أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

أعلى التالي

التعديل الأخير: 02/09/2022

دراسات أدبية - الأدب الفلسطيني / نماذج قصصية وشعرية 1  

الأدب الفلسطيني تحت الاحتلال وفي المهجر

 

 

لقراءة الدراسات

 

 

الدراسات

  النخلة المائلة

 متى سينتهي

جدار الصبر

بط أبيض صغير

إرث جدتي 

حب من خلف النافذة

رقصة الموت 

البقاء على قيد الوطن 

قرية كفر برعم 

 

 

 

وقائع الحياة والموت 

الحب في زمن الانتفاضة 

 صباحات لم يغنها

 

 

 

 البالوع...أيضا

 كرنفالات التراب

إن راح المغني 

نعم لا اعرف 

حياة القوة

 البقرة

رجال في الشمس

أسعد   مروان 

 الصفقة

الطريق 

 الشمس والظل

 القبر 

 

حب من خلف النافذة

 

بقلم الكاتب: يحيى الصوفي

 

كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساءً عندما لاحظت أمل بان ثمة حركة غير عادية تجري في البيت المقابل لمنزلها.. حيث تطل عليه من نافذتها، ذلك البيت المهجور بحديقته الصغيرة وأشجار البرتقال والليمون و"الاكيدنيا" التي لم تمس منذ أكثر من عشرين عاما... عشرين عاما من الحكايات الغريبة... وقصص عن أشباح تسكن في زواياه المظلمة خلف نوافذه المغلقة المليئة بالأسرار... حتى بدت ملامحه الوديعة مع سقفه القرميدي الأحمر كقصر خرافي يشبه ما كانت تراه في قصص الحب الخيالية الملونة التي كانت تقرؤها عندما كانت في السابعة من العمر... وكانت يومها تتمنى أن تكون كبطلتها سندريلا بفستانها القرمزي المطرز بألف نجمة... وحذائها المخملي الأبيض وعربتها المزخرفة بشتى أنواع الزهور... وأحصنتها البيضاء وقد وقفت تنتظر عودتها بكل إباء وغرور!.

 

وكانت وفي كل مرة تطل من خلال نافذتها الصغيرة -الوحيدة التي سمح لها بالوقوف عليها بدون حجابها المعتاد- تستعيد ذلك الحلم الجميل الذي يعشش في خيالها منذ إن كانت طفلة صغيرة... تتعثر وهي هاربة لتترك على إحدى درجات السلم فردة من حذائها... وكانت عندما تعبر بجوار ذلك القصر المهجور لتقطف بعض من أزهار الياسمين المتدلية من فوق أسواره تجده كبيرا وكبيرا جدا!... ولم يتضاءل حجمه وتنحسر عدد درجاته إلا بعد أن أنهت الثانوية وبدأت تعد العدة لدخول الجامعة... فلم يعد ذلك البيت الموحش يثير اهتمامها!.

 

والدرجات الثلاث لم تعد كافية لتعيق هروبها من قصر أميرها... والحديقة صغرت على قدر لم تعد تسع عربتها الكبيرة... كبر حلمها!... والنافذة المدورة الصغيرة التي ضمت ساعتها بعقاربها الثلاث وأجراسها السبعة قد تلاشت ولم تعد تدق منذرة قدوم الثانية عشرة ليلاً!...

 

وأميرها المنتظر لن يعثر على حذائها ولن يجوب المدينة بحثا عنها ولن يطرق بابها كما كانت تتمناه وتنتظره منذ أكثر من عشرين عاما!؟... لقد انحسرت المسافات وتضاءلت عدد الدرجات وعادت للأشياء أحجامها الطبيعية، وعاد لذلك المنزل وحديقته الصغيرة شكلاهما المألوفان ككل البيوت القديمة!... وتلك الزهور التي كانت تجمعها له بين أوراق دفاترها الملونة بالذكريات فقدت أريجها ولم يبقى منها إلا رقائق هشة تشبه أجنحة الفراشة الميتة!.

(لابد أنهم قد عادوا أخيرا) تنهدت أمل وهي تحاول أن تستطلع من خلال الخيوط الدقيقة للأنوار المنبعثة من خلف النافذة عن شكل الساكن العائد بعد غياب طويل عن الوطن، ثم تساءلت: (كيف يبدو خالد يا ترى؟.... ذلك الشاب المرح؟.... هل سيذكرني إذا ما رآني؟... هل سيذكر "أمل" الفتاة الصغيرة التي كان يلاعبها عندما كانت تحل عليهم ضيفة مع والدتها؟... هل سيتذكر كيف كان يحملها بين ذراعيه ليضعها على الأرجوحة الخشبية، وهو يهزها ويغني لها ويحاول إضحاكها بحركاته الظريفة التي تشبه المهرجين؟... سيذكر الزهرة الحمراء التي أهداها لي والتي لازلت أحفظها بين أوراقي أتفقدها كلما اشتقت لان أراه واسمعه!؟.)

 

فجأة تذكرت بأنها لابد تحتفظ بتلك الوردة في أحد دفاترها العتيقة الموضوعة في صندوقها الخشبي الصغير بانتظار هذه اللحظة!؟... لحظة عودة أميرها الموعودة!...فذهبت لتحضره، وتتفقد محتوياته، باحثة بكل اهتمام عنها!... فوقع نظرها صدفة على آخر الصفحات التي كانت قد كتبتها قبل أن تغلق على تلك الوردة الحمراء والتي لم يبق منها إلا بتلة واحدة!... والى جانبها بعض كلمات تقول: (هذه أخر بتلة من البتلات العشرة الحمراء المؤلفة من الوردة التي أهديتني إياها منذ عشرة سنوات كنت اترك في كل دفتر من دفاتر ذكرياتي التي خططتها واحدة منها وبدأت مع أولاها ((يحبني))، وهكذا حتى وصلت إلى العاشرة والأخيرة حيث وقعت على عبارة ((لا يحبني)) وعرفت أخيرا بأنك لا تحبني ولا تفكر بي وأنا كذلك؟!.)

 

أغلقت أمل الصندوق بعصبية ظاهرة وهي تحاول أن تطرد من ذهنها شبح أحلام جميلة عايشتها، وكانت قد وضعت حد لها، واعتبرت تصرفها ذاك وكأنه خيانة للعهد الذي يربطها بها، وأرادتها أن تكون سر أسرارها!.... وتذكرت بان العبارات الجميلة التي خطتها وكل الذكريات لم تكن إلا من وحي خيالها وبان لاشيء يربطها مع القادم الجديد.

 

(إذا لما أنا مضطربة هكذا؟) تساءلت أمل ثم تابعت: (لابد لان هذا الغريب القادم من بعيد قد حل فجأة ليسرق ما هو لي!... قصري... أميري... حديقتي... أزهاري... أحلامي... ذكرياتي... ولن اتركه ولا بشكل من الأشكال أن يفعل؟!... هذا كل ما تبقى لي!... هذا كل ما املك؟!.)

 

تقلبت أمل في فراشها طوال الليل محاولة أن تتجاوز القلق الذي حل بها فجأة من جراء وصول هذا الغريب وقد استولى على كل أمالها وأحلامها بلحظة واحدة، وقررت أن تأخذ المبادرة لتدافع عما اعتبرته حقا شرعيا لها.

 

فهي التي كانت تزين هذا القصر الصغير بأحلامها وترسمه في مفكراتها.. وتعتني بأشجار حديقته وأزهارها.. من خلال نظراتها القلقة عليها تتفقدها في كل صباح... هو غائب عنها بعد أن هجرها ولا تربطه بها أي شيء سوى أنها ارث مكتوب ومهدى له على الورق.

واعتبرت بأنها أحق منه بها فهي تمثل كل شيء لها بل وأكثر... حريتها... فلن تستطيع بعد اليوم من الوقوف على نافذتها الوحيدة التي تطل منها على العالم الخارجي بحرية... وتصورت بأنه سيسرق منها حتى حريتها وقررت ألا تتركه يفعل!!!.

في صباح اليوم التالي استيقظت أمل على أصوات العمال وهم يتناوبون في إخراج أغصان الأشجار التي قطعت، وبقايا من أوراقها المتكدسة منذ سنوات.

 

وشعرت وهي تراقبهم من خلف ستارة نافذتها وكأنهم ينقلون بعض منها إلى المجهول!.

 

ولفت انتباهها علبة بيضاء للبريد قد ثبت على باب المنزل بطريقة لم تألفها من قبل (هكذا إذاً؟!.. أنه ولابد قد عاد ليستقر هاهنا إلى جواري وللأبد؟!.) تساءلت بامتعاض ثم ابتسمت فلقد جاءها الفرج من حيث لا تدري وصاحت بفرح: (لقد وجدتها... سأكتب له... ستكون علبته نافذتي الجديدة لكي استرد منها حريتي التي سرقها بدلا من تلك التي أغلقها... واجبره على الفرار!!!.) وقررت الكتابة له!!!.

 

فخطت أولى رسائلها تستفزه وتسأله فيها عن نفسه تاركة عنوان بريدها الخاص في المؤسسة التي تعمل بها ووقعتها باسم مستعار ثم رمتها بعلبته البريدية قبل أن تغادر إلى وظيفتها.

 

ولم يطل انتظارها طويلا حيث عثرت في اليوم التالي ضمن بريدها الخاص على رسالة منه يقول فيها: (وصلتني رسالتك وأنا لم استغرب من وجودها بقدر استغرابي من كاتبتها التي لم يحصل لي وان عرفتها من قبل.؟ اخبريني من أنت؟.)

 

أسرعت أمل إلى غرفتها حيث أوراقها وأقلامها وخطت له بعض العبارات المختصرة تسأله نفس سؤاله؟. (رسالتك رغم قلة حروفها فهي بليغة، ويبدو بأنك لم تضع الوقت ولديك رغبة عارمة في معرفة صاحبتها، وقد تتخيلها سهلة وهي ليست كذلك ولكن بيني وبينك حساب قديم ويجب أن نراجعه ونعيد لكل ذي حق حقه؟!. وأخيرا أتمنى أن تخبرني أولا من تكون؟.) وكأنها أرادت بذلك أن تثير فضوله أكثر قبل أن يعرفها وتكشف له كل أوراقها.

وبالرغم من أنها كتبت له بجفاء إلا أنها كانت تحتضن رسالته وتعود لتقرأ كلماته القليلة بشيء من النشوة وهي ترتجف، ومضت ساعات قبل أن تستعيد هدوءها واضطرابها غير المعهود وكأنها ارتكبت إثماً، فغادرت المنزل دون أن تتناول طعام غذائها لترمي له بالرسالة وتمضي!...

في اليوم التالي لم يخب أملها حيث وجدت رسالته الثانية إليها وقرأت: (أنت ولابد تعرفين الكثير عني، وأنا لم استقر بعد في بيتي ولم افتح أبوابه ونوافذه التي علت أقفالها الصدأ حتى أجد خصوم لي وحسابات قديمة لا اعرف مصدرها، وأنا في كل الأحوال لا أمانع بالتعرف عليك أكثر ومناقشتها إذا شئت ولكن اخبريني كيف ومن أنت ولماذا تتخفين خلف اسم وعنوان مستعار؟؟؟.)

 

وشعرت وهي تعيد قراءتها بأنه ولابد يتمتع بالكثير من الخلق أو انه يشعر بالوحدة مثلها ويرغب بالتعرف إليها... أو ربما لم يكن تصرفه معها على هذا النحو إلا لتعوده على التصرف بلباقة مع مخاطبيه تأثرا بعادات وتقاليد البلاد التي عاش فيها!...

 

لم تنتظر أمل عودتها إلى المنزل فمسكت بالورقة وكتبت له: (أولا أنا اسمي الحقيقي أمل ولن تجد صعوبة كبيرة في التعرف علي إذا ما نظرت حولك ورأيت شيء ما قد تغير، الق نظرة من نافذتك تجد عنواني الجديد تستطيع أن تكتب لي إليه، ويسعدني التعرف أليك أكثر، ولكن قبل أن نلتقي لمناقشة ما نختلف حوله عليك التوقف عن تقطيع أوصال عروق الياسمين المتدلية على أسوار الحديقة فهي تعني الكثير لي، فلا تستغرب سأخبرك بالسبب لاحقا؟!.)

 

ترددت أمل في إيداع رسالتها وشعرت بأنها لابد تسرعت في التجاوب مع شخص غريب كان غريما لها منذ أيام وتساءلت في سرها عن سبب اندفاعها نحوه بهذا الشكل، وبأنها ربما قد أخطأت في التحرش به على هذا النحو!.

 

ولكن هي تعرف تماما بأنها لم تكن تتوقع أجابته السريعة لها وبأنها ربما قد وقعت في نفس الفخ الذي نصبته له!... وقعت بالحيرة والفضول وهاهي تكشف كل أوراقها؟ (أي أوراق؟.) تساءلت أمل: (هو لن يعرف شيئا عني أكثر من بعض كلمات وعنوان!.. وإذا رغب باللعب فيكون قد أعلن حرب خاسرة سلفا على نفسه وسأدير معاركها ضده بكفاءة!... فانا من يعرف مكانها جيدا واطل عليه من نافذتي فأراه ولا يراني. أستطيع بكل بساطة أن افتح النافذة لأطل عليه وأقرا برنامجه اليومي... متى يصحو... متى يتناول إفطاره... متى يخرج ومتى يعود ومتى ينام... كل شيء تقريبا... في حين هو لا يستطيع ذلك!!!.)

ولهذا لم تتردد أمل ثانية واحدة من متابعة ما عزمت عليه وطلبت من البواب شراء وتعليق علبة بريدية خاصة لها لونتها بلون زهري مميز وقد كتب عليها بحروف واضحة "الأستاذة أمل".

سر خالد بوجود رسالة أمل بين بريده اليومي وصحفه التي لم تتأخر بالوصول إلى عنوانه الجديد، وقد وضعت على طاولة مكتبه القديم بعد أن جلبها الآذن، ووضع إلى جانبها فنجان قهوته المعتادة.

وجلس يقرأها وهو يبتسم... فلقد وجد في صراحتها وجراءتها علامات من الاستقلالية والثقة ما كان يتوقعها في بلدته المحافظة، فتناول القلم وكتب لها: (لقد سررت كثيرا بوجود رسالتك الوحيدة في بريدي هذا الصباح.. وسررت بصراحتك، ويبدو بأنك قريبة مني كثيرا لدرجة أن لا أراك فيها، وأنا لا اخفي عليك بأنني حاولت العثور عليك بين البيوت الكثيرة والنوافذ التي تعد بالمئات.. والتي تطل من العمارات الشاهقة التي احتلت مكان البيوت القديمة في هذا الحي المتواضع، والذي تنكر للماضي على ما يبدو.. واخذ أجمل ما املكه وهو الوطن!... الوطن الذي حننت إليه وحلمت به وتمنيت أن أعود إليه واجده مع أهله وأحيائه وخلقه وقيمه وروائحه المميزة... وأنغام الطيور وهي تهدهد، وغناء عصافير الدوري وهي تزغرد... وعندك حق عندما اشترطت عدم المساس بأغصان الياسمين مقابل لقاءنا؟!. فيبدو بأن من حسنات هجري لهذا البيت، هو إنني حافظت على أخر ملجأ آمن لكل الطيور والعصافير والسحالي وجميع أنواع الفراشات... وحتى أعشاش "السنونو" لم تفتقد لهجرتها مكانا!... ويبدو بأنني المتطفل والغريب الوحيد عليكم جميعا؟؟؟... فلا تقلقي ساترك كل شيء على حاله فهل استحق مكافئتي بلقاك والتعرف إليك؟.) ثم نادى على الآذن طالبا منه إيداعها بالعلبة الزهرية اللون المعلقة على مدخل البناية المقابلة.

لم تتأخر أمل من الهبوط درجات السلم الأربعين التي تفصلها عن علبتها... فلقد شاهدت الآذن -الشخص الوحيد الذي رأته إلى الآن- يقترب منها وبحدس الصياد الماهر الذي ينتظر اهتزاز قصبته منذرة بوقوع سمكة جديدة بالأسر.. فتحت أمل علبتها لتخلص تلك الرسالة من صنارتها وتعيد إغلاقها بحرص كمن يعيد الطعم لاصطياد أخرى!... وعادت إلى غرفتها متشوقة لقراءتها... فألقت نظرتها الأولى المعتادة تطالعها بسرعة البرق ثم عادت لكي تتأمل السطور تبحث بين حروفها عما يمكن أن تخفيه من مشاعره المخبأة فيها فوجدته رصينا وجديا أكثر مما توقعت... عادت مرة ثانية تتفحصها وكأنها قد أغفلت أمرا لم تستطلعه بما فيه الكفاية... وصدق حدسها فلقد وجدت كلماته مطبوعة على ورقة ملونة تخفي بين رساماتها الهادئة بعض مما يحب أن يقوله... انه النصف الآخر الصامت الذي تبحث عنه ووجدته!... فسرت لاكتشافها وجلست تخط له جوابها: (أشكرك على احترام رغبتي في الحفاظ على أغصان الياسمين موحشة كما هي.. وعلى البقية الباقية من أشجار قديمة حوت فيما حوت ذكريات وأحلام جيل كامل من أهل هذا الحي.. وتختصر أمالهم بالحفاظ على البقعة الخضراء الوحيدة التي تسر النظر وتبهج الروح وتعيد إلى النفوس بعض الأمل.

 

خاصة إذا ما علمت بان الأماكن المعتمدة لإنشاء الحديقة الخاصة بالحي الجديد قد سرقت وبيعت لتتحول إلى دولارات في جيوب المسئولين عن هذا المشروع.

 

وبان أشجارك الوحيدة الباقية هي دليلنا بحلول الفصول الأربعة بعد أن فقدنا الإحساس بها في خضم الزحام والضجيج وروائح المازوت المنتشرة في كل مكان؟؟؟.. فمن خلال زهور أشجارك الوديعة وزقزقة العصافير وهديل الطيور نعرف بان فصل الربيع قد حان! ... وعندما تتدلى أغصان أشجار الليمون والبرتقال من ثقل ثمارها لتلامس الأسوار نعرف بان الصيف قد وصل!... ومع حلول طيور "السنونو" تتسابق لتحتل الجحور البسيطة التي تركتها أسلافها نعرف بان الخريف قد قدم!... وعندما تبدأ ثمرات الليمون والبرتقال تتساقط أرضا صابغة الحديقة وأطراف الرصيف بألوانها ورائحتها المميزة العطرة نعرف بان الشتاء قد حل علينا!...

 

أما الياسمين فهي مزار الصغير والكبير من أهل هذا الحي كلّ منهم يتزود من أزهارها لحاجته ولم تبخل.

 

وإذا قدر لي أن اعد المئات من الملايين منها التي أفرحت القلوب وزينت الصدور وعطرت المياه العذبة بدلا من البخور... وكانت وسيلة العاشقين للدلالة على حبهم وامتنانهم وإدخال السرور... حتى المقابر لم تفتقدها ففي كل جنازة منها المئات تتناثر عليها في خشوع!... لكل واحد منا فيها ذكرى وقصة وحصة!؟.. سننازعك عليها إذا ما قررت سوءً بها؟!.

 

واعذرني قسوتي وجفائي فهذا البيت هو كل ما تبقى لي....ما تبقى لنا من خضرة هذا الوطن ومن ذاكرته ووجدانه.؟ ! أما عن سؤالك عن لقاء قريب بيننا فكل شيء في حينه أفضل، تحياتي، أمل.)

استلم خالد رسالتها وقرائها بكل هدوء ثم وضعها جانبا وكأنها لا تعنيه فلقد شعر لأول مرة بأنه يخضع لأسئلة صعبة ومحرجة، انه بكل بساطة يخضع للتحقيق عن أشياء تخصه ولا يحب أن يتداولها مع أي كان.

 

وبالرغم من الصراحة البليغة التي تناولت بها أموره الخاصة تلك وغيرتها واندفاعها في تحويل ملكيته وأخر قطعة من وطنه إلى أمر عام ستنازعه عليها، فلقد وجد فيما طرحته حقيقة لا يمكن أن يتجاهلها... وكان مستعد تماما أن يقايضها به مقابل رغبته في لقاءها والتعرف إليها... فلقد شغلت عقله وأثارت فضوله وحركت جوانب منسية من طفولته وعشقه وحبه للوطن، لقد كانت -ومن حيث لا تدري- تعيد رسم اللحظات الباهتة الحنونة من ذاكرته وتلونها بألوان مليئة بالفرح والأمل.

 

فتناول رسالتها ليعيد قراءتها باهتمام وقرر أن يخطو خطوة أكثر جدية معها فهو لا يحب هذه اللعبة -رغم براءتها- أن تستمر.

 

فلقد تجاوز سن المراهقة وعليه أن يحترم عادات وتقاليد أهل البلدة المتعارف عليها، فكتب لها: (أنا اتفق تماما على كل ما طرحته علي في رسالتك ومستعد للقائك للتفاوض على التفاصيل، فانا لا اخفي عليك بأنني سحرت بك وتمسكك بما تحبيه وتعشقيه من وطنك وأتمنى أن أكون وبكل بساطة بعض منه علني اكسب اهتمامك وحبك وحنانك... أن تكوني بكل بساطة وطني... فهل تقبلين بي؟؟؟ أرجو ذلك.)

 

تلقت أمل رسالته بشيء من الغبطة وتفاجأت بصراحته ودعوته لها!... واعتبرتهم إعلان استسلام من طرفه.. وبأنها لابد قد أصابت مقتلا منه فوقع بغرامها دون أن يراها.. وبالرغم من شعورها بالانتصار بمعركة لم تخوضها كما تمنت إلا أنها ترددت بالإجابة عليه.. لأنه جردها من وهج المبادرة.. فأصبحت بكل بساطة أسيرة دعوته المسالمة وإعلانه لحبه دون مقدمات.

فأصيبت بالحيرة وتناوب عليها القلق والاضطراب وشعرت بمفاصلها ترتجف دون أن تعرف السبب، فارتمت في فراشها وقد أخذت أطراف الغطاء لتختبئ تحته، وكأنها تحاول الهروب من موقف صعب لم تتعود عليه، وأحست بالمياه الباردة تغمرها بعد إن كانت غارقة بالعرق، لقد أصابتها اعترافاته بشعور غريب لم تألفه وبضيق وخجل؟.

لم تستفق أمل من الحمى التي أصابتها إلا بعد أسبوع.. كانت تتهرب من الجميع... جميع من حولها متحججة بشتى الأعذار.. ونافذتها التي لم تغلق منذ سنوات لم تفتح كما هي العادة لتتعرف من خلالها على تناوب الليل والنهار!!!... لقد فقدت الإحساس بالزمن وشعرت بنظراته تطاردها وبكلماته تبحث عنها دون كلل أو ملل!... وبأنه لابد سيعثر عليها ويطرق بابها بعد أن غابت عنه... وتذكرت أحلام طفولتها...تذكرت سندريلا وحذائها... أميرها... قصرها... فشعرت برهبة الموقف وتخوفت من اللقاء... فجأة تذكرت بأنها نسيت أن ترد على رسالته الأخيرة... نسيت أن تدله عليها... عما قررت...أن تترك فردة حذائها... دليله على وجودها!!! ...

 

فنهضت من الفراش وخطت رسالتها المؤلفة من بضع كلمات تقول فيها: (لقد تأخرت كثيرا عليك لأنني كنت مشغولة في بعض أعمالي، اشكر لك اهتمامك وكلماتك المعبرة الحنونة واقبل بدعوتك لي للقائك، ما رأيك بزيارتنا هذا المساء لقد تحدثت إلى والدي بالأمر وهم فخورين بك وبمعرفتك ويحفظون لوالديك كل الاحترام فلقد كانت تربطنا بكم صداقة قوية وقرابة قبل أن تترك الوطن بعد فقدانك إياهم... وان دققت قليلا في ذكرياتك البعيدة لوجدتني اسكن في بعضها، أعذرك إذا نسيتني فلقد كنت صغيرة جدا يومها، نحن بانتظارك وإلى اللقاء.)

نزلت أمل الشارع لتعبره للجهة المقابلة حيث بيت خالد ساعية إلى علبته البريدية فلم تجدها ؟!.. فظنت بأنها ولابد قد أخطأت المنزل... تفقدت المكان حولها وأعادت تبحث عن علبتها الضائعة فلم تعثر عليها!.. وتخيلت للحظات بأنها ولابد تهزي من أثار الحمى التي أصابتها! (ولكن أثار تلك العلبة لازالت هنا بثقوبها الأربعة) تساءلت أمل: (ماذا حصل إذا؟... أين هو ولماذا أغلقت النوافذ والأبواب وعاد المنزل إلى سابق عهده مهجورا؟.) وقبل أن تترك المكان رمت برسالتها في الحديقة وعادت إلى منزلها وقلبها يشتعل من القلق والحزن والخوف.. وتمنت لو أن الأرض انشقت وابتلعتها على أن تجد نفسها في موقف كهذا وشعرت بنوبة الحمى تعاودها.

مضى أسبوع آخر وأمل طريحة الفراش تهزي... حتى استيقظت على أصوات صراخ وعويل قادمة من الجهة الأخرى من الشارع يصاحبه ضجيج لآلات ضخمة تعبره... ففتحت نافذتها تستطلع الأمر فوجدت الجرافات الإسرائيلية تقوم بهدم المنزل بحراسة الجيش وبعض من أفراد الشرطة... وشعرت وهم يقومون بقطع أخر الأشجار الخضراء التي يحتويه ونقل أخر أحجاره في سيارات نقل عملاقة -لإفساح المجال لبناء جدار العزل المشئوم- بأن جزءا منها قد هدم واستبيح وقتل!؟... فصرخت بأعلى صوتها حتى سقطت أرضا وقد أغمى عليها من الحسرة والألم.

 

ومن يومها لم تجرؤ على فتح نافذتها لأنها فقدت وسيلة الاتصال الوحيدة بعالمها التي كانت تفرح بالإطلالة من خلالها... خاصة بعد أن خسرت مساحتها الخضراء الوحيدة ودلالات الفصول الأربعة ورائحة الزهور... وزغردة العصافير والطيور... وأزيل أخر أثر لحلمها وحريتها... والوجه الصغير الأصفر الذي كان ينبئها بوجود خالد خلفه... نافذته... انطفأ... وانطفأ معه قصره... قصرها... حبه... حبها... حريتها... حريته!؟.

فجمعت الوصلات الكهربائية بعد إن فصلتها عن جهاز "الكمبيوتر" ووضعتهم معه في صندوق خشبي كبير وأغلقت عليه بكامل ملفاته ومراسلاته دون تغير.

مع تحيات المؤلف: يحيى الصوفي  جنيف في  08/04/2004

أضيفت في01/05/2006/خاص القصة السورية / المصدر الكاتب (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)

 

 

إرث جدتي

بقلم الكاتبة: نجمة حبيب

 

هو زيتونة دهرية ترقد، ككل زيتونة في بلادي، متواضعة راضية بما قدّر لها من غذاء وماء وهواء ونور. جوادة معطاءة دونما جلبة أومطالبة بحقوق أو رد دين. فهي لا تبتئس لو أنك أهملتها. ولا تطالبك بسقاية أوتشجذيب أوتمشيط, ان حدث وتعطفت عليها ببعض عناية كافأتك بصمت، وان لم تفعل أكملت مسيرتها بصمت أيضا دون معاتبة او اقتصاص على اهمالك وتناسيك. وهي أيضا مقتصدة محتشمة، لا تظهر عورة ولا تتعرى مهما جارت عليها عوائد الفصول. لا يعتريها ما يعتري بنات جنسها من شبق ربيعي، فلا تزهو ولا تغوي ولا تفاخر، حتى انها لا تحسد جارتها شجرة اللوز التي تزهو كل ربيع بزهرها المشتعل فتنة. ثمرها أيضاً كزهرها، لا يغويك بسحر ولا ينصب لك شباك الفتنة لتقع صريع هواه، بل ينتظرك حتى تتعطف باسقاطه فلا يئن متوجعا من ضربات "شاروطك" الظالمة ولا يقاضيك على قسوتك بل يمتثل كالزوجة الخانعة. يقبع خاضعا في الزوايا المهملة في الخوابي المعتمة لا يشكو قسوة حر ولا شدة برودة. ينصاع صاغرا لأحجار طاحونتك القاسية فلا يئن لثقل وطأتها بل يفرح لو رآك تتشمم سائله المخضر الجميل بعد عملية الهرس القاسي والمهين. قد تزهو بعض اغصانها الصغيرة مرة في العام عندما ترفعه ايدٍ طفولية ملوحة "مبارك الاتي باسم الرب. أوصانا في الاعالي. اوصانا في العلى". إلا أن جذورها عنيدة متشبثة بتربتها وفية لهذه التربة, حريصة على ترجمة هذا الوفاء بالتغلغل عميقا حد التوحد الصوفي بذراتها. مر فوقها اباطرة وملوك، طغاة وجبابرة، من مشرق ومن مغرب، فما مالآت ولا خفضت "لغازٍ جبينا". كلهم زالوا وظلت هي على وفائها وسخائها 

 

إرث جدتي فاطمة, هذه الزيتونة التي ورثتها عن فاطمة، عن فاطمة منذ الآف السنين, في فيئها غنت لأبنائها ومن بعدهم أحفادها حتى يناموا "وتيجيهم العوافي كل يوم بيوم"، وفي تجاويفها خبأت لنا ليوم العيد مفاجآت من جوز ولوز وزبيب. وفوق أغصانها علقت اطواق التين والمشمش والبامية لتجفف مؤونة للشتاء. وربما أيضاً خلف جذعها قابلت جدي سراً أيام المراهقة. وقد حرصت جدتها لجدتي على تسمية اغصان زيتونتها باسماء احفادها، وبما ان  جدة جدتي لم تكن تعرف الكتابة فقد طلت الاغصان باصباغ مختلفة: أحمر، أخضر، أسود، أصفر، زهري، بنفسجي وغيرها. أصرت جدة جدتي على ان تعيد الدرس على احفادها وحفيداتها مرارا وتكرارا حتى تتأكد من انهم حفظوه جيدا وسوف ينقلونه دون اي خطأ لأبنائهم واحفادهم ذكورا واناثاً: الاحمر غسان كانت تقول، والاخضر محمد، والابيض لميس والازرق هدى والبرتقالي سميرة والاصفر اميل والرمادي زكي والبنفسجي سحر وهكذا

 

في هجومهم الاخير على بلدتنا كانت مجزرتهم في زيتونها. صبر وشاتيلا من توع آخر. أصيبت جدتي بالذهول. لم تذرف دمعة على زيتونتها ولم تشتم او تطلق الدعوات كما كانت تفعل في المرات السابقة. بقيت جامدة كتلك الام التي فجعها موت ابنائها أمام عينيها فأفقدتها المفاجأة سمعها ونطقها. كالت امي لهم اللعنات فلم تجبها كما في الماضي: "صواريخك كاسدة فتشي عن بضاعة غيرها". رمى أخي الصغير دبابتهم بحجر فما لوت رقبتها بحزن كعادتها وقالت: "يا ولدي العين لا تقاوم مخرز". قرأت عليها مقالتي النارية والتوقيعات التي جمعتها احتجاجا وقدمتها لمنظمات حقوق الانسان فما هزئت بجهودي ولا قالت "كلّو حبر على ورق".

 

ذلك الصباح رأيت جدتي واقفة مكتوفة اليدين منتصبة في وسط الدار. كانت قامتها مشدودة ورأسها مرفوعاً بإباء نحو السماء. كانت عيناها جامدتين لا تفصحان عن حزن أو غضب. فلو أن غسان كنفاني رآها لكان قال فيها ما قاله بصاحب "العروس". رميت عليها تحية الصباح فما التفتت صوبي إلا أن ابتسامة عريضة كانت تضيئ جبينها الذي امحى منه ما كان له من تجاعيد. مددت يدي اطلب يدها لأقبلها فظلت جامدة ولم تتمنع لتقول لي كعادتها "بوس الايادي ضحك على اللحى".

 

في زحمة الانشعال المهين بين هذا الحاجز وذاك، نسيت الملمح الاسطوري الذي وسم جدتي ذاك الصباح ولكنني انتفضت مستذكرة كل تفاصيله فيما المذيع يخبر عن امرأة في السابعة والخمسين من عمرها تقوم بتفجير نفسها بواسطة حزام ناسف بعد أن تركت رسالة مصورة تظهر فيها وهي تقرأ ورقة كتبتها بخط يدها: أقدم نفسي فداء لله وللوطن  وللمعتقلين والمعتقلات....

 نجمه حبيب بوسطن الولايات المتحدة 13‏.12‏.2006

أضيفت في29/12/2006/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتبة (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)

 

 

بط أبيض صغير

بقلم الكاتب: د. أحمد الخميسي

 

من قبل كنت أتابع كل شئ ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ . منذ شهور طويلة لم أعد أشتري الصحف ، أية صحف ، لم أعد أفتح التلفزيون . توقفت عن توقيع البيانات السياسية ، وتوقفت عن النقاش فيما يحدث حولنا . أخبار الأحداث السياسية الهامة صرت أتسقطها من أفواه معارفي خلال مكالمات هاتفية عابرة ، أو لقاءات بالمصادفة وسط المدينة . قلت لنفسي : لا شئ يتغير إلي الأفضل . وكنت أعلم أنني مخطئ ، وأن ما أقوله يعني أنني لا أرصد التغيرات بدقة . فلابد أن هناك أشياء تتحرك إلي الأحسن وأنا لا أراها . لكني بحكم العادة والفضول القديم أشغل التلفزيون من حين لآخر، أكتفي فقط بمشاهدة مقدمة النشرة الأخبارية ، وخلال ذلك ، مثل الماء الذي ترفع عنه السدود فجأة ، تتدفق نعوش أطفال الفلسطينيين من شاشة التلفزيون إلي صالة بيتي ، يحملها الناس وهم يهرولون بها قبل أن تشن عليهم غارة جديدة في الشوارع المحاصرة.  أغلق التلفزيون وأندم على اللحظات القصيرة التي فتحته فيها . أغلقه ، لكن طوفان الأطفال يكون قد سرى من الشاشة الصغيرة وشغل كل فراغ في شقتي . طوفان ، ينظر إلي بعدم فهم ، نظرة مشبعة بالتساؤل ، لأنه احتمي بجدران بمنزلي دون استئذان وشغل كل المساحات الشاغرة بين قطع الأثاث في الصالة وفي غرفة نومي ، ومكتبي ، وجانبي الردهة الممتدة إلي الحمام والمطبخ . يستريح الأطفال المبتلون من الموت قليلا ، ويألفون المكان ، ولا يغادرون مسكني ، لأنهم مذعورون من الدنيا المرعبة في الخارج . وما أن أنهض من مكاني حتى يسارعون بالتدافع خلفي مثل سرب من البط الأبيض ، ويتبعون خطواتي أينما توجهت برؤوسهم المشجوجة وبشريط من شاش أبيض يربط الفك السفلي بأعلى الرأس . صفوف متعرجة ومتكدسة من البط الأبيض الصغير تسكن معي منذ زمن وتتبع خطواتي ، كأنها وجدتني بعد جهد ، وتخشى الآن أن أضيع منها ، فتتنقل ورائي من غرفة لأخرى ، وتسارع بالالتفاف حول قدمي في المطبخ . حين أكون مضطرا لمغادرة المسكن ، تقف صفوف البط الأبيض الصغير عند باب الشقة ، تمط رقابها النحيلة الطويلة لأعلى ، تتفحصني ، تهز رؤوسها قليلا ،  ومناقيرها مثبتة من أسفل بقطع شاش معقودة عند رؤوسها الصغيرة . ينظر البط إلي صامتا يفكر إن كنت سأعود إليه أم لا ؟ . أرجع  في المساء ، وأفتح الباب بهدوء ، فتخفق أجنحة البط الأبيض في الهواء ، وتضطرب  صيحاته في ما بين الباب والصالة ، وتسبح في الجو عيون مغلقة وحقائب وصنادل صغيرة ملونة . أخطو بين الصفوف البيضاء محاذرا ، أتجه نحو غرفة مكتبي ، تتدافع الصفوف ورائي، أتوقف أمام باب الغرفة ، وأشيح بيدي له لكي يتراجع ، أريد أن اهتف فيه، لكنه يظل واقفا ، صامتا ، وأعينه معلقة بي . في الليل يملأ البط الأبيض كل موضع في غرفة نومي ، وفقط حين أرقد في فراشي ينعس فوق صوان الملابس ، وعند حافة النافذة ، وعلى طرفي سريري ، فإذا تقلبت على جنبي ، أو تحركت ذراعي وأنا نائم يفتح أعينه بفزع وينقل نظراته ما بيني وبين باب الغرفة،  أتطلع إليه في العتمة ، فيحدق في ، بصمت ، ورهبة ، وأمل .

 

منذ زمن يداخلني شعور أن على أن أعيد تلك الكائنات الصامتة إلي هيئتها الأولى ، وأن أفك عنها وعني السحر الذي ربطنا هكذا . أفكر في كل ذلك ، وأهرب من كل هذا إلي الكتابة في النقد الأدبي ، أكتب ، وأحس بالخجل ، لأن زجاج نوافذ شقتي يكاد أن يرتج  من صوت القنابل ، لكني أسد أذني وقلبي بإحكام ، وأواصل عملي في المساء فأسجل ملاحظات عن تقنيات القصة القصيرة ، أو التقدم الذي حققته الرواية ، ثم أخرج لأتجول قليلا في الشوارع القريبة . أعود ، أفتح الباب ، فتلقاني الأجنحة البيضاء التي يتطاير منها زغب خفيف في الهواء ، وأجد أمامي تلك النظرات الخرساء ، فأشعر أنني كنت هاربا ، مثل جندي تسلل من موقعه خلال القصف وهبط من تل مشتعل بالنار إلي أشجار الغابات البعيدة . يقول لي صديق : " الحياة لا تتوقف ، والنقد والصحافة مهام ضرورية لا تتعطل " . أهمس لنفسي : " بالطبع . يد محترقة لا تمنع اليد الأخرى من تناول الطعام " . أقول ذلك لكني أحس بمرارة وأنا أفعل كل ما هو ضروري ، أو حين ألتقي بأصدقائي القلائل ، أو أضع شفتي على حافة كوب الماء فأجد صفوف البط الأبيض تتطلع إلي بنظرة مبهمة ، أحدق فيها هاتفا : وهل أنا المذنب ؟ هل أنا الذي ألقي بالقنابل كل يوم ؟

 منذ زمن توقفت عن القيام بأي شئ . كل ما أفكر فيه ذلك البط الأبيض الذي يحيا في مسكني ، و يتخبط حولي ، ويمنعني من التنفس أو تناول الطعام براحتي، دون أن يصدق أنني برئ مما يحدث ، ودون أن يكف عن التماس الحماية . الزغب الأبيض الخفيف غير المرئي تقريبا في أجواء الشقة كلها أخذ يدخل صدري يوما بعد يوم ، ويدخل رئتي دون أن أشعر ، إلي أن وقفت صباح أحد الأيام وربطت بشريط من شاش فكي السفلي بأعلى رأسي ، ثم تجمدت بين الصفوف البيضاء ، ورفعت رقبتي النحيلة لأعلى ، وصرت أتجول معها بصمت بين الغرف الفارغة ، وجناحاي يخفقان في الهواء ، أشهق لأعب نسمة ، على أمل أن تطرق الباب علينا يد بشرية

أضيفت في01/05/2006/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)

 

 

جدار الصبر

بقلم الكاتب: مصطفى مرار*

 

قطوفها دانية.

وهي كانت كذلك، يوم تسلم صك تملّكها، أقطعها، له، لص متمرّس، كان منح نفسه لقب "القيّم على أملاك العدوّ" هو كل من اغتصبت أرضه، وأجليَ عن وطنه.

"الخواجا بنيامين" يقضي نهاره، يتحسس ثمارها، ويتلمظ. حتى إذا غلبته نفسه الأمّارة بِـ..القطف، فإنه يصفع تلك النفس، فتأمر الجسد الناحل، فينثني مبتعدًا عن الثمار الذهبية. ثم ينحني، ويلتقط ثمرة، مما ألقت به الريح "تحت أمه".

يبتسم للثمرة الذابلة، يدغدغها، وهو يقول... لنفسه، مبررًا لها شُحُ... نفسه:

هذا برتقال، والذي يتدلى على شجرة برتقال. وكما يقول عمالنا البدو: "كله عند العرب قُطّين".. والثمر المليح ينباع، وهذا ما ينباع!".

ويمتد موسم النضج والقطف أربعة أشهر، وأكثر، وينظر "الخواجا بنيامين" بعينيه، ويقطع قلبه، حين بعض العمال البيض الأفندية  من بني جلدته، يشلخ الأغصان، ليجعلها تركع عند قدميه، فيكون أسهل عليه مرط ثمارها . وإذا أراد هذا الأفندي الأبيض أن يأكل، فإنه يفغم فمه من الحبة، ثم يلقي بها أشلاء! فلا يجد "بنيامين" من يرشق في وجهه سم الغيظ غير ذلك العامل الغزي، الذي ربما كان حرصه على سلامة الثمر، وجماله والشجر، أشدُ من حرص "بنيامين" نفسه، فالغزي يتشبث بمكان عمله، إلى حين، ولا يريد الاحتكاك بذلك "النمرود الأبيض" لما يعلمه من استعداده، وزمرته، للتحرش، ولإيقاع الأذى، كلما سنحت لهم الفرصة، حتى إنهم ليفتعلون "الفرص" للتنفيس عن حقد، أرضِعوه أطفالاً. ومالهم لا يفعلون، والفرص في عصر الحجارة لا يحدّها زمان ولا مكان!

ويريد "النمرود الأبيض"، الذي أرسل للعمل في البيارات بحكم "قانون البطالة" أن يثبت بأن هذا "العمل الأسود" لا يلائمه، وأنه من اختصاص عمال "الشطحيم"   دون غيرهم.

إن من "حق" هذا الجندي المسرّح أن يكون آمرًا وسيّدًا، لا يمدّ يده لتناول قشة. بل يقضي نهاره على شاطئ البحر، ويسهر ليلـه في الملاهي، فهو،الضمان الوحيد الباقي للحفاظ على ما تحقق من "الحلم القومي" ،  ومن ثم المضي في إتمام ما بدأه "الآباء، البناة الأولون".

وقبل هذا وذاك، فإن "الغزي" حين هو يتعامل مع أشجار البيارة وأثمارها، فإنه يتمثل صورة صاحبها "أبو إبراهيم" الذي انتزعت منه، وانتزع منها، ولما يَطعَم بواكير ثمارها.

وهي، البيارة، ما زالت على مدى عشرين عامًا، تؤتي أُكُلها ذهبًا وعسلاً . بينما اليد التي حرثت، وزرعت، وتعهدت، ترقد هامدة إلى جوار الجسد المسجّي فوق الحصير، في كوخ متهدم، عند أطراف المخيم. وليس ما يشير إلى وجود الحياة في الجسد الهامد، سوى عينين جاحظتين.

بعد صلاة الفجر، وحين العامل الغزي "حميدي" يغادر كوخه، نادته "أم إبراهيم" من فوق الجدار الذي يفصل بين الكوخين:

-حميدي! حميدي، يا ولدي!!

-لبيك، أم إبراهيم! خير إن شاء الله؟!

توقف "حميدي" وكرّ عائدًا... لم ينتظر حتى تفتح له "أم إبراهيم" فهو دفع الباب، وهتف في قلق:

-خير إن شاء الله! كيف حال أبي إبراهيم؟!

-هو بخير يا ولدي. تفضل ادخل. إنه يدعوك إليه، لن يؤخرك كثيرًا.

اقترب "حميدي" من فراش الرجل الذي كان يومًا بطل القفز على النبّوت، وسيد من ضرب "المورة" والذي كان يقعر، في اليوم الواحد، خمسين "جورة" .

ركع إلى جوار الفراش، واحتضن اليد الهامدة:

-لبيك، يا أبا إبراهيم. تفضل، ومرني بما تريد.

-معذرة، يا ولدي.. لا أريد أن أطيل عليك، حميدي، يا ولدي.. أوصيك، بالبيارة، خيرًا.. إلى أن أعود إليها، ولا بد يومًا  أن أعود.. فإنني أتمنى عليك أن تأتيني بحبتين من ثمارها كل يوم، حبة من كل شجرة، إلى أن ينتهي الموسم، فأكون قد طعمت كل ثمارها، أنا وهذه المرأة الصابرة.. لا تبك، يا ولدي.. لا تبك يا حميدي.. الدموع تخيفني.. لأنها سلاح العاجز.. بل إنها ليست سلاحًا على الإطلاق، ولسنا بعاجزين.. انظر! انظر!! إنني، أنا.. أنا لا ابكي!

وأدار الرجل القوي وجهه إلى الحائط..

قبّل "حميدي" اليد الميتة، وسجّاها إلى جوار الجسد الهامد.. وقبل أن يبلغ الباب، بلغه صوت أبي إبراهيم واضحًا، واثقًا، قويًا.. ولعله كان مدويًا، فقد خيل إلى "حميدي" أن صدى ذلك الصوت يطبق عليه ، بل يخرج عليه من الأزقة، فيحمله إلى هنالك، إلى البيارة:

"حميدي، يا ولدي! ابدأ بالشجرات عند جدار الصّبر ، تلك البقعة التي كانت مصلاّي ومرقدي، يوم كانت الأرض مخضرة بالمقاثي.. لا تبطئ في العودة!".

"الخواجا بنيامين" ينفجر في وجه العمال الغزي، كلما لمس تمردًا من النمرود الأبيض، الجندي المسرّح:

"خميدي!" انت خمور . لماذا لم تلقن ذلك الشاب الأشقر أصول الشغل؟

ويتساءل "حميدي":

-ولكن يا "خواجا بنيامين" هذا جندي. ومن أنا حتى أصدر الأوامر إلى الجنود؟

-أنت "معلم قطيف".

-أخشى أن قلت له "اقطع". أن يقطع رقبتي!

-ولماذا؟

-وهل يفعل غير ذلك؟! اليوم يا "معلمي" كانت يدي تطبق على حبة برتقال صغيرة، فأوقفني وصرخ: "وجهك إلى الحائط! ماذا تخبئ في يدك؟!". وفتحت يدي، فسقطت الثمرة.. قد خالها الجندي الهمام حجرًا!

هزّ  "بنيامين" رأسه:

-اسكت عزّاتي ! أنا لازم بقرا جريده!

وسكت "العزاتي" حميدي. وتوجه إلى الشجرات عند "جدار الصبر" - تلك البقعة التي كانت قبل زراعتها بأشجار البرتقال، مصلى أبي إبراهيم ومرقده، يوم كانت الأرض مخضرّة بالمقاثي.

وقف أمام البقعة المباركة مشدوهًا حائرًا.

الأشجار، كلها، مثقلة بالثمار الذهبية. وكل برتقاله تغار من أختها. وكلها تدعوه أن يقطفها، ويحملها إلى المخيم، إلى جاره أبي إبراهيم. و"حميدي" يحب البيارة كلها، ولا يطيق أن تزعل منه واحدة من أشجارها، فهو اخترق البقعة المباركة، حتى إذا توسطها، أغمض عينيه، وراح يدور بين الأشجار على غير "هدى"، ثم مد يده فقطف حبة عن يمينه، وأخرى عن شماله. وفتح عينيه، وعرف الشجرتين، فجعل لكل منهما علامة على جذعها، قال وكأنه يخاطب كافة الأشجار:

"في المرة القادمة، لن تكون قُرعة".

وأسكن الحبتين جيبه الكبير، بلطف وحنان، كي يسلمها إلى صاحبهما، دون خدوش أو رضوض.

وفي عودته إلى التخشيبة، كان "الخواجا" ما زال ينظر في الجريدة. وإذ أحسّ اقتراب "حميدي" ناداه:

-هالو "عزّاتي"!

-نعم، يا معلم.

-تعال بِشوف.. تعال اقرأ!

هرول "العزاتي" لـِ "يشوف" ،  لكنه توقف قبل أن يبلغ مجلس "الخواجا"، فقد ذكر أنه لا يعرف لغة "المعلم"، فبادره هذا:

-اقترب... انظر!

انحنى "حميدي" :

-نعم.

رفع "الخواجا" رأسه، ونظر في وجه "حميدي" بعينين حالت زرقتهما إلى لون الرماد:

-عَمَى، يعمي قلبك! اقرأ.. أنت مش بشوف؟!

-يا معلمي، أنا ما بعرف عبراني.

نفخ "الخواجا" في الهواء.. وقال ساخرًا:

-يا سلام! عشرون عامًا، نعلمكم، ونشغّلكم، ونطعمكم وما بتعرفوا عبراني؟! صحيح، زي ما بقولوا: "عربيم، أين سيخل ".

وقف "حميدي" لحظة يتفجر.

كانت يده ما زالت تقبض على المقص الذي قطف الحبتين.. ضغطت عليه.. عصرَته...

كان "الخواجا" قد عاد إلى صحيفته.

رفع "حميدي" مقصه إلى ما فوق رأسه.. وقبل أن يهوي به على عنق الرجل، ذكر أبا إبراهيم، الذي ينتظر الثمرتين الذهبيتين..

أعاد المقص إلى حزامه، ومضى نحو التخشيبة..

"الخواجا" يطوي الصحيفة. وهو ذا يتابع تحرّك "حميدي" حين هو يتجه إلى التخشيبة.

كان طرف معطفه متهدلاً، يشده ثقل البرتقالتين، فصرخ "الخواجا":

-"عزّاتي"! ما هذا الذي يثقل جيبك؟

توقف "حميدي" ولم يستدر، وقال في تحدّ:

-هذا برتقال.. أحسن حبتين، عن أحسن شجرتين في البيارة!

-أنت خرامي!

صرخ "الخواجا".. فانثنى "حميدي" وخطا نحوه خطوتين... لكنه، مرة أخرى، تذكر أبا إبراهيم، فتوقف، وتساءل من بين أسنانه:

من فينا الحرامي، يا أولاد الحرامي؟! ملعون أبوكم، على أبو شغلكم، على اللي كان سببكم.. خُذ!

وألقى إليه بالمقص، وحقيبة القطف، ومفتاح التخشيبة. وهتف وهو يُخرج الحبّتين من جيبه، ويرفعهما في وجه "بنيامين":

-أما هذه، فلا! وطُقّ وافقع.. إن صاحبها أحقّ منك بها.

وإذ بلغ "حميدي" المدخل الوحيد للمخيم، فإن الدنيا لم تكن تَسَعه من الفرح، لم يصدق أنه اجتاز "محسوم إيرز " لكنه لم يكد يخطو داخل زقاق المؤدي إلى كوخه، حتى توقف، وكأن عشرة من الجنود يتعلقون بحذائه، كان هناك عند باب أبي إبراهيم، جمع من أهالي المخيم.. مدّ يده إلى جيبه.. إلى حيث ترقد البرتقالتين. واندفع، حتى بلغ الباب، فاخترق الجمع، ودخل على أبي إبراهيم..

كانوا قد فرغوا من تجهيزه، وينتظرون بقية الأهل والجيران.. انحنى على الجثمان المسافر، دسّ يده داخل الكفن، ووضع في الكف الدافئة إحدى الحبتين، وأعاد الكفن إلى حاله. ثم رفع رأسه إلى أم إبراهيم، ومدّ إليها يده بالحبة الثانية، وهو يقول:"وهذه لك يا أم إبراهيم.." فاختطفها منها أحد أحفادها.. ابتسم له "حميدي" وقال:

"هي لك، يا ولدي. والبيارة إن شاء الله.. إنها من بيارتكم.. وهي أحسن الثمار.. والله، لكأني بجدك هذا، يفضل برتقاله، التي في يده، على كل ثمار الجنة".

*الكاتب مصطفى مرار من موليد جلجولية - فلسطين سنة 1930 ، عمل في سلك التعليم مديرًا لمدرسة ابتدائية ، وكان محررًا لدار النشر العربي ....له عشرات المجموعات القصصية والمسرحيات وكتب الأطفال ، وحصل على عدد من الجوائز ، وقد جرى له حفل تكريم مؤخرًا تحدث فيه كل من د . فاروق مواسي والشاعر أحمد دحبور. لقراءة الدراسة حولها (قراءة لقصة جدار الصمت)

أضيفت في10/04/2006/ خاص القصة السورية / المصدر د فاروق مواسي (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)

 

 

متى سينتهي

بقلم الكاتبة: فتنة القهوجي

متى سينتهي التهريج

بين زعيم خائن

وآخر جبان

زحمة وضجيج

وضحك حتى البكاء

كالمجانين

استنشقنا البارود

وكأنه الياسمين

وجثث القتلى المرمية

ظنناها لعب .. من طين

أرضنا القاحلة حين ارتوت

انحنينا .. ببلاهة

شكرنا زعمائنا على...

النزاهة

أدخلوا الأعداء ..

وروينا أرضنا

بدم الشهداء

نزعوا عن أجسادنا

شوكة الكرامة

ضحكنا حتى البكاء

كالمجانين

فكيف يؤلمنا طفل عربي جريح

ونازح افترش العراء في فلسطين

ونعترض على التهريج .. بالدين

حتى صور العراة في سجون العراق

نقلتها لنا الصحف

بأنهم مدثرين

فكيف يؤلمنا اغتصابهم

والتفعيل بهم

ونحن مأخوذين بفعل تهريج زعمائنا

ومخدرين

 

 

أضيفت في14/04/2006/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتبة (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)

 

 

النخلة المائلة

بقلم الكاتب: محمد علي طه* 

 

" اعلم أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام ،الذي هو أول جسم إنساني تكون ،وجعله أصلاً لوجود الأجسام الإنسانية ،وفضلت من خميرة طينته فضلة ، خلق منها النخلة ، فهي أخت لآدم عليه السلام ، وهي لنا عمّة ،وسماها الشرع عمة ،وشبهها بالمؤمن ، ولها أسرار عجيبة دون أسرار النبات".

أرض الحقيقة- الفتوحات المكية

محيي الدين بن عربي

 وأخيرًا أعود أليك يا مبروكة بعد غياب طويل . غياب قسري. ملعون أبو الغياب وأبو الفراق . ما أمرّها ! الشوق يقتلني.. وعلى كتفيّ محنة أيوب. صبرت  حتى عجز الصبر .اغتالوني وأنا أصب قهوة الصبح في الفنجان. قتلوني مرات عديدة. نهضت من بين جثث الموتى كما قام المسيح.

 

هي خطوات وسألقى جسدي المتعب على صدرك مثل محارب عائد من الوغى ليرتمي بين ذراعي أمه .. ذراعي زوجه!

قبلاً سأقبّلك ،لم يعرف الحب مثيلاً لها !

سوف تلسع جسدك حرارة أنفاسي المتقدة. نار مشتعلة منذ عقود. حرقت جسدي وأضوته.

هل تحتاجين إلى لحظات أو دقائق لتتعرفي عليه؟ عليّ ؟ على ما تبقى مني؟!

كانت الحرب سجالاً. كرٌّ وفرّ.

ذقت حلاوة النصر أكثر من مرة وطعمت حنظل الهزائم مرات. وعلى الجسد يا مبروكة ندوب لا تحصى قد التأمت. وفي روح ندوب عميقة ما زال ينكأها الزمان صباح مساء!

هل ستتعرفين على شعري الأسود الطويل الذي كانت أمي تتمتع في تسريحه في أثناء زرقة الشمس؟

تركت أصابع الزمان على خصلاته بصمات!

هنا مر الإبهام. وهنا رجّلته السبابة والإصبع الوسطى! وهنا حك الخنصر والبنصر جلدة الرأس!

كان الزمان يسير..

وكنت أعدو..

ما قعدت يومًا وما عرفت القعود!

مستنشقًا هواء الفجر المضمّخ بعبير البرتقالة ساعة.. ومنتشيًا ببرودة نسيم البحر المنعش الذي مسحت وجهه الأسمر وعنقه المتجعد مشى!!

يقولون إن أيوب وصل إلى شاطئ البحر متحاملاً على جسده الواهي الناحل المقروح وألقى جسمه فيه وغاص لحظات فخرج سليمًا معافى.. جسدًا شابًا قويًا يتنشف بالنور!

كان يحاول أن يستنشق الهواء بشراهة لذيذة كأنه غير مصدّق أن هذا الهواء له. هذا الهواء كله له.

يعرف.. وما أدراك ما المعرفة؟ّ!

يعرف رائحة النسيم الذي تلبى عليه . يعني شذى الأرض!

الهواء فوق تراب "البيّاضة" بارد ومنعش في الصيف. ونسيم الصباح في "رباع الست" يذكر الفتى بعطر امرأة شابه تمرّ بجواره...

يتضرع في الجو ويملأ الخياشيم ويحرك الشهوات النائمة. وأما هواء "المراح" فيحمل رائحة الأنعام .. الأبقار والماعز والأغنام.

ويـغذ الخطى.

محمولاً على بساط من الشوق أعود إليك يا مبروكة . مرفوع الصدر. ذراعاي مثل جناحي نسر.

أسمعك. يا هلا . يا هلا!

ويسير .

نابشًا بليونة الفجر ذاكرته الغنية ليفتح خوخة الذكريات النائمة في أعماقها.

يتذكر أسماء مواقع الأرض. أسماء التلال والدروب والشعاب والسبل. سائلاً عن رائحة الهواء في هذه الهضبة في سويعات الصباح وعن نعومة النسيم فوق ذاك المنحنى.

قلب العاشق دليله.

من هنا!

يلفظها في سرّه مكويًة بالزفير.

على هذا المنحنى كنا نعدو مثل الحملان ونطير مثل الفراشات الملونة. نتسابق وراء عصفور بني الذنب. نتسابق على ورده برية شذت بلونها الليلكي عن أترابها الحمراوات . نعدو من زهرة إلى زهرة وراء طزيز .. من شجيرة قندول تفتحت أزهارها الذهبية وتمايست مع شعاع الشمس تراقص النسيم وقد لف ذراعه حول خاصرتها إلى شجيرة بطم ضحكت أوراقها للنهار وفاح عطرها في الفضاء . نتعثر بعود يابس استراح على الأرض ملتاعًا على الحياة .. بحجر خضبه التراب وبحجر لفعه العشب الطري . ننهض ضاحكين . تسخر منا الفراشات . يصفق الطزيز .

يركض خطوات. تتقافز الحشرات والهوام والطيور مذعورة تصفق له أوراق العشب.يلهث. يتعب. يقف.

لقد كبرت يا يوسف العلي وكبر الزمان معك ، ورسم على وجهك خطًا بل خطين . وبنى سخام التبغ في صدرك مداميك سوداء مثل الغربة . ستون عامًا يربضون على كتفيك بما يحملون من الغربة والذل .. من الجوع والحرمان .. من المطاردة والرحيل .. من التحدي والإحباط .. من الكفر والإيمان ..من الفشل والنجاح !!!

ما ضل صاحبك وما هوى !

يحفظ سفر الخروج عن ظهر قلب . رواه يوسف العلي للرفاق على سفوح جبل الشيخ . في الكهوف . في ليالي الشتاء القارس .يحكي عن آدم وحواء . عن قابيل وهابيل .القاتل والقتيل .الفردوس المفقود .

كان يروي السفر واقفًا .

كان يحكي مستلقيًا والبندقية بجواره .

وكان ينام وهو يقول .. ويقول ..

يقولون له : كفى يا يوسف العلي ! ألا تمل ! ألا تضجر! إن كثرة الاستعمال للكلمة تقلل قيمتها وتفقدها جمالها !

ويردّ قائلاً : يقرأ المسلم صورة الفاتحة ثماني وعشرين مرة في اليوم فهل فقدت السورة بلاغتها وجمالها ؟!

يرتشف شايه الساخن مع رفاقه في الفجر وهو يحدثهم عن حلم قصير راَه في المنام .

حينما أسندت ظهري على مبروكة وأغمضت عيني في غفوة لذيذة سمعت وحيًا يقول : وهزي إليك بجذع النخلة يتساقط رطباَ وجنياَ .

لماذا تضحكون ؟

ليست معجزة!

مبروكة تعرفني . تحبني . تنتظرني .

أنا يوسف العلي ذو الشعر الأسود الطويل والقميص المزركش . كنت إرقص حولك مع أخوتي السبعة .

نقفز ونغني .ونرتمي عليك .

" مبروكة يا مبروكه

 يا عين أمك وابوكِ !! "

تضحكون ؟

لا يهمني . قولو ما شئتم ! أنا .. أجل أنا يوسف مبروكة !وهل في هذا عار . لا عار إلا العار.والعار هو أن لا أنساها . لا أحلم إلا بها ! ألا أتغنى بها ..

قادمًا في ليل الغربة الدامس ممتطيًا جوادًا أصيلا ً من الشوق . في الصدر عشق . وفي الذاكرة حكايا .

كان أبي يسبح في لحظات الوجد ويقول إن الله خلق النخيل في الجنة وفي دار الإسلام . ولم يختر فاكهة سوى التمر لتتغذى بها ستنا مريم حينما وضعت سيدنا عيسى عليه السلام . كانت شاهدة الميلاد ولباه وحليبه !! والنخل ذات الأكمام . يا يوسف العلي .ليس كل ولادة ولادة .

وليست كل قابلة قابلة .كانت النخلة قابلة مريم ومن رطبها تلبى وليدها !

"  مبروكة يا مبروكـه .

 يا عين أمك وابوك

بالدم زرعناك

وبالدمع سقيناك

واجا الغربا سرقوك "

لو كنت معي يا أبي الآن !

لو تكحلت عيناك بنور الأرض الخضراء . بزهر القندول . بشقائق النعمان .بورق الشجر الطالع مبتسمًا من البراعم .

لو مشيت على سجادة خضراء نسجها مبدع قدير وزركشها بالأقحوان والنرجس والبرقوق وعصا الراعي ولفة سيدي وإبرة ستي وعين البقرة وعرف الديك .. تهمس لك : يا هلا يا علي .

ولكنك رحت . مت .

ضيعني أبي صغيرًا وحملني الهم صغيرًا !

اسمعها .. اسمعها تناديني . صوتها الرخيم يقول لي : تعال . أنا ما زلت على العهد . الحارة والزقاق . البيت والمدرسة .الحاكورة والبئر درب الملايات . السور والياسمينة المتعمشقة على حجارته العتيقة . البوابة وحذوة الفرس والخرزة الزرقاء . الخوخة . القنطرة ..

" تعال .. تعال ..

يا طيورًا طايره !

يا وحوشًا غابره

سلمو لي عَ يوسف العلي

وقولوا  له :

تعال شوف مبروكه

كيف صايره !! "

غير مصدق ما ترى عيناه .

لا يعي ما تسمع أذناه .

واقفا ً مشدوهًا .

أين ؟

يتمتم . يردد .

تخرج الكلمات من شفتيه الناشفتين .

أين ؟ أين ؟

البيوت . الزقاق .الناس . القنطرة . الخوخة . الياسمينة .

هل لجأوا معنا ؟

هل انشقت الأرض وبلعتهم ؟

أين آثار خطاي التي شاهدتها في أحلامي الوردية ؟

أين الأمل الضاحك ؟

ماذا بقي من الوطن ؟

أين عصافير الدوري التي كانت تقفز حولي في ساحة البيت ؟

أين ساحة البيت ؟

أين البيت؟

ويحدق بعينيه المتعبتين ..

ويجد مبروكة .

الشاهد الوحيد . لا شيء سواها !

يعرفها . يسير إليها . يمشي . يهرول . يقفز .. يعدو .

وأخيرًا أعدو إليك يا مبروكة .يا عشيرة الطفولة . يا وفية .يا من حافظت على العهد !!

أتذكرينني ؟ أتذكرين أترابي وأخوتي ونحن ندور حولك نرقص ونغني . ونلهو نرتمي على جذعك .

محدقًا في جذعها العتيق باحثا عن بصمات أصابعه وآثار قدميه الصغيرتين حين كان يتسلق عليها .

مبروكة الباسقة . ذات الجذع الطويل العالي .

مبروكة التي مات أبوه وهو يحكي عنها . لا تنبت مبروكة إلا في بلاد المسلمين والجنة .

يعانقها .

تخزه أضلاعها الجافة .

ويتذكر فاطمة . فاطنة الحلوى . فاطمة الزهراء . بنت الجيران . كان يكتب لها الرسائل القصيرة ويدسها لها في جذع مبروكة لتأخذها حينما  تأتي لتملأ جرتها من بئر الماء .

فاطمة اليانعة.. الخضراء.. جفت مثل عود يابس .

فاطمة التي دفنتها الطائرات في مخيم عين الحلوة تحت أنقاض البيوت الطينية .

باحثًا في جذع مبروكة عن فاطمة .

عن ورقة .

هل هي رسالته الأخيرة أم جوابها ؟

وفيما هو يبحث تنبأ أن جذع النخلة مائل . مائل كثيرًا . مبروكة منحنية .

مبروكة مائلة .

وتراجع خطوات ..

يا الله ..

حتى أنت يا مبروكة ؟

ما الذي حنى جذعك الباسق  ؟

الحنين ؟

الغربة ؟

الزمان ؟

قولي لي يا مبروكة . قولي لي !!

أود أن أسمع صوتك الذي سمعته في الليالي المعكورة .

أنا يوسف العلي .

أنا الفتى التي كان يقفز حول جذعك الباسق ويتسلق عليك ؟

ما الذي حناك ؟

هل انحنيت لتصمدي أمام الريح ؟ أم انحنيت لتشمي رائحة أهل الأرض ؟

" مبروكة يا مبروكه

يا عين أمك وابوك

لومي مش ع الزمن

لومي ع اللي راحوا وهجروكِ " !!

===================

*الكاتب محمد علي طه: ولد في قرية ميعار المهجّرة سنة 1941 . لجأ إلى قرية كابول في الجليل، وعمل في سلك التعليم . حصل على شهادة  B.A في جامعة حيفا في موضوع اللغة العربية . يرأس اتحاد الكتاب العرب في الداخل حرر في صحيفة الاتحاد، كما حرر مجلة الجديد الأدبية  له أكثر من عشر مجموعات قصصية أولها: لكي تشرق الشمس ( 1964 )،وآخرها " بيرالصفا (- دار الشروق ، عمان  2004) وله رواية (سيرة بني بلوط - 2004 ، دار الشروق)  أصدر عددًا من  كتب للأطفال، وله كتب تضم مجموعة مقالات ساخرة ..... وقصتنا المدروسة هي من مجموعة ( النخلة المائلة). لقراءة الدراسة حولها (قراءة في قصة النخلة المائلة)

أضيفت في15/04/2006/ خاص القصة السورية / المصدر د فاروق مواسي (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)

 

 

رقصة الموت

بقلم الكاتبة: إيمان حامد الوزير 

 

أفاق فجأة من سبات طويل ، يجمع من الظلام الدامس بعض  ضوء خافت كان ينبعث من جهاز معلق بقربه ، ترامى إلى بصره أشباح متدلية من أعلى السقف ، شحذ بصره نحوها فعرف أنها  محاليل معلقة فوق رأسه ، بدأ يستجمع وعيه محاولا تذكر ما حدث ، انهالت عليه جموع الأسئلة تقارع جسده المصفد ،  شعر بأجهزة التنفس كجنازير تلتف حول أنفه وفمه ، وأحس بشيء خفيٍ يتراقص في أوصال جسده المشلول ، وبدأ الخاطر يتحدث من جوفه نيابة عن لسانه الذي كان مسلوب الإرادة.  يداعب ذاكرته  بأحرف متلعثمة : ما الذي حدث  ؟ كيف وصلت إلى هنا ؟ ، كنت أمارس غواية القمع ، فهل انقلب السحر على الساحر وابتلعتني الأمواج ،  تراجع الخاطر أمام أصوات أجهزة التنفس وأنابيبها  التي كانت تفرض على شرايينه مزيدا من الحصار . تقرع في أدنيه قرع الطبول ، راح خاطره  يتساءل في غضب : ما الذي يضعون في هذه الخراطيم التي تقضم أنفي وفمي كسمكة قرش هل هو أوكسجين أم غاز مسيل للدموع ؟

جفل فزعا من جملته الأخيرة ، أحس بصدره يعلو ويهبط كأفعى كوبرا تتلوى على إيقاع الطبول القادم من الأجهزة ،  فصاح:  كفى ..كفى لا أريد أن أموت ،  أين أنتم أيها الأطباء الملاعين  ! أين أنتم يا معشر الأشكناز  ؟ 

ألم نشرب سوية نخب يهوه  ؟ لأجلكم أفقدتهم هدأة  السبات في هجيع الليل، وبنيت لكم  حوائط من أشلائهم. أنا الآن هاهنا مسجيا مهملا مشلولا لا يسمعني منكم أحد!

توقف خاطره فزعا على قيئ يندفع من أمعائه ، يجتاز فمه وأنفه نحو الكمامة الموصودة على فمه بمزلاجها كباب زنزانة ، تداخل خاطره مع قيئه في امتزاج  موحل يشبه أرض الزنازين الانفرادية ، كان اندفاع القيء كافيا لاقتحام باب الزنزانة في سيل جارف يجتاز مساحة الخد المتجعد في وديان تندفع نحو أذنه وتخترق الطبلة ، بعض القيء عاد مرة أخرى إلى بلعومه فلامس لسانه مرارة العصارات ، وانهالت دموعه تمارس الغواية مع القيء تحمله إلى عالم الهذيان  ، أحس بالاختناق يفّحم جسده ، وانبرى خاطره  يلهث بحثا عن طوق نجاة ، زاغت عيناه وتعلقت  بسقف الحجرة فرأى جموعا غفيرة من الأشباح تتراقص أمامه في ابتهاج ، ازدادت مساحة الاختناق في جسده  ، التفت جموع الأشباح حوله  تراقصه(  التانجو ) ، تدنو منه وتبتعد مطلقة صيحاتها  ، كان الاختناق قد بلغ أوجه فراح خاطره يبتهل بتضرع للحشود  : كفوا عني سأرحل ، صدقوني إنها المرة الأولى التي لا أكذب فيها ، سأعود إلى بولونيا ، أعلم أنني لن أكفر عن ذنوبي التي تخطت الآلاف ، لم أشأ يوما بناء هيكل الرب  بقدر ما أردت هدم كبريائهم  ، كانوا في مملكتي  ذبابا متوحشا ، جنادب تتطاير من حولي ، كابوسا فاسدا يجب تجريفه ، عدوى أخشى أن تنتقل إلى جيراني فيزداد كمّ الذباب من حولي، نفثت  السموم في أوردة جيراني فأغلقت  عليهم باب الأرض وسقف السماء .

 

اقترب الراقصون منه وبدؤوا يمسكون جسده ويدغدغون رأسه ، يترنحون بأجسامهم مطبقين على صدره،  صرخ خاطره في فزع وراح يفتش عن مكان آمن داخل قلبه ، طاردته الجموع  إلى داخل جسده ، بدأ الخاطر يفر من شريان إلى وريد ، اقتحم جدار المعدة ، وأحدث فجوات داخل أمعائه والراقصون يعبرون الطرقات يدوسون بأقدامهم أحشاءه ، يسبحون في برك الدماء يغبون منها ويثملون، والخاطر يفر منهم جزعا ، حتى وصل إلى القلب  لجأ إلى البطين الأيمن والراقصون يطاردونه ، يضيقون عليه الحصار،  يلتهمون المضغة بشره ،يترنح الخاطر بين أفواههم ،  الأجهزة المعلقة  تصرخ ، حشود الأطباء والممرضات تملأ المكان تحاول إنعاش القلب  ، لتتسع مساحة الرقص من الداخل والخارج ، وهو يصيح ... يستجدي  بلا كلمات ..بلا لسان ...بلا خاطر ...بلا قلب ، لا أحد يسمع الأنين في حلبة رقص مجنونة ،  و الكل يلهث لإحياء ميت !!!!

أضيفت في18/04/2006/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتبة (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)

 

 

البقاء على قيد الوطن

بقلم الكاتب: أحمد يعقوب

I

 

لا تفعيلة عندي لأرقّّّص الكلام في حفلة موت

لا منطق عندي لأًنطّّّق الذئاب بثغاء الأيل

لا ذِئْبَ فيَّ لأُذَئِّّبّ البطريقَ بالعواء

على إيقاع لسعات المزامير في الجسد

أرفع البقاء على قيد الحياة

أرفعه من ياقته المنخلّة

قبالة الشمس

ومثل قاضٍ بابليّ أسائله

 فيما الورّاقون الطيبون يكتبون:

 البقاء على قيد الحياة : بقاءٌ على قيد الوطن

 

اغتسلي بلادي

خبأت لك  عطر المرّ‍

اغتسلي بلادي

خبأت لك

إكليلاً من خشب الصندل

اغتسلي بلادي

خبأت لك

قلادة من الشوك البري

اغتسلي بلادي

يليق بالبحر أحياناً أن يغتسل

 

 III

 

كنت قبل أن أعرف لسع المسامير في جسد يسوع

_ كنتُ ـ مثل نورسٍ نسي أن يكبر في مرايا البحر

وبزغب الطائر الخداج أداعب كرة الشعر

أشلشلها بِنَزَقٍ محب

وبرفقٍ وحنان آخذ الخيوط

أبني عشا شفافاً كبياض عين أمي

أضع قصائد شفافة

_ الشفافية هي الفن ـ منها أنسج وثناً

فراشات لها رائحة الأزرق تصحح لثغتي

أنظر إليها بِحيرِة الطائر التعب

-للتعب لون البحر ـ فأنطق:

    وثن : وطن

  

 IV

 

في القلعة يستنسخ القاتلُ وَهْمَ المكابيين :

خرافةً ! خوفاً! رصاصا! وخفافيش تائهة!

هل للرصاص أن يرصرص وقتنا؟

هل للرصاص أن يدمغه بشمع الرماد؟

ماذا بين الوجود والعدم؟

نظرت إلى عيني "عبد اللطيف عقل"

لا يزال يعيشها في القحط تيناً وزعتراً

ولا أحد يعرف هيئة طائر الفينيق

الوراقون الطيبون يكتبون :

طائر الفينيق ينبعث من الرصاص

 

يا قاتلي من هذي الرصاصات

أو تلك.... تنقّ

خذ حارقاً

 خذ خارقاً

 خذ باعثاً وتمل

ياقاتلي

لولا خيول طروادة الكثيرة

 ما كنت يا قاتلي هكذا في قتلي تتسلى ،

.....

لست أنا دريئة المهنة القانية

لست بياضاً لسهام الخرافة وخرافة السهام

أرتدي جسد البلاد المنخل

أقلبُ ساعة الرمل على مضض

وأدخل لعبة الوقت في عضّ الأصابع

 

صوت أمي يقول :

قريباً من الماء الآسن لا تشتك

لسعات البعوض

 

V

 

يا موت

ياموت

يا موت: أنا لست فيلاً ماموثاً لتكون أنت  صياداً

يهودياً

 كنت نورساً هزلته "الديباسبورا" وهزّأته

صرت فيما تيسر من وطن:

 طائر كنار يرعى

الأزرق زغبه

يا جند:

يا جند:

ثمة كلام

ثمة كلام

ثمة كلام

ثمة كلام  حجبته الأحذية الحديدية عن الرماديّ

 فيك

كلام    اليهودي "ماركس" بصنارة حتميته

و لهذا أقول :

"الصهيونية أفيون الشعوب" علّ مومياء لينين

تسمع :

الصهيونية أعلى مراحل الإمبريالية

كلام اليهودي "اسبينوزا" بفراره من اللاهوت إلى

 الناسوت

كأنه حوتٌ عاد من اليباب

كلام اليهودي "اسحق دوتشر" وهو يؤشر

كأستاذعتيق

بين : "اليهوديّ واللا يهوديّ"

 ولهذا أيضاً أقول "لفرويد" العزيز:

الحرية ـ وليس الليبيدو "اللزيز"ـ موتيف

الإنسان

يا "أنيشتاين" اليهودي!

إن ثانية واحدة تحت الكولونيالية اليهودية تعادل

 سنين من ضوء في بئر

فليكتب الوراقون معادلة جديدة للنسبية:

كمية الحرية = الكولونيالية X (سرعة التخلص

منها/ضوء)2

لهذا بالضبط أقول :

"اغتسلي بلادي"

يليق بالبحر أحياناً أن يغتسل

 

  VI

 

يا موت

ياموت:

 لي ما أقوله لمرايا التراب

 ما ينبغي أن تقوله الفضة للزجاج :

عرفت لسعة المسامير في جسد يسوع

عرفت لسعة المزامير في الجسد

تراءى لي كلكامش من صورة محمود درويش

كان بعين تبكي وثانية تضحك

هذه المرة كان يحمل كل الرقم الطينية

كان يحمل إدراكه لسر الموت

 كان يصيح: لن يموت "أنكيدو" مرتين

يا لهذا الحرز البابلي! يصير درعاً واقياً

للرصاص

كنت قبل اقتراف الشعر البابلي

أتخفى خلف أغنية

وأدعو النساء بأسماء أعشاب

وثمار وأحجار وفراشات وأزرق

تلك هي أنوثة بلاد صارت

مثل مغارة "الرعيان"

 

VII

 

مر الرصاص مثل أفعى حديدية

مرت من اليسار إلى اليمين

أنظر بعينين أيائلية السلالة

أنظر إلى القدس المجسمة على الجدار

كأن ظل القدس نزل من كرسيّ الله إلى كرسيّ

كان درعاً واقياً للرصاص

ربما "الجبل الطويل"* استدار ظلا ًصوفياً ربما

 جبرائيل الشعر ـ أقصد الذي جَبَرَ أيل ـ

ربما بياض عيني أميّ من البعاد

ثمة أنامل أثقلها الشعر بالشجن

قبضت على الرصاص كخفافيش تائه

قالت "عناة " : يا وادي الزبالة

هي ذي قاذورات الحياة!

 

في شوارع بلادي

الزبالون الطيبون يرددون حكمة نظيفة:

كناس الحي لا يرثي تلوث يديه

 

اغتسلي بلادي

كيف ينشئ الرصاص وكراً؟

يؤثث فيه ارتباكه!

ويغادر كظل ثقيل!

 

يا عدواً من مستحثات الخزر

هل تكفيك هياكلنا العظمية لتشيد هيكلك ؟

علك تخرج من وعينا ونخرج من لا وعيك ؟!

 

"هذه هي الأرض التي تمتلئ بالجماجم بدلاً من

 العسل واللبن

 

هذه هي الأرض التي تغطيها بالأموات فلا وقت

 عندك لتغطي وجهك

 

يا عدوا من مستحاثات الموت ستذوي عظمتك

في ضجيج الزمن سيختفي ضجيج رصاصك

 وملكك

سَتَنْسُجُ الأرض منكما دودة خالدة"

يا قاتلي:

على الخراب يقوم عرشك

خذ ما شئت من "البارانوي"

ودع كبريائي ينضج من مستحاثات الألم والأمل

إلى متى يأخذك الضبع إلى مغارات الموت؟

متى يجشُّ رأسك

لتقول للأزرق ما أجملك !

 

يا عدوي :

 لن يموت من يزرع شجرة

لن يموت من يزرع كلمة

لن يموت من يزرع مضغة في رحم الوجود

 

VIII

 

يا نساء بلادي

أحضرن أدوات النسيج

 حكن حكاية باهتة لأمريكا

أمريكا ترتدي كاوبوياً مهترئا يا والت وايتمن

 

يا نساء بلادي أجلن طقوس النشيج

اكتبن على شجرات البلوط

على مريلة الأطفال: حرية

زرقاء نحبها زرقاء

هل للدنيوي جمال الحرية ؟

أم العدم من الرصاص

من القبر إلى القبر؟

اغتسلي بلادي

يليق بالبحر أحياناً أن يغتسل

 

IX

                   

يا جنيني

أنا عدو لعدوي وعدوي عدو لي

كالقطة والفأر، كالنور والظلام

منذ قليل كان جدك عند الكرمل يقبّل ليلى

يخيط التين قلادة للشتاء ويقبّل ليلى

يحيك الطين للبيت قبعات مطر ويقبّل ليلى

يقبّل ليلى ولا ينسى: كلما البحر " قرقع أن

 يقوصه "

 

منذ قليل أيضاً

لفظ البحر مومياء

رأسها رأس كاهن وأسفلها قدمان: سيفان من

 ذهب

المومياء ادعت وصلاً بليلى

قال الكاهن المزنجر:

إنه أمضى آلاف السنين في

 اليم لا يفعل شيئاً سوى العادة السرية على

 وهم ليلى

 

منذ قليل أيضاً

صار جدك في البحر يرتق

الدمع الأزرق شراعاً للعودة إلى دموع ليلى

فيما المومياء تضخ الماء الأزرق في العيون

 

يا جنيني

هذا قميصي قدَّّ من ميسرة وميمنة

أنا

 لست عثمان الخليفة

لست يوسف

هذا قميص الحكاية قدَّه العدم

  

يا جنيني

لك أن تقف منتصباً كشجرة سرو من نور

كأعمدة شعر زرقاء

علَّ حيفا تتمشى تحت ظلال مترعة

علَّ رفات الأهل الغافيين في توابيت

 "الديباسبورا"

يتابعون حفرهم كخلندات عتيقة

في طريقها إلى سرادق القدس

يا جنيني

بيني وبينهم دمي

وأعطيات الحياة

بيني وبينهم

شهقة أمي على أسلاك الهاتف

ولك أن تعانق ليلى كماندولين من أوغاريت

لك أن تدندن للأزرق أغنية عالية

لأقلدك إكليلا من ألف زهرة زرقاء

علك تظللني وأنا أقرأ الحكاية نفسها

 

وأنا أحب ليلى أكثر

أحب حيفا ثانية

وأنا أقرأ نيتشة ثانية

وأقلب الطفل والحمل والأسد

وأنا أنفخ في كور انتمائي ثانية

ومثل عامل يسقسق فولاذ الحكاية

أكوّرني حمماً من

طين شعر

فلسطين شعر

 

X

 

اغتسلي بلادي

خبأت لك: عطر المر

اغتسلي بلادي

خبأت لك: إكليلاً من خشب الصندل

اغتسلي بلادي

خبأت لك: قلادة من الشوك البري

اغتسلي بلادي

خبأت لك: عطر الصبار

اغتسلي بلادي

يليق بالبحر أحياناً أن يغتسل

بلادي:

ثمة ذباب أحمر

كرأس رصاصة يعلن

 الفرق بين الغار والعار

أضيفت في30/04/2006/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)

 

 

قرية "كفر برعم" المهجرة الحزينة

 

خاطرة بقلم المبدع الناشئ (احد عشر عاماً): أمير مخول*

 

برعم قرية عائلتي, كانت قرية جميلة تتألف من حوالي 1000 شخص يمتلكون مساحات كبيرة من الأراضي  الزراعية.

عند نشوب الحرب سنة  1948 طلب الجيش الإسرائيلي من سكان القرية مغادرتها لمدة أسبوعين فقط بادعاء سلامتهم.

عاش السكان في الخيام مدة الأسبوعين, بعدها حاولوا العودة إلى القرية لكن الجيش منعهم مرة أخرى فلم يكن لديهم إلا الرجوع إلى الخيام والبقاء فيها شهرا آخر.

بدأ الطقس يبرد فحاولوا أن يرجعوا إلى بيوتهم لكن الجيش الإسرائيلي منعهم وأخذهم في شاحنات كبيرة ورموهم على حدود الأردن.

بدأ الناس بالسير من الأردن  إلى سوريا ثم لبنان حتى وصلوا إلى حدود إسرائيل الشمالية, بعض الناس استطاعوا الدخول  إلى البلاد بطريقه غير رسميه وبعد بضعة أيام تفاجئوا بان الجيش الإسرائيلي قد سّكن اليهود في منازل أهالي برعم, عندها قرروا أن يتوجهوا إلى  المحكمة للمطالبة بحقهم للعودة إلى بلدهم.

في سنة 1953 قررت المحكمة العليا بإمكان أهالي برعم العودة شرط أن لا يكون في ذلك خطر على امن الدولة.

أعلن الجيش الإسرائيلي فورا عن قرية كفر برعم منطقة عسكرية مغلقة وبدأ بهدم القرية  بالطائرات العسكرية, ليهدم بذلك أمال الناس بالعودة.

كان الأهالي ينظرون من تلة قريبة مطلة على برعم كيف تهدم الطائرات الإسرائيلية بيوتهم وهم يصرخون ويبكون من شدة الحزن والألم لذلك يطلقون اليوم على التلة اسم "مبكى البراعمة".

أما بالنسبة لجدي وجدتي فقد فرقت النّكبة بينهم حيث ذهبت جدتي وأعمامي الصغار إلى لبنان وبقي جدّي في قرية الجش, حتى جمعت الأمم المتحدة شمل العائلات المتفرقة في عام 1952.

بقي الأهالي ممنوعين من الدخول إلى قرية كفر برعم إلا في يوم عيد استقلال دولة إسرائيل.

كان اليهود يحتفلون بعيد الاستقلال بالرقص والغناء, حين كان أهالي برعم يبكون على أطلال بيوتهم وحرمانهم من مصادر رزقهم وسعادتهم.

يروي لي والدي قصة جدي عندما اصطحب أولاده إلى برعم لأول مرة بعد أن هدّمت القرية, وكان يحمل معه مفتاحا حديديا كبير الحجم, فتح به البوابة الكبيرة الّتي كانت تؤدي إلى ساحة كبيرة أمام البيت العتيق, فتقدم نحو الحائط واخرج دلوا مربوطا بحبل, ثم تقدم إلى وسط الساحة وفتح غطاء بئر ما زالت مليئة بالماء العذب, فدلّى الدلو في البئر ونشل من مائه قائلا: " خذوا اشربوا من هذا الماء, بذلك لن تنسوا برعم أبدا".

 

بقيت الحال على هذا المنوال حتى عام 1965, حيث بعد استشارات وجدالات سمح بدفن إحدى العجائز في مقبرة القرية, وهكذا بدأ الناس يدفنون موتاهم في المقبرة وبعدها سمح للأهالي بترميم وتصليح الكنيسة للصلاة فيها.

 

في كل عام يحتفل الأهالي بأعيادهم المهمة مثل عيد الميلاد وعيد الفصح في القرية, حيث يتجمعون من جميع أنحاء البلاد للاحتفال والمعايدة, والتذكير أن كفر برعم في القلب والوجدان والذاكرة ولن ننساها أبدا.

 

نتجمع نحن الأولاد في فرصة الصيف لمدة 10 أيام, حيث نقوم بمخيم صيفي نتعرف من خلاله على تراث أجدادنا وبلدنا, ونتعرف على بعضنا البعض, حيث نجتمع من أنحاء البلاد وحتى من خارجها لنعرف أننا من بلد واحدة وتجمعنا عائلة كفر برعم الكبيرة, لنشدد ونجدد القسم على ألا ننساك كفر برعم  أبدا. ونعرّف أجيالنا القادمة بانتمائهم إليك. ونرضع محبة برعم مع حليب ألام.. برعم إلى الأبد           

 

إما جدي بولس, الذي لا اعرفه إلا من خلال والدي الذي يحدثني عنه دائما, وصورته فوق سرير والدي, فقد كان رجلا شجاعا وبسيط القلب ومحبا لبلده وأهلها, يزرع حقوله الكثيرة بالحبوب, مثل القمح والذرة والشعير والعدس والفول وأشجار التين والزيتون والعنب وجميع أنواع الفواكه والخضار. كان جدي يملك ما يقارب ال- 800 دونم من الأرض وكان يعتبر من الأغنياء, لكنه كان متواضعا جدا يساعد الفقراء ويحسن معاملة المحتاجين.

 

قطعت النكبة فرحه وسببت له ولجدتي الألم الذي لا يمحى, حيث اخذ يعمل في البناء بعد أن نزح عن بيته ووطنه ليعيل أولاده, ويهتم بالأخص على تهذيبهم وتعليمهم.

 

برعم لم تغب يوما عن حديثه وذاكرته, حتى يوم وفاته في يوم سبت النور في 2/4/1983 الساعة السابعة صباحا اثر نوبة قلبية حادة, كان قبل دقائق من حصولها يتذكر برعم وأيام صباه فيها.

رحم الله جدي, وأنا مؤمن انه في السماء اليوم ولا ينسى برعم.

*أمير مخول (احد عشر عاماً) القدس فلسطين 15 أيار 2006 بواسطة الأديبة المبدعة نجمة خليل حبيب - استراليا

أضيفت في24/05/2006/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتبة نجمة حبيب خليل (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية