أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: يوسف جاد الحق

       
       
       
       
       

 

المحاكمة-مسرحية

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

ولد في قرية بينا - فلسطين الواقعة جنوبي مدينة يافا عام 1930

يحمل إجازة في الأدب الإنكليزي، جامعة دمشق.

مارس الكتابة الصحفية والأدبية وكتابة القصة والرواية والمقالة.

 كما كتب في معظم الصحف والمجلات العربية منذ الخمسينات وحتى الآن.

عمل رئيساً لتحرير مجلة صوت فلسطين أوائل السبعينات.

عضو جمعية القصة والرواية.

عضو في اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين.

عضو رابطة الكتاب الأردنيين. 

عضو في رابطة الأدب الحديث بالقاهرة.

 

مؤلفاته:

1- أشرقت الشمس  - قصص- القاهرة 1961.

2- النافذة المغلقة - قصص- دمشق 1965، وطبعة ثانية دمشق 1991.

3- أضواء على المؤامرة الكبرى- بحث سياسي- دمشق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية 1965.

4-المصير - مسرحية - دمشق 1967- وطبعة ثانية بالقاهرة 1972. وطبعة ثالثة في الكويت 1982. 

5- سنلتقي ذات يوم -  قصص- القاهرة -وزارة الثقافة والإرشاد القومي 1969.

6-  قادم غداً - قصص- دمشق 1980.

7- الطريق إليها - قصص- دمشق 1990.

8- الأرض ترفض الجثث- قصص دمشق 1993.

9- وأقبل الخريف - قصص- وزارة الثقافة - 1995.

10- المحاكمة - مسرحية 1995.

11- قبل الرحيل - رواية 1995.

12- حتى وداعاً لا تقولي (شعر) دمشق 2000.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

 حواء واصل الأشياء

الصديقة

شجاعة

حدث في تلك الليلة 

الابتسامة والمصير

كأنها هي

موت غير متوقع

لن أكتب قصة

 

حدث في تلك الليلة

 

 

سوف يحضر اللص في هذه الليلة –الظروف مواتية تماماً- الصالة التي اعتدنا إقفالها من الداخل ضاع مفتاحها، فالطريق، من ثم، أمامه (سالك) بغير عوائق.

اعتدنا أن نقفل الأبواب جميعاً بهذه الطريقة، لكي لا يتمكن اللصوص من الوصول إلى غرف نومنا عن طريق إحداها، نفتح عيوننا عندئذ، فإذا باللص فوق رؤوسنا، أو إلى جانب فراشنا. صالوننا هذا الذي أضعنا مفتاحه يطل على الحديقة، ونافذته لا ترتفع عن أرضها المحاذية للشارع بأكثر من متر ونصف المتر. ليس على اللص المحترف إذن سوى أن يرقى ذلك الإفريز الحجري، الذي أنشأناه مؤخراً تحت إطارها، ممتداً على سائر الجدار عرضاً أيضاً، ليدلف من ثم إلى الصالة بيسر ما بعده يسر. لن يرهقه ذلك، إذ هو نحيل وقصير القامة. خفيف كالفراشة، وإلا لما احترف هذه المهنة التي تتطلب رشاقة ولياقة بدنية، الطول المفرط، والوزن الزائد ليسا من مؤهلات لص محترف، إن لم يكونا من معوقات عمله. ولسوف يعينه على مهمته المزمعة هذه الليلة أن قاطني الطابق الأرضي في إجازة خارج البلاد وهو أغلب الظن يعرف ذلك، إذ لا بد له أن قام بالتحريات اللازمة.

فرصة فريدة حتماً وفرتها ظروف سعيدة، وهو ليس غبياً لكي يجعلها تضيع سدى.. ثم من ذا الذي يلومه ما دمنا نحن الذين قد مهدنا له السبل وهيأنا له الظروف؟ ولو قيض لأحد أن يضع تقريراً حول (التقصير) لما وجد أحداً غيرنا يلقى على عاتقه مسؤولية ما حدث..!

الآن، وبعد أن اعتلى صاحبنا الإفريز، آنف الذكر، سوف يزيح نافذة الألمنيوم، وإن هي لم تفتح –هذا إذا كانت زوجتي قد عملت على إغلاقها، هذه المرة، على غير عادتها، إذ هي تغفل عن ذلك دوماً على الرغم من تنديدي المتواصل بإهمالها قضايا (أمنية) على هذا القدر من الخطورة- أقول إن لم تفتح النافذة عليه أن يقوم بكسرها وهو يملك، دونما ريب، أداة مناسبة لقص الزجاج، كيلا يثير ضجيجاً أو جلبة، من ناحية، ولكي يكون ناجحاً في عمله من ناحية أخرى. أجل سوف يجد الأمور ميسرة تماماً من تلقاء نفسها. "رضا الله والوالدين". سوف يقول. وما عليه سوى أن يتوكل على الباري، عز وجل، في طريقه لأداء مهمته..!

ما دامت الأمور سوف تسير في هذا السياق أنّى لي، بربكم، أن يلمَّ بجفنيَّ الكرى، فيما أطفالي هؤلاء يقبعون من حولي، يغطون في نومهم مطمئنين إلى حسن تدبيري، وثقتهم العمياء في قدرتي على حمايتهم- تراودهم الأحلام الجميلة التي لا ينفكون عن روايتها لي في كل صباح، كل على حدة، عما رأى في الليلة المنصرمة. يطلب تفسيراً واضحاً ومغزىً محدداً. فالأحلام، كما تعتقد زوجتي وبما ألقت في روعهم، ترد إلينا من العالم الآخر. من أحبائنا الذين سبقونا إليه. وهم يملكون القدرة هناك على استكناه المستقبل (مستقبلنا نحن لا هم). يعرفون ما لا نعرف. ثم هم يجشِّمون أنفسهم عناء المجيء إلينا للتحذير أو للتبشير، فإذا حدث أن رأت زوجتي في منامها قطة سوداء تسقط عن الشرفة على حديقة جارتنا (أم وجيه) فتقيم الدنيا ولا تقعدها، كان معنى هذا أن أحد أبنائها سوف يفعل ذلك. من ثم فهي تمنعه من الذهاب إلى المدرسة في يومه ذاك. غير أنها سرعان ما تغفل عن أسباب بقائه في المنزل ذلك النهار. ومن ثم لا يقضي ولدها نهاره إلا في تلك الشرفة عينها..!

كيف أخيِّب ظنَّ هؤلاء، فيما هم على يقين من أن أباهم –الذي هو أعظم أب في الدنيا!- يضمن لهم السلامة والأمن معاً إبّان نومهم، فضلاً عن ضمانه لأمنهم الغذائي في صحوهم. أقول لك الحق أسائل نفسي: بأي وجه ألقى ربي في اليوم الآخر، إذا ما خذلتهم، فأخلدت إلى النوم، تاركاً الحبل على الغارب لذلك اللص اللئيم، الذي لن يتوانى عن الانقضاض عليهم –إبان نومي- إذا ما بدرت حركة من أحدهم، أو ندَّ صوت عن آخر بما يشير إلى يقظتهم وتنبههم له..؟ هل أدع أولادي هؤلاء فريسة سائغة لهذا المقتحم علينا عقر دارنا..؟ كلا وألف كلا..!

هو أيضاً يحمل سلاحاً. لا ريب في هذا، فهو شأنه شأن سائر خلق الله، لا بدَّ له أن يحمل في جعبته أدوات عمله. الحداد يحمل إزميلاً، والحلاق يقتني أمواس حلاقة.. والكاتب يحمل قلماً فلماذا يكون هو استثناء..؟

بتُّ أتخيله.. أعرف هيئته وصفاته تماماً.. فهو فضلاً عن قصر قامته، وضمور عوده، دقيق الملامح، ذو عينين ضيقتين، وأنف محدودب، وهو ممتقع اللون، ربما خشية وتوجساً لما هو مقدم عليه.. أو ربما لتحجر قلبه، الناجم عن ممارسته عمله هذا زمناً طويلاً. وقد ساعده الحظ بألاً يقع في أيدي العدالة حتى هذه اللحظة.. أو لعله بسبب (أنيميا) حادة يعاني منها منذ طفولته البائسة، نجمت عن فقر مدقع ألمَّ بذويه، الأمر الذي حدا به إلى احتراف هذه المهنة. إذ من الجلي أنه لم يخلق لصاً منذ البداية بل هو قد جاء إلى هذا العالم سوياً، كغيره من الأطفال. بل لعله كان آنذاك طفلاً لطيفاً وجميلاً، رعاه أبواه، وأغدقا عليه حباً وحناناً. وهما لم ينتظرا له مستقبلاً كهذا بأي حال. ولربما كان الأمر على العكس من ذلك كله، كأن يكون قست عليه الظروف، على نحوٍ أو آخر، فجعلت منه ما هو عليه الآن. كل الأطفال يخلقون أبرياء أنقياء.. أياً كان الأمر فمن المؤكد أن أمه لم تلده لصّاً محترفاً..!

ما دام الأمر كذلك، وما دمت أقدِّر ظروفه البائسة على هذا النحو فلماذا لم يقصدني هذا الغبي، في وضح النهار، أو حتى في بداية سهرة المساء..؟ يقرع جرس الباب.. نفتح له. يسألنا عوناً.. أو قرضاً لأجَلْ.. نقاسمه رغيفنا إذا اقتضى الأمر.. يقطع علينا مسلسل ذلك المساء..؟ لا بأس، بل هو يحسن صنعاً، ويسدي إليَّ معروفاً عندئذ.. حبذا لو أنه فعل.. إذن لوفر عليَّ هذا الأرق المضني، ثم الحراسة طوال هذه الليلة الماطرة، ذات الريح الهوجاء، التي سوف تساعده بدورها، في القيام بمهمته على وجه أفضل مما لو كان الجو صحواً.

نعم هذا الجو حليف مجاني لـه أيضاً. الأدهى من ذلك هو أنه يأبى المجيء إلاّ بغتةً، كالموت الذي ما برح موعد حلوله –هو الآخر- عصيَّاً على بني البشر، على الرغم من التكنولوجيا المتقدمة والكومبيوتر العجيب والانترنيت الأعجب..!.. هذا الموت ربما يحمله اللص القادم للتو في جعبته على شكل سكين حاد النصل، أو مسدس كاتم للصوت. من ناحيتي أُفضّل هذا الأخير، دونما تردد لو خيرت. فما من شيء في تصوري أكثر بشاعة من الموت طعناً أو ذبحاً.. أما الرصاصة فلها فضل السرعة والحسم وهما مطلبان عصريان أيضاً لدى الشعوب المتحضرة..!

كما أنه ودونما ريب، سوف يختار الوقت المناسب أيضاً.. وأي وقت أنسب من هذا؟ الثالثة صباحاً (حسب التوقيت الجديد)، إذ هو بخبرته وتجربته، فضلاً عن نظره الثاقب بات يدرك أن الناس، مهما امتد بهم السهر، فلن يتأخروا حتى هذا الوقت، فالمسلسلات.. وحتى برنامج (غداً نلتقي) تكون كلها قد مضت منذ زمن ليس بالقصير.. وما كل إنسان يملك (ساتلايتاً..!) كما أن أحداً لن يصحو الآن لصلاة الفجر التي لم يحن أوانها بعد.. الثالثة والربع.. والثلث.. والنصف.. تدق الساعة المعلقة في الجدار المقابل مرسلة رنيناً موحشاً في هدأة الليل.. ودقات رتيبة مثيرة للأعصاب.. لقد تأخر.. لعله غيَّر رأيه.. أو لعله أجل الأمر إلى ليلة تخلو من العواصف.

ولكن صمتاً.. صمتاً.. هذا وقع خطواته.. وقعها خافت.. خافت.. طبيعي هذا إذ لا بد أنه يستخدم حذاءً مطاطياً. وأنت بلا ريب، تقره على ذلك إذا كنت موضوعياً، ولم تكن مكابراً.. لا لا ليس هو.. إنه حفيف ستارة النافذة. أو أغصان شجيرات الليمون في الحديقة. إذن لا بد أنه أدخل تعديلاً ما على النظرية آنفة الذكر،

-خلافاً لما تعارف عليه سائر اللصوص- كضرب من التجديد... ولماذا لا يكون التجديد إلا في الشعر والقصة..!؟ أجل لقد رأى –خلافاً لما سلف- أن الوقت ما بين الثالثة والنصف والرابعة صباحاً –أي الآن- يشكل ضمانة أفضل لسلامة خطته الهجومية، حيث يكون الإنسان.. أيّ إنسان.. قد هدَّه السهر مهما أوتي من قدرة على الصمود، فأخلد إلى النوم. سويعات السحر هذه هي الوقت الملائم. عدَّل ذلك المنكود مخططه إذاً، عامداً كيما يطيل من أرقي وعذابي.. حتى جهاز الراديو الذي اعتدت أن يؤنس وحشتي في حالات أرق مماثلة، وإن يكن لأسباب مختلفة، لم أجرؤ على فتحه.. إذ كيف لي أن أسمع عندئذٍ وقع أقدامه بحذائه المطاطي؟ لم آسف على ذلك كثيراً أيضاً.. إذ ماذا كان يمكن أن يقدم لي سوى تلك الأغنيات السقيمة التي لا يفتأ يصدع بها رأسي، بل رؤوسنا جميعاً معظم الوقت.. وكأن (ماركوني) لم يصنعه حين صنعه إلا من أجل الغناء.. وما يطلبه المستمعون على وجه التحديد..!

على أية حال، وإذا كنت سوف أنجو من هذا القادم بحسن تدبيري ويقظتي، أو لأن عرى الصداقة لا بد قد توطدت الآن بيني وبينه، إذ فكرت فيه طوال هذا الوقت –متصوراً هيئته وملامحه وسلاحه، وطريقة تفكيره ونشأته البائسة- فإن آخرين في هذه اللحظات، في أماكن شتى من هذا العالم، لا يتمتعون بفرصة كهذه المتاحة لي. أي فرصة (الحياة) ولو في قلق، الأمر الذي هو عكس نظرية ذلك الأمريكي (ديل كارينجي) القائلة: دع القلق وأبدأ الحياة.. كأن أحدنا لم يكن حيَّاً قبل النصيحة (الذكية)..! نعم هناك بشر يموتون في هذه اللحظات ميتات بشعة، دون أن يتسنّى لهم الوقت لترف هذه التأملات، أو حتى مجرد (الاستمتاع) بالأرق..! الأرق (الخلاق)..! بغتةً وجدتني أسأل نفسي.. أو نفسي هي التي فاجأتني بسؤالها: أيعتريك الخوف يا هذا..؟

استنكرت السؤال بادئ الأمر، بيد أني ما لبثت أن أقررت بأني خائف حقّاً. وفي ذات اللحظة خطر لي أنَّ إقراري هذا هو الشجاعة عينها.. أجل هو إقرار (الشجعان) بالخوف..! ولكن ممن الخوف بالتحديد..؟ من إنسان ما قطعاً.. فالكلاب لا تخيفني- ولا الذئاب.. ولا الضباع.. المخلوقات الأخرى لم تعد تخيف أحداً.. حتى الزلازل والأعاصير أمست أقل خطراً على الإنسان من الإنسان الآخر.. ومما تصنعه يداه وما تتمخض عنه عبقريته!.. ما تدفعه إليه نوازعه.. أخلاقه.. أولا أخلاقياته..! الخَلْقُ في تسابقٍ نحو إفناء جنسهم.. من يقتل من؟ من يدمر أكثر..؟ يتفلسف الإنسان في مثل هذا الظرف..!

دقات الساعة تتواصل كأن ثوانيها تقطع العمر ثانية فثانية. تمضي إلى البعيد المجهول دونما عودة مرتجاة.. واحد.. اثنان.. ثلاثة.. أربعة.. يمضي الرنين متجاوباً بصوت أكثر ارتفاعاً بين جدران غرفتي.. يتلاشى تباعاً.. ويحل في أذنيَّ ضجيج صمت مثير متربص.. آه.. ها هو ذا.. لقد جاء أخيراً.. هذا حفيف حذائه المطاطي إياه.. لا مكان للشك هذه المرة.. لم يخلف الرجل وعده.. صادق هو فيما اعتزم.. أأفتح باب الصالة؟ أباغته.. أم أنتظر اقتحامه هو لـه...؟ أنتظره أم آخذه على حين غرَّة..؟ الهجوم خير وسائل الدفاع يا هذا.. أفتح الباب في رفق.. أصرُّ على أسناني كيلا يثير الباب صريراً.. الصالة تغرق في الظلام.. يا إلهي إنه هناك قرب النافذة.. عينان تبرقان.. لكنه لا يتحرك لمقدمي.. كأنه لم يحسَّ بي.. أو هو يتظاهر بذلك.. يبدو أضخم جثة وأطول قامة مما حسبت.. أعدو نحوه منقضَّاً عليه: مشهراً يد (الهاون).. أقذفه بكل طاقتي.. الزجاج يتحطم محدثاً فرقعة هائلة.. النور يضيء الصالة بغتةً، وسعاد من خلفي مرتاعة تصيح: ماذا هناك يا أبا هاشم.. ماذا حدث..؟

اللص يا سعاد – اللص اللعين.. انظري لقد هشَّم النافذة.. هناك عند الزاوية.. إنه هناك.. أين هو؟ كان هنا هذه اللحظة صدقيني...

أجلت بصري في أرجاء المكان.. ثم عند النافذة.. لم يكن هناك غير الزجاج المهشم، وشظاياه المتناثرة.. وسعاد زوجتي..!

 

 

 

شجاعة

 

(1)

كانت نظراتها التأنيبية الحادة تقول لي: "من قال أنك سوف تصبح رجلاً في يوم من الأيام، وأنت لا تستطيع ذبح دجاجة..!؟"

حاولت التهرب من نظراتها، ولكنها –أمي- لم تدع لي فرصة أن أفعل ذلك. رفاقي أولاد جارتنا (أم حامد) وأحفاد (الحاجة صبحة) والخالة (حليمة) زادوني حرجاً وهم يتحلقون من حولي. كانوا ينظرون إليَّ في ازدراء، يطلقون الضحكات الهازئة وعبارات التحريض الجارحة كي أذبح تلك الدجاجة، وإلا أكون جباناً. وها هي ذي أمي نفسها على ذلك من الشاهدين..! كانوا يتصرفون جميعاً وكأن بينهم وبين الدجاجة ثأراً يقتضي ذبحها. كنت ممسكاً رقبتها بيسراي والسكين بيمناي، فيما كانت هي ترفرف بجناحيها وأطرافها، بينما كان أفراد عشيرتها وبنو جلدتها من الديوك والدجاج تتقافز في باحة الدار، مدركين ما سيحل برفيقتهم البائسة، التي لن تلبث أن ترحل إلى العالم الآخر دون رجعة...؟

صاح واحد من رفاقي متحدياً، وموجهاً كلامه إلى أمي التي اربدَّ وجهها واحمرت عيناها غضباً:

"خالتي أم صابر –اسم أخي الأكبر- أنا أذبح لك هذه الدجاجة فوراً.. بل أذبح لك كبشاً إن شئت.. قولي (له) فقط أن يعطيني السكين..".

قال آخر بحميّة:

"بل أنا الذي سوف يذبحها لك، يا خالتي، في ثانية، بل قبل أن يرتد إليك طرفك.. هكذا هكذا..".

قالها وهو يسحب سبابة يده اليمنى من اليسار إلى اليمين وبالعكس أمام رقبته. أيقنت أن ليس هناك مندوحة من الانصياع لأوامر أمي العرفية بحق الدجاجة. أقول العرفية لأن والدتي كانت تعمد أحياناً إلى حبس أي دجاجة، ليس لمخالفتها رأياً لها، كما قيد يخيّل إليك، ولكن لمجرد إزعاجها لها بارتفاع صوتها بما هو أكثر من المسموح به..!

ما انفكت الدجاجة إبان هذه (الهوجة) تحاول بحركاتها العنيفة، بكيانها كله، الإفلات من المصير الذي يترقبها والسكين فوق رقبتها. لقد أدركت أن دقائقها باتت معدودة في هذا العالم الذي ستمضي عنه في الحال، مخلِّفة ورائها صيصانها العزيزة التي رقدت على البيض أسابيع عديدة. من أجل أن تخرجها إلى النور بالأمس تحديداً.. صيصانها التي مازالت في حاجة لرعايتها وحدبها، على الأقل حتى يجيء دورها ويحين وقت ذبحها هي الأخرى أسوة برفيقاتها..

في لحظة خاطفة.. بغتةً دونما تفكير. وفي لحظة تشبه الغياب عن الوعي بتأثير من عيني أمي وكلمات رفاقي، كانت يدي تحزُّ رقبة الدجاجة.. بل وينفصل رأسها عنها ليسقط بعيداً قرب الجدار.. انبثقت نافورة دم قانية مخيفة.. أصابت الجدار المقابل. قذفت بجسد الدجاجة مقطوعة الرأس بعيداً، وهي تنتفض متقافزة كراقصة مجنونة على إيقاع صاخب، ترش رذاذ دمها على وجهي وثيابي وصدري. نظرت في فزع إلى يدي التي (تلطَّخت) بالدم البريء.. علت هتافات التهليل والتكبير من حولي ابتهاجاً بالنصر المبين، الذي تحقق أخيراً على يدي. وهاهم رفاقي إلى جواري يشدون أزري ويهتفون بحياتي..! أما أمي فقد برقت في عينيها الجميلتين نشوة الفخر بصنيعي البطولي الذي أكَّد لها، دونما ريب، قدرة ولدها هذا على مقارعة الأعداء ومواجهة الخطوب في مقبل الأيام..!

لبثت جامداً كالصخرة الصماء في مكاني. أحسست أني أزهقت روحاً دجاجية بريئة: "ما الفرق بيني وبين أولئك الجناة الذين يتحدثون عنهم. فها أنذا أذبح الدجاج.. وللدجاج أزواج وأسر وأصدقاء وأقارب من ديوك ودجاج وصيصان. أليس كذلك يا صديقي..!".

(2)

لم أستطع على مائدة العشاء التي بسطت على الطبلية الخشبية العتيقة، أن ألمس شيئاً من لحمها، أو تناول شيءٍ من مرقها، رغم إلحاح أمي. كان حزناً طاغياً يملأ قلبي، بل إني عمدت إلى تجنب النظر إلى أشلائها الغارقة في المرق، والدسم يتلألأ من حولها، فيما كانت أمي وإخوتي سعداء بالتهامهم إياها قطعة، وراء قطعة دون أن يرف جفن لأي منهم...! أو تدمع له عين.

"إن هذه الدجاجة تحديداً، لم تسيء إليَّ في شيء. بل إنها هي التي كانت تمنحني بيضة في كل يوم. أيكون جزاؤها هو تماماً جزاء سنّمار.!". هكذا تماماً خلتها تقول لي. وكنا قد سمعنا بقصة سنمار هذا من أستاذ مادة العربي في مدرستنا منذ أيام. لكن أمي التي هي أدرى مني، بلا ريب، فيما هو خير وماهو غير ذلك، هي التي أصدرت إليَّ الأمر العسكري غير القابل للنقض، بالإقدام على ما أقدمت عليه. ويقيناً لولا احترامي لها ولولا أنها أمي، لأعلنت أمامها وعلى الملأ أنها هي التي دفعتني لاقتراف تلك الجريمة. أجل ما كنت سوى أداة التنفيذ لإرادة خارجة عن إرادتي. بيد أني على الرغم من ذلك لا أجدني قادراً على نسيان ما حدث.

أرقت تلك الليلة طويلاً. الليل موحش حقاً، الكل من حولي يغط في نوم هانيء عميق بعد أن قضموا لحم الضحية، وشربوا من مرقها الدسم. حتى أن أخي الأكبر (نادر) الذي يتمتع بقدرة جيدة على الشخير، علا شخيره الآن أكثر من أي وقت مضى، فأيقظ الجيران، ولكن دون أن يوقظ أمي وأشقائي. تحول ذلك الشخير، بعد لأيٍ، إلى موسيقى لها إيقاعها الخاص الذي ألفته مع الوقت. عدا ذلك كان الصمت مطبقاً، والظلام حالكاً.. وصوت الريح يأتي من بعيد فحيحاً موحشاً... الدجاجة أمامي.. ترنو إليّ وقد عاد رأسها المقطوع إليها.. تنظر بعينين خلتا من الدموع تماماً، ومن ملامح الذعر والألم التي بدت عليها وهي تكافح بين يدي من أجل البقاء.. نظرة عتاب فقط من عينين كحبتي عدس ملونتين، وهي تقف فوق بقعة كبيرة من الدم، رجلاها لا تلمسانها.. بقعة الدم تكبر وتكبر حتى أخذت شكل بحيرة تتلاطم أمواجها الحمراء.. والدجاجة البيضاء ترفرف فوق منتصفها تماماً، ترمقني بنظرة العتاب إياها، ثم يأتيني صوتها هامساً عذباً رقيقاً:

-بماذا أسأت إليك يا هذا كي تقتلني وتُيتِّم صغاري..؟

-لا شيء صدقيني.. بل إنك أنت التي قدمت لي بيضاً لذيذاً ومغذياً في كل صباح.. بلى إني لناكر للجميل..!

-إذن لماذا أقدمت على قطع رأسي أيها الآدمي..!

-أنت تعرفين.. ألم تكوني معنا لحظتئذ.؟ ولقد سمعت بأذنيك ورأيت بعينيك..

ألم تكن أمي هي التي دفعتني إلى ذلك دفعاً –كي أكون بطلاً مثل نابليون أو هتلر؟ وما كان لي أن أعصي لها أمراً، فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بطاعة الوالدين..

-ولكن هل عليك أن تطيعهما في قتل خلق الله..؟

-أتظنين أنه سبق لي أن قتلت أحداً من خلق الله..؟ أنا لم أقتل سواك.

-أوَلست أنا من خلق الله يا ابن آدم..؟

-بلى إنك لكذلك.. كاد يغيب عني هذا.. سامحيني على أية حال.. غفر الله لك وأسكنك فسيح جناته في أعلى عليين..!

-أسامحك..؟ أنتم اعتدتم مثل هذا.. فحين يبطش من بينكم ظالم مقتدر.. يكتفي أحياناً بالإعلان عن خطئه، وربما أسفه، لكي يبرر مقتل بشر آخرين على يديه.. بل هو أحياناً يطلب المغفرة نفاقاً..! ولكن ماذا يفيد الأسف الضحية؟

رفرفت الدجاجة بجناحيها.. ارتفعت في الفضاء قليلاً، ثم عادت لتستقر على ارتفاع قدمين من بحيرة الدم، ثم متسائلة بنبرة تنضح بالسخرية والتأنيب:

-قل لي يا هذا.. هل أشبعكم لحمي وانتشيتم باحتساء مرقي؟

-أقسم لك بكل غالٍ وعزيز أني لم أذقه.. وأنت تعرفين ذلك، إذ أنت الآن في بطونهم هم.. تعرفين تماماً من قام بالتهامك..!

-ولكن أهلك فعلوا..

-وهل يؤاخذ المرء بجريرة ما فعل أهله..؟ هل تزر وازرة وزر أخرى..؟

-أتتبرأ منهم الآن؟ كلكم هكذا عند الحساب والعقاب يتبرأ واحدكم من أخيه وأمه وأبيه..!

-على أية حال عليك التماس العذر لهم فالإنسان لكي يعيش يجب أن يتغذى على لحوم الآخرين. أنتم أيضاً معشر الدجاج، ينطبق عليكم هذا.. ألا تقضمون الحشائش وتلتهمون الديدان؟ كل الكائنات كما ترين يأكل بعضها بعضاً..!

-ألا يمكنكم العيش على أشياء أخرى غير لحومنا؟ أشياء لا تملك روحاً حية على الأقل أنتم تميتون أرواحاً لكي تحافظوا على أرواحكم..؟ كلوا أي شيء (يا أخي) غير ذي روح..

-مثل ماذا؟

-كالقمح والشعير والذرة والبرسيم شأنكم شأن الحيوانات الأخرى.. الحمير والبغال تقتات التبن وتعيش عليه.. وهاهي ذي.. انظر إليها، تملك أجساداً أقوى، وأكاد أقول إن لها عقولاً أرجح..!

-أتشبِّهين البشر بالحمير والبغال؟ أيليق بك هذا؟

-ما الفرق..؟

-أنت معذورة، على أية حال، فأنت لا تعرفين أنهم –البشر- ارتقوا مدارج الرقي وأخذوا يتفننون في إعداد أصناف الطعام، وأمسى لها متخصصون وبرامج في التلفزيون، وكتب رائجة تؤلف فيها، بل هناك شهادات دكتوراه في هذه المسألة..! ولكن أنَّى لك أن تفقهي هذا.؟

-هذا في ذاته دليل على أن البهائم أرجح عقلاً، كما قلت لك، إذ هي تتناول العلف من أجل أن تعيش بغير محسنات ولا منكهات، ولا تذوُّق، ولا احتفال ولا ولائم. الحيوانات تعرف أن الأكل هو الأكل وحسب.. وهو وسيلة لمواصلة العيش فقط. تأكل لتعيش.. وأنتم تعيشون لتأكلوا.. وتستمتعوا..!

-هذا غريب حقاً. كيف لكم معشر الدجاج معرفة هذا كله..؟

-مخلوقات الله جميعاً تعرف ذلك ولكنكم لا تعلمون أنتم معشر البشر، أسوأ الحيوانات على وجه الأرض. بل إنكم لخبثكم ينصب بعضكم لبعض شباكاً عن طريق الأكل. تقيمون ما تسمونه الحفلات والولائم لاكتساب الجاه أو لعقد الصفقات، بعد ذبح الخراف والدجاج والطيور والأسماك.. أو ليدعو أحدكم مخلوقة منكم، يريد اصطيادها، إلى مطعم أو مقصف لينال منها وطراً.. وتقبل هي مع أنها لا تعاني جوعاً..! نحن لا نفعل ذلك.. سائر الحيوانات والطيور والمخلوقات تذهب إلى أهدافها من هذا القبيل مباشرة.. دون الحاجة إلى اتخاذ الطعام والمآدب وسيلة.. أو حيلة من أجل ذلك..! ثم هي تقدم عليه في مواسم محددة للحفاظ على النسل ليس إلاَّ.. وليس للمتعة.. وهي لا تجعل منه شغلها الشاغل مدى حياتها..!

الدجاجة تبتعد وتقترب.. تعلو وتنخفض.. وأنا أقع في مزيد من الحيرة مما أرى وأسمع.. متسائلاً في كل لحظة: كيف عادت الدجاجة برأسها مع أني قطعت ذلك الرأس بيدي هذه.. بيد أني أحسست برغبة مخلصة في الاعتذار لها فقلت ملاطفاً:

-أكرر لك اعتذاري، وأؤكد لك أنه لولا تحريض أمي ورفاقي لما أقدمت على ذبحك..!

-أردت أن تثبت لهم شجاعتك.. ولكن على حساب دمي.. وإزهاق روحي..

-ألكم أرواح أيضاً..؟

-ماذا ترى..؟ مخلوقات الله كافة تملك أرواحاً وإلا لما رأيتني حية أمامك الآن.. حتى الأشجار والأزهار تملك أرواحاً.. ليست كأرواحكم.. لكنها أرواح على أية حال.

-حسناً حسناً يا صديقتي..

مقاطعة بصياح عالٍ وحاد:

-لا تقل صديقتي.. تقطع رأسي وتقول صديقتي.. يا للبجاحة..!

بادرت إلى تهدئتها:

-صدقيني أنك تملكين من المنطق المعجز مالا يملك مثله الفلاسفة في عصرنا..!

تطلق ضحكة دجاجية عالية لتقول:

-أنتم تحسبون أنكم تعرفون أكثر من البهائم ومخلوقات الله الأخرى. الفرق هو أنكم تتكلمون كثيراً عن قدراتكم وذكائكم، فيما نحن نلتزم الصمت. لن تجد دجاجة تتعالى على دجاجة بدعوى أنها أكثر فهماً.. لن تجد حماراً يحاول أن يثبت لحمار آخر –عن طريق الكلام أو تأليف الكتب- أنه يملك العبقرية وحده، دون سائر بني جلدته من الحمير. لا يحاول بغل أن يستعرض عضلات بلاغته أمام بغل آخر، أو بغلة ابتغاء مرضاة هذه الأخيرة أو نيل إعجابها منأجل إغوائها..! هل رأيتم حيواناً من أية فصيلة يدعي أنه يبول بطريقة أفضل من سائر أبناء جنسه، أو أنه يتناول علفه بطريقة متميزة على غيره من أفراد فصيلته..؟

-إنك تثيرين دهشتي. ألا إنك لتفهمين من الأمور ما لا يقل عما يفقهه عقل أدلر أو فرويد أو داروين.. وإني لأعدك بألا أعود إلى مثل ما اقترفت يداي بحقك، حتى لو مت جوعاً وسائر أهلي.. حتى أمي –سبب هذا الإشكال- لن أطيع لها أمراً من هذا القبيل في مقبل الأيام..

هزت رأسها باستنكار وأسف واضحين:

-ولكن ما جدوى ذلك الآن..؟ هل تحسب أن وعدك هذا سوف يعيد إليَّ روحي التي ذهبت تشكو لبارئها ظلم الإنسان للدجاج..! لقد يتمت صيصاني المسكينة.. بل إنك أجهضتني حين كسرت أجنَّة البيض التي كانت في أحشائي، بعد أن بقرتم بطني وتلذذتم بالتهام كبدي وقوانصي.. إنما أشكو بثي وحزني إلى الله العلي القدير..!

-يا إلهي تقولين هذا وأنت لست سوى دجاجة..؟

-دعني أزيدك علماً.. إن مخلوقات الله كافة تدرك بالفطرة نواميس الكون وتتواضع فتلبث خاشعة أمامها. ولتعلم أيضاً أننا لسنا إلا أمماً أمثالكم. أما أنتم فجهلة متبجحون، تقضون ثلاثة أرباع أعماركم في الكلام عاكفين على ثرثرة لا طائل من ورائها، ولولا ساعات نومكم لقضيتم الربع الرابع فيها أيضاً...!

بغتةً توقفت الدجاجة عن كلامها.. نظرت عن يمينها ويسارها ومن خلفها. كان هناك قطيع من الدجاج الأبيض (اللجهورن). تقدّمت القطيع واحدة منها. اقتربت من الدجاجة محدثتي. نظرت إليها دون أن تعيرني التفاتاً. قالت لها بصوت دجاجي هادئ:

"دعك منه يا رفيقة.. إنه كبقية أبناء جنسه.. هؤلاء هم مصيبة الأرض التي كنا فيها.. هم بلاء على الكائنات كافة، ليس علينا وحدنا، بل وعلى أنفسهم وبني جنسهم ذاته.. لسنا وحدنا ذبائحهم.. ولن تصلحي أنت ما عجزت آلاف السنين عن صنعه، إذ تتراءين له كي تطلعيه على بعض الحقائق الكونية.

ثم توجهت الدجاجة –القائدة كما يبدو إذ كانت أكبر حجماً بل أحست أني رأيت على جناحيها ما يشبه النياشين –توجهت إلى بقية الفوج من الدجاج الذي بدا وكأنه يغطي رقعة الأرض الممتدة حتى الأفق، لتقول بصوت عالٍ لكنه نحيل جداً:

ألا تعرفن أنه وُجد بين هؤلاء من ألّف لهم ملايين مما يسمونها كتباً، ومن ألقى من الأحاديث ما لا حصر له، بلى لقد ظهر بينهم العديد من الأنبياء والرسل والدعاة.. لكن ذلك كله لم يصلح من شأن هذا الصنف الغريب من المخلوقات أبداً.. هذا الكائن غير قابل للإصلاح.. أصدُقكم القول رفاقي ورفيقاتي..!

رفرفت الدجاجة بجناحيها.. ارتفعت في الفضاء.. رفرف موكب هائل من الدجاج الأبيض محلقاً في أثرها.. إلى أن اختفى عن ناظري تماماً.. تلفتُّ من حولي، فلم أر أي دجاجة.. تنفست الصعداء وأغمضت عيني مخلداً إلى نوم عميق.. عميق.

 

 

 

الصديقة

 

(1)

جلست زوجتي في قاعة الانتظار، على الكنبة الجلدية التي تتسع لثلاثة أو أربعة، ننتظر دورنا لمراجعة الطبيب، فيما كانت الممرضة، ذات الرداء الأبيض، تخرج بين الفينة والأخرى لتطلب إلى إحداهن الدخول، إذ حان دورها.

أقبلت في هذه الأثناء شابة أنيقة، ممشوقة القد، تناهز الثلاثين من عمرها، وهو ما يقارب عمر زوجتي يسرى –حسب عقد زواجنا- شرعت أعقد مقارنة بينها وبين زوجتي ولكني احتفظت بذلك لنفسي ابتغاء السلامة، أو قل تفادياً لإثارة الزوابع والرياح الهوجاء..!

اتخذت المرأة الوافدة المثيرة للانتباه، مقعدها إلى جانب زوجتي في الناحية الأخرى، وإن كنت أعترف لك –قد آثرت لحظتئذ لو أنها جلست إلى جواري، وفي المكان متسع لها. –لكنهن- كما لا شك تعرف- حريصات على ألا يتصرفن على النحو الذي يرضي رغباتنا أنا وأنت. لماذا يبيِّتن نحونا –معشر الرجال- سوء النية منذ الوهلة الأولى.. أقسم لك أني لا أعرف..!

مضيت في مقارناتي: زوجتي سمراء جذابة –لابد أن أقول هذا لأنها سوف تقرأ هذه السطور- وتلك شقراء. زوجتي متوسطة الطول وهذه طويلة كالنخلة الباسقة. الشعر ذهبي لكليهما، وإن كانت أسباب تشابه اللونين مختلفة..! لم تلفت المرأة نظري وحدي بل أنظار الأخريات والآخرين، الذين حضروا مثلي بصحبة زوجاتهم الأنيقات.. الحق أن وجودنا نحن الرجال في عيادة خاصة بالشؤون النسائية كان محرجاً لنا، حتى أننا بدونا كالمتطفلين على المكان. النساء كنَّ يقذفننا بنظرات لا سبيل إلى وصفها بأنها نظرات إعجاب.. أو مودة..

لقد خطر لي أنهن، يقلن: "أنتم السبب فيما نحن فيه، أيها السادة، سواء منا الحامل أو المرضع، أو التي تريد أن تحمل أو ترضع، أو حتى تلك الساعية إلى الإجهاض.. (كله منكم) أيها الأوغاد.. نحن نتألم من أجلكم، نحن نعاني، كما ترون، لا لشيء إلا لكي نشبع رغباتكم الـ.." هكذا سمعت أفكارهن داخل رأسي..

خرجت الممرضة من لدن الطبيب، في هذه الأثناء، مرة أو مرتين. لم تعد هي التي تسترعي انتباهي منذ الآن. خرجت لكي تدعو صاحبة الدور إلى الدخول. بعد لأي رأيت المرأة التي وفدت عما قليل تتحرك في جلستها، مزيحة جسدها لكي تقترب من زوجتي ولتهمس إليها بكلمات حرصت، كما بدا لي على ألا أسمعها.

ردت زوجتي بهمس مماثل، وقد بدت على محياها سيما مودة صادقة، وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة، أحظى أحياناً بمثلها وإن يكن في مناسبات قليلة، رغم انقضاء سنين طويلة على زواجنا..! يمضي الوقت بطيئاً، لتقترب المرأتان، اللتان كانت إحداهما زوجتي، من بعضهما أكثر فأكثر، وتنغمسان في حديث هامس، تتخلله من حين لآخر ضحكات مكتومة أوشكت أن تلفت أنظار الحاضرين.

تساءلت فيما بيني وبين نفسي: ترى هل كانتا تعرفان بعضهما بعضاً من قبل..؟ من ناحيتي لا أذكر. وحين التقت عيناي بعيني زوجتي في إحدى المرات القليلة التي كانت تلتفت فيها إلي، هممت بسؤالها عما خطر لي، بيد أنها أشاحت بوجهها عني على الفور، كأنها لم تعرفني من قبل قط. تكرر ذلك أكثر من مرة، لا بل إنها أخذت توجه إلي نظرات محذّرة، مصحوبة بتكشيرة صارمة على جبينها الرائع.. تماماً كما تفعل أيّ امرأة أصادفها في أي مكان، وأحاول التفرس في ملامح وجهها.. شعرها.. أو غيرهما..!

ساورني الإحساس بأني وحيد ها هنا.. بل غريب في جلستي، حتى عن زوجتي نفسها. لم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ لم تلبث المرأتان أن قامتا، دون استئذان أحد، ثم تمضيان إلى الخارج كي تتمشيا في حديقة المشفى بين أشجار السرو العالية وممرات الزهور، وقد احتدم الحديث بينهما. تضحكان حيناً، وحيناً تضرب إحداهما بيدها الناعمة ظهر الأخرى أو صدرها أو كتفها. ساورني العجب. وددت لو أنضم إليهما أشاركهما الحديث والضحك والتصرفات الأخرى ذاتها، لاسيما بالنسبة للمرأة الأخرى..! لكنني ـ وأنت توافقني يا صديقي ناظم على هذا دونما ريب ـ لم أجرؤ على ذلك. صحيح أنك لم تعهدني جباناً في الأيام الخالية كما تقول. لقد تعرض لي ضبع ذات ليلة حالكة الظلمة تأخرت فيها عن العودة إلى القرية من بيارتنا هناك. واجهت ذلك الضبع يومئذ دون أن يرفّ لي جفن. ألا تصدق؟ أنت وشأنك.. الحق أن شجاعتي خانتني هذه المرة، حيث أنني لبثت في مكاني لا أريم، كتلميذ ابتدائي حذَّره معلمه بألا يأتي بحركة، أو تصدر عنه نأمة (ابحث عنها في لسان العرب للمقريزي إن شئت). المتواجدون في القاعة طفقوا يتهامس بعضهم إلى بعض، أو ينظر هذا إلى ذاك، وهذه إلى تلك، فيما كانت الممرضة تخرج بين حين وآخر كي تنادي إحداهن، ثم تختفيان سريعاً داخل غرفة الطبيب، الأمر الذي يثير انتباه المتواجدين في القاعة، لتصور ما يحدث هناك.

مددت يدي إلى جيبي كي أتناول لفافة تبغ.. بيد أني لمحت في ذات اللحظة اللوحة المانعة للتدخين، كما لاحظت أن أحداً غيري لا يدخن، فأحجمت للتو وقمعت رغبتي الجامحة في التدخين، مما زادني ضيقاً وحرجاً. أدركت عندئذ، وفي تلك اللحظة فقط جدوى التحلي بفضيلة "ضبط النفس"..!

( 2 )

تعودان أخيراً. لقد بدتا تماماً كشقيقتين أليفتين إحداهما زوجتي. اقتربت ـ زوجتي ـ تجلس إلى جواري، وهي تشير إليَّ بيدها بأن ابتعد قليلاً، لكي تفسح للشابة مكاناً إلى جوارها. فيما هي تردد بمودة واضحة:

ـ اقتربي.. تفضلي.. اجلسي هنا يا جانيت.

وما إن جلست الشابة، التي عرفت الآن أن اسمها جانيت، حتى خرجت الممرضة لتدعو زوجتي باسمها ـ حسب ورقة في يدها ـ إلى الدخول. نهضنا معاً بعد أن استأذنت زوجتي رفيقتها. وجدتها فرصة سانحة لأبادل جانيت ولو كلمة استئذان خاطفة، لكن زوجتي رمتني قبل أن أفعل ـ وقد حدست ما انتويت الإقدام عليه ـ بنظرة لم أفهم مضمونها ومحتواها، تماماً كما يحدث لك عند قراءة قصيدة نثر لشاعر  مبتدئ..! هل كانت تشجيعاً..؟ استنكاراً..؟ تحذيراً..؟ لا تعني شيئاً..؟ علم ذلك عند علاّم الغيوب. لا تقل لي أنك لا تعرف أن للنساء نظرات وابتسامات وإيماءات فيها من الغموض ما يستعصي علينا نحن الرجال وحدنا، إدراك مغزاها ومرماها، في حين أن المرأة ـ أي امرأة ـ تدرك على الفور المغزى والمعنى الذي تنطوي عليه نظرة زميلتها المرأة الأخرى، أو ابتسامتها، أو حتى حركة خصرها..!

(3)

حين دلفنا إلى القاعة، إثر خروجنا من لدن الطبيب النسائي المختص، اقتربت زوجتي من جانيت. انتحت بها جانباً قريباً من مدخل القاعة. انهمكتا في حديث خافت، ثم تبادلتا قبلات ودودة، وعبارات وداع دافئة، تنبئ عن وطيد العلاقة، وعميق الصداقة المستجدة بينهما. لم يفت زوجتي أيضاً إعطاءها رقم هاتفنا، بل أيضاً رقم جارتنا (هدى) من قبيل الحيطة في حال كان هاتفياً معطلاً، أو مفصولاً لأسباب مالية..! ثم مستحلفة إياها بالله أن (تهاتفنا) في أقرب وقت مستطاع لديها..!

وما إن غدونا المشفى حتى بادرتُ زوجتي بالسؤال:

ـ اخبريني يا زينب، فيم كنتما تتحدثان طوال هذا الوقت أنت والصديقة جانيت..؟

توقفت زوجتي للتو في مكانها. قطعت خطوها فوراً حيث كنا في الشارع.. وضعت كلتا يديها على خاصرتيها وهي تقول باستنكار عاصف:

ـ وما دخلك أنت (يا حبيبي) فيما كنا نتحدث فيه؟ إنها شؤون نسائية لا علاقة لكم بها أنتم الرجال.. أفهمت..؟

لزمت الصمت. لم أنبس ببنت شفة (أو ابنها) إزاء عبارتها القامعة.. ومضينا في الطريق إلى بيتنا بعون الله ورعايته كأن على رأسينا الطير..

(4)

لم نلبث إلا قليلاً.. دقائق معدودة عقب وصولنا، حتى كان رنين الهاتف يتردد في غرفة الجلوس.. هرعت زوجتي إليه.. كانت جانيت على الطرف الآخر.

 

 

حواء وأصل الأشياء

 

 

قفل راجعاً إلى كهفه في ذلك المساء، مكدوداً مهدوداً، بعد أن أنهكته مصارعة وحش لم ير لـه مثيلاً من قبل، منذ هبوطه إلى الأرض. يطارده حيناً ويفرُّ منه حيناً، ولا ينجو من براثنه إلا حين يتسلق تلك الشجرة السامقة العلو، تأهباً للانقضاض عليه من جديد. الأرض حافلة بالوحوش، تغص بها الغابات التي تغطي سطحها. وكذلك البحار حافلة بالمخلوقات العجيبة المخيفة.. وليس هناك سواهما.. على ظهرها.

ما إن جلس إلى جوارها في ذلك الكهف الذي تكاد تخفيه الأشجار الكثيفة المظلمة في تلك الليلة المدلهمِّة، حتى ابتدرته بقولها:

ـ أين كنت يا آدمي العزيز..؟

ـ في الغابة الشاسعة كي آتيك بطعام يا وحيدتي.

ـ قلقت عليك إذ تأخرت.

قال وكلماته توشك أن تكون همساً لشدة إعيائه:

ـ دعيني أسترح قليلاً، أيتها العزيزة، فلقد أنهكتني مطاردتها.

ـ من هي هذه..!

ـ تلك المخلوقة، أو ذلك المخلوق.. ما أسرع عدوها.. وما أعلى زئيرها.. لقد كان يوماً مخيفاً حقاً.

بعد فترة صمت تساءلت كمن تحدث نفسها وهي ترفع رأسها نحو السماء:

ـ ألم نكن مرتاحين هناك..؟

اقتربت منه، وقد لفت جسدها بأوراق الشجر. نظر إليها على الرغم من إعيائه.. اعتراه الشوق لضمها.. أحسَّ كأنها قطعة منه يريد استعادتها.. يشعر بالأنس قريباً منها كلما عاد من الغابة، وينتابه الحنين إليها طوال غيابه عنها. ابتدرته قائلة:

ـ لقد خطرت لي اليوم فكرة جديدة.

ـ ما هي هذه الخاطرة يا وحيدتي..؟ ولا تنسي أنك تتحفينني كل يوم بأفكار جديدة.

ـ سآتيك بالعشاء قبل ذلك.. قطعة اللحم الباقية من كتف ذلك الوحش الذي اصطدته آخر مرة.

ـ لا أرغب في ذلك الآن، لقد مللت لحم الوحوش.

ـ وماذا سيكون لدي غيره..؟

ـ إذن هيا، أتحفيني بفكرتك، لعل فيها ما يفيد.

ـ أتساءل عن مسألة.. لا أعرف كيف أفصح عنها.. فكرت فيها طوال غيبتك.. لا أعرف ما هي.. ما هي.. قد أسميها تعادل.. مساواة.. أعني لماذا لا تكون هناك مساواة بيننا؟.

ـ مساواة؟ ماذا تعنين؟ مساواة مع من..؟

ـ معك..

ـ معي.. ولكن كيف..؟ أوَلسنا متساويين في هذه الوحدة الموحشة..؟ ألا آكل مما تأكلين.. وأشرب مما تشربين.. ونعاني معاً الظروف ذاتها؟.

ـ لا.. لا.. ليس شيئاً من هذا.. أعني لماذا يكون هناك فرق بيني وبينك..؟ لماذا يتصرف كل منا بطريقة مختلفة..؟ أوضح لك ذلك بطريقة أخرى. أنت تخرج إلى الغابة الفسيحة وقتما تشاء، فيما أظل أنا حبيسة هذا الكهف الموحش، في هذه الرقعة من الأرض في انتظار أوبتك لا لشيء آخر.. تغيب النهار بطوله تذهب إلى حيث تشاء، وعندما تعود تتشاجر معي إذا لم تجدني حبيسة هذا الكهف أو على مقربة منه.

ـ لكن ذلك بسبب خشيتي عليك أن يصيبك مكروه.

ـ وأنا أخشى عليك أيضاً، ولكنني لا أتصرف بالطريقة ذاتها.

ـ صدقيني أنني لا أفقه اليوم شيئاً مما تقولين. وهذا كلام غريب عليَّ حقاً.

ـ وسيظل غريباً عليك دائماً.. لأنك لا تحاول أن تفهمني..

ـ لست أفهمك فعلاً يا امرأة..

 ـ آه.. أرأيت من هنا تبدأ المسألة.. ها أنتذا تنادي (يا امرأة) أليس كذلك..؟

ـ وماذا أنت يا عزيزتي.. سوى أنك امرأة..؟

ـ أليس في هذا ما يوحي بالدونية إزاءك.

ـ يا إلهي.. حقاً لا أفهم عمَّ تتحدثين اليوم..

ـ على أية حال لن تخرجني عن الموضوع.. سأظل على وعي به.. بل سوف أورثه لحفيداتي في الأحقاب القادمة..!

ـ لو كنت أعرف عمَّ تتحدثين لحققت لك رغباتك جميعاً.. أنا الذي أكرس حياتي من أجل رعايتك والحدب عليك.. أضرب في أرجاء الأرض لأجلب لك الطعام.. وأصارع الوحوش الضارية كي أذود عنك وأحقق لك الأمن والطمأنينة. وإنك لتعرفين أن إحدى رغباتك جاءت بنا إلى هذا المكان الموحش المسمى بالأرض، المحرقة حرارتها حيناً، الموجع بردها حيناً..

ـ لا تلق باللوم عليَّ وحدي يا عزيزي الأوحد.. أنت رغبت أيضاً في ذلك.. نحن شريكان متساويان فيما حدث.. كان ممتعاً أليس كذلك..؟

ـ كنت وما زالت فاتنة مغرية.. لقد أغوانا الشيطان.. ذلك الإبليس.. وكان ما كان.. بل ها هو ذا لا ينفك يتربص بنا.. وأخشى أن تكون هذه إحدى وسوساته لك.

ـ ولماذا تراه يفعل ذلك..؟ لماذا يصرُّ على ملاحقتنا من أجل أذيتنا..؟

ـ لكي ينشئ خلافاً.. وربما عداوة لو استطاع.. إذا ما جنح كل منا إلى هواه..

ـ لكنها فكرتي.. وردت على ذهني من تلقاء نفسها.

ـ وأنَّي لفكرة خرقاء كهذه أن ترد على ذهنك أصلاً.. لولاه ذلك اللعين إلى يوم الدين.. احذريه يا عزيزتي.. احذريه وإلا .

ـ معاذ الله أن يكون له سلطان عليَّ أو عليك.

ـ إني لا أخشاه علينا.. بل على أبنائنا في العصور الآتية. لقد وطّد العزم على أن يتربص بهم على مدى الدهر، هل نسيت أنه توسل إلى ربنا العلي القدير أن ينظره إلى يوم الدين..؟

ـ ولكننا لن نتوانى عن مواجهته معاً؟

بعد فترة صمت يسرح فيها بعيداً بعيداً يردد وكأنه يحدث نفسه:

ـ أكاد أرى رأي العين صوراً من الشقاء والبلاء، وبحاراً من الدم، مفاسد ومظالم لا يحيط بها حصر سوف تعم الأرض، حتى يوشك أن يغدو العيش فيها، بحد ذاته، ضنكاً وعذاباً.. فيا لأبنائي التعساء..

ـ لقد ألقيت الروع في قلبي بما تقول حول مستقبل أبنائي.. أوَ كثير هم يومئذ؟

ـ أعدادهم هائلة تملأ الأرض على رحبها.. أجيال تتعاقب على ظهرها ثم يطويهم جوفها عبر ملايين السنين..

ـ حبذا لو نكون معهم يومئذ لعلنا نرشدهم سواء السبيل.. ومصائرهم المنتظرة كما تتحدث عنها تدمي قلبي..

ـ سيبعث الله فيهم رسلاً وأنبياء، ولكن قليلاً منهم يستجيبون للهداية، فيما أكثرهم تغويهم المعاصي والآثام، وتغريهم مباهج الحياة، فيمضون في بغيهم وغيِّهم إلى أن يحل بهم ما حلَّ بمن كانوا قبلهم وسيظلون هكذا حتى تقوم الساعة..

تجهش بالبكاء أكثر من أي يوم مضى عليهما في الأرض. يضمها إلى صدره في حنان لكي يخفف عنها ما ألمَّ بها من حزن وخشية وشجن.

انقضت أيام، وشهور، وسنون، إلى أن كان يوماً حين عاد إليها في المساء، بعد أن انتقلا إلى كهف في سفح جبل، بدا لهما أنه أكثر أمناً، إذ يقع عند طرف من الغابة، وأمام السفح منبسط من الأرض ترعى فيه أغنامهما. تناولا عشاءهما لبناً وثماراً جنتها من شجيرات قريبة من الكهف. ثم أوقدت ناراً في أعواد جافة من أغصان الشجر. اقتربت منه، ثم قالت مبدية شيئاً من التذمر:

ـ لقد شعرت اليوم بملل شديد أثناء غيابك.. حبذا لو كانت لي جارة تؤنس وحدتي..!

ـ كنت أبحث عن طعام.. وأجمع حطب.. إنه عناء يا عزيزتي..

ـ ولكنك تتنزه إبان ذلك.. هل ترى أنه من العدل في شيء يا قرة عيني، أن تمضي سحابة نهارك، متجولاً في أرجاء الأرض، بين الغابات والأودية وشواطئ الأنهار والبحار ترى من الطبيعة ومن مخلوقات الله ما ترى، فيما أنا (مرزيّة) هنا في هذا الكهف المهجور إلا من الأشباح..

ـ اللهم أعنِّي على الصبر..!

ـ أنت تتغيب عن المكان على الدوام لعلك تعرفت إلى أخرى..

ـ لا شك أنك بحاجة إلى الراحة يا عزيزتي.. أين هي الأخرى..؟ هل هناك على وجه الأرض من امرأة غيرك..؟

ـ في مقبل الأيام سوف يقول أحفادك لحفيداتك مثل هذا. سيقول واحدهم لواحدتهن هل هناك من يمكن أن أحبها غيرك يا حبيبتي..؟ أنت الوحيدة في حياتي ومماتي أيضاً..! سيقول لها ذلك كما تقوله لي أنت الآن وهو يعرف عشراً منهن على الأقل.. إبليس نفسه سوف يدفعهم إلى ذلك..

ـ ولكننا أنا وأنت نتحدث الآن عن الآن.. فأين هي هذه الأخرى..؟

ـ من أدراني..؟ أنت تعرف أن كواكب السماء مأهولة بالخلق. لم يخلقنا الله وحدنا في هذا الكون.. عوالم أخرى مليئة بالخلق. لم يخلق الله هذا الكون عبثاً ولجنسنا هذا وحده.. وليس غريباً أن يهبط أحد منها لتلك الأسباب التي مرت بنا، أو غيرها، فلكل كوكب ظروفه وأحواله.

ـ آه يا عزيزتي.. يبدو لي أنه لن يقر لك قرار قبل أن تخرجيني من هذه أيضاً..!

ـ ولكنك عندئذ تعود إلى الجنة.. ألن يسعدك ذلك..؟

ـ كيف لا؟

ـ بالطبع سيسعدك، لأن هناك حوراً عيناً ينتظرنك..

قالت ذلك وهي تحدجه بنظرة متحفزة..!

ـ وأنت معهن تكونين.

ـ معهن..؟ تعني أنك موافق على أن يشاركنني إياك..! بلى إنك لتنتظر ساعة العودة إليهن بفارغ الصبر.. ولكني من أجل ذلك سوف أحرص على بقائك حياً ها هنا..!

تنخرط في البكاء. يقترب منها يهدهدها ويكفكف دموعها، ويمسِّد شعرها بحنو. تدفن وجهها في صدره مواصلة نشيجها إلى أن يقول لها مداعباً:

ـ لعله أخف وطأةً وأكثر أمناً لي أن نعود إلى ما انقطع من حديثك منذ أمد حول ما أسميته "مساواة" أو لا أدري ماذا..

ـ تلقفت كلماته وكأنها كانت تنتظرها لتبادر إلى القول:

ـ حسناً.. ماذا تقول في هذه المسألة.؟

ـ إنها لفكرة عجيبة غريبة.

ـ لماذا هي كذلك.. ألم نخلق من طينة واحدة. من ذلك الصلصال.. من ذلك الحمأ المسنون..؟

ـ بلى وأنت مني.. ولكن لكل منا، مع ذلك، مواصفات ، وخَلْق مختلف عن الآخر.. ما أستطيع القيام به لا تستطيعينه أنت والعكس صحيح.. وظيفتك في هذا الكون غير وظيفتي.. مهماتك غير مهماتي..

ـ اضرب لي مثلاً.. ما هو الشيء الذي لا أستطيعه من دونك..؟

ـ هل تجرؤين مثلاً على اقتحام الغابة ومواجهة كواسرها المخيفة وحشراتها السامة..؟

ـ ألم تر إلا هذا المثال.؟ إنك ترمي إلى تعجيزي وحسب.

ـ هل تقدرين على حمل الأخشاب وتسلق الجبال..؟

ـ وأنت هل تستطيع الحمل والولادة..؟ هل لك أن تعرف كم عانيت في قابيل وهابيل وأختيهما..؟

ـ ها ها أرأيت..؟ ها أنت ذي تعترفين من تلقاء نفسك أنه لا يمكن لأي منا أن يقوم مقام الآخر.. أو أن يكون مكانه..

 

ـ ومن قال لك أنني عنيت أن يحل أحدنا مكان الآخر..؟

ـ ماذا بالله عليك تعنين إذن..؟ اللهم طولك يا روح..!

ـ أعني أنه ينبغي أن يكون لي حق التصرف والاختيار.. و. و.. التصويت أعني أن أدلي بصوتي في أمور حياتنا.. شأني شأنك..

ـ تصويت..! ماذا تعنين بهذه الكلمة أيضاً .. وعلى ماذا تصوتين.. إلا إنك لتأتين اليوم بكل عجيب يا امرأة..

يكفّان بغتةً عن حوارهما، إذ يدلف إلى داخل الكهف في هذه اللحظة أكبر ولديهما قابيل.. ولكنه وحده على غير العادة. وقد بدا واجماً، تغيرت سحنته وشحب وجهه واحمرت عيناه.

صاح به الأب:

ـ ما بك يا قابيل.. وأين تركت أخاك هابيل؟

ـ لم يحر قابيل جواباً.

 صاح به الأب ثانية:

-قل لي أين هابيل يا قابيل.. لا تقل لي أنك تركته في الغابة وحيداً في هذه الليلة العاصفة..

كان هناك غراب يقف على غصن شجرة قريبة من باب الكهف ينعق. أشار إليه قابيل وهو يقول لأبيه مطأطئ الرأس:

-إسأل هذا الطير يا أبتِ..

-أسأل من؟ أأسأل الطير يا قابيل وأنت أمامي؟ ما بكما اليوم، أنت وأمك، تقولان أشياء غريبة، لم لا تجبني أنت بدل أن تحيلني على هذا الطير أسأله؟ هي تقول لي تصويت وأنت تطلب إلى أن أسأل الطير عن أخيك الذي كان بصحبتك. لم لا تكلمني أنت يا ولد بدلاً من هذا الطائر الكئيب..؟

-هذا الطائر هو الذي أزاح عن كاهلي عبء حمل أخي على ظهري ساعات طويلة في الغابة.

-ويحك ولماذا تحمله على ظهرك..؟ هل كان عاجزاً عن المشي..؟

-نعم.. وهو هذا الطير من دلّني على مواراة هابيل التراب..!

-تواريه التراب لأنه عجز عن المشي.. كيف..؟ قل لي بربك كيف..؟

-لم يعجز عن المشي وحده.. بل عجز عن الحركة والكلام والتنفس..

قال الأب وقد استشاط غضباً:

-كيف حدث ذلك..؟

-كنت قد قتلته..! لقد مات.. مات هابيل يا أبتِ.. هكذا أفهمني هذا الغراب مع أني لم أعرف أول الأمر أنه مات.. بل إني لا أعرف ما الموت..؟

-تقول أنَّك قتلته..؟ ويحك..؟ تقول قتلته..؟

-لقد سوّلت لي ذلك نفسي.. رفعت حجراً فوق رأسي بكلتا يدي.. ثم هويت به على رأس أخي.. انطرح أخي أرضاً ولم يعد يتحرك أو يتكلم أو يتنفس.. أو ينظر إليَّ كما كان يفعل قبل ذلك. لقد انطفأت عيناه أيضاً يا أبت..! وغدا كالحجر تماماً أو كجذع هذه الشجرة الجامد.

التفت الأب إلى الأم وهو يصيح بها ويضرب كفاً بكف:

"صوِّتي الآن كما تحبين يا أم البنين.. بل وانصبي مناحة إن شئت.. فلسوف يغدو أبناؤك منذ اليوم.. على مدى الدهر وحتى قيام الساعة بعضهم لبعض عدواً..!

 

 

الابتسامة.. والمصير

 

 

على كثرة ما رأت عيناي في حياتي المديدة فإنهما لم تريا قط امرأة تملك ابتسامة كهذه التي تملكها هذه المرأة. لا أستثني تلكم اللواتي يظهرن على شاشات السينما والمحطات الفضائية، عربية وأجنبية، أو من يعرضن مفاتنهن على الملأ في مسابقات للجمال، والإعلانات المبهرة لأدوات التجميل والمأكولات والرياضة. تلك ابتسامات زائفة، وإن جهدت صاحباتها في محاولة إظهارها حقيقية. أما هذه فصادقة لا تكلف فيها. غمّازتان دقيقتان ترتسمان على صفحتي وجهها الشاحب قليلاً، قريباً من شفتيها، تثيران شجناً غامضاً ينسرب إلى حنايا القلب، كلما رفَّت البسمة، على الشفتين وتراءت بريقاً ساحراً في العينين الساجيتين.

أتراني أفلحت في وصفها..؟ أبداً، وما هذا الذي أسلفت سوى دليل دامغ على إخفاق ذريع لوصف ما لا يوصف. ولكن من أكون حتى تشغلني هذه السيدة صاحبة الابتسامة.. ما أنا إلا ساعي بريد تصادف أن حملت إليها رسائل مرتين أو ثلاثاً..

ناولتها المظروف المغلق ثم وقفت أنتظر.. ولكن تراني ماذا أنتظر؟.. إن شئت الحق قل إني وقفت أنظر إليها مأخوذاً مسحوراً، عاجزاً عن الحركة تماماً. أعترف لك بذلك دونما وجل. تسمّرت في مكاني، كما فعلت في المرات السابقة. نسيت كل شيء، حتى أنني لو مكثت هكذا أنعم النظر في محياها ما بقي من الدهر لما أدركت ذلك، ولا ندمت عليه أيضاً. وماذا في وسعي أن أفعل في هذا المتبقي لي من العمر غير توزيع الرسائل على عباد الله؟ أحمل في جعبتي البهجة والفرح لبعضهم، والهم والغم لبعضهم الآخر. أولئك أمسوا يتفاءلون لرؤيتي، وهؤلاء باتوا يتشاءمون، وكأنهم ينسون أنه لا يد لي في هذا ولا ذاك. وددت لو أن الزمن يتوقف كالثقوب السوداء في أعماق الكون فألبث أنا حيث أنا، وتمكث هي بباب دارها حيث هي.

لا بدَّ أنها أدركت، بعد أن طال وقوفي، ما يجول في خاطري فما عتمت أن رمقتني بنظرة اخترقت قلبي كالسهم، حين أومأت لي بأن أنصرف بعد أن أدَّيت الرسالة..!

لا أكتمك.. لقد أمضيت أياماً بلياليها لا تفارق خيالي ابتسامتها، سواء في صحوي أو في منامي. بل حتى في أحلام يقظتي. أيقنت أني سوف أكون أتعس خلق الله على أرضه منذ الآن. فحياتي قريباً منها غير متاحة البتة، وبعيداً عنها لا تعني حياتي هذه شيئاً غير الجحيم. حنين غامض يجتاحني، أخفق في صرفه عني أو إطفاء جذوته المتقدة. أحسد ذويها وجيرانها الذين يقيَّض لهم أن يحظوا برؤيتها دوماً، كلما لاح الصباح وكلما أقبل المساء.. وبين ذلك.. لكأنما ربطني إليها قيدٌ سحريٌّ لا خلاص منه. ما العمل وما الحيلة يا هشام..؟ تدّعي أمام الرفاق على الدوام أنك واسع الحيلة بارع الذكاء، وها أنتذا في حالة عجز مطلق لا تحسد عليها. ائتني بحل ينجيك من أسرها.. أو اهدني إلى الطريق إليها..

أتراها متزوجة..؟ لا أريد أن أتصورها متزوجة.. أين هو ذلك الرجل الجدير بها دون سائر الخلق..؟ بأي حق يحتكر هذه الابتسامة وحده من دونهم..؟ ولكن ماذا تراني صانع الآن..؟ كنت قبل حمل الرسائل إليها قانعاً بما أنا فيه وعليه.. راضياً بـ (أم نعيم)..! ومن حولها في حيّنا، أراهنَّ صباح مساء دون أن تنغِّص إحداهن عليَّ أيامي.. ولكن هي ذي أيامي الراكدة كالمستنقع تغدو جحيماً مستعراً.. قل لي ما العمل..؟ ولماذا تصادف ذلك اليوم أن فتحت هي باب الدار دون غيرها.. أهو قدر إذن..؟ ألم يكن ممكناً أن تستقبلني شقيقتها الكبرى أو الصغرى.. أو أمها.. أو أي أحد آخر غيرها..؟

وإذ أعياني التفكير وضاقت بي السبل، عنَّ لي خاطر بدا عجيباً غريباً أول الأمر. غير أني ما لبثت أن استحسنته. قلت لنفسي أذهب إليها متذرعاً بأمر ما. أمضيت الهزيع الأخير من الليل أبحث عن ذريعة إلى أن هداني الله إليها..

***

ترددت قليلاً قبل أن أطرق باب منزلها، لا سيما أنني لا أحمل إليها رسالة هذه المرة. قلبي يخفق وجلاً، وجذلاً في آن، متأرجحاً بين اليأس والرجاء.. مرَّ دهر قبل أن يفتح الباب بتؤدة أثارت أعصابي أكثر فأكثر. تقول لي بأني صعقت إذ كانت هي نفسها التي أطلَّت عليَّ، وابتسامتها ترف على شفتيها كما في كل مرة سبقت؟ رمقتني بنظرة متسائلة لا تشوبها الدهشة.. قبل أن تقول:

-أمر أيُّها السيد..

قلت لها بعد أن تمالكت روعي، وقد أرتج عليّ ومادت الأرض تحت قدميّ قلت متلعثماً:

-أيتها السيِّدة أو الآنسة.. صدقيني لا أدري.. هل تسمحين بـ..

قاطعتني قبل أن أسترسل، لا سيَّما وقد رأتني لا أحمل في يدي رسالة كالمعتاد:

-بماذا..؟ نعم.. ماذا تريد..؟

قالت ذلك وهي تميل رأسها نحو كتفها، فيما يهتز شعرها المرسل الفاحم على جبينها.. فكان من شأن ذلك أن زادها سحراً يدير الرؤوس..

قلت مرتبكاً أكثر من ذي قبل، وحتى دون أن أعي ما أقول أو أتصور أبعاده، أو وقعه عليها:

-هل لي أن أطمع منك في.؟

قاطعتني مرة أخرى:

-ماذا تقول؟ تطمع؟ تطمع في ماذا يا هذا..؟

ووجدتني بغنةً – حسماً لكل تردد – على قدر من الجرأة التي لم أعهدها في نفسي من قبل أقول لها وكأني أُلقي بقنبلة مسيلة للدموع:

-هل لك أن تسمحي لي بالمرور من هنا بين حين وآخر، لا لشيء سوى أن أنظر إليك.. أتملّى جمال ابتسامتك الفريدة.. ثم أمضي بعد ذلك ولو إلى حبل المشنقة..! ثم إلى جهنم..!

ضجّت بضحكة سرعان ما بادرت إلى خنقها مما أثار جنوني. ووجدتني أندفع نحوها دون وعي.. لكنها تراجعت، وفي اللحظة ذاتها ظهر رجل من خلفها. جاء من داخل المنزل. اندفع نحوي بطوله الفارع وجسده الضخم، ووجهه المكفهر المتصبب عرقاً، كأنما خرج للتو من معركة أو هو مقدم عليها. أمسك الرجل بتلابيبي وأخذ يهزني بكلتا يديه هزَّاً، حتى أوشك أن يكتم أنفاسي. ثم ملوحاً بورقةٍ في يده أمام وجهي وهو يصيح:

-من هو صاحب هذه الورقة..؟

قلت مرتعداً:

-من أدراني..؟

-تقول من أدراك.. أتنكر أنك جئتها بهذه الرسالة منذ يومين اثنين..؟

قلت وأنا أحسب أنه يعرف أني ساعي بريد:

-نعم.. وماذا في ذلك أيها الأخ؟

قال وهو يرتجف غضباً، فيما هو لا يزال يهزني ولكن بعنف أشد:

-وقح أيضاً.. تقول ماذا في ذلك..؟ يا لصفاقتك العجيبة يا أخي.. أنت صاحبها إذن.. أأنت صديقها.؟

آه. لقد ذهب الظن بالرجل بعيداً. فبادرت إلى القول كي أنفي التهمة عنها قبل أن تكون عني:

-صاحب من يا رجل..؟ ثق أني لا أعرفها.. وأنني..

صاح بي وعيناه تقذفان شرراً:

-اكذب أيضاً.. أكذب أيُّها الوغد.. تخاتلني وتحاول استغفالي.. أنت صاحب الرسالة.. أليس كذلك..؟ قل لي قبل أن أخمد أنفاسك..

أحسست بأنفاسي تضيق فعلاً، وأنه مزمع على خنقي دون تردد. لقد أدركت أنه حسبني صاحب الرسالة التي لم أكن على علم بمحتواها ولا معرفة بمن أرسلها بطبيعة الحال.

صحت به معلناً:

-أبداً أيُّها السيِّد.. أنا لست صاحب الرسالة. وما أنا إلا ساعي البريد:

هبَّ في وجهي صائحاً بصوت كالرعد:

-يبدو أنك مجبول على الكذب منذ ولدتك أمك.. كذبة وراء أخرى.. هل وجهك هذا وجه ساعي بريد..؟ هل هذه أناقة ساعي بريد..؟ وهل رائحة هذا العطر.؟ من أين لك ثمن هذا كله لو كنت مجرد ساعي بريد..؟

كان يردد التساؤلات كالقذائف وهو مربد الوجه، يصرُّ على أسنانه، وما يزال ممسكاً بياقة قميصي الذي ابتعته خصيصاً للمناسبة، يجذبني نحوه حيناً ويدفعني عنه حيناً، حتى حسبت أن هذا لم يكن سوى آخر يوم لي في هذه الدنيا الفانية. وأن سوء طالعي الذي ما انفك ملازماً لي منذ ولادتي هو الذي جاء بي إلى الشابة ذات الابتسامة هذه، وفي هذه الساعة بالذات.. إنها قدري.. وهذه هي نهايتي دونما ريب، على يد ابتسامتها..!

تنبهت إلى الرجل وهو يواصل سيل اتهاماته المتدفق:

-قل لي منذ متى تعرفها أنت الآخر.. متى تعارفتما..؟ أين..؟ وكيف..؟

قلت مستعطفاً وموضحاً:

-أقسم لك برب العباد والبلاد.. بالله واليوم الآخر أني لا أعرف حتى إن كانت هذه المخلوقة زوجة أم آنسة غير متزوجة. وأنَّى لي أن أعرف أنا الذي لم أرها سوى مرتين أو ثلاثاً حين أحضرت رسائل البريد إليها..؟

-أما زلت مصرَّاً على أنك مجرد ساعي بريد..؟

وما راعني من الرجل إلاَّ أن خفف من لهجته بغتةً كالمستسلم حين قال:

-على أية حال.. خذها.. مباركة عليك.

نظرت إلى الرسالة الورقة المكورة على الأرض فقلت:

-إنها ليست لي كما قلت لك آنفاً.. وأؤكد لك أني لا أعرف مرسلها.. فأنا لا أفتح رسائل الناس قبل حملها إليهم..

أشار الرجل إلى المرأة ذاتها وهو يتابع محاولاً كتم غيظه:

-خذها هي.. خذها ما دمت مغرماً بها إلى هذا الحد.. ما دامت ابتسامتها تذهلك وتذهب بلبك كما تقول في رسالتك الوقحة..

-قلت لك يا سيدي إني لست صاحب الرسالة.

رد قائلاً:

سواء كنت أنت أو كان غيرك صاحبها. لقد طفح بي الكيل وهذه الرسالة الأخيرة قصمت ظهري أنا.. لا ظهر البعير.. لقد أفسدت ابتسامتها عليَّ حياتي.. ابتسامتها التي ترونها جميعاً ولا أراها أنا زوجها.. ترد إليها الرسائل، ولا تنقطع عنها المكالمات.. ولا حديث لأحد إلا عن.. ابتسامتها الساحرة، وكأن الباري عز وجل لم يخلق مثيلاً لها. أنا.. أنا بالذات لا أرى فيها ما ترون أيها المجانين.. من أجلك أنت وأشباهك سوف أطلقها وأريح نفسي. سوف أطلقها الساعة على مسمع منك.. وها هي ذي رسالتك أنت أيضاً امض بها إلى الجحيم.. اغربا عن وجهي.. ولعنة الله عليكم أجمعين..

قال هذا وهو يلتقط الورقة ثم يكورها في يده، ليقذفها من ثم في وجهي، فيما هو يستدير منصرفاً إلى داخل المنزل تاركاً الباب مفتوحاً على مصراعيه، والمرأة أمامي وجهاً لوجه.. وعلى محياها الابتسامة القاتلة إياها..

 

 

 

كأنها هي

 

 

كنت ملاصقاً لها في جلستي في مقعد الحاقلة. بدا الأمر عاديّاً في البداية، لكنها سرعان ما تنبهت بحدسها الأنثوي إلى أنه لم يكن كذلك. تململت قليلاً لكي تشعرني في لباقة واضحة برغبتها في أن أبتعد عنها قليلاً، بحيث تبقى بيننا مسافة فاصلة مناسبة، ولتكن سنتمتراً واحداً. لكني لم أفعل. لقد تجاهلت ذلك تماماً، بل لعلي اقتربت منها أكثر.

لم أعرف إن كان تصرفي قد ضايقها أم سرّها حين رمقتني بنظرة خاطفة من عينين سوداوين لمحت فيهما وميض ابتسامة مكتومة. ترددت قليلاً قبل أن تقول في ارتباك ظاهر.

-أستاذ.. من فضلك.. هل لك أن..

قالت: ذلك ولم تكمل عبارتها، فيما هي تحاول الابتعاد عني إلى حدٍّ يجعلها تلتصق بجدار النافذة البارد حتماً، إذ كان الجو في الخارج ممطراً بارداً، والريح تعصف، فتترنح تحت وطأتها أغصان الأشجار وأعمدة الكهرباء ومظلات الدكاكين.

في جرأة واتتني بغتةً، وبصوت كأنه ليس صوتي قلت لها، وقد أدركت تتمة عبارتها:

-لن أفعل.. أنا حرٌّ أيتها الآنسة ولن أتزحزح عن مكاني هذا، وهذا الباص ليس ملكاً لأي منا..!

بدت الدهشة على محياها الذي عدت أتأمله ملياً.. (يا إلهي كأنها هي..) كأنها لم تتوقع جواباً كهذا.. قالت بصوت خافت خشية لفت انتباه الركاب:

-يا لها من جرأة.. بأي حق تقحم نفسك هكذا على من لا تعرفها..؟

سرحت بعيداً.. أجل كأنها هي.. لو عاد بنا الزمن إلى الوراء عشرين سنة لكانت هي عينها. وإذ لمست أني أطلت صمتي أكثر مما ينبغي، ولكي أقول أي شيء، عدا الإفصاح عما دار في خلدي من ذكريات السنين الماضية، بادرتها قائلاً:

-أنا مستريح هكذا، وعلى هذا الوضع.. وهذا المقعد دفعت أجرته كما تعلمين..!

قالت:

-ولكن ألا ترى أنك تضايقني..؟

-أنا لا اقصد مضايقتك.. معاذ الله أن أفعل أيتها الآنسة.

-إذا كان الأمر كذلك فلماذا الإصرار على الالتصاق بي هكذا أيها السيّد..؟

استنفر سؤالها روح المشاكسة لديَّ فأجبتها:

-آه.. ها أنت تسألين سؤالاً وجيهاً.. أقول لك.. هل يبتعد الإنسان، يا عزيزتي، ومن تلقاء نفسه عن مصدر سعادة تهبط عليه من عالم الغيب.. ويفعل ذلك مختاراً أيضاً ما لم يكن معتوهاً أو غبياً على الأقل..!؟

قالت وهي تحاول أن تبدو غاضبة، إذ كانت تغالب في الوقت نفسه ابتسامة ترف على شفتيها:

-أي سعادة تعني يا أخي..؟

-قربي منك.. أليست الأقدار هي التي هيأت لي ذلك.. فكيف لي بربك أن أتصدى لها رافضاً نعمة أغْدَقتْها عليَّ حتى دون أن أطلبها منها..؟

-عن أي أقدار تتكلم أيها السيد..؟ إنها المصادفة وحدها جمعتك بي في هذا المكان..

-أنت تحسبين الأمر كذلك.. الأقدار لا تعرف المصادفات.. كل شيء لديها بحساب أدق من أي حاسوب.. أبداً. المصادفات لا تأتي اعتباطاً يا آنسة...

-ولكن هب أنني جاريتك قليلاً وقبلت منك هذا المنطق على مضض.. ألا ترى أننا سنفترق عما قليل..؟

"يا إلهي.. يا ليوم فراقنا ذاك.. غيرتي المفرطة التي دفعتني يومئذ للثورة عليها حين رأيتها مع صبري وعبير في باحة كلية الحقوق. لم يشفع لها قولها أن صبري صديق لعبير انضم إليهما في تلك اللحظة.. أمضيت زمناً بعد تخرجنا في نهاية ذلك العام الدراسي أبحث عنها.. أحاول الاتصال بها.. لكنها كانت قد سافرت إلى بلد بعيد، ثم علمت أنها تزوجت من ابن عمها الذي أعرف أنها لم تحبه في يوم من الأيام. وما ذلك إلا نتيجة للصدمة التي سببتها لها بموقفي المتجني يومذاك. حقاً إننا لا نعرف قيمة الأشياء في حياتنا إلا بعد فقدها.."

عدت إلى جليستي.. أحسست بشيء من العزاء وحرقة الذكرى تعتصر قلبي في الوقت ذاته. أدركت موافقتها الضمنية على هذا الوضع، الأمر الذي رأيت فيه تنازلاً من جانبها، ما كنت أتوقعه قبل قليل.. من ثم بادرتها القول وبلهجة واضحة:

-أعرف.. أعرف أن لا فائدة ترتجى من وراء هذا اللقاء العابر، ما دمنا سنفترق عند نهاية الرحلة القصيرة هذه، التي أتمنى لو أنها تطول أكثر.. حبذا لو كانت سفرتنا إلى حلب وليس إلى ساحة العباسيين..! كما أنني أعرف- قبل أن تقولي- أني أكبر منك سناً بكثير، ولا مطمع لي في أكثر مما نحن فيه.. لحظات عابرة.. لا تلبث أن تمضي هي الأخرى كما مضت كل أيامي الغابرة.

-أنتم معشر الرجال تنتابكم أحلام يقظة غريبة في مثل هذه الأحوال..

قل لي بربك ماذا يجديك هذا..؟

-ما كل الأشياء في حياتنا نستطيع أن نجد لها تفسيراً.. وضعنا هذا يثير لديَّ ذكريات صباً في أيام تولت.. وأنت تسألينني عن الجدوى وكأننا نتحدث في مشروع اقتصادي..! وما أكثر ما يضيع من أعمارنا يا آنستي دون جدوى..

-واضح أن لك ذكريات.. ذكريات جمَّة وحلوة بالتأكيد..

قالت ذلك وهي تضغط على مخارج الكلمات، فيما هي ترمقني بنظرة ذات معنى واضح:

-أجل ولكني أتذكر الآن ما لا ينسى منها..

قالت وفي عينيها غير قليل من الفضول.. وربما التأثر:

-وماذا كان اسمها..؟

-أميرة..

-اسم جميل.. وهل كانت (أميرة) حقاً..؟

-كانت أميرة قلبي.. لقد فقدتها بغباء.. لحظة ثورة عابرة غيّرت مجرى حياتي.. وحياتها هي أيضاً.. وتقولين أن المصادفات تأتي اعتباطاً يا عزيزتي..

-هنيئاً لها.. هذا الحب كله.. وفاء نادر في هذه الأيام..

-وأنت التي أججت سعير الذكرى..

-ولماذا أنا..؟

-كانت تشبهك.. وأنت تشبهينها تماماً.. وإذ رأيتك.. وقد انطوت السنين في لمحة بصر.. معها في يوم ماطر كهذا، في حافلة تصعد بنا جبل المهاجرين. لم يخطر ببالنا يومئذ أن شيئاً في الدنيا بأسرها يمكن أن يفضي بنا إلى فراق.

.. ولقد بدوت لك مرحاً أو مشاكساً.. ولكن في صدري قلب يضنيه الشوق إليها. كان ذلك منذ عشرين سنة. لم نتصور يومها أننا يمكن أن نفترق.. وأننا سوف نغدو غرباء لو التقينا، وأن تغدو لكل منا حياته الخاصة بعيداً عن الآخر.. إنها الأقدار المرسومة لنا يا عزيزتي، ولكنها تتبدى لنا في شكل ما نحسبه مجرد مصادفات ليس إلا.. إنها حكاية طويلة.. لهذا تمنيت لو أنها، أعني سفرتنا، كانت إلى حلب وليس إلى ساحة العباسيين التي ها نحن قد بلغناها.. ها نحن نبلغ نهاية هذه الرحلة أيضاً.. أترين ما يفعل بنا الزمن..؟ لكل رحلة نهاية.. وما العمر سوى مجموع هذه الرحلات..!

وقفنا لحظات على الرصيف تحت شجرة تتساقط من أوراقها قطرات المطر. نظرت إليَّ تودعني وقد بدا التأثر في عينيها.. "ذات العينين عينا أميرة" أتراه حزناً كان من أجلي أم كان إشفاقاً.. أم تراني أثرت فيها ذكرى قصة لها هي..؟

ضغطت على يدها.. أردد همساً، فيما أوشكت أن تطفر من عيني الدموع، محدِّقاً في محياها.. كأني لا أريد أن أفارقها أبداً..

وداعاً يا أميرتي..

تماماً كما حدث قبل عشرين سنة.. 

 

 

موت غير متوقع

 

 

(1)

كان يخشى الموت أكثر مما يخشاه أي أحد آخر. لازمه ذلك الخوف منذ الصغر وإلى أن بلغ الآن من العمر بدايات عقده الخامس. لا ينقطع عن التفكير: كيف سيغادر هذا العالم ذات يوم.. كيف يودع الشمس التي ستظل تشرق حتى بعد موته.. لمن يدع الليالي المقمرة الصافية.. لمن يدع الجمال والجميلات.. الحقول والمياه.. السفر.. الرحلات.. كل ما هو جميل في الحياة.. حتى المنغصات.. حتى المتاعب على كثرتها لم يكن من شأنها أن تطامن غلواء حبه للحياة بهذا المقدار.. أو لنقل خوفه الموت الذي سوف يحرمه منها.. وكان يضنيه أكثر وأكثر أنه يعلم أن صور الحياة هذه كلها، سوف تمضي بعد موته في مسيرتها دون اكتراث لما حدث له.. لكأنه لم يكن هاهنا أبداً..!

شاغل آخر كان يؤرقه في مسألة الموت هذه أكثر من الموت نفسه هو: كيف تكون ميتته..؟ الناس يموتون بوسائل عديدة، ولأسباب شتى لا يكاد يحصيها عد أو يحيط بها حصر، على مرِّ الأزمنة والعصور. بل إن لكل امريءٍ ميتته الخاصة به وحده دون سائر الخلق، فكيف تكون ميتته هو؟ تلك هي المسألة..! موت الناس قاطبة لا يعني له سوى أنهم ماتوا وتبقى ميتته وحده.. لأن موتهم لن (يسهِّل) الأمر عليه عندما تحين ساعته..!

صحيح أنه ما زال في أوسط العمر، وأن الزمن مديد، وأن السنين أمامه طويلة. ولكنها، طويلة كانت أم قصيرة فساعة موته آتية لا ريب فيها ذات يوم. تماماً كالمحكوم بالإعدام!! كلنا محكومون بالإعدام منذ لحظة خلقنا، والتنفيذ يبقى مسألة توقيت غير معلوم. هو تأجيل لأمر قطعي وحتمي بغير جدال.! "يخطر لـه أحياناً أن ينظر في ساعة يده، أو الساعة المستديرة المعلقة على الجدار في صدر مكتبه المزخرف بورق الجدران ذي الورود الحمراء، فيخيل إليه أن عقرب الثواني هذا يعمل دائباً على قطع خيط عمره كالمقص. كل ثانية تمر تحذف منه جزءاً لا يكاد يحس، بلا وناء في حركة رتيبة ثابتة مرعبة. وما هاتيك الورود حولها سوى باقات تحيط بجثمانه عند النهاية. وهي- هذه المقصلة- لا تتوقف ولا تهادن على مرِّ الدهور، منذ بدء الخليقة وحتى نهايتها، بصورة أو بأخرى يتكهن بها العلماء رجماً بالغيب، دون أن يدري أي منهم شيئاً عن الكيفية التي ستتم بها.

يحاول أن يشغل نفسه عن هذا اللون من التفكير، الذي لا ينفك ينغص عليه حياته، بوسائل شتى.. بالعمل المرهق حتى الإعياء.. بالإقبال على المتع وأسباب الترفيه ينهل منها في نهم لا حدود لـه. لكن ذلك لا يغنيه شيئاً. متى..؟ وكيف..؟ (متى) هذه معلومة ومجهولة في آن معاً. مجهولة التوقيت، لكنها معلومة كحتمية. أما (كيف) فتلك هي المسألة من جديد. مرضاً يموت..؟ وأي نوع من المرض..؟ ذبحة صدرية.. سكري.. سرطان.. أنفلونزا.؟ حتى الأمراض لكثرتها ما من أحد يستطيع لها حصراً.. بعضها وافد على الجسد من خارجه وبعضها كامن في داخله ذاته.. في جوهر عناصره وتكوينه.. ما الذي سيتعطل في جسده عندئذ لكي يفضي به إلى تلك النهاية؟ قتلاً يموت..؟ وأي نوع من القتل..؟ وما أكثر ما ابتكر من أجل قتل الإنسان بفضل العلم والحضارة، لا سيما هذه المعاصرة.. حتى وسائل الحضارة المميتة هذه لا ضرورة لها أحياناً.. يمكن أن يموت خنقاً دون كلفة على الإطلاق.. أو شنقاً، أو بواسطة سكين مطبخ.. أو رصاصة مسدس أو بندقية.. ولكنه- على حدِّ علمه- لا أعداء له يخشاهم على نفسه. اللهم إلا ذلك العدو الرابض هناك.. ولكن السّلْمُ قادم.. (مطمئناً نفسه). على الأقل ليس له أعداء بادين للعيان يعرفهم فيحذر شرهم.. قنبلة..؟ لغم لقد تجاوز سن الجندية، فهو إذن في مأمن من كل ذلك. سمٌّ زعاف يتجرعه..؟ إن زوجته تحبه.. وهي لا تفتأ تردد على مسمعه في كل حين أنها لا ترضى عنه بديلاً (ولكن كل الزوجات يقلن ذلك). كذلك أولاده يحبونه حتى الموت..!؟ حتى ماذا..!؟ حتى في محاولته البحث عن الطمأنينة يراه في مواجهته..! لكنه يعلم أيضاً أن كثيراً من الميتات المشهودة تأتي عن طريق هؤلاء الأحبة: الزوجة والأولاد والأصدقاء أيضاً. الزوجة. أي زوجة تلح في طلب المستحيل من زوجها طوال حياته معها، ويظل كادحاً من أجلها حتى القضاء عليه.. أو عليها.. والأولاد هم الذين يقصِّرون الأجل فيجلبون الهم والغم.. ثم الجلطة.. ثم هم بعد ذلك.. وعقب قيامهم بواجبهم من بكاء وإبداء للحزن يتهافتون على الميراث، إن كان هناك ميراث يذكر.. أو يعمدون إلى صب اللعنات على ذكرى أبيهم إن تركهم في فقر مدقع..! لكن زوجته هو وأولاده ليسوا كذلك.. إذن سيارة تدوسه في الطريق.. هذا أيضاً لن يحدث فهو يقود سيارته بنفسه.. وهي من النوع الفائق القوة والمتانة.. (شبح) وما أدراك ما الشبح؟ تدوس ولا تداس..! صحيح أن الكثير من الوفيات تحدث نتيجة لحادث يسببه سائق متهور.. ولكنه هو (عامر) ليس من هذا النوع، وهو بطبيعته يتجنب المتهورين.. كما أنه يلتزم قواعد المرور فلا يتجاوز عن اليمين ولا يقطع الإشارة الحمراء، ويتريث عند المنعطف.! وإذا ما فكر في الرجوع خلفاً استنفر ثلاثة أو أربعة من الجالسين على قارعة الطريق كيما يوقفوا لـه السير، وليعطوه الإيعاز اللازم بالتقديم والتأخير لتنتهي العملية بسلام شامل.. وعادل أيضاً..! إذن هو يستبعد الموت عن هذا الطريق الوعر. تبقى الطائرة كواحدة من أسباب الموت الحديثة أو لنقل الموت (الحضاري التقني الحافل بالوجاهة).. لا سيما إذا كانت من ذلك النوع المسمى (بوينج 747) أو الـ(إيرباص)..!

من ثم فقد أقلع الرجل عن السفر بهذه الوسيلة أصلاً مضحياً بفرصة الموت الحضاري هذه، ولكيلا يدع للموت ذريعة يتخذها إزاءه، أو شركاً ينصبه لاصطياده في ساعة غفلة تحت وطأة إغراءات المضيفات والوجبات الأنيقة التي يقدمنها، فيثرن فيك كوامن الاشتهاء (للطعام طبعاً). بل يكفي- هكذا يقول لنفسه في خضم معركته معها لإقناعها- أن الطائرة تسلم المئات من البشر للموت المحقق بسبب شرارة ضئيلة في سلك كهربائي، أكثر ضآلة، ليحترق المحرك أو ينفجر "التوربين" ليذهب هؤلاء إلى العالم الآخر. وليصبحوا في خبر كان أو إحدى أخواتها..! وقد لا يكون مهماً أنهم ماتوا، فالموت يحصد الآلاف هنا وهناك في بقاع شتى من هذا العالم.. جياع أفريقيا.. ضحايا التاميل.. أهالي فلسطين.. شعب العراق.. لكن المهم (كيف ماتوا..؟) أحاسيسهم.. معاناتهم.. كيف واجهوا الموت..؟ هل رأوه قبل أن يموتوا؟ أم أنه انقض عليهم على حين غرة..؟ أما القنابل الذرية فهذه مستبعدة تماماً في ظل الأوضاع الدولية الراهنة، وهيمنة قوة وحيدة على العالم، لا تحتاج في تعاملها مع غيرها من الدول لأكثر من المبعوثين أو المخاطبة بالهاتف النقال أو الإنترنت، لإعطاء الأوامر وإبداء الرغبات.. هي إذن، ومن ثم لن تجد نفسها في أي وقت في حاجة إلى استخدام هذا السلاح الموضوع في الثلاجة، منذ هيروشيما ونجازاكي، أو ما يماثله من أسلحة الدمار الشامل العادل.. أيضاً.! ومن شأن هذا أن يَسْلم صديقنا (عامر) لهذا الوضع الدولي (الرائع) من احتمالات الإصابة بالذرة مباشرة أو بإشعاعاتها. ولكي يضمن عامر السلامة أكثر فأكثر لم ينتم إلى حزب، ولا هو انضم إلى جماعة. كما أنه اعتاد أن يجنح إلى السلم والمسالمة لدى أي بادرة تشير إلى احتمال شجار، عند احتدام نقاش بين زملائه من الكتّاب أو النقاد..! حتى قصصه القصيرة، والقصيرة جداً، والمتوسطة الطول خلت جميعاً من ذكر الموت، فهو لم يُمِت بطلاً واحداً ولا تسبب في موت بطلة، لا سيما إذا كانت جميلة.. وما أكثر ما يعمد، حين يجد أن المأزق أو الموقف يقتضي، حُكْماً وبالضرورة، أن تفضي الأحداث إلى موت أحد.. أيِّ أحد من شخوص قصته يعمد حينئذ إلى تحويل مجرى القصة برمتها في اتجاه آخر لينقذ، وببراعة نادرة، ذلك الذي أو تلك التي قد تتعرض للموت رفقاً بشبابها أو عطفاً على أطفالها حسب مقتضى الحال.!

يشعر حينئذٍ بابتهاج وحبور كما لو كان قد انتشل غريقاً من لجّة الماء فأنقذه في اللحظة الأخيرة من موت محقق. ومن ثم أمسى هذا مديناً له بحياته. وهذا الأخير لن ينسى له هذا الجميل أبد الدهر، أو ما بقي له من حياته المُستأنَفة..! واستطراداً بات صاحبنا على يقين بأن الكثيرين مدينون له بحياتهم.. وهؤلاء هم أبطال قصصه وشخوصها.. وهو لهذا ينتظر من الباري عز وجل حسن الجزاء في الدنيا وعظيم الثواب في الآخرة على صنيعه هذا..!

(2)

رآها في ذلك الصباح. كانت لعوباً طروباً كما عهدها. انقضّت عليه تعانقه. باغته ذلك، وإن كان يعرفه عنها في مناسبات سلفت. أما وجه المباغتة هذه المرة فقد كان أنها أقدمت على ذلك على مرأى من الحضور جميعاً في ذلك المكتب، موظفين وزوَّاراً.. ومن بينهم بنات جنسها أيضاً. لم تحمر لها وجنة، ولم تطرف لها عين. ذلك حدث لـه هو، حتى أنه حاول أن يداري ارتباكه أمامهم ولم يفلح. عرفها منذ زمن، حين عملت في مكتبه للتدرب على الكتابة. لم تتعد علاقته بها القبلة أو ضربة خفيفة على ظاهر يدها بعد أن تضع أمامه فنجان القهوة. سعى إلى أن تتجاوز علاقتهما ما هو أبعد شأواً بيد أنه لم يفلح أيضاً. لم تمكنه (بارعة) من التمادي، وإذا حدث أن حاول ذلك صدَّته بنظرة صارمة، لا يدري آنئذٍ من أين جاءت بها في تلك اللحظة، فتسمِّره في مكانه تماماً، كأنها قوة مغناطيسية مسيطرة تشل يده أو تجمد قبلته المزمعة في مكانها في الفراغ. أيقن أنها كانت تدرك تماماً متى توقفه، لكأنها تقرأ أفكاره.. بل هي تقرأ حتى ما بين سطور تلك الأفكار..! لماذا..؟ إقدام وإحجام..؟ تشجيع ثم صد..؟ سهولة ثم امتناع..؟ حيَّرته في أمرها، لكنه اعتاد ذلك مع الأيام، وتكيَّف معه، بل تقبَّل واقعها هذا كما هو.

(3)

نشأت (بارعة) في كنف زوج أمها الذي تزوجته هذه الأخيرة عقب طلاقها من أبيها.

كان الرجل فظاً، أقرب إلى البداءة المنفِّرة في تصرفاته جميعاً، بما في ذلك علاقته الحميمة مع أمها. في المرة الأولى التي شهدته فيها إلى جوارها في الفراش، وكانا شبه عاريين.. كان ذلك مصادفة.. قفزت الأم.. سحبت الملاءة تغطي ما ظهر من جسدها. أشاحت الفتاة بوجهها وهي ترتجف ذعراً واشمئزازاً. لم تتصّور أن هذا يحدث لأمها.. ومع هذا الرجل المثير للاشمئزاز.. لفورها كرهت مرأى جسد الرجل عارياً. كما أن رؤيتها لجسد أمها ملاصقاً جسده أثار فيها غير قليل من النفور نحو جسد الأنثى أيضاً. وإذ تصادف أن تكرر المشهد على مرأى منها مرات ومرات، لازمها هذا الشعور بل تأصل لديها الإحساس بالنفور من الجنس الآخر. باتت تخشى الاقتراب من أي فتى يحاول التودد إليها، وحين أفضت بذلك إلى زميلة لها في سنوات دراستها الأخيرة، سخرت منها، ثم نصحتها بأن تكون أكثر انطلاقاً وتودداً نحو الشاب الذي يرغب في صداقتها، وإلا فإنها ستجد نفسها عانساً في نهاية المطاف.. وربما إلى الأبد (عقدة لا بد أن تعملي على حلها يا بارعة لا سيما وأنك تدركين أسبابها وبواعثها.. حلُّها يظل ميسوراً إذن..).

فكرت فيما قالته الصديقة عقب انصرافها. كانت محقة فيما قالت. ورأت العديد من زميلاتها يتصرفن بانطلاق يثير لدى البعض استهجاناً.. ماذا ينقصها هي..؟ ولم لا تتصرف مع الآخرين كما تتصرف الأخريات..؟

(4)

فكر (عامر) حين التقيا لدى الزملاء في ذلك الصباح أن يدعوها للعودة إلى العمل معه. قرر أن يحسم تردده إزاءها.. ألم تقبِّله أمامهم جميعاً دونما وجل..؟ لعلها راغبة فيه هي أيضاً وهو لا يدري.. لعلها تنتظر منه جرأةً أكثر.. تذكر الكثير من مواقفها المتناقضة فعزا ذلك، ربما إلى دهائها ومكرها.. دلالها أو أي شيء آخر.. سيدعوها إذن.. ثم لكل حادث حديثه بعد ذلك..

فكرت (بارعة) في الأيام التي سبق لها أن قضتها تعمل مع (عامر). لم لا يكون هو..؟ أكبر سناً؟ لا بأس.. كثيرات يتزوجن من هم في مثل أعمار آبائهن.. وأحياناً أجدادهن.. لسبب ما.. لظرف ما.. وهو على أية حال ليس في مثل سن أبيها لو بقي على قيد الحياة حتى الآن. لكنه متزوج أيضاً يا بارعة..! وماذا في ذلك أيتها الحمقاء.. ما أكثر اللواتي يتزوجن من متزوجين.. ولهم أولاد أيضاً.. فلماذا تكونين استثناء..؟

حين فاتحها (عامر) فيما اعتزمه- العمل معه- إثر خروجهما معاً من لدن أصدقائهما الكتاب، سرَّته كما فاجأته موافقتها السريعة، وكأنها كانت تنتظر منه ذلك مما أكد لـه صدق حدسه وحسن تدبيره. وليكن ذلك منذ الغد يا حلوتي..!

(5)

انقضت أيام على عودتها. تغلَّب على تردده. زاد من تودده إليها. طفق يداعبها كلما لاحت فرصة وخلا المكتب من الرواد. لمس استجابة منها على نحو غير ما ألفه منها فيما مضى. دعاها لتناول العشاء معه ذات مساء في أحد مطاعم المدينة الفاخرة. كانت سهرة ممتعة لكليهما في أجواء المكان المبهرة. تبادلا أحاديث- لم تكن مقصودة في حد ذاتها- حول الكتابة والكتاب، النقد والنقاد. شهَّرا ببعض الزملاء.. نددا ببعض آخر. وكان لا بد من اتهام هذا بنضوب القريحة وذاك بسرقة أعمال (سيرفانتيس) تحت شعار الاقتباس حيناً ومزاعم التجديد حيناً. أما الكاتبات الناشئات فلم تنج واحدة منهن من تعريض (بارعة)، لا سيما الشاعرات. عموديات، أو صاحبات تفعيلة، أو ناثرات..!

عرض عليها الذهاب إلى المكتب لدى خروجهما، لجلب أوراق نسيها هناك. ولما كان الوقت لا يزال مبكراً فقد لبت طلبه بعد قليل من التردد. ومن أجل أن يكتسب شيئاً من الشجاعة تعينه على الإقدام على ما اعتزمه. لم ينس أن يتناول بضعة كؤوس في مطعم قريب. حاول أن يقدم لها واحدة لكنها أصرَّت على الرفض تحسباً لشتى الاحتمالات. وكأنها حدست ما يجول في خاطره. كانت تنوي مسايرته في حدود الممكن طبقاً لوصية صديقتها. دخلا المكتب في حذر تفادياً لإثارة ظنون من قد يصادفهما من الجوار.

لم ينتظر طويلاً. اقترب منها متأثراً بنشوة الشراب. أدهشته استجابتها في سهولة أكثر مما كان يتوقع. مضى مطمئناً للحصول على مزيد، محدثاً نفسه أنه كان عليه أن يتصرف هكذا منذ زمن.. لعن تردده.. سخط على الفرص السانحة التي أضاعها بغباء. أثاره ما ظهر من جسدها لانحسار ثيابها، رغماً عنها. انقض عليها وكأنه يريد التهامها دفعة واحدة.. بدا لها عامر فجأة وحشاً مفترساً.. بل هذا جسد زوج أمها ملاصقاً لجسدها هي.. صعقت.. انتفضت للإفلات من بين يديه.. أطبق عليه بقوة ثور هائج.. حسب أنه ترددها المعهود ليس غير.. تدفعه عنها بكل ما أوتيت من قوة.. لكنه يجثم على جسدها مشبعاً إياها ضماً وتقبيلاً. راح يمزق ملابسها.. يشد شعرها في جنون.. تصرخ.. تضربه بقبضتها.. تركله بقدميها المحتفظتين بالحذاء.. تواصل الركل بشراسة لبؤة جريحة. سقطت ركلاتها على كل مكان من جسده.. أصابته سريعاً وتباعاً في أماكن قاتلة.. صرخ ألماً.. أيتها المجنونة.. خارت قواه سريعاً .. ارتمى بعيداً عنها.. لم تصدِّق أنها أفلتت من بين يديه.. لملمت ما شعث منها.. غادرت المكان فيما كان الرجل يحتضر.. مردداً بصوت يتحشرج.. يتلاشى.. أهذه هي ميتتك؟ أهذه ميتتك..؟ أهذه هي.. هيـ..؟

 

 

 

لن أكتب قصة

 

 

لن أكتب قصة..!

لماذا أكتبها..؟

هل سيفيد من قصتي، في هذه الأيام، أحد في هذا العالم..؟ بل هل سيقرؤها هذا (الأحد)..؟ وحتى لو قرأها هذا ـ قد تحدث المعجزة ـ هل سيجد فيها ما يجدي ويمتع، كما يقتضي أي عمل يمكن أن يندرج تحت عنوان الفن والإبداع..؟

كتبت ركاماً منها حتى ألمَّ بي السأم، بعد أن سلخت من عمري عقوداً عديدة لا عمل لي سواها، منشغلاً بأمرها، مضحياً من أجلها، تماماً كمعشوقة تقضي نصف عمرك كي تنالها، ثم نصفه الآخر كي تنال رضاها عنك أو عليك..! ثم أكتشف بعد ذلك، أنه يحدث لي ما قد يحدث لك على يد تلك المعشوقة إياها، حين تملُّ مناكفاتها ومراوغاتها، وأشياء أخرى لم تعرفها عنها من قبل، فتنصرف عنها إن كانت صديقة، أو تطلقها طلاقاًَ بائناً إن كانت زوجة..!

وحتى لو كانت قصتي ـ التي كنت سأكتبها ـ فريدة التأثير والأثر تضاهي أعمال توماس مان ومارسيل بروست معاً، بحيث يمكنها ـ كموضوع ومضمون ـ إصلاح قاطني هذا الكوكب قاطبة، فمن ذا الذي يضمن لي أن أكثر من عشرة أفراد من بين ملياراته الستة (حتى الآن) سوف يقرؤنها؟ وما هو دور هذه القلة القليلة، أو وزنها في خضم ما يجري على ظهره من أحداث، هي في حدِّ ذاتها قصص مروِّعة، فيها من عناصر القصّ الدرامية ما يفوق آلاف مؤلفة أمثال قصتي وقصص أصدقائي حسن حميد وطلعت سقيرق وموحد مباركة..! ثم من ذا الذي سوف يجد ـ من بين هؤلاء ـ من ترف الفراغ لديه وقتاً كافياً، وذهناً صافياً، لمطالعة أقصوصة (تدعى قصيرة) لا تنطوي على أكثر من لقطة كاميرا (بولارايد) كومضة البرق من حياة طويلة وعريضة لفرد ما، أو جماعة ما، من بين هذه الجحافل الهائلة العدد، في وقت تذهب فيه قطعان من الشعوب والأمم للقاء حتفها دونما سبب ودون أن يكترث لها أحد..؟

وأنت ككاتب قصة، لا ريب أنك تدرك تماماً ما أعنيه، بل أجزم أنك تقرّني على ما ذهبت إليه، إذ أنت تعيش الحالة ذاتها. بيد أنك مع ذلك، ولأنك تهوى المناكفة ـ على قاعدة خالف تعرف ـ فلسوف تعمد على الفور إلى اتهامي بالنضوب والإملاق. ومن ثم إقدامي على إيجاد مبرر غير مقنع، لفقر فكري مدقع، ألمًَّ بي على حين غرَّة أو بفعل الزمن. تقول هذا وأنت مطمئن تماماً إلى أنك لن تجد بين الزملاء، رفاق المسيرة المشتركة من يجرؤ على مواجهتك بقوله إنك شامت بي، ليس إلا. بل إن هؤلاء سوف يمالئونك نفاقاً، ويقرُّونك على إدعائك ملقاً ـ رحم الله الجواهري ـ ولا يأخذنَّك العجب عندئذً، إذا هم مضوا معك إلى حد الزعم بأنك (كولومبوس الأدب المعاصر) مكتشف هذه (الحالة) المجهولة، بعبقريتك الفذة التي لا تضاهى، وبغير ما حاجة إلى الدوران حول رأس الرجاء الصالح أو رأسه الطالح..!

أنت إذن، وعلى الرغم من موقفك العبثي هذا، سوف توافقني على ما ذهبت إليه. وأنت لا ريب تذكر حين كتبت أعمالاً قليلة، لا بأس بها ـ أو هكذا قيل لك رغم سقمها ـ وتأنيَّت كثيراً قبل إخراجها إلى النور، كي تسعد جماهير الأمة بها، اتُّهمت بالإقلال والضحالة، أما حين تراكم لديك كمٌّ من الأعمال الناجزة غير قليل، اتُّهمت بالإكثار والثرثرة والتكرار.. والسطحية أيضاً. وما إلى ذلك من أوصاف يحسن إطلاقها رفاقك من الكتاب، حتى لو كانوا أعضاء من الاتحاد ذاته، أو زملاء في الصحيفة نفسها التي تعملون فيه تحت سقف واحد. يحدث لك هذا بعد أن كلَّت يداك في الحالتين آنفتي الذكر، تصحيحاً وتنقيحاً، وبعد أن أرهقت أعصابك وصدعت رأسك في كيف تنقل كلمة من هنا وعبارة من هناك... تؤخر هذه أو تقدم تلك.. تلغي سطراً أو تضيف مقطعاً... حتى الفواصل والنقاط لا تدعها وشأنها، وعلامات الترقيم كافة لا تسلم من شرك.. كما تقول الدهماء.. تفعل هذا كلَّه ظناً منك بأن الناس جميعاً في شتى أقطار المعمورة ينتظمون في صفوف طويلة، ترقباً وانتظاراً للحدث الفريد، مثل كسوف الشمس في نهاية القرن المنصرم، الذي هو ظهور قصتك العتيدة..! أما إذا كنت (موسوساً) مثلي فلسوف تعمد بعد كل ذلك إلى عرضها على عدد من الرفاق، الذين لا ثقة لك فيهم أصلاً، لك يؤكدوا لك بأنك لم ترفع خبراً لكان، ولم (تنصب) اسماً لإحدى أخواتها الجميلات.. حرصاً منك على حسن العلاقة بينك وبينهن..!

أنت أيضاً، يا صديقي ـ حتى لو لم تكن صديقي ـ تعاني متاعب النشر على أيدي تلك الطغمة المسيطرة من المحظوظين المشرفين على الصفحات الثقافية، ليس لأنهم أجدر منك بهذه المواقع، ولكن (لأن الحظَّ شاء..!) أولئك الذين يصدرون بحقك أحكامهم العرفية المبرمة (غيابياً) ويقررون بشأنك ما يحلو لهم، على أسس ذاتية غير موضوعية أو راديكالية في معظم الأحيان. إما لعجزهم عن فهم قصتك أو لعجزك أنت عن إيصال ما أردت قولـه فيها إليهم. ناسين أنهم هم أنفسهم قد عانوا مثلما تعاني أنت الآن حين كانوا في مثل وضعك الراهن هذا، فسبحان مُغِّير الأحوال...!!

أما إذا حدثت المعجزة ـ وهي قلما تحدث في هذا العصر ذي القطب المهمين الواحد ـ أما إذا كلأك الباري عز وجل بعين رعايته، وتجاوزت هذه العقبات جميعاً، تصدَّى لك أحدهم بدعوى أنه ناقد لساني، أو بنيوي، حداثوي، أو انطباعي، أو (ديالكتيكي)... فانبرى لعملك هذا مهاجماً بحمية سوف تشكره عليها لو كانت موجهة إلى ذلك العدو الرابض هناك منذ خمسين سنة ونيِّف. والذي أتاح لك خلالها ـ بسبب عدوانه على البشر واغتصابه الأرض ـ أن تكتب الكثير من القصص.

أجل يحدث لك هذا كما لو كنت اقترفت ذنباً يندى له الجبين. أو خيانة عظمى لا غفران لها في حق القصة القصيرة المنكوبة على يديك. ولسوف يندد ذلك الناقد الحصيف بجرأتك العجيبة على النشر، إذ كان عليك أن (تقرأ كثيراً قبل أن تكتب)، أو كأنما هو كان يتربص بك الدوائر (مترقباً) ظهور عملك هذا كي ينقض عليك ـ لا عليه ـ تجريحاً وتشريحاً. وربما بلغ به الأمر أن يتحدث عن ربطة عنقك وتسريحة شعرك، لكي يستخلص من ذلك أنك تملك (شخصية نرجسية). ومن ثم فإن كتابتك جاءت هكذا، حسب نظرية (باختين) مثلاً.. سيحدث لك هذا، اللهم إلا إذا كانت تربطك بذلك الناقد مودة خاصة أو صلة قربى، أو كان لك عليه دالة أو نفوذ أو سلطان، أو إذا أراد هو أن يتملقك ـ لسبب لا أعرفه أنا ـ ولكنك تعرفه أنت بالتأكيد..! لك عندئذ أن تنتظر منه ـ حول العمل نفسه ـ مديحاً ضافياً من شأنه أن يرفع رصيدك الأدبي حتى عنان السماء.. كما يقولون. فتولستوي قد تأثر بك في (حربه وسلامه) و(آنا كارنيناه). أما ألبير كامي فقد اقتبس (غريبه) عنك دونما ريب..! وأما شارلوت برونني وشقيقتاها إملي وآن، فضلاً عن فرجينيا ولف فقد تتلمذن جميعاً على يديك..!

وإذا تصادف أنَّ ناقدك هذا لم يكن صديقاً حميماً، ولا عدواً مبيناً، (لنقل أن هناك فئة ثالثة محايدة، وإن تكن نادرة)، وتصادف أيضاً أنه سبق له أن تصفح (رولان بارت)، ولا أقول محمد مندور أو عبد القادر القط، نظراً لدلالة الاسم الغربي على سعة ثقافته وإطلاعه، وطول باعه وذراعه، فينبغي أن تنطبق كتابتك على نظريته، وإلا فأنت خائب منذ الآن. ولن يكون نصيبك سوى الفشل الذريع حتى قيام الساعة، التي تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. وربما بعد ذلك أيضاً..! نعم هناك أيضاً لن يتسنى لك أن تغدو قاصاً مرموقاً ما دامت هذه هي بداياتك في عالمنا الفيزيقي..!

إلى أن يأتي يوم كهذا ـ إن لم يكن قد أتى بعد ـ تحار فيه أنت نفسك من أمر نفسك، فلا تعرف ما إذا كنت كاتباً تقليدياً كلاسيكياً، تأثرت بوليم شكسبير وكريستوفر مارلو وجون ملتون، أو كنت رومانسياً حالماً تتلمذت على وردسورث وكوليردج.. ولورد بايرون وشلي، أم كنت واقعياً جديداً مجدداً، تجريبياً أو ما بعد حداثي، ذلك أن هذه الأوصاف جميعاً سوف تطلق عليك في وقت واحد. كل صفة منها يطلقها واحد منهم، وهكذا يجتمع لك المجد من شتى أطرافه دون أن تدري، مع أن أياً منهم لن يستطيع أن يقدم لك تعريفاً محدداً لأيٍّ من هذه المدارس. نصُّك الواحد سوف تلصق به هذه التسميات جميعاً، مع أنه كما تعلم، أو لا تعلم ـ أنت أيضاً ـ لا يشبه إلا نفسه.

هذه كلها، يا صديقي، محض افتراضات قائمة على حسن النية، وعلى تصور أنهم سوف يقرؤونك، مع أن واقع الأمر هو أن أحداً منهم لن يُكلّف نفسه عناء متابعة هرائك ـ هم الذين سيقولون ذلك وليس الفقير إليه تعالى، وناقل الكفر ليس بكافر ـ أقول لن يكلِّف أحدهم نفسه عناء متابعتك حتى نهاية الصفحة الأولى. أما الباقي فسوف يتكفل به من لدنه، أو مما سمعه على لسان أحدهم في حديث عابر عنك في (الهافانا) أو (اللاتيرنا)، وليس عن قصتك التي جلبت عليك هذا البلاء كله.. والذي كنت في غنى عنه لو كنت حصيفاً راجح العقل..!

أما إذا كانت قصتك من ذلك النوع المبتكر المسمى (قصة قصيرة جداً) فأنت لا شك ذو حظ عظيم إذا تجاوزت قراءة أحدهم عنوانها، ذلك أن اسمك تحديداً هو الذي سوف يقرر من أنت في هذا الحقل.. أجل من أنت.. وزنك.. طولك.. قصرك.. علاقاتك.. ابتسامتك.. زئبقيتك..عنجهيتك.. وغطرستك.. هذه الصفات حقيقية كانت، أو منتحلة أو متصوَّرة فيك وعنك، هي التي سوف تصنِّف عملك وتقرر الرأي بشأنك..! نعم فقصتك القصيرة جداً هذه خارج الموضوع تماماً، باستثناء عنوانها الذي لا غنى عنه للناقد كما أسلفنا، إذ هو مضطر إلى ذلك اضطراراً كيما يتخذه عنواناً لنصه النقدي إلى جانب كلمتين تنمان عن فوقيته واستعلائه، ونزوله درجة أو اثنتين من برجه الرخامي. لكي يمد لك يداً (تغرقك) في لجة ورطتك.

تقول لي إن هذا هو ما يقع لك تماماً..؟ إني أصدقك بغير جدال، وهذا مدعاة لسعادتي حقاً، إذ يندر أن يصدقني أو يستمع إليَّ في هذه الشؤون أحد حتى السيدة زوجتي، وأنجالي النجباء الأعزاء الذين لا يعزفون عن شيء قدر عزوفهم عن قراءة شيء يخطه (قلم) أبيهم، (جافَّاً كان القلم أو سائلاً..!) ذلك أن أباهم هذا يعيش معهم تحت السقف الواحد ذاته، يرونه صبح مساء (بشكله ومضمونه) يعرفون أكثر من أي كائن آخر على هذه الأرض طباعه وخصاله، آراءه وأفكاره، فأي جديد بعد هذا سوف يرون فيما يخط يراعه..؟؟

لكن انتظر قليلاً يا صديقي، وأطمئنك أنني أوشكت على النهاية، كي أستدرك مضيفاً ما قد تظن ـ وبعض ظنك إثم ـ أني أغفلته أو سهوت عن ذكره من أسباب  (إزماغي) التوقف عن كتابة القصة القصيرة. أهم هذه الأسباب مادية صرفة، يدخل فيها حساب الربح والخسارة، شأن أي عمل أو تجارة. أحسب معي إن شئت، لتجد أن العملية خاسرة مائة في المائة. فأنا مثلاً أكتب ثم أمزق ورقاً كثيراً، وأكسر أقلاماً، وأدلق حبراً.. ثم أعود لأكتب وأمزق من الورق وأدلق من الحبر أكثر، إلى أن تمتلئ ثلاث سلال للمهملات، قبل أن يمن الله عليَّ بالتوفيق، لكي أخرج بصفحتين قميئتين أو ثلاث تسمى مسودة (من السواد) ولكني ـ لا أكتمك ـ أفرح بها فرح من وقفت دواليب الحظ عند رقم الورقة التي يحملها للجائزة الأولى في يانصيب معرض دمشق الدولي..! ولكن بعد إنفاق ساعات لا حصر لها، لو أنك كنت تعمل أثناءها سمكرياً أو بائع بسطة للفواكه والخضار، لا سيما في أول موسمها ـ كالجانرك على سبيل المثال لا الحصر ـ لجنيت من المال ما لن تدره عليك مائة قصة، أياً كان طولها أو قصرها، عانيت في كل منها حالة مخاض عسرة الولادة، كتلك التي سلفت الإشارة إليها. ولكنك عانيت المخاض وحدك بغير معونة من قابلة أو طبيب نسائي، فما بالك لو كان عملك في مكتب للاستيراد، أو للوساطة العقارية، أو حتى بيع السيارات القديمة المستهلكة في حرستا أو الحجر الأسود...!

أخيراً يا صديقي، وباقتضاب شديد، أهمس في أذنك بغية القضاء على أي تردد لديك في موافقتي على قراري (التاريخي) بالتوقف عن كتابة القصة، أؤكد لك ـ وهذا سوف يزيدك سروراً بالطبع ـ بأن أحداً لن يلحظ غيابي عن الساحة الأدبية، التي هي أكبر من ملعب لكرة القدم ـ ليس لأن كتابتي غير جديرة بالاهتمام لا قدر الله ـ بل لأن أحداً ـ كما اتفقنا من قبل ـ لا يقرأ لكي يرى إن كانت كذلك حقاً أو كانت غير ذلك، بل لأن قراري قرار الشجعان ـ هذا نفسه لن تطلع عليه إلا قلة قليلة.. أنت ونفر ضئيل آخر، لا شأن له ثقافياً ولا قيمة لـه عددياً، إضافة إلى أولئك النقاد المتربصين الذين سلفت الإشارة إليهم. وإلا فكيف يواصلون عملهم حفاظاً على بقاء أسمائهم اللامعة، من جهة، وضماناً لدخل لو أنه انقطع لازدادوا بؤساً على بؤسهم؟ المسألة بالنسبة إليهم مسألة (وجود لا حدود)، (غابة لا كتابة).. ذلك أن الساتلايت اللعين وشبكات الانترنيت وما إليها، وطوفان المحطات الفضائية ووسائل التسلية التي لا تحصى من منجزات العصر تغني تماماً عن القراءة.. والكتابة أيضاً.. ووجع القلب..!

وبعد فلقد بات لزاماً عليَّ، يا صديقي، التوقف ها هنا.. فلقد بلغت نهاية القصة.. وإن كان هناك الكثير مما لا زلت أرغب في قوله.. ولكني أخشى عليك الملل، كما أنني أيضاً أعدك بأني سأفعل في مناسبة قادمة..

أتراني كتبت قصة دون أن أقصد..!؟

ملحوظة: لا تحسبن يا صديقي أني قد غررت بك، مستدرجاً إياك بدافع من الفضول الذي لابد قد ألمَّ بك، لدى قراءتك العنوان ، ولكنها كانت وسيلتي الوحيدة كي أحملك على أن تقرأ لي قصة في وقت عزَّت فيه القرّاء.. فمعذرة عما عمدت إليه من خداع وتضليل.. سمِّه ما شئت.. المهم أنك قرأتها، فلك مني الشكر ومن الله عظيم الثواب..!

والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً..!

أضيفت في15/02/2006/ خاص القصة السورية / عن مجموعته حواء وأصل الأشياء الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب

 

أضيفت في 15/02/2006/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية