليها في أثناء حديثي عن أثر الإعلام في لغة الطفل، وأما الحذر فنابع من أن طفلنا العربي الذي لا يختلف في شيء عن أطفال العالم يكتسب بقدرته الفطرية عاميّة محيطه ، ولا يكتسب اللغة الفصيحة. وحين يدخل المدرسة الابتدائية في السادسة من عمره يتباطأ تعلُّمه العاميّة لإتقانه لها، كما يصعب تعلُّمه اللغة الفصيحة. وهذا يعني أنه دخل المدرسة في سنّ لا تّعينه على تعلُّم الفصيحة، أو في سنّ لا تساعده على تعلّمها. إضافة إلى أن المطلوب هو تعليمه اللغة الفصيحة بدلاً من العاميّة، وتدريبه على مفرداتها وتراكيبها ومهاراتها بتدرُّج يزيد البطء بطئاً. وهذا إشكال عضال، لا حلَّ مرتجى له غير تعميم مرحلة رياض الأطفال (بين 3-5 سنوات)، والتركيز فيها على تعلُّم اللغة الفصيحة.

 

ب-المعجم اللغوي للطفل العربي:

كنّا، قبل عام 1989، نسعى جاهدين إلى التنبيه على أن الكتابة للطفل العربي ستبقى عشوائية إلى أن نتمكّن من صنع معجم الطفل العربي(28). وكان مسوّغنا آنذاك هو الإيمان بوجود لغة خاصة بالطفل مغايرة للغة الراشدين وإنْ صُنِّفت في حقل اللغة العربية الفصيحة. ولم يكن صوتنا معزولاً عما كان اللغويون والتربويون العرب ينهضون به بدأب وصمت وهمّة لا تعرف الكلل والملل.

 

وقد تميّز عام 1989 بإصدار الرصيد اللغوي العربي لتلاميذ الصفوف الستة الأولى من مرحلة التعليم الأساسي، وهو مشروع حضاري عظيم أنجزته المنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ووضعته بين أيدي العاملين في التربية والثقافة والإعلام ليفيدوا منه في شكل خطابهم للطفل العربي. وقد ضمَّ هذا الرصيد المفردات التي ضمّتها الكتب المدرسية في المرحلة الابتدائية، إضافة إلى المفردات التي استعملها تلاميذ الصفوف من الثالث إلى السادس في تعبيرهم المكتوب، ومنطوقهم التلقائي.

وقد صُنّفت هذه المفردات بحسب صفوف المرحلة الابتدائية، وتبعاً لمفهوم علمي ولغوي دقيق، مفاده تقسيمها إلى مجموعات عامة تخص جسم الإنسان وحياته الاجتماعية والاقتصادية، والحيوانات والكون والطبيعة والزمان والدولة والعَدّ والتقدير وأدوات المعاني والأفعال والأسماء.. وجُزّئتْ بعض المجموعات، كما هي الحال في جسم الإنسان(29)، إلى أجزاء وُزّعت المفردات فيها بحسب الأعضاء والحواس والحياة العاطفية والعقلية والنظافة والمرض والحوادث والرياضة والترفيه والطعام والشراب والملابس والسكين..

 

هذا الرصيد اللغوي نواة معجم الطفل العربي، لأنه يحتاج إلى وضع المفهومات والشروحات إلى جانب كل مفردة من المفردات ليس غير. والحديث عن هذا الرصيد ذو شجون، ولكنني هنا معني بالقول إن هذا الرصيد يحتاج إلى تعزيز، مفاده دراسة التراكيب العربية التي يستعملها الطفل في هذه الصفوف، وتلك التي يحتاج إليها في الصفوف نفسها، بغية بناء الكتب المدرسية والمؤلفات العلمية والأدبية استناداً إليها. ولا بدّ في الوقت نفسه من العودة إلى مرحلة الرياض لبنائها مفردات وتراكيب بناءً علمياً بعيداً عن الارتجال والعشوائية، لأن ذلك كفيل بالقضاء على كثير من الخلل في تعلّم الطفل العربي لغة أمّته، وتصويب الاعتقاد السائد بأن هذا الخلل عائد إلى طرائق تعليم اللغة الفصيحة في المرحلة الابتدائية، وإلى القائمين على تعليم هذه اللغة في المرحلة نفسها.

 

ثالثاً- أثر الإعلام في لغة الطفل:

يعينني الحديث السابق على القول إن الإعلام لا يستطيع التأثير في لغة الطفل تأثيراً إيجابياً إذا لم يستند شكل خطابه إلى معرفة علمية بحاجات الطفل وقدرته على اكتساب اللغة. والحقّ أننا مطالبون هنا بالتمييز بين الإعلام المرئي والإعلام المقروء. فالإعلام المقروء عندنا مخصّص لأطفال المرحلة العليا، وخصوصاً الأطفال من التاسعة إلى الثانية عشرة، لأن هؤلاء الأطفال قادرون على قراءة الموادّ التي تضمّها المجلات والصحف الخاصة بهم. ولا بدّ لهذه المجلات في المرحلة الراهنة من الاحتكام في كل ما تنشره إلى الرصيد اللغوي العربي. وهذا الاحتكام هو الذي يجعل موادّها مؤثّرة في الطفل، لأن شكلها مستمدّ من اللغة التي يستعملها. وليس هناك تعارض بين الاحتكام إلى الرصيد اللغوي والإبداع في النصوص القصصية والمسرحية والشعرية. إذ أن الكاتب مطالب بالإبداع، ولا بدَّ من أن نُعزّز لديه هذا الهدف النبيل. ولكن النص الذي يُقدّمه المبدع قابل بعد تأليفه إلى الاحتكام للرصيد اللغوي، بحيث تُعدّل ألفاظه بما لا يسيء إلى جماليته، وهذه مهمّة العاملين في الإعلام المقروء والمبدعين معاً، وإلا فإن خطاب الإعلام المقروء سيبقى عشوائياً مستنداً إلى العمل الفردي مهما يكن مستواه الفنيّ جيداً عند النقّاد.

 

وإذا كانت المجلات الموجّهة لطفل المرحلة العليا تسعى من خلال اعتمادها الرصيد اللغوي العربي إلى ترسيخ عادة المطالعة في الطفل العربي، فإنها مطالبة بألا تنسى منافسة التلفاز لها. كما أن سعيها إلى التشبَّث بهدفها يحتاج إلى أن تُجدّد نفسها دائماً، فتُنوّع موادّها، وتجعلها أكثر جاذبية للطفل، وأكثر التصاقاً بحاجاته ورغباته. ولا تتورّع عن التسلية الموظّفة لأغراض معرفية، وعن ملاحقة الأطفال لمعرفة آرائهم فيها، واقتراحاتهم لتطويرها. إضافة إلى العناية بشكلها وطباعتها وإخراجها، والتزامها بمواعيد إصدارها. وهذا كله كفيل بجعلها جذّابة للطفل، تشدّه إليها وتتمكّن من خلال ذلك من الارتقاء بلغته من العاميّة إلى الفصيحة، أو تُضيّق الشُّقّة بينهما. وتستطيع هذه المجلات -إذا ما خطّط لها- تنمية مهارات الطفل اللغوية، والتكامل مع تحصيله اللغوي في المدرسة، والتخفيف من الآثار السلبية للتلفاز في لغته.

على أن هذا السعي لن يكون ذا جدوى كبيرة إذا لم يكن هناك نوعان آخران من المجلات المقروءة: الأول خاص بالأطفال من السادسة إلى التاسعة، والثاني خاص بأطفال الرياض. ذلك لأن الطفل الذي يقرأ المجلات الموجّهة للمرحلة العليا بدأ يدخل مرحلة البطء في اكتساب اللغة العربية الفصيحة. وهذا الأمر يُقدم مسوّغاً جوهرياً لإنشاء مجلات تغطي مرحلة الرياض والمرحلة بين السادسة والتاسعة. فالطفل في هاتين المرحلتين أكثر استعداداً لاكتساب اللغة، ومن ثَمَّ تؤثِّر المجلة المقروءة فيه، فتنمّي مفرداته، وتُرسّخ لديه التراكيب العربية، وتساعده على إتقان لغة أمّته بدلاً من انصرافه إلى العاميّة وحدها. وسأحلّل في القسم الثاني من هذا الكتاب نموذجاً من الإعلام المقروء بغية توضيح إسهاماته في تكوين ثقافة الأطفال.

 

أما الإعلام المرئي والمسموع فيكاد التلفاز يعتلي ذروة التأثير فيه. إذ إنه يلاحق الطفل في منزله، ويتفنّن في الموادّ الدرامية والمعرفية التي يقدّمها له. ولهذا السبب يسيطر عليه، ولهذه السيطرة جانبان: إيجابي وسلبي. يتجلّى التأثير الإيجابي في توسيع التلفاز مدارك الطفل ومعارفه ومفاهيمه، وفي تقديم المتعة له. ويتجلّى التأثير السلبي في أنه يُجسّد له الصور المتخيّلة بدلاً من إثارة مخيّلته وحثّها على ابتداع الصور الذاتية، إضافة إلى أنه جذّاب ماتع يصرف الطفل عن القراءة أو يُقلّل من أهميّتها لديه، كما يصرفه عن السلوكات الأساسية في تنشئته وتكيُّفه مع مجتمعه(30). وربّما شجَّعه على شيء من الموقف السلبي من كتابه المدرسي، لأنه يرى في التلفاز عالماً يضجّ بالحيوية والحركة، مرتبطاً بالجديد في المجتمعات البشرية وبالواقع الذي تتحرّك فيه، في حين يرتضي كتابه المدرسي المواقف البسيطة، المفتعلة أحياناً، والخطابية في كثير من الأحايين، أو المواقف التي تُصوِّر واقعاً مثالياً بعيداً عن السلبيات، أو واقعاً محكوماً بالماضي في مقابل واقع التلفاز المحكوم بالحاضر. وليس معنى ذلك كله تنفير الطفل من مشاهدة التلفاز، بل معناه ضبط عادات المشاهدة لديه(31)، والسعي إلى أن يتكامل التلفاز مع تحصيل الطفل اللغوي في المدرسة. وقد أثبتت البرامج اللغوية التي أحسن صنعها وإخراجها قدرتها على تنمية معارف الطفل اللغوية، ومهاراته، ومساعدته على الارتقاء بلغته، وتضييق الشُّقَّة بين الفصيحة والعاميّة فيها.

 

ولا أشك في أن التلفاز قادر على أن يصل إلى الأطفال في مراحلهم العمرية كلها. ولهذا السبب يحسن توظيفه لخدمة التنمية اللغوية، فلا يُكرّر ما فعلته مجلات الأطفال حين قصرت أسماءها على الذكور (أسامة- ماجد- حسن- أحمد...)، أو حين اعتمدت ضمير المذكّر في شكل خطابها استناداً إلى التغليب المعروف في اللغة العربية. وبذلك وحده ينتقل الإعلام المرئي والمسموع من كونه أداة للمحافظة على الأوضاع اللغوية الراهنة إلى أداة تغيير وتنمية. كما ينتقل من الانفصال عن التربية إلى التكامل معها، ومن سلوكيات الترفيه والتسلية إلى سلوكات البناء السليم للشخصية القومية التي تعتزّ بلغتها وتحترمها وتسعى إلى إتقانها. ومن المفيد في الحالات كلها أن يعي المسؤولون عن برامج الأطفال في التلفاز قدرة الطفل الفطرية على اكتساب اللغة، فيفيدوا منها في صنع برامج لمرحلة الرياض، تساعد الأطفال على إتقان المهارات اللغوية الأساسية في المحادثة والتعبير، وتُؤهِّلهم للمضي في تعلّمها ذاتياً، وتُحبِّبهم بنصوصها، وتربطهم بتراثها وحاضرها، وتُشجِّع ملكة الابتكار اللغوي لديهم، وتُنمّي رصيدهم من خلال استعمالها له وإضافتها إليه.

 

الإحالات:

1-كشف البحث العلمي عن أسباب جسدية تعوق القراءة، منها ضعف السمع ونقص الغذاء وعدم انتظام الغدد وقصور الجهاز العصبي والدورة الدموية. انظر ص200 من: أبو هيف، عبد الله- أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1983، نقلاً عن: سيكولوجية القراءة لمحمد لبيب النجيحي.

2-انظر هذه الأسباب وغيرها في ص343 من: السيّد، د. محمود أحمد- في طرائق تدريس اللغة العربية- جامعة دمشق- دمشق 1982.

3-انظر تفصيلات هذه المهارات في ص24 وما بعد من: السكري، عبد الفتاح- المهارات الأساسية للقراءة- المجلة العربية للتربية- المجلد 6- ع2-1986.

4-انظر ص299 من: السيّد، د. محمود أحمد - في طرائق تدريس اللغة العربية- مرجع سبق ذكره.

5-للتفصيل انظر ص80 وما بعد من: الفيصل، سمر روحي- مشكلات قصص الأطفال في سورية- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1981.

6-انظر ص121 وما بعد من: الفيصل، سمر روحي- ثقافة الطفل العربي- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1987.

7-انظر ص129 من: المرجع السابق.

8-الجزء الرابع من الشوقيات لأحمد شوقي، و:العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ لعثمان جلال.

9-انظر ص51 من: أبو هيف، عبد الله- أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً.

10-انظر: ديوان كامل كيلاني للأطفال- إعداد: عبد التواب يوسف- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1988.

11-انظر ص310 من: جعفر، د. عبد الرزاق- أدب الأطفال- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1979.

12-ترجم المجموعة إلى اللغة العربية وجيه توفيق جبر، وصدرت ضمن منشورات وزارة الثقافة بدمشق عام 1978.

13-ترجم المجموعة إلى اللغة العربية ميخائيل عيد، وصدرت ضمن منشورات وزارة الثقافة بدمشق عام 1978.

14-ترجم القصة إلى اللغة العربية بكر يوسف، وصدرت ضمن منشورات دار التقدّم بموسكو عام 19766.

15-ترجم القصة إلى اللغة العربية ماجد علاء الدين، وصدرت ضمن منشورات دار التقدّم بموسكو عام 1975.

16-ترجم المجموعة إلى اللغة العربية عيسى فتّوح، وصدرت ضمن منشورات وزارة الثقافة بدمشق عام 1978.

17-انظر القصة في المجموعة المسماة باسمها -ص9 وما بعد.

18-انظر القصة في مجموعة (الأرنب والتمساح)- ص29 وما بعد.

19-انظر القصة في مجموعة (الأرنب قصير الأذن)- ص17 وما بعد.

20-فكرة العالم الوهمي بفروعها مستمدّة من د. شاكر مصطفى، انظر تعقيبه على محاضرة (الطفل العربي ومشكلة الاغتراب الثقافي) للدكتور قاسم الصراف، ضمن كتاب: الطفولة في مجتمع عربي متغيّر- الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية- الكويت 1983.

21-انظر ص155 من: خرما، د. نايف- أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة- عالم المعرفة 9- الكويت 1978.

22-المرجع السابق- ص162.

23-المرجع السابق نفسه.

24-نقض اللغويون جوانب من هذه النظرية تتعلق برأي تشومسكي في أن الطفل يدرك وهو يكتسب اللغة قواعد تحويلية معقدة تمكّنه من بناء الجمل، ورأوا أن الطفل يبحث عن أنماط تتبع نظاماً متناسقاً في البنيات الخارجية للجمل.

25-للتفصيل انظر ص164 من: أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة.

26-أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة- د. نايف خرما- ص167. وتجدر الإشارة إلى أن فكرة تعلّم الكلمات المفردة والمبادئ مستمدة من المرجع نفسه.

27-المرجع السابق -ص161.

28-للتفصيل انظر ص103 من: الفيصل، سمر روحي- ثقافة الطفل العربي.

29-انظر ص28 وما بعد من: الرصيد اللغوي العربي- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- تونس 1989.

30-للتفصيل انظر ص171 من: السنعوسي، محمد- التلفزيون والأطفال- ضمن كتاب (الطفولة في مجتمع عربي متغيّر)- الجمعية الكويتية لتقدّم الطفولة العربية- الكتاب السنوي الأول- الكويت 1983-1984.

31-المرجع السابق نفسه.

 

 

القسم الثاني: ثقافة الأطفال

الفصل الأول: تكوين ثقافة الأطفال  

 

تُعَدُّ وسائل الإعلام مصدراً من مصادر ثقافة الطفل، ولهذا السبب برز مصطلح فرعي داخل هذه الوسائل سُمّي بالإعلام الثقافي الخاص بالأطفال، أو بتسميات أخرى تُحقّق مفهوماً محدّداً للصناعة الثقافية، هو الإسهام في تثقيف الطفل في الحاضر وإعداده للمستقبل. والمشكلة التي تواجه هذا الإعلام هي تباين الدول العربية في أهداف تثقيف الطفل، والاندفاع غير العلمي في عرض برامج وتقديم نصوص لا تخدم الاستراتيجية الثقافية العربية. وسأحاول، هنا، فحص تجربة من التجارب العربية، هي تجربة تكوين ثقافة الأطفال في سورية لمعرفتي بها، واتصالي الوثيق بتاريخها وحاضرها. وسأركّز الفحص على مصدرين من مصادر هذه الثقافة، هما الكتب والمجلات، لأنهما أكثر شيوعاً في سورية، ولأنني أرغب في أن أُضيف إليهما كتباً ومجلات عربية أخرى خاصة بالأطفال تتوافر في السوق السورية، وتسهم في تكوين ثقافة الطفل، وتصلح للتأكُّد من نتائج الفحص.

 

الحديث عن تكوين ثقافة الأطفال في سورية من خلال الكتب والمجلات يعلن الإيمان بأن ثقافة الأطفال في سورية إحدى الصناعات الثقافية التي يمكن خلقها وتوجيهها بوساطة الكتب والمجلات، ويضمر سؤالاً مهمّاً عن واقع هذه الثقافة وطبيعة خلقها أو تكوينها. وهذا يعني أنني مضطر إلى اصطناع منهج وصفي تحليلي تحيط إجراءاته بالأمرين التاليين: وصف واقع الثقافة في كتب الأطفال ومجلاتهم في سورية، وتحليل هذا الواقع ونقده. كما أنني لا أشك في أن الأمرين نفسيهما هما الهدف الذي أسعى إلى تحقيقه هنا.

 

على أن وضوح الهدف وتحديد المنهج ليسا كافيين للمضي في البحث. ذلك لأن الصناعة الثقافية لا تُسمّى إعلاماً ثقافياً ما لم تملك تحديداً للصورة المستقبلية للإنسان والمجتمع. فالإعلام الثقافي تربية بالمعنى الواسع للمصطلح، ولا بدّ لهذه التربية من أهداف عامة تُجسِّد الصورة المستقبلية، وأهداف خاصة بكل وسيلة ثقافية تقود إلى تحقيق الأهداف العامة. أما الأهداف العامة فمحدّدة في سورية، يستطيع أي باحث عربي معرفتها إذا قرأ مناهج المرحلة الابتدائية(1). ولا بأس في أن أنوب عن هذا الباحث في قراءة هذه الأهداف العامة فأقول إنها بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد، وتنشئة الطفل على القيم القومية والاشتراكية والوطنية والعلمية والأخلاقية والجسدية التي تُؤهّله للإسهام في هذا البناء والعيش فيه، دون أن تفصله عن لغته وتراثه، ودون أن تحدّ من حرّيته وتكامل شخصيّته وقدراته الإبداعية. أما الأهداف الخاصة بالكتب والمجلات فسأتحدّث عنها وصفاً وتحليلاً في الفقرات القابلة، ولكنني أنطلق الآن من فرضيّة عامة، هي أن القائمين على الكتب والمجلات يملكون تحديداً لهذه الأهداف، ويعرفون الأساليب التي تُجسِّدها.

 

ثم إنه لا بدَّ لي من أن أملك معياراً للحكم، أو مرجعاً أستند إليه في وصف واقع ثقافة الأطفال في الكتب والمجلات وتحليله ونقده. والمعيار هنا هو مصطلح الثقافة، وهو مصطلح غائم يصعب تقديم تعريف جامع مانع له. وقد آثرتُ التخلّص من غموض الدلالة باعتماد المعنى الضيّق للثقافة، وهو العلوم والفنون والآداب والمهارات والقيم التي يتحلّى بها الإنسان، ويتمكّن بوساطتها من ترقية عقله وأخلاقه وذوقه ونمط سلوكه، ليتكيّف مع عادات مجتمعه وتقاليده وأفكاره، ويغدو قادراً على التأثير الإيجابي فيها. ولكنني أعي أن المعنى الضيّق للثقافة عامّ، ولهذا السبب حدّدتُ مرادي من مصطلح (ثقافة الأطفال) على أنه (مجموعة العلوم والفنون والآداب والمهارات والقيم التي يستطيع الطفل استيعابها وتمثّلها في كل مرحلة من مراحله العمرية الثلاث، ويتمكّن بوساطتها من توجيه سلوكه داخل المجتمع توجيهاً سليماً). على أن تخصيص مصطلح ثقافة الأطفال لا يحجب ما أؤمن به من أن ثقافة الكبار لا تنفصل عن ثقافة الأطفال، لأن الكبار ينقلون إلى الأطفال ثقافة مجتمعهم، ويحاولون -كما سبق القول- صوغهم بحسب الصورة المستقبلية التي حدّدوها ورأوها صالحة لنهضة الوطن والأمّة.

 

-1-

تصدر في سورية مجلتان للأطفال، هما أسامة والطليعي. وتدخل السوق السورية مجلات أخرى، أبرزها: العربي الصغير وسامر وسعد وماجد.

1-1-: أما مجلة (أسامة) فقد بدأت تصدر عن وزارة الثقافة السورية مرتين في الشهر ابتداءً من عام 1969 في 32 صفحة. يضم قرارها التنظيمي(2) عدداً من الموادّ، أهمها بالنسبة إلينا المادّة الأولى، وهي: (تُصْدِرُ وزارة الثقافة والإرشاد القومي مجلة للأطفال نصف شهرية اسمها أسامة، كملحق لمجلة المعرفة، أهدافها تنمية الطفل العربي على قيم أمّته، وتزويده بالثقافة الصحيحة، وتقديم التسلية المفيدة له).

ومن الواضح أن إلحاق مجلة أسامة (وهي للأطفال) بمجلة المعرفة (وهي للكبار) يعكس الفهم السائد عام 1969 للطفل وثقافته، وهو فهم ينص على أن الطفل راشد مصغّر ينتظر الزمن ليصبح كبيراً. وعلى الرغم من أننا قادرون على نعت هذا الفهم بالتخلف، فإننا لم نر له أي تأثير سلبي لأن واقع مجلة أسامة، من بداياتها الأولى، نقضه وراح ينظر إلى الطفل على أنه عالم قائم بذاته. وما هو أكثر أهمّية بالنسبة إلينا تلك الأهداف الغائمة التي نصّتْ عليها المادّة الأولى. فما المراد بالثقافة الصحيحة؟ ولماذا لم تكن قيم الأمّة جزءاً من هذه الثقافة الصحيحة؟ وهل هناك تعارض بين الثقافة الصحيحة والتسلية؟ إذ فسّرنا قصور الأهداف الخاصة بمجلة أسامة بما فسّرنا به تبعيتها لمجلة المعرفة كنا أكثر انسجاماً مع الفهم السائد عام 1969لثقافة الأطفال في سورية. يشير إلى ذلك أن القائمين على المجلة اضطروا إلى ترجمة هذه الأهداف الغائمة إلى أهداف أكثر وضوحاً وتحديداً وقابليّة للتنفيذ، هي(3):

-ربط الطفل بتراثه القومي والحضاري.

-ربط الطفل بواقعه اليومي في مجتمع يرسي أسس الوحدة والحرية والاشتراكية.

-فتح نافذة يطل منها على العالم الذي يعيش فيه من حيث التطوّر العلمي والتكنولوجي.

-إغناء الثقافة العامة في مختلف العلوم.

-غرس القيم التربوية والوطنية والاجتماعية في نفسه.

-تشجيعه على المساهمة في بناء الوطن.

-مساعدته على توجيه أوقات فراغه، والاستفادة من هذه الأوقات بما يعود عليه وعلى من حوله بالنفع.

وغير خاف على أي راغب في مقارنة هذه الأهداف الخاصة بمجلة أسامة بالأهداف العامة للتربية في سورية أن هناك ارتباطاً وثيقاً بينهما، يفضي إلى الاطمئنان بأن القائمين على المجلة يعون أن وسيلتهم الثقافية تسهم في بناء الصورة المستقبلية للإنسان والمجتمع في سورية. وقد اتصفت مجلة أسامة بالالتزام من بداياتها الأولى، وما زالت تحمل هذه الصفة وتعتزّ بها. غير أن ذلك لا يلغي السؤال التالي: ما طبيعة النصوص المنشورة في أسامة؟ وهل تُحقّق الأهداف التي رسمتها المجلة لنفسها؟ إن الإجابة عن هذين السؤالين تنطلق من تحليل الخطاب الثقافي الذي تبثه المجلة عبر موادّها. ويمكنني القول، بادئ ذي بدء، إن موادّ المجلة تتمتّع بشيء غير قليل من الثبات. فهي تضم قصصاً مصوّرة مسلسلة وأخرى تعتمد على النص، كما تضم قصائد ومقالات علمية وأبواباً تخص كتابات الأطفال وقضايا التعارف بينهم. ولهذا الثبات مسوّغ معروف ولكنه غير مقبول. إذ أن المجلة تعتمد اعتماداً رئيساً على الكتّاب والفنّانين من خارج المجلة، وتفتقر إلى جهاز إداري وفنّي ينهض بعبء التحرير. وليس سرّاً القول إن رئيس التحرير كان الشخص الوحيد القائم على شؤون مجلة أسامة طوال حياتها. وعلى الرغم من أن هناك هيئة تحرير استشارية وارتباطاً عضوياً بوزارة الثقافة فإن المجلة لم تتسع إدارياً كما اتسعت ثقافياً. ومن ثمّ كانت مضطرة إلى الاعتماد على الكُتّاب والفنّانين من خارج المجلة، والرضى بالموادّ التي يُقدّمونها، وإنْ كانت هناك فسحة للقبول والرفض والمناقشة من خلال رقابة رئيس التحرير. وهذا أمر ليس هيّناً، لأنه فرض على أبواب المجلة نوعاً من الثبات لا يشدّ الأطفال كثيراً، كما فرض أحياناً نصوصاً لا تتمتّع بالمستوى الذي يطمح إليه رئيس التحرير. وما هو أكثر خطراً أن تقف المجلة عاجزة عن تحقيق التوازن بين الأهداف التي رسمتها لنفسها. ولكي أوضِّح هذا العجز سأُحلّل المادتين اللتين اشتهرتْ بهما المجلة، وهما القصة المصوّرة المسلسلة والقصة التي تعتمد على النص.

نشرت مجلة أسامة 181 قصة مصوّرة مسلسلة طوال ستة عشر عاماً. ويمكنني تصنيف هذه القصص المسلسلة بحسب مضموناتها على النحو الآتي(4):

-في الموضوعات الاجتماعية: 47 قصة مسلسلة.

-في الموضوعات الوطنية والقومية: 32 قصة مسلسلة.

-في الموضوعات الخاصة بالتراث الشعبي العربي: 32 قصة مسلسلة.

-في الموضوعات الخاصة بالتراث الشعبي العالمي: 28 قصة مسلسلة.

-في الموضوعات التاريخية: 17 قصة مسلسلة.

-في موضوعات الخيال العلمي: 11 قصة مسلسلة.

-في الموضوعات العلمية: 9 قصص مسلسلة.

-في موضوعات الأساطير القديمة: 5 قصص مسلسلة.

يشير التصنيف السابق بوضوح إلى أن الخطاب العلمي احتل المرتبتين السادسة والسابعة بين أنواع الخطاب الثقافي في القصص المسلسلة، وهما أدنى المراتب لأن المرتبة الثامنة التي احتلتها الأساطير سرعان ما تلاشت بعد عامي 1969 و1971 نتيجة الوعي بأثرها السلبي في ثقافة الطفل. كما يشير التصنيف إلى نوع من السيادة للخطاب التراثي الشعبي والتاريخي، مما ينم عن أن مجلة أسامة معنّية بربط الطفل العربي بتراث أمّته انطلاقاً من أن البعد التراثي أحد أبعاد شخصيّته القومية، ومن أن التراث الإنساني بُعْدٌ آخر من أبعاد شخصيّته. بيد أنها لم تهمل الحاضر، فراحت تربط الطفل بمجتمعه وأسرته ومشكلات أمّته، وخصوصاً الصراع العربي الإسرائيلي، تبعاً لإيمانها بأن ذلك شيء رئيس في شخصيّة الطفل. وعلى الرغم من ذلك كله فإن الملامح العامة للقصص المسلسلة كامنة في تغليب الماضي على الحاضر، وفي تغليب الطابع الأدبي على الطابع العلمي.

 

والمعروف أن القصة المصوّرة المسلسلة موجّهة أساساً إلى أطفال المرحلة الثانية (بين 6-8 سنوات) الذين لم يتقنوا آلية القراءة جيداً، في حين تتوجَّه القصة التي تعتمد على النص إلى أطفال المرحلة العليا (بين 9-12سنة) الذين أتقنوا آلية القراءة. وقد عُنيتْ مجلة أسامة بهذين النوعين من القصص، مما جعلها صالحة للطفولة الثانية والثالثة. غير أن المحافظة على التوازن بين شريحتين من القرّاء ليست سهلة، فلكل منهما رغباته وميوله ومستواه القرائي. ولعل مجلة أسامة حين قدّمت نوعين من القصص كانت تنطلق من أنها للأطفال كلهم أو للشريحتين الثانية والثالثة على أقل تقدير، ولكنها ابتداءً من عام 1977 عجزت عن توفير التوازن بين النوعين المذكورين من القصص. إذ ضمرت القصص المسلسلة، وكادت تقتصر على خمسة مسلسلات في العام الواحد(5). ونمت في مقابل هذا الضمور القصة التي تعتمد على النص، فزاد عددها زيادة ملحوظة، مما جعل مجلة أسامة تنحاز إلى أطفال المرحلة العليا وتتنازل شيئاً فشيئاً عن أطفال المرحلة الثانية، بل إنها خسرتهم في بعض السنوات حين أصبح تلكؤ إصدارها عائقاً أمام تواصل أطفال هذه المرحلة مع حلقات القصص المصوّرة المسلسلة.

 

كانت القصص التي تعتمد على النص تحتلّ المرتبة الثانية في مجلة أسامة، ولكنها شرعت ابتداءً من عام 1977 تحتلّ المرتبة الأولى. وهذه القصص سردية تقص على الطفل حكاية ذات حوادث وحبكة وبطل. وهي لون ماتع، يحبه الطفل ويُقْبل عليه سواء أكان اجتماعياً أم علمياً أم تاريخياً. والملاحظ أن النزعة التوجهية سيطرت على الكُتّاب في سورية، فراحوا يهتموّن بالتعبير عن قيم يرغبون في سيادتها. وكنتُ حلّلتُ(6) 165 قصة من هذا النوع السردي نشرتها مجلة أسامة خلال ثلاثة أعوام (1977-1978-1979) بغية معرفة اتجاه القيم فيها، فلاحظتُ أن هناك سادة لأربع مجموعات، هي: مجموعة القيم المعرفية الثقافية، ومجموعة القيم الاجتماعية، ومجموعة قيم تكامل الشخصية، ومجموعة القيم العملية الاقتصادية. ولو دقّقنا في القيم التي ضمّتها هذه المجموعات بحسب سيادتها للاحظنا أن قيمة المعرفة فاقت القيم كلها في القصص التي قدّمتها مجلة أسامة، مما يعكس الاتجاه المدرسي في فهم الطفل لدى الأدباء الذين كتبوا هذه القصص، وكأنهم يكتبون ليُعلّموا الطفل ويغذّوه بالمعارف. ومن ثَمّ نراهم يكرّرون ما تفعله المدرسة حين تنظر إلى الطفل على أنه دماغ  يحتاج إلى حشو دائم بالمعارف، وحين تبتعد عن قيمة الذكاء التي تُنمّي القدرات العليا المتصلة ببناء شخصيّته أكثر من اتصال الذاكرة بها. صحيح أن القصص اهتمت بمجموعة القيم الاجتماعية كوحدة الجماعة وقواعد السلوك والمماثلة والتسامح والكرم وحب الناس وغيرها، إلا أنها ركزْت داخل هذه المجموعة على قيمتي الأسرة والصداقة، وضعف اهتمامها بقيمتي وحدة الجماعة والجنس الآخر. ونستطيع ملاحظة الأمر نفسه في مجموعة قيم تكامل الشخصية. إذ أن القصص أهملت قيماً مهمّة داخل هذه المجموعة، كقيمة التصميم التي تعني الشجاعة والجلد والجرأة وتحمُّل الأعباء واجتياز الصعوبات، وتربّي في الطفل إرادة التغيير والعزم على مغالبة التحديات التي تواجهه. ولا يختلف الأمر في المجموعة الرابعة، مجموعة القيم العملية الاقتصادية. فقد اهتمت القصص بقيم العمل والتعاون من أجل الوطن بما تعنيه من تركيز على الإنتاج والعمل لخير الوطن ومصلحته وتقدّمه وصيانة قضاياه وأسراره، وأهملت قيم الضمان الاقتصادي والملكية الاشتراكية والتنافس.

 

أخلص من الحديث عن مجموعات القيم التي اكتسبت السيادة في القصص التي نشرتها مجلة أسامة إلى أن هناك تركيزاً على قيم دون أخرى، مما ينم عن الجهل بمنظومة القيم وأثرها في بناء الشخصية السليمة الخالية من الاضطرابات العصابية. وإلا فما معنى أن يتمّ التركيز على بعض المجموعات، وعلى قيم دون أخرى داخل المجموعات التي لها سيادة في القصص؟

 

1-2-صدرت، ابتداءً من آذار/ مارس 1984، مجلة (الطليعي) الشهرية عن دار طلائع البعث للطباعة والنشر في سورية بإشراف قيادة منظمة طلائع البعث. واللافت للنظر أن المجلة حدّدت جمهورها على أنه أطفال المرحلة العليا (9-13سنة)(7) من الطليعيين والطليعيّات خصوصاً، والأطفال العرب عموماً. كما رسمت أهدافها بدقّة على أنها توظيف الكلمة من أجل تحقيق الأمور الآتية(8):

-وحدة الفكر الأيديولوجي والسياسي بتقديم القضايا المصيرية والحياتية بشكل يتلاءم ومدارك الطليعيين ووعيهم.

-تربية الأطفال ليكونوا قوميين اشتراكيين بأخلاقهم وعملهم.

-تربية الطليعيين على تنظيم حياتهم في البيت والمدرسة والحي.

-تربية الطليعيين على الإسهام في المناشط واستيعاب المهارات اليدوية وربط المعارف النظرية بتطبيقاتها العلمية.

-تشكيل الاتجاه الحزبي لدى الطليعيين.

-تربية الطليعيين على الفرح والسعادة في العمل والحياة، وعلى التعاون لخير الوطن ومصلحة الأمة.

-تربية الطليعيين على البحث والتنقيب، وتشجيع روح الابتكار لديهم.

هذه الأهداف التي آثرتُ إيراد نصّها بإيجاز تشير بوضوح إلى الالتزام الدقيق بأهداف حزب البعث العربي الاشتراكي خصوصاً، والأهداف العامة للتربية في سورية عموماً. ولا تعارض بين هذين النوعين من الأهداف، إلا أن المجلة حرصتْ على التركيز على النوع الأول انطلاقاً من أنها تصدر عن المنظمة التربوية السياسية الوحيدة للأطفال في سورية، وهي منظمة معنيّة بترسيخ فكر حزب البعث في أطفال المدرسة الابتدائية ليكونوا قوميين اشتراكيين. وقد سعت المجلة إلى الإفادة من الخبرات المحلية في تحديد أبوابها، وناقشت طويلاً العدد (صفر)، ثم خلصت إلى الحرص على تنوُّع الأبواب وارتباطها بحياة الطلائع في المدرسة والمعسكر، دون أن تتنازل عن التراث السابق المتمثّل في مجلة أسامة، فأبقت على القصص المصوّرة المسلسلة، والقصص التي تعتمد على النص، والقصائد، وإبداعات الأطفال. وحرصت على الوصول إلى الأطفال في مدارسهم بوساطة فروع منظمة الطلائع في المحافظات السورية، وأهملت وسيلة طرح المجلة في الأسواق، وتمسّكت بالثمن الزهيد، وبالإصدار المنتظم، وبالعدد المقبول من الصفحات (52صفحة)، وبشيء من الأناقة في الإخراج.

 

ويمكن الاطمئنان، بعد تتبّع المواد التي نشرتها مجلة الطليعي، إلى أن هناك التزاماً دقيقاً بالأهداف التي وضعتها المجلة. فهناك تنوُّع في المواد يشمل القصص المصوّرة المسلسلة والقصص المعتمدة على النص، والقصائد والمقالات العلمية والتحقيقات الصحفية وحلقات البحث الطليعية، ورصد النشاطات الفنيّة والرياضية، وأبواب الصحة والتسلية وتنمية المهارات والمعارف وإبداعات الأطفال ورسائلهم. وقد حرصت المجلة على أن تحقّق كلُّ مادة منشورة فيها هدفاً من الأهداف الموضوعة لها، مهما يكن انتماء هذه المادة إلى الحقول المعرفية المختلفة. وكان هناك تشدُّد واضح في المواد ذات الطابع الأدبي تجلّى في نشر المادة التي تُعبِّر تعبيراً واضحاً مباشراً عن التوجُّه القومي الاشتراكي، وإهمال المواد التي تُعبّر بشكل ضمني غير مباشر عن هذا التوجُّه. وقد برزت نتيجة هذا التشدُّد مشكلة مهمّة هي الطرح المباشر للقيم. فالعدد السابع من السنة الرابعة (أيلول/ سبتمبر 1987)، على سبيل التمثيل لا الحصر، يضم العنوانات التالية: ثورة الشيخ صالح العلي- إلى أهلنا في الأرض العربية المحتلّة- سلّة من النجوم- نشيد المشاعل- جدّي- الطليعة المثالية- وطني.. إن هذه العنوانات هي عنوانات المواد ذات الطابع الأدبي في العدد المذكور، وهي منوّعة بين قصة مصوّرة مسلسلة وقصة تعتمد على النص وقصائد، إلا أنها، ما عدا قصيدة جدّي، تعبّر تعبيراً مباشراً عن القيم الوطنية والقومية، وهذا التعبير ليس مقصوراً على اختيار عنواناتها، بل يشمل مضمونها أيضاً. وليس غريباً أن يضمّ عدد واحد ست مواد تطرح القيم الوطنية والقومية طرحاً مباشراً، فذلك دأب المجلة وسنتها التي لا تحيد عنها. ولكن الغريب أن يمتدّ الطرح المباشر إلى المادة الوحيدة التي ضمت قيمة اجتماعية هي الارتباط بالجدّ على أنه وسيلة من وسائل التماسك الأسري. ويمكنني القول إن اهتمام المجلة بالقيم الاجتماعية ضعيف، فهي تُقدّم نصوصاً تتجاوز المشكلات التي يضمها الواقع إلى مشكلات افتراضية لا مسوّغ لطرحها غير ترسيخ الحياة الهانئة في المجتمع المحيط بالطفل. وكأن المجلة حريصة على زجّ قارئها الطفل في حياة خالية من الإخفاقات والانكسارات والهزائم وتجلّيات المجتمع الاستهلاكي، لا همَّ لها غير محاربة الأعداء في فلسطين ولبنان، والسعي إلى بناء المجتمع الخالي من الظلم والاستغلال، مجتمع العمال والفلاحين.. ومهما تكن مسوّغات المجلة فإن دفع الطفل إلى المستقبل على أجنحة الأحلام والأماني مفيد إذا ارتبط بتعرُّف الحاضر وأساليب ترسيخ إيجابياته والقضاء على سلبياته، وإلا فإنه يبقى عملاً سياسياً في ثوب أدبي منفصل عن حركة الواقع ومشكلاته.

 

1-3-صدرت مجلة العربي الصغير عن وزارة الإعلام بدولة الكويت ابتداءً من شباط /فبراير 1986 في 64صفحة. وقد حدّدت المجلة جمهورها على أنه أطفال المرحلة العليا (9-14سنة)(9)، وخصَّصتْ ثماني صفحات للأطفال الأصغر سنّاً دون أن تُحدِّد مَنْ هم الأصغر سنّاً، ولكن الصفحات الثماني نفسها تشير إلى أن المجلة تقصد أطفال المرحلة الثانية (6-8-سنوات). والواضح أنها -استناداً إلى ذلك- كانت تعي من البداية صعوبة التوجُّه إلى الأطفال كلهم، لأن هؤلاء الأطفال ليسوا شريحة تحمل اهتمامات ورغبات وميولاً واحدة، ومن ثَمَّ آثرت الجمع بين شريحتين، وتميز كلٍ منهما بصفحات خاصة. أما الأهداف فلا أملك نصَّ القرار الناظم لها، غير أن افتتاحيّات العديدن التمهيديين (صفر 1 وصفر 2) والأعداد الأولى تنصّ على خلق جيل من أبناء الوطن العربي مخلص للثقافة العربية، واع بروافد المعرفة، معتزّ بعروبته ومعتقدة.

 

والحقّ أن الأبواب التي اعتمدتها المجلة متنوّعة جداً، ففيها باب يُقدّم التراث العربي الحكائي، وآخر لرواية الحكايات المعاصرة، وثالث للقصص المصوّرة المؤلّفة من حلْقة واحدة، ورابع للجانب العلمي من التراث العربي بأسلوب المقالات المبسّطة، وخامس للتعريف بالفنّ والفنّانين العرب والأجانب، وسادس للتعريف بالشخصيات الإسلامية، وسابع لتنمية المهارات وتحريض القدرات بأسلوب طرح المشكلات أو أسلوب الحوار حول قضية، وثامن للتحقيقات المصوّرة، وتاسع لطرائق عمل الآلات، وعاشر لدائرة المعارف، إضافة إلى الصفحات المخصّصة لإبداعات الأطفال ورسائلهم وعنواناتهم. ويتضح من أبواب المجلة شيء آخر إضافة إلى التنوّع هو الحرص على إضافة أبواب جديدة وعلى تعديل أساليب طرح الأبواب الثابتة. كما تتّضح رغبة المجلة في إقامة توازن بين الجانبين الأدبي والعلمي، وبين الماضي والحاضر، إضافة إلى عنايتها بتنوّع القيم وتنمية المهارات والقدرات. غير أنها -كسابقاتها- بعيدة عن زجّ الطفل في مشكلات الحاضر العربي إلا ما كان قوميّاً ليس بين الدول العربية خلاف حوله. كما بقيت القيم التي تُحرّض الطفل على التساؤل وتغرس فيه روح الديمقراطية والعدالة والحقّ قليلة فيها.

 

1-4: هناك ثلاث مجلات أخرى للأطفال تدخل سورية، هي مجلة (سعد) الأسبوعية التي تصدر عن دار (الرأي العام) للصحافة والطباعة والنشر في الكويت في 48 صفحة، ومجلة (سامر) الإسبوعية التي تصدر عن شركة أبي ذر الغفاري للطباعة والإعلام في بيروت في 52 صفحة، ومجلة (ماجد) التي تصدر عن مؤسسة الاتحاد في (أبو ظبي) عاصمة الإمارات العربية المتحدة. وعلى الرغم من التباين بين هذه المجلات في طبيعة الخطاب الثقافي فإنها تشترك في عدم تحديد جمهورها، وفي إخلاصها لقيم التسلية والترفيه، وفي تبعيّتها لإحدى دور النشر الصحفية. وخارج ذلك تمتاز مجلة سامر من مجلة سعد بالاهتمام بتنمية القدرات الإبداعية لدى الأطفال وخصوصاً القدرات الفنيّة، كما تمتاز مجلة سعد من مجلة سامر باعتماد العنصر النسوي في التحرير ومخاطبة الأطفال. وتختلف مجلة (ماجد) عن هاتين المجلتين بتنوُّع أبوابها، وتعدُّد وسائل اتصالها بجمهور الأطفال، وحرصها على تنويع مجموعات القيم، ومحاولتها الاتساع بالمعارف (دائرة معارف ماجد مثلاً)، والدقّة في التحرير، والعناية باللغة العربية، والالتزام الصارم بموعد التوزيع (يوم الأربعاء من كل أسبوع)، وكفاية عدد الصفحات (76صفحة).

 

1-5: أخلص من الحديث عن المجلات التي يقرؤها الطفل في سورية إلى النتائج الآتية:

أ-الخطاب الثقافي في المجلات كلها تقريباً موجّة إلى أطفال المرحلة العليا على اختلاف بينها في تحديد السنّ التي تتوقّف عنده. أما أطفال المرحلة الأولى فليست هناك مجلة موجّهة إليهم، في حين يعاني أطفال المرحلة الثانية من الترجُّح، إذ ليست هناك مجلة مخصَّصة لهم، ولكن المجلات كلها تُقدِّم نصوصاً صالحة لهم، تكثر أو تقلّ بحسب وعي القائمين على هذه المجلات. ولهذا الخلل مسوّغ معروف، هو أن أطفال المرحلة الأولى لا يعرفون القراءة ومن ثَمّ يعتمدون على النصوص المصوّرة التي لا تضمّ كلاماً. أما أطفال المرحلة الثانية فما زالوا في بداية تعلّمهم القراءة ومن ثَمّ يعتمدون على النصوص التي تضمّ عدداً قليلاً من الكلمات، في حين يستطيع أطفال المرحلة العليا التواصل مع النصوص كلها، سواء أكانت مصوّرة خالية من الكلمات أم مؤلّفة من الكلمات وحدها دون الصور. ولا شك في أن اهتمامات أطفال المراحل العمرية الثلاث متباينة، ولكن القائمين على المجلات أكثر معرفة باهتمامات أطفال المرحلة العليا، وأكثر جهلاً باهتمامات أطفال المرحلتين الأولى والثانية. كما أنهم لا يملكون الخبرات اللازمة للتوجُّه إلى أطفال المرحلتين الأوليين، في حين أصبح لديهم تراكم في الخبرات الخاصة بأطفال المرحلة العليا. وهذا كله يعني أن ثقافة الأطفال في سورية من خلال المجلات هي ثقافة مرحلة عمرية واحدة.

 

ب- الخطاب الثقافي الموجّه لأطفال المرحلة العليا مشبع بالقيم. وهذا أمر محمود لأنه ينم عن وعي القائمين على مجلات الأطفال بأهمية القيم في سلوك الطفل وشخصيّته. بيد أن هناك ملاحظتين تحتاجان إلى إنعام نظر: الأولى أن هناك تبايناً بين المجلات في القيم التي يبثها الخطاب الثقافي. فكل مجلة تهتمّ بعدد محدود من القيم يساعد الجهة التي تُصْدِر المجلة على تحقيق أهدافها. والملاحظة الثانية أن المجلات متفرّقةً ومجتمعةً لا تطرح منظومة متكاملة للقيم، بل تطرح بعضاً من هذه المنظومة. ويمكن التخفيف من الأثر السلبي للملاحظة الأولى إذا انطلقنا من أن المجلات بمجموعها تُشكّل كلاً واحداً بالنسبة إلى القيم في ثقافة الأطفال في سورية، فما تهمله إحداها تكمله الأخرى. وهذا الأمر ممكن في حيّز الفرضية، ولكنه غير ممكن في واقع القيم في ثقافة الأطفال في سورية، لأن القيم كلها مجتمعةٌ لا تُشكّل منظومة متكاملة كما نصّت الملاحظة الثانية. ويبدو أن المجلات العربية لا تسير في اتجاه اتساق نظام القيم لدى الأطفال(10)، ولا يُشكّل هذا الاتساق هاجساً من هواجسها على الرغم من أهميته في بناء شخصية سليمة للطفل خالية من الصراعات العصابية.

 

ت- إذا دققنا في أمر القيم بعيداً عن تباين المجلات وعزوفها عن طرح منظومة متكاملة لاحظنا الدافع التوجيهي الكامن وراء الاهتمام بالقيم، وكأن المجلات أُنشئت لهدف يتيم هو توجيه الأطفال إلى القيم الإيجابية. وهذا الأمر موضع مناقشة لدى العاملين في حقل ثقافة الأطفال، ولكنه مقبول لديّ إذا تمّ تغيير مركزه. ذلك لأن الدافع التوجيهي قاد إلى التركيز على القيم المعرفية، ومن ثَمّ غدت مجلات الأطفال نسخة معدّلة من المدرسة الابتدائية، أو أنها -في أحسن حالاتها- تُكرّر عملها ولا تسعى إلى التكامل معها بالتركيز على القيم الرئيسة في الشخصية (وهي: الحريّة والثقة بالنفس واحترام الرأي والرأي الآخر..)، أو السعي إلى تنمية الحس البديعي والقدرات الخلاّقة لدى الطفل. بل إنه من العبث الظنّ بأن حشو دماغ الطفل بالمعارف كاف للادّعاء بتقديم عمل جليل في الحقل الثقافي. ذلك لأن العصر الحديث عصر تفجُّر معرفي، ولا بدَّ من أن نربّي الطفل على القيم التي تجعله قادراً على التكُّيف مع عصر متغيِّر ثابت، معتمداً على عقله، منطلقاً من السؤال، باحثاً عن الحقّ، وما إلى ذلك من أمور قادرة على زجّ الطفل في واقعه وتهيئته للمستقبل.

 

ث-يتصل بالأمر السابق ذلك التناقض في الصورة التي ترسمها المجلات للمجتمع العربي. فهي-حين تتحدَّث عن الحاضر-ترسم صورة لحياة ماتعة بهيجة لا يُعكِّر صفاءها شيءٌ من المنغِّصات. ليس هناك، في هذه الصورة، ظلم ولا استغلال ولا قهر، بل هناك عدالة اجتماعية وسعادة وتعاون. غير أن الحديث، حيث ينتقل إلى الجانب القومي والوطني، تبرز فيه فلسطين المحتلّة والنضال في سبيل تحريرها، والعدوان الإسرائيلي على الجولان وجنوبي لبنان، وتكثر في هذا الحديث قيم الشهادة وحب الوطن ونفي العدوان. فيكف تكون الحياة بهيجة في المجلات والأطفال القرّاء يرونها على صورة أخرى في واقعهم المعيش؟.

 

ج-أُضيف إلى ما سبق قوله طغيان الطابع الأدبي على العلمي في المواد التي تنشرها المجلات كلها. وهذا الطغيان موضع سؤال، لأن الطابع الأدبي يعتمد اعتماداً رئيساً على الخيال والعاطفة، في حين يعتمد الطابع العلمي على العقل. والمعروف أن شخصية الطفل حين تفتقر إلى التوازن بين هذين الجانبين تبدو في المستقبل عاطفية غير عقلانية.

 

ح-ثمة ملاحظة أخرى تخصّ الجانب الفنّي في المجلات، هي قدرة اللوحات على تنمية الحس الجمالي لدى الأطفال. والحقّ أن المجلات التي تحدَّثتُ عنها لا تنقصها اللمسات الإبداعية للفنَّانين العرب، ولكنني أتساءل: لماذا تنحو اللوحات كلها منحى واقعياً وتبتعد عن الفنّ التشكيلي الحديث؟. هل يؤثّر ذلك في تربية الطفل على تذوُّق لون جمالي دون آخر؟. ألا يتكرّر الأمر نفسه حين نلاحظ انصراف هذه المجلات إلى الشعر الكلاسي وابتعادها عن الشعر الحديث؟.

 

خ-على أن المشكلة الرئيسة العامة هي اللغة. والسؤال الخاص بها هو: هل اللغة العربية الفصيحة المستعملة في مجلاتنا تلائم الطفل؟. إذا كانت كذلك فما المعيار الذي نقيس به هذه الملاءمة؟. وإذا لم تكن كذلك فما المعيار وما العمل؟. إن هناك تبايناً واضحاً بين المجلات العربية في استعمال اللغة،  وكأن الشيء المشترك بينها هو ضعف معرفة الكُتَّاب بمعجم الطفل العربي، وليس ذلك موضع لوم، لأن هذا المعجم لم يُصْنَع بعد، بل إن الخطوات الأولى في اتجاه هذا العجم، كالرصيد اللغوي المشترك الذي صُنِع بإشراف جامعة الدول العربية، لم تصل بعد إلى الكُتَّاب والقائمين على مجلات الأطفال ليستفيدوا منها في أثناء عملهم.

-2-

تلك حال ثقافة الأطفال في المجلات، فما حالها في الكتب؟. أستطيع، في أثناء الإجابة عن هذا السؤال، التوقُّف عند مصدرين لإنتاج كتب الأطفال: الأول هو القطاع العام الممثَّل بوزارة الثقافة واتحاد الكُتَّاب العرب، والثاني هو القطاع الخاص الممثَّل بدور النشر المحلية والعربية والأجنبية.

 

1-2: أما القطاع العام فليست بين أيدينا قرارات تُنظِّم إنتاج كتب الأطفال فيه، أو تُحدِّد الأهداف المتوخاة منها، والمعروف أن عدد الكتب خاضع للخطّة السنوية للوزارة والاتحاد، وهذه الخطّة تتبع بشكل مباشر ميزانية هاتين الجهتين. وعلى الرغم من أهمية تحديد الأهداف الخاصة بكتب الأطفال فإن الباحث لا يبتعد عن الصواب إذا قال إن هاتين الجهتين الرسميتين لا تملكان تحديداً لأهدافهما الخاصة بإصدار كتب الأطفال، وإنهما رضيتا ببقاء هذه الكتب جزءاً من خطّة نشر كتب الكبار من جهة، وتابعة للمؤلّفين من جهة أخرى، وضمن الأهداف العامة لهما من جهة ثالثة. أما الخطّة فتحدِّدها الميزانية السنوية للوزارة والاتحاد، أيْ أن خطّة نشر الكتب محكومة دائماً بالتبعية للعامل الاقتصادي. وأما المؤلّفون فيكتبون ما يحلو لهم ثم يعرضونه على هاتين الجهتين ويتركون لهما فرصة قبول نشره أو رفضه. وهذا كله يوضِّح شيئين مهمّين: الأول تفاوت عدد الكتب  المنشورة، وبالتالي تحكُّم المؤلفين في عدد الكتب ارتفاعاً وانخفاضاً.

 

فقد كانت وزارة الثقافة تنشر بين 1970-1973 كتاباً واحداً للأطفال في العام، ولكن العدد ارتفع إلى عشرة كتب عام 1974، ثم تدنّى إلى أربعة في عام 1975، ورجع عام 1978 إلى عشرة، ثم ارتفع إلى سبعة عشر كتاباً عام 1979، وثلاثين عام 1980، وأربعة وعشرين عام 1981، ثم تراجع إلى تسعة عام 1982،  وثمانية عام 1984... كما نشر اتحاد الكتَّاب العرب كتاباً واحداً للأطفال عام 1975، ولم ينشر أي كتاب عام 1976، ونشر عام 1977 سبعة كتب، وأربعة عام 1978، وتسعة عام 1980، وخمسة عام 1981، وستة في عامي 1982 و 1983، وعاد إلى كتاب واحد عام 1984، وكتابين عام 1985، وسبعة عام 1986، وأربعة عام 1987، ورجع إلى كتاب واحد عام 1988. هذه الأرقام تدلّ دلالة واضحة على أنه ليست هناك خطّة ثابتة لنشر كتب الأطفال في وزارة الثقافة واتحاد الكُتَّاب. صحيح أن هاتين الجهتين تُحدِّدان في خطّتهما السنوية العدد الذي ستنشرانه من كتب الأطفال، إلا أنهما لا تستطيعان دائماً تنفيذ هذه الخطّة لسبين نراهما يتكرَّران كثيراً، الأول: الخلل الذي يُصيب ميزانيتهما السنوية مما يضطرهما إلى تقليص عدد الكتب في الخطّة، والثاني: إقبال المؤلّفين أو إحجامهم عن تقديم مخطوطاتهم إلى الوزارة والاتحاد، مما يجعل الكتب أقلَّ من الخطّة أو أكثر منها. وقد تؤثِّر عوامل أُخرى في الخطّة، كالأحداث الخاصة بالطفل، كما هي حال العام الدولي للطفل (عام 1979) الذي رفع عدد الكتب الأطفال في الوزارة إلى سبعة عشر كتاباً عام 1979، وثلاثين عام 1980، وأربعة وعشرين عام 1981، وجعل العدد في اتحاد الكُتَّاب في السنوات نفسها: 8-9-5 على التوالي. ذلك لأن هذه الأعوام الثلاثة شهدت إقبالاً من المؤلّفين على تقديم مخطوطاتهم للوزارة والاتحاد، واكبته رغبة الجهتين نفسيهما في الاهتمام بهذه الثقافة الجديدة (آنذاك) تلبية لحاجة العام الدولي ولنموّ الوعي بأهمية الطفولة في حاضر المجتمع العربي ومستقبله.

 

أخلص من الحديث السابق إلى أن ثقافة الأطفال المستمدّة من الكتب في سورية حَكَمَها عاملان رئيسان، هما العامل الاقتصادي والعامل الفردي الخاص بالمؤلّفين. كما أن مهمّة الجهتين الرسميتين اقتصرت على رقابة الكتب وإصدارهما. ولا أُقلّل من أثر وزارة الثقافة واتحاد الكتَّاب في ثقافة الأطفال في سورية من خلال رقابتهما كتب الأطفال، وسعيهما إلى إصدارها، ولكنني أصف حالهما، وأرغب في الإشارة إلى الخطر الذي تجرُّه التبعية للعامل الاقتصادي. فهذه التبعية هي التي قادت الجهتين المذكورتين في بعض السنوات إلى تقليص عدد كتب الأطفال، أو التلكّؤ في إصدارها. يؤكّد ذلك ما جرى في السنوات نفسها من تقليص عدد صفحات مجلة أسامة وتلكّؤ إصدارها وإصدار كتاب أسامة الشهري. وقد تجلّت التبعية للعامل الاقتصادي في شيء آخر هو إخراج كتب الأطفال على هيئة كتب الكبار، سواء أكان الأمر يتعلّق بالحجم الصغير للكتاب أم يتعلّق بخلوّه من الشكل والهمزات واللوحات المناسبة للنصوص. وهذه القضايا ليست شكلية، لأنها مرتبطة بالطفل المتلّقي. فطفل المرحلة العليا يقبل الحجم الصغير، ولكن طفل المرحلة الثانية يحتاج إلى الحجم الكبير. كما أن أسلوب الطباعة مرتبط بتنمية اللغة لدى الطفل القارئ، كما ترتبط اللوحات بتنمية الحس الجمالي لدى الطفل إضافة إلى مساعدته على فهم الرموز واللغوية التي يقرؤها (11). وتختلف كتب اتحاد الكُتَّاب العرب قليلاً عن كتب وزارة الثقافة في أمور الطباعة واللوحات، وتلتقيها في الحجم الصغير. فقد حرص الاتحاد على الضبط بالشكل، وبالغ أحياناً فضبط النص ضبطاً كاملاً، وكلَّف  فنَّانين برسم لوحات للكتب، ولكنه لم يبذل من المال ما يكفي لتقديم لوحات فنيّة جيّدة تُنمّي الحس الجمالي للطفل القارئ، وعزف عن وضع هذه اللوحات إلى جانب الرموز اللغوية المعبِّرة عنها مما جعلها ضعيفة التأثير في الطفل. ولم تقتصر التبعية للعامل الاقتصادي على هذه الرموز، بل امتدّت إلى عدد النسخ المطبوعة من كل كتاب، بحيث لم يكن العدد في أحسن حالاته يتجاوز خمسة آلاف نسخة، مما جعل كتب الوزارة والاتحاد عاجزة عن سدّ الحاجات الثقافية للأطفال في سورية. وزاد الطين بِلَّة سوء التوزيع، وإنْ تمكَّن الاتحاد في السنوات الأخيرة من التخفيف من الأثر السلبي لهذا الأمر بعقد اتفاق مع وزارة التربية نصَّ على شراء ثمانية آلاف نسخة من كل كتاب، مما جعله يرفع عدد النسخ المطبوعة إلى اثني عشر ألف نسخة، وهو أعلى رقم بلغه كتاب للأطفال في سورية. وحين عُطِّل الاتفاق رجع عدد النسخ المطبوعة إلى حاله السابقة مباشرة.

 

إذا تركنا العامل الاقتصادي واجهتنا طبيعة الكتب التي نشرتها الجهتان المذكورتان. والحديث عن هذه الطبيعة ذو شجون، ولكنني قادر على اختزالها في أمرين: أمر الكتب المترجمة وأمر الكتب الموضوعة باللغة العربية. أما الكتب المترجمة فتنفرد وزارة الثقافة بها وإنْ نشرت عدداً لابأس به من الكتب الموضوعة باللغة العربية. والحقّ أن الفضيلة الأولى لوزارة الثقافة في حقل كتب الأطفال هي جعل جانب من أدب الأطفال العالمي في متناول الطفل العربي. إذ قدَّمت له بعض مؤلَّفات اينيد بلايتون الانكليزية، ودي سيغور الفرنسية، والأخوين غريم الألمانيين، وأندرسن الدانماركي، وكاراليتشف البلغاري.... بيد أن هذه الفضيلة لم تكتمل، لأن الوزارة افتقرت إلى خطّة ناظمة لترجمة أدب الأطفال. ويتضح الخلل والخطر النابعان من غياب الخطة إذا لاحظنا أن الترجمة تمّت بالدرجة الأولى عن الفرنسية، ثم الانكليزية والروسية(12)، وكان هناك إهمال للغات العالمية الأخرى كالإسبانية والإيطالية والألمانية، مما ينسجم والتشوُّه في حركة الترجمة في سورية، ويعكس علاقات الهيمنة وعدم التكافؤ السائد في العلاقات الثقافية الدولية(13)، ويرسِّخ التبعية الثقافية. وتبرز هنا قضية تحكُّم المترجمين في طبيعة أدب الأطفال المترجم، وخصوصاً اختيار الكتب المترجمة التي تفتقر إلى التكامل في تقديم صورة سليمة لأدب الأطفال في العالم، والترجُّح بين ترجمة الأدب الكلاسي وترجمة الأدب المعاصر، مما طرح مشكلة تلاؤم المختار من هذه الكتب مع الأهداف العامة للتربية في سورية وطبيعة المجتمع العربي.

 

وما هو أكثر خطراً مستوى المترجمين باللغة العربية. فمجموعة (الأرنب المخملي) التي ترجمتها رباب هاشم-على سبيل التمثيل لا الحصر-تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الصوغ الفنّي، وإلى التماسك في التراكيب، والدقّة في اختيار الألفاظ(14). كما تطرح مجموعة (الأرنب والتمساح) لاينيد بلايتون قيماً سلبية موشَّحة بلبوس فنّي شائق، تغرس في الطفل القارئ نزعات فردية ذاتية من خلال عنايتها بنموذج الماكر الفائز بلذاذات الحياة دون عقاب على الذنوب التي اقترفتها يداه كما وضَّحتُ سابقاً، ولعل حلّ قضية أسلوب الترجمة وسوء الاختيار يقع على عاتق وزارة الثقافة كما يقع عليها عبء الإخراج الفنّي للكتب بحيث تلتفت إلى التقليل من عدد النصوص في الكتاب الواحد، وتُكْثِر من  عدد اللوحات الملوَّنة، وتجعل بنط الحرف كبيراً مضبوطاً بالشكل ضبطاً تدريجيّاً(15).

 

أما الكتب الموضوعة أساساً باللغة العربية فيمكن الاطمئنان إلى جودة مضمونها والتزامه. ولكن الثقافة التي طرحتها هذه الكتب أدبية وليست علمية، ولولا بعض  كتب الخيال العلمي لقلتُ إن العلم لا أثر له في الثقافة المستمدّة من الكتب في سورية. واللافت للنظر أن تفتقر الكتب الأدبية نفسها إلى التوازن، إذ إنها قصصية في الغالب الأعم، ومسرحية وشعرية في الندرة، حتى إن الباحث لا يخطئ حين ينصّ على أن الثقافة الأدبية في سورية هي ثقافة قصصية. ولا يظنّنَّ أحد أن هذه الثقافة القصصية تخلو من المشكلات الداخلية. فهي تعاني من مشكلة القيم التي سبقت الإشارة إليها غير مرّة، وخصوصاً التركيز على القيم المعرفية. وقد ثبت لي من خلال تحليل المحتوى القيمي في ثماني مجموعات قصصية(16) أنْ ليس هناك اختلاف ذو دلالة إحصائية بين نتائج دراسة القيم في قصص الأطفال المطبوعة في كتب الأطفال المطبوعة في المجلات(17).

 

ثم إن الثقافة القصصية تعاني من الخلل في المفهومات التي تساعد على تطوّر العالم الروحي للطفل، وتنمّي قدرته على التفكير والشعور، كحب الناس والحيوانات والطبيعة والشعور بالصداقة والعرفان بالجميل وحب الاطلاع، أو الأشكال التي تظهر فيها الحياة، كالخير والشرّ، والكذب والحقيقة، والشجاعة والجبن، أو كل ما يغني روح الطفل ويمدّه بغذاء فكري ذي مستوى رفيع، ويُربّي فيه الشعور بالجمال والحافز على النضال في سبيل تحقيق المثل العليا(18). وأبرز هذه المفهومات الأنسنة والمفهوم الأسطوري والمفهوم الإنساني ومفهوم الطفولة. فمفهوم الأنسنة يعني خلع صفة الحياة على الحيوانات وأشياء الطبيعة بغية تفسيرها وتعليل تصرُّفاتها وصورها الخارجية وطباعها. ويستند هذا المفهوم إلى ضعف ارتباط الطفل بالواقع، ولكن القاصين بالغوا في الاهتمام به، فجعلوا أشياء الطبيعة والحيوانات رموزاً تحمل أفكارهم وعالمهم إلى الأطفال، وكأن هؤلاء القاصين يقولون عن طريق الحيوانات وأشياء الطبيعة ما لم يستطيعوا قوله في كتاباتهم الموجَّهة إلى الكبار. أما المفهوم الأسطوري فهو الاعتماد على الخيال في خلق شخصيات لا أساس لها في الواقع كالساحرات والعمالقة والأشباح وغير ذلك مما يؤمن الطفل بوجوده في الواقع. ولم تحسن القصص تطوير النظرة التقليدية إلى هذا المفهوم، فطرحت شخصيات أسطورية تبث الرعب في الطفل، ولم تطرح شخصيات أسطورية إيجابية تناضل في سبيل النهوض بالمجتمع ورفع الظلم والاستغلال عن أبنائه. كذلك الأمر بالنسبة إلى المفهوم الإنساني ومفهوم الطفولة، إذ يعني الأول تعلُّم الأطفال من خلال القصص أساليب مواجهة الحياة مع الانحياز إلى الجانب الإنساني فيها. كما يعني الثاني الحرص على طرح انطباعات معيّنة عمّا يجري في بيئة الطفل حتى إذا تكوَّنت طباعه جاء تكوينها سليماً، ويعني أيضاً الإفادة من المفهومات الشائعة في علم نفس الطفل من نحو: خالفْ تُعْرَفْ-أهمية التعريف بالبيئة المحيطة-التمركز حول الذات-وما إلى ذلك من أمور لم تُحسن الثقافة القصصية الإفادة منها، فطرحت حياة بهيجة وتركت الطفل يعيش فيها ثم يواجه حياة مغايرة في واقعه دون أن يملك ما يساعده على تعليل التناقض بينهما.

 

2-2: هناك كتب أخرى للأطفال طرحتها في السوق المحلية السورية دور نشر خاصة محلية وعربية، ودور نشر أجنبية أبرزها دار التقدُّم بموسكو. وليس هناك ناظم واحد لكتب هذه الدور المختلفة، إلا أن الباحث قادر على ملاحظة شيء مشترك بينها أغفلته وزارة الثقافة كما أغفله اتحاد الكُتَّاب، هو العناية بإخراج كتب الأطفال، سواء أكان الأمر يتعلّق بالحجم أو نوع الورق أم الطباعة المشكولة أم تعدُّد اللوحات وفنّيّتها. أما المضمون فمختلف جداً بين هذه الدور. فهناك مضامين سلبية وأخرى إيجابية بحسب وعي القائمين على الدار وبعدهم أو قربهم من الهدف التجاري. ويستطيع الباحث تمييز الدور الجيّدة كداري الفتى العربي والنورس في لبنان، ودار نشر منظمة الطلائع في سورية، وداري التقدُّم ورادوغا بموسكو. إذ تُعَدّ الكتب الصادرة عن هذه الدور نموذجاً للدّقة شكلاً ومضموناً. ويمكن القول إن التي كانت ترد إلى سورية من الاتحاد السوفييتي السابق تُعَدّ نموذجاً للكتب المترجمة يستحق أن يُحْتَذى. فقد عُنيتْ دار التقدُّم ودار رادوغا بكتب الأطفال ابتداءً بحجمها وانتهاءً بأدقّ جزئيّات طباعتها. كما كانتا تنتقيان نصوصاً للأطفال كتبها أدباء ومؤلّفون معروفون، وتعطيها لأديب يتقن الروسية والعربية إضافة إلى اختصاصه بالحقل الذي يترجم فيه، ثم تُعْنَى بلوحاتها وطباعتها وتُصدِّرها إلى البلاد العربية بثمن بخس(19). كما يمكن عدّ الكتب العلمية المبسَّطة التي نشرتها منظمة طلائع البعث نموذجاً للكتب التي تُزوّد الطفل بزاد علمي ملائم. ولابدّ من الإشارة إلى اتجاه دار النورس إلى نشر الكتب القصصية التي تلائم أطفال المرحلة العمرية الثانية، واتجاه دار الفتى العربي نحو نشر الحكايات التسجيلية(20)، وهذان الاتجاهان يعدّان تعديلاً للاتجاه السائد وسدّاً للنقص فيه.

 

-3-

أخلص من التحليل السابق إلى نتائج تُوضِّح طبيعة تكوين ثقافة الأطفال في سورية من خلال الكتب والمجلات. ويمكن اختزال هذه النتائج في النقاط الآتية:

 

1-إن ثقافة الأطفال في سورية من خلال الكتب والمجلات ثقافة جادة ملتزمة، تشغلها مهمّتان رئيستان هما: المهمّة المعرفية والمهمّة القومية. أما المهمّة الأولى المعرفية فتعكس الفهم العام للطفل لدى القائمين على شؤون ثقافته، ومفاد هذا الفهم أن الطفل راشد مصغَّر يحتاج إلى تعليم ورعاية من الكبار. ولا يختلف هذا الفهم بين الجهات الرسمية والخاصة، مما ينمّ عن أنه راسخ في الوجدان الجمعي للمجتمع، وعن أن علم نفس الطفل لم يستطع، بعد، التغلغل في هذا الوجدان الجمعي بغية تعديل رؤيته الطفل وتغيير مضمون الخطاب الثقافي الموجَّه إليه. وأما المهمّة القومية فتعكس طبيعة المجتمع والسياسة في سورية، وهي طبيعة قومية تنفر من أي اتجاه قطري. ولئن كانت انعكاساً بديهياً لظروف المنطقة العربية في صراعها مع العدو الإسرائيلي، فإن جذورها راسخة في المجتمع العربي السوري ابتداءً من عام 1937. إذ كانت سورية، بعد تصديق البرلمان على المعاهدة السورية الفرنسية التي نصّت على الاستقلال، أول دولة عربية تُقيم معاهدة تجارية مع دولة عربية أخرى هي العراق. وهذا يعني بالنسبة إليَّ أن المجتمع ينقل إلى الأطفال بوساطة الكتب والمجلات الثقافة القومية التي يُحبِّذها ويراها جزءاً من هويّته وآماله.

 

2-إذا كانت المهمّتان المعرفية والقومية تعبيرين واضحين عن أن الراشد يريد أن يصنع الطفل على هيئته ومثاله، فإنه يسهل بعد ذلك تعليل النزعة التوجيهية المسيطرة على الكُتَّاب، وسيادة الطرح المباشر للقيم في النصوص المنشورة في الكتب والمجلات. ذلك لأن الراشد-وهو محقّ في أن ثقافة الأطفال لا تنفصل عن ثقافة الكبار- تقمَّص موقف المعلّم وراح يعظ الطفل ويُعلّمه الحقائق ويربِّيه على القيم السامية. وقد فاته أن المعلّم مضطر إلى هذا الأسلوب داخل المدرسة الابتدائية، وأن الطفل يعي ذلك ويقبله على مضض، ولكنه لا يقبل الموقف نفسه من الكاتب في المجلة والكتاب لأنه ليس مجبراً على القراءة. وإذا كان مجتمع الأسرة والأقران يضغط على الطفل ويجبره على دخول المدرسة، فإن الثقافة خارج المدرسة فعل حرّ لا يُجبره عليه أحد. ومن ثَمَّ تكمن العلّة في المرسِل ولا تكمن في الرسالة. أو هي تكمن في الراشد الذي لا يملك الوسيلة ولا يعرف الطفل المتلّقي لها، ولا تكمن في المهمّتين المعرفية والقومية المراد تربية الطفل عليهما من خلال الثقافة التي تبثها الكتب والمجلات. وهذا كله يُحدِّد ثغرتين لابدَّ من ترميمهما إذا رغبنا في أن تُؤدَّى المهمّتان المعرفية والقومية اداء سليماً لتصبح قيمهما دافعاً إلى سلوك الطفل. الثغرة الأولى هي التدقيق في طبيعة الثقافة، والثانية معرفة الطفل المتلقّي.

 

3-تهمّني من معرفة الطفل المتلقّي قضية رئيسة هي أن الثقافة لا تُصبح جزءاً من سلوك الطفل إذا لم تتمكّن من إقناعه والتأثير فيه. فإذا راحتْ تعظه وترشده نفر منها وأهملها. ولا تستطيع الثقافة توفير التأثير والإقناع إذا لم تكن ماتعة يحبها الطفل ويُقْبِل عليها لما يجد فيها من متعة وتشويق. ولا سبيل إلى توفير الإمتاع والتأثير والإقناع إذا لم تكن الثقافة مخلصة لطبيعتها، وهي هنا طبيعة فنّية، لأن النصوص السائدة في الكتب والمجلات أدبية الطابع. وهذا هو الفارق الأساسي بين ثقافة المدرسة وثقافة الكتب والمجلات. فالأولى تلجأ إلى الوسائل المباشرة كالتلقين والحضّ والإرشاد والمنع والترغيب والترهيب، في حين تعاف الثانية ذلك وتروح تُعبِّر عن وظيفتها بوساطة الفن. إنها ثقافة تنقل المعارف والقيم بشكل ضمني غير مباشر، بوساطة الحكاية الشائقة(21)، والحبكة الماتعة، والبطل القريب من عالم الأطفال والحوادث المستمدّة من البيئة، وما إلى ذلك من أمور الصوغ الفنّي للثقافة القصصية. ولا شك في أن الطبيعة للثقافة تختلف باختلاف الجنس الأدبي، فهي في الشعر صورة مجنَّحة، ونغم حلو، ولفظ رشيق مأنوس، وهي في المقالة تعبير دقيق عن الفكرة، وعرض منطقي للمعلومات والأفكار. وهي في المسرحية صراع واضح بين الشخصيات، وحوار وظيفي معبِّر. وليس الغرض هنا تحديد الطبيعة الفنيّة للثقافة(22)، ولكنني أودّ تأكيد طبيعتها الضمنية غير المباشرة في التعبير عن وظيفتها، سواء أكانت هذه الوظيفة معرفية أم قومية أم اجتماعية أم غير ذلك. فثقافة الأطفال المستمدّة من الكتب والمجلات لم تعر طبيعة الثقافة ما تستحق من تدقيق، ولم تُقِمْ توازناً بين وظفتها وطبيعتها، وهي قبل ذلك كله لم تسأل نفسها عن الطفل الذي تتوجَّه إليه: ما حاجاته ورغباته وميوله؟ ماذا يحب وماذا يكره؟ ماالذي يلائمه وما الذي لا يستطيع التواصل معه؟ كيف يتم تقديم الثقافة إليه؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تضمن للقائمين على ثقافة الأطفال في سورية وفي غيرها من الدول العربية معرفة مقبولة بالطفل، وتُحدِّد لهم الأسلوب الملائم للتأثير فيه وإقناعه وإمتاعه.

 

4-إذا كان التركيز على الجانبين المعرفي والقومي كافياً لوصف ثقافة الأطفال في سورية من خلال الكتب والمجلات بأنها ثقافة جادة ملتزمة، فإنه ليس كافياً لوصفها بالشمولية. ذلك لأن التركيز على هذين الجانبين لا يعني شيئاً خارج سيادة قيمهما على قيم أخرى لابدَّ منها لتكوين شخصية الطفل السليمة. ولا أشك في أن ثقافة الأطفال طرحت قيماً أخرى اجتماعية وترويحية وجسدية واشتراكية واقتصادية، إلا أنها غفلت عن أن القيم تُشكِّل منظومة لابدَّ منها مجتمعةً إذا رغب القائمون على ثقافة الأطفال في سورية في وصف عملهم بالشمولية التي تقود إلى بناء جوانب الشخصية كلها بناءً متوازناً. والحقّ أن هذه المنظومة مازالت غائبة على الرغم من وضوح الأهداف العامة للتربية. وليس هناك تعليل مقبول لغيابها غير ضعف الثقافة التربوية للقائمين على ثقافة الأطفال ومنتجيها. وإذ1 تذكَّرنا هنا أن الطابع العام لثقافة الأطفال في سورية هو الطابع الأدبي وليس الطابع العلمي، أدركنا جانباً آخر من الخلل في القيم المطروحة على الطفل، هو سيادة الحقائق الاحتمالية وضعف الحقائق اليقينية. ذلك لأن الحقائق الأدبية احتمالية دائماً، في حين تتصف الحقائق العلمية باليقينية النسبية، مما يشير إلى أننا نُكوِّن ثقافة الوجدان ونكاد نهمل ثقافة العقل،  فننمّي جانباً من شخصية الطفل على حساب جانب آخر لا يقلّ عنه أهميّة وأثراً في البناء السليم للشخصية. بل إننا لا ننمّي الجانب الذي نهتمّ به تنمية شاملة لأننا نفتقر إلى معرفة كافية بمنظومة القيم.

 

5-ثم إن ثقافة الأطفال في سورية من خلال الكتب والمجلات ثقافة مرحلة عمرية واحدة هي المرحلة العليا (9-12سنة)، وليست ثقافة الأطفال بالمعنى الدقيق الذي يشمل المراحل العمرية الثلاث. ولا شك في أن العمل الثقافي مع أطفال المرحلة العليا أكثر سهولة من العمل الثقافي مع أطفال المرحلتين الأولى والثانية، لأن أطفال المرحلة العليا يتقنون آلية القراءة وهي الوسيلة الرئيسة في الكتب والمجلات، ولأن ميول هؤلاء الأطفال أكثر وضوحاً للقائمين على الكتابة والإشراف من ميول أطفال المرحلتين الأخريين. إلا أن ذلك لا يحجب عنا مسوِّغاً موضوعياً آخر هو أن التكلفة الاقتصادية للإنتاج الثقافي الموجِّه إلى أطفال المرحلتين الأولى والثانية أكثر ارتفاعاً، لاعتماد هذا الإنتاج على الصورة بدلاً من الكلمة، وعلى التقنيات الطباعية الخاصة بدلاً من التقنيات العامة المألوفة. ونحن في حال تبعية ثقافة الأطفال للعامل الاقتصادي لا نستطيع توفير المال الكافي لإنتاج الثقافة المناسبة لأطفال المرحلتين الأوليين. ومن ثَمَّ نضطر إلى جَعْل ثقافة الأطفال ثقافة مرحلة عمرية واحدة، كما نضطر في أحايين كثيرة إلى تقليص ثقافة هذه المرحلة العليا إذا تقلَّصت الميزانية.

 

6-ومن المفيد القول إن ثقافة المرحلة العليا تعاني من نقص لابدّ من العمل على تلافيه. وكنتُ أشرتُ إلى شيء من هذا النقص حين تحدَّثتُ عن افتقارنا إلى منظومة متكاملة للقيم، وإلى عدم التوازن بين الأجناس الأدبية، وإلى غلبة الطابع الأدبي على الطابع العلمي، وإلى ضعف المفهومات الداخلية المستمدّة من حاجات الطفل ورغباته، وإلى سيطرة النزعة التوجيهية. وأستطيع هنا الإشارة إلى جوانب أخرى كافتقارنا إلى خطّة متكاملة للترجمة من الثقافة الأجنبية، وإلى ابتعادنا عن الواقع، وتناقض طرحنا بين الحياة البهيجة في الكتب والمجلات وما يضمّه الواقع من شؤون وشجون، وضعف معرفتنا الطفل المتلقّي. ولا شك في أن هذه النواقص تُعبِّر عن أن العمل مع الأطفال في الحقل الثقافي مازال اجتهادياً ولم يُصبح بعد عملاً علمياً تقوده استراتيجية واضحة محدَّدة شاملة، تنبع منها أهداف ملائمة تُزوِّد الطفل بثقافة مناسبة وتُعِدّه لدخول مرحلة المراهقة.

 

وبعد، فتكوين ثقافة الأطفال من خلال الكتب والمجلات ليس معزولاً عن المؤثِّرات، فهو خاضع سلباً وإيجاباً لتأثيرات التربية النظامية المدرسية في ترسيخ عادة المطالعة لدى الأطفال، والتحدّي الذي تواجهه الكلمة المقروءة في الكتب والمجلات من التلفاز، وسوء توزيع الكتب والمجلات، وضعف الإيمان في المجتمع الاستهلاكي بجدوى الثقافة، وفقدان التكامل بين الجهات العاملة في حقل ثقافة الأطفال. وهناك، دائماً، مؤثِّرات إيجابية إلى جانب المؤثِّرات السلبية، تبدو ضعيفة أوّل وهلة، ولكنها تملك التفاؤل والعمل الدؤوب والإيمان بثقافة الأطفال، مما يزوّدها بالقوة لمجالدة الصعاب، ويؤهّلها للتبشير بمرحلة جديدة في تكوين ثقافة الطفل العربي. وهذه المرحلة الجديدة تعالج أدواء الحاضر، وتسعى إلى إعداد الطفل العربي للمستقبل. ولابدَّ-في هذه الحال- من وضْع الصوى أمام الثقافة المستقبلية التي سنجعلها موضوع المعالجة في الفصل لتكتل استراتيجية تثقف الطفل العربي.

الإحالات:

(1): انظر مناهج المرحلة الابتدائية (القرار 1285-تاريخ17/9/1967) وزارة التربية- دمشق 1973.

(2): القرار رقم 160- تاريخ 19/3/1969.

(3): انظر ص 222 من: حاتم، دلال-صحافة الطفل، قياس الشكل والمضمون-محاضرة في حلقة بحث (جمهور الأطفال والثقافة)-الرقة 1985.

(4): المرجع السابق نفسه- ص 224/225 (بتصرف).

(5): ماعدا عام 1980 الذي نشرت فيه أربعة عشر مسلسلاً.

(6): انظر ص 80 وما بعد من: الفيصل، سمر روحي-ثقافة الطفل العربي-اتحاد الكتاب العرب-دمشق 1987.

(7): تحديد نهاية هذه المرحلة بالثالثة عشرة للمشرفين على المجلة. انظر ص 191 من: زهدي، ياسين-قياس قوة التأثير على جمهور الأطفال قبل الإصدار-محاضرة في حلقة بحث (جمهور الأطفال والثقافة)-الرقة 1985.

(8): المرجع السابق نفسه- ص190/191 (بتصرف وإيجاز).

(9): تحديد نهاية هذه المرحلة بالرابعة عشرة للمشرفين على المجلة. انظر مقدمة العدد التمهيدي من مجلة العربي (صفر-1)-تشرين الأول 1985.

(10):للتفصيل انظر مشكلة القيم في ص 9 وما بعد من: الفيصل، سمر روحي-مشكلات قصص الأطفال في سورية- اتحاد الكتاب العرب-دمشق 1981.

(11):انظر تفصيلات وافرة عن هذه الأمور في المرجع السابق- ص79 وما بعد.

(12):نص عبده عبود على أن وزارة الثقافة ترجمت في خمس سنوات (1981/1985) واحداً وخمسين كتاباً، منها 33 عن الفرنسية، و6 عن الانكيزية، و5 عن الروسية. انظر اقتراب أولي من أدب الأطفال المترجم في سورية-مجلة الموقف الأدبي-العدد 208/209/210-تشرين الأول 1988.

(13): المرجع السابق -ص 26.

(14): انظر القصص المترجمة في ص70 وما بعد من: الفيصل، سمر روحي-مشكلات قصص الأطفال في سورية.

(15): المرجع السابق نفسه- ص72/73.

(16):المرجع السابق نفسه- ص 11 وما بعد.

(17): راجع نتائج الدراسة في المرجع السابق نفسه -ص 15 وما بعد.

(18): انظر ص 21من: ميخالكوف، سرغي-كل شيء يبتدئ من الطفولة-دار التقدُّم- موسكو 1978.

(19): من الأمثلة على ذلك: ماذا يرسم هؤلاء؟ لفياتشلاف ليخكوبيت، ترجمة: بكر يوسف، الأسد والكلب لتولستوي، ترجمة: غائب فرمان. عمي النمر لفاسيليفيسكايا، ترجمة بكر يوسف.

(20): انظر دراسة هذه الحكايات في ص135 وما بعد من: أبوهيف، عبد الله-أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً- اتحاد الكتاب العرب-دمشق 1983.

(21): خصًّ الدكتور عبد الرزاق جعفر الحكاية في أدب الأطفال بكتاب مستقل عنوانه: الحكاية الساحرة-اتحاد الكتاب العرب-دمشق 1985.

(22): لتفصيل الحديث عن الموقف الفني في معالجة الموضوع القومي في ثقافة الأطفال انظر ص 104 وما بعد من: أبوهيف، عبد الله-أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً.

 

 

 

الفصل الثاني: الثقافة المستقبليّة

 

الحديث عن الثقافة المستقبليّة للطفل العربي نبوءة تنطلق من المعرفة العلمية لطبيعة ثقافة الطفل العربي في الحاضر ووظيفتها، ومن إدراك لطبيعة الثقافة العربية واتّجاهاتها وظروفها الموضوعية. وهذا يعني أن النبوءة هنا ليست رجماً بالغيب، بل هي وظيفة علمية نابعة من التحليل والاستقراء والاستنتاج. ولئلا يكون هناك لبس أقول إنني أقصد بالثقافة المستقبلية للطفل العربي ذلك المركَّب الثقافي الجديد الذي يكتسبه الطفل العربي، ويبني بوساطته شخصيّته القادرة على بناء المجتمع العربي الإسلامي الجديد والإسهام في الحضارة الإنسانية. ذلك أن الثقافة شيء مركَّب وليس بسيطاً، يشمل الفنون والآداب والعلوم والتقاليد والمهارات والقيم. وليس المراد بالثقافة المستقبلية للطفل العربي إلغاء المركَّب الثقافي السائد، بل المراد تجديده ليلائم المستقبل العربي. ولا أدَّعي أنني أملك منهجاً متكاملاً لتجديد ثقافة الطفل العربي، بل أدَّعي الإسهام في هذا المنهج ببعض الآراء النابعة من خبرتي ومعرفتي بما قدَّمه الباحثون.

 

لا أعتقد، بادئ ذي بدء، بأن هناك اختلافاً حول الهدف العام الذي تسعى ثقافة الطفل العربي إلى تحقيقه، وهو إتاحة الفرصة للطفل ليعيش طفولته، وينمّي شخصيّته، ويتكيّف مع مجتمعه. ذلك أن الدول العربية-على اختلافها وتباينها -تبنّتْ هذا الهدف العام، ووكلتْ إلى (التربية) أمر تحقيقه، وسمحت للمدارس الخلفية كوسائل الإعلام والمراكز الثقافية والنوادي بالإسهام في ذلك من خلال المجلات وبرامج التلفاز وقاعات المطالعة والنشاطات الرياضية والمسابقات العلمية والفنيّة وما إلى ذلك. ومهما تكن ملاحظات الباحث فإن الشيء الذي لا تخطئه عين في الدول العربية كلها هو الإنفاق الكبير على التربية، وعلى صُنْع مسلسلات الأطفال واستيرادها، وعلى إصدار مجلات الأطفال وكتبهم، وإنشاء حدائق الألعاب وقاعات المطالعة لهم، وعقد الندوات وحلقات البحث الخاصة بتربيتهم وثقافتهم. وهذا كله يدلّ، أوّل وهلة، على أن الدول العربية بدأت تعترف بأن ثقافة الطفل العربي (إحدى الثقافات الفرعية في المجتمع، تنفرد بمجموعة من الخصائص والسمات العامة، وتشترك في مجموعة أخرى منها) (1). أو فلْنَقُلْ إن هذه الدول بدأت تعترف بحاجات الطفل العربي الثقافية، وتروح تُلبيّها في حدود إمكاناتها الماديّة.

 

بيد أن ذلك لا يعني أن الدول العربية تُخطّط لمدِّ الطفل العربي بالزاد الثقافي، بل يعني الاعتراف بثقافة الطفل والسعي إلى سدّ حاجاتها. أما التخطيط لهذه الثقافة فلا وجود له. بل إن الدول العربية لا تمتلك، بعدُ، منهجاً أو تصوُّراً علمياً لتنمية الثقافة في مجتمعاتها، لأنها مازالت حائرة في موضوع بسط سلطانها على الثقافة. ويمكنني توضيح هذه الحيرة من خلال الأسئلة الآتية: هي يعني التخطيط للثقافة رغبة السلطة في تحديد مضمون ثقافة رسمية تريد فرضها على الناس كلهم؟ هل يعني ذلك رغبتها في ضبط النشاطات الثقافية؟ أو يعني إدخالها العمل  الثقافي في إطار سياستها الوطنية؟ أو يعني أنها تُقدِّر الثقافة وتخاف أن تنمو في اتجاه معاد لها؟. فإذا افترضنا أن السلطات العربية تريد ثقافة رسمية ضمن سياساتها الوطنية، وأنها راغبة في ضبط النشاطات الثقافية لمعرفتها تأثيرها في الاتجاهات السياسية أولاً وفي التنمية الاجتماعية بعد ذلك، فإن نهاية هذا الافتراض ستكون السؤال الآتي: هل تستطيع السلطة أن تنوب عن القدرة الإبداعية الخلاّقة للأفراد فتغدو- هي ذاتها- منتجة ثقافية؟. وإذا وضع الباحث افتراضاً معاكساً مفاده أن السلطات العربية تركت العمل الثقافي بعيداً عن تخطيطها وتنميتها ورقابتها، وجعلته حرّاً ينهض به الأفراد بحسب اتجاهاتهم الاجتماعية والسياسية، فهل تستطيع التَّنصُّل من مضمون الثقافة في البيئات التي تسيطر عليها مادامت ضامنة النظام الاجتماعي والسياسي فيها؟ (2). يخيَّل إليَّ أن حيرة الدول العربية في مواجهة الثقافة هي التي شجَّعت على سيادة مفهوم أحادي للتنمية ذي بُعْد واحد هو البعد الاقتصادي. ومن ثَمَّ لم تعد هذه الدول تضع خططها استناداً إلى جامعة المجتمع الثقافية، بل أصبحت تضعها استناداً إلى مواردها الاقتصادية، مما دفع وسائل الإعلام في كل دولة إلى أن تُقدِّم للناس ما له علاقة باللهو والمتعة ليتجدَّد نشاطهم ويتمكّنوا من الإنتاج الاقتصادي. كما دفعها إلى إلحاق ثقافة الطفل بالمؤسسات الثقافية على هيئة تابع صغير ليست لديه مشكلات نوعيَّة. فكتب الأطفال أُنيطت بوزارة الثقافة، وبرامج الأطفال ومسلسلاتهم بوزارة الإعلام، وحدائق الألعاب بوزارة الإدارة المحليّة أو البلديات... وهكذا يبدو الاعتراف الرسمي بثقافة الطفل العربي مجرّد شكل تستكمل الدول العربية بوساطته الدعاوة الإعلامية بالتقدُّم والازدهار.

 

وإذا كان فقر الدول العربية إلى الخطط الخاصة بثقافة الطفل أمراً مؤسفاً، فإن اعتمادها الأساسي على التربية في تثقيف الطفل العربي أمر يدعو إلى أسف لا ينقضي. ويصدق ذلك أيضاً على سماحها للمدارس الخلفية بعون التربية على تثقيف الطفل.. فالملاحظ، أولاً، أن عمل التربية لا يتكامل مع عمل المدارس الخلفية، فما تغرسه المدرسة تنقضه الأسرة، وما تزرعه الأسرة ينتزعه التلفاز، وما يُقدِّمه المركز الثقافي يسلبه الشارع،  لاتكامل بين هذه المؤسسات لأن كلاً منها مغلق على نفسه، راض بتبعيّته لإدارته العليا، غافل عن الآثار المدمِّرة في شخصيّة الطفل. ولو نظرنا إلى الأمر نفسه نظرة عربية شاملة لاكتشفنا شيئاً ذا بال، هو أن المؤسسات التربوية العربية على اختلافها وتباينها تشترك في سعيها إلى جعل الطفل العربي يمتص ثقافة مجتمعه السائدة بعيداً عن تنمية شخصيّته الفردية، وكأن المهمّة التي أُنيطت بوزارات التربية هي (نقل الثقافة السائدة) إلى الطفل ليس غير. ولعل أبرز مساوئ هذا النقل العناية الفائقة بالمعارف، فكلما زادت معارف الطفل اندمج بمجتمعه وتحلّى بالسلوك المرغوب فيه. ولأن الدولة تنفق على التربية فقد أباحت لنفسها السيطرة عليها من خلال تثبيتها الثقافة السائدة في المناهج التربوية. ففي الثقافة السائدة تقديس للماضي تعيد التربية إنتاجه بتقديم الماضي محترماً إيجابياً لا رائحة فيه لأية سلبية، وهكذ1 تبدو التربية العربية عاجزة عن تنمية قدرات الطفل العليا كالتحليل والنقد والاستنباط والاستنتاج والاستقراء والموازنة، عاملة على خلق شخصيّة تابعة راضية بحاضرها وماضيها بعيدة عن التفكير في مستقبلها في عالم متغيّر. وهذا لا يعني أن التربية العربية شرٌّ كلها، بل يعني أن واقعها الراهن لا يساعدها على تحقيق وظائفها الأساسية، وخصوصاً بناء الشخصية الأخلاقية الابتكارية المتوازنة للطفل العربي، لأنها غارقة في الثقافة الجامدة، غير معنيّة بالثقافة الديناميّة المتغيّرة.

 

إن واقع ثقافة الطفل العربي لا يدعو إلى التفاؤل، ولكنه دليل لا يرقى إليه الشك على الحاجة إلى ثقافة مستقبلية تتلافى السلبيات وترسِّخ الإيجابيات بغية إعداد الطفل العربي للحياة في عالم متغيّر. وإذا كان واقع ثقافة الطفل العربي يساعدنا على رسم ملامح المنهج المقترح لهذه الثقافة المستقبلية، فإنه من الواجب القول إننا لا نسعى إلى ثقافة مفصولة عن الماضي والحاضر معنيّة بالمستقبل وحده، بل نرنو إلى ثقافة تتشبَّث بالهويّة العربية الإسلامية من غير أن تنفصل عن مواكبة العصر، كما نرنو إلى طفل يمتص الثقافة الجديدة المتجدَّدة من غير أن تنمحي خصوصيّته وقدرته على التفكير المستقلّ. ويمكنني، بعد ذلك، اقتراح أربعة مكوِّنات لمنهج الثقافة المستقبلية للطفل العربي، هي:

 

1-التنمية الثقافية الشاملة للمجتمع العربي:

يدلّ المفهوم الأوروبي لمصطلح (التنمية الثقافية) على تكامل مؤسسات المجتمع من أجل تزويد الطفل بالثقافة الملائمة لمرحلته العمرية. ولا أعتقد بأن هذا المفهوم يفي بالغرض العربي، لأنه يفترض أن المجتمع العربي متجانس في تطوّره الاقتصادي وفي بناه الاجتماعية الثقافية، وأن النقص الوحيد فيه هو تكامل عمل مؤسساته. فالمجتمع الأوروبي متجانس، ولهذا السبب وصل إلى نتيجة محدّدة هي أن التنمية الثقافية نتيجة للتنمية الاقتصادية. وهذا واضح من أن المؤتمر الدولي للسياسات الثقافية الذي عقدته الأونسكو في مدينة البندقية عام 1970 صاغ أوّل مرة بشكل واضح- كما يرى القائمون عليه- مصطلح التنمية الثقافية على النحو الآتي: (وسيلة لتوسيع وإصلاح مفهوم اقتصادي كلّيّ للتنمية) (3). إن هذا التعريف الأوربي لمصطلح التنمية الثقافية ملائم للمجتمع الأوربي وليس ملائماً المجتمع العربي لأنه مجتمع غير متجانس يُوصَف دائماً بالتخلُّف الثقافي (4). ومن ثَمَّ لابدَّ لنا من تعديل المفهوم الأوربي للتنمية الثقافية ليلائم المجتمع العربي. ويتمّ هذا التعديل انطلاقاً من أن الثقافة ثقافتنا: ديناميّة متغيّرة (5) وجامدة (6)، وأن الثقافة العربية ليست ديناميّة ولا جامدة، بل هي بين بين. فإذا جعلنا غاية التكامل بين مؤسسات المجتمع العربي تزويد الطفل بخيرات الثقافة الديناميّة المتغيّرة، أصبح مصطلح التنمية الثقافية في رأيي دقيقاً أوقابلاً- على الأقل- للمناقشة. يُسوِّغ هذا التعديلَ العوالمُ المنفصلةُ التي نعيش فيها. فالمدرسة العربية- بعيداً عن التصريحات الرسمية- لاتُؤدّي وظيفتها الفردية والاجتماعية، لأسباب كثيرة يهمّني منها هنا كونها مغلقة على نفسها غير متّصلة بالمؤسسات المحيطة بها، إضافة إلى أنها لم تستوعب وظيفتها بدقّة، فصرفت جهودها إلى تنمية معارف الطفل، وأهملت قدراته ومهاراته وقيمه. كذلك الأمر في المؤسسات الأخرى. ففي الوطن العربي حدائق وملاعب ومراكز ثقافية وبلديّات ونواد وجمعيّات وإعلام وما إلى ذلك من مدارس خلفية. ولكنها كلها مغلقة على نفسها، لا تعي مهمّتها الثقافية أو لا تُؤدّيها على الوجه السليم وخاصّة ما يتعلّق بثقافة الطفل. ولا شك في أن المدرسة وحدها ليست مصدر ثقافة الطفل، إذ إن المدارس الخلفية من الأسرة والحي والبلدية إلى الصحافة والمركز الثقافي والنوادي والتلفاز مصادر أخرى لها تأثير قوي في الطفل وفي المدرسة نفسها، سواء أكان هذا التأثير سلبياً أن إيجابياً. ولهذا السبب فإن الثقافة المستقبلية للطفل لا تنمو في مجتمع يفتقر إلى تنمية ثقافية شاملة.

 

وعلى الرغم من أن تنمية الثقافة العربية هي في الوقت نفسه تنمية لثقافة الطفل العربي تبعاً للارتباط الوثيق بينهما، فإنني أرغب في التذكير باقتراحات كنتُ قدَّمتها لتوضيح طبيعة التنمية الثقافية للأطفال (7)، وهي اقتراحات تجعل الإجابة ممكنة عن السؤال الآتي: كيف يتمّ ذلك؟ (8). إنني مؤمن بأن الثقافة المستقبلية للطفل العربي تفرض على التنمية الثقافية للأطفال أن تكون:

أ-تعدُّديّة وليست أحاديّة الجانب. تشمل المعارف العملية والأدبية والفنيّة والتاريخية والقيم والمهارات والقدرات. إضافة إلى أنها انفتاح على الروافد الثقافية المختلفة، نفور من الثقافة الواحدة.

ب-تراعي المرحلة العمرية للطفل، فتقدِّم لأطفال كل مرحلة ما يناسبهم من الزاد الثقافي بأشكال يستطيعون التواصل معها. كما تراعي جنس الطفل، فتُقدِّم للذكور ما يلائمهم، وللإناث ما يلائمهنّ، إضافة إلى الثقافة المشتركة بين الجنسين.

ت-تحرص على نقل التراث الثقافي للطفل من غير أن تنسى حياته في الحاضر وضرورة تهيئته للمستقبل.

ث-تتّجه إلى الطفل الفرد، ولكنها تسعى إلى أن تكون شاملة الجماعة كلها، ومن ثَمَّ فهي فردية وجماعية في آن معاً.

ج-متكاملة، تضع أمامها حاجة شخصية الطفل العربي إلى النموّ العقلي والاجتماعي والانفعالي والجسدي، وحاجتها إلى روح الجماعة والعمل المشترك، وإلى التدريب على المحاكمة والنقد والتحليل والتركيب والتعبير.

ح-مستمرة، تبدأ بطفل المرحلة الأولى وتبقى معه حتى يُجاوز مرحلة الطفولة.

خ-تُوظّف النشاطات المدرسية والنشاطات اللامدرسية لخدمتها، وتفرض عليها أن تتكامل. كما تُوظّف الأجناس الأدبية للغاية نفسها، وتمنحها قدراً أكبر من الاهتمام لأنها تلجأ إلى الفن في تحقيق أهدافها.

د-تؤمن بحريّة الطفل، وترفض كل ما يجعله تابعاً أو ما يربيّه على التبعية. والحريّة في مفهوم التنمية الثقافية ليست حريّة الرأي والتفكير والاختيار فحسب، ولا الحريّة في الابتعاد عن سيطرة الكبار وأنانيتهم، بل هي أيضاً حريّة الطفل في أن يعيش طفولته وأن يستمتع بخيراتها وملذّاتها، وحريّته في الانفتاح على ثقافات الأمم كلها، وفي الشعور المستقلّ.

ذ-تربّى الطفل على الإبداع، فتساعده على رياضة ملكاته البشرية بحيث يُصبح أتمَّ نشاطاً واستعداداً للإنجاز (9)، وتوفّر له الضمانات الاجتماعية التي تُيسِّر تفتُّح مواهبه تفتُّحاً تامّاً.

ر-تُشجِّع الطفل على المشاركة الواسعة في حياة مجتمعه ووطنه وأمتّه، وتدفعه إلى الإسهام في تطوّرها الإيجابي.

ز-تساعد الطفل على التعامل طواعيّةً مع الوسيط المحيط به، فيتأثّر به ويُؤثّر فيه، يُكيّفه ويتكيّف معه، مما يُسهم في تجانس المجتمع وتضامنه وقدرته على التقدُّم.

ولاشك في أن التنمية الثقافية للطفل العربي تحتاج إلى تخطيط علمي واع تنهض به الدولة، وتراعي فيه:

أ-توافر التجهيزات التي تُسِّهل نشر الخدمات الثقافية، وتساعد على تلبية حاجات الأطفال كالأمكنة الخاصة بممارسة المطالعة والتمثيل والعزف، أو العامة كالمتاحف والنوادي الثقافية. والمقياس الوحيد للتوزُّع الجغرافي لهذه التجهيزات الثقافية هو نطاق تأثيرها في جمهور الأطفال.

ب-وَضْع مناهج وتقنيات إدارية تسمح بتقويم الخدمات الثقافية وتحليلها ونقدها. والحرص على أن تضع وزارات التربية والثقافية والإعلام أهدافاً بعيدة ومتوسّطة وقريبة لعملها الثقافي مع الأطفال.

ت-فَتْح معاهدة لإعداد المشرفين على الثقافة وإدارة المنشآت التي يرتادها الأطفال.

ث- وضع خطط النشر كتب للأطفال تغطي جوانب مكتبتهم، وتلبي حاجاتهم القرائية في مراحلهم العمرية كلها، على أن يُراعى في التخطيط تباين القدرة الشرائية لدى الأطفال.

ج-وَضْع سياسة ثقافية (10) تشمل التنمية الاجتماعية كلها.

 

2-التربية العربية الجديدة:

تحتاج التنمية الثقافية الشاملة للمجتمع العربي إلى تربية عربية جديدة قادرة على بناء الإنسان العربي المؤهل للحياة في القرن الواحد والعشرين. و لا أقصد هنا التربية الحديثة التي تخلّت عن قيدي المكان (المدرسة) والزمان (المدّة المحدّدة للدراسة)، وراحت تؤمن بالتعلُّم من المهد إلى اللحد، وتصطنع أساليب جديدة لإيصال المعرفة، كالتربية في أثناء الخدمة والربط بين التعلُّم والعمل (11). كما أنني لا أقصد تحديث المناهج والكتب وأساليب التقويم، بل أقصد التربية التي لا تحيد عن هدفها الأساسي وهو بناء شخصيّة الطفل. ذلك أن الدول العربية عدَّلتْ مناهجها غير مرّة، وعقدت الندوات والمؤتمرات لتقويم المردود التربوي، واعتمدت النظريات التربوية الغربية الحديثة، ولكن ذلك كله لم يكن غير لبوس زاهٍ لجسد خاو ماتت فيه جذوة الإبداع والوطنية والتفكير الحرّ. لقد حُدِّثَ  شكل التربية وبقي مضموناً تقليدياً يقمع الذاتية الفردية للطفل (12)، ويحافظ على قيم المجتمع الذكوري(13)، ويخلق فرداً تابعاً مطيعاً يملك معارف شتّى ولكنه غير قادر على الربط بينها.

وهذا كله يعني أنني لا أنظر إلى لبوس التربية، بل أنظر إلى جدواها، وأعتقد بأن هذه الجدوى معيار التربية العربية الجديد و في الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام وغير ذلك مما له علاقة قريبة أو بعيدة بالإنسان العربي. ولكي تتحقّق هذه الجدوى لابدَّ من تغيير السلطة القهرية العمودية التي تستند إلى الطاعة بسلطة عقلية أفقية تستند إلى التفاهم. ذلك أن هذا التغيير يضمن بناء شخصيّ‍ة متوازنة للطفل، تبعاً لكون السلطة القهرية تُعوِّد الطفل الاتكالية والرضوخ والاعتماد  على الآخرين،  في حين تضمن السلطة العقلية سيادة الديمقراطية وما يتبعها من الاستقلال الذاتي، والاعتماد على النفس، والثقة بالذات والآخر، والمرونة في التفكير، والابتعاد عن التعصُّب والعنف، والتحلّي بروح المواطنة، والاعتزاز بالهويّة العربية واللغة الفصيحة.

إن التربية العربية الجديدة عماد الثقافة المستقبلية للطفل العربي، لأنها تُعلِّم هذا الطفل كيف يعيش مع الآخرين وإن اختلفوا عنه، وتجعل تفكيره أصيلاً حرّاً نزَّاعاً إلى الخير والحقّ والعدل والحريّة. يحترم  القانون والملكية العامة والرأي الآخر، ويعتز بلغته وأمتّه ويعمل على نهضتها. أنها تربية الشخصية الأخلاقية الابتكارية العقلانية التي لا يختلف جوهرها بين الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام وإن اختلفت أساليبها وأشكالها وطرائقها. ويمكنني هنا الإفادة من التجربة اليابانية في التربية(14). ذلك أن اليابانيين أدركوا بعد الحرب العالمية الثانية أنهم يحتاجون إلى تربية جديدة تنهض بمجتمعهم الذي دمَّرته الحرب. وقد خطَّطوا لتربية تستند إلا ثلاثة أمور مهمّة، هي:

-العلاقات المتناغمة المنسجمة والدور المركزي للجماعة.

-العمل الجادّ والاجتهاد والمثابرة.

-الدافعيّة.

ألا نحتاج، مثل اليابانيين، إلى تربية تُعْنَى بقيمة الانسجام والتجانس في العلاقات الاجتماعية؟. إن هذا الأمر مهمّ إذا أردنا من طفل اليوم أن يُسهم في بناء المجتمع العربي الجديد. ذلك أنه من الخير للثقافة المستقبلية أن تنظر إلى المجتمع العربي الجديد على أنه جماعة منظّمة متماسكة ذات أهداف مشتركة، وأن تدعو التربية إلى تخطيط نشاطاتها بحيث تُشجِّع الطفل العربي على الولاء للجماعة والمشاركة في أعمالها والحرص على تماسكها، وأن تَعُدَّ العمل الجماعي قيمة عليا ومعياراً للخصائص الخلقيّة الحميدة للطفل، وأن توفّر الظروف لنشأة سلطة الجماعة وهي سلطة بعيدة عن التسلُّط والعنف والقمع، تقتصر القيادة فيها على (توزيع الأفراد بحسب دوافعهم وتوقّعاتهم بحيث يصبح النظام والانضباط، سواء في المدرسة أن المجتمع، ناتجاً طبيعياً لتوحُّد الأفراد مع أهداف الجماعة) (15)، من غير أية محاولة للقضاء على خصائصهم الفردية وملكاتهم الابتكارية. ولا تلجأ التربية في اليابان إلى تربية اليسر السائدة في الوطن العربي، فتمنح الطفل العلامات بسخاء، وتنقله من صفّ إلى صفّ بسهولة، وتقف حائرة أمام مواهبه وإنجازاته، بل تضع أمامه قدراً من الصعوبة لتدفعه إلى العمل والاجتهاد والمثابرة والنظر إلى التعليم بشيء غير قليل من الجدّية. ويعضد الآباء والمسؤولون هذه التربية، ويُقدِّمون لها العون، ويعملون على تحقيق أهدافها، فلا يشعر الطفل بأن هناك تناقضاً بين المدرسة والأسرة والمركز الثقافي والتلفاز، ففيها كلها مثيرات ثقافية تدفعه إلى التعلُّم والممارسة والاجتهاد، فينشأ واثقاً بنفسه، ومحبّاً وطنه، معتزّاً بثقافته، مستعدّاً لمتغيّرات العصر، متكيّفاً مع مجتمعه، متقناً لغته، مالكاً الحوافز للارتقاء بمعارفه ومهاراته. وليس المهمّ بعد ذلك أن يمتصّ الطفل العربي عناصر الثقافة كلها، بل المهمّ أن ينتقي من هذه العناصر ما يناسب قدراته وميوله، وأن تُتاح له الفرص الكافية للتفاعل معها والإفادة منها.

 

3-الثّوابت والمتغيّرات:

شغلتْ إشكالية الثوابت والمتغيّرات الثقافة العربية في القرن العشرين، وكادت تُشكّل إحدى الثنائيّات الفكرية البارزة فيها. أما المراد منها فهو عدُّ الماضي ثابتاً مقدّساً لم يستطع الحاضر تقديم ما يوازيه في الفكر والأدب والأخلاق، ولهذا السبب أطلقت على الثوابت تسميات أخرى أبرزها الأصالة والتراث والقديم. وأما الطرف الثاني في الثنائية فهو المتغيّرات، والمراد بها العصر الحديث الذي نعيش فيه ونمتح منه الفنون والآداب والعلوم والأخلاق الملائمة له، النابعة منه، المنسجمة ومتغيّراته. والمعروف أن الجدل حول هذه الثنائية كان تعبيراً عن اتجاهين فكريين عاميّن في الوطن العربي، الأول راض بسيادة الماضي على الحاضر، والآخر منغمس في الحاضر غير متنكّر للماضي وإنْ لم ينظر إليه بإجلال كما يفعل أنصار القديم. وليس من المفيد في رأيي أن تمدَّ هذه الثنائية ظلالها على الثقافة المستقبلية للطفل العربي، لأننا مضطرون إلى ملاحظة اختفاء (المستقبل)، وهو البعد الثالث، منها. أيْ أن الاختلاف كان يدور حول الماضي والحاضر، ومن الواجب أن يدور حول الماضي والحاضر والمستقبل. كما أن الاختلاف انطلق من أن المجتمع العربي ذكريّ محافظ يُغلِّب الماضي على الحاضر،  ولا ينفع مثل هذ1 المجتمع في القرن الحادي والعشرين، وهو القرن الذي نسعى إلى تهيئة الطفل لدخوله.

 

على أن جدل النخبة العربية حول الثوابت (أو الأصالة أو التراث أو القديم) والمتغيّرات (أو المعاصرة أو الحديث أو الجديد) لا يُحسَم بالانحياز إلى أحد طرفيه، بل يُحسم بالانتقائية المحكومة بالوجود العربي. فالماضي ليس شرّاً كله ولا خيراً كله، والحاضر ليس إيجابياً كله ولا سلبياً كله، ففي الماضي والحاضر قيم عليا إيجابية تُشكِّل الهويّة العربية الإسلامية (16). ومن المفيد ألا يتخلّى الطفل في القرن الحادي والعشرين عن هذه الهويّة وإلا فإن جذره سينبتُّ ولن يشعر بانتمائه إلى أمتّه العربية. ومن المفيد أيضاً ألا يحمل موروثه إلى المستقبل، لأن هذا الموروث خليط عجيب من القيم الإيجابية والسلبية. إنه الخليط الذي فرَّق بين الذكر والأنثى، وأجبر الطفل على أن ينظر إلى حاضره بعيون الماضي. وهو نفسه الذي قدَّم لنا إيجابيات كثيرة كالدين الحنيف والآداب والعلوم، ولهذا السبب صرنا نُفرِّق بين الموروث بمعنى ما وردنا من الماضي دون تمييز بين جيّده ورديئه، والتراث الذي يدل على الأشياء الإيجابية القادرة على الإسهام في بناء الحاضر.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الحاضر. ففي زماننا ديكتاتوريّات وقمع وإرهاب وذلّ وفقر وجوع وغنى فاحش وتسلُّط وطاعة عمياء وفرقة بين الدول العربية وطائفية وعنف واستغلال وتفاوت اجتماعي وحروب صغيرة وكبيرة، وفيه أيضاً تعليم وترجمة وتعريب ومعاهد وجامعات ومستشفيات وفنون وآداب ونزوع إلى الحريّة والديمقراطية والعدل والحقّ. إن الحاضر كالماضي خليط عجيب من القيم الإيجابية والسلبية، لا وضوح فيه لغير النسق الثقافي التقليدي الذي يجعل الطفل غير ذي هويّة محدَّدة.

والظن بأن الأمة العربية مرشَّحة للتبعية الكاملة للغرب في القرن الحادي والعشرين إذا لم تتدارك أمر حاضرها المفضي إلى مستقبلها. أو فَلْنَقُلْ إنها مدعوة لانتقاء العناصر الإيجابية من الماضي والحاضر لتجعلها عماد الثقافة العربية عموماً، والثقافة المستقبلية للطفل العربي خصوصاً. والعناصر المنتقاة هي التي تُشكِّل جوهر التربية العربية الجديدة، جوهر العمل والمواطنة والانسجام والجماعة والابتكار والأخلاق. إنها الثوابت الجديدة القادرة على  مواجهة متغيِّرات المستقبل.

 

4-حقوق الطفل العربي:

أعتقد بأنه لابدَّ من توافر معيار واضح محدَّد تُقاس استناداً إليه الثقافة المستقبلية للطفل العربي، سواء أكنا راغبين في النظر إليها من جانب التنمية الشاملة للثقافة العربية أم من جانب التربية العربية الجديدة أم من جانب الثوابت والمتغيِّرات. وأقترح أن يكون المعيارُ حقوقَ الطفل كما أقرّتها (اليونيسف) عام 1989 (17)، والمجلس العربي للطفولة والتنمية في ندوته حول (مستقبل ثقافي أفضل للطفل العربي) التي عُقدتْ في القاهرة عام 1988(18). وأكتفي هنا بالبرنامج الثقافي الذي اقترحته دول مجلس التعاون الخليجي(19) عام 1989، ففيه إيجاز مقبول لحقوق الطفل العربي. وقد انطلق هذا البرنامج من أن تجسيد العلاقة الإبداعية بين الطفل وميراثه الثقافي وضرورات انتسابه إلى العصر يحتاج إلى الوسائل الآتية التي تُعَدّ حقوقاً للطفل:

أ-العناية بالمواد الثقافية الخاصة بالأطفال، المكتوب منها والمسموع والمرئي، عناية تستهدف تحقيق الأهداف التالية:

-أن تستلهم هذه الموارد الثقافية روح التديُّن العام الذي يساوي بين الناس في الانتماء إليه، والتركيز على الأخلاق والقيم المتّفق عليها بين ديانات التوحيد والابتعاد عن الترهيب.

-تنيمة الحس الجماعي وتهذيب الحواس.

-تنمية الإحساس بالعدل الاجتماعي وإمكانية تحقُّقه.

-توجيه الأطفال نحو الإحساس بعروبتهم.

ب-حقُّ الأطفال في الفرح والمرح لأنهما عنصران أساسيان من عناصر تكوين شخصيّته السويّة. ولهذه الغاية لابدَّ من العمل على توفير المسرحيّات المرحة والمهرجانات الفنيّة والموسيقية والمنافسات الرياضية.

ت-حقُّ الأطفال في التوافق مع ضرورات العصر بوعي مركزية العمل في تحديد قيمة الفرد وتقدُّم المجتمع.

وبعد، فثقافة الطفل العربي مهمّتنا جميعاً مهما تختلف مواقعنا في المجتمع العربي، وهي مهمّة جليلة ترتبط بوجودنا في القرن الحادي والعشرين، وقدرتنا على أن نواكب متغيِّرات العصر، ونسهم في الحضارة الإنسانية، من غير أن نتخلّى عن هوّيتنا العربية. 

 

الإحالات:

(1):ثقافة الأطفال:-د.هادي نعمان الهيتي-عام المعرفة 123-الكويت 1988-ص 30/31.

(2):ثقافة الطفل العربي-سمر روحي الفيصل-اتحاد الكتاب العرب-دمشق 1987-ص 16/17.

(3):التنمية الثقافية الشاملة في أوربة-كلود فابريزيو-ضمن كتاب: التنمية الثقافية، تجارب إقليمية-المؤسسات العربية للدراسات والنشر-بيروت 1983-ص 346.

(4):عندما يصيب التغيير المجمع فإن عناصره المختلفة تتغير بنسب متفاوتة، والعناصر التي يصيبها التغيُّر بنسبة أقل من العناصر الأخرى تُوصَف بأن لديها تخلُّفاً ثقافياً، كانتشار تعليم المرأة من غير أن يصحبه تغيُّر في النظرة إليها. انظر ص258 من :النجيحي، د.محمد لبيب-الأسس الاجتماعية للتربية-مكتبة الأنجلو المصرية-القاهرة 1971.

(5): تُعْرَف الثقافة الدينامية  من صفاتها الآتية: التغيرات فيها كثيرة العدد وسريعة- غير معزولة عن الأحداث والتطورات المختلفة-يتمتّع الفرد فيها بحريّة الرأي والتفكير- نامية متحرِّرة- تنظر إلى المستقبل على أنه أفضل من الحاضر فتضع له الخطط وتحدِّد الأهداف وتصطنع الوسائل- منفتحة على الثقافات الأخرى تتأثّر بها وتؤثِّر فيها.

(6): تُوصَف الثقافة الجامدة بالآتي: ليس فيها اتجاه للتطوّر أو إحساس بالإصلاح-آمال الإنسان فيها مقصورة على الزواج والأولاد وقَدْر جيّد من الطعام -التركيز فيها على أخلاق الفرد وإهمال الأخلاق الاجتماعية- انعدام التجريب أو ندرته-ثبات قواعد السلوك والدساتير الأخلاقية والعادات والقوانين.

(7): انظر ص 12/13من: الفيصل، سمر روحي -تنمية ثقافة الطفل العربي -الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية -الكويت 1988.

(8): نصّ الدكتور محمد الرميحي على أن معظم الدراسات التي ننشرها تتحدّث دائماً عما يجب عمله، كما أن حديثها يأخذ الصورة الخطابية العالمية النغمة عن غرس المرورثات والقيم وإنشاء مؤسسات الرعاية والتنمية المجتمعية مع تأكيد أهمية الطفل في المجتمع وبناء شخصيّته، وتلك قضايا لا خلاف عليها، والسؤال الملح هو: كيف يتم ذلك؟. انظر ص 6من: الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون -ضمن كتاب: الطفل العربي والمستقبل-كتاب العربي 23-الكويت 1989.

(9): انظر ص 98من: وهبة، مجدي- معجم مصطلحات الأدب. وص 80/81 من: عبد النور، جبور-المعجم الأدبي.

(10): المراد بالسياسة الثقافية وضْع مجموعة مبادئ عملية وممارسات اجتماعية واعية ومقصودة، وتنظيم إداري ومالي، يهدف إلى إشباع بعض الحاجات الثقافية، واستخدام موارد البيئة استخداماً أفضل.

(11): للتفصيل انظر ص 88 من: تعقيب د.حنفي بن عيسى على محاضرة د.محمد جواد رضا (الطفل ومعضلة القصور اللغوي في العالم العربي) -ضمن كتاب: الأطفال وحروب شتّى في العالم العربي- الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية- الكويت 1985/1986.

(12):للتفصيل انظر ص 38 وما بعد من: رضا، د.محمد جواد -الطفل من الفردانية إلى الشخصانية -ضمن كتاب: الأطفال ومعوقات التنشئة السوية- الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية -الكويت 1986/1987.

(13): للتفصيل انظر ص 18 من: الطراح، د.علي- التنشئة الاجتماعية في مجتمع الذكور- التقرير الفصلي (الطفولة العربية)- العدد 13 -الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية -الكويت 1988.

(14):انظر ص 18 وما بعد من: التعليم في اليابان -ترجمة: د.سعد عبد الرحمن و: د.حسين حمدي الطوبجي- الجميعة الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية -الكويت 1987.

(15): المرجع السابق ص 20

انظر هذه القيم في الخطة الشاملة للثقافة العربية -(جامعة الدول العربية) 1/53-58- الكويت 1986

(17): نُشِر النص الكامل لهذه الحقوق في (الطفولة العربية) العدد 17- الكويت 1989

(18): المرجع السابق نفسه

(19): نُشِر البرنامج في المرجع السابق نفسه.

 

خاتمة

أستطيع الادّعاء، هنا، بأنني خصلتُ من القراءة النقديّة لأدب الأطفال وثقافتهم إلى نتائج كفيلة، في رأيي، بتعديل صيغة الخطاب الثقافي الموجَّه للطفل العربي. ويمكنني اختزال هذه النتائج في النقاط الآتية:

1- حاجة الثقافة المستقبلية للطفل العربي- وهي المركَّب الثقافي الجديد الذي يكتسبه الطفل ويبني بوساطته شخصيّته القادرة على بناء المجتمع العربي الإسلامي الجديد والإسهام في الحضارة الإنسانية -إلى خطّة تُعِدُّ الطفل العربي لعالم متغيِّر وتبني شخصيّته الابتكارية المتوازنة، دون أن تفصله عن ماضيه وحاضره. وهذه الثقافة المستقبلية تحتاج إلى تنمية ثقافية شاملة للمجتمع العربي، وتربية جديدة، وعناصر ثقافية يتوافر فيها التوازن بين الماضي والحاضر والمستقبل، ومراعاة دقيقة لحقوق الطفل.

2-حاجة الصناعة الثقافية العاملة في حقل ثقافة الطفل العربي إلى منظومة شاملة للقيم، تهتدي بها في تأليف النصوص المكتوبة، وتقديم النصوص المرئية والمسموعة.

3-حاجة ثقافة الطفل العربي إلى معرفة علمية بالطفل العربي نفسه، بغية تحديد حاجاته وميوله، وإعداد الكتب والمجلات التي تلائم هذه الحاجات والميول، بأسلوب ماتع  مؤثّر مقنع بعيد عن أسلوب الوعظ والإرشاد السائد في المدرسة العربية.

4-الاهتمام بثقافة الطفل العربي في المراحل العمرية الثلاث، وخصوصاً المرحلتين الأولى والثانية، تبعاً لإهمالهما في الحاضر.

5-الحرص على التوازن بين الطابع الأدبي والطابع العلمي في ثقافة الطفل العربي.

6-انتقاء النصوص الأدبية الأجنبية التي تلائم الطفل العربي، والتدقيق في ترجمتها ولغتها.

7-الالتزام باللغة العربية الفصيحة في الخطاب المقروء والمسموع انطلاقاً من أن الطفل العربي يفهم هذه اللغة وإنْ لم يكن قادراً على إنتاجها.

8-الاهتمام بكتاب الطفل شكلاً ومضموناً، ومراعاة التكامل بين الجهات العاملة على تقديمه للطفل العربي.

9-تشجيع الألعاب الابتكارية، والنموذجات التخييلية، والتعبير الحرّ، والتدقيق في الخيال العلمي، وفي النصوص التي تُحرِّض مخيّلة الطفل العربي وتبني الخبرة الخيالية السليمة لديه، والابتعاد عن تقييد خياله بالواقع.

10-رعاية الأطفال الموهوبين، والحرص على تنمية الخبرات اللغوية والفنيّة والخيالية لديهم.

تلك، في اعتقادي، أبرز النتائج التي قدَّمتها القراءة النقديّة لأدب الأطفال وثقافتهم. وقد عمدتُ إلى إغفال نتائج أخرى مبثوثة في الكتاب لارتباطها بسياق خاص، وظروف موضوعية. كما أغفلتُ بعض الأمور لحاجتها إلى تحليل مغاير قبل تثبيتها  وإذاعتها. ومهما يكن أمر النتائج فإن الثابت عندي هو حاجة الطفل العربي إلى إعداد ثقافي جديد يراعي متغيِّرات العصر السريعة، ويبني شخصيّة قادرة على النهوض بالأمة العربية الإسلامية.

المصادر والمراجع:

1-أبو ستولوف، كيريل: الأرنب قصير الأذن (ترجمة: ميخائيل عيد) وزارة الثقافة -دمشق 1978.

2-أبو علام، د. رجاء  : الأطفال المتفوّقون وتربيتهم (ضمن كتاب: الطفولة العربية معضلات المجتمع البطركي). الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية- الكويت 1984

3-أبو هيف، عبد الله: أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1983.

4-الأحمدي، موسى بن محمد بن الملياني: معجم الأفعال المتعديّة بحرف. دار العلم للملايين -بيروت 1979.

5-إخوان الصفا: رسائل إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء. دار صادر- بيروت 1957.

6- إسماعيل، د. عز الدين: التفسير النفسي للأدب. دار العودة/ دار الثقافة- بيروت د.ت .

7-الأصبحي، منير صلاحي: الحقيقة والرواية. اتحاد الكتّاب العرب- دمشق 1978.

8-الأصفر، عبد الرزاق (وآخران): أدب الناشئة وزارة التربية- دمشق 1989.

9- باوستوفسكي: الخاتم المعدني (ترجمة: بكر يوسف) دار التقد‌ُّم -موسكو 1976.

10-بعلبكي، منير: المورد. دار العلم للملايين -بيروت -الط 19/1985.

11- بلايتون، اينيد: الأرنب والتمساح (ترجمة: وجيه توفيق جبر) وزارة الثقافة- دمشق 1978.

12- ثاولس، روبرت: التفكير المستقيم والتفكير الأعوج (ترجمة: حسن سعيد الكرمي) عالم المعرفة 20- الكويت 1979.

13-جعفر، د.عبد الرزاق: أدب الأطفال. اتحاد الكتّاب العرب- دمشق 1979.

14-حاتم، دلال : صحافة الأطفال، قياس الشكل والمضمون (ضمن كتاب: جمهور الأطفال والثقافة). منشورات طلائع البعث -دمشق 1985.

15-حسين، محمد الخضر: الخيال في الشعر العربي دمشق-الط2/1972.

16-حنورة، د.مصري عبد الحميد: الأسس النفسية للإبداع الفني في الرواية الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1979.

17-خان، محمد عبد الحميد: الأساطير العربية قبل الإسلام القاهرة 1937.

18- خرابتشنكو، م: الإبداع الفني والواقع الإنساني (ترجمة: شوكت يوسف وزارة الثقافة-دمشق 1983

19-خرما، د. نايف: أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة عالم المعرفة 9- الكويت 1978.

20-الخوالدة، د.محمد محمود: اللعب الشعبي ودلالاته التربوية الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية- الكويت 1988.

21-رضا، د.محمد جواد: الطفل من الفردانية إلى الشخصانية (ضمن كتاب: الأطفال العرب ومعوقات التنشئة السوية). الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية -الكويت 1986.

22-الرميحي، د.محمد : الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون (ضمن كتاب: الطفل العربي والمستقبل) كتاب العربي 23 -الكويت 1989.

23-روزنتال، (و:يودين): الموسوعة الفلسفية دار الطليعة -بيروت -الط2/ 1980.

24-روشكا، ألكسندر: الإبداع العام والخاص (ترجمة: د.غسان أبو فخر). عالم المعرفة 144-الكويت 1989 التفكير العلمي.

25-زكريا، د.فؤاد: التفكير العلمي عالم المعرفة 3- الكويت 1978.

26-زهدي، ياسين: قياس قوّة التأثير على جمهور الأطفال قبل الإصدار (ضمن كتاب: جمهور الأطفال والثقافة) منشورات طلائع البعث -دمشق 1985.

27-السكري، عبد الفتاح: المهارات الأساسية للقراءة المجلة العربية للتربية- المجلد 6- العدد 2 - 1986.

28-السنعوسي، محمد: التلفزيون والأطفال (ضمن كتاب: الطفولة في مجتمع عربي متغيِّر) الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية -الكويت 1983.

29-سويف، د. مصطفى: أ-الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة دار المعارف- القاهرة- الط3-/1970. ب-العبقرية في الفن. مطبوعات الجديد- القاهرة -الط2/1973.

30-السيّد، د. محمود أحمد    : في طرائق تدريس اللغة العربية جامعة دمشق -دمشق 1982.

31-الشرابي، د.هشام : الطفل العربي ومعضلات المجتمع البطركي (ضمن كتاب: الطفولة العربية ومعضلات المجتمع البطركي).

32-صالح، د. عبد المحسن: التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان عالم المعرفة 48- الكويت 1981.

33-الطراح، د.علي: التنشئة الاجتماعية في مجتمع الذكور الطفولة العربية -العدد 13-الكويت 1988.

34-الطوبجي، د. حسين حمدي: وسائل تربية الإبداع في رياض الأطفال (ضمن كتاب: الطفولة العربية والعدالة التربوية الغائبة) الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية- الكويت1987 .

35-العاني، نزار: القصة العلمية الأسبوع الأدبي -العدد 23- دمشق 1986.

36-عبد الرحمن، د. سعد وآخر (ترجمة): التعليم في اليابان الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية - الكويت 1987.

37-عبد النور، د. جبور: المعجم الأدبي دار العلم للملايين- بيروت 1979.

38-عبود، د. عبده: اقتراب أولي من أدب الأطفال المترجم في سورية الموقف الأدبي- العدد 208/209/210 -دمشق 1988 .

39-عمران، د. طالب  : في أدب الخيال العلمي الأسبوع الأدبي- العدد 87- دمشق 1987 .

40-العمر، د. عبد الله : ظاهرة العلم الحديث، دراسة تحليلية وتاريخية عالم المعرفة 69 -الكويت 1983.

41-عيسى، د. حسن أحمد: الإبداع في الفن والعلم عالم المعرفة 24- الكويت 1979.

42-غارشين   : الضفدعة السائحة (ترجمة: ماجد علاء الدين) دار التقدُّم- موسكو 1975.

43-فابريزيو، كلود: التنمية الثقافية في أوربة (ضمن كتاب: التنمية الثقافية، تجارب إقليمية) المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 1983.

44-فراج، د. عثمان لبيب: الطفل العربي، حاضره ومستقبله (ضمن كتاب: الطفولة العربية ومعضلات المجتمع البطركي). الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربي -الكويت 1984.

45-فهيم، د. حسين محمد: أدب الرحلات عالم المعرفة 138- الكويت 1989.

46-الفيصل، سمر روحي: أ-مشكلات قصص الأطفال في سورية اتحاد الكتّاب العرب- دمشق 1981

ب- ثقافة الطفل العربي اتحاد الكتّاب العرب- دمشق 1987 ت-تنمية ثقافة الطفل العربي. الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية- الكويت 1988.

ث- الشكل الفني لقصة الطفل في سورية الموقف الأدبي- العدد 208/209/210- دمشق 1988.

47-كاجان: الإبداع الفني (ترجمة: عدنان مدانات) دار ابن خلدون -بيروت 1980.

48-كاظم، محمد إبراهيم: تطورات في قيم الطلبة مكتبة الأنجلو المصرية -القاهرة 1974.

49-الكفوي، أبو البقاء : الكليّات (تح: د. عدنان درويش ومحمد المصري). وزارة الثقافة -دمشق - الط 2/1982.

50- مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط القاهرة -الط 2/1973.

51-مجموعة من المؤلّفين: دنيا الحكايات (ترجمة: عيسى فتوح) وزارة الثقافة -دمشق 1978 .

52-محمد، د. عبد اللطيف محمد: ارتقاء القيم عالم المعرفة 160 -الكويت 1992.

53-مرسي، د. فؤاد: البحث عن هوية الوحدة- العدد 53-المغرب - شباط/ فبراير 1989.

54- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم:

أ- الرصيد اللغوي العربي تونس 1989.

ب- الخطة الشاملة للثقافة العربية تونس -الط 2/1990.

55-ميخالكوف، سرغي: كل شيء يبتدئ من الطفولة دار التقدُّم -موسكو 1978.

56-النجيحي، د. محمد لبيب: الأسس الاجتماعية للتربية مكتبة الأنجلو المصرية -القاهرة 1971.

57-الهيتي، خلف نصار محيسن: القيم السائدة في صحافة الأطفال العراقية وزارة الثقافة والفنون- بغداد 1978.

58-الهيتي، د. هادي نعمان: ثقافة الأطفال عالم المعرفة 123- الكويت 1988.

59-وزارة التربية: أ-مناهج المرحلة الابتدائية. دمشق 1973.

ب-المعجم المدرسي دمشق 1985.

60-وزارة الثقافة: الموسوعة العلمية الميسّرة دمشق 1980.

61-ولسن، كولن: المعقول واللامعقول في الأدب الحديث (ترجمة: أنيس زكي) دار الآداب -بيروت 1966.

62-وهبة، د. مجدي  : معجم مصطلحات الأدب مكتبة لبنان -بيروت 1974.

63-يوسف، عبد التواب (إعداد): ديوان كامل الكيلاني للأطفال الهيئة المصرية العامة للكتاب -القاهرة 1988. 

هذا الكتاب

مجموعة قصائد وجدانية مرصعة بالهم الوطني والقومي، تحمل شحنات كبيرة من الحب والوجد والرؤيا البعيدة المدى منسوجة على منوال قصيدة التفعيلة المضبوطة الوزن والإيقاع صاغها الشاعر بلغة معبرة عن بوح شديد عما يدور في خلد الشاعر من أفكار ورؤيا وحلم وبوح.

هذا الكتاب

دراسة منهجية لأدب الأطفال وثقافتهم ، حاول الكاتب فيها أن يبتعد عن المعالجة الوصفية والتاريخية التي كانت سائدة في السبعينات، ويقترب من المعالجة النقدية مراعياً ماهو رائج ومتعارف عليه في الدراسات الحديثة ، ومتوجهاً للقارئ في شكل خطاب ثقافي جديد. قوامه البحث عن منظومة القيم الاستراتيجية الثقافية العربية الاسلامية والصورة المستقبلية للطفل العربي الذي يحاول الكاتب أن يضع له سمات أدب وملامح ثقافة تبعده عن الخرافة غير الهادفة إلى واقع علمي يتطلبه العصر.

أضيفت في 20/06/2006/ خاص القصة السورية / عن اتحاد الكتاب العرب (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)

 

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية